بعث 1 محمدا صلى اللّه عليه و آله بالحق ليخرج عباده من عبادة الاوثان الى عبادة اللّه ، و من طاعة الشيطان الى طاعة اللّه ، بقرآن قد بينه و أحكمه ، ليعلم العباد ربهم اذجهلوه ، و ليقروا به بعد اذ جحدوه ، و ليثبتوه بعد اذ أنكروه ،
فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته ،
و خوفهم من سطوته ، و كيف محق من محق بالمثلات و احتصد [ من احتصد ] 2 بالنقمات .
و انه 3 سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شىء أخفى من الحق ، و لا أظهر من الباطل ، و لا اكثر من الكذب على اللّه و رسوله . و ليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب اذا تلي حق تلاوته ، و لا أنفق منه اذا حرف عن مواضعه ، و لا في البلاد شىء أنكر من المعروف و لا أعرف من المنكر ، فقد نبذ الكتاب حملته و تناساه حفظته . فالكتاب يومئذ و أهله طريدان منفيان و صاحبان مصطحبان في طريق واحد لا يؤويهما مؤو ، فالكتاب و أهله [ في ] ذلك الزمان في الناس و ليسا فيهم و معهم [ و ليسا معهم ] 4 ، لان الضلالة لا توافق الهدى و ان اجتمعا فاجتمع القوم على الفرقة و افترقوا عن الجماعة ، كأنهم أئمة الكتاب
-----------
( 1 ) في الف ، ب ، م ، نا ، يد : فبعث .
-----------
( 2 ) ليس ما بين المعقوفين في ص . و في بعض النسخ : اختضد بالمعجمتين .
-----------
( 3 ) في ص : و اللّه .
-----------
( 4 ) كذا في ص فقط .
[ 72 ]
و ليس الكتاب امامهم ، فلم يبق عندهم منه الا اسمه ، و لا يعرفون الا خطه و زبره ،
و من قبل ما مثلوا بالصالحين كل مثلة ، و سمعوا صدقهم على اللّه فرية ، و جعلوا في الحسنة عقوبة السيئة .
و انما هلك من كان قبلكم بطول آمالهم ، و تغيب آجالهم حتى نزل بهم الموعود الذى ترد عنه المعذرة و ترفع عنه التوبة و تحل معه القارعة و النقمة .
أيها الناس انه من استنصح اللّه وفق ، و من اتخذ قوله دليلا هدي للتي هي أقوم ، فان جار اللّه آمن و عدوه خائف . و انه لا ينبغي لمن عرف عظمة اللّه أن يتعظم ، فان رفعة الذين يعلمون ما عظمته أن يتواضعوا له ، و سلامة الذين يعلمون ما قدرته أن يستسلموا له ، فلا تنفروا من الحق ، نفار الصحيح من الاجرب و البارىء من ذي السقم .
و اعلموا أتكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه ، و لن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه ، و لن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه فالتمسوا ذلك من عند أهله ، فانهم عيش العلم و موت الجهل ، هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم ، و صمتهم عن منطقهم ، و ظاهرهم عن باطنهم ، لا يخالفون الدين و لا يختلفون فيه ، فهو بينهم شاهد صادق و صامت ناطق . ( و من كلام له عليه السلام ) ( في ذكر أهل البصرة )
كل واحد منهما يرجو الامر له و يعطفه عليه دون صاحبه ، لا يمتان الى اللّه بحبل و لا يمدان اليه بسبب كل واحد منهما حامل ضب لصاحبه ، و عما قليل يكشف قناعه [ به ] .
و اللّه لان أصابوا الذي يريدون لينزعن هذا نفس هذا ، و ليأتين هذا على
[ 73 ]
هذا ، قد قامت الفئة الباغية فأين المحتسبون ، قد سنت لهم السنن و قدم لهم الخبر ، و لكل ضلة علة و لكل ناكث شبهة .
و اللّه لا أكون كمستمع اللدم يسمع الناعي و يحضر الباكي [ ثم لا يعتبر ] 1 . ( و من كلام له عليه السلام ) ( قبل موته )
أيها الناس 2 كل امرىء لاق ما يفر منه في فراره ، [ و ] الاجل مساق النفس و الهرب منه موافاته .
كم اطردت الايام أبحثها عن مكنون هذا الامر فأبى اللّه الا اخفاءه ، هيهات علم مخزون .
