نفحات الولاية: شرح عصرى جامع لنهج البلاغة- المجلد الأول

 

آية الله العظمى الشيخ مكارم الشيرازي

 

نفحات الولاية

فى شرح نهج البلاغة

شرح واف باسلوب جديد

 

 

المجلد الأول

 

 

بمساعدة مجموعة من الفضلاء

 

1 ـ محمد جعفر الامامي

2 ـ محمد رضا الاشتياني

3 ـ محمد إحساني فر

4 ـ محمد جواد أرسطا

5 ـ إبراهيم البهادري

6 ـ سعيد داودي

7 ـ أحمد القدسي

8 ـ مهدي حسينيان القمي

 

[ 5 ]

 

 

 

 

 

الدافع الرئيسي لتأليف هذا الكتاب

 

لم يحظ كتاب بالعناية والرعاية ـ بعد القرآن الكريم ـ كما حظي نهج البلاغة ولم يتيسر لغيره مثل هذه المنزلة السامية النامية.

فما أكثر البحوث والدراسات في تصويره الفني وفصاحته وبلاغته وصياغته حتى أضحى موئلاً ومنهلاً وأساساً ونبراساً للدراسات الإسلامية ومعيناً ثرا للمعارف الإنسانية. وهل رأينا كالنهج يرغب المؤلفون بشرحه والتعرف عليه والاقتباس منه والاستشهاد به وحفظ ولو بعض حكمه ومواعظه. إنّه كتاب المعاني الروحية، والعدالة الاجتماعية، والتربية الرسالية، والقيم الخلقية، والاّدلة والكمال والنقاء، ونابض بكل مفيد وسديد ورشيد، ورافض لكل ألوان الشرور والفجور والغرور ومهما استجدت من أفكار وآراء ونظريات واكتشافات خلال هذه القرون المتطاولة فلا تزيده إلاّ تسديداً وتأييداً وتخليداً، ولا يزداد المفكرون والباحثون نحوه إلاّ انسجاماً واحتراماً، لأنّه الكتاب الزاهر بالحجج البالغة والزاخرة بالموارد السائغة والجامع بين جلال البلاغة وجمال الصياغة، وبين إصالة المعاني وجزالة المباني وبين دقّة التصوير ورقة التعبير.

لقد عكفت كأغلب الأفراد الشغفين بنهج البلاغة على مطالعة بعض أجزائه. بحسبما كانت تتطلبه الضرورة والحاجة، حتى لاحت بوادر الخامس عشر من خرداد عام 1963 م فاُلقي القبض علىَّ برفقة طائفة من كبار العلماء والمفكرين فاودعنا السجن. كانت ظروف السجن عصيبة جدّاً في الأيام الاُولى حيث عمدت جلاوزة النظام الشاهنشاهي البائد إلى حظر أغلب الأشياء عن الوصول إلينا، غير أنّ الضغوط التي مارسها الرأي العام دفعت بذلك النظام

[ 6 ]

إلى التخفيف من وطأته والتنازل عن بعض المحظورات الثقافية; الأمر الذي جعلنا نطلب من أصدقائنا وذوينا إتياننا ببعض الكتب إلى السجن. أمّا أنا فقد ناشدتهم كتاب نهج البلاغة لأستغل تلك الفرصة المناسبة وأتفرغ فيها للتأمل في هذا الكتاب العظيم، وقد منّ الله عليّ ووفّقني للتدبر والتحقيق في دراسة القسم الثاني من هذا الكتاب والذي يشمل الرسائل والوصايا السياسية والأخلاقية، آنذاك أيقنت بأنّ نهج البلاغة لأعظم وأكبر ممّا كنّا نفكر فيه ونتصوره عنه. فقد رأيت نفسي حينها أمام بحر زاخر من العلوم والمعارف التي تعالج أهم قضايا الإنسان في كافة أبعاده المعنوية والمادية، كما يمد الإنسان بمختلف المواهب المعنوية التي تمكنها من بلوغ شأطئ الامان في هذه الدنيا المحفوفة بالمكاره.

آنذاك أدركت عمق خيبة وخسران أولئك الذين ولّوا ظهورهم لهذا الكنز الفيّاض والمنهل العذب وجعلوا يسيلون لعابهم لموائد الأجانب بما يعجزون عن الإتيان بمثل قطرة من بحره المتلاطم!

من عجائب هذا الكتاب الذي اقتفى آثا رالقرآن حتى طبع بصفاته وسماته إنّه وخلافاً للمدارس الفكرية والأخلاقية والسياسية التي يبليها الزمان فانّه يحمل في طياته صفات العصرنة والتجدد وكأنّ خطب أمير المؤمنين(عليه السلام) ومواعظه وتوجيهاته تقرع سمع المعاصر وتجعله يعيش أجواء مسجد الكوفة. وما أجدر عشاق الحق والحقيقة والمتعطشين لمعرفة العلوم الربّانية والمتطلعين لعيش الحياة الحرة الكريمة أن يقصدوا كل يوم ضريح هذا العالم الفذ السيد الشريف الرضي (جامع نهج البلاغة) فيؤدوا له طقوس الاجلال والاكبار ويقرأوا الفاتحة على روحه الطاهرة بفضل الجهود المضنية التي بذلها من أجل جمع كلمات أميرالمؤمنين(عليه السلام) فزود بها البشرية جمعاء فضلاً عن المجتمعات الإسلامية.

