ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 95 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سعيد بن قيس في رجال همدان، أما أنتم فقد فررتم من أعدائكم وانك يا عمرو لجبان، فغضب عمرو ثم قال فهلا برزت إلى عليّ بن أبي طالب إذا دعاك إن كنت شجاعاً كما تزعم واستطرد يقول:

تسير إلى ابن ذي يزن سعيد*** وتترك في العجاجة من دعاكا

فهل لك في أبي حسن عليّ*** لعل الله يمكن من قفاكا

دعاك إلى البراز فلم تجبه*** ولو نازلته تربت يداكا

وكنت أصم إذ ناداك عنها*** وكان سكونه عنها مناكا

فآب الكبش قد طحنت رحاه*** بنجدته ولم تطحن رحاكا

فما أنصفت صحبك يا ابن هند*** أتعرفه وتغصب من كفاكا

فلا والله ما أضمرت خيرا*** ولا أظهرت لي إلاّ هواكا

واستحيا القرشيون الحضور عند معاوية فما صنعوا في لقاءاتهم مع جيش الإمام عليّ من قبل، وشمت بهم اليمانية. فقال معاوية يا معشر قريش والله لقد قربكم لقاء القوم من الفتح ولكن الأمر أمر الله، إنما لقيتم كباش أهل العراق وقتلتم وقتل منكم ومالكم عليَّ من حجة، لقد عبأت تعبيتي لسيدهم سعيد بن قيس فاغتاظوا، وانقطعوا عن معاوية أياماً فلم يحضروا لديه،فقال معاوية:

لعمري لقد أنصفت والنصف عادة*** وعاين طعنا في العجاج المعاين

أتدرون من لاقيتموا قل جيشكم*** لقيتم ليوثاً أصحرتها العرائن

لقيتم صناديد العراق ومن بهم*** إذا جاشت الهيجاء تحمى الضغائن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 96 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وما كان منكم فارس دون فارس*** ولكنه ما قدر الله كائن

ثم ان معاوية بن أبي سفيان أجال فكره الماكر فاستحدث مكيدة للفتك بعلي (عليه السلام) ليخلو له الجو ويبلغ ما يروم يومذاك فاستدعى إليه عبيد الله بن عمر وبعثه في أربعة آلاف مسلم ليغتالوا عليّاًً من ورائه على حين غرة لكي يستعيد عبيد الله بن عمر سمعته ومكانته بين أقرانه، فبلغ عليّاًً (عليه السلام) نبأ تلك المحاولة والمرسلين لتنفيذها فأرسل عليهم أربعة آلاف بطل من بني تميم بكامل أسلحتهم فاقتتلوا جميعاً من لدن اعتدال النهار إلى صلاة المغرب وما كان صلاتهم إلاّ التكبير عند مواقيتها ثم انكشفت ميمنة أهل الشام أمام ميسرة أهل العراق وأحدث فيهم مقتلة كبيرة حتى منتصف الليل، ولما أصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم وليس حوله إلاّ ألف رجل فاقتلعوه وركزوه وراء موضعه الأول ووجد أهل العراق لواءهم مركوزاً وليس حوله إلاّ ربيعة تحيط (بعلي بن أبي طالب) (عليه السلام) من كل جانب فسألهم في غبش الصباح يستنبئهم فتثبت منهم وقال:

يا مرحباً بالقائلين عدلا***وبالصلاة مرحباً وأهلا

ثم قال لهاشم المرقال: خذ اللواء أمامي فوالله ما رأيت مثل هذه الليلة ثم التفت إلى أصحابه من ربيعة وقال لهم (فخر طويل لك يا ربيعة) .

ثم انطلق إلى مركزه أمس في القلب فوجد سعيد بن قيس مسيطراً على موقفه وقد توافر من حوله أصحابه متحفزين للقتال، إلاّ ان أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يجد ربيعة بينهم فبعث إليهم يأمرهم أن يبادروا إلى أعدائهم فأرسلوا اليه أن خيل الأعداء وراء ظهورهم فليبعث عليهم رجالاً من رجاله يناجزونهم ريثما يتهيأ لهم سبيل المحاق بمن يشاء فبعث إليهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 97 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مالك الأشتر فقال لهم ما منعكم أن تنهدوا مع أصحابكم.

فأشاروا إلى خيل أعدائهم متساندين عليها وراءهم على سواء فأمر من معه من تميم اللات. والنمر بن قاسط. وعنزة أن يتبعوه ليروا بأعينهم كيف يفر هؤلاء الطعام أمامهم كاليعافير ثم انقض بأصحابه على أعدائهم مستلئمين ومقنعين بالحديد وإذا بهؤلاء يهربون جميعاً منتشرين كالجراد فالتفت الأشتر إلى أصحابه قائلاً أرايتم الذين لا يملكون في قلوبهم ايمان الثبات والاثبات ثم انصرف بهم ملتحقاً بأصحابه وقد نشب القتال مع أهل الشام. وكان أهل الشام في تلك الساعة قد اقتطعوا فريقاً من أهل العراق وفيهم طائفة من ربيعة، غير ان الأشتر ما عتم ان استنصر بأصحابه فانصلوا بمن كان مقتطعين من جيش العراق مستعتين بالسيوف وعمد الحديد على أهل الشام، ولما رأى عبيد الله بن عمر ما طرأ على جيشه من هوان أمام مالك الأشتر أقبل عليهم متحمساً وهو يقول:

أنا عبيد الله ينميني عمر *** خير قريش من مضى ومن غبر

إلاّ نبي الله والشيخ الأغر *** قد أبطأت عن نصر عثمان مضر

والربعيون فلا سقوا المطر *** وسارع الحي اليمانون الغرر

والخير في الناس قديما يبتدر

فحمل عليه حريث بن جابر الحنفي وهو يقول:

قد صابرت في نصرها ربيعة *** في الحق والحق لهم شريعة

فاكفف فلست تارك الوقيعة *** في العصية السامعة المطيعة

حتى تذوق كأسها الفظيعة

فطعنه فصرعه أرضاً حتى جعله لا يملك حراكاً فتوسده حتى الصباح

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 98 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وربط برجله فرسه ثم سلبه وأخذ سيفه الذي كان يسمى (ذا الوشاح) ولما أشرف الصباح تنادى الفريقان وعادوا إلى القتال عودا على بدء فاضطربوا بالسيوف حتى صارت كأنها مناجل وتطاعنوا بالرماح حتى تكسرت وجثموا على الأرض يتكادمون وجهاً لوجه ويترامون بالحجارة ليس عندهم غيرها حتى تحاجزوا وهم متهافتون.

ومما ينبغي لنا بيانه استئنافاً لذكر الوقائع التي تعاقبت على معارك صفين ما رواه (زياد بن النضر) وكان على مقدمى جيش عليّ (عليه السلام) قال(1):

شهدت مع عليّ (عليه السلام) مشهداً بصفين فاقتتلنا ثلاثة أيام وثلاث ليال حتى تكسرت الرماح ونفذت السهام ثم صارت إلى المسابقة فاجتلدنا بها إلى نصف الليل حتى صرنا نحن وأهل الشام في اليوم الثالث يعانق بعضنا بعضاً وإنّي قد قاتلت ليلتئذ بجميع السلاح فلم يبق شيء من السلاح إلاّ قاتلت به حتى تحاشينا بالتراب وتكادمنا قياماً ثم صرنا ينظر بعضنا إلى بعض ما يستطيع واحد من الفريقين أن ينهض إلى صاحبه فيقاتل، فلما كان نصف الليل من الليلة الثالثة انحاز معاوية وخيله من الصف وغلب عليّ (عليه السلام) على القتلى وأقبل على أصحاب محمّد (عليه السلام) وأصحابه فدفنهم وقد قتل كثير منهم وقتل من أصحاب معاوية أكثر، وقال عمرو بن العاص:

إذا تخازرت وما بي من خزر *** ثم خبأت العين من غير عور

الفيتني الوي بعيد المستمر *** ذا صولة في المصملات الكبر

أحمل ما حملت من خير وشر *** كالحبة الصماء في أصل الصخر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 99 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وجاء (علقمة بن تميم الأنصاري) إلى عليّ (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين ان عمرو بن العاص ينادي:

أنا الغلام القرشي المؤتمن *** الماجد الأبلح ليث كالشطن

ترضى بي الشام إلى أرض عدن *** يا قادة الكوفة من أهل الفتن

يا أيها الأشراف من أهل اليمن *** أضربكم ولا أرى أبا حسن

أعني عليّاًً وابن عم المؤتمن *** كفى بهذا حزنا من الحزن

فضحك عليّ (عليه السلام) ثم قال: فأما والله لقد حاد عدو الله عني وانه لبمكاني عالم كما قال العربي (غير الومي ترقعين وانت مبصرة) ويحكم أروني مكانه لله أبوكم وخلاكم ذم.

وحمل غلامان من الأنصار وكلاهما اخوان حتى انتهيا إلى سرادق معاوية فقتلا عنده، وأقبلت الكتائب بعضها نحو بعض فاقتتلت قياماً في الركب لا يسمع السامع إلاّ وقع السيوف على البيض والدرق. وجاء (عدي بن حاتم) يلتمس عليّاًً (عليه السلام) ما يطأ إلاّ على إنسان ميت أو قدم أو ساعد، فوجده تحت راية بكر بن وائل، فقال يا أمير المؤمنين: ألا تقوم حتى تموت، فقال عليّ (عليه السلام) أدن فدنا حتى وضع اذنه عند أنفه، فقال ويحك ان عامة من معي يعصيني وان معاوية فيمن يطيعه ولا يعصيه(2).

وكان عليّ (عليه السلام) إذا أراد القتال هلل وكبر ثم قال(3):

من أي يومي من الموت أفر *** أيوم ما قدر أم يوم قدر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 100 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأقبل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ومعه لواء معاوية الأعظم وهو يقول:

أنا ابن سيف الله ذاكم خالد *** أضرب كل قدم وساعد

بصارم مثل الشهاب الواقد *** أنصر عمي ان عمي والد

بالجهد لا بل فوق جهد  الجاهد *** ما أنا فيما نابني براقد

فاستقبله (جارية بن قدامة السعدي) وهو يقول:

أثبت لصدر الرمح يا ابن خالد *** تبت لليث ذى فلول حاد

ينصر خير راكع وساجد *** من حقه عندي كحق الوالد

ذاكم عليّ كاشف الأوايد

وأطعنا مليا، ومضى عبد الرحمن وانصرف جارية بينما عبد الرحمن لا يأتي على شيء إلاّ أهمده وهو يقول:

إني إذا ما الحرب قرت عن كبر *** تخالني أخزر من غير خزر

أقحم والخطي في النقع كثر *** كالحية الصماء في رأس الحجر

أحمل ما حملت من خير وشر

فغم ذلك عليّاًً (عليه السلام).. وأقبل عمرو بن العاص في خيل من بعده فقال:

أقحم يا ابن سيف الله فانه الظفر، وأقبل الناس على (الأشتر) فقالوا يوم من أيامك الأول، وقد بلغ لواء معاوية حيث ترى، فأخذ الأشتر لواءه متقدما أصحابه فحمل وهو يقول:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 101 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إني أنا الأشتر معروف الشتر *** إني أنا الأفعى العراقي الذكر

لا من ربيعة ولا حي مضر *** لكنني من مدحج الغر الغرر

فضارب القوم حتى ردهم على أعقابهم فرجعت خيل عمرو فقال النجاشي في ذلك:

رأينا اللواء لواء العقاب *** يقحمه الشانىء الأخزر

كليث العرين خلال العجاج *** وأقبل في خيله الأبتر

دعونا لها الكبش كبش العراق *** وقد خالط العسكر العسكر

فرد اللواء على عقبه *** وفاز بحظوتها الأشتر

كما كان يفعل في مثلها *** إذا ناب معصوصب منكسر

فإن يدفع الله عن نفسه *** فحظ العراق بها الأوفر

إذا الأشتر الخير خلى العراق *** فقد ذهب العرف والمنكر

ولما رد لواء معاوية فاشلاً ورجعت خيل عمرو، انتدب همام بن قبيصة وكان من أشتم الناس لأمير المؤمنين (عليه السلام) ومعه لواء هوازن فقصد لمذحج وهو يقول:

إني إذا دعيت للنزال *** أقدم اقدام الهزبر العالي

أهل العراق انكم من (بالى) *** كل تلادى وطريق مالي

حتى أنال فيكم المعالي *** أو أطعم الموت بكم حبالي

في نصر عثمان ولا أبالي

فقال عدي بن حاتم لصاحب لوائه: أدن مني، فأخذ منه اللواء وحمل وهو يقول:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 102 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يا صاحب الصوت الرفيع العالي ***ان كنت تبغي في الوغى نزالي

فادن فإني كاشف عن حالي *** نفدي عليّاًً مهجتي ومالي

وأسرتي تتبعها عيالي

فضربه حتى قتله وسلب لواءه.

ثم حمل (خزية بن ثابت) وهو يقول:

قد مر يومان وهذا الثالث *** هذا الذي يلهث فيه اللاهث

هذا الذي يبحث فيه الباحث *** كم ذا يرجى ان يعيش الماكث

الناس موروث ومنهم وارث *** هذا عليّ من عصاه ناكث

فقاتل حتى قتل، ثم خرج (خالد بن الوليد الأنصاري) وهو يقول:

هذا عليّ والهدى أمامه*** هذا لوا نبينا قدامه

يقحمه في نفعة اقحامه

فطاعن ساعة ثم رجع إلى موقعه وحمل جندب بن زهير وهو يقول:

هذا عليّ والهدى حقا معه *** يا ربّ فاحفظه ولا تضيعه

فإنه يخشاك ربّي فارفعه *** نحن نصرناه على من نازعه

صهر النبي المصطفى قد طاوعه *** أول من بايعه وتابعه

وأقبل الأشتر يضرب بسيفه وهو يقول:

اضربهم ولا أرى معاوية*** الأخزر العين العظيم الحاويه

هوت به في النار ام هاوية *** جاوره فيها كلاب عاويه

أعوى طغاماً لا هداه هادية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 103 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فأختلط أمر الناس حتى ترك أهل الرايات مراكزهم وتفرق الناس عن عليّ (عليه السلام) فأتى ربيعة ليلاً على رسله، فكان فيهم وتعاظم الأمر وأقب (عدي بن حاتم) يطلب عليّاًً في موضعه الذي تركه فيه فلم يجده فطاف يطلبه، فأصابه في مصاف ربيعة فقال: يا أمير المؤمنين أما إذا كنت حياً فالأمر أمم، ما مشيت إلاّ على قتيل وما أبقت هذه الوقعة لنا ولهم عميداً، فقاتل حتى يفتح الله عليك فإن في الناس بقية بعد، وأقبل (الأشعث بن قيس) يلهث (لهاثاً) فلما رأى عليّاًً هلل وكبر وقال: يا أمير المؤمنين: خيل كخيل ورجال كرجال ولنا الفضل إلى ساعتنا هذه، فعد إلى مقامك الذي كنت فيه فإن الناس إنما يظنونك حيث تركوك.

وأرسل سعيد بن قيس يقول: اننا مشتغلون بأمرنا مع القوم وفينا فضل فإن أردت أن نمد أحداً أمددناه، فأقبل عليّ (عليه السلام) على ربيعة فقال لهم أنتم درعي ورمحي قال نصر بن مزاحم فربيعة تفخر بهذا الكلام إلى اليوم، فقال عدي بن حاتم: يا أمير المؤمنين إن قوماً أنت بهم وكنت فيهم في هذه الجولة لعظيم حقهم علينا، والله انهم لصبر عند الموت.. أشداء عند القتال، وركب عليّ (عليه السلام) فرسه الذي كان لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكان يقال له المرتجز، فتقدم أمام الصفوف، ثم قال: بل البغلة فقدمت له البغلة الشهباء بغلة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فركبها ثم تعصب بعمامة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) السوداء ثم نادى: أيها الناس من يشتري نفسه لله يرحب، هذا يوم له ما بعده ان عدوكم قد قرح كما قرحتم. فانتدب له آلاف من المسلمين قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم فتقدمهم عليّ (عليه السلام) على بغلة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهو يقول:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 104 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دبوا دبيب النمل لا تفوتوا *** وأصبحوا بحربكم وبيتوا

حتى تنالوا الثأر أو تموتوا *** او لا فإني طالما عصيت

قد قلتوا: لو جئتنا فجيت *** ليس لكم ما شئتم وشيت

بل ما يريد  المحيي المميت

وتبعه (عدي بن حاتم) بلوائه وهو يقول:

أبعد عمار وبعد هاشم *** وأين بديل فارس الملاحم

نرجو البقا مثل حلم الحالم *** وقد عصفنا أمس بالأباهم

فاليوم لا تفزع سن نادم *** ليس امرؤ من يومه بسالم

وتقدم الأشتر وهو يقول:

حرب بأسباب الردى تأجج *** يهلك فيها البطل المدجج

يكفيكها همدانها ومذحج *** روحوا إلى الله ولا تعرجوا

دين قويم وسبيل منهج

وحمل الناس حملة واحدة. فلم يبق لأهل الشام صف إلاّ انتفض وأهمدوا ما أتوا عليه منهم حتى افضى الأمر إلى مقربة من مضرب معاوية وعلي (عليه السلام) يضربهم بسيفه وهو يقول:

أضربهم ولا أرى معاوية *** الأخزر العين العظيم الحاوية

هوت به في النار ام هاوية

فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه فلما وصل وضع رجله في الركاب تمثل بقول عمرو بن الأطنابة:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 105 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أبت لي عفني وأبى بلائى *** وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وأقدامى على المكروه نفسي *** وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت *** مكانك تحمدي أو تستريحي

لأدفع عن مآثر صالحات *** وأحمي بعد عن عرض صحيح

بذى شطب كلون الملح صاف *** ونفسي ما تقر على القبيح

وقال: يا ابن العاص اليوم صبر وغداً فخر فقال عمروا: صدقت وثنى رجله من الركاب فاستصرخ بعك والأشعريين فوقفوا دونه وجالدوا عنه حتى كره كل من الفريقين صاحبه وتحاجز الناس.

ثم ان معاوية لما أسرع أهل العراق في أهل الشام قال لهم هذا يوم تمحيص ان القوم قد أسرع التهافت فيهم كما أسرع فيكم اصبروا يومكن هذا وخلاكم ذم.

وحض عليّ (عليه السلام) أصحابه لذلك، فقام اليه الأصبغ بن نباته التميمي فقال: يا أمير المؤمنين انك جعلتني على (شرطة الخميس) وقدمتني في الثقة دون الناس وانك اليوم لا تفقد لي صبراً ولا نصراً.

أما أهل الشام فقد هدهم ما أصبنا منهم، ونحن فينا بعض البقية فاطلب

بنا أمرك وأذن لي في التقدم. فقال (عليه السلام) تقدم باسم الله العظيم فتقدم بأصحابه نحو أهل الشام وطاعتهم ثم رجع إلى موقفه.

وبرز يومئذ عروة بن داود الدمشقي لعلي (عليه السلام) متحدياً إياه فقال: إن كان معاوية كره مبارزتك يا أبا الحسن فهلم إليَّ فتقدم إليه عليّ (عليه السلام) فقال له أصحابه: ذر هذا الكلب، فإنه ليس لك بخطر فقال والله ما معاوية اليوم بأغيظ لي منه، ثم حمل عليه فضربه فقطعه قطعتين سقطت احداهما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 106 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يمنة والأخرى يسرة فارتج العسكران لهول الضربة، وقال ابن عم لعروة بن داود. واسوء صباحاه قبح الله البقاء بعد داود وحمل على عليّ (عليه السلام) فطعنه فبرأه ثم قنعه ضربة فألحقه قتيلاً بعروة بن داود ومعاوية واقف على التل يشاهد ما يجري فقال: تبا لهذه الرجال وقبحاً أما فيهم من يقتل هذا مبارزة أو غيلة أو في اختلاط الفيلق وثوران النقع. فقال له الوليد بن عقبة أبرز إليه أنت فإنك أولى الناس بمبارزته فقال: والله لقد دعاني إلى البراز حتى استحييت من قريش وإني والله لا أبرز إليه ما جعل العسكر بين يدي الرئيس وقاية له فقال الوليد: ألهو عن هذا كأنكم لم تسمعوا نداءه، فقد علمتم انه قتل جريئاً وفضح عمراً ولا أرى أحداً يتحكك به إلاّ قتله.

ومن بواعث العزم المجيد في متابعة هذا السياق الطاهر أن نذكر للبل جبلة بن عطية الذهلي الرقاشي حالة نفسية طرأت عليه في يوم من أيام صفين جعلته يندفع متحمسا نحو الحضين بن المنذر الرقاش الذي كان يحمل راية الإمام عليّ (عليه السلام) حينذاك وقال له : هل لك أن تعيرني رايتك هذه فأحملها بدلاً منك وأعيدها إليك بعد ساعة ولك فخرها فلقد أثارتني هذه الدماء التي يريقها أصحاب معاوية بن أبي سفيان ليرفعوا شأن معاوية إلى مستوى خلفاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وهم غافلون؟ فأدرك الحضين بن المنذر الرقاش ان يصيب أجرا في مقاتلة أعداءه دفاعاً عن مشائي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فناوله إياها شاكراً له السلامة ولما أمسك بها التفت إلى اتباع تلك الراية وقال لهم: يا أنصار الحق ان الجنة لا يدخلها إلاّ الصابرون على فرائض الله وأوامره وليس شيء مما فرض الله على العباد أشد من الجهاد وهو أفضل أعمال ثواباً فإذا رأيتموني قد شددت فشدوا، ويحكم أما تشتاقون إلى الجنة؟ أما تحبون أن يغفر الله لكم؟ فاقتحم جيوش معاوية مع أصحابه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 107 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهو مستهدف معاوية بالتعيين وقاتل قتال الأبطال الشرفاء حتى استشهد فتناول الراية بطل من أصحابه وعاد فيها الي الحضين بن المنذر الرقاش تغمد الله جبلة بن عطية الذهلي الرقاشي برحمته الواسعة. وكذلك كان كثير من أصحاب الإمام عليّ (عليه السلام) يفعلون في معاريض صفين لئلا يتسنى لمعاوية أن يعتلي بمعاوية أصحابه دست السيطرة على الامبراطورية الإسلامية.

ومن الأحداث الناصعة الشريفة التي استعلنت للمحاربين عموماً في أيام صفين تصريحات عمار بن ياسر وهو يذكر فيها قول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) له بانه تقتله الفئة الباغية ففي يوم صارم من أيام صفين قام عمار بن ياسر خطيباً في أنداده من أنصار عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: في خلال تصريحاته هذه: يا عباد الله أمضوا إلى من يطلبون بدم عثمان، والله ما أظنهم يطلبون بدمه ولكن القوم ذاقو الدنيا فاستحبوها واستمرأوها وعلموا: لو ان الحق لزمهم لحال بينهم وبين ما يرغبون فيه منها، بينما لم يكن للقوم سابقة أثيرة في الإسلام يستحقون بها الطاعة والولاية كمعاوية بن أبي سفيان فخدعوا أتباعهم بأن قالوا لهم قتل إمامنا مظلوماً، ليكونوا بذلك جبابرة وملوكاً وتلك ذريعة بلغوا بها ما ترونه أمامكم ولولا هي ما بايعهم من الناس رجلان اللهم انك لتعلم اني لو أعلم ان رضاك ان أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحني عليها حتى تخرج من ظهري لفعلت ثم نادى أين من يبغي رضوان ربّه ويذهب معي ولا يؤوب إلى مال ولا ولد؟ فاتته عصابة من الناس فمضى بهم إلى معسكر هاشم بن عتبة بن أبي وقاص وهو على أوفاز أن يحمل راية الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يتوجه بها إلى ميدان القتال فانضم إليه عمار بن ياسر ومن معه من أنصار أمير المؤمنين (عليه السلام) (4) فودعهم

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 108 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أمير المؤمنين وانصرفوا.

وقد تذكر عمار بن ياسر حينذاك موقفه يوما في معركة اليمامة وهو قائم على صخرة عالية يصيح يا معشر المسلمين: أمن الجنة تفرون؟ أنا عمار بن ياسر هلموا إليَّ فقال أعداء الله(5).

ثم اتجه هاشم المرقال باتباعه جميعاً إلى الميدان ثم وقف مليا والقى بنظرة نحو موقف معاوية فرأى من بعيد جمهرة غفيرة هنالك فقال لمن حوله : من أولئك؟ فقيل لهم انّهم أصحاب ذو الكلاع، ثم أنعم النظر فرأى جنداً، فسأل : ومن أولئك؟ فقيل له انهم قريش وأبعاض من أهل المدينة، فقال: قومي لا حاجة لي في قتالهم ثم سأل ومن عند هذه القبة البيضاء؟ فقيل له معاوية وخلصاؤه ثم سأل فأين أرى دونهم اسوة فقيل له ذاك عمرو بن  العاص وولده ومواليه. فأخذ الراية فهزها هزة عنيفة، فقال رجل من أصحابه تمهل قليلاً ولا تعجل ، فقال هاشم:

قد أكثر لومي وما أقلا *** إني شريت النفس لن أعتلا

أعور يبغي أهله محلا *** قد عالج لحياة حتى ملا

لابد أن يغل أو يغلا *** أو شلهم بذى الكعوب شلا

مع ابن عم أحمد المعلى *** أول من صدقه وصلا

وكان في أزائه عمار بن ياسر وكان لا ينفك يحرضه على التقدم المتواصل فيرضخ حياء من عمار فيتقدم ويركز رايته وينظر يمنة ويسرة ويرمي بنظره بعيداً إلى من أمامه من جيش أعدائه فيعاود عمار تشجيعه على التقدم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 109 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

واختراق حشود العدو بتضحيات عزيزة في حين ان هاشماً كان يبغي الاقتصاد في تقديم الجنود بين يديه، وكان عمرو بن العاص يلحظ من بعيد أسلوب هاشم المرقال في زحفه على جيوش معاوية فيقول لمن حوله لئن استمر صاحب الراية السوداء على هذا الأسلوب في الزحف لقد فنيت أبطال العرب في صفين، ثم يعاود عمار نخسه لهاشم بالرمح فيتقدم إلى أمام وكان بازاء هاشم وعمار أبو الأعور السلمي حتى التقى الزحفان واقتتلا قتالا هادراً لم يسمع السامعون بمثله ولم يبصر المبصرون ضحايا كالضحيا التي وقعت يومئذ.

وكانت الجيوش المنتظمة أمام قبة معاوية خمسة صنوف متساندة وقد بلغت فيهم الحماسة كونهم قد قيدوا أنفسهم بعمائمهم لئلا تحدثهم أنفسهم بأن يتزحزحوا عن أماكنهم فأباد منهم هاشم المرقال ثلاثة صفوف متتابعة حتى باشروا ابادة الصف الرابع وفيهم الكثرة الكاثرة من قيلة عك الشام من تخديم سفيان العكيين أي ضرب سيقانهم بالسيوف فاضطر العكيون إلى البروك كما تبرك الجمال واللجوء إلى الأحجار والصخور يقذفون الهمدانين دفاعاً عن أنفسهم وعن معاوية ولبثوا منذ اعتدال النهار إلى مغرب الشمس على تلك الحال حتى كشف أهل العراق ميمنة أهل الشام ثم كشف أهل الشام ميسرة أهل العراق والقتل بينهما ذريع، ولبثوا جميعاً على أعياء وتهافت بليغين في تلك الليلة حتى إذا ما اندلع الصباح وجد أهل الشام لواءهم هنالك وليس حوله سوى ألف رجل لا يدرون ما يصنعون فاقتلعوه وركزوه وراء موضعه الراهن عندهم ورأى أهل العراق لواءهم مركوزاً وحوله قبيلة ربيعة محدقين بالإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو لا يدري من هم تمام الدراية حتى إذا ما أذن مؤذنه بينهم عرفهم وقال وهو متجه إلى الصلاة:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 110 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يا مرحبا بالقائلين عدلا *** ويا مرحباً بالقائلين عدلا

ولما انتهى من صلاته قال لهاشم بن عتبة، خذ اللواء امامنا فوالله ما رأيت مثل هذه الليلة السالفة فخرج هاشم باللواء وركزه في القلب.

ولقد بات معاوية في تلك الليلة يبحث مع عمرو بن العاص من مكيدة للقضاء على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فانتهيا جازمين إلى تهيئة أربعة آلاف وثلاثمائة جندي يغتالونه على حين غرة من ورائه في اثناء القتال، فأدركت همدان ان حيائيا يوشك أن يخترم عليّاً (عليه السلام) فضاعفوا حراستهم له وانتشارهم حوله لئلا يقترب من ورائه أحد يجهلون سيماءه وأساريره قال الأحنف بن قيس إني لواقف إلى جانب عمار بن ياسر فتقدمنا حتى إذا أمن هاشم بن عتبة قال له عمار: احمل فداك أبي وأمي، ونظر عمار إلى رقة في الميمنة فقال له هاشم بن عتبة: رحمك الله يا عمار انك رجل تأخذك حقة في الحرب، وإني إنما أزحف باللواء زحفاً وأرجو أن أنال بذلك حاجتي، وإني ان خففت لم آمن الهلكة. قال معاوية لعمرو بن العاص ويحك، ان اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة وكان من قبل يرفل به ارفالا وان زحف به اليوم فإنه لليوم الأطول لأهل الشام وان زحف في عنق من أصحابه فإني لأطمع أن يقتطع فلم يزل به عمار حتى بصر به معاوية من بيد فوجه إليه حماة أصحابه وكان فيهم عبد الله بن عمرو بن العاص ومعه سفينان وقد تقلد احدهما وهو يضرب بالآخر فأطاقت به خيل عليّ بن أبي طالب فقال عمرو جازعا... يا الله.. يا رحمن، إبني ابني فقال له معاوية اصبر فإنه لا بأس عليه فقال له عمرو: لو كان يزيد فهل صبرت؟ ولم يزل حماة أهل الشام يذبون عنه حتى نجا هارباً على فرسه ومن معه فنادى حينذاك هاشم بن عتبة في الناس عند المساء من كان يريد الله والدار الآخرة فليقبل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 111 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فشد بعصابة ممن التحق به على أصحاب الشام مراراً وقد صمدوا صابرين له، فالتفتت إلى أصحابه وقال: لا يهولنكم ما ترون من صبرهم فإن ما ترون منهم هي حمية العرب في الحرب.

واعلموا انّهم لعلى الضلال وانكم لعلى الحق، يا قوم : اصبروا وصابروا وامشوا إلى عدونا على تؤدة رويداً واذكروا الله ولا يسلم أحدكم أخاه ولا تكثروا الالتفات، وجالدوهم محتسبين حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين وقاتل هشام قتالاً شديداً حتى أتت كتيبة لتنوخ فشدوا على الناس فقاتلهم هاشم حتى قتل منهم تسعة نفراً وعشرة فحمل عليه الحارث بن المنذر التنوخي فطعنه خلسة فسقط الى الأرض وفي ذلك الوقت بعث إليه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أن قدم لواءك فقال للرسول أنظر إلى بطني فإن الدماء تتدفق منها فانصرف الرسول إلى عليّ (عليه السلام) فأخبره بما رأى فاجتاز عليه رجل وهو صريع بين القتلى فقال له: يا هذا اقرأ أمير المؤمنين السلام وقل له : انشدك بالله ألا أصبحت وقد ربطت مقاود خيلك بأرجل القتلى فإن الدبرة تصبح غداً لمن غلب على القتلى فانطلق الرجل فأخبرعليّاًً (عليه السلام) بذلك فسار في بعض الليل حتى جعل القتلى خلف ظهره وقد أخذ الراية رجل من بكر بن وائل فرفع هاشم رأسه فإذا عبيد الله بن عمر قتيلاً إلى جانبه فزحف إليه حتى دنا منه فعض على ثديه حتى ينبت فيه منابت نيابه ثم مات وهو على صدر عبيد الله بن عمر(6) ولما قتل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص جزع الناس عليه ولا سيما الأبطال المخلصون وأصيب معه جماعات من بني أسلم وصرعوا حوله فمر عليهم أمير المؤمنين فتفاقم عليهم جزعه الطاهر وقال وهو يشكر لهم اخلاصهم في الذب على حياض الدين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 112 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جزى الله خيراً عصبة أسلمية***صباح الوجوه صرعوا حول هاشم

يزيد وعبدالله بشر ومعب *** وسفيان وابنا هاشم ذي المكارم

وعروة لا يبعد ثناه وذكره *** إذا اخترطت يوماً خفاف الصوارم

وقال عبد الله بن هاشم يرثي أباه حينذاك بهذا الرجز:

يا هاشم بن عتبة بن مالك *** اعزز بشيخ من قريش هالك

تحبطه الخيلان بالسنابك *** في أسود من نقعهن حالك

أبشر بحور العين في الأرائك *** والروح والريحان عند ذلك

وقال أبو الطفيل عامر بن وائلة يرثي هاشم بن عتبة بهذا الرجز:

يا هاشم الخير جزيت الجنة *** قاتلت في الله عدو السنّة

وتارك الحق وأهل الظنة *** أعظم بما فزت به من منه

صبرني الدهر كأني شنه *** يا ليت أهلي قد علوني رنه

أما عمار بن ياسر فقد كان في غضون أيام صفين قد أفرغ على جسمه درعاً ضافية يصول بها في الميدان ويخاطب أصحابه منادياً أيها الناس الرواح إلى الجنة وقال في آخر يوم من أيام حياته حين نظر إلى راية عمرو بن العاص في الميدان والله ان هذه الراية بعينها قد قاتلتها قبل اليوم في ثلاث معارك وما هذه بارشدهن ثم قال:

نحن ضربناكم على تنزيله *** فاليوم نضربكم على تأويله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله *** ويذهل الخيل عن خليله

أو يرجع الحق إلى سبيله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 113 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وأجمع الرواة على ان عماراً قد استسقى في آخر تلك المعارك التي خاض غمراتها وقد اشتد ظمأه فأتته امرأة طويلة الساعدين تسقيه قال الراوي والله ما أدري أعمر كان معها أو أدواة فيها ضياح من لبن فقال – رحمه الله – حين شرب من ذلك اللبن: الجنة تحت الأسنة:

اليوم القى الأحبة *** محمّداً وصحبه

والله لو ضربونا حتى يبلغوا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنهم على الباطل وفي رواية قيل ان الذي جاءه باللبن غلام اسمه راشد ثم حمل في الميدان فحمل عليه ابن جون السكسكي وأبو العادية الفزاري فأما أبو معاوية فطعنه غدراً وأما ابن جون فانه احتز رأسه(7).

وفيمن بالذكر ان كثيرا من أصحاب معاوية كانوا يجيئون إلى معاوية وعنده عمرو بن العاص فيزعمون بانهم قتلوا عمار بن ياسر فيقول عمرو ابن العاص لكل واحد منهم فما كان آخر كلامه فيخلطون في أجاباتهم حتى أقبل عليهما ابن جون السكسكي وأعلن بأنه هو الذي قتل عمار بن ياسر فسأله عمرو بن العاص مختبراً، فما كان آخر كلامه قال إني قد سمعته يقول:

اليوم ألقى الأحبة *** محمّداً وحزبه

فقال له عمرو بن العاص: صدقت يا ابن جون أنت صاحبه ووالله ما ربحت يداك بقتله ولكن أسخطت ربّك الكريم.

وقد احتج رجلان في سلب عمار بن ياسر عند عبد الله بن عمرو بن العاص فصاح بهما ان أخرجا عني ويحكما ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قال: (اولعت قريش بعمار، ما لهم ولعمار... يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 114 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

النار، ألا ان قاتله وسالبه في النار).

فسمع معاوية ذلك بعد قتله فقال: انما قتله من أخرجه فيخدع بذلك كثيراً من أهل الشام لئلا يدركوا سوء ما فعلوه بعمار وقد قال مالك الأشتر يومذاك مجيباً، معاوية بن أبي سفيان على ابتهاجه بمقتل عمار بن ياسر:

نحن قتلنا حوشيا *** لما غدا قد أعلما

وذا الكلاع قبله *** ومعبدا إذ أقدما

ان تقتلوا منا *** أبا اليقضان شيخا مسلما

فقد قتلنا منكم *** سبعين رأسا مجرما

أضحوا بصفين وقد *** لاقوا نكالا مؤثما

وعندما سمع عمرو بن العاص ما قاله مالك الأشتر أجابه ترضية لنزعة معاوية بن أبي سفيان الدفينة:

نحن قتلنا هاشماً وابن ياسر *** ونحن قتلنا ابنى بديل تعسفا

وفي ذلك اليوم بعث أمير المؤمنين (عليه السلام) خيلا ليحبسوا عن معاوية مادة معيشة لجيشه فعلم الضحاك بن قيس الفهري بذلك فأخبر به معاوية فأمره معاوية أن ينطلق بنفسه لتحرير تلك المادة بين يدي الإمام (عليه السلام) فأزالها بعد قتال عنيف فلما علم الإمام (عليه السلام) ما فعله الضحاك الفهري يومذاك أمر أصحابه أن يتهيأوا للقتال في اليوم التالي.

وفي اليوم التالي عندما التحم الجيشان في القتال انهزم عتبة بن أبي سفيان ناجياً بنفسه من المعركة نحو الشام تاركاً وراءه غفيراً من القتلى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 115 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والجرحى، فبرز حينذاك إلى الميدان (أبو الأعور السلمي) وهو يقول:

أضربهم ولا أرى عليّاً *** كفى بهذا حزنا عليّاً

ثم كانت وقعة (الخميس) بين الفريقين ضارية أوسع الضراوة فحينما التقى الفريقان في اليوم الأول من أيام وقعة الخميس قتل العبد الصالح خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين فحضرت على جثمانه ابنته ضبيعة وأنشأت ترثيه قائلة:

عيني جودي على خزيمة بالدمع *** قتيل الأحزاب يوم الفرات

قتلوا ذا الشهادتين عتوا      *** أدرك الله منهم بالتراث

قتلوه في فنية غير عزل *** يسرعون الركوب للدعوات

نصروا أحمد الموفق للعدل *** ودانوا بذاك حتى الممات

لعن الله معشراً قتلوه *** ورماهم بالخزي والآفات

وروى زياد بن النضر وكان على مقدمة جيش الإمام (عليه السلام) في صفين خلال وقعة الخميس قال: شهدت مع عليّ (عليه السلام) بصفين فاقتتلنا ثلاثة أيام وثلاث ليال متوالية حتى انكسرت الرماح ونفذت السهام ثم صارت المقاتلة بالسيوف فاجتلدنا بها إلى منتصف الليل حتى صرنا نحن وأهل الشام في اليوم الثالث يعانق بعضنا بعضاً صراعا ولم يبق شيء من السلاح إلاّ قاتلنا به فلما كان نصف الليل من الليلة الثالثة انحاز معاوية وخيله من الصف وغلب عليّ (عليه السلام) على أرض القتلى أسرع إلى دفن أصحاب محمّد فدفنهم وقد قتل كثير منهم ومن أصحاب معاوية وكان القتلى من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 116 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أصحاب معاوية أكثر وقال عمرو بن العاص متبجحا(8):

إذا تخازرت وما بي من خزر *** ثم خبأت العين من غير عور

الفيتني الوي بعيد المستمر *** ذا صولة في المصمئلات الكبر

أحمل ما حملت ما خير وشر *** كالحية الصماء في أصل الصخر

وجاء علقمة بن تميم الأنصاري إلى عليّ (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين ان عمرو بن العاص ينادي:

أنا الغلام القرشي المؤتمن*** الماجد الأبلح ليث كالشطن

ترضى بي الشام إلى أرض عدن*** يا قادة الكوفة يا أهل الفتن

يا أيها الأشياخ من أهل اليمن*** أضربكم ولا أرى أبا الحسن

أضربكم ولا أرى أبا الحسن*** كفى بهذا حزنا من الحزن

فأبتسم عليّ (عليه السلام) وقال فأما والله لقد حاد عدو الله عني وانه لبكاني عالم كما قال المثل العربي (غير الوهي ترقعين وأنت مبصرة) وحمل وقتذاك غلامان متحمسان من الأنصار وهما أخوان حتى انتهيا إلى مقربة من سرادق معاوية فقتلا عنده، ثم أقبلت الكتائب بعضها نحو بعض فاقتتلت وما يسمع السامع إلاّ وقع السيوف على البيض والدرق فقال عدي بن حاتم مرتجزاً:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 117 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أقول لما ان رأيت المعمعة *** واجتمع الجندان وسط البلقعة

هذا عليّ والهدى حقاً معه *** يا رب فاحفظه ولا تضيعه

فانه يخشاك ربّي فارفعه *** ومن أراد غدره فضعضعه

ونادى عمرو بن العاص في ذلك اليوم خادمه وردان أن يقدم لواءه بعض التقديم على حذر فأرسل الإمام عليّ (عليه السلام) إلى أهل الكوفة والبصرة أن يحملوا جميعاً على أهل الشام فاقتتلوا بأسرهم اقتتالاً فاتكاً جدا فخرج رجل من أهل الشام متبختراً فنادى من يبارز؟ فخرج إليه رجل من أهل العراق فاقتتلا أفدح قتال ثم ان الرجل العراقي خالس الشامي حتى أصابه مسابقة فلم يسقط على ظهر جواده ثم اشتغل نهزة فضرب يده فقطعها، فرمي الشامي سيفه إلى أصحابه قائلاً لهم دونكم سيفي هذا فاستعينوا به على أعدائكم فأخذوه فاشتراه معاوية من أولياء المقتول بعشرة آلاف ثم خرج رجل آخر من أهل الشام مبارزاً أمام أهل العراق فلم يتطوع أحد للخروج إليه فقال رجل من أهل العراق يدعى هاني بن نمر الحضرمي وكان موعوكاً سبحان الله ما يمنع أحدكم أن يخرج إلى هذا الشامي فيخضد شوكته فلولا إني موعوك واجد ضعفا في جسمي لخرجت والله إليه من غير ابطاء ومع ذلك فقد خرج إليه بالرغم من وعكه فإذا هو رجل من قومه وإن بينهما لصلة قربى من قبل النساء فقال له يا هاني بن نمر الحضرمي إني لم أخرج إليك خروجي هذا وأنا موطن نفسي على القتل ولست أبالي أن أنت قتلتني أو سواك ثم تجاولا بعض التجوال واختلفا اخيراً ضربتين فقتله هاني بن نمر فأسرع أصحاب هاني واشتبكوا بأسرهم في مقتله فادحة أسفرت أبادة اثنين وثلاثين رجلاً من كلا المعسكرين وفيما حدث ذلك الاشتباك الفادح في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 118 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جانب الميدان أرسل الإمام عليّ (عليه السلام) إلى أصحابه أن يضربوا من كل مكان سانح لهم فهجموا عليهم بحسب راياتهم المعلومة قبلئذ بالرماح والسيوف وعمد الحديد فكانت هجمة ضاربة ندرت فيها الرؤوس وتقطعت الأوصال وسالت الدماء وتعذر على الناس أداء صلواتهم إلاّ تكبيراً في مواقيتها قال عبد الرحمن بن حاطب: خرجت يومذاك ألتمس أخي بين القتلى فإذا برجل أمسك بثوبي وهو صريع بين القتلى فاستدرت لأرى ماذا هناك وإذا عبد الرحمن بن كندة صريع على الرمال فتألمت كثيراً من أجله وسألته ان كان يطلب شربة ماء فقال : لقد تخرق جسمي حتى لم أملق شرب الماء ولكن أوصيك أن تبلغ أمير المؤمنين أن ينقل جرحى أصحابه حتى يجعلهم وراء الميدان فإن الغلبة لمن فعل ذلك وأسلم الروح وشيكاً سافر الوجه فجئت إلى أمير المؤمنين وأبلغته رسالة عبد الرحمن رحمه الله تعالى، ثم نادى أصحابه أن ينقلوا جرحى أصحابه إلى ما وراء الميدان ففعلوا ولما انشمر ضوء الصباح أقبل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ومعه لواء معاوية الأعظم وهو يرتجز قائلاً:

أنا ابن سيف الله ذلغم خالد *** أضرب كل قدم وساعد

بصارم مثل الشهاب الواقد *** أنصر عمي ان عمي خالد

بالجهد لا بل فوق جهد الجاهد *** ما أنا فيما رابني براقد

فاستقبله جارية بن قدامة السعدي وهو يرتجز مجيباً:

أثبت لصدر الرمح يا ابن خالد *** أثبت لليث ذي فنون حارد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 119 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من أسد خفان شد الساعد *** ينصر خير راكع وساجد

من حقه عندي لحق الوالد *** ذاكم عليّ كاشف الأوابد

وتطاعنا بين العسكرين بعض الوقت فلم يسرع أحدهما في الآخر فانصرف جارية وانطلق عبد الرحمن بن خالد وهو يفتك بمن يعترض سبيله وهو يقول:

إني إذا ما الحرب فرت عن كبر *** نخالني أخزر من غير خزر

أقحم والخطي في النقع كثر *** كالحية الصماء في رأس الحجر

أحمل ما حملت من خير وشر

نعم ذلك عليّاً (عليه السلام) وأقبل عمرو بن العاص في خيل ليربط جأش عبد الرحمن وأنشأ يثير الحماسة فيه قائلاً أقحم ابن سيف الله فإنه الظفر، فأنطلق لفيف من الناس إلى الأشتر وقالوا له: هذا يوم من أيامك الأول وقد بلغ لواء معاوية مع عبد الرحمن بن خالد حيث تراه من بعيد فأخذ الأشتر لواءه المعلم وحمل على أعدائه وهو يرتجز ويقول:

إني أنا الأشتر معروف الشتر***إني أنا الأفعى العراقي الذكر

لا من ربيعة ولا حي مضر *** لكنني من مذحج الغر الأغر

ونافد بأعدائه أشد نفاذ حتى نكى فيهم وردهم على أعقابهم خاسئين ولما نكص لواء معاوية الأعظم مع خيل عمرو بن العاص القهقري انزعج معاوية ودعا إليه همام بن قبيصة وكان لا ينفك يشتم عليّاًً ويتمنى لو يفتك به فانتدبه حانقا ليحمل لواء هوازن ويهجم على قبيلة مذحج فقصد مذحجاً من فوره وهو يرتجز:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 120 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إني إذا دعيت للنزال *** أقدم اقدام الهزبر العالي

فبرز إليه عدي بن حاتم حاملا رايته المعلمة وهو يقول:

يا صاحب الصوت الرفيع العالي *** ان كنت تبغي في الوغى نزالي

فادن فإني كاشف عن حالي *** نفدي عليّاًً مهجتي ومالي

وأسرتي تتبعها عيالي

فضربه بعد جولة يسيرة وسلب لواءه وعاد إلى موقعه من الميدان، ثم اختلط أمر الناس واشتد اختلاطهم فترك أهل الرايات مراكزهم فانصرف أمير المؤمنين عند المساء نحو مواقع ربيعة من يومذاك نفتخر بهذا الاطراء لهم من أمير المؤمنين (عليه السلام) ولما أصحب الصباح ركب أمير المؤمنين فرسه الذي كان لرسول الله وكان يقال له المرتجز فتوافرت حواليه كتائب جيشه ثم نادى أيها الناس من يشري نفسه لله يربح هذا يوم له ما بعده من افتخار ان عدوكم قد قرح كما قرحتم فانتدب له زهاء عشرة آلاف مستجيب قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم ثم تقدمهم أمير المؤمنين وهو يرتجز بصوت عظيم:

دبوا دبيب النمل ولا تفوتوا *** وأصبحوا بحربكم وبيتوا

حتى تنالوا النار أو تموتوا *** حولي فإني طالما عصيت

قد قلتموا لو جيئتنا فجيبت *** ليس لكم ما شئتموا وشيت

بل ما يريد المحيي المميت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 121 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وتبعه عدي بن حاتم وهو يرتجز:

أبعد عمار وبعد هاشم*** وابن بديل فارس الملاحم

فاليوم لا تقرع سن النادم*** ليس امرؤ من حتفه بسالم

  ثم تقدم الأشتر مستبسلا وهو يرتجز:

حرب بأسباب الردى تأجح ***يهلك فيها البطل المدجح

يكفيكها همدانها ومذحج *** روحوا إلى الله ولا تعرجوا

دين قويم وسبيل منهج

وحمل الناس بأسرهم حملة متعاضدة متساندة حتى لم يتركوا صفوف أعدائهم ثباتاً في عرصة الميدان فذهبوا منهزمين بتلك الحال نحو فسطاط معاوية عسى أن يجد لهم ملاذا بينما كان أمير المؤمنين لا ينفك يوسعهم ضرباً بسيفه وهو يقول بصوت جهوري مرعب:

أضربهم ولا أرى معاوية *** إلاّ خزر العين العظيم الحاوية

هوت به في النار ام معاوية

وحين رأى معاوية بن أبي سفيان عليّاً (عليه السلام) في مقدمة المهاجمين دعا إليه بفرسه تمهيداً لينهزم على ظهره فينجو تذكر أبياتاً من الشعر لعمرو ابن الاطنابة يخاطب بها نفسه:

ابث عفتي وأبى بلائي *** وأخذ الحمد بالثمن الربيع

واقدامي على المكروه نفسي*** وضربي هامة البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وجاشت *** مكانك تحمدي أو تستريحي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 122 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لأدفع عن مآثر صالحات*** وأحيى بعد عن عرضى صحيح

بذي شطب كلون الملح صاف *** ونفسي ما تقر على القبيح

ثم التفت إلى عمرو بن العاص وكان واقفاً بجانبه فقال له: اليوم صبر وغدا فخر، فأجابه قائلاً: صدقت يا أبا يزيد ونادى حينئذ قبيلتي عك والأشعريين فوقفوا جميعاً دونه يدفعون عنه حتى انفرج الفريقان بعضهما عن بعض وعاد معاوية إلى مجلسه مرة أخرى.

روى نصر بن مزاحم عن الشعبي ان أول فارس التقيا في اليوم السابع من صفر وكان من الأيام العظيمة في صفين ذو أهوال شديدة حجر الخير وحجر الشر، أما حجر الخير فهو حجر بن عدي صاحب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأما حجر الشر فابن عمه وكلاهما من قبيلة كنده وكان من أصحاب معاوية قاطعنا برمحيهما فخرج رجل من بني أسد يقال له خزيمة من عسكر معاوية فضرب حجر الخير ضربة برمحه فحمل أصحاب عليّ (عليه السلام) على خزيمة الأسدي فهرب حينذاك حجر الشر فالتحق بصف معاوية، ثم برز حجر الشر ثانية فبرزإليه الحكم بن أزهر من أهل العراق فقتل حجر الشر وعاد إلى أصحابه يقول: الحمد لله الذي قتل حجر الشر بالحكم بن أزهر(9).

وأمر الإمام عليّ (عليه السلام) عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي أن يحمل جيش أهل الشام، فحمل وشيكاً وهو يرتجز:

لم يبق غير الصبر والتوكل *** والترس والرمح وسيف مقصل

ثم التمشي في الرعيل الأول *** مشي الجمال في حياض المنهل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 123 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وكان عليه يومئذ درعان ويحمل سيفين اثنين، فاستمر يتقدم نحو فسطاط معاوية مع الذين بايعوه من جيشه على الموت حتى إذا رآه معاوية قادماً عليه أرسل حبيب بن مسلمة الفهري وهو في ميسرة أهل الشام ليسعف حماة فسطاطه وان يحمل بجميع من معه على عبد الله بن بديل بن ورقاء فأقبل حبيب بن مسلمة لاسعاف معاوية من الميسرة فاشتبك مع ميمنة العراق في مقتلة تبعث على الجزع، ولما كاد (عبد الله بن بديل) ان يبلغ الفسطاط جعل معاوية ينادي أصحابه قائلاً لهم في ندائه الصخر والحجارة إذا عجزتم عن السلاح فرضحه أصحاب معاوية بما حولهم من صخر وحجارة حتى قتلوه، فوقف عليه معاوية حينئذ وقال: هذا كبش القوم وربّ الكعبة اللّهم اظفرني بالأشتر النخعي والأشعث الكندي، والله ما مثل هذا إلاّ كما قال الشاعر:

أخو الحرب ان عضت به الحرب عضها *** وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

قال نصر بن مزاحم: حدثنا عمرو بن شمر عن أبي روق(10).

ان أهل الشام استعلوا على أهل العراق يومئذ فانكشف أهل العراق من أمام أهل الشام فاجفلوا اجفالاً شديداً فأمر أمير المؤمنين سهل بن حنيف فاستقدم من كان معه من جيش ليرفد الميمنة ويعضدها فاستقبلهم أهل الشام في خيل عظيمة فحملت عليهم وألحقتهم بالميمنة التي كانت متصلة بموقف عليّ (عليه السلام) في القلب، فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى عليّ (عليه السلام) فانصرف يمشي نحو الميسرة فانكشفت مضر عن الميسرة، فعكف عليّ (عليه السلام)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 124 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومعه بنوه نحو الميسرة ومعه ربيعة وحدها، وان النيل يمر بين عاتقه ومنكبيه وما من بنيه إلاّ من بقية بنفسه. وأبصر به أحمر ولى بني أمية وكان فارساً شجاعأً فقال عليّ (عليه السلام) وربّ الكعبة قتلني الله إن لم أقتله فاطلق كيسان مولى عليّ (عليه السلام) إليه فاختلفا ضربتين فقتله أحمر وخالط عليّاًً (عليه السلام) ليضربه بالسيف إلاّ انه (عليه السلام) قبض على جيب درعه فجذبه عن فرسه فحمله على عاتقه، فو الله لكأني أنظر إلى رجلي (أحمر) تختلفان وتضطربان على عنق عليّ (عليه السلام) ثم ضرب به الأرض فكسر منكبه وعضديه وشد لنا أمير المؤمنين حسين ومحمّد فضرباه بأسيافهما حتى برد فكأني أنظر إلى عليّ قائماً وشبلاه يضربان الرجل حتى أتيا عليه. قال نصر بن مزاحم وحدثنا عمرو بن شمر عن فضيل بن خديج قال: لما انهزمت ميمنة أهل العراق يومئذ أقبل عليّ (عليه السلام) نحو الميسرة يركض يستثبت الناس(11) ويستوقفهم ويأمرهم بالرجوع فمر الأشتر فقال له يا مالك؟ قال لبيك يا أمير المؤمنين قال: ائت هؤلاء القوم فقل لهم أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه إلى الحياة التي لن تبقى لكم، فمضى الأشتر فاستقبل الناس منهزمين فقال لهم كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) وناداهم إليَّ أيها الناس .. أنا مالك بن الحارث يكررها مرة بعد أخرى فلم يلو أحد منهم عليه!! وظن ان الأشتر هو اسم أعرف في الناس من مالك بن الحارث فجعل ينادي ألا أيها الناس فأنا الأشتر فانقلب نحوه طائفة وذهبت عنه طائفة أخرى فقال (عضضضتم بهن أبيكم).... ما أقبح والله ما فعلتم – اليوم أيها الناس غضوا الأبصار وعضوا على التواجد، واستقتلوا القوم بهامكم وشدوا عليهم شدة قوم موتورين بآبائهم وأبنائهم وأخوانهم حنقا على عدوهم وقد وطنوا على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 125 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الموت أنفسهم، لا يسبقوا بثأر.

إنّ هؤلاء القوم والله لن يقاتلوكم إلا ليطفئوا السنة ويحيوا البدعة ويدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة فطيبوا عباد الله نفساً بدمائكم دون دينكم فإنّ الفرار فيه سلب العز، والغلبة على الفيء، وذل الحياة والممات، وعار الدنيا والآخرة وسخط الله وأليم عقابه.

ثم صاح، أيها الناس اخلصوا إليى مذحجاً، فاجتمعت إليه مذحج فقال لهم: عضضتم بصم الجندل والله ما أرضيتم اليوم ربكم ولا نصحتم له في عدوه، وكيف ذلك وأنتم أبناء الحرب وأصحاب الغارات وفتيان الصباح وفرسان الطراد وحتوف الأقران ومذحج الطعان، والذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء.. وأشار بيده إلى أهل الشام رجل على مثل جناح البعوضة من دينه لله.. لله أنتم، ما أحسنتم اليوم القراع، احبسوا سواد وجهي يرجع فيه دمي، عليكم هذا السواد الأعظم. فإنّ الله لو قد فضّه بكم تبعه من بجانبيه كما يتبع السبيل مقدمه(12).

فقالوا وهم غاية من الحماسة: خذ بنا حيث ترى صالحاً للمسلمين فصمد بهم منسجماً، واستقبله وقتذاك أشباههم من فرسان همدان وكان عديدهم زهاء ثمانمائة مقاتل، وكانوا قد انهزموا اضطراراً منذ حين في آخر الناس الذين قد صبروا أجمل الصبر في ميمنة الإمام علي (ع) حتى قتل منهم مئة وثمانون رجلاً وأصيب منهم أحد عشر رئيساً كلما أصيب أو قتل منهم واحد تناول الراية فارس آخر في الميدان حتى بلغ عدد القتلى فقط من بني شريح الهمدانيين ستة تحت تلك الراية نفسها ثم تناولها عمير بن بشر وتلاه أخوه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 126 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الحارث بن بشر فقتلا أيضا تحت الراية أيضا ثم أراد أن يأخذها (أبو القلوص وهب بن كرب) فقال له أحد الناس من قومه: انصرف يرحمك الله بهذه الراية بعيداً ولا تقتل نفسك وتقتل من معك من المؤمنين. فانصرفوا إلى حيث الأشتر حينذاك واقفاً مع أصحابه وهم يقولون: ليت لنا عديداً من العرب يحالفوننا على أعدائنا هؤلاء فأما أن نظفر أو نقتل على نصيرة كرماء، فسمعهم الأشتر وهم قادمون فقال لهم أنا أحالفكم على أن لا نرجع أبداً حتى نظفر أو نهلك معاً. فوقفوا معه بعدما عرفوه على هذه العزيمة الواعية ولما توافر معه أكثر من ألف مقاتل زحف بهم نحو ميمنة الإمام عليّ (عليه السلام) فثاب إليه أناس من ذوي الإخلاص المستنير وشرف الحياء.

فصار لا يتجه إلى نحو من أنحاء أهل الشام إلاّ يزيلهم فيزداد أصحابه عزماً واتكالاً على الله وقد ضاعف عزمهم النزيه وقتذاك حيث شاهدوا جثتي البطلين الهمامين (زياد بن النطر ويزيد بن قيس الأرحبي) محمولين على أكتاف الرجال المؤمنين إلى معسكر الإمام عليّ (عليه السلام) ثم اجتاز عليهم الحارث بن جهان الجعفي. فعرف الأشتر وأتبعهم بلقائه والتحق بأصحابه، فرفع الأشتر رايته المظفرة واستمر ينكى أشد نكاية بكل من يصمد له من أعدائه حتى استطاع أن يقترب مع أصحابه من موقف أمير المؤمنين إني قد رأيت جولتكم وانحيازكم من صفوفكم يحوزكم الجفاة الطغاة من أهل الشام وأنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم لا يأتون على جموعكم وأنتم المؤمنون وعمار الليل بتلاوة القرآن وأهل دعوة الحق إذ ضل المخطئون فلولا اقبالكم بعد ادباركم وكركم بعد انحيازكم وجب عليكم ما وجب على المولي الأدبار يوم الزحف. وكنتم فيما أرى من الهالكين، ولقد هون عليّ وجدى وشفى بعض لاعج نفسي، إني رأيتكم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 127 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بأخرة حزتموهم كما حازوكم وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم تحشونهم بالسيوف يركب أولهم آخرهم كالإبل المطرودة الهيم فاصبروا الآن وقد نزلت عليكم.

وقال نصر بن مزاحم: حدثنا عمرو بن شمر قال حدثنا عبد السلام بن عبد الله بن جابر ان راية قبيلة بجيلة في صفين مع أهل العراق كانت مع أبي شداد قيس بن المكشوح بن هلال بن الحارث بن عمرو بن قبيلة (أحمس) قالت بجيلة: خذ رايتنا فقال غيري خير لكم مني قالوا: لا نريد غيرك قال: فوالله لئن أعطيتمونيها لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب وكان على رأس معاوية رجل معه ترس مذهب يستره من الشمس فقالوا: أصنع ما شئت فأخذها وزحف بها مع بجيلة يضربون الناس حتى انتهى إلى صاحب الترس المذهب تحرسه خيول عظيمة من أصحاب معاوية وكان حامل الترس عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فاقتتل الناس هناك اقتتالاً شديداً وشد أبو شداد بسيفه نحو عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فتعرض له رومي من أصحاب معاوية فضرب قدم أبي شداد فقطعها فضرب أبو شداد ذلك الرومي فقتله فأحاطت به حينئذ جمهرة من ذوي السيوف والأسنة فقتل فأخذ الراية بعده عبد الله بن قلع الأحمسي وارتجز غاضباً:

لا يبعد الله أبا شداد *** حيث أجاب دعوة المنادي

وشد بالسيوف على الأعادي *** نعم الفتى كان لدى الطراد

وفي طعان الخيل والجلاد(13)

ثم قاتل حتى قتل فأخذها بعده أخوه عبد الرحمن بن قلع فقاتل حتى قتل ثم أخذها عفيف بن اياس الأحمسي فلم تزل بيده حتى تحاجز

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 128 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الناس في أصيل ذلك اليوم فإني سمية نعيم بن الحارث بن التغلبية إلى معاوية وكان من أصحابه فقال له ان هذا القتيل ابن عمي فهبه لي أدفنه، فقال ألا تدفنوهم فليسوا لذلك بأهل والله ما قدرنا على دفن عثمان بن عفان بينهم إلاّ سراً، فأجابه قائلاً والله لتأذن لي في دفنه أو لألحقن بهم ولأدعنك!! قال: ويحك.. ترى أشياخ العرب لا نواريهم وأنت تسألني في دفن ابن عمك أدفنه ان شئت أو دعه فمضى إلى جثمانه ابن عمه فدفنه، وهو لم يعد يصدق بكثير من مزاعم معاوية بعد ذلك اليوم، قال نصر بن مزاحم: حدثنا عمرو بن شمر، قال حدثنا أبو زهير العبسي عن النضر بن صالح: ان راية غطفان العراق كانت مع عياش بن شريك بن حارثة بن جندب بن زيد بن خلف بن رواحة، فخرج رجل من آل ذي الكلاع، فسأله المبارزة فبرر إليه قائد بن بكر العبسي فبارزه عليه الكلاعي فأرهطه صريعا(14) فقال: ابو سليم عياش بن شريك لقومه إني مبارز هذا الرجل فإن أصتت فراسكم الأسود بن حبيب بن جمانة بن قيس بن زهير فان أصيب فراسكم هرم بن شتير بن عمرو بن جندب.

فإن أصيب فراسكم عبد الله بن ضرار بن رواحه، ثم مشى نحو الكلاعي فلحقه هرم بن شتير فأخذ يظهره وقال: ليمسك رحم، لا تبرز إلى هذا الطوال. فقال: هبلتك الهبول وهل هو إلاّ الموت؟ قال: وهل الفرار إلاّ منه؟ قال: وهل منه بد، والله لأقتلنه أو ليلحقن بفائد بن بكير، فبرز له وبيده جحفة من جلود الإبل فدنا منه فإذا الحديد مفرغ على الكلاعي لا يبين  من نحره إلاّ مثل خيط القطن فضربه الكلاعي على جحفته فقدها فأسرع عياش على الكلاعي فضربه على ذلك الموضع من نحره

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 129 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فقتله فأسرع ابن الكلاعي لينتقم لأبيه فانطلق إليه بكير بن وائل فأتى عليه قتيلاً.

واشتد القتال بين الفريقين وتفرقت الرايات بين الجموع وكانت راية ابن نهد حينذاك يحملها مسروق بن الهيثم بن سلمة النهدي فقتل فأخذها صخر بن سمي فارتث من الجراح فأخذها منه عليّ بن عمير فحارب بها حتى ارتث من كثرة الجراح فأخذها منه عبد الله بن عمرو بن كبشه فارتث كذلك فتناولها أبو مسبح بن عمرو فقتل فأخذها عبد الله بن النزال فقتل ثم أخذها ابن أخيه عبد الرحمن بن زهير فقتل فأخذها مولاه (مخارق). فقتل فصارت أخيراً إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي فجرح جراحا اسقطته صريعاً ثم صرع إلى جانبه يزيد بن المغفل فقتل قاتله ثم صرع أبو زينب أبو عروة بجانباً فقتل قاتله أيضاً وقد قام على رأسه فجاء سفيان بن عوف وسأله؟ أقتلتم يزيد بن المغفل قال: قال أي والله انه لهذا الذي تراه بين قدمي قال: ومن أنت حياك الله قال: أنا عبد الرحمن بن مخنف فقال: الشريف الكريم حياك الله أفلا تدفعه إليَّ. فأنا عنه سفيان بن عوف المغفل فقال له عبد الرحمن ووارثه حقاً. قال نصر بن مزاحم: وخرج سويد بن قيس بن يزيد الأرحبي من عسكر معاوية يسأل المبارزة فخرج إليه من عسكر العراق قيس بن عمرو وأبو العمرطة بن عمير بن يزيد وهو ابن عم سويد بن قيس.. وكان كل منهما لا يعرف صاحبه فلما تعارفا وتوافقا وتساءلا ودعا كل واحد منهما صاحبه إلى حزبه فقال أبو العمرطة. أما أنا فوالله الذي لا إله إلاّ هو لئن استطعت لأضربن بسيفي هذه القبة البيضاء التي فيها معاوية ثم انصرف كل واحد منها إلى أصحابه(15).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 130 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال نصر بن مزاحم: ثم خرج رجل من عسكر معاوية وهو أزد شنوءة، يسأل المبارزة فخرج إليه رجل من أهل العراق فقتله الأزدي فخرج إليه الأشتر فما أسرع ما قتله فوراً فقاتل قائل من عسكر معاوية كان هذا ريحاً فصارت أعصارا(16).

قال نصر بن مزاحم : قال رجل من أصحاب عليّ (عليه السلام) أما والله لأحملن على معاوية حتى أقتله وأربح الناس في صفين فركب فرساً ثم ضربه حتى قام سنابكه ثم دفعه فلم ينهنهه شيء عن الوقوف فهرب معاوية ودخل خباء فنزل الرجل في أثره ودخل عليه فخرج معاوية هارباً من جانب الخباء الآخر، فخرج الرجل في أثره فاستصرخ معاوية بالناس فأحاطوا به وحالوا بينهما فقال معاوية ويحكم ان السيوف لم يؤذن لها في هذا المضيق ولولا ذلك لم يصل إليكم فعليكم بالحجارة فرضوه جميعاً حتى همد فعاد معاوية من جديد إلى مجلسه(17).

قال نصر بن مزاحم فحدثني عمرو بن شمر قال: ثم قام عليّ (عليه السلام) بين الصفين ونادى: يا معاوية يكررها مراراً فقال معاوية سلوه ما شأنه؟ قال: أحب أن يظهر لي فأكلمه فبرز معاوية ومعه عمرو بن العاص، فلما قارباه لم يلتفت إلى ابن العاص وقال لمعاوية ويحك علام يقتل الناس بيني وبينك ويضرب بعضهم بعضاً؟ ابرز إليَّ فأينا قتل صاحبه فالأمر له فالتفت معاوية إلى عمر بن العاص فقال: ما ترى يا أبا عبد الله؟ قال: قد أنصفك الرجل واعم انك ان نكلت عنه لم يزل ذلك سبه عليك وعلى عقبك ما بقي على ظهر الأرض عربي، فقال معاوية: يا ابن العاص ليس مثلي يخدع عن نفسه، والله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 131 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ما بارز ابن أبي طالب شجاع قط وسقى الأرض من دمه، ثم انصرف معاوية راجعاً ولم يجب حتى انتهى إلى آخر الصفوف وعمرو معه فلما رأى عليّ (عليه السلام) ذلك الجبن ضحك وعاد إلى موقفه.

وروى ابن قتيبة في كتابه عيون الأخيار قال: قال أبو الأغر التميمي بينما أنا واقف بصفين مر بي العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب مكفرا تام التسلح وعيناه تبصران من تحت المغفر كأنهما عينا أرقم وبيده صفيحة بيانية يقلبها وهو على فرس له صعب وبينما هو يبغثه ويمارس ضربه بهدوء هتف به هاتف من أهل الشام يعرف (بمرار بن أدهم) يا عباس هلم إلى البراز قال العباس: فالنزول اذن.. فإنه ايأس من القفول فنزل الشامي وهو يقول:

ان تركبوا فركوب الخيل عادتنا *** أو تنزلون فانا معشر نزل

وثنى العباس رجله نازلاً ثم عصب فضلات درعه في حجزته ودفع فرسه(18) إلى غلام له أسود يقال له (أسلم) ثم دلف كل واحد منهما إلى صاحبه فذكرت قول أبي ذؤيب:

فتنازلا وتواقفت خيلاهما *** وكلاهما بطل اللقاء مخدع

وكفت الناس أعنة خيولهم ينظرون ماذا يكون من الرجلين فتكافحا بسيفيهما ملياً من نهارهما لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لامته، إلى ان لحظ العباس وهنا في درع الشامي فأهوى إليه بيده فهتكه إلى ثندوته ثم عاد لمجاولته، وقد أصحر له قليلاً إلى الصحراء فضربه العباس ضربة انتظم بها جوانح صدره فخر الشامي لوجهه فكبر الناس المشاهدون من بعيد تكبيرة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 132 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ارتجت لها الأرض من تحتهم، وسما العباس في أنظار الناس، وإذ قائل يقول:

قاتلوهم يعذبهم الله بأيدكم ويخزيهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء.

فالتفت العباس فإذا أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: ياعباس ألم أنهك وعبد الله بن عباس أن تخلا بمراكزكما ان تباشرا حربا؟ قال: ان ذلك كان.. قال: فما عدا مما بدا؟ قال: يا أمير المؤمنين أفأدعى إلى البراز فلا أجيب؟ قال: نعم طاعة إمامك أولى من اجابة عدوك، ثم تغيظ واستطار، حتى قلت: الساعى الساعة ثم سكن وتطامن، ورفع يديه مبتهلاً فقال: اللهم اشكر للعباس مقامه واغفر له وانك لغفور رحيم.

قال: ولهف معاوية حينذاك على (عرار بن أدهم) وقال متى ينتطح فحل لمثله أيطل دمه؟ لا ها الله إذا. إلاّ رجل بشرى نفسه لله، يطلب بدم عرار فانتدب له رجلان من (لخم) فقال لهما: اذهبا فأيكما قتل العباس برازا فله ما يشاء، فأتياه فدعوه للبراز فقال ان لي سيداً أريد أن أؤامره فأتى عليّاًً (عليه السلام) فأخبره الخبر فقال عليّ (عليه السلام) : والله لود معاوية انه ما بقى من بني هاشم نافح ضرمة إلاّ طعن في بطنه اطفاء لنور الله ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره ولو كره المشركون، ثم قال: يا عباس ناقلني سلاحك بسلاحي، فناقله ووثب على فرس العباس وقصد اللخميين، فما شكا انه هو، فقالا: اذن لك صاحبك فخرج ان يقول : نعم فقال: اذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ، وان الله على نصرهم لقدير فبرز إليه أحدهما فكأنما اختطفه اختطافاً ثم برز له الآخر فألحقه قتيلاً بالأول ثم أقبل يقول (الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 133 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم قال ياعباس خذ سلاحك وهات سلاحي، فإن عاد لك أحد فعد إليَّ قال: فنقل الخبر إلى معاوية فقال: قبح الله اللجاج انه لقعود ما ركبته قط إلا ختلت، فقال عمرو بن العاص: المخذول والله اللخميان لا أنت، فقال: اسكت أيها الرجل وليست هذه من ساعتك وإن لم يكن فرحم الله اللخميين وماأره يفعل قال: فإن ذلك والله أخسر لصفتك وأضيق لحجزتك قال: قد علمت ذاك، ولولا مصر لركبت المنجاة منها. قال: هي أعمتك يا عمرو).

قال نصر بن مزاحم: وأقبل ذو الكلاع في حمير ومن لف لفها، ومعهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب في أربعة آلاف من قراء أهل الشاع وذو الكلاع في حمير في الميمنة وعبيد الله بن عمر في الميسرة فحملا جميعاً على ربيعة حملة شديدة فتضعضت رايات ربيعة ثم ان أهل الشام انصرفوا فلم يمكثوا إلاّ قليلاً من الوقت حتى كروا ثانية وعبيد الله بن عمر في أوائلهم يصيح: يا أهل الشام هذا الحي من العراق هم قتلة عثمان بن عفان وهم أنصار عليّ بن أبي طالب ولئن هزمتم هذه القبيلة أدركتم ثأركم، وهلك عليّ وأهل العراق فشدوا على الناس شدة عظيمة فثبت لهم ربيعة وصبرت صبراً حسناً إلاّ قليلاً من الضعفاء.

فأمّا أهل الرايات وذووا البصائر منهم والحفاظ فثبتوا وقاتلوا قتالاً شديداً وأما خالد بن المعمر فإنه لما رأى أهل الرايات ثابتين صابرين رجع إليهم وصاح بمن انهزم وأمرهم بالرجوع فكان من يتهمه من قومه يقول: انه فر فلما رآنا قد ثبتنا رجع إلينا وقال هو: لما رأيت رجالاً منا قد انهزموا رأيت أن أستقبلهم ثم أردهم إلى الحرب فجاء بأمر مشتبه ولا ريب عند علماء السيرة ان خالد بن المعمر كان له باطن سوء وله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 134 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اتصال خفي مع معاوية وانه انهزم هذا اليوم ليكسر الميسرة على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ذكر ذلك الكلبي والواقدي وغيرهما ويدل على ذلك من باطنه انه لما استظهرت ربيعة على معاوية وعلى صفوف أهل الشام في اليوم الثاني من هذا أرسل معاوية إلى خالد بن المعمر ان كف عني ولك أمارة خراسان ما بقيت فكف عنه فرجع بربيعة وقد شارفوا بأخذه من مضربه.

قال نصر بن مزاحم(19): فلما رجع خالد بن المعمر واستوت صفوف ربيعة كما كانت خطبهم فقال: يا معشر ربيعة، إن الله تعالى أتى بكل رجل منكم من منبته ومسقط رأسه فجمعكم في هذا المكان جمعاً لم يجتمعوا مثله قط منذ أفرشكم الله الأرض وانكم ان تمسكوا أيديكم تنكلوا عن عدوكم وتحولوا عن مصافكم ... لا يرضى الله فعلكم ولا تعدموا معيرا يقول: فضحت ربيعة الذمار وخافوا وجبنوا عن القتال وأتيت من قبلهم العرب فإياكم أن يتشاءم بكم اليوم المسلمون، وانكم ان تمضوا مقدمين، وتصبروا محتسبين فإن الاقدام منكم عادة والصبر منكم سجية فاصبروا ونيتكم صادقة تؤجروا فإن ثواب من نوى ما عند شرف الدنيا وكرامة الآخرة والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً فقام إليه رجل من ربيعة وقال له: لقد ضاع والله أمر ربيعة حين جعلت أمرها إليك تأمرنا أن لا نحول ولا نزول حتى نقتل أنفسنا ونسفك دماءنا هدراً.

فقام إليه رجال من قومه فتناوله بقسيهم ولكزوه وقالوا لخالد بن المعمر: اخرجوا هذا من بينكم فإن هذا ان بقي فيكم ضركم وإن خرج منكم لم ينقصكم عددا هذا الذي لا ينقص العدد ولا يملأ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 135 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

البلد، ترحكم الله من خطيب قوم لقد جنبك الخير قبح الله ما جئت به.

واشتد القتال يومئذ بين أنصار عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وأنصار معاوية بن أبي سفيان وفيهم (عبيد الله بن عمر بن الخطاب) فكثرت القتلى كثرة عامة فخرج نحو من خمسمائة مقاتل من أصحاب عليّ بن أبي طالب وهم غاصون في الحديد لا يرى منهم إلاّ الحدق ، وخرج إليهم من أهل الشام نحوهم في العدة والعدد فاقتتلوا بين الصفين والناس وقوف تحت راياتهم. ثم اسفر القتال بينهم عن البوار حيث لم يرجع من هؤلاء ولا هؤلاء أحد فقد قتلوا جميعاً بين الصفين المتعاديين، فتألم كثيراً من رجال معاوية الأذكياء لفقدان هؤلاء الأبطال الذين قتلوا من جراء مزاعم معاوية بانه يطالب معهم بدم عثمان بن عفان على حين ان ذلك لم يكن يحدث منذ سنين مضت لمقتل الخليفة عمر بن الخطاب مع وجود أعظم الصحابة وأكرمهم حوله وزيادة على هذا فانهم يرون بأعينهم ان معاوية يغري أقواماً بأموال بيت المال الإسلامي كيفما يشاء لتنفيذ أهدافه المخصوصة، وكذلك يمني غير أولئك بأمنية منحهم سلطة الحكم على مصر وخراسان أو غيرهما إذا انتهت الحرب في صفين بانتصارهم على أنصار عليّ بن أبي طالب وعليه خاصة ولكنهم وجدوا أنفسهم قد انغمسوا في تيارات الحرب في صفين ولا يملكون مخرجاً أميناً منها.

أما عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقد وجدوه لا يحوز ناراً إلى قرصته ولا يسعى إلى منال سلطة زمنية فيشمخ بها في الأمبراطورية الإسلامية وان له خصائص دينية مميزة واعتبارات اجتماعية وحربية وعلمية وسياسية. وصلة رحم برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) لم توجد في معاوية بن أبي سفيان. وان عليّ بن أبي طالب ان تنازل لمعاوية عن الخلافة وذلك أمر محال جداً يكن تنازله سابقة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 136 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هدامة للأمبراطورية الإسلامية.

قال نصر بن مزاحم: حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن تميم قال منادي أهل الشام يومذاك : الا ان معنا الطيب ابن الطيب عبد الله بن عمر، تنشيطاً وتثبيتاً لقلوب أهل الشام فنادى منادي أهل العراق بل هو الخبيث بن الطيب. ونادى منادي أهل العراق ألا ان معنا الطيب بن الطيب محمّد بن أبي بكر الصديق فنادى أهل الشام بل هو الخبيث ابن الطيب(20).

وقال نصر بن مزاحم: حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن تميم ثم ذهب هذا اليوم بما فيه فأصبحوا في اليوم التاسع من صفر وقد خطب معاوية أهل الشام وحرضهم فقال انه قد نزل بكم الأمر ما ترون وحضركم ما حضركم فإذا نهدتم إليهم إن شاء الله فقدموا الدراع وأخروا الحاسر وصفوا الخيل وأجنبوها وكونوا كقص الشارب وأعيرونا جماجمكم ساعة فإنما هو ظالم أو مظلوم وقد بلغ الحق مقطعه انكم يا أهل الشام ستلاقون غداً أهل العراق فكونوا على احدى ثلاث خصال: أما أن تكونوا قوماً طلبتم ما عند الله في قتال قوم بغوا عليكم فأقبلوا من بلادهم حتى نزلوا في بيضتكم. وأما أن تكونوا قوماً يطلبون بدم خليفتكم وصهر نبيكم وأما ان تكونوا قوماً تذبون عن نسائكم وأبنائكم فعليكم بتقوى الله والصبر الجميل أسأل الله لنا ولكم النصر، وان يفتح بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين فقام ذو الكلاع فقال يا معاوية: انا نحن الصبر الكرام . لا ننثني عند الخصام بنو الملوك العظام، ذوى النهى والأحلام لا يقربون الآثام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 137 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال معاوية: صدقت(21).

قال نصر بن مزاحم: وكانت التعبئة في هذا اليوم كالتعبئة في اليوم الذي قبله وحمل عبيد الله بن عمر بن الخطاب في قراء أهل الشام ومعه ذو الكلاع في حمير على قبيلة ربيعة وهي في ميسرة عليّ (عليه السلام) فقاتلوا قتالاً شديداً فجاء زياد بن حصفة إلى قبيلة عبد القيس فقال لهم: لا بكر بن وائل بعد اليوم ان ذا الكلاع وعبيد الله بن عمر أبادا ربيعة فانهضوا لهم وإلاّ هلكوا فركبت عبد القيس غضاباً وجاءت كأنها غمامة سوداء فشدت أزر الميسرة، فتعاظم القتال فقتل ذو الكلاع الحميري قتله رجل من بكر بن وائل اسمه (خندف) فتضعضعت أركان حمير ولكنها ثبتت بعد مقتل ذو الكلاع تحارب مع عبيد الله بن عمر وتفتقت عقيلة (عبيد الله ) عن محاولة واهية فأرسل إلى الحسن بن عليّ (عليه السلام) ان لي إليك حاجة فألقني فلقية بالرغم من كونه في المعركة فقال له عبيد الله: إن أباك قد وتر قريشاً أولاً وآخراً وقد شنئه الناس فهل لك في خلعه فإن تتولى أنت هذا الأمر؟ فقال كلا والله لا يكون ذلك قط ثم قال يا ابن الخطاب والله لكأني أنظر إليك مقتولاً في يومك أو غدك، أما ان الشيطان قد زين لك وخدعك حتى أخرجك مخلقا بالخلوق (ترى نساء أهل الشام موقفك وسيصرعك الله ويبطحك لوجهك قتيلا

قال نصر بن مزاحم مستأنفاً قوله:

فوالله ما كان إلاّ بياض ذلك اليوم حتى قتل عبيد الله بن عمر وهو في كتيبة رقطاء تدعى الخضرية تشتمل على أربعة آلاف يرتدون ثياباً خضراً فمر الحسن (عليه السلام) فإذا رجل متوسد رجلا قتيلاً قد ركز رمحه في عينيه وربط فرسه برجله فقال الحسن (عليه السلام) لمن حوله: أنظروا من هذا؟ فإذا رجل من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 138 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

همدان متوسد عبيد الله بن عمر بن الخطاب مقتولا تحته وانه هو قاتله منذ أول الليل.

وقال الصلتان العبدي: ان قاتل عبيد الله بن عمر حريث بن جابر الحنفي كما كان قاتل ذي الكلاع الحميري. (خندف) بن بكر البكري(22) .

قال نصر بن مزاحم ان معاوية بن أبي سفيان قال لمن حوله من أصحابه حين قتل ذو الكلاع. لأنا أشد فرحاً بقتل ذي الكلاع حتى يفتح مصر لو فتحها، لأن ذا الكلاع كان يحجر على معاوية في أشياء كان يأمر بها ولا يملك جرأة على مخالفته.

قال نصر بن مزاحم: فلما قتل ذو الكلاع اشتدت الحرب وتساندت عك ولخم وجذام والأشعريين: يا مذحج من للنساء غداً إذا أفناكم الردى، الله، الله في الحرمات.. أما تذكرون نساءكم والبنات؟ أما تذكرون فارس والروم، ولقد أذن الله فيكم بالهلاك.

والقوم يتقاتلون وينحر بعضهم بعضاً ويتكادمون بالأفواه(23).

قال نصر بن مزاحم: وقال معاوية لعمر بن العاص، أما ترى يا أبا عبد الله ما قد صرنا إليه؟ كيف ترى أهل العراق غداً صانعين.. انا ليعرض خطر عظيم، فقال له: ان أصبحت غداً ربيعة وهم متعطفون حول عليّ (عليه السلام) تعطف الأبل حول فحلها لقيت منهم جلاداً صادقاً وبأساً شديداً، وكانت التي لا يتعزى لها، فقال معاوية: أيجوز انك تخوفنا يا أبا عبد الله؟ قال: انك سألتني فأجبتك فلما أصبحوا في اليوم العاشر أصبحوا وربيعة محدقة بعليّ (عليه السلام) احداق بياض العين لسوادها، ولما أصبح عليّ (عليه السلام) هذا اليوم جاء حتى وقف بين رايات ربيعة فقال عتاب بن لقيط البكري من بني قيس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 139 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثعلبة، يا معشر ربيعة حاموا عن عليّ (عليه السلام) منذ اليوم فإن أصيب فيكم افتضحتم، ألا ترونه قائماً تحت راياتكم؟ وقال لهم (شفيق بن ثور) يا معشر ربيعة ليس لكم عذر عند العرب، ان وصل إلى عليّ (عليه السلام) وفيكم رجل حي فامنعوه اليوم واصدقوا عدوكم اللقاء فإنه حمد الحياة تكسبونه. فتعاهدت ربيعة وتحالفت بالأيمان العظيمة منها سبعة آلاف على ألا ينظر رجل منهم خلفه حتى يردوا سرادق معاوية. فقاتلوا ذلك اليوم قتالاً شديداً لم يكن قبله مثله وأقبلوا على سرادق معاوية فلما نظر إليهم قد أقبلوا قال:

إذا قلت قد ولت ربيعة أقبلت *** كتائب منها كالجبال تجالد

ثم قال لعمرو: يا عمرو ما ترى؟ قال: أرى ألا نحنث أخوالي اليوم فقام معاوية وحلى لهم سرادقه ورحله وخرج هارباً عنه لائذاً ببعض مضارب العسكر في أخريات الناس فدخله فانتهبت ربيعة سرادقه ورحله، وبعث إلى خالد بن المعمر انك قد ظفرت، ولك امرة خراسان ان لم تتم، فقطع خالد القتال ولم يتمه وقال لربيعة قد كبرت ايمانكم فحسبكم فلما كان عام الجماعة وبايع الناس معاوية أمره معاوية على خراسان وبعثه إليها فمات في الطريق قبل أن يبلغها.

قال نصر بن مزاحم في حديث عمر بن سعد : ان عليّاًً (عليه السلام) صلى في ربيعة هذا اليوم ثم زحف بهم، فلما أبصروه قد خرج استقبلوه بزحوفهم فاقتتلوا قتالاً شديداً ثم ان خيل أهل الشام حملت على خيل أهل العراق فاقتطعوا من أصحاب عليّ (عليه السلام) ألف رجل أو أكثر فأحاطوا بهم، وحالوا بينهم وبين أصحابهم فلم يعودوا يرونهم، فنادى عليّ (عليه السلام) يومئذ ألا رجل يشتري نفسه لله ويبيع دنياه بآخرته؟ فأتاه رجل من قبيلة (جعف) يقال له عبد العزيز بن الحارث على فرس أدهم كأنه غراب مقنع بالحديد،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 140 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لا يرى منه إلاّ عيناه فقال: يا أمير المؤمنين مرني بأمرك، فو الله لا تأمرني بشيء إلا صنعته؟ فقال (عليه السلام):

سمحت بأمر لا يطاق حفيظه *** وصدقا واخوان الصفاء قليل

جزاك اله الناس خير فإنه *** لعمرك فضل ما هناك جزيل

يا أبا الحارث قد شد الله ركنك، احمل على أهل الشام حتى تأتي أصحابك فتقول لهم: ان أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: هللوا وكبروا من ناصيتكم ونهلل نحن ونكبر من ها هنا واحملوا من جانبكم ونحمل نحن من جانبنا على أهل الشام.

فضرب الجعفي فرسه حتى إذا أقامه على أطراف سنابكه حمل على أهل الشام المحيطين بأصحاب عليّ (عليه السلام) فطاعنهم ساعة وقاتلهم فأفرجوا له حتى خلص إلى أصحابه فلما رأوه استبشروا به وفرحوا وقالوا: ما فعل أمير المؤمنين؟ قال: صالح ويقرئكم السلام ويقول لكم: هللوا وكبروا واحملوا حملة شديدة من جانبكم ونهلل نحن ونكبر من جانبنا ففعلوا ما أمرهم به وحمل على أهل الشام وحملوا هم من وسط أهل الشام فانفرج القوم عنهم وخرجوا ما أصيب منهم رجل واحد، ولقد قتل من فرسان الشام يومئذ زهاء سبعمائة انسان بين الحملتين فقال عليّ (عليه السلام) من أعظم الناس اليوم غناء؟ قالوا: أنت يا أمير المؤمنين فقال : كلا ولكنه الجعفي هذا(24).

في خلال مارك صفين استغل معاوية كل مكيدة تطرأ على خاطره لتقوية جانبه الحربي في الميدان ولترميم شأنه الرئاسي في أنظار جيشه بالحرب ضد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ  ص 141 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أمير المؤمنين. ولقد طالما دس يده دساً خيانياً في بيت أموال المسلمين واستحل منه أموالاً يبددها كيفما شاء على ذوي المطامع من أتباعه وزعماء جيشه ابقاء على ولائهم له، كما وقد حاول أن يستدرج أبعاضاً من رجال عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بمواعيد رجراجة مغرية بأن يجعلهم أمراء في الأقاليم الإسلامية إذا انتصر في حرب صفين.

وفي ذلك الزمن نفسه كان يتباكى عند سنوح وقت التباكي على مقتل عثمان بن عفان ليخدع بذلك جميع المغفلين من عسكره بأنه يروم الانتقام معهم لمقتل عثمان بن عفان خليفة المسلمين في المدينة.

ولكن مكائده هذه تلوثت بالاخفاق في حين بقى عمرو بن العاص وجماعة من نظرائه لا يثين يؤازرون معاوية متورطين في الحرب لا يملكون لأنفسهم عذراً شريفاً يبررون به خروجهم منها نادمين مستغفرين.

وكذلك من الأحداث المعيبة التي عرضت لمعاوية في صفين هزائمه الشخصية بمشهد أنصاره وأعدائه عندما كان يهاجمه مهاجمون من أنصار عليّ (عليه السلام) فيهرب منهم ركضاً فيختبىء عنهم بين المخيمات أو خلف جنوده ولا يعود إلى مجلسه أو موقفه من جديد حتى يخبروه بزوال المحاصر عنه حينذاك.

ومن أعجب الأحداث التي وقعت له مراراً في صفين جبنه الواضح عن مبارزة عليّ (عليه السلام) كلما دعاه إلى المبارزة ليقتل أحدهما الآخر فيصفو الأمر للآخر وحده من غير أن يتعرض هنالك المسلمون للقتل بينهما في كل يوم فيمتنع معاوية عن اجابة دعوة الإمام عليّ (عليه السلام) بحجة انه يريد أن يكون في مستقبل الأيام رئيساً مرموقاً على الامبراطورية الإسلامية.

قال نصر بن مزاحم : حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الشعبي عن صعصعة بن صوحان قال: برز في بعض أيام صفين رجل من حمير من آل ذي يزن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 142 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اسمه كريب بن الصباح ليس في الشام يومئذ رجل أشهر بالباس والنجدة منه، فنادى من يبارز؟ فخرج إليه المرتفع بن الوضاح الزبيدي فقتله الحميري، ثم نادى من يبارز؟ فخرج إليه الحارث بن الحلاج فقتله، ثم نادى: من يبارز؟ فخرج إليه عابد بن مسروق الهمداني فقتله، ثم رمى بأجسادهم بعضها فوق بعض، وقام عليها بغياً واعتداء ونادى من يبارز؟ فخرج إليه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وناداه يا كريب ويحك إني أحذرك الله وبأسه ونقمته وأدعوك إلى سنّة الله وسنّة رسوله ويحك لا يدخلنك معاوية النار فكان جوابه له ان قال ما أكثر ما سمعت منك هذه المقالة ولا حاجة إلينا فيها أقدم إذا شئت من يشتري سيفي وهذا أثره.

فقال عليّ (عليه السلام) : لا حول ولا قوة إلاّ بالله، ثم مشى إليه فلم يمهله ان ضربه ضربة خر منها قتيلا يشحط في دمه. ثم نادى؟ من يبرز؟ فبرز إليه المطاع ابن مطلب العنسي فقتله ثم نادى من يبرز؟ فلم يبرز إليه أحد. فنادى يا معشر المسلمين الشهر الحرام بالشهر الحرام، والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله، واعلموا ان الله مع المتقين ويحك يا معاوية هلم إليَّ فبارزني ولا يقتلن الناس فيما بيننا فقال عمرو بن العاص اغتنمه منتهزا قد قتل ثلاثة من أبطال العرب وإني أطمع أن يظفرك الله به. فقال معاوية والله لن تريد إلا أن أقتل فتصيب الخلافة بعدي، اذهب إليك عني فليس مثلي يخدع(25).

قال نصر بن مزاحم: خطب عبد الله بن العباس أهل العراق في صفين فقال: الحمد لله ربّ العالمين الذي دحا تحتنا سبعاً. وسمكن فوقنا سبعا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 143 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وخلق فيما بينهن خلقا، وأنزل لنا منهن رزقا ثم جعل كل شيء قدرا يبلى ويفنى غير وجهه الحي القيوم الذي يحيا ويبقى، ان الله تعالى بعث أنبياءه رسلاً فجعلهم حججا على عباده عذرا او نذرا، لا يطاع إلاّ بعلمه واذنه بمن بالطاعة على من يشاء من عباده ثم يثبت عليها، وبعض يعلم منه فيعفو ويغفر بحلمه. لا يقدر قدره، ولا يبلغ شنىء مكانه، أحصى كل شيء عددا، وأما بكل شيء علماً، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّداً عبده ورسوله امام الهدى والنبي المصطفى وقد ساقنا قدر الله إلى ما ترون حتى كان مما اضطرب من حبل هذه الأمة وانتشر من أمرها ان معاوية بن أبي سفيان وحد من طغام الناس أعواناً على عليّ (عليه السلام) ابن عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وصهره. وأول ذكر صلى معه بدري قد شهد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) كل مشاهده التي فيها الفضل ومعاوية مشرك كان يعبد الأصنام والذي ملك الملك وحده وبان به، وكان أهل لقد قاتل عليّ بن أبي طالب مع رسول الله وهو يقول: صدق الله ورسوله ومعاوية يقول كذب الله ورسوله فعليكم بتقوى الله، والجد والحزم والصبر والله انا لنعلم انكم لعلى حق وان القوم لعلى باطل فلا يكونن أولى بالجد على باطلهم منكم في حقكم وأنا لنعلم ان الله سيعذبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم الله أعنا ولا تخذلنا وانصرنا على عدونا ولا تحل عنا وافتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين(26).

وروى ابن ديزبل في كتاب صفين قال: كان عمرو بن العاص في صفين إذا مر عليه رجل من أصحاب عليّ (عليه السلام) فسأل عنه فأخبروه به قال: يرى عليّ ومعاوية أنهما بريئان من دم هذا.

وقال ابن ديزبل: وروى ابن وهب عن مالك بن أنس، قال: جلس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 144 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عمرو بن العاص بصفين في رواق، وكان أهل العراق يدفنون قتلاهم وأهل الشام يجعلون قتلاهم في العباء والاكيسة يحملونهم فيها إلى مدافنهم فكلما مر عليه برجل قال من هذا؟ فيقال: فلان ، فقال عمرو: كم من رجل أحسن في الله، عظيم الحال لم ينج من قتله عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.

قلت ليت شعري لم برأ نفسه وكان رأساً في الفتنة بل لولاه لم تكن ولكن الله تعالى أنطقه بهذا الكلام وأشباهه ليظهر به بذلك شكه وإن لم يكن على بصيرة من أمره(27).

قال: نصر بن مزاحم وحدثنا يحيى بن يعلى عن الأصبغ بن نباتة قال جاء رجل إلى عليّ (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء القوم الذين نقاتلهم فإنما الدعوة واحدة، والرسول واحد، والصلاة واحدة، والحج واحد فماذا نسميهم قال سمهم بما سماهم الله في كتابه، قال: ما كل ما في الكتاب أعلمه، قال: أما سمعت الله تعالى يقول: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض... إلى قوله ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر. فلما وقع الاختلاف كنا نحن أولى بالله وبالكتاب وبالنبي وبالحق فنحن الذين آمنوا وهم الذين كفروا وشاء الله قتالهم فقاتلوهم بمشيئته وإرادته(28).

ولما كان ما قبل يوم أو يومين من ليلة (الهرير) خرج رجل من أهل الشام ونادى فيما بين الجيشين المتقابلين يا أبا الحسن يا عليّ بن أبي طالب ابرز لي ملياً فبرز إليه ودنا منه غاية الدنو فقال له يا عليّ ان لك قدما في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 145 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإسلام وهجرة آنفة فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن الدماء وتأخير هذه الحرب حتى ترى رأيك فقال له عليّ (عليه السلام): وما ذاك قال ترجع إلى عراقك وتخلي بينك وبين أهل العراق ونرجع إلى شامنا فنخلي بيننا وبين أهل الشام؟ فقال له عليّ (عليه السلام) : لقد عرفت انك إنما عرضت هذه نصيحة وشفقة ولقد أهمني هذا الأمر وأسهرني وضربت أنفه وعينه فلم أجد إلا القتال أو الكفر بما أنزل على محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) ان الله تبارك وتعالى لم يرض من أوليائه ان يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة الأغلال في جهنم فرجع الشامي وهو يسترجع بائساً فيبدو من سياق هذه المواجهة الغامضة ان معاوية بن أبي سفيان وأنداده كعمرو بن العاص وبسر بن أرطاة ومروان بن الحكم قد وجدوا معارك صفين قد اشتدت يوماً بعد يوم حتى أوشكت ان تثير اليأس والجزع في نفوس الكثيرين من أهل الشام فأجمعوا الرأي على اختيار نية الإمام (عليه السلام) ومدى هدفه في صفين وأرادوا أن يمكروا به ويستطلعوا رأيه كذلك فإن جنح إلى السلم أذاعوا عنه بأنه تهافت أمامهم ضعفاً، وان استمر على القتال أسندوا إليه صفة العدوان عليهم وزيادة على ذلك فإنهم يرومون اكتساب موافقته على اكسابهم قسماً من بلاد الإسلام كما لو كانت بلاد الإسلام عرضة للمساومة والاستغلال ولتكون سابقة نافذة تسيغ نظائرها بعد أحيان من الدهر.

وجدير بنا هذا الحد الموجز من تاريخ معارك صفين أن نذكر بأن أمير المؤمنين (عليه السلام) غلس بالناس في صلاة الغداة يوم الثلاثاء عاشر ربيع الأول سنة 37 للهجرة ثم استعد للزحف بجيشه على أهل الشام فخرج مالك الأشتر بكامل لامته الحربية وشرع ينظم مصاف الجيش الإسلامي تحت رايات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 146 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

معاشرهم وقبائلهم ثم أنشأ يخطب فيهم فقال: الحمد لله الذي جعل فيكم ابن عم نبيكم أقدمهم هجرة وأولهم إسلاماً سيف من سيوف الله صبه على أعدائه فانظروا إليَّ أيهاالناس إذا حمي الوطيس وثار القتام وتكسرت المرآن أي الرماح وجالت الخيل بالأبطال فلا أسمع إلاّ غمغمة أو همهمة ثم حمل على أهل الشام وكسر فيهم رمحه ثم عاد وأسفر عن وجهه فإذا هو مالك الأشتر فأمرهم بالهجوم بعد أمر الإمام عليّ (عليه السلام) بالهجوم على جيش الشام فتراموا بالنبال حتى فنيت ثم تطاعنوا بالرماح حتى تقصفت ومشى بعضهم إلى بعض بالسيوف وعمد الحديد فلم يسمع السامع إلاّ غمغمة القوم وتكادم الأفواه وصليل السيوف في الهام ووقع الحديد بعضه على بعض وهو أشد هؤلاء في صدور الرجال من الصواعق في الحرب وأنفق في ذلك اليوم كسوف الشمس فضاعفت من رهبة المحاربين ووجهت أبصارهم نحو السماء ومما ظهرت فيها من عظمة الله وقدرته(29).

واستأنفوا القتال على هذا النحو من صلاة الغداة إلى نصف الليل وتعاقبت مواقيت أربع صلوات ولم يصلوا لله صلاة إلاّ تكبيراً لاشتداد اشتغالهم بالحرب ومخاطر الحرب حتى ارتفاع الضحى من اليوم التالي وافترقوا جيشاً عن جيش وتركوا وراءهم زهاء سبعين ألف قتيل في ذلك اليوم وتلك الليلة وهي ليلة الهرير.

والأشتر في ميمنة عسكر الإمام (عليه السلام) وابن عباس في الميسرة وعلي بن أبي طالب في القلب وجميعهم لا ينسون ذكر الله تعالى.

لقد كان الأشتر يومئذ أعجوبة في البطولة النادرة بعد أمير المؤمنين عند

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 147 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أصحابه وعند أهل الشام، فلقد أسلف أكثر من يوم وليلة، على التعاقب وباستمرار يهاجم أعداءه بلا هوادة وهو لا يشعر كلا بغشاوة ولا ضعفا يخامر اخلاصه للدين وعندما أوشك على الاقتراب من جنود أعدائه الذي ربطوا سيقانهم بالأقمشة أن لا يتزحزحوا والتفت إلى جموع أنصاره وقال لهم : شدوا فداكم عمي وخالي شدة ترضون بها الله وتعزون بها الإسلام ثم أمر حامل رايته حيان بن هوذة النخعي أن يتقدم بها وهنالك وقعت أعظم واقعة بجيش معاوية وجعل الأشتر يصيح أمام جيشه (تقدموا فداكم عمي وخالي) ازحفوا قيد رمحي هذا فإذا فعلوا وتكسرت الرماح وتقطعت السيوف وشاهت مرامي السهام واشتد وقع القضبان الحديدية بعضها على بعض أو على الرؤوس وتهاوت الخيول المقتولة أو الجريحة بين جثث القتلى واضطربت قلوب الناس من مخافة الله تعالى بعدما بدأت الشمس تخرج من كسوفها وبينما كانت شدائد المعركة تتعاظم خرج رجل من أهل الشام ينادي بين الصفين يا أبا الحسن يا عليّ ابرز لي فخرج إليه أبو الحسن ليرى ماذا يريد الرجل ولما اقترب منه واختلفت أعناق دابتيهما قال الرجل أبا عليّ ان لك قدما في الإسلام والهجرة فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن هذه الدماء وتأخير هذه الحروب حتى ترى من رأيك؟ فقال له أبو الحسن (عليه السلام) وما ذاك؟ قال: ترجع إلى عراقك فنخلي بينك وبين أهل العراق وترجع إلى شامنا فنخلي بيننا وبين أهل الشام فقال له عليّ (عليه السلام) لقد عرفت انك إنما عرضت هذا نصيحة وشفقة ولقد أهمني هذا الأمر وأسهرني وضرمت أنفه وعينيه فلم أجد إلا القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) ان الله تبارك وتعالى شأنه لم يرض من أوليائه أن يعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 148 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فوجدت القتال أهون عليَّ من معالجة الأغلال في جهنم فرجع الشامي وهو يسترجع، من المحتمل جداً ان معاوية بن أبي سفيان كان حينذاك هو مرسل ذلك الرجل عمداً إلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بتوجيه تشاوري مع عمرو بن العاص ابتغاء مغنم ينشدانه سراً، أو كسباً لنهزة كلامية قد تصدر من عليّ (عليه السلام) يتمسكون بها ويذيعون صفوتها المنافعة إياهم مع زيادة في النميق بين معاشر الناس في تلك الظروف الحربية الصعبة هذه من الجهة.

وأما من جهة أخرى فان الإمام (عليه السلام) كان رجلاً واقعياً حقا ولو شاء لأخبر ذلك الرجل – ان لم يكن خبيرا من قبل بأنه أي الإمام عليّ (عليه السلام) قد عرض مثل هذا الاقتراح أكثر من مرة على معاوية فرفضه ارتجالا ليظهر نفسه امام قومه بأنه متحقق ومتأكد من عاقبة انتصاره في الحرب، وانه لا يسعه إلاّ أن ينطق من دست القوة والانتصار مع عليّ بن أبي طالب ولكنه أحسن بعدئذ عند أواخر مساعيه في موقع التهافت والحيرة يلتفت يمينا ويساراً عن أن يجد منقذا يتيح له نجاحاً بأي شكل من الأشكال كارساله هذا الرجل المذكور آنفاً إلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).

واستمر القتال مبيدا مذهلاً لرجال كلا الفريقين المتقابلين، إلاّ ان الابادة في عساكر معاوية كانت أشد وأنكى، فلقد كان (ابن عباس) وقتذاك في مسرة الإمام عليّ (عليه السلام) وكان مالك الأشتر في الميمنة وهو لا ينفك يدور أيضاً بين صفوف أصحابه فيأمر كل قبيلة أو كتيبة من القراء ان يحترزوا من شرور التي تليها بينما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) في القلب يتابع اتجاهات راية الأشتر ويمده بالرجال حتى أصبح الصباح والمعركة الطاحنة وراء رايته فتصارخت المشيخة من أهل الشام.

يا معشر العرب الله، الله في الحرمات من النساء والبنات ، فصاح في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 149 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وجوههم رجل من العراق، وأين كانت صرخاتكم هذه قبل اليوم؟

وما كاد ينبلج الصباح حتى بلغ القتال أوجا لم يبلغه من قبل، فصاح الأشتر بين كتائب أنصاره : ألا من يشري نفسه لله ويقاتل مع الأشتر حتى يظهر أو يلحق بالله؟ فلم يزل الرجل من جنوده يخرج إليه ويقاتل معه حتى بلغ الحماسة في نفس الأشتر حدا لم يكد يوصف فنزل على ظهر جواده وضربه على وجهه ثم جرد حسامه وانطلق راكضا على قدميه نحو جموع أهل الشام على حين كانت الحرب تدور هكذا على أشدها أمام معكسر معاوية بن أبي سفيان، وكان معاوية قد أرسل عمرو بن العاص يأمره أن يقدم قبيلة عك مع الأشعريين إلى من بأزائهم من جنود الإمام (عليه السلام) فأرسل إليه عمرو بن العاص بأني مضطر إلى أن أقدم قبيلة عك وحدها إلى مقارعة قبيلة همدان.

أما الأشعريون فسوف أرى بعدئذ أين أبعث بهم من الميدان ثم مضى عمرو بن العاص إلى قبيلة (عك) فقال لهم: يا معشر عك ان عليّاً قد عرف انكم حي من أحياء الشام فعبأ لكم همدان وهم أعداؤكم من أهل العراق فامنحوا جماجمكم ساعة من أصيل هذا اليوم لكسب الظفر، فأجابه مسروق العكي سترى ما يقر عينك

ثم انصرف إلى قومه واستثار هممهم للوغى فقال شاعرهم:

همدان همدان وعك وعك *** سيعلم اليوم من الأرك

وانطلقوا متساندين إلى الوغى واشتبكوا أعنف اشتباك مع الهمدانيين فنادى سعيد بن قيس الهمداني بالهمدان خدموا القوم أي اضربوهم بالسيوف على سيقانهم فنادى أين مسروق العكي في قومه بركا كبرك الكمل أي ابركوا كما يبرك الجمل تحاشياً من سيوف الهمدانيين فقال شيخ من همدان:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 150 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يا لبكيل لخمها وحاشد *** نفسي فداك طاعنوا وجالدوا

حتى نخر في الوغى القماحد *** وارجل تتبعها السواعد

بذاك أوصى جدكم والوالد

فتقدم رجل من عك وهو يقول:

يدعون همدان وندعو عكا *** ان خدم القوم فبركا بركا

لا تدخلوا نفسي عليكم شكا

فترك القوم رماحهم جانباً وجردوا سيوفهم فجالدوا حتى أدركوا الليل فاقسمت همدان انها لن تنصرف حتى تنصرف عك وأقسمت عك مثلهم فلما علم معاوية جليلة الأمر أمر قبيلة عك ان تتصرف مراعاة لقسم الهمدانيين قبلهم، فقال عمرو بن العاص:

ان عكا وحاشدا ويكيلا *** كأسود الضراب لافت أسودا

وحبا القوم بالقنا وتساقوا *** بضبات السيوف موتاً عتيداً

يعلم الله ما رأيت من القوم *** ازورارا ولا رأيت صدودا

غير ضرب فوق الطلى وعلى الهام *** وقرع الحديد يعلوا الحديدا

ولقد قال قائل خدموا السوق *** فخرت هناك عك قعودا

كبراك الجمال أثقلها الحمل *** فما تستقل إلاّ وجيدا

وجمع أمير المؤمنين (عليه السلام) قبيلة همدان فقال: يا معشر همدان أنتم درعي ورمحي يا همدان ما نصرتم إلاّ الله ولا أجبتم غيره فقال سعيد بن قيس أجبنا الله وأنت، ونصرنا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في قبره، وقاتلنا معك من ليس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 151 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مثلك، فارم بنا حيث أحببت. وفي مناسبة ذلك اليوم قال عليّ (عليه السلام):

لو كنت بواباً على باب جنة *** لقلت لهمدان ادخلي بسلام

وكانت الحرب كلما تمادت وتعاقبت أيامها يتشاءم معاوية في قرارة نفسه بل ويكاد يقنط من الفوز في نهايتها الغامضة بما كان يبغي ويصبو إليه، ولذلك أنشأ يركن إلى اتخاذ كل حيلة ومكيدة تتيح له سبيلا إلى الفوز بما كان يبغي ويصبوا إليه من قبل ففي خلال احدى المعارك الضارية استظهرت كتائب ربيعة بقيادة خالد بن المعمر على جل المدافعين عن فسطاط معاوية فأرسل خالد ان انصرف عني مع قومك ولك امارة خراسان ما بقيت على قيد الحياة فتوقف خالد عن استئناف الزحف وهو على مقربة من صفوف المدافعين عن فسطاط معاوية بحجة الاكتفاء بما أحرزه قومه من انتصار في ذلك اليوم هذه واحدة من مكائده.

وأما الأخرى فإنه استدعى إليه عتبة بن أبي سفيان في صفين وألقى إليه اسلوبا ماكرا لمقابلة الأشعث بن قيس وأوصاه أن يحاوره ويداوره عسى أن يستمليه إليه ويحظى باضعاف جناح عسكري من أجنحة الإمام عليّ (عليه السلام) فمضى عتبة بن أبي سفيان وقابل الأشعث بن قيس فقال له ان معاوية لو شاء أن يلقى رجلاً غير عليّ بن أبي طالب للقيك.. لأنك أنت سيد أهل اليمن وغرة جيش أهل العراق وصهر عثمان بن عفان وليس مقامك كمقام غيرك. فأما الأشتر فقتل الخليفة المظلوم بتحريض عدي بن حاتم وأما سعيد بن قيس فقد تابع عليّاًً في دينه ، وأما من سوى أولئك فلا يعرفون غير التقليد.

وأما أنت فقد حاميت عن أهل العراق تكرما، وحاربت أهل الشام حمية، وقد بلغنا والله منك وبلغت منا ما أردت، وانا لا ندعوك إلى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 152 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التخلي عن عليّ (عليه السلام) ونصر معاوية ولكنا ندعوك إلى البقية التي فيها صلاحك وصلاحنا.

فقال الأشعث بن قيس: أما قولك ان معاوية لا يلقى إلاّ عليّاًً فإن لقيني لما عظم عني ولا صغرت عنه، فإن أحب أن أجمع بينه وبين عليّ (عليه السلام) فعلت وأما قولك إني رأس أهل العراق وسيد أهل اليمن فإن الرأس المتبع والسيد  المطاع هو عليّ بن أبي طالب وأما ما سلف من عثمان إليَّ فوالله ما زادني صهره شرفاً ولا عمله عزا وأما عيبك أصحابي فان هذا لا يقربك مني ولا يساعدني عنهم أما محاماتي عن أهل العراق فمن نزل بينا حماه وأما البقية فلستم بأحوج إليها منا، وسترى رأينا فيها.

فلما بلغ معاوية كلام الأشعث قال: يا عتبة لا تلقه بعدها فإن الرجل عظيم عند نفسه وإن كان قد جنح للسلم وشاع في أهل العراق ما دار بين عتبة والأشعث.

وأما الثانية:

فإن معاوية أراد أن يخدع عبد الله بن عباس فاختلى بعمرو بن العاص وقال له ان رأس الناس بعد عليّ بن أبي طالب عبد الله بن عباس فلو ألقيت إليه كتاباً لعلك ترفه به، فإنه ان قال شيئاً لم يخرج عليّ عنه، وقد أكلتنا الحرب ، ولا أرانا نصل العراق إلاّ بهلاك أهل الشام فقال له عمرو: ان ابن عباس لا يخدع ولو طمعت فيه طمعت في عليّ فقال معاوية: على ذلك فاكتب إليه فكتب إليه عمرو بن العاص: أما بعد فإن الذي نحن وأنتم فيه ليس بأول أمر قاده البلاء، وأنت رأس هذا الجمع بعد عليّ، فانظر فيما بقي ودع ما مضى، فوالله ما أبقت هذه الحرب لنا ولا لكم حباء ولا صبراً، واعلموا ان الشام لا تملك إلا ّ بهلاك العراق وان العراق لا تملك إلاّ بهلاك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 153 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الشام وما خيرنا بعد هلاك أعدادنا منكم؟ وما خبركم بعد هلاك أعدادكم منا؟ ولسنا نقول ليت الحرب عادت، ولكنا نقول ليتها لم تكن وإن فينا من يكره القتال، كما ان فيكم من يكرهه، وإنما هو أمير مطاع أو مأمور مطيع أو مؤتمن مشاور وهو أنت، وكتب في أسفل الكتاب:

طال البلاء وما يرجى له أس *** بعد الإله سوى رفق ابن عباس

ياابن الذي زمزم سقيا الحجيج له***اعظم بذلك من فخر على الناس

انظر فدى لك نفسي قبل قاصمة *** للظهر ليس لها راق ولا آس

إني أرى الخير في سلم الشام لكم *** والله يعلم ما بالسلم من باس

فيها التقى وامور ليس يجهلها *** إلاّ الجهول وما النوكى كأكياس

فأتى ابن عباس بالكتاب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فضحك وقال: قاتل الله بن العاص ما أغراه بك يا ابن عباس أجبه وليرد عليه شعره الفضل بن العباس فإنه شاعر فكتب ابن عباس إلى عمرو: أما بعد فإني لا أعلم رجلاً من العرب أقل حياء منك انه مال بك معاوية إلى الهوى، وبعثه دينك بالثمن اليسير، ثم خطبت بالناس في عشوة طمعاً في الملك، فلما لم تر شيئاً أعظمت الدنيا اعظام أهل الذنوب وأظهرت فيها النزاهة نزاهة أهل الورع فإن كنت ترضى الله بذلك فدع مصر وارجع إلى بيتك وهذه الحرب ليس فيها معاوية كعليّ، ابتدأها عليّ بالحق وانتهى فيها إلى الغدر وابتدأها معاوية بالبغي وانتهى فيها إلى السرف وليس أهل الشام وهم خير منه وليس أنا وأنت منها بسواء وأردت الله وادت أنت مصر، فإن ترد شر لأسبقك به وإن ترد خيراً لاستقبنا إليه ثم قال لأخيه الفضل: يابن أم أجب عمرا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 154 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فقال الفضل:

يا عمرو حسبك من خدع ووسواسى***فاذهب فليس لداءالجهل من آس

الا تواتر طعن في نحور كمو *** يشجي النفوس ويشفي نخوة الراس

هذا الدواء الذي يشفي جماعتكم *** حتى يطيعوا عليّاًً وابن عباس

أما عليّ فإن الله فضله *** بعضل ذي شرف عال على الناس

ان تعقلوا الحرب نعقلها مخيسة *** أو تبعثوها فانا غير انكاس

قد كان منا ومنكم في عجاجتها *** ما لا يرد وكل عرضة الباس

قتلى العراق بقتلى الشام ذاهبة *** هذا بهذا وما بالحق من باس

لا بارك الله في مصر فقد جلبت *** شرا وحظك منها حسوة الكأس

ثم عرض الشعر والكتاب على عليّ (عليه السلام) فقال ألا أراه يجيبك بشيء بعدها أبداً إن كان يعقل ولعله يعود فتعود عليه .. فلما انتهى الكتاب إلى عمرو بن العاص أتى به إلى معاوية فقال: أنت الذي دعوتني إلى هذا ما كان اغناني وإياك عن بني عبد المطلب، فقال: ان قلب ابن عباس وقلب عليّ قلب واحد وكلاهما ولدا عبد المطلب، وإن كان قد خشن فقد لان، وإن كان قد تعطم وعظم صاحبه فقد قارب وجنح إلى السلم وما لنا والاستغراق في عرض جميع المكائد الشاذة التي ابتكرها يومذاك معاوية بن أبي سفيان لتفريق المسلمين عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في أيام صفين لكي يتقيض له أن يزعم بعدها لأهل الشام بأن عليّاًً ليس حقيقاً بالاخلاص له، ولا جديراً بامارة المؤمنين وان خير برهان على ذلك تنصل كثير من الزعماء ورؤساء القبائل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 155 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عنه من غير تبرير واقع ولا حياء اجتماعي، ولعل خير دليل يؤيد ما نذهب إليه عن مكائد معاوية في صفين (مكيدة رفع المصاحف) يوم أحس بقرب انهياره وانكسار جيشه الغافل عن صحة مطالبته (بدم عثمان بن عفان) وربما يكون من أبرز العجائب انه لم يحصل يومذاك من بين أهل الشام رجل ثقيف يعترض على معاوية قائلاً له: بأن مطالبته بدم عثمان بنعفان لا يصح منه ولا يتحقق بحال من الأحوال ما لم يبايع أولاً للخليفة الشرعي (عليّ بن أبي طالب) ثم يتهم لديه من شاء اتهامه أو ينبري فيتهم من يصح اتهامه من المسلمين باراقة دم الخليفة (عثمان بن عفان) ولكن معاوية قد نفذ مقاصده وأصاب مراميه في الشام مرتجلاً لها ومغمضاً اياها أبرع تغميض حتى حضر مع جيشه في صفين وأحدث فيها أفضع المقاتلة بين جيش الإمام عليّ (عليه السلام) وبين جيشه، وألقى بين سائر الأمة الإسلامية مبادئ الفرقة والأنقسام من يومذاك إلى يومنا هذا المعلوم.

ومهما يكن من أمر ففي غداة يوم الثلاثاء عاشر شهر ربيع الأول من السنة السابعة والثلاثين للهجرة غلس الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) في صلاة الغداة ثم نهض فباشر الزحف على جيش الشام وكان وقتئذ على ميمنة جيشه مالك الأشتر وعلى ميسرة جيشه عبد الله بن عباس وهو في القلب مشرف على سائر الميدان بينما انتظم الناس على حسب اعلامهم وراياتهم المتمايزة في خلال الحروب، ثم اضطرم الاشتباك بين الجيوش المتقاتلة كأشد وأنكى اضطرام، فلقد باكروا القتال جميعاً بالنبال والرماح حتى فنيت من أيديهم ثم تجالدوا بالسيوف حتى تثلمت فعمدوا إلى عمد الحديد ضرباً على الرؤوس والأكتاف حتى بان على أكثرهم سيماء الكلل والاعياء، فتعذر على الناس إذ ذاك أن يصلوا صلواتهم إلاّ بمجرد التكبير تحت قتر الأغيرة وتكاثف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 156 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

القتام ولم يجهر من حناجرهم غير الهمهمة المتهافتة و؟؟؟ العميقة، ولم يتوقف القتال بين الفريقين هوناً إلا حين وسعهم أن يذهبوا مستعينوا بأسلحة آخر تعويضاً عن التي تكسرت من قبل في المعركة.

أما الأشتر فقد بلغت فيه الشجاعة واستغلالها في الفتك بأعدائه وفي ارهاب قلوبهم حداً أضاف إلى شجاعته النادرة مهارة نادرة في القتل الذريع ونبث على هذا الغرار في (ليلة الهرير) في نهار اليوم التالي لها، وهو تارة يهاجم أعداءه وتارة أخرى يرتاد الميدان ما بين الميمنة والميسرة فيأمر كل قبيلة من قبائل أنصاره على التي تليها إلى ارتفاع الضحى وإلى أن أصبحت المعركة خلف ظهره تمور موراً بالموت الزؤام فأقبلت المشيخة من أهل الشام وقتذاك يتصارخون في خلال تلك الغمرات الرهيبة: (يا معشر العرب، الله ، الله في الحرمات من النساء والبنات) ولكن الأشتر جعل يزحف ويصيح متحمساً بأنصاره ازحفوا قيد رمحي هذا، فإذا زحفوا قال ازحفوا قاب هذا القوس فإذا فعلوا دعاهم إلى المزيد، ولما بلغ في الزحف ما أراد دعا بفرسه وركز رايته وأمر حاملها وكان (حيان بن هوذة النخعي) وأمره أن يتقدمه نحو أعدائه وهو يصيح: اصبروا يا معشر المؤمنين فقد حمي الوطيس ولقد شاءت المقادير أن يقتل وقتئذ، حيان بن هوذة النخمي مقداماً ناصع الذكر والجبين في تلك المعركة.

أما عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقد كان في غضون تلك المعارك يعاني عرض شعورين متعارضين في نفسه، فهو ينظر تارة إلى جثث القتلى من مسلمي أهل الشام وأهل العراق فيحزن لمقتلهم ويتمنى لو لم تكن معارك صفين قد حدثت ليبقى أولئك القتلى أحياء على سطح الأرض قوة جاهزة متوافرة لصون الدين الإسلامي وتعزيره وتوسيع أرجائه في مشارق الدنيا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 157 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومغاربها وهو ينظر تارة أخرى إلى معاوية فيراه قد استجمع جيشاً من أهل الشام من بني أمية ومن رجال آخرين يبتغون جر المنافع كيفما يظفرون بها كعمرو بن العاص، ولا يعوقهم عن بلوغ ما يرومون إلاّ وجوده هو بالتعين ولذلك فانهم كانوا يضمرون له في دخائلهم أن يقتلوه لينفسح أمامهم طريق السيطرة على دست الخلافة وعلى الأقطار الإسلامية قطراً بعد قطر فيصبح الدين الإسلامي عرضة للضمور إن لم يصبح عرضة للزوال من جراء سكوته إذا سكت عن مقاصد معاوية ومطامع مناصريه الخفية عن الافتضاح. فعلي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يعاني من عرض هذين الشعورين المختلفين في طبيعتيهما ليلاً نهار غير انه كان قد آثر مكافحة معاوية بكل ذريعة متاحة لديه صيانة للدين الإسلامي من التعرض للأخطار.

أجل، ولهذا السبب قال عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) متسائلاً في اليوم الثاني قبل ليلة الهرير: حتى متى تترك هذين المعسكرين يتقاتلان ويتفانيان من غير أن يهتديا إلى سبيل رشيد لحسم المعارك بينهما؟ ثم اتجه نحو القبلة ورفع يديه نحو السماء وقال: يا الله، يا رحمن، يا واحد، يا أحد يا إله محمّد اللّهم إليك نقلت الأقدام وأفضيت القلوب ورفعت الأيدي وامتدت الأعناق وشخصت الأبصار وطلبت الحوائج انا نشكو إليك غيبة نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلم) وكثرة عدونا وتشتت أهوائنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، ثم التفت إلى من حوله من أنصاره وقال لهم سيروا على بركة الله ثم نادى: لا إله إلاّ الله والله أكبر كلمة التقوى. ثم تقدم أمام أنصاره واستمر يقاتل أعداءه فقتل في ذلك اليوم خمسمائة فارس منهم فلقد كان يخرج بسيفه ويعود به منحنياً إلى بعض أصحابه فيقول لهم: معذرة إلى الله وإليكم إذا ما رأيتم سيفي منحنياً وأروم منكم تقويمه ولقد هممت ان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 158 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أفلقه ولكن حجزني عنه إني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول كثيراً:

لا سيف إلاّ ذو الفقار *** ولا فتى إلاّ عليّ

وأنا أقاتل به دونه فكنا نأخذه فنقومه فيأخذه من أيدينا فيقتحم به في عرض الصف، فلا والله ما لبث بأشد منه نكاية في عدوه. ولقد خطب الناس في ذلك اليوم فقال: أيها الناس، قد بلغ الأمر بعدوكم ما قد رأيتم ولم يبق منهم إلاّ آخر نفس، وان الأمور إذا أقبلت اعتبر آخرها بأولها وقد صبر لكم القوم على غير دين حتى بلغنا منهم ما بلغنا وأنا غاد عليهم بالغداة أحاكمهم إلى الله عز وجل(30).

فبلغ ذلك معاوية بن أبي سفيان فدعا إليه عمرو بن العاص فقال له: يا عمرو إنما هي هذه الليلة حتى يغدو عليّ بن أبي طالب علينا بالفصيل فما ترى؟ قال أرى ان رجالك لا يقومون لرجاله، ولست أنت مثله فهو يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره، أنت تريد البقاء، وهو يريد الفناء، وأهل العراق يخافون منك ان ظفرت بهم وأهل الشام لا يخافون عليّاًً ان ظفر بهم ولكن ألق إليهم أمراً ان قبلوه اختلفوا وإن ردوه اختلفوا أدعهم إلى كتاب الله حكماً فيما بينك وبينهم فإنك بالغ به حاجتك في القوم فإني لم أزل أؤخر هذا الأمر لحاجتك إليه فقال معاوية صدقت وأصبح أهل الشام وقد رفعوا المصاحف على رؤوس الرماح وقلدوها الخيل والناس على راياتهم فاستقبلوا عليّاًً (عليه السلام) بمئة مصحف ووضعوها في كل مجنبة ثم وضعوا مئتي مصحف في مقدمة العساكر. وشدوا ثلاثة رماح جميعاً وربطو عليها مصحف المسجد الأعظم يمسكه عشرة أرهاط وجعلوا ينادون يا أهل العراق، كتاب الله بيننا وبينكم، يا عمشر العرب الله ، الله في نسائكم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 159 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وبناتكم فمن للروم؟ ومن للأتراك ومن لأهل فارس غداً(31).

إذا ما فنيتم ؟ الله الله في دينكم. وأقبل أبو الأعور السلمي حينذاك على يرذون أبيض، وقد وضع المصحف على رأسه ينادي: يا أهل العراق كتاب الله بيننا وبينكم، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): اللّهم إنك تعلم ما الكتاب يريدون، فاحكم بيننا وبينهم انك أنت الحكيم الحق المبين. عباد الله: أنا أحق من أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معبط وحبيب بن سلمة وابن سرح ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن. إني أعرف بهم منكم، صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال.

انها كلمة حق يراد بها باطل، انهم والله ما رفعوها حقا، انهم يعرفونها ولا يعلمون بها، وما رفعوها لكم إلاّ خديعة ومكيدة.

أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة، فقد بلغ  الحق مقطعه ولم يبق إلاّ أن يقطع دابر الذين ظلموا.

فجاءه زهاء عشرين ألفاً وقد اسودت جباههم من السجود يتقدمهم مسعر بن فدكي، وزيد بن حصين وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه باسمه المجرد ولا بأمرة المؤمنين.. يا عليّ أجب القوم إلى كتاب الله إذ دعيت إليه وإلاّ قتلناك كما قتلنا (عثمان بن عفان) فوالله لنفعلها إن لم تجبهم!! فقال لهم: ويحكم أنا أول من دعا إلى كتاب الله. وأول من أجاب إليه، وليس يحل لي، ولا يسعني في ديني ان أدعى إلى كتاب الله حقاً فلم أقبله، إني إنما أقاتلهم ليدنوا بحكم القرآن فإنهم قد عصواالله فيما أمرهم ونقضوا عهده ونبذوا كتاب الله، ولكن قد أعلمتكم

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 160 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

انهم قد كادوكم وانهم ليسوا يريدون العمل بالقرآن فأجابوه ان ابعث ليأتينك الأشتر.

وكان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على معسكر معاوية وكاد أن يدخله، فأرسل إليه الإمام (عليه السلام) يزيد بن هاني مضطراً ليعود إليه فأبى ورجع يزيد بن هاني إلى عليّ (عليه السلام) وأخبره بالرفض فارتفع الرهج وعلت الأصوات من قبل الأشتر وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق ودلائل الخذلان والأدبار على أهل الشام فقال له القوم المعترضون: ما نراك إلاّ أمرته بقتال القوم . أرأيتموني ساررت رسولي أو ناجيته إليس إني كلمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون، قالوا: فابعث إليه فليأتك وإلاّ فوالله اعتزلناك قال: ويحك ما يريج قل له أقبل إليَّ فإن الفتنة قد وقعت فأتاه فأخبره بالأمر فقال له الأشتر : الرفع هذه المصاحف؟ قال: نعم، قال أما والله لقد ظننت انها حين رفعت ستوقع اختلافاً وفرقة انها من مشورة ابن النابغة عمرو بن العاص، وقال ليزيد: ألا ترى إلى الفتح؟ ألا ترى إلى ما يلقون؟ ألا ترى إلى الذي يصنع الله لنا؟ أينبغي أن ندع هذا وننصرف عنه؟ فقال له (يزيد) أتحب انك ظفرت هاهنا وان أمير المؤمنين بمكانه الذي هو به لا يفرج عنه ويسلم إلى عدوه؟ قال: سبحان الله!!! والله ما أحب ذلك أبداً، قال: فإنهم قالوا: لترسلن إلى الأشتر فليأتيك أو لنقتلك كما قتلنا (عثمان) أو لنسلمك إلى عدوك!!!

فأقبل الأشتر فصاح بأهل الذل والوهن.. أحين علوتم القوم فظنوا أنكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها وقد والله تركوا ما أمر الله فيها وسنّة من أنزلت عليه فلا تجيبوهم أمهلوني فواقاً فإني قد أحسست بالفتح، قالوا: لا، قال: فامهلوني عدو الفرس فإني قد طمعت النصر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 161 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قالوا: اذن ندخل معك في خطيئتك، قال: فحدثوني عنكم وقد قتل أماثلكم وبقي أراذلكم متى كنتم محقين حيث كنتم تقتلون أهل الشام؟ فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون أم الآن محقون فقتلاكم الذين تنكرون فضلهم وكانوا خيراً منكم في النار؟ قالوا: دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم في الله، وندع قتالهم في الله أنا لسنا نطيعك، فأجتنبنا قال: خدعتم والله فانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم يا أصحاب الجباه السود، كنا نظن أن صلاتكم زهادة في الدنيا.. وشوق إلى لقاء الله، فلا أرى فراركم إلاّ إلى الدنيا من الموت . ألا قبحاً يا أشباه النيب الجلالة، ما أنتم برائين بعدها عزاً فابعدوا كما بعد القوم الظالمون، ثم التفت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال : يا أمير المؤمنين، احمل الصف على الصف يصرع القوم، فقالوا: ان عليّاًً أميرالمؤمنين قد قبل الحكومة ورضي بحكم القرآن، قال ان كان قد قيل ورضي أمير المؤمنين فقد رضيت بما رضى به(32).

لا شك في ان الذين رفضوا الأستمرار على استئناف الحرب وأثروا المهادنة في ذلك اليوم مع أعدائهم ولم يطيعوا لنصيحة أمير المؤمنين (عليه السلام) لمواصلة القتال كانوا خليطاً من أشباه الجبناء ذوي الآراء الانسياقية وراء كل ناعق، ولا يتورعون من التسرع في استيطان العواقب المتوقعة عنه آخر فكل مطلب بهيم دامس، ولولا ان ذلك كان كذلك لاستأجلوا الاستجابة للذي عرضه عليهم معاوية من رفع المصاحف حتى يمنعوا الروية فيه بعد يوم واحد على أقل تقدير وليبينوا ما فيه لهم من صالح وطالح أو ما فيه رضاء الله وسخطه، أو ما تقتضيه طبيعة الحرب القائمة بينهم منذ شهور، وإلاّ فما أسرع ما استجابوا لدعوة معاوية وعمرو بن العاص ومروان بن الحكم وهي دعوة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 162 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قد دبروها في ليل غدار وانطلقت المكيدة على فئة من أهل العراق.

فأقبل عدي بن حاتم الطائي فقال: يا أمير المؤمنين إن كان أهل الباطل لا يقومون بأهل الحق فإنه لم يصب عصبة منا إلاّ وقد أصيب(33) مثلها منهم وكل معشر مقروح ولكنا أمثل بقية وقد جزع القوم وليس بعد الجزع إلاّ ما تحب ، فناجز القوم فقام الأشتر النخعي فقال: ان معاوية لا خلف له من رجاله، ولك بحمد الله الخلف، ولو كان له مثل رجالك لم يكن له مثل صبرك ولا بصرك فاقرع الحديد بالحديد، واستعن بالله الحميد، وقام عمرو بن الحمق الخزاعي فقال: يا أمير المؤمنين، إنا ما اخترناك ولا نصرناك عصبية على الباطل، ولا أجبنا إلاّ الله عز وجل ولا طلبنا إلاّ الحق، ولو دعانا غيرك إلى ما دعوتنا إليه لكان فيه اللجاج، وطالت فيه النجوى، وقد بلغ الحق مقطعه، وليس لنا مثل رأيك رأي وقام الأشعث بن قيس مغضباً فقال: يا أمير المؤمنين انا لك اليوم على ما كنا عليه أمس، وليس آخر أمرنا كأوله، وما من القوم أحد حتى على أهل العراق، ولا أوتر لأهل الشام مني، فأحب القوم إلى كتاب الله فإنك أحق به منهم، وقد أحب الناس البقاء وكرهوا القتال وحاج الناس وقالوا: أكلتنا الحرب وقتلت الرجال وقال قوم: نقاتل القوم على ما قاتلنا عليه أمس... ولم يقل هذا إلاّ قليل من الناس، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): انه لم يزل أمري معكم على ما أحب... إلى أن أخذت منكم الحرب، وقد والله أخذت منكم وتركت، وأخذت من عدوكم ولم تترك وانها فيهم أنكى وأنهك، إلاّ إني كنت بالأمس أمير المؤمنين فأصبحت اليوم مأموراً وكنت ناهياً فأصبحت منهياً، وقد أحببتم البقاء، وليس لي ان أحملكم على ما تكرهون .. ثم قعد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 163 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وتكلم رؤساء القبائل فأما من ربيعة – وهي الجبهة العظمى – فقام كردوس بن هانئ البكري فقال: أيها الناس، انا والله ما تولينا معاوية منذ تبرأ منه، ولا تبرأنا من عليّ منذ توليناه وإن قتلانا لشهداء، وإن أحباءنا لأبرار، وان عليّاًً (عليه السلام) لعلى بينة من ربّه وما أحدث إلاّ الانصاف وكل محق منصف فمن سلم له نجا ومن خالفه هلك.

وقام شقيق بن ثور البكري فقال: أيها الناس انا دعونا أهل الشام إلى كتاب الله فردوه علينا حل لهم منا ما حل لنا منهم، ولسنا نخاف أن يحيف الله علينا ولا رسوله، وان عليّاًً (عليه السلام) ليس بالراجع الناكص، ولا الشاك الواقف، وهو اليوم على ما كان عليه أمس، وقد أكلتنا هذه الحرب، ولا نرى البقاء إلاّ في الوادعة وقام حريب بن جابر البكري فقال: أيها الناس ان عليّاًً لو كان حلفاً من هذا الأمر لكان المفزع إليه.. فكيف وهو قائده وسائقه، ان والله ما قبل من القوم اليوم إلاّ ما دعاهم إليه أمس، ولو رده عليهم كنتم له أعنت وقام خالد بن المعمر فقال: يا أمير المؤمنين انا لا نرى البقاء إلاّ فيما دعاك إليه القوم إن رأيت ذلك، فإن لم تر فرأيك أفضل، ثم قام الحصين بن المنذر الرقاش وهو من أصغر القوم سناً فقال: أيها الناس، إن لنا راعياً قد حمدنا، ورده وصدره وهو المصدق على ما قال، المامون على ما فعل فإن قال لا، قلنا لا وإن قال نعم قلنا نعم. وقال رفاعة بن شداد البجلي: أيها الناس انه لا يفوتنا الأمر على ملئ الأمر من حقنا، وقد دعوناهم إليه في أوله، فإن أبيتم الأمر على ما نريد وإلاّ أثرناها جذعة.

كان أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك الأوان محرجاً في أمره بين أولئك المنحرفين عن سبيله اللاجب وبين أولئك والسالكين معه على سبيله، وبين الذين تحيروا في أمرهم بين أولئك وأولئك لا يدرون أي السبيلين يسلكون فهو إذ ما أصر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 164 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على تنفيذ رأيه آثار حفائظ المنتقضين عليه امام عيون مؤيديه وسبب مقتله مشينة بينهما يهلك فيها جموع من المسلمين فضلاً عن كونه سيخلف ضمناً سابقة سيئة يتخذها بعض الحكام المسلمين بعده مبرراً لتصريف مشايئهم، ولذلك أثر حقن الدماء وقمع الفتنة في صفين عسى أن يرعوي أولئك المنتقضون عليه إذا ما عادوا إلى الكوفة، وفي أثنا ذلك الأوان أرسل معاوية كتاباً إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال فيه ان هذا الأمر قد طال بيننا وبينك، وكل واحد منا يرى انه على الحق، وقد قتل بيننا كثير من المسلمين، وانا أتخوف ان يكون ما بقي أشد مما مضى فهل ترى ان يحكم بيننا وبينكم حكمان رضيان احدهما من أصحابي والآخر من أصحابك فيحكمان بما في كتاب الله بيننا فاتق الله فيما دعيت له والسلام.

فكتب إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) جواب كتابه قال في آخره : انك قد دعوتني إلى حكم القرآن، ولقد علمت انك لست من أهل القرآن ولست حكمه تريد والله المستعان، ولقد أجبنا للقرآن إلى حكمه، ولسنا إياك أجبنا ومن لم يرض بحكم القرآن فقد ضل ضلالاً بعيداً فبعث عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قراء من أهل العراق وبعث معاوية قراء من أهل الشام فاجتمعوا بين الصفين ومعهم المصحف فنظروا فيه ما شاؤا أن ينظروا فيه وأجمعوا على أن يحيوا ما أحيا ويميتوا ما أمات ثم انصرف كل فريق من القراء إلى أصحابه.

وبعد بضعة أيام أشيع فيما بين أهل العراق وأهل الشام بأن عمرو بن العاص اختير حكماً وحيداً مرشحاً من قبل معاوية بن أبي سفيان للمشاركة مع الحكم المرشح من قبل عليّ بن أبي طالب وأصحابه لانجاز كتاب الصلح بين الفريقين المتهادنين فأعلن عليّ بن أبي طالب حينذاك انه أزمع أن يرشح عنه رجلاً محنكاً ماهراً هو عبد الله بن العباس يمثله عند المشاركة مع عمرو بن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 165 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

العاص لانجاز كتاب الصلح إلاّ ان الذين انتفضوا عليه آنفاً والذين صاروا يشايعونهم في اصرارهم على ايقاف الحرب قالوا انهم يختارون (أبا موسى الأشعري) أي عبد الله بن قيس وهكذا أجمعوا على اختيار (أبي موسى الأشعري) ليمثل عليّاًً وأهل العراق لانجاز كتاب الصلح المنشود فجاء الأشتر فقال: يا أمير المؤمنين : أرني عمرو بن العاص فوالله الذي لا إله إلاّ هو لئن ملأت عيني منه لأقتلنه. فأغمض الإمام (عليه السلام) عينيه ثم فتحها بما يدل على عدم رضاه عن ذلك. وجاء الأحنف بن قيس التميمي فقال: يا أمير المؤمنين إني قد عجمت هذا الرجل – يعني أبا موسى الأشعري – فوجدته كليل الشفرة قريب القعر وانه رجل يماني وقومه مع معاوية بن أبي سفيان وانه لا يصلح لهؤلاء القوم إلاّ رجل يدنو منهم حتى يكون في أكفهم، ويتباعد منهم حتى يكون بمنزلة النجم فإن شئت أن تجعلني حكماً فاجعلني وإن قلت إني لست من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فابعث رجلاً من أصحابه غير (عبد الله بن قيس) واجعلني معه ثانياً أو ثالثاً فإنه لا يعقد عقدة إلاّ حللتها، ولن يحل عقدة إلاّ عقدتها وعقدت لك أخرى أشد منها. فعرض مقترح الأحنف بن قيس التميمي على الناس فأبوه وقالوا: لا يكون إلاّ أبا موسى فقال الإمام (عليه السلام): قد أبيتم إلاّ أبا موسى؟ قالوا نعم، قال: فاصنعوا ما أردتم، يلوح لي ان عليّاًً كان يكتم في نفسه قبلئذ شيئاً نابياً وقع من أبي موسى الأشعري آنفاً لم يستسغ شرعاً فضمه للعيان غير ان بعض الأمارات الغامضة كانت تتم عليه في أوقات عارضة، ففي يوم من الأيام مثلاً سمع أبو موسى ان الحسن بن عليّ (عليه السلام) مريض في منزله فجاء يعوده كغيره من نخبة الناس ، ولما استقر به القعود سأله عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أجئتنا عائداً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 166 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أم شامتاً؟ فأجابه أبو موسى قائلا: بل عائداً ثم استأذنه بالانصراف فانصرف(34).

وهذا السؤال هو من غير مراء يدل على وجود شيء مستنكر مكتوم في نفس الإمام (عليه السلام) لا يعرضه للافشاء فينكأ بأبي موسى الأشعري من غير تحفظ (وأبو موسى عند المعتزلة من أرباب الكبائر) (35) المنبوذين وهذا يدل على انهم يعرفون عنه شيئاً يسبغ لهم اعتباره من أرباب الكبائر وعلى الاختصار كان أبو موسى الأشعري متولياً على امارة الكوفة وعند قتل عثمان بن عفان في المدينة واختار المسلمون بعده عليّ بن أبي طالب خليفة لهم لتصريف شؤونهم وتسديد مقتضيات أمورهم فبادر الإمام عليّ (عليه السلام) إلى عزله وشيكاً فانصرف إلى الشام واجداً مستنكراً عزله، وبقي كذلك حتى في خلال اختباره (أحد الحكمين) في صفين لتوقيع عهد الصلح بين معاوية وأهل الشام وعلي بن أبي طالب وهل العراق وكان عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بعد ذاك يقنت في أعقاب كل صلاة ويقول: اللّهم العن معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وأبا الأعور السلمي وأبا موسى الأشعري(36) وغني عن التبرير انه لم يفتت على أولئك إلاّ من جراء ذنوب اقترفوها فأخرت بالمسلمين عامة ويقول أبو عمر بن عبد البر في كتابه الاستيعاب في سياق حديثه عن (أبي موسى): أما انا فأشهد انه عدو الله ورسوله وحرب لهما في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).

حسبنا الآن ما تفيض بيانه من حديث (وقت القتال في صفين) ولنعد إلى حديث الاتفاق على عهد الصلح بين الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وبين معاوية بن أبي سفيان رأى بعدما رضي أهل الشام بعمرو بن العاص ورضى

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 167 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أهل العراق بأبي موسى الأشعري أن يكونا حكمين بينهما وعنهما. فكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تقاضى عليه عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما فيما تراضيا به من الحكم بكتاب الله وسنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) قضية عليّ (عليه السلام) على أهل العراق ومن كان معه من شيعته من شاهد أو غائب، وقضية معاوية بن أبي سفيان على أهل الشام ومن كان معه من شيعته انا ننزل حكم القرآن فيما حكم به، ونقف عند أمره فيما أمر ولا يجمع بيننا إلاّ ذلك وانا جعلنا كتاب الله حكماً فيما بيننا فيما اختلفا فيه من فاتحته إلى خاتمته، نحيي ما أحيا ونميت ما أمات، على ذلك تقاضينا وبه تراضينا، فما وجد الحكمان في كتاب الله بيننا وبينكم فإنهما يتبعانه وما لم يجداه في كتاب الله أخذا بالسنّة العاملة  الجامعة غير المعروفة وان عليّاًً وشيعته رضوا أن يبعثوا عبد الله بن قيس ناظراً ومحاكماً كما رضي معاوية وشيعته أن يبعثوا عمرو بن العاص ناظراً ومحاكماً وأخذوا عليهما عهد الله وميثاقه وأعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه ليتخذا الكتاب إماماً فيما بعثا له لا يعدوانه إلى غيره في الحكم بما وحداه فيه سطوراً، وما لم يجداه مسمى في الكتاب رداه إلى سنّة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) الجامعة ولا يتعمدان لها خلافاً ولا يتبعان في ذلك لها هوى ولا يدخلان في شبهة وأخذ عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص على عليّ ومعاوية عبد الله وميثاقه بالرضى بما حكما به من كتاب الله وسنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلم) وليس لهما ان ينقضا ذلك ولا بالغاه إلى غيره وانهما أمناه في حكومتهما على دمائهما وأموالهما وأهلهما ما لم يعدوا الحق رضى بذلك راض أو أنكره منكر وان الأمة أنصار لهما على ما قضيا به من العدل، فإن توفي أحد الحكمين قبل انقضاء الحكومة فأمر شيعته وأصحابه يختارون مكانه رجلاً لا يألون عن أهل المعدلة والأقساط على ما كان عليه صاحبه من العهد والميثاق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 168 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والحكم بكتاب الله وسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) وله مثل شرطه، وإن مات أحد الأميرين من قبل القضاء فلشيعته أن يولوا مكانه رجلاً يرضون عدله وقد وقعت القضية ومعها الأمن والتفاوض ووضع السلاح والوداعة وعلى الحكمين عهد الله وميثاقه أن لا يألوا جهداً ولا يتعمدوا جوراً ولا يدخلا في شبهة ولأبعد وأحكم الكتاب وسنّة رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فإن لم يفعلا برئت الأمة من حكمهما ولا عهد لهما ولا ذمة، وقد وجبت القضية على ما سمي في هذا الكتاب من مواقع الشروط على الأميرين وعلى الحكمين والفريقين، والله أقرب شهيداً وأوفى حفيظاً والناس آمنون على أنفسهم وأهليهم وأموالهم إلى انقضاء مدة الأجل والسلاح موضوع والسبل مخلاة، والغائب والشاهدين الفريقين سواء في الأمن، وللحكمين أن ينزلا منزلاً عدلاً بين أهل العراق وأهل الشام ولا يحضرهما فيه إلاّ من أحيا عن ملأ منهما وتراض وإن المسلمين قد أجلوا القاضيين إلى انسلاخ شهر رمضان، فإن رأى الحكمان تعجيل الحكومة فيما وجها له عجلاها وإن أراد تأخيرها بعد شهر رمضان إلى انقضاء الموسم فالمسلمون على أمرهم الأول في الحرب ولا شرط بين واحد من الفريقين، وعلى الأمة عهد الله وميثاقه على التمام والوفاء بما في الكتاب وهم يد على من أراد فيه الحاداً وظلماً أو حاول له نقضاً وشهد بما في الكتاب من أصحاب من عليّ (عليه السلام) عبد الله بن عباس (الأشعث بن قيس) والأشتر مالك بن الحارث، وسعيد بن قيس الهمداني، والحصين بن الحارث بن المطلب، والطفيل بن الحارث بن المطلب وأبو أسيد ربيعة بن مالك الأنصاري وعوف بن الحارث بن المطلب القرشي، وبريدة السلمي وعقبة بن عامر الجهمي ورافع بن حديج الأنصاري وعمرو بن الحمق الخزاعي والحسن والحسين ابنا عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وعبد الله بن جعفر الهاشمي، والنعمان بن عجلان الأنصاري، وحجر بن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 169 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عدي الكندي، وورقاء بن مالك بن كعب الهمداني، وربيعة بن شرحبيل، وأبو صفرة بن يزيد والحارث بن مالك الهمداني وحجر بن يزيد وعقبة بن حجية. وشهد بما في هذا الكتاب من أصحاب معاوية، حبيب بن مسلمة الفهري وأبو الأعور بن سفيان السلمي، وبسر بن أرطاة القرشي، ومعاوية بن خديج الكندي، والخارق بن حارث الحميري، ودعبل بن عمرو السكسكي، وعبد الرحمن بن خالد المخزومي، وحمزة بن مالك الهمداني، وسبيع بن يزيد الهمداني، ويزيد بن الحر الثقفي، ومسروق بن حرملة العكي، وخالد بن المعرض السكسكي، ونمير بن يزيد الحميري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعلقمة بن يزيد الكلبي، وعلقمى بن يزيد الجرمي، وعبد الله بن عامر القرشي، ومروان بن الحكم، والوليد بن عقبة القرشي، وعتبة بن أبي سفيان، ومحمّد بن أبي سفيان، ومحمّد بن عمرو بن العاص، ويزيد بن عمرو الجذامي، وعمار بن الأحوص الكلبي، ومسعدة بن عمر اللجيبي، والحارث بن زياد القيني، وعاصم بن المنتشر الجذامي، وعبد الرحمن بن ذي الكلاع الحميري، والفتاح بن جلهمة الحميري، وثمامة بن حوشب، وعلقمة بن حكيم، وحمزة بن مالك.

وإن بيننا على ما في هذه الصحيفة عهد الله وميثاقه، وكتب عميره يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من صفر سنة 37 هـ . وانعد الحكمان (اذرح) وان يجييء عليّ بأربعمائة من أصحابه ويجييء معاوية بأربعمائة من أصحابه يشهدون الحكومة، والأجل إلى شهر رمضان لثمانية أشهر.

ولما كتبت الصحيفة دعى إليها الأشتر لا صحبتني يميني ولا نفعتني بعدها شمالي ان كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلح ولا موادعة أولست على بينة من ربّي، ويقين من ضلالة عدوي، أولستم قد رأيتم الظفر ان لم تجمعوا على الحور؟ فقال له رجل: انك والله ما رأيت ظفراً ولا خوراً؟ هلم فاشهد على نفسك واقرر بما في هذه الصحيفة فإنه لا رغبة بك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 170 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن الناس. قال: بلى والله ان بي لرغبة عنك في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة، ولقد سفك الله بسيفي هذا دماء رجال ما أنت بخير منهم عندي ولا أحرم دماً. قال عمار بن ربيعة فنظرت إلى ذلك الرجل وكأنما قصع على أنفه الحمم، وهو الأشعث بن قيس، ثم قال لكي قد رضيت بما صنع أمير المؤمنين ودخلت فيما دخل فيه وخرجت مما خرج منه فإنه يدخل إلاّ في هدى وصواب، ثم أقبل الأشعث بن قيس متظاهراً بجنوحه إلى تأييد ما ورد في كتاب الصلح قبل سائر أصحاب الإمام عليّ (عليه السلام) وأخذه من يد الكاتب عميرة وانطلق به جمهور أهل الشام فأوجز لهم فحواه فرفضه جمع منهم، ورضي به آخرون.

وهكذا انتهت الوهلة الأولى من نجز الاتفاق على كتاب الصلح وأجمع الإمام عليّ (عليه السلام) أمره على العودة مع رهطه إلى الشام على أن يعود الحكمان بعد ثمانية أشهر في شهر رمضان إلى الاجتماع ثانية في (أذرح) وهو موضع بين الشام وصفين والكوفة لانهاء الاتفاق على موقف القتال بين الإمام وأصحابه وبين معاوية وأصحابه بحضور أربعمائة رجل من أنصار الإمام عليّ (عليه السلام) وأربعمائة رجل من أنصار معاوية فبعث الإمام بأنصاره وعلى رأسهم عبد الله بن العباس يصلي بهم ويتعهد مطالب حياتهم. وفي ضمنهم (ابو موسى) وبعث معاوية بن أبي سفيان بأربعمائة من أنصاره وعلى رأسهم شرحبيل بن السمط مع عمرو بن العاص. وقال له انك رجل من قريش، وان معاوية لم يبعثك إلاّ ثقة بك، وانك لن تؤتي من عجر ولا مكيدة فكن عند ظننا بك. ثم جاء إلى أبي موسى الأشعري وقال له انك قد نصبت لأمر عظيم. ولا يجبر صدعه ولا يستقال فتقه، وانه لا بقاء لأهل العراق ان ملكها معاوية ولا بأس لأهل الشام إن ملكها عليّ بن أبي طالب وقد كنت منك تثبيطة بالكوفة فإن تشفعها بمثلها يكن الظن فيك يقينا والرجاء بأسا وكان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 171 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

آخر من ودع أبا موسى (الأحنف بن قيس) فقال له : يا أبا موسى اعرف خطب هذا الأمر، واعلم ان له ما بعده، وانك ان أضعت العراق فلا عراق، فأتق الله فإنها تجمع لك دنياك وآخرتك . وإذا لقيت عمرا غداً فلا تبدأه بالسلام فإنها وإن كانت سنة، إلاّ انّه ليس من أهلها، وإياك أن يقعدك على صدر الفراش فإنها خدعة ولا تلقه إلاّ وحده، واحذره أن يكلمك في بيت فيه مخدع قد يختبئ فيه الرجال والشهود، ثم أراد الأحنق بن قيس أن يختبر ما في نفس أبي موسى الأشعر فقال له: فإن لم يستقم لك عمرو على الرضا بعلي بن أبي طالب فخيره بين أن يختار أهل العراق من قريش الشام من شاؤا، قال أبو موسى: قد سمعت ما قلت غير مستنكر.

ولما ألتقى أبو موسى الأشعري بعمر بن العاص في فسطاط التحكيم استوفز أبو موسى للكلام وقال لعمرو: هل لك يا أبا محمّد في أمر هو للأمة صلاح ولصلحاء الناس رضا بأن نولي  (عبد الله بن عمر بن الخطاب) الذي لم يدخل في شيء من هذه الفتنة؟ فقال له عمرو: فأين أنت عن معاوية؟ فأبى عليه أبو موسى رافضاً(37).

وكان في ذلك الوقت عبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن هشام، وعبد الرحمن بن يغوث، وأبو الجهم بن حيفة العبدي، والمغيرة بن شعبة جميعهم شهدوا ذلك اللقاء مستمعين ليس إلا، فقال عمرو بن العاص لأبي موسى: ألست تعلم ان عثمان قتل مظلوماً قال بلى، فقال: ما يمنعك من تولية معاوية... وبيته من قريش ما قد علمت وإن خشيت ان يقول الناس: قد ولي معاوية وليست له سابقة، ولكن يا أبا موسى فإن له بذلك حجة بأنه ولى الخليفة المظلوم الحسن السياسة... الحسن التدبير

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 172 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وهو أخو أم حبيبة أم المؤمنين وأحد الصحابة وهو ان ولى هذا الأمر أكرمك كرامة لم يكرمك أحد قط مثلها، فقال أبو موسى: اتق الله يا عمرو، فإن ذكرك شرف معاوية فإن هذا الأمر ليس يقام على الشرف يولاه أهله، ولو كان على الشرف يولاه أهله لكان أحق الناس به ابرهة بن الصياح، إنما هذا الامر هو لذوي الدين والفضل، مع إني لو كنت معطيه أفضل قريش شرفاً لأعطيته عليّ بن أبي طالب، وأما قولك: ان معاوية ولي عثمان.. فأنى لم أكن أوليه معاوية وأدع المهاجرين الأولين. وأما تعريضك لي بالسلطان فلا رغبة لي فيه ولا كنت لأرتشي في الله، ولكنك ان شئت أحينا سنّة عمر بن الخطاب أو اسم عمر بن الخطاب، فقال له : إن كنت تريد أن تبايع عمر فما يمنعك من ابني وأنت تعرف فضله وصلاحه؟ قال: ان ابنك رجل صدق، لكنك قد غمسته في هذه الفتنة فإن شئت ولينا هذا الأمر الطيب ابن الطيب عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال عمرو: ان هذا الأمر لا يصلح سوى رجل (ذي ضرس) يأكل ويطعم وإن عبد الله ليس هناك، فبادر ابن عمر من موقعه هناك وقال لعمر بن العاص: ويلك يا ابن العاص إن العرب قد سندت إليك أمرها بعدما تقارعت بالسيوف وتشاجرت بالرماح، فلا تردهم في فتنة واتق الله.

وكان عمرو وأبو موسى منذ التقيا (بدومة الجندل) أخذ عمرو يقدم أبا موسى في الكلام ويقول له انك قد صحبت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) قبلي وأنت أكبر مني سناً، فتكلم أنت ثم أتكلم أنا، وجعل يقدمه في كل شيء مما يغتره بذلك ليقدمه فيبدأ بخلع الإمام عليّ (عليه السلام) فلما أراده عمرو على معاوية فأبى وأراده على ابنه فأبى على حين ان أبا موسى أراد عبد الله بن عمر بن الخطاب فأبى عمرو بن العاص، ثم قال أخبرني يا أبا موسى ما رأيك؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 173 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قال: رأي أن أخلع هذين الرجلين عليّاًً ومعاوية ثم نجعل الأمر شورى بين المسلمين يختارون لأنفسهم من شاؤوا فقال له عمرو: الرأي ما رأيت.

فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون يترقبون عاقبة اجتماعهما فتكلم أبو موسى فحمد الله وأثنى عليه وقال: ان رأيي ورأي عمرو قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة، قال عمرو: صدق ، قال يا أبا موسى تقدم فتكلم، فتقدم أبو موسى ليتكلم فدعاه عبد الله بن عباس إليه فقال: ويحك إني لأظنه والله قد خدعوك فإن كنتما قد اتفقتما على أمر فقدمه قبلك فيتكلم بذلك الآمر قبلك ثم تكلم بعده فإن عمراً رجل غدار ولا آن أن يكون قد أعطاك الرضا فيما بينك وبينه فإذا قمت به في الناس خالفك، فقال: أنا قد اتفقنا وكان أبو موسى الأشعري رجلاً مغفلاً فتقدم إلى الناس وقال: أيها الناس انا قد نظرنا في أمر هذه الأمة وقد أجمع رأيي ورأي صاحبي على خلع عليّ ومعاوية، ونستقبل هذا الأمر فيكون شورى بين المسلمين فيولون أمورهم من أحبوا، وإني قد خلعت عليّاًً ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولو من رأيتم لها أهلاً، ثم تنحى وقعد. فقام عمرو بن العاص مقامه فقال: ان هذا ما قد سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية فإنه ولي عثمان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه، فقال له أبو موسى: مالك لا وفقك الله قد غدرت وفجرت وإنما مثلك مثل الكلب ان تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، فقال عمرو: إنما مثلك مثل الحمار يحمل أسفاراً، فحمل شريح بن هاني على عمرو فقنعه بالسوط جزاء خيانته وحمل عمرو على شريح فضربه بالسوط وقام الناس فحجزوا بينهما، فكان شريح بن هاني يقول ما ندمت على شيء ندامتي على أن لا أكون ضربته بالسيف بدل السوط وأتى الدهر بما أتى، والتمس أصحاب عليّ (عليه السلام) أبا موسى فركب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 174 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ناقته مسرعاً ولحق بمكة، وكان أبو موسى يقول : قد حذرني ابن عباس غدرة الفاسق ولكن اطمأننت إليه وظننت انه لن يؤثر شيئاً في نصيحة الأمة، وانصرف عمرو بن العاص وأهل الشام بعد ذلك إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة وانصرف ابن عباس وشريح ومن معهما إلى عليّ (عليه السلام) وانتهت مهزلة (تحكيم الحكمين) التي دبر عواقبها عمرو بن العاص وشرى دينه بأمارة مصر، ثم ان معاوية بعدما ولاه مصر جعل يدبر سبيلاً لعزله عنها ثم عزله عنها وولاها عبد العزيز بن مروان بن الحكم فكتب عمرو يقول(38):

معاوية الحال لا تجهل *** وعن طرق الحق لا تعدل

خلعت الخلافة من حيدر *** لخلع النعال من الأرجل

وألبستها لك يا بن اللئام *** كلبس الخواتم في الأنمل

ولو لاي كنت كمثل النساء *** تعاف الخروج من المنزل

ولم تك والله من أهلها *** وربّ العباد ولم تكمل

فأين الحصى من نجوم السماء *** وأين الحسام من المنجل

وأين الثريا وأين الثرى *** وأين معاوية من عليّ

وأعطيت مصراً لعبد العزيز *** ولم تعطني زبدة الخردل

أجمع الرواة والمؤرخون على ان عليّاًً (عليه السلام) عندما رجع من صفين إلى الكوفة اتخذ له طريقاً غير التي اتخذها عند خروجه منها إلى صفين وأصحب من ورائه وعن يمينه وعن شماله نخبة ممن حاربوا باخلاص معه أهداف معاوية وأساليب مكره من أجل الاستحواذ على بقعة من بلاد الإسلام. وكان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 175 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أول قوله نطق بها آنذاك قوله: (أئيون، عايدون، لربنا حامدون، اللّهم إنّي أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في المال والأهل، وأعاد المسير حتى جاوز بلدة هيت، فاستقبله عندها بنو سعيد بن خريم الأنماريون، ورحبوا بمروره على ديارهم فبات عليّ (عليه السلام) مع أصحابه بعيداً عن البلدة حتى إذا ما أسفر الفجر صلّى بهم ثم أعاد مسيره نحو (النخيلة) ولما ان جاوزها بقليل أبصر شيخاً مدتفا من بني (سلامان) اسمه صالح بن سليم فسأله عما يقول الناس بشأن ما وقع بينه وبين أهل الشام؟ قال: منهم المسرور وأولئك أغنياء الناس ومنهم المكبوت غماً وأولئك نصحاء الناس لك. فقال: صدقت يا صالح، ومضى على سبيله نحو الكوفة فلقيه عبدالله بن وديعة الأنصاري فسأله الإمام (عليه السلام) قائلاً ماذا سمعت من الناس يقولون في أمرنا؟ قال: يا أمير المؤمنين منهم المعجب به ومنهم الكاره له إلاّ أن لا ذوي الرأي يقولون: ان عليّاًً كان له جمع عظم ففرقه وحصن حصين فهدمه، فمتى يبنى مثلما هدم؟ ومتى يجمع مثلما فرق! فلو انه كان مضى بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه فقاتل حتى يظهره الله أو يهلك كان ذلك هو الحزم فقال الإمام (عليه السلام): أأنا هدمت أم هم هدموا؟ وأنا فرقت أم هم فرقوا ، وأما قولهم: لو انه مضى بمن أطاعه أو عصاه من عصاه.. فوالله لقد كنت سخي النفس بالدنيا.. طيب النفس بالموت ولقد هممت بالاقدام فنظرت هذين وهما بجانبي يعني بهما (الحسن والحسين (عليهما السلام) ) فعلمت انهما ان هلكا في الحرب انقطع نسل محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم) من هذه الدنيا، وأيم الله لئن لقيتم بعد يومي هذا وانهما ليسا معي في عسكر لبلغت فيهم مما يشاء الله ما أبلغ، ثم مضى بجيشه حتى مر على منازل بني عوف فإذا سبعة قبور أو ثمانية مسنمة وهي عن ايمانهم فقيل له ان خباب بن الأرث توفي بعد خروجك إلى صفين فأوصى أن يدفن في (الظهر) هها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 176 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فدفن الناس من حوله بعض موتاهم فترحم عليه الإمام ارق ترحم وأصدقه ثم انصرف حتى دخل سكة الثوريين الهمدانيين، فسمع نشيجاً وبكاء فقال: ما هذه الأصوات؟ فقيل له: هذا الكباء والنشيج على من قتل في صفين، ثم مر بالشباميين، فسمع رنة عالية، فتوقف رويداً عن المسير، فخرج إليه حارب بن شرحبيل الشبامي، فقال له عليّ (عليه السلام) أيغلبكم نساؤكم على العويل في دياركم؟ ألا تنهونهن عن هذا العويل بعد نزول القضاء؟ فقال : يا أمير المؤمنين لو كانت داراً أو دارين أو ثلاثاً قدرنا على ذلك ولكن قتل من هذا الحي ثمانون ومئة رجل فليس من دار هاهنا إلاّ وفيها بكاء، أما نحن معاشر الرجال فلا نبكي ولكن نفرح بالشهادة ننالها بعين الله فقال عليّ (عليه السلام): رحم الله قتلاكم وموتاكم وانصرف يمشي معه وعلي راكب فقال له: يا حارب بن شرحبيل ارجع ووقف، ثم قال له مرة أخرى ارجع فإن المشي على هذا الغرار فتنة للوالي ومذلة للمؤمنين، ثم مضى حتى مر على الناعطيين فلقيه (عبد الله بن مرثد) فقال له مع نفسه: ما نصع عليّ شيئاً ذهب وعاد في غير شيء، فلما نظر إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) أبلس فقال عليّ (عليه السلام): وجوه قوم ما رأوا أحداث صفين وهم كما قال الشاعر:

أخوك الذي ان أجرضتك ملمة *** من الدهر لم يبرح اليتك واجما

وليس أخوك بالذي ان تمنعت *** عليك أمور ظل يلحاك لائما

وصرف وجهه نحو الكوفة، وأذن لمن شاء من أصحابه أن ينصرف إلى أهله فلينصرف فما أعظم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قائداً محنكاً للسلم فحينما استجاب في صفين إلى موافقة المنشقين من جيشه على ايقاف قتاله مع أهل الشام وأن يستقدم قائد جيشه (مالك الأشتر) في ميدان المعركة مغمداً سيفه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 177 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تمهيداً لاعلان رضاه بالاحتكام إلى كتاب الله فيما يأمر به لايثار السلم بالحق بين أراهيط المتحاربين، كان الأشتر وقتذاك موشكاً على بلوغ الانتصار الحاسم على معاوية وأصحابه المارقين، ولكن المصادفة غير المتوقعة حالت دون تحيز ذلك الانتصار بهروع معاوية إلى رفع المصاحف وانشقاق جيش الإمام على الإمام نفسه من أجل وقف القتال والجنوح إلى المهادنة ريثما يروا ما يرى القرآن بشأنهم من قضاء.

ولقد فوجئ أمير المؤمنين بذلك الحدث الجديد فأمعن فيه البصيرة سريعاً لكي يستبط الحقيقة ما يبتغيه أولئك المنشقون حينذاك فأنجده هدوء ذهنه وشجاعة قلبه وحضور بديهته ونفوذ بصيرته الواعية إلى ارتجال ما تقتضيه عاقبة ذلك الحدث من الرشاد، فارتضى الاحتكام إلى القرآن العزيز ليكون ارتضاؤه بالاحتكام القرآني سنّة مأثورة واجبة الاتباع فيما يلي من مستأنف الأزمنة الإسلامية.

فلو كان قد جرد سيفه إذ ذاك على أولئك المنشقين من جيشه وهو مصر على استئناف القتال ضد أهل الشام لأبهج قلوب أعدائه ولقضى على كثير من رجال جيشه فيكون قد بدد بذلك ثروة عسكرية غالية هو في حاجة إليها أبلغ الحاجات. وليس من المستبعد كذلك ان ينجم من قيام فئة كبيرة كأولئك المنشقين نوع مقيد من التقدم الاجتماعي يرى فيه الناس بعد العسر يسرا بمشيئة الله ومن ذا الذي يستطيع ان ينفي ان معاوية كان لا يملك في دخيلة نفسه ان يوقع بالدولة الإسلامية كل وقيعة مضرة مستعيناً بمكائد قومه ومطامع أنصاره لو لم يكن قد ظفر أخيراً بحصة الثعلب مع عمرو بن العاص في نهاية أمر التحكيم ونهاية المخادعات في أسلوب التحكيم في (دومة الجندل) كما استفاد الناس لأنفسهم أن يتوقعوا حدوث العسر بعد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 178 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

اليسر ان هم تسرعوا بلا هوادة في عرض مشكلاتهم على غير الأناة والبصيرة المحنكة في مشارق الأرض أو مغاربها.

ما كان الإمام عليّ (عليه السلام) يدخل مدينة الكوفة عائداً إليها من وقعة صفين حتى سمع الناس يتناقلون في أرجائها أحاديث شتى عن رجال الخوارج وعما عندهم يومذاك من آراء مبتدعة في الشؤون الإسلامية وفي تقويم زعمائها، عليّ بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص فاستشف من أحاديث أولئك الناس ان حيرة واستغراباً خالجاً عقائدهم، وانهم يخشون من جرائهما ان يقعوا في أزمات الفرقة العقائدية والتباغض الأجتماعي بينهم، فاستولى على مشاعره الهلع من ذلك حتى جعل إيمانه الراسخ يصرخ به لينهض ويستأصل من الصميم شأفة تلك الآراء الجديدة التي ابتدعها الخوارج قبلما هي تغشى أبعاضاً آخر من طوائف المسلمين، ولكنه أمعن في الأناة بعض الإمعان فارتأى أن يبدأ بتحذيرهم في أول الأمر من عواقب ما أنشأوا يذيعون بين أوساط المسلمين من اجتهادات مبتدعة وطارئة على ضمائرهم غريبة عن أصولها، وهم لم يتسالموا على اعتناقها واقتباسها من العلماء.

وزيادة على ذلك فإن الخوارج قد آثروا الابتعاد أعجب ابتعاد عن مدينة الكوفة منذ أيام رجوعهم من حوادث صفين حتى انهم تحاشوا دخولها والإقامة في منازلها فضلاً عن نشوزهم على أداء الصلوات في مساجدها وهذه الأحداث المبتدعة أفضت إلي التوكيد على مروقهم النفسي عن التمسك بمحاسن التجمع السياسي والتظافر العسكري والإجتماعي بين المسلمين.

فأرتأى الإمام (عليه السلام) ان يبعث رجالاً من شيوخ أصحابه يتوسطون لحملهم على العودة إلى مدينة الكوفة فرفضوا الاستجابة لوساطتهم بلا هوادة ولا استبصار فماذا فعل الإمام (عليه السلام) بعد ذلك؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 179 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لقد واضب على تكثيف إرشادهم وتحذيرهم من عقبى ما كانوا يبتدعونه من سوانح مبتكرة يضفونها إلى نصوص الأعمال الدينية الأصلية من غير حذر، مصرين على سابق عنادهم والكنود أيضاً ضاعفوا من ابتعادهم بمسافة أخرى عن أطراف الكوفة ليخلو أمامهم فضاء التوسع أكثر فأكثر فيبتدعون ويسرقون فاضطر الإمام أن ينطلق فيحشد نحوهم فريقاً من رجال جيشه لافنائهم على جواهر الدين الحنيف من نفوذهم إليها.

وكان أولئك الفريق من الجيش على أشد حالات الاستغراب والاستفزاز مما كان يمارسه أولئك المنشقون من عبادات التدين الدعائية بل يحذرون أندادهم وأصفياءهم من الاصغار إلى أساليب عبادات أولئك لئلا يبدأ من هناك تدخلهم أو تسللهم إلى ما وراء أساليبهم في العبادة الإسلامية المحققة خرج الإمام(عليه السلام) بجيشه الصريح المؤمن إلى حرب الخوارج للقضاء عليهم وعلى ما عندهم من أساليب العبادة المبتكرة، وكان عدد أولئك الخوارج إذ ذاك أربعة آلاف أو أكثر بقليل مجتمعين بقرب (مياه النهروان) فأمر الإمام (عليه السلام) قائداً من قواد جيشه أن يركز رايته الكبرى أمام أولئك الخارجين، ثم شرع يفضي إليهم بما ينفعهم من وعظ وإرشاد وبما يحسم ذنوبهم المتكاثفة عليهم من جراء خروجهم عليه ومن ارتيابهم فيما يحمله الإمام من إيمان دقيق ثم أتاح لهم فرصة كريمة لاعلان ندمهمعلى ما فرط منهم من شذوذ عن جواهر الدين الحنيف ثم انتظر حتى ارتدع منهم كثيرون وعادوا نادمين إلى مدينة الكوفة وبقي أربعة آلاف خارجي معاندين ولم يرجعوا مع أولئك وإذا بأمير المؤمنين يوعز إلى رجال جيشه بالهجوم دفعة واحدة عليهم فلم يتركوا منهم احياء إلاّ تسعة أشخاص أنقذهم الفرار السريع نحو الكوفة في حين ان القتلى من جيش الإمام لم يتجاوز التسعة أشخاص أنقذهم ليس غير.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 180 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثم رجع الإمام (عليه السلام) إلى الكوفة منتصراً في النهروان على أولئك الخوارج على ما في ضمائرهم من أواشاب منحرفة عن ثلة عزيرة من مناحي شريعة الإسلام وكان ذهابه إلى هناك قاصداً قصد المصلحين المسؤولين مخافة أن يستدرجوا إليهم ناساً آخرين من سادري المسلمين في الكوفة خلال صفحة عنهم ولكن القوة النزيهة المسعفة غير المنظورة قد تطرأ على حين غرة طرؤا كالطبيعي سواء أكانت في مدينة الكوفة أم غيرها فتسند شريعة أو مبادئ إجتماعية مفيدة توشك أن تصاب بضرر فتدفع عنها ذلك الضرر لتستعيد أفادتها للمجتمع من جديد، وهكذا كان أمر الإمام عليّ (عليه السلام) بشجاعته وحكمته في الكوفة والنهروان حذو الواقع بالواقع فتستروا أو تساتروا بأنشطتهم عن العيان مخافة أن يكون مصيرهم كمصير أقرانهم في النهروان من قتل ماحق فأصابهم الذهوب والاكتئاب وبدأوا بتوسيع مناشط أعمالهم حيثما يتنقلون من مدينة إلى مدينة ويتصلون بجماعة اثر جماعة من سائر المسلمين ولعل المجرم (عبد الرحمن بن ملجم) الذي اغتال الإمام عليّ بن أبي طالب في محرابه داخل مدينة الكوفة ليلة التاسع عشر من شهر رمضان سنة 40 هجرية كان أحد أولئك الخوارج المتسترين عن التظاهر للعيان وقد استغل معاوية بن أبي سفيان عداءه للإمام عليّ (عليه السلام) فأغراه بتيسير مقتله في ليلة عامة من أواخر ليالي شهر رمضان المهمة وأتاح له التمهيد لاغتياله وسبيل هربه من المسجد إلاّ انه قبض عليه وتم قتله.

ولكن، ما لنا الآن وللحديث مفصلاً عن (عبد الرحمن بن ملجم في الكوفة) فلنعد الآن إلى مواصلة الحديث عن معاشر الخوارج وعن زعماء حزبهم في خارج الكوفة بعد مقاتل أندادهم في موقعة النهروان ولقد كان الخوارج في أوائل أمرهم قبل تعريفهم بهذا الاسم ناساً صالحين ومخلصين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 181 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) سواء أكان في خلال موقعة الجمل أم في خلال حرب صفين وقد انخدعوا بظاهرة رفع المصاحف على الرماح مطالبين جيش الإمام (عليه السلام) بايقاف القتال مع أهل الشام والاحتكام إلى ما يفرضه عليهم كتاب الله العزيز فانطلقوا مهرعين نحو الإمام (عليه السلام) طالبين منه ايقاف القتال مع أهل الشام فوراً فنصحهم باستمراره مبشراً إياهم بالفتح القريب إلاّ انهم أصروا أشد أصرار على ايقافه واستدعاء قادة جيشه من الميادين أو اقدامهم على قتله كما قتلوا من قبل (عثمان بن عفان) فمال ميلان الاضطرار نحو ايقاف القتال واستدعاء قادة الجيش إليه بعد تفاقهم أخلاق الخوارج عليه واشتداد وقاحتهم بتهديدهم إياه بالقتل ولما أن حضر قادة امامه كان يملك حينئذٍ اسكات أصوات المنشقين عليه بسيوف أولئك القادة ولكنه لم يشأ أن يفعل ذلك قط لأنه كان بذلك يبهج أفئدة أعدائه فضلا عن انه كان يقضي على كثير من رجال جيشه في حربه القائمة وزيادة على ذلك فإنه مال بحكمته الواسعة إلى اخماد نزوة فجة من نزوات الاصرار على مطلب لم يستغرق الاستيطان والتدبير الطويل فأراد أن يضرب لهم بذلك مثلاً يجد بهم نفعه في مستقبل أيامهم السليمة أو الحربية أو غيرهما.

ولما انتهى مؤتمر التحكيم في دمة الجندل بانخداع أبي موسى الأشعري نائباً عن أهل العراق وبانتصار عمرو بن العاص نائباً عن أهل الشام أدرك الناس على اختلاف مداركهم حكمة الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ضرورة الامعان واستيطان القضايا الغامضة قبل الاقدام على اقتحامها وممارستها . كان للخوارج أساليهم الخاصة بهم في القناعة المعيشية وفي الزهادة عما في أيدي الناس من مقومات الحياة اليومية ومن ممتلكات عقارية وغير عقارية حتى كاد التقشف الشديد يستغرقهم بالجملة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 182 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

والتفصيل وكان فهمهم للقضايا الدينية وشروحها واسع الشمول حتى لقد كان أبعاض من زعمائهم وقادة مذهبهم يتطرقون كثيراً في بيان آرائهم واجتهاداتهم الدينية بحيث يرتكبون أشد الاغراق الشذوذ فيها ، أي انهم لم يلتفتوا إلى سابق تحذير النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) للمسلمين من الاغراق مثلهم في فهم الأوامر الإسلامية ونواهيها فيتحمل كثيراً منهم مع تعاقب الزمن على التخلي عن إيثارهم الدين في الدنيا لانحرافه عن تأمين استجمامهم وتوفير المنافع الإجتماعية وغير الإجتماعية لهم فيها ولذلك فقد تضاءل عدد الخوارج من يومذاك إلى ما بعده من أرض المجتمع الإسلامي حتى انقرضوا من فوقها آخر انفراض. وأما أشهر زعماء مذهبهم في العراق وفيما وراء العراق فكانوا الذين نذكر أسمائهم فيما يلي هنا من استطراد:

1 – نجدة بن عويمر الحنفي: كان هذا رئيساً مقدماً من رؤسائهم في العراق وفي مكة وكان قدوة لكثير منهم في مذهبهم، وله آراء اجتهادية وضعها لهم يسلكون عليها إذ ذاك، وجدير بالذكر انه كان يصلي مع عبد الله بن الزبير جنباً إلى جنب في مكة أيام الجمعة عندما كان عبد الله بن الزبير يسعى إلى كسب الخلافة لنفسه، بينما كان نجدة بن عمير يسعى كذلك إلى كسبها لنفسها ثم استطاع نجدة بن عمير أن يغزو اليمامية ويسيطر عليها بمعونة أنصاره ولما اشتد ساعده في السيطرة على تمامها غزا بلاد اليمن وعمان والبحرين والطائف وأصقاع أخر من أراضي بني تميم وبني عامر وفي خلال تلك الأيام أفتى لأنصاره (بأن المخطئ منهم بعد بذله غاية الاجتهاد معذور) وان الذين لا يعدو في جوهره معرفة الله ورسوله حتى تقوم الحجة على الأخذ بأكثر من ذلك وان الذي يستحيل شيئاً لم يقتنع بحرمته من طريق الاجتهاد فمعذور مع بقاء إيمانه الديني تاماً وقائماً كسائر المؤمنين، ولذلك كله أجمعوا أمرهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 183 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

على تنحيته عن رئاستهم لاختيار (أبي فديك القيسي) بديلاً عنه في منصبه وقد أقدم أبو فديك القيسي على اغتيال نجدة بن عويمر ليخلو له منصب الرئاسة دون سواه إلاّ ان فريقاً من أصحاب نجدة بن عويمر ارتدوا في دخائلهم نادمين على ما حدث وزعموا بانه قتل مظلوماً لأنه قد بذل ما وسعه من اجتهاد في أيام حياته.

2 – حوثرة الأسدي: وهذا كان شيخاً ذا بأس عسكري شديد ويتمتع بقسط مرموق من فقه الخوارج وكان لا ينفك بأمر أصحابه بالوعاية وتثمين مواهب الحذر وبالتأهب للقضاء على سلطان معاوية الذي يزاحم الدين الحنيف.

ولما حان الحين واستتب زمان خروجه على سلطان معاوية خرج عليه مع أنصاره بالقض والقضيض إلاّ ان معاوية سرعان ما استنصر بجيش متوافر من أهل الكوفة مزود بأقوى سلاح متنوع عند زياد بن أبيه في الكوفة، ولما التقى حوثرة الأسدي بجيشه الخارجي وجهاً لوجه مع جيش أعدائه وجد انهم جميعاً من أهل الكوفة فقال يخاطبهم:

يا أعداء الله أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتدمير سلطانه وأنتم اليوم تقاتلون معه كي تشدوا سلطانه فماذا دعاكم إلى ارتكاب هذا التناقض العجاب؟ ولما التحمت الفئتنان حرباً قتل حوثرة الأسدي على يد فارس من فرسان بني طي فتفرقت جموعه بين هارب وجريح وقتيل من جراء غفلته عن التثبت سلفاً من كون جيش الكوفة سوف يساعف معاوية في الحرب من غير مراء.

3 – نافع بن الأزرق الحنفي: كان هذا الفقيه الخارجي يزعم لدى أنصاره (الأزارقة) بأنه لا يجوز للخوارج مساكنة غير الخوارج ومؤاكلتهم ومزاوجتهم وموارثتهم في أي زمان ومكان، ولا ينبغي لهم أن يستجيبوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 184 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إلى غيرهم لأداء الصلاة بالحث والاستمالة والاستدراج وان التقبة احتياطية والإجتماعية من أجل ضمان السلامة الموجودة عند الناس لا تجوز لأنها مداهنة وموارية لغرض الوصول إلى فائدة من وراء التمويه والتخفي وأيضاً كان يقول بأن إقامتهم في أرض لغير الخوارج تجعلهم بمنزلة الكفار أيام الجاهلية تقضي بهم إلى نار السعير ما لم يؤكدوا إيمانهم للعيان ويخرجوا عنها أو يصرحوا بأنفسهم من غير مخافة وموارية فيها.

4 – عروة بن حدير الربعي: وكان يعرف كذلك بعروة بن أدية وادية جده له جاهلية، وهو أول من حكم (بهتاف الخوارج) المعروف في صفين. ولما عاد من صفين إلى البصرة صار له فيها أصحاب وأتباع فأعلن مناوأته لمعاوية بن أبي سفيان ويستعرض مساواه المؤكدة فأخذه عبيد الله بن زياد فقتله وصلب جثمانه في مقبرة بني حصن بالبصرة وكان له عقب من الخوارج.

5 – شبيب بن يزيد بن نعيم الشيباني: وكان هذا زعيماً متطرفاً جداً في ارائه وفتاواه فكان مثلاً لا يحجم دائماً عن التوكيد على قتل الأطفال من ذرية المسلمين مستنداً في تبرير ذلك إلى فحوى قوله تعالى عن لسان النبي نوح (عليه السلام) : (ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك ان تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفارا) وكان ملازماً في حله وترحاله لصالح بن مسرح زعيم الطائفة الصفرية فلما توفي (صالح) في الموصل أوصى شبيب بن يزيد لكي يحل محله ويستأنف زعامته للصفرية وقبر صالح بن مسرح هناك.

ولما اشتد ساعد شبيب بن يزيد في أصقاع الموصل بعث إليه الحجاج

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 185 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بن يوسف الثقفي جيشاً يقوده خمسة قواد فلما التقوا شبيباً قتلهم واحداً بعد الآخر ودحر جيشهم وفيه موسى بن طلحة بن عبيد الله فخرج الحجاج يومذاك من البصرة ليلقى (شبيباً) في الكوفة قبل أن يأتي فيستولى عليها فسمع شبيب بذلك فخرج إليه من الموصل إلاّ ان الحجاج أقحم خيله في النهر ودخل الكوفة قبل دخول شبيب فيها وجدير بالذكر ان شبيباً صادف في طريقه عتاب بن ورقاء فقتله ولما سمع عبد الحرمن بن محمّد بن الأشعث باقترابه فر نحو الكوفة، وعندما وصل شبيب إلى الكوفة لم يشأ مقاتلة الحجاج فيها فعكف بأنصاره نحو الأهواز فغرق في نهر دجيل خلال عبوره منه لثقل ما كان عليه من سلاح لم يطق حصانه أن يحمله عند العبور فقال وهو يائس من نجاته (ذلك تقدير العزيز الحكيم).

وكان لشبيب هذا قريب فارس من عشيرته اسمه الوليد بن طريف الشيباني وكان خارجياً مثله وقد تزعم عصبة اجرامية تمارس جرائم القتل والسلب والنهب في زمن هارون الرشيد فأمر هارون الرشيد بالقضاء عليه واراحة الناس من جرائمه ومساوئ أعماله فكانت اخته لا تنكف تنعاه وترثيه بأبيات منها:

أيا شجر الخابور مالك مورقا*** كانك لم تجزع على ابن طريف

6 – مرداس بن عمرو بن حدير الربعي: وكان زعيماً جم التدين بين جميع الحروريين وهم يعظمونه غاية التعظيم ولذلك أصبح زياد بن أبيه ينظر إليه حاقداً ويتوجس كثيراً من وجوده في الكوفة فأرسل إليه عباد بن علقمة المازني فقتله وقتل معه رجالاً من أنصاره المتدينين فرثاه عمران بن حطان الخارجي شعراً فقال:

انكرت بعدك من قد كنت أعرفه *** ماالناس بعدك يامرداس بالناس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 186 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

7 – المستورد بن سعد التميمي: وكان هذا الخارجي الأديب زعيماً جم الشجاعة وله مشاركة في ملاحم صفين قبل انشقاقه مع المنشقين على أمير المؤمنين (عليه السلام) ولما عاد مع العائدين إلى الكوفة بقي يناوئ سلطان المغيرة بن شعبة حين كان والياً لمعاوية بن أبي سفيان فيها فأرسل إليه المغيرة معقل بن قيس الرياحي مع ثلة من الجيش لقتله وكان المستورد التميمي يتحاشى أن يريق دم الأبرياء من سائر الناس فعرض على معقل بن قيس قبل ابتداء المعركة أن يبرز إليه وحده ولابد لأحدهما أن يقتل صاحبه ولا يريقان دماء الأبرياء بينهما فوافق معقل بن قيس على ذلك ولما تبارزا اختلفا ضربتين أصاب كل واحد منهما فقتل صاحبه ثم انصرف الجيشان جميعاً وكان المستورد بن سعد أديباً حصيفاً كاد أن يكون متخصصاً في أدب حفظ الأسرار في المجتمع.

8 – قريب بن مرة الأزدي وزحاف الطائي: كانا رجلين عابدين وراسخين في العلوم الإسلامية في البصرة فاتفاق معاً بعد رجوعهما من حوادث صفين على أن يخرجا للقضاء على أدعياء الإسلام ممن لا يضطلعون حقاً وصدقاً بالمطالب العبادية فإنما يقصرون اضطلاعهم على ممارسة الأمور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ليس غير.

وشرعا يعترضان الناس في سبيلهما فلقيا رجلاً شيخاً من بني ضبيعة اسمه رؤية الضبعي فقتلاه فغضب الناس وتنادوا من أجل التحذير منهما صارخين الخوارج... الحرورية.. الخوارج الحرورية فزعما بأنهما ليسا من الحرورية انما هما من شرطة الأمير ثم ان الناس تحققوا بعد ذلك انهما كانا من الحرورية وانهما لا يتحاشان من قتل المسلمين غير الحرورية في أي زمان ومكان فعلم أبو مرداس بن أديه بما أحدثا من جريمة فأضمر لهما في نفسه ما سوف يردعهما عن العدوان على الناس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 187 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وصادف انهما مرا معاً على بيوت عليّ بن سود وهم من الأزد وكانوا مشهورين بحسن الرماية والتسديد فرموهما رمياً لابعادهما عن منازلهم حتى جعلوهما على حافة الهلاك فناديا: يا بني عليّ القيا، نحن لا رماء بيننا، فأجابهما رجل من بني عليّ بن سود:

لا شيء للقوم سوى السهام *** مشحوذة في غلس الظلام

فابتعدا كلاهما وجعلا طريقهما على مقبرة بني يشكر فأحاطت بهما رجال من بني طاحبة من بني سود ومزينة ومضر فقتلوهما ولم يبق لقريب الأزدي وزحاف الطائي إلاّ الذكر السيء الذميم.

9 – نجدة بن عامر: كان هذا الخارجي إنساناً معتدلاً في آرائه بالبصرة فهو لم يكن يسيغ انحرافاً عن سبيل مسلوك يؤدي إلى جريمة خلقية أو تفرقة اجتماعية أو ضرر جسمي وقد اختلف مع نافع بن الأزرق عميد الأزارقة في استحلاله الغدر بأمانة الذين يخالفونه بالرأي فكتب إليه نجدة بن عامر يلومه على ذلك ووصفه بأنه قد يجرد له الشيطان خاصة في قتله الأطفال وما إلى ذلك فانبرى له نافع الأزرق فأرسل له رسالة غاضبة ختمها بقوله: (والسلام على من اتبع الهدى) وفي أعقاب هذا التناقد بين نجدة بن عامر ونافع بن الأزرق اندفع نافع بأصحابه عن بقية الخوارج وأقام بالأهواز معهم يجبي الخراج لنفسه ويقتل أطفال غير الخوارج فاضطرب الناس في الأهواز والبصرة ولجأوا إلى الأحنف بن قيس وبطوله ما يعانونه من أعمال نافع بن الأزرق وطلبوا منه أن يختار لهم أميراً يصون كبارهم وصغارهم من مساوئ الخوارج فانطلق الأحنف إلى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وهو يومذاك أمير البصرة من قبل عبد الله بن الزبير وشرح له ما يقاسيه الناس من أعمال نافع بن الأزرق الإجرامية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 188 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

فاختار لهم مسلم بن عبيس بن كريز أميراً عليهم فخرج بالرجال القادرين على حمل السلاح من البصرة ولما جاوز جسر البصرة جمعهم وخطب فيهم قائلاً:

أيها الناس إني ما خرجت بكم لاقتناء ذهب ولا فضة وإنما خرجت لا حارب قوماً معتدين لا يواجهوننا بغير السيوف والرماح فمن كان منكم من يريد الجهاد من أجل الاصلاح فليتبعنا ومن أراد غير ذلك فليرجع ، فرجع قليل منهم إلى البصرة وانطلق مع مسلم بن عيسى بن كريز أهل الصدق والثبات فلما بلغوا قرية دولاب خرج إليهم نافع بن الأزرق وأصحابه لقتال مسلم بن عبيس فوقف مسلم بن عبيس بين أصحابه واستخلف عليهم الربيع بن عمرو الأجذم الغداني اليربوعي إذا ما استشهد هو كما استخلف نافع بن الأزرق عبيد الله بن بشير بن الماحوز السليطي اليربوعي على أصحابه إذا ما استشهد هو ولما دارت المعركة بينهما لم يتقهقر أحد منهم أمام الآخر فقتل مسلم بن عبيس ونافع بن الأزرق وبقي من بقي منهما يقاتل خصومه أكثر من عشرين يوماً.

فقتل في أواخرها الربيع بن عمرو فاختار قومه الحجاج بن رباب الحميري رئيساً عليهم وأخذ الراية وقاتل حتى برز إليه عمران بن الحارث الراسبي فاختلفا ضربتين بينهما فوقعا صريعين على الأرض وعاد بقتلاهما إلى البصرة.

10 – الزبير بن عليّ السليطي التميمي: كان هذا الخارجي فارساً هماماً ومتديناً يقتدى به كثير من الخوارج في تيسير مهماتهم العسكرية وغير العسكرية حتى انهم كانوا يخاطبون بالامارة وكان محباً للتجوال بين المدن بين جنوب العراق فنزل ذات يوم مع أصحابه إلى البصرة مدججاً معهم بالسلاح فاضطرب أكثر الناس من نزولهم خوفاً مما كان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 189 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الخوارج يقومون به من احداث فتجمعوا لدى (الأحنف بن قيس) وأعربوا له عما بدأ يساورهم من طرؤ الخوارج عليهم وكان أمير البصرة يومئذ الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي المعروف بالقباع فانطