![]() |
![]() |
على كل حال يستفاد من العبارات المذكورة أنّ سلب النعمة قد يكون نفسه نعمة، لأنّ وفور النعمة سبب الغرور والابتعاد عن الله ومقاطعة الخلق، أضف إلى ذلك فانّ الحمد تجاه سلب النعم علامة على التسليم المطلق لمشيئة الله.
ثم أشار إلى ذكر ثلاثة أوصاف أخرى من أوصاف الله سبحانه وتعالى والتي تشكل في
الواقع تحذيراً لكافة الأفراد الذين يراقبون أنفسهم ونيّاتهم فقال (عليه السلام): «الْبَاطِنُ لِكُلِّ خَفِيَّة(1)، وَالْحَاضِرُ لِكُلِّ سَرِيرَة. العَالِمُ بِمَا تُكِنُّ الصُّدُورُ، وَمَا تَخُونُ الْعُيُونُ».
فهذه الصفات تدلّ بوضوح على أنّ علم الله سبحانه علم حضوري، يعني أنّه حاضر وناظر في كل مكان، فالخفيات والعلنيات لديه على حدّ سواء، والحضور والغياب عنده واحد، فهو يعلم أسرار الصدور وخائنة الأعين، وهو علم بباطن كل شخص وكل شيء.
حقّاً إنّ الإنسان لو تأمل حقيقة الحمد والثناء وذكر هذه الصفات وأمن بها إيماناً راسخاً لأدرك أنّ العالم حاضر عند الله تبارك وتعالى، ولله حضور في روحه وفكره، ولما قارف السيئة، بل لما فكر فيها.
ثم إختتم هذا المقطع من الخطبة بالشهادة لله بالوحدانية وللنّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالنبوة، فقال(عليه السلام): «وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ غَيْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً نَجِيبُهُ(2) ]نجيّه[ وَبَعِيثُهُ(3) شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الاِْعْلاَنَ، وَالْقَلْبُ اللِّسَانَ».
طبيعي أنّ الشهادة بهذين الركنين الأصليين الذين يشكلان أسس الإيمان تدعو الإنسان إلى نفي معبود آخر وتحذر من عبادة الشيطان وهوى النفس الأمارة، كما تدعو الشهادة بالنبوّة إلى طاعة الإنسان لأوامر النبي (صلى الله عليه وآله)، ولا سيّما الشهادة التي لا تقتصر على اللسان بل تتعزز بالقلب وروح الإنسان.
—–
1. اللام في «خفية» بمعنى في أو بمعنى مع وكذلك اللام في «لكل سريرة».
2. «نجيب»: من مادة «نجابة» الإنسان أوالشيء المصطفى والنفيس.
3. «بعيث»: من مادة «بعثة» بمعنى مبعوث.
و منهَا: «فَإِنَّهُ وَاللّهِ الْجِدُّ لاَ اللَّعِبُ، وَالْحَقُّ لاَ الْكَذِبُ. وَمَا هُوَ إِلاَّ الْمَوْتُ أَسْمَعَ دَاعِيهِ، وَأَعْجَلَ حَادِيهِ. فَلاَ يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ وَحَذِرَ الاِْقْلاَلَ، وَأَمِنَ الْعَوَاقِبَ ـ طُولَ أَمَل وَاسْتِبْعَادَ أَجَل ـ كَيْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ، وَأَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ، مَحْمُولاً عَلَى أَعْوَادِ الْمَنَايَا، يَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ، حَمْلاً عَلَى الْمَنَاكِبِ وَإِمْسَاكاً بِالاَْنَامِلِ. أَمَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً، وَيَبْنُونَ مَشِيداً، وَيَجْمَعُونَ كَثِيراً! كَيْفَ أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً، وَمَا جَمَعُوا بُوراً; وَصَارتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ، وَأَزْوَاجُهُمْ لِقَوْم آخَرِينَ; لاَ فِي حَسَنَة يَزِيدُونَ، وَلاَ مِنْ سَيِّئَة يَسْتَعْتِبُونَ!».
—–
الشرح والتفسير
حذر الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع من الخطبة الجميع في أنّ هذه الحياة الدنيا إلى زوال ولابدّ من مفارقة هذه الدنيا عاجلاً أم آجلاً والالتحاق بالآخرة وتحمل تبعات الأعمال فقال: «فَإِنَّهُ وَاللّهِ الْجِدُّ لاَ اللَّعِبُ، وَالْحَقُّ لاَ الْكَذِبُ. وَمَا هُوَ إِلاَّ الْمَوْتُ أَسْمَعَ دَاعِيهِ(1)، وَأَعْجَلَ حَادِيهِ(2)».
ولما كان الموت حقيقة واقعة بالنسبة لجميع الأفراد، وقضية قطعية تأبى الاجتناب، فقد
1. اسمع فعل وداعي فاعل وضميره يعود إلى الموت ومفعوله محذوف وهو جميع الناس، أي إنّ داعي الموت أوصل صوته ليسمع الجميع.
2. «حادي»: من مادة «حداء» من يسوق الجمال بسرعة والعبارة فعل وفاعل ومفعول محذوف كالجملة السابقة.
أكّد الإمام (عليه السلام) كلامه بأنواع التأكيدات(1)، والتي بلغت عشرة أنواع حسب قول بعض شرّاح نهج البلاغة، فقال أنّ صوت داعي الموت يطرق الأذن من كل جانب وقد دوّى صوت الرحيل ليملا كافة أرجاءالعالم، وملك الموت لا يفرق بين كهل وشاب وطفل، فقد كمن للجميع ولا يتنظر سوى أمر الله، ثم قال (عليه السلام): «فَلاَ يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ، وَقَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ وَحَذِرَ الاِْقْلاَلَ، وَأَمِنَ الْعَوَاقِبَ ـ طُولَ أَمَل وَاسْتِبْعَادَ أَجَل ـ كَيْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ(2) عَنْ وَطَنِهِ، وَأَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ»، يمكن أن يكون للعبارة «فَلاَ يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ»، معنيان:
الأول: إن رأيت الناس أحياء وسالمين فلا يخدعك ذلك ولا يغفلك من الموت.
والثاني: لا تخدعك جماعات الناس لأن تفكر في الحياة لا الموت، ومفهوم العبارة: «وَحَذِرَ الاِْقْلاَلَ»، ابعاد النفس (حسب طنه) عن الفقر بجمع الأموال، والعبارة: «وَأَمِنَ الْعَوَاقِبَ» تعني تصور الشخص أنّه بمأمن من عاقبة عمله بسبب الآمال الفارغة بأنّ الوقت مازال مبكراً على الموت، ولكن رغم كل هذه الآمال والأماني، فقد فاجأهم الموت وأخرجهم بسرعة وعنف من وطنهم المألوف وطردهم من مكانهم الآمن، ثم واصل الإمام (عليه السلام) كلامه بأنّ ذلك في الوقت الذي يحملون فيه على الأولاد وقد تناولتهم أيدي الرجال ليمسكوهم بالأنامل، وكأنّهم متنفرون ومرعبون من حمل توابيتهم بكامل أيديهم: «مَحْمُولاً عَلَى أَعْوَادِ الْمَنَايَا، يَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ، حَمْلاً عَلَى الْمَنَاكِبِ وَإِمْسَاكاً بِالاَْنَامِلِ».
فقد رسم الإمام (عليه السلام) صورة واضحة بهذه العبارات الصريحة والبليغة المؤثرة لكيفية نهاية حياة الأثرياء المرفهين والمغرورين بالجاه والمنصب، ولاسيّما حين يدركهم الموت المفاجىء، فهى عبارات تمزق كافة الحجب التي تسدل على عين الإنسان، كما توقظ كل سامع من نوم غفلته.
ثم أضفى (عليه السلام) صورة أخرى على هذا المعنى مواصلة لكلامه فقال: «أَمَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَأْمُلُونَ
1. هذه الأنواع العشرة من التأكيد هى: «ان» وضمير الشأن «إن» اعتبرنا الضمير في «أنّه» ضمير الشأن والجملة الاسمية والقسم بلفظ الجلالة والجد والألف واللام التي دخلت عليه ولا اللعب والحق ولا الكذب والاستفادة من الحصر في العبارة (ما هو إلاّ...).
2. «ازعج»: من مادة «ازعاج» بمعنى الاقتلاع والاخراج.
بَعِيداً، وَيَبْنُونَ مَشِيداً(1)، وَيَجْمَعُونَ كَثِيراً! كَيْفَ أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً، وَمَا جَمَعُوا بُوراً; وَصَارتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ، وَأَزْوَاجُهُمْ لِقَوْم آخَرِينَ; لاَ فِي حَسَنَة يَزِيدُونَ، وَلاَ مِنْ سَيِّئَة يَسْتَعْتِبُونَ!
نعم، يفيق الإنسان من نوم الغفلة حين يصفعه الأجل، وفي تلك اللحظة تغلق صحف الأعمال تماماً، فلا من شيء يمكن واضافته إلى الحسنات، ولا يمكن تقليل شيء من السيئات، ولو سلب الإنسان حياته بينما بقيت صحف العمل مفتوحة والسبيل مشرع أمام تداركها فلا عقبة ولا ضير، إلاّ أنّ المشكلة تكمن في غلق صحيفة الأعمال فلا مجال لتداركها، وهذا ما يجعل الإنسان يعيش الهم والغم.
—–
1. «مشد»: من مادة «شيد» على وزن بيد، لها معنيان: الأول بمعنى الارتفاع والآخر بمعنى الجص ومن هنا يطلق على القصور المرتفعة والعالية التي تعانق السماء باقصور المشيدة، كما تطلق على القصور المحكمة لتبقى محصنة من حوادث الدهر (في مقابل مساكن المستضعفين التي تبنى عادة من الطين).
«فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَّزَ ]بَرز [مَهَلُهُ، وَفَازَ عَمَلُهُ. فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا، وَاعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا: فَإِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَام، بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الاَْعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ. فَكُونُوا مِنْهَا عَلَى أَوْفَاز. وَقَرِّبُوا الظُّهُورَ لِلزِّيَالِ ]للزّوال[».
—–
الشرح والتفسير
خلص الإمام (عليه السلام) إلى نتيجة بعد مقدمات دقيقة أوردها في بداية ووسط هذه الخطبة بشأن علم الله بكل شيء سيّما بأعمال العباد ونيّاتهم وكذلك قرب الموت والاعتبار بحياة الماضين فقال: «فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَّزَ(1) ]بَرز [مَهَلُهُ(2)، وَفَازَ عَمَلُهُ».
فمن الواضح أنّ التقوى إذا تجذرت في أعماق قلب الإنسان ظهرت ثمارها على يديه ولسانه وعينه وسمعه، وذلك لأنّ التقوى ملكة نفسية تتمثل بخشية الله وهى الدافع القوي للإتيان بالأعمال الصالحة وحاجز عن الذنوب والمعاصي.
ثم واصل الإمام كلامه فقال: «فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا(3)، وَاعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا»، إشارة إلى أنّ
1. «برز»: من مادة «بروز» بمعنى الظهور والسبقة، وتوضيح ذلك أنّ هذه المفردة تكون أحياناً على هيئة ثلاثي مجرّد (على وزن ضرب) بمعنى الظهور، وأحياناً أخرى من باب تفعيل (على وزن صرّف) بمعنى السبقة، وقد استعملت في العبارة الثاني، وإن وردت بصيغة الثلاثي المجرد في بعض النسخ.
2. «مهل»: له معنى الاسم المصدري وتعني الوفق والمداراة، كما تستعمل بمعنى الفرصة للقيام بالعمل الصالح.