وماذا بوسعي أن أقول بشأن نهج البلاغة الذي حار في وصفه البلغاء وعجز عن تصويره الفصحاء وعيت عن الاحاطة بكنهه العلماء، وعليه لا أرى من جدوى في الاستغراق في هذا الموضوع، وأخوض في الغرض والدافع من هذا الكتاب. فقد أقبل العلماء والاُدباء على هذا الكتاب النفيس ـ نهج البلاغة ـ بين حافظ وناسخ وشارح، حيث بلغ عدد شرّاحه في العصر القديم والحديث ما جاوز الخمسين شارحاً الذين بذلوا ما بوسعهم لسبر أغواره واستخراج

[ 7 ]

كنوزه وجواهره حتى قدموا خدمة جليلة لطلاب المعرفة والحكمة، إلاّ أنّ الانصاف هو أنّ هذا الكتاب ما يزال يعيش مظلومية كبرى وغربة عظمى، وليس هناك من سبيل لازالتها سوى في تظافر الجهود وتعبئة الأفكار والطاقات من أجل إعادة النظر والاسهاب في تفاصيل وجزئيات هذا الكتاب الثر، ولا سيما في عصرنا الراهن الذي تشهد فيه المجتمعات الإنسانية ذروة المشاكل والمطبات التي تعترض حياتها اليومية، إلى جانب ظهور المذاهب والمدارس الفكرية المختلفة والحملات الشعواء التي تمارسها الأجهزة الاستكبارية والدوائر النفعية الغارقة في الأهواء والشهوات وحب الدنيا والخلود إليها ضد العقائد والأخلاق والفضيلة والتقوى بغية تحقيق أهدافها المشؤومة في ضمان مصالحها ونهب خيرات البشرية وتجريدها من هويتها الإنسانية. أجل فالعصر الحاضر يجعل نهج البلاغة يتطلب جهوداً أكثر وأنشطة أوسع وأشمل من شأنها التوصل إلى الطرق والأساليب التي تذلل الصعاب المادية والمعنوية والفردية والاجتماعية، إلى جانب التصدي إلى النزعات الفكرية الهدامة التي تستهدف الدين والأخلاق. وعلى هذا الأساس وما أن فرغنا من نشاطنا القرآني في التفسير الذي دوناه ـ التفسير الأمثل ـ وكتابنا رسالة القرآن والتي حظيت باقبال المحافل العلمية والأوساط التحقيقية حتى آلينا على أنفسنا أن نواصل نفس هذه الجهود وبمعونة الاخوة الفضلاء من العلماء بخصوص نهج البلاغة على غرار الجهود والأساليب التحقيقية التي إعتمدناها في التفسير القرآني ـ الأمثل ـ بل إنّ التجارب السابقة قد جعلت هذا الجهد المتواضع أقرب من غيره إلى الاتقان والاكمال. نعم لقد عزمنا على مباشرة هذا العمل رغم كثرة المشاكل والعراقيل وسعة حجم المسؤوليات مستلهمين العزم والامداد من البارئ سبحانه وعبده الخالص ربيب النبي(صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين ويعسوب الدين وقائد الغر المحجلين علي بن أبي طالب(عليه السلام) وبعد أن وعدنا الاخوة الذين وقفوا إلى جانبنا في التفسير القرآني بتقديم كافة أشكال الدعم والعون في هذا المجال لكي نعد شرحا جديداً جامعاً لهذا الكتاب من شأنه تلبية حاجات العصر ووضع الحلول الوافية الشافية للمعضلات الفكرية والاجتماعية، كما استعنا في بعض المواقيع بما أورده المفسرون والشارحون القدماء والمعاصرون من أجل إغناء كافة جوانب المواضيع، إلى جانب اعتماد الأفكار والاطروحات الحديثة المعاصرة.

[ 8 ]

لقد باشرنا هذا العمل غرة الثالث عشر من شهر رجب المرجب لعام 1413 هـ الميلاد الميمون لأمير المؤمنين(عليه السلام)وسار بخطوات بطيئة هادئة حتى استغرق إعداد المجلد الأول ـ رغم الجهود الجماعية المشتركة ـ ما يقارب الثلاث سنوات (ومن الطبيعي أن لا تشوب الأعمال العجلة في بدايتها). حتى اتسقت لنا الاُمور فأخذنا نحث السير وننهض سريعاً بهذا العمل، رغم يقيننا بأننا مازلنا نحوم في هذا المحيط المتلاطم والبحر العميق; الأمر الذي لايبد ويسيراً قط. والأفضل ألا أخوض في التفاصيل التي اعتمدت في هذا الشرح وأترك ذلك للاخوة القراء، ويسرني هنا أن أناشد كافة الاخوة الفضلاء أن يتحفونا بآرائهم بما يقرب هذا العمل من أهدافه ومقاصده، إلى جانب النظر بعين العفو والصفح إلى الخطأ والزلل.

وأخيراً أسأل الله أن يتفضل علينا باتمام هذا الجهد المتواضع بغية التزود من مائدة نهج البلاغة لنا ولكافة جياع الفكر والعقيدة، إنّه نعم المولى ونعم المجيب، وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

قم ـ الحوزة العلمية

ناصر مكارم الشيرازي

3 ربيع الثاني 1417 هـ

20 / تموز / 1996 م

[ 9 ]

 

 

 

السيد الرضي جامع نهج البلاغة

 

هو أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي، ولد في بغداد سنة تسع وخمسن وثلاثمائة للهجرة. أُمّه فاطمة بنت الحسين بن أبي محمد الحسن الاطروش بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وهى إمرأة فاضلة عرفت بالورع والتقوى والبصيرة الثاقبة، فقد قال فيها السيد الرضي(ره):

لَوْ كانَ مِثلَك كلُّ اُمٍّ بَرَّة *** غَنِىَ البَنُونَ بِها عَنِ الآباءِ

كما يتصل نسب جدّه بالإمام موسى بن جعفر الكاظم(عليهما السلام) وهو أبو أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن الإمام أبي إبراهيم موسى الكاظم(عليه السلام). وقد كانت له منزلة عظيمة في الدولة العباسية والدولة البويهية، حتى لقبه أبو نصر بهاء الدين بالطاهر الأوحد.

أقبل السيد الرضي على العلم والفقه والأدب حتى بات أبدع أبناء زمانه، وقد خلف أبيه عام 388 بتولي نقابة الطالبيين في حياته، وعهد إليه بالنظر في المظالم والحج بالناس. إبتدأ ينظم الشعر وله من العمر عشر سنين أ وتزيد قليلاً، حكم بعض النقاد بأنّه أشعر الطالبيين، وإلى جانب ذلك فقد كان كاتباً بليغاً مترسلاً، امّا المرحوم العلاّمة الاميني فقد صرّح بشأن السيد الشريف الرضي قائلا: «وسيدنا الشريف الرضي هو مفخرة من مفاخر العترة الطاهرة، وإمام العلم والحديث والإدب، وبطل من أبطال الدين والعلم والمذهب، ومهما تشدق الكاتب فان في البيان قصوراً عن بلوغ مداه».(1)

 

أساتذة السيد الرضي

لقد ذكر العلاّمة الأميني إسم أربعة عشر من أساتذة السيد الرضي ومنهم:


1. الغدير 4 /181.

[ 10 ]

1 ـ أبو سعيد الحسن بن عبدالله بن مرزبان النحوي المعروف بالسيرافي المتوفى عام 368هـ فقد درس السيد الرضي عليه النحو ولما يبلغ العاشرة من عمره.

2 ـ النحوي المعروف أبو علي الحسن بن أحمد الفارسي المتوفى عام 377 هـ .

3 ـ هارون بن موسى.

4 ـ الخطيب المشهور أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد المعروف بابن نباتة المتوفى عام 394هـ .

5 ـ القاضي عبد الجبار، العالم الشافعي المعتزلي.

6 ـ الفقيه والمحدث والمتكلم الشيعي الكبير الشيخ المفيد والذي يعدّ من أعظم أساتذة السيد الرضي. وهناك قصة رائعة جديرة بالسماع بشأن كيفية تتلمذه وأخيه السيد المرتضى على يد الشيخ المفيد. فقد قال مؤلف كتاب «الدرجات الرفيعة»: رأى المفيد أبو عبد الله محمد بن النعمان الفقيه الإمام في منامه، كأنّ فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله)دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ ومعها والداها الحسن والحسين(عليهما السلام) صغيرين فسلمتهما إليه، (وقالت له: علمهما الفقه). فانتبه متعجباً من ذلك، فلمّا تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة التي رأى فيها الرؤيا دخلت إليه المسجد فاطمة بنت الناصر، وحولها جواريها وبين يديها ابناها محمد الرضي وعلي المرتضى صغيرين، فقام إليها وسلّم عليها. فقالت له: أيّها الشيخ هذان ولداي، قد أحضرتهما لتعلمهما الفقه.

فبكى أبو عبد الله ـ الشيخ المفيد ـ وقصّ عليها المنام وتولى تعليمهما الفقه، وأنعم الله عليهما، وفتح لهما من أبواب العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا; وهو باق ما بقى الدهر «وردت هذه القصة في شرح ابن أبي الحديد، ج 1 / 41».

