( و من وصية له عليه السلام )

( لولده الحسن بن علي ) ( كتبها اليه بحاضرين عند انصرافه من صفين )

من الوالد الفان ، المقر للزمان ، و المدبر العمر ، المستسلم للدهر ، الذام للدنيا ، الساكن مساكن الموتى ، الظاعن عنها غدا الى المولود ، المؤمل ما لا يدرك ، السالك سبيل من قد هلك ، غرض الاسقام ، و رهينة الايام ، و رمية المصائب ، و عبد الدنيا ، و تاجر الغرور ، و غريم 1 المنايا ، و أسير الموت ،

و حليف الهموم 2 ، و قرين الاحزان ، و نصب الافات ، و صريع الشهوات ،

و خليفة الاموات .

أما بعد ، فان فيما تبينت 3 من ادبار الدنيا عني ، و جموح الدهر علي ،

و اقبال الاخرة الي ، ما يزعني عن ذكر من سواي ، و الاهتمام بما ورائي . غير أني حيث تفرد بى دون هموم الناس هم نفسي ، فصدقني رائي عن هواي ، و صرح لي محض أمري فأفضى بى الى جد لا يكون فيه 4 لعب ، و صدق لا يشوبه كذب .

وجدتك بعضي ، بل وجدتك كلي ، حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني ، و كأن الموت لو أتاك أتاني . فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي ، فكتبت اليك كتابى هذا مستظهرا به ان أنا بقيت لك أو فنيت .

-----------
( 1 ) في هامش ب : عريف .

-----------
( 2 ) في ب : الهجوم .

-----------
( 3 ) في ب : قد تبينت .

-----------
( 4 ) في هامش م : معه .

[ 87 ]

فاني أوصيك بتقوى اللّه أي بنى ، و لزوم أمره ، و عمارة قلبك بذكره ، و الاعتصام بحبله ، و أى سبب أوثق من سبب بينك و بين اللّه ان أنت أخذت به . أحي قلبك بالموعظة ، و أمته بالزهادة ، و قوه باليقين ، و نوره بالحكمة ، و ذلله بذكر الموت و قرره بالفناء [ و أسكنه بالخشية ، و اشعره بالصبر ] 1 و بصره فجائع الدنيا ، و حذره صولة الدهر ، و فحش تقلب الليالي و الايام ، و أعرض عليه أخبار الماضين ،

و ذكره بما أصاب من كان قبلك من الاولين ، و سر في ديارهم و آثارهم ، فانظر ما فعلوا و عما انتقلوا و أين حلوا و نزلوا ، فانك تجدهم انتقلوا عن الاحبة و حلوا ديار 2 الغربة ، و كأنك عن قليل قد صرت كأحدهم ، فأصلح مثواك ، و لا تبع آخرتك بدنياك ، و دع القول فيما لا تعرف ، و الخطاب فيما لم تكلف ، و أمسك عن طريق اذا خفت ضلالته ، فان الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الاهوال ، و أمر بالمعروف تكن من أهله ، و انكر المنكر بيدك و لسانك ، و باين من فعله بجهدك ، و جاهد في اللّه حق جهاده ، و لا تأخذك في اللّه لومة لائم ،

و خض الغمرات الى الحق حيث كان ، و تفقه في الدين ، و عود نفسك الصبر 3 على المكروه ، و نعم 4 الخلق التصبر ، و الجى‏ء نفسك في الامور كلها الى الهك ،

فانك تلجئها الى كهف حريز و مانع عزيز .

و اخلص في المسألة لربك فان بيده العطاء و الحرمان ، و اكثر الاستخارة ،

و تفهم وصيتي ، و لا تذهبن [ عنك ] 5 صفحا ، فان خير القول ما نفع .

-----------
( 1 ) الزيادة من هامش م .

-----------
( 2 ) في ب ، نا و هامش م : دار .

-----------
( 3 ) في ب ، يد : التصبر .

-----------
( 4 ) في ب و هامش نا : فنعم .

-----------
( 5 ) سقط « عنك » من م ، نا .

[ 88 ]

و اعلم أنه لا خير في علم لا ينفع ، و لا ينتفع 1 بعلم لا يحق تعلمه 2 .

أي بني ، اني لما رايتني قد بلغت سنا و رأيتني أزداد و هنا ، بادرت بوصيتي اليك ، و أوردت خصالا منها قبل أن يعجل بى أجلي دون أن أفضي اليك بما في نفسي ، أو ان انقص في رأيى كما نقصت في جسمي ، أو يسبقني اليك بعض غلبات الهوى و فتن الدنيا ، فنكون كالصعب النفور ، و انما قلب الحدث كالارض الخالية ما القي فيها من شى‏ء قبلته ، فبادرتك بالادب قبل أن يقسو قلبك و يشتغل لبك ، لتستقبل بجد 3 رأيك من الامر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته و تجربته ،

فتكون قد كفيت مؤنة الطلبة 4 و عوفيت من علاج التجربة ، فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه و استبان لك ما ربما أظلم علينا فيه .