أما وصيتى فاللّه لا تشركوا به شيئا ، و محمدا صلّى اللّه عليه و آله فلا تضيعوا سنته ، [ و ] اقيموا هذين العمودين ، و أوقدوا هذين المصباحين ، و خلاكم ذم ما لم تشردوا . حمل كل امرىء منكم مجهوده و خفف عن الجهلة رب رحيم و دين قويم و امام عليم .
انا بالامس صاحبكم ، و أنا اليوم عبرة لكم ، و غدا مفارقكم . غفر اللّه لي 3 و لكم . ان تثبت الوطأة في هذه المزلة فذاك ، و ان تدحض القدم فانا كنا في أفياء أغصان و مهاب 4 رياح و تحت ظل غمام . اضمحل في الجو متلفقها ، و عفا
-----------
( 1 ) الزيادة ليست في ص ، م .
-----------
( 2 ) ليس « أيها الناس » في ب ، م .
-----------
( 3 ) وقعت هذه الجملة في م قبل : « انا بالامس . . . » .
-----------
( 4 ) في يد : و مهب .
[ 74 ]
في الارض مخطها . و انما كنت جارا جاوركم بدني أياما ، و ستعقبون مني جثة خلاء ساكنة بعد حراك و صامتة بعد نطق ، ليعظكم هدوي و خفوت اطراقي و سكون اطرافي 1 ، فانه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ و القول المسموع .
وداعى لكم وداع 2 امرىء مرصد للتلاقي غدا ترون أيامي ، و يكشف لكم عن سرائري ، و تعرفونني بعد خلو مكاني و قيام غيري مقامي . ( بيانه ) :
الاوثان : الاصنام المجسمة .
و تجلى اللّه لهم : أي أظهر الدلائل في كتابه ، و الاظهر أن يكون تجلى هنا غير متعد و ان ورد متعديا أيضا ، أي ظهر أمر اللّه في القرآن للخلق .
و كيف محق من محق : أي هلك من اهلك 3 .
بالمثلات : أي بالعقوبات . و احتصد أبلغ من حصد ، و النقمات : البلايا و الشدائد .
و ابور أفعل ، من بار المتاع ، أي كسد . و حرف : أي غير . و أويت الغريب :
أي ضممته الي مكرما ، فأنا مؤو .
و الزبر : الكتابة . و مثل بالقتيل : جدعه . و المثلة : العقوبة . و روي « العقوبة السيئة » ، و على الاضافة أحسن .
« حتى نزل بهم الموعود » يعنى الموت الذي ترد عنه المعذرة ، أي عن نزوله .
-----------
( 1 ) في بعض النسخ : خفوت أطرافي و سكون اطراقي .
-----------
( 2 ) في م : « و ودعتكم وداع . . . » و في نا ، ب ، الف ، ص : وداعيكم وداع . . . .
-----------
( 3 ) في م : أهلك من أهلك .
[ 75 ]
و القارعة : الداهية التي تقرع . و « انتقم اللّه من فلان » أي عاقبه ، و الاسم منه النقمة .
و قوله « لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه » اشارة الى أن التولي لاولياء اللّه لا يتم الا بالتبري من أعداء اللّه .
و ميثاق الكتاب : هو أن لا تقولوا على اللّه الا الحق ، و كذا قوله « و لن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه » أي لم تعتصموا بالقرآن حتى لتعرفوا من نبذه ، أي من رمى بأحكامه . من كان عارفا 1 بشىء يعرف ضده .
و يقال : امسكت الشىء و تمسكت به و استمسكت به و مسكت به و امتسكت به ، كلها بمعنى اعتصمت به .
« فالتمسوا » أي فاطلبوا من عند أهل القرآن معرفة النابذين للقرآن و الناقضين لميثاقه و التاركين للرشاد ، و ذلك اشارة الى هذا كله 2 .
« فانهم عيش العلم » أي ان أهل القرآن يحيا بهم العلم ، أي الشرع .
ثم دل على أهل الرشد بأنهم الذين يظهر كونهم علما اذا حكموا ، و يخبر صمتهم عن منطقهم ، أي حالهم تدل على كنههم .
و قوله « كل واحد منهما » يعنى طلحة و الزبير « لا يمتان » أي لا يتوسلان بقرابة ، و المت توسل بقرابة .
و الضب : الحقد « لينتزعن » أي ليسلبن ، « فأين المحتسبون » هم الذين يفعلون ما يفعلونه خشية للّه تعالى .
و حلف أنه لا يكون كمستمع اللدم . و « اللدم » صوت الحجر و نحوه اذا ضرب على الارض ، و مستمع اللدم المخدوع المغرور ، أي لا اكون مثله أقلد
-----------
( 1 ) في م : عالما .