 

تلامذة السيد الرضي

روى كبار علماء الفريقين أنّ العلاّمة الأميني ذكر تسعة من تلامذة السيد الرضي، ويمكن الإشارة هنا إلى أبرز من روى عنه ومنهم شقيقه السيد المرتضى وشيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي كانت للسيد الرضي همة كبيرة جعلته يؤسس مدرسة لطلاب العلوم

[ 11 ]

الدينية أسماها «دار العلم» ولعلها أول مدرسة يتلقى فيها الطلاب الدروس صباحاً بينما يخلدون إلى الراحة والسكن مساءً في نفس المدرسة، وهى على غرار مدرسة أخيه السيد المرتضى، وقد كان الشيخ الطوسي والقاضي عبد العزيز بن براج من تلاميذها وسبقت مدرسته «المدرسة النظامية» ببغداد بحوالي 80 سنة وربما كانت تقليداً لها(1).

 

كتب ومؤلفات السيد الرضي

ذكر العلاّمة الأميني أنّ السيد الرضي خلف أكثر من تسعة عشر كتاباً، أهمها أثره الخالد نهج البلاغة الذي يضم خطب ورسائل وكلمات الإمام علي(عليه السلام). ثم يورد الشيخ الأميني أسماء واحد وثمانين كتاباً زمان السيد تعرضت لشرح نهج البلاغة أ وترجمته.

ومن أهم الكتب التي ألفها السيد الرضي:

1 ـ خصائص الأئمة، والذي أشار إليه المؤلف في مقدمة نهج البلاغة.

2 ـ مجازات الآثار النبوية، والذي طبع عام 1328 هـ في بغداد.

3 ـ الرسائل العلمية في ثلاثة مجلدات.

4 ـ معاني القرآن.

5 ـ حقائق التأويل في متشابه التنزيل والذي عبّر عنه الكشي بحقائق التنزيل.

 

السيد الرضي والشعر

كان السيد الرضي نابغة في الشعر، علماً أنّ الشعر لم يضف شيئاً لشخصيته العظيمة، ورغم ذلك فقد جادت قريحته الشعرية بمختلف الفنون والآداب والصنوف الشعرية التي تكشف عن مدى قدرته في نظم الشعر. يذكر أنّ السيد الرضي قد أنشد قصيدة غرّاء كشف فيها النقاب عن علو نسبه ولما يبلغ العاشرة من عمره ولذلك عدّه بعض الاُدباء أشعر شعراء قريش، وربّما رجّح شعره على المتنبي، وهناك رسائل ومبادلات بينه وبين الصاحب بن عباد وأبي اسحاق


1. مذكرات العلاّمة الشريف الرضي / 29.

[ 12 ]

الصابي، وذكر الخطيب البغدادي في تأريخه قائلاً: سمعت محمد بن عبد الله الكاتب أنّه قال عند أبي الحسين بن محفوظ قال: سمعت من فريق من الاُدباء أنّهم قالوا: السيد الرضي أشعر شعراء قريش. فردّ ابن محفوظ قائلاً: نعم، هذا كلام صحيح، ثم أضاف: كان هناك بعض الأفراد الذين يحسنون الشعر في قريش إلاّ أنّهم قليلوا النظم للشعر، ولم يكن سوى السيد الرضي يكثر إنشاد الشعر إلى جانب إتصافه بالعذوبة والجمال.

 

القابه ومناصبه

لقبه بهاء الدولة سنة 388 بالشريف الأجل، وفي سنة 392 بذي المنقبتين، وفي سنة 389 بالرضي ذي الحسبين، وفي سنة 401 أمر أن تكون مخاطباته ومكاتباته بعنوان الشريف الرضي أن المناصب والولايات كانت منكثرة على عهد سيدنا الشريف من الوزارة التنفيذية والتفويضية والامارة على البلاد بقسميها العامة والخاصة، تولى الشريف نقابة الطالبيين وامارة الحاج والنظر في المظالم سنة 380 وهو ابن 21 عاما على عهد الطائع، ثم عهد إليه في 16 محرم سنة 403 بولاية أُمور الطالبيين في جميع البلاد فدعي «نقيب النقباء».(1)


1. النقابة: موضوعة على صيانة ذوي الأنساب الشريفة عن ولاية ولا يكافئهم في النسب ولا يساويهم في الشرف، ليكون عليهم أحبى وأمره فيهم أمضى وهى على ضربين: خاصة وعامة، وأمّا الخاصة فهو أن يقتصر بنظره على مجرد النقابة من غير تجاوز لها إلى حكم وإقامة حد فلا يكون العلم معتبراً في شروطها ويلزمه في النقابة على أهله من حقوق النظر اثنا عشر حقاً:

1ـ حفظ أنسابهم من داخل فيها وليس هو منها، أ وخارج عنها.

2ـ تميييز بطونهم ومعرفة أنسابهم حتى لا يخفى عليه منه يتوأب.

3ـ معرفة من ولد منهم من ذكر أ وانثى فيثبته.

4ـ أن يأخذهم من الاداب بما يضافي شرف أنسابهم وكرم محتدهم لتكون حشمتهم في النفوس موقورة وحرمة رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) فيهم محضورة.

5ـ أن ينزههم عن المكاسب الدنيئة ويمنعهم من المطالب الخبيثة.