أي بني ، اني و ان لم اكن عمرت عمر من كان قبلي ، فقد نظرت في أعمالهم و فكرت في أخبارهم ، و سرت في آثارهم ، حتى عدت كأحدهم ، بل كأني بما انتهى الي من أمورهم قد عمرت مع أولهم الى آخرهم ، فعرفت صفو ذاك من كدره ، و نفعه من ضرره ، فاستخلصت لك من كل أمر نخيلته 5 [ و توخيت لك جميله ] 6 و صرفت عنك مجهوله . و رأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق ، و أجمعت عليه من ادبك أن يكون ذلك و أنت مقبل العمر مقتبل الدهر

-----------
( 1 ) في ب و هامش م : و لا ينفع .

-----------
( 2 ) في ب : نفعه .

-----------
( 3 ) في بعض النسخ : « بحد رايك » و في بعضها : « بحداثتك » .

-----------
( 4 ) في بعض النسخ : الطلب .

-----------
( 5 ) في الف ، يد ، هامش م : « جليلة » و في هامش نا ، ب : « جليته » .

-----------
( 6 ) ليس ما بين المعقوفين في الف .

[ 89 ]

ذو نية سليمة و نفس صافية ، و ان ابتدأك بتعليم كتاب اللّه عز و جل و تأويله ، و شرائع الاسلام و أحكامه ، و حلاله و حرامه ، لا أجاوز ذلك بك الى غيره .

ثم أشفقت أن يتلبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم [ و آرائهم ] 1 مثل الذي التبس عليهم ، فكان أحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك عليه 2 أحب الي من اسلامك الى أمر لا آمن عليك فيه الهلكة ، و رجوت أن يوفقك اللّه فيه لرشدك ، و ان يهديك لقصدك ، فعهدت اليك وصيتي هذه .

و اعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذ به الي من وصيتى تقوى اللّه ، و الاقتصار على ما افترضه 3 اللّه عليك ، و الاخذ 4 بما مضى عليه الاولون من آبائك و الصالحون من أهل بيتك ، فانهم لم يدعوا أن نظروا لانفسهم كما أنت ناظر ،

و فكروا كما أنت مفكر ، ثم ردهم آخر ذلك الى الاخذ بما عرفوا ، و الامساك عما لم يكلفوا ، فان أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا ، فليكن طلبك ذلك بتفهم و تعلم لا بتورط الشبهات و غلو 5 الخصومات .

و ابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بالهك ، و الرغبة اليه في توفيقك ،

و ترك كل شائبة أو لجتك في شبهة أو اسلمتك الى ضلالة ، فاذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع و تم رأيك و اجتمع ، و كان همك في ذلك هما واحدا ، فانظر فيما فسرت لك ، و ان أنت لم يجتمع لك ما تحب من نفسك و فراغ نظرك و فكرك ،

فاعلم أنك انما تخبط العشواء و تتورط الظلماء ، و ليس طالب الدين من خبط

-----------
( 1 ) ليس « وارائهم » في ب .

-----------
( 2 ) في ب ، نا ، الف ، يد و هامش م : له .

-----------
( 3 ) في ب ، يد و هامش نا ، م : فرضه .

-----------
( 4 ) في ب : الاخر .

-----------
( 5 ) في يد : « علق » . و في هامش نا ، م : علو .

[ 90 ]

و لا من خلط ، و الامساك عن ذلك أمثل .

فتفهم يا بني وصيتي ، و اعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة ، و ان الخالق هو المميت ، و ان المفني هو المعيد ، و ان المبتلى هو المعافي ، و أن الدنيا لم تكن لتستقر الا ما على جعلها اللّه عليه من النعماء و الابتلاء و الجزاء في المعاد ، أو ما شاء مما لا نعلم 1 ، فان أشكل عليك شى‏ء من ذلك فاحمله على جهالتك به ، فانك أول ما خلقت جاهل ثم علمت ، و ما أكثر ما تجهل من الامر و يتحير فيه رأيك و يضل فيه بصرك ، ثم تبصره بعد ذلك . فاعتصم بالذي خلقك و رزقك و سواك ، فليكن له تعبدك ، و اليه رغبتك و منه شفقتك .

و اعلم يا بني أن أحدا لم ينبى‏ء عن اللّه سبحانه كما أنبأ عنه صلى اللّه عليه و آله ، فارض به رائدا ، و الى النجاة قائدا ، فاني لم آلك نصيحة ، و انك لن 2 تبلغ في النظر لنفسك و ان اجتهدت مبلغ نظري لك .