-----------
( 2 ) في م : الى هذه كلها .
[ 76 ]
ما يقال بلا حجة ، فان بغى أحد سمعت بغيه و حضرت المغيرين 1 به من غير أن أعلم حقيقة الامر ، أي لست بمغرور .
و قوله « يسمع الناعي » أي نعي الناعي ، و النعي : الاخبار بموت أحد و هلاكه .
و المواتاة : الاتيان . و « اطردت » ابلغ من طردت .
و روي « اللّه لا تشركوا به شيئا و محمدا » بالنصب ، و الرفع أحسن .
و اقامة العمودين : قول الشهادتين ، و ايقاد المصباحين اليقين المعنى 2 الشهادتين .
و « خلاكم ذم » أي لا لوم عليكم ما لم تتفرقوا عن الاوامر و النواهي المتتابعة 3 كذلك ، و روي « و حمل كل امرىء مجهوده » أي حمل اللّه كل أحد دون طاقته و خفف عن المستضعفين .
قوله « رب رحيم » و ما عطف عليه فاعل حمل ، و اذا روي « حمل » و خفف على ما لم يسم فاعله فقوله « رب رحيم » مستأنف ، أي ذاك رب رحيم . و هذا أحسن و روايته أصح ، فيكون اشارة الى ما تقدم من قوله « أقيموا هذين المصباحين » .
و أمس : هو اليوم الذي [ قبل اليوم ] 4 انت فيه ، فاذا كان فيه الالف و اللام فتقول : كان ذلك بالامس ، يكون اشارة الى الايام القريبة بالعهد .
-----------
( 1 ) في م : المتعزين به .
-----------
( 2 ) في ص : ليقين لمعنى الشهادتين .
-----------
( 3 ) في ص : التابعة لذلك .
-----------
( 4 ) ليس « قبل اليوم » في ص .
[ 77 ]
و الوطأة : التثبت . و المزلة : المزلقة ، [ و هي ] الموضع الذي تزل فيه القدم .
قوله « و ان تدحض » أي ان تزل ، و الافياء : الظلال .
و اضمحل : أي زال في الجو ، أي في الهواء .
« متلفقها » أي مجتمع مهاب تلك الرياح 1 و الغمام .
و عفا مخطها : أي درس موضع تلك الافياء .
ثم قال : اني أعظكم اليوم بالكلمات اللطاف ، و اذا مت فأعظكم بسكون الاطراف .
قوله « و ستعقبون » أي ستعطون بدل نطقي سمعا 2 ، و يقال : اكل فلان اكلة أعقبته سقما أي أورثته . و روي « ليعظكم هدوي » أي لكي يعظكم سكوني ،
و على الامر أحسن .
قوله « و خفوت أطرافي » أي سكون [ نكسى ] 3 لرأسي ، يقال خفت الصوت خفوتا أي سكن ، و لهذا يقال للميت « خفت » اذا انقطع كلامه .
و « أطرق فلان » أي أرخى عينيه ينظر الى الارض .
و قوله « و داعيكم » 4 أي وداعي اياكم ، وداع رجل على انتظار الملاقاة .
و أرصد له : أي أعد له .
-----------
( 1 ) في م : الريح .
-----------
( 2 ) كذا في ص ، و في م : صمتا .
-----------
( 3 ) الزيادة من م .
-----------
( 4 ) كذا في ص . و في م : ودعتكم .
[ 78 ]
( الاصل ) : :
( و من خطبة له عليه السلام ) ( يومىء فيها الى الملاحم )
فأخذوا يمينا و شمالا ظعنا في مسالك الغي و تركا لمذاهب الرشد ،
فلا تستعجلوا ما هو كائن مرصد ، و لا تستبطؤا ما يجىء به الغد ، فكم من مستعجل بما أن أدركه ود أنه لم يدركه ، و ما أقرب اليوم من تباشير غد .
يا قوم هذا ابان ورود كل موعود ، و دنو من طلعة ما لا تعرفون . ألا و ان من أدركها منا يسري فيها بسراج منير ، و يحذو فيها على مثال الصالحين ، ليحل فيها ربقا ، و يعتق [ فيها ] رقا ، و يصدع شعبا ، و يشعب صدعا ، في سترة عن الناس ، لا يبصر القائف أثره ، و لو تابع نظره . ثم ليشحذن فيها قوم شحذ القين النصل تجلى بالتنزيل أبصارهم ، و يرمي بالتفسير في مسامعهم ، و يغبقون كأس الحكمة بعد الصبوح .