6ـ أن يكفّهم عن ارتكاب المآثم.

7ـ أن يمنعهم من التسلط على العامة لشرفهم.

8 ـ أن يكون عوناً لهم في استيفاء الحقوق.

9ـ أن ينوب عنهم في المطالبة بحقوقهم العامة.

10ـ أن يمنع أمائهم أن يتزوجن إلاّ من الأكفاء.

11ـ أن يقوم ذوي الهفوات منهم فيما سوى الحدود.

12ـ مراعاة وقوفهم بحفظ اصولها وتنمية فروعها.

[ 13 ]

وفاة السيد الرضي

توفي السيد الرضي(رحمه الله) في السادس من شهر محرم الحرام من سنة ست وأربعمائة ـ وله من العمر ما يناهز السابعة والأربعين ـ، وحضر جنازته الوزير فخر الملك، وجميع الأعيان والأشراف والقضاة والصلاة عليه، وقد أقيمت مراسم العزاء في داره في الكرخ.

روى أغلب المؤرخين أنّ جسده الطاهر قد حمل إلى كربلاء فدفن إلى جوار قبر جدّه، والذي يفهم من بعض النقول التأريخية أن قبره في مقدمة الحائر الحسيني. ومضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد موسى بن جعفر(عليه السلام); لأنّه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ودفنه وصلى عليه فخر الملك أبو غالب، ومضى بنفسه آخر النهار إلى أخيه المرتضى بالمشهد الشريف الكاظمي، فألزمه بالعود إلى داره.(1)

رثاه الكثير من الأدباء والشعراء وفي مقدمتهم أخيه السيد المرتضى الذي أنشده قائلاً:

يا للرجال لفجعة جذمت يدي *** وددت لو ذهبت عليّ براسي

لله عمرك من قصير طاهر *** ولربّ عمر طال بالأدناس

—–


1. أغلب ما أوردناه بالنسبة لحياة السيد الرضي قد اقتبسناه من كتاب الغدير 4 / 181 ـ 211، إضافة إلى شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، عبقرية الشريف الرضي، سفينة البحار ومذكرات العلامة الشريف الرضي.

[ 14 ]

 

[ 15 ]

 

 

 

 

كلام بشأن نهج البلاغة وصاحبه

 

يعد الحديث عن علي(عليه السلام) أو نهج البلاغة عملاً سهلاً وفي نفس الوقت وليس بسهل! فهو ليس بسهل بالنسبة لمن يروم الغوص في أعماق علي(عليه السلام) والوقوف على كنهه وحقيقته والاحاطة بكافة جوانبه الفكرية وسعة إيمانه وقوة صبره وعظم فضائله وملكاته، أو أن يتعرف على نهج البلاغة كما هو في حقيقته. ولكن من السهل الوقوف على بعض قبسات هذين النبراسين العظيمين والقمرين الزاهرين. لا تخفى شخصية علي(عليه السلام) على مسلم، فكل من له أدنى معرفة بعلي(عليه السلام)وتاريخه وسيرة حياته سيوقن بأنّه الإنسان الكامل ـ بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)ـ وأنّه آية من آيات الحق جل وعلا وان كتابه نهج البلاغة ليس الاّ شعاعاً من شمسه المنيرة. فنهج البلاغة بحر من العلم ومحيط من الحكمة وكنز لا ينضب وحديقة غناء بالزهور وسماء مزينة بالنجوم ومصدر لسعادة الإنسان في مسيرته الدنيوية.

وممّا لاشك فيه أنّ من يروم إقتحام هذا الميدان عليه أن يعدّ الكتب والمجلدات علّه يحصي بعض حقائق الاُمور، بينما لا نهدف ـ في هذه المقدمة ـ إلاّ إلى التطرق إلى بعض الإشارات المقتضبة من أجل التمهيد للخوض في شرح كلمات أمير المؤمنين(عليه السلام) والتي نراها أفضل طريقة للتعريف به، وهل الجو المشمس إلاّ دليل على وجود الشمس.

وهنا أود أن ألفت إنتباه الاخوة القراء إلى أنّ عدداً كبيراً من العلماء والأدباء والزعماء ـ ولا سيما من غير المسلمين ـ قد تناولوا بالبحث والدرس كتاب نهج البلاغة فرأوا أعظم ممّا ظنوا وتصوروا فأطلقوا عباراتهم المعروفة بشأن نهج البلاغة بما يكشف عن مدى تأثرهم والذهول الذي أصابهم فلم يتمالكوا أنفسهم ويعبروا عن أحاسيسهم ومشاعرهم وعواطفهم.

[ 16 ]

ويبدو أن كل واحد من هؤلاء قد تأثر بجانب معين من نهج البلاغة، وربما أمكننا إيجاز هذه الجوانب في المحاور الرئيسية الثلاث الآتية:

1 ـ فصاحة وبلاغة نهج البلاغة.

2 ـ المضامين العميقة لنهج البلاغة.

3 ـ الجاذبية الخارقة لنهج البلاغة.