3. «هبل»: نعني أحياناً الهلكة وفقدان الشيء أحياناً، وأخرى بمعنى الغنيمة والاهتبال بمعنى الخدعة، كما يعني الاغتنام والاستيلاء على شيء، والمعنى الثاني هوالمراد بالعبارة.
الجنّة لا تعطى لأحد بالمجان، كما لا تتأتى من خلال الظن والتصور والخيال والزعم الفارغ، فمفتاح الجنّة الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة تنبعث من التقوى.
ثم قال (عليه السلام) في مواصلة لشرح وضع الدنيا والآخرة ومنزلة كل جماعة: «فَإِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَام، بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الاَْعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ»، فالنظرة الإسلامية التي تعرض لها القرآن الكريم ونهج البلاغة مراراً تكمن في أنّ الدنيا دار ممر وأنّها قنطرة وميدان للتدريب وبالتالي فهى متجر ومقدمة للآخرة الموضوع الأصلي للإنسان، وإن اعتمدنا هذه النظرة للدنيا آنذاك سيبدو لنا كل شيء بصيغة أخرى وستحول دون مقارفتنا للذنب والظلم، وتسوقنا نحو الخير والاحسان.
أمّا أتباع المدارس المادية التي ترى الدنيا ولذاتها هدفها النهائي، وقد غفلت تماماً عن الآخرة، فليس هناك من حد لتلوثها بالذنوب والنزاعات من أجل الاستحواذ على الأموال والمناصب الظاهرية، وعليه فلا أمل في إطفاء غائلة المعارك والنزاعات بينها، وأخيراً خلص الإمام إلى نتيجة رائعة عميقة المعنى فقال: «فَكُونُوا مِنْهَا عَلَى أَوْفَاز(1). وَقَرِّبُوا الظُّهُورَ لِلزِّيَالِ(2)»، في إشارة إلى أنّ الوقت ضيق والموانع كثيرة وزمان الرحيل مجهول تماماً، ولا ينبغي أن يقتصر التأهب على الكهول، بل لابدّ أن يعيش ذلك التأهب حتى الشباب على الدوام، فما أكثر من بقي من الآباء الكهول والعجزة، بينما رحل الشبان الأشداء.
—–
أشار الإمام في هذه الخطبة إلى أمور مهمّة يمكن إيجازها في ما يلي:
1 ـ لفت الأنظار في بداية الخطبة إلى حضور الله سبحانه في كل مكان وعلمه بخفايا الإنسان وباطنه، ليراقب الجميع أعمالهم.
1. «أوفاز»: جمع «وفز» على وزن نبض السرعة والعجلة والاستعداد للسفر.
2. «الزيّال»: بمعنى الفراق والعبارة «قربوا الظهور للزيّال» تعني أعدوا المراكب للرحيل من الدنيا ولازمة ذلك الإتيان بالأعمال الصالحة والتوبة من الذنوب وأداء حقوق المخلوق والخالق.
2 ـ عدّ الشهادة الحقيقة بالوحدانية للحق والنبوة للنبي (صلى الله عليه وآله) من العلم الذي ينسجم فيه الظاهر والباطن وينفصل عن كل نفاق.
3 ـ إلفات إنتباه الجميع إلى قرب الموت والرحيل عن الدنيا وهو سبب اليقظة والعلم.
4 ـ دعى مخاطبيه لمطالعة تاريخ الماضين من خلال الكتب والآثار التي خلفوها في المدن والمناطق، ليعلموا أنّ ذلك المصير ينتظرهم مهما كانوا ومهما بلغوا.
5 ـ دعى الجميع إثر تلك المواعظ والإرشادات إلى الروع والتقوى، التقوى التي تخترق أعماق قلب الإنسان وتظهر آثارها على جميع أفعاله وممارساته.
6 ـ يذكّر كافة مخاطبيه بهذه النقطة وهى عدم إعطاء الجنّة لأحد دون حساب، بل لها ثمن لا يبلغها العبد إلاّ به.