( منها ) : و طال الامد بهم ليستكملوا الخزي و يستوجبوا الغير ،
حتى اذا اخلولق الاجل ، و استراح قوم الى الفتن ، و اشتالوا عن لقاح حربهم لم يمنوا على اللّه بالصبر ، و لم يستعظموا بذل أنفسهم في الحق ، حتى اذا وافق وارد القضاء بانقضاء مدة البلاء حملوا بصائرهم على أسيافهم ، و دانوا لربهم بأمر و اعظهم .
حتى اذا قبض اللّه رسوله عليه السلام رجع قوم على الاعقاب ، و غالتهم السبل ، و اتكلوا على الولائج ، و وصلوا غير الرحم ، و هجروا السبب الذي أمروا بمودته ، و نقلوا البناء عن رص أساسه ، فبنوه في غير موضعه . معادن كل
[ 79 ]
خطيئة ، و أبواب كل ضارب في غمرة ، قد ما روا في الحيرة ، و ذهلوا في السكرة ، على سنة من آل فرعون ، من منقطع الى الدنيا راكن ، أو مفارق للدين مباين . ( و من خطبة له عليه السلام )
و أستعينه 1 على مداحر الشيطان و مزاجره ، و الاعتصام من حبائله و مخاتله [ و اشهد أن لا اله الا اللّه ] 2 و اشهد أن محمدا عبده و رسوله و نجيبه و صفوته ،
لا يوازى فضله ، و لا يجبر فقده . أضاءت به البلاد بعد الضلالة المظلمة و الجهالة الغالبة 3 و الجفوة الجافية ، و الناس يستحلون الحريم ، و يستذلون الحكيم ، يحيون على فترة ، و يموتون على كفرة .
ثم انكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت ، فاتقوا سكرات النعمة ،
و احذروا بوائق النقمة ، و تثبتوا في قتام العشوة ، و اعوجاج الفتنة ، عند طلوع جنينها ، و ظمور كمينها ، و انتصاب قطبها ، و مدار رحاها . تبدأ في مدارج خفية و تؤول الى فظاعة جلية ، شبابها كشباب الغلام ، و آثارها كآثار السلام ، يتوارثها الظلمة بالعهود ، أولهم قائد لاخرهم و آخرهم مقتد بأولهم . يتنافسون في دنيا دنية ، و يتكالبون على جيفة مريحة ، و عن قليل يتبرأ التابع من المتبوع ، و القائد من المقود ، فيتزايلون بالبغضاء ، و يتلاعنون عند اللقاء .
ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف ، و القاصمة الزحوف ، فتزيغ قلوب
-----------
( 1 ) في ب : و استعينوا .
-----------
( 2 ) الزيادة من نا .
-----------
( 3 ) في ب ، نا : الغالية .
[ 80 ]
بعد استقامة ، و تضل رجال بعد سلامة ، و تختلف الاهواء عند هجومها ، و تلتبس الاراء عند نجومها . من أشرف لها قصمته ، و من سعى فيها حطمته ، يتكادمون فيها تكادم الحمر في العانة ، قد اضطرب معقود الحبل ، و عمي وجه الامر . تغيض فيها الحكمة ، و تنطق فيها الظلمة ، و تدق أهل البدو بمسحلها 1 ، و ترضهم بككلها .
يضيع في غبارها الوحدان ، و يهلك في طريقها الركبان ، ترد بمر القضاء ، و تحلب عبيط الدماء ، و تثلم منار الدين ، و تنقض عقد اليقين . تهرب منها الاكياس ،
و تدبرها الارجاس ، مرعاد مبراق كاشفة عن ساق ، تقطع فيها الارحام [ و يفارق عليها الاسلام بريها سقيم و ظاعنها مقيم ] 2 .
( منها ) : بين قتيل مطلول ، و خائف مستجير يختلون بعقد الايمان و بغرور الايمان . فلا تكونوا أنصاب 3 الفتن ، و أعلام البدع ، و الزموا ما عقد عليه حبل الجماعة ، و بنيت عليه أركان الطاعة . و أقدموا على اللّه مظلومين ، و لا تقدموا عليه ظالمين ، و اتقوا مدارج الشيطان ، و مهابط العدوان . و لا تدخلوا بطونكم لعق الحرام ، فانكم بعين من حرم عليكم المعصية ، و سهل لكم سبيل الطاعة .