—–

[ 17 ]

 

 

 

1ـ فصاحة النهج وبلاغته

 

لابدّ في هذا الأمر من الاستشهاد بأقوال البلغاء والفصحاء والأدباء والشرّاح والكتّاب الذين سيروا ـ حسب قدرتهم ـ أغوار نهج البلاغة فتأثروا بما لمسوه من حلاوة وطلاوة في فصاحته وبلاغته وسحر بيانه بما لم يعهدوه، فأطلقوا عباراتهم بشأنه ومنهم:

1 ـ وما أحرانا أن نتجه بادئ ذي بدء صوب جامع نهج البلاغة والذي يعتبر من جهابذة الفصاحة والبلاغة الذي احتل الصدارة من بين فصحاء العرب وبلغائها وقد أفنى عمره في جمع خطب نهج البلاغة، ألا وهو السيد الرضي الذي وصفه الكاتب المصري المعروف الدكتور «زكي مبارك» في كتابه «عبقرية الشريف الرضي» قائلاً: «هو اليوم أبدع أبناء الزمان، وأنجب سادة العراق، يتحلى بأدب ظاهر، وفضل باهر، وحظ من جميع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطالبيين، ولو قلت إنّه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق».

يقول الشريف الرضي في مقدمته الرائعة لنهج البلاغة: «كانَ أميرُ الْمُؤمِنينَ(عليه السلام) مَشْرِعَ الْفَصاحَةِ وَمَوْرِدَها وَمَنْشَأ الْبلاغَةِ وَمَوْلِدَها وَمِنْهُ ظَهَرَ مَكْنُونُها وَعَنْهُ أخذَتْ قوانينُها وَعَلى أمْثِلَتِهِ حَذا كُلُّ قائِل خَطيب وَبِكلامِهِ اسْتَعانَ كُلُّ واعِظ بَليغ وَمَعَ ذلِك فَقَدْ سَبَقَ وَقَصَّرُوا وَقَدْ تَقَدَّمَ وَتَأخّرُوا»، ثم يفسر هذا الكلام فيقول: «لأن كلامه(عليه السلام) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي».

2 ـ الشارح المعروف الذي أفنى عمراً في شرح وتفسير نهج البلاغة وتحدث بشغف وإعجاب عن علي(عليه السلام) وهو عز الدين عبد الحميد ابن أبي الحديد المعتزلي الذي يعدّ من أشهر علماء العامة للقرن السابع الهجري(1).


1. يقع شرحه في عشرين مجلداً وقد استغرق في تأليفه أقل بقليل من خمس سنوات وهى مدّة خلافة علي(عليه السلام)على حد تعبيره.

[ 18 ]

فقد تحدث مراراً وكراراً بهذا الشأن في شرحه وأذعن لعظمة فصاحة وبلاغة النهج. فقد قال على سبيل المثال بشأن الخطبة 221 التي أوردها علي(عليه السلام) ـ بشأن البرزخ ـ «وينبغي لو اجتمع فصحاء العرب قاطبة في مجلس وتلي عليهم، أن يسجدوا له كما سجد الشعراء لقول عدي ابن الرقاع: قلم أصاب من الدواة مدادها... فلم قيل لهم في ذلك قالوا إنا نعرف مواضع السجود في الشعر كما تعرفون مواضع السجود في القرآن»(1).

ثم قال في موضع آخر حين عرض للمقارنة بين كلام أمير المؤمنين علي(عليه السلام)وكلام «ابن نباتة»(2) الخطيب المعروف الذي عاش في القرن الهجري الرابع: «فليتأمل أهل المعرفة بعلم الفصاحة والبيان هذا الكلام بعين الانصاف ليعلموا أنّ سطراً واحداً من كلام نهج البلاغة يساوي ألف سطر منه بل يزيد ويربي على ذلك»(3). وينقل أيضاً إحدى خطب ابن نباتة في الجهاد والتي تمثل قمة الفصاحة وقد ضمنها عبارات أمير المؤمنين(عليه السلام) الواردة في الجهاد «ما غزي قوم في عقر دارهم إلاّ ذلّوا» فيقول: «فانظر إلى هذه العبارة كيف تصيح من بين الخطبة صياحاً وتنادي على نفسها نداءً فصيحاً، وتعلم سامعها أنّها ليست من المعدن الذي خرج باقي الكلام منه، ولا من الخاطر الذي صدر ذلك السجح عنه، ولعمر الله، لقد جمّلت الخطبة وحسنتها وزانتها وما مثلها فيها إلاّ كآية من الكتاب العزيز يتمثل بها في رسالة أو خطبة، فانّها تكون كاللؤلؤة المضيئة تزهر وتنير، وتقوم بنفسها، وتكتسي الرسالة بها رونقاً، وتكتسب بها ديباجة»(4).

وأخيراً نختتم كلامه بما أورده في مقدمة شرحه للنهج حيث قال: «وأمّا الفصاحة فهو(عليه السلام)إمام الفصحاء وسيد البلغاء وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة»(5).