7 ـ يستعرض أخيراً هذا الأمر في أنّ الدنيا ممر ولا مقر، متجر ينبغي للجميع التزود منه فيستعدوا في كل آن للرحيل والانطلاق.
—–
وَمِنْ خُطبَة لهُ (عليه السلام)
يُعظّم اللّه سبحانه ويَذكر القرآن والنبي ويَعظُ الناس
يتضح من النظرة الإجمالية إلى الخطبة أنّها تتألف من خمسة أقسام مهمّة هى:
القسم الأول: يتحدث عن عظمة الله وقدرته المطلقة وسجود كافة المخلوقات لذاته المقدّسة.
القسم الثاني: إشارة إلى عظمة القرآن الكريم وخلوده.
القسم الثالث: في النبي (صلى الله عليه وآله) وأنّ الله سبحانه أرسله بعد فترة وختم به النبوة.
القسم الرابع: الحديث عن تفاهة الدنيا ودعوة الجميع لليقظة والتعرف على الدنيا والتزود منها.
القسم الخامس: وعظ المخاطبين والعود على التذكير بالقرآن وعظمته ولزوم التدبر في آياته، وهكذا يعرض اطروحة كاملة لأهل الحق لنيل السعادة.
1. سند الخطبة:
لم يجد كاتب مصادر نهج البلاغة سنداً آخر لهذه الخطبة، سوى ما قاله ابن أبي الحديد من أنّ ما ورد في هذه الخطبة جزء اقتطفه السيد الرضي من خطبة طويلة، فيراه دليلاً على أنّه أصل الخطبة وإن لم يشر إلى سندها، ولكن يحتمل أن يكون كلام ابن أبي الحديد استنباطاً لهذه الخطبة في نهج البلاغة، لأنّ السيد الرضي بيّن من خلال تعبيره «منها ومنها» والذي كرره في هذه الخطبة أنّه قطعها، كما أنّ عدم إرتباط أجزائها يفيد أنّ أصل الخطبة طويل جدّاً، وقد ذكرها الآمدي في «الغرر» ويحتمل أنّه نقلها من مصدر آخر.
«وَانْقَادَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةُ بِأَزِمَّتِهَا، وَقَذَفَتْ إِلَيْهِ السَّموَاتُ وَالاَْرَضُونَ مَقَالِيدَهَا، وَسَجَدَتْ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَالاْصَالِ الاَْشْجَارُ النَّاضِرَةُ، وَقَدَحَتْ لَهُ مِنْ قُضْبَانِهَا النِّيرَانَ الْمُضِيئَةَ، وَآتَتْ أُكُلَهَا بِكَلِمَاتِهِ الِّثمَارُ الْيَانِعَةُ».
—–
الشرح والتفسير
خاض الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع في بيان طائفة من أوصاف الله تبارك وتعالى، وأشار بخمس عبارات إلى أمور دقيقة بهذا الشأن فقال: «وَانْقَادَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةُ بِأَزِمَّتِهَا(1)».
فالواقع هو أنّ الإمام (عليه السلام) شبّه الدنيا والآخرة بالحيوانات السلسة والمروضة التي أسلمت زمامها فيقودها حيث يشاء، ثم قال (عليه السلام) في العبارة الثانية مؤكّداً ذات المعنى السابق بصيغة أخرى: «وَقَذَفَتْ إِلَيْهِ السَّموَاتُ وَالاَْرَضُونَ مَقَالِيدَهَا(2)»، فهو يفتح ما يشاء ويغلق ما يشاء ويفعل كل ذلك على أساس الحكمة، وأشار في العبارة الثالثة إلى سجود الأشجار والناضرة لذاته المقدّسة وقال (عليه السلام): «وَسَجَدَتْ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَالاْصَالِ(3) الاَْشْجَارُ النَّاضِرَةُ».