3 ـ «جورج جرداق» الكاتب المسيحي اللبناني المعروف الذي ألف كتابه المشهور


1. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11 / 153.

2. هو أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد بن اسماعيل بن نباتة المتوفى عام 374.

3. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 7 / 214.

4. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2 / 84 .

5. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 24.

[ 19 ]

«الإمام علي صوت العدالة الإنسانية» حيث أفرد فصلاً من كتابه لبيان خصائص الإمام علي(عليه السلام) فقال بخصوص نهج البلاغة: «أمّا في البلاغة، فهو فوق البلاغات، كلام ضم جميع جمالات اللغة العربية في الماضي والمستقبل، حتى قيل عنه: كلام دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين»(1).

4 ـ «الجاحظ» الذي عاش مطلع القرن الهجري الثالث ويعدّ من أبرز أدباء العرب ونوابغهم، حيث أورد بعض كلمات أمير المؤمنين(عليه السلام) في كتابه المعروف «البيان والتبيين» فجعل يثني عليه. ومن ذلك قال في المجلد الأول من كتابه المذكور حين طالعته كلمته(عليه السلام): «قيمة كل امرء ما يحسنه»(2); لو لم تكن في كل هذا الكتاب إلاّ هذه الجملة لكفت، بل وزادت، فأفضل الحديث ما كان قليلاً ومفهومه ظاهر جلي ويغنيك عن الكثير، وكأنّ الله كساه ثوباً من الجلال والعظمة وحجاباً من نور الحكمة بما يتناسب وطهر قائله وعلو فكره وشدة تقواه.

5 ـ «أمير يحيى العلوي» مؤلف كتاب «الطراز» حيث أورد في كتابه عبارة عن الجاحظ انّه قال: «إنّه الرجل الذي لا يجارى في الفصاحة ولا يبارى في البلاغة، وفي كلامه قيل دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين، ولم يطرق سمعي كلام بعد كلام الله ورسوله سوى كلمات أمير المؤمنين كرم الله وجهه من قبيل قصار كلماته «ما هلك امرء عرف قدره» و«من عرف نفسه عرف ربه» و«المرء عدو ما جهل» و«استغن عمن شئت تكن نظيره واحسن إلى من شئت تكن أميره واحتج إلى من شئت تكن أسيره». وعليه فليس من العبث أن يعرب هذا الأديب الزيدي «صاحب كتاب الطراز» عن دهشته لاستناد كبار علماء المعاني والبيان بدواوين شعراء العرب وأدبائهم بغية السبيل إلى الفصاحة والبلاغة بعد كلام الله وكلام النبي(صلى الله عليه وآله) وولوا ظهورهم لكلمات الإمام علي(عليه السلام)، بينما كانوا يعلمون أنّه يمثل قمة الفصاحة والبلاغة وفي كتاب نهج البلاغة كل ما يريدون من فنون أدبية من قبيل الاستعارة والتمثيل والكناية والمجاز والمعاني و...»(3).


1. علي صوت العدالة الإنساني 1 / 47.

2. نهج البلاغة، قصار الكلمات 81 .

3. الطراز 1 / 165 ـ 168.

[ 20 ]

6 ـ الكاتب المشهور «محمد الغزالي» الذي نقل في كتابه «نظرات في القرآن» عن اليازجي أنه أوصى ولده قائلاً: «إذا شئت أن تفوق أقرانك في العلم والأدب وصناعة الانشاء فعليك بحفظ القرآن ونهج البلاغة».(1)

7 ـ المفسر المعروف «شهاب الدين الآلوسي» الذي قال ـ حين بلغ اسم نهج البلاغة ـ : «إنّ انتخاب هذا الاسم لهذا الكتاب نابع من كونه يشتمل على كلام فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق المتعال، وهو كلام يقترب من الاعجاز يضم البدائع في الحقيقة والمجاز»(2)

8 ـ الاستاذ «محمد محيي الدين عبد الحميد» الذي قال في وصفه لنهج البلاغة: «كلّ هذه المزايا مجتمعة، وتلك الصفات متآزرة متناصرة; وما صاحبها من نفح إلهي وإفهام قدسى، مكنت للإمام عليّ من وجوه البيان، وملكته أعنّة الكلام، وألهمته أسمى المعانى وأكرمها، وهيأت له أشرف المواقف وأعزها، فجرت على لسانه الخطب الرائعة والرسائل الجامعة والوصايا النافعة».(3)

9 ـ أحد شرّاح نهج البلاغة «الشيخ محمد عبده» إمام العامة والكاتب العربي المعروف، الذي قال بشأن النهج في مقدمته عليه ـ بعد أن إعترف بأنّه تعرف مصادفة على هذا الكتاب الشريف ـ ويبدو أنّ هذه قضية جديرة بالتأمل ـ : «حين تصفحت نهج البلاغة وتأملت موضوعاته بدا لي وكأنّ هذا الكتاب عبارة عن معارك عظيمة، الحكومة فيها للبلاغة والقوّة للفصاحة وقد حملت من كل حدب وصوب على جنود الظنون الباطلة وسلاحها الأدلة القويّة والبراهين الساطعة».

10 ـ «السبط بن الجوزي» أحد أبرز الخطباء والمؤرخين والمفسرين المعروفين العامة، الذي صرّح في «تذكرة الخواص» قائلاً: «وقد جمع الله له بين الحلاوة والملاحة والطلاوة والفصاحة لم يسقط منه كلمة ولا بادت له حجة، أعجز الناطقين وحاز قصب السبق في السابقين الفاظ يشرق عليها نور النبوة ويحير الافهام والألباب».(4)


1. نظرات في القرآن / 154، طبق نهج البلاغة 1 / 91.

2. نقلاً عن كتاب (الجريدة الغيبية) عن مصادر نهج البلاغة / 1.

3. مصادر نهج البلاغة 1/96.

4. تذكرة الخواص، الباب السادس / 128.

[ 21 ]

11 و12 ـ ونختتم هذا الفصل بقولين لأديب مسيحي معروف وهو الكاتب والمفكر العربي المشهور «ميخائيل نعيمة» الذي قال: لو كان علي مقتصراً على الإسلام لم يتعرض شخص مسيحي (يشير إلى الكاتب والمفكر المسيحي اللبناني جورج جرداق صاحب كتاب الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) لسيرته وحياته ويتابع الأحداث التي واجهته فيترنم بشجاعته التي أصابته بالدهشة والذهول; ولم تقتصر شجاعة الإمام وبسالته على ميدان الحرب، فقد كان رائداً في البلاغة وسحر البيان والاخلاق الفاضلة وعلو الهمّة وعمق الإيمان ونصرة المظلومين واتباع الحق وبسط العدل. ثم قال في موضع آخر بأن ما قاله وفعله هذا النابغة ما لم تره عين وتسمعه أذن، وأنّه لأعظم من أن يسع المؤرخ بيانه بقلمه ولسانه. وأخيراً فقد قال فيه ابن أبي الحديد: وأمّا الشجاعة فانه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله، ومحا اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة; وهو الشجاع الذي مافرّ قط، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلاّ قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الاولى إلى ثانية، وأمّا السخاء والجود ففيه يضرب المثل فيهما، فكان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده، وقال الشعبي: كان أسخى الناس; كان على الخلق الذي يحبه الله: السخاء والجود، ما قال (لا) لسائل قط. وأمّا الحلم والصفح: فكان أحلم الناس عن ذنب، وأصفحهم عن مسيء; وقد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم ـ وكان أعدى الناس له وأشدّهم بغضا ـ فصفح عنه، وأمّا الفصاحة فهو(عليه السلام) إمام الفصحاء وسيد البلغاء، ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة، ولما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية: جئتك من عند أعيا الناس، قال له: ويحك! كيف يكون أعيا الناس! فو الله ماسن الفصاحة لقريش غيره.

—–

[ 22 ]

[ 23 ]

 

 

 

2ـ المضامين الرصينة الشاملة لنهج البلاغة

 

من المميزات التي يتصف بها نهج البلاغة التي تلفت انتباه القارئ إذا ما أقبل عليه إنّما تكمن في شموليته وتنوع مضامينه الرصينة، بحيث «تجعله يصدق أنّ هذه الأقوال المتقنة الدقيقة التي تعالج اُمور شتى تصل إلى حدِّ التضارب إنّما تصدر من عين واحدة، ومن المسلم به أنّ هذا الأمر لا يصدر إلاّ من أمير المؤمنين علي(عليه السلام)الذي أودع قلباً حافظاً وروحاً سامية تفيض علوماً ومعارفاً إلهية حقة وأسراراً جمة لا يسعها سوى ذلك القلب. ويسرنا هنا أن نستشهد بالإقوال التي ساقها كبار العلماء والمفكرين بهذا الخصوص.

1 ـ ونستهل ذلك بما أروده العالم المعروف «محمد عبده» إمام العامة، فقد رسم صورة رائعة عن حاله وهو يطالع لأول مرة نهج البلاغة وما اشتمل عليه من خطب ورسائل وكلمات قصار عجزت العقول أن تجود بمثلها فصاحة وصياغة وبلاغة، فقال: «وكان لطيف الحِسّ، نقيّ الجوهر، وضاء النَّفس; سليمَ الذّوق، مستقيم الرأي، حتسنَ الطريقة سريع البديهة، حاضر الخاطر; حوّلاً قلبًا; عارفاً بمهمّات الاُمور إصداراً وإيراداً.

3 ـ نقل «الشيخ البهائي» في «كشكوله» عن كتاب «الجواهر» ان «أبو عبيدة» قال: قال علي(عليه السلام) تسع جمل عجزت بلغاء العرب عن الإتيان بواحدة منها; ثلاث في المناجاة، وثلاث في العلوم، وثلاث في الادب.(1) ثم خاض في شرح هذه العبارات التي وردت ضمن كلماته في نهج البلاغة وسائر أحاديثه.