صبعاً التركيز على الأشجار الناضرة لا يعني الحصر، بل نموذج من أجمل الكائنات الحية
1. «أزمة»: جمع زمام اللجام.
2. «مقاليد»: قال أغلب أرباب اللغة مقليد وقال البعض الآخر جمع مقلاد بمعنى مفتاح، وقال صاحب «لسان العرب» أنّ أصلها فارسي كليد الذي يعني المفتاح، كما قال صاحب «لسان العرب» تأتي أحياناً بمعنى الخزائن إلاّ أنّ المعنى الأول أنسب وأكثر إنسجاماً مع العبارة أزمة في الجملة السابقة وقذفت في هذه الجملة.
3. «غدو»: جمع «غدوة» بمعنى الصباح، و«الآصال» جمع أصل على وزن رسل وهى جمع من مادة أصل بمعنى العصر وآخر النهار واعتبر بعض أرباب اللغة الآصال والأصل جمع أصيل.
لعالم الخليقة، كما يشير الغدو والآصال إلى جميع الأوقات، كقولنا إنا في خدمة نشر المبادىء الإسلامية ليل ونهار، أي في جميع الأحوال والأوقات، ومن هنا أطلق القرآن الكريم القول: (والنَّجمِ والشَّجَرِ يَسجُدَانِ)(1)، كما يحتمل أن تكون آثار الله وعظمته أوضح في الأشجار حين شروق الشمس وغروبها أكثر من أي زمان، ويمكن أن يكون هذا السجود بلسان الحال، لأنّ نظامها الدقيق يعكس علم خالقها وقدرته المطلقة، كما يمكن أن يكون بلسان القال، وبناءاً على تمتع كافة ذرات كائنات العالم بالعلم والشعور وتسبيحها لله سبحانه عن علم وسجودها له.
وقال (عليه السلام) في العبارة الرابعة: «وَقَدَحَتْ(2) لَهُ مِنْ قُضْبَانِهَا(3) النِّيرَانَ الْمُضِيئَةَ».
وهذا من عجائب القدرة الإلهيّة بأن يخلق مادة بين الماء والتراب تكون مركزاً للنور والضوء، وذلك الضوء الذي تحل من خلاله أغلب مشاكل الإنسان.
ثم قال (عليه السلام): «وَآتَتْ أُكُلَهَا بِكَلِمَاتِهِ الِّثمَارُ الْيَانِعَةُ(4)».
—–
تتفق عبارات الخطبة التي تضمنت آثار التوحيد الله وعظمته وما ورد في الآيات والقرآنية، فقد ورد في موضع من القرآن الكريم: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الاُْولَى وَالاْخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(5)، وفي موضع آخر: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ)(6)، وكذلك: (أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الاَْرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ...)(7)، وورد أيضاً: (الَّذِي
1. سورة الرحمن / 6.
2. «قدحت»: من مادة «قدح» على وزن مدح بمعنى ضرب الحجر بالسندان لتوليد شعلة النار والتي كانت شائدة سابقاً، ثم وردت بمعنى اشتعلت.
3. «قضبان»: جمع قضيب بمعنى عضن الشجرة وقضب على وزن نبظ بمعنى الفاكهة.
4. «يانعة»: من مادة «ينع» على وزن منع بمعنى نضج الفاكهة.
5. سورة القصص / 70.
6. سورة الزمر / 63.
7. سورة الحج / 18.
جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الاَْخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ)(1)، وقال: (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّات مَعْرُوشَات وَغَيْرَ مَعْرُوشَات وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِه كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ...)(2).
على كل حال كلما تأملنا آيات القرآن الكريم وخطب نهج البلاغة كهذه الخطبة اتضحت لنا عظمة الحق تبارك وتعالى وقدرته ونعمته فتثير الدنيا حس الشكر له لنرتوي من العين الصافية لفرات معرفته وتعرفنا على صفات جماله وجلاله.
—–
1. سورة يس / 80 .
2. سورة الانعام / 141.
منهَا: «وَكِتَابُ اللّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نَاطِقٌ لاَ يَعْيَا لِسَانُهُ، وَبَيْتٌ لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وَعِزٌّ لاَ تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ».
—–
الشرح والتفسير
خاض الإمام (عليه السلام) في هذا المقطع القصير من كلامه بالحديث عن أهميّة كتاب الله القرآن الكريم، وقد أدّى حق المطلب بثلاث عبارات قصيرة وبليغة: «وَكِتَابُ اللّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ(1)نَاطِقٌ لاَ يَعْيَا(2) لِسَانُهُ، وَبَيْتٌ لاَ تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ، وَعِزٌّ لاَ تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ».
فقد أشار في العبارة الاُولى إلى هداية القرآن في كل زمان ومكان وتحت أية ظروف، وإن بدا صامتاً، لكنّه تحدث بمئة لسان، وقد سمعه كل من جلس إليه ومنحه آذاناً صاغية، فهو لا ينفك يلقن الإنسان دورس الحياة السعيدة، والعبارة: «لاَ يَعْيَا لِسَانُهُ»، يمكن أن تكون إشارة إلى أنّ تقادم الزمان لا يؤثر مطلقاً على حقائق القرآن الكريم، وهو غض طري على الدوام كما صورته الأخبار والروايات(3).
وأشار في العبارة الثانية إلى نقطة أخرى حفظ القرآن الكريم، فكما يحفظ البيت المستحكم
1. «أظهر»: جمع «ظهر» كل شيء، والتعبير بين أظهركم تعني في أغلب الموارد الدفاع عن الشيء، وذلك لأنّ الأفراد إن أرادوا الدفاع عن منطقة ولوا إليها ظهورهم وإلتفوا حولها واستقبلوا العدو، ثم استعملت هذه المفردة حين يكون الشخص وسط جماعة سواء دافعوا عنه أم لم يدافعوا، وهذا هوالمعنى المراد بها في العبارة.
2. «يعيى»: من مادة «عي» على وزن حي بمعنى التعب والعجز، وقال الراغب في المفردات تعني في الأصل العجز الذي يعرض لجسم الإنسان إثر كثرة المشي، ثم اطلقت على كل تعب وعجز.
3. ورد هذا الكلام في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: «هو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة» (بحار الانوار 2/280).
ذا الأعمدة القوية أصحابه من مخاطر الحوادث والحرارة والبرودة والحيوانات الوحشية والأعداء واللصوص، فانّ القرآن الكريم يتكفل بحفظ أتباعه من الانحراف والضلال ووسوسة الخناسين وإلقاءات الشياطين.
وأشار في العبارة الثالثة إلى هذده الحقيقة وهى أنّ قدرة الإنسان لا تقهر إن لاذ بالقرآن وهبّ لنصرته، وذلك لأنّ قدرة هداية القرآن تستند إلى قدرة الله سبحانه وقدرة الله قاهرة لا تغلب، وبفعل مصداق الآية الشريفة: (إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ...)(1)، فمن تأيد بنصر القرآن لن يهزمه عدو.
—–
لعل العبارة التي وردت في هذا المقطع من الخطبة والتي عبّرت عن القرآن الكريم بأنّ «نَاطِقٌ لاَ يَعْيَا لِسَانُهُ» تشير هذا السؤال: كيف التوفيق بين هذه العبارة وما ورد عن الإمام في الخطبة 158 بشأن القرآن إذ قال (عليه السلام): «ذلِكَ الْقُرْآنُ، فَاسْتَنْطِقُوهُ، وَلَنْ يَنْطِقَ،وَلَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ».
وكذلك العبارة التي وردت في الخطبة 183 إذ قال (عليه السلام): «فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ»، أو ليس هناك من تضاد بين هذه العبارات؟
تتضج الإجابة على هذا السؤال من أدنى دقّة وتأمل، بعبارة أخرى فانّ العبارات المذكورة تفسر بعضها البعض الآخر، لأنّ القرآن حين يعبر عن القرآن بالصامت والناطق فمفهوم ذلك أنّ كل تعبير ناظر لشيء، مثلاً يمكن القول: القرآن صامت من حيث الظاهر، لكنّه في الواقع تحدث بصوت جلي بليغ، أو أنّه صامت إزاء الأفراد السطحيين بينما ناطق هو تجاه العلماء المفكرين، أو أنّه ناطق في مواصلة الطرق العملية الأصولية، أمّا بالنسبة لتطبيقها على مصاديقها استنباط الأحكام الفرعية (كقضية التحكيم في حادثة معركة صفين)، فيجب على المجتهدين أن ينطقوا عنه، ويمكن جمعها معاً في مفهوم جامع لكلام علي (عليه السلام) وسيأتي مزيد من التوضيح في ذلك هذه الخطبة.
1. سورة آل عمران / 160.
منهَا: «أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ، وَتَنَازُع مِنَ الاَْلْسُنِ، فَقَفَّى بِهِ الرُّسُلَ،وَخَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ، فَجَاهَدَ فِي اللّهِ الْمُدْبِرِينَ عَنْهُ، وَالْعَادِلِينَ بِهِ».
—–
الشرح والتفسير
تحدّث الإمام (عليه السلام) في المقطع الأول والثاني عن صفات الله سبحانه والقرآن الكريم، ثم أشار هنا بعبارات قصيرة عميقة المعنى إلى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في أنّ الله تعالى أرسله بالإسلام بعد مدّة وفترة من الرسل السابقين حين كان النزاع قائماً على قدم وساق بين الأفراد في دفاع كل عن معتقده فقال: «أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَة(1) مِنَ الرُّسُلِ، وَتَنَازُع مِنَ الاَْلْسُنِ».
فالعبارة: «تَنَازُع مِنَ الاَْلْسُنِ»، إشارة إلى أنّ الحوادث التي تدور بين أتباع المذهب المختلفة بما فيهم عبدة الأوثان وأهل الكتاب ومن ليس له دين وعقيدة، لم تكن حوارات منطقية ذات محتوى فكري وعقلي، بل كان كل يسطّر بعض الألفاظ بدافع التعصب لإثبات أحقيقته، بل كان هذا النزاع والاختلاف اللفظي أحياناً مصدر معارك طاحنة وسفك دماء غزيرة.
ثم قال (عليه السلام): «فَقَفَّى(2) بِهِ الرُّسُلَ،وَخَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ»، فقد أشار الإمام إلى نقطتين: الأولى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) واصل مسيرة الأنبياء الماضين، وذلك لأنّ مسرتهم بصورة كلية واحدة، والثانية أنّه بلغ بتعاليمهم الكمال وختم بهم النبوّة، ثم إختتم كلامه (عليه السلام) بالقول: «فَجَاهَدَ فِي اللّهِ الْمُدْبِرِينَ عَنْهُ، وَالْعَادِلِينَ(3) بِهِ».
1. «فترة»: وفتور تعني في الأصل الهدوء والاستقرار وتأتي أحياناً بمعنى الضعف والفتور، وتطلق على الفاصلة بين حركتين أو حادثتين أو انقلابين، ومن هنا عبروا بالفترة عن الفاصلة بين ظهور الانبياء.
2. «قفى»: من مادة «قفا» بمعنى ظهر، كما ورد بمعنى خلف الشيء في المجيىء.
3. «العادلين»: جمع «عادل» من مادة عدل على وزن فكر بمعنى المعادل والشبيه والمثيل وإن وردت من مادة عدل على وزن نظم عنت العدالة، ومن مادة العدول بمعنى الانحراف والرجوع عن الشيء، وعليه فالعادل على ثلاثة معاني، وأريد بها المعنى الأول في الخطبة (لابدّ من الالتفات إلى أنّ المعنى الأول يتعدى عادة بالباء والمعنى الثالث بواسطة عن).
![]() |
![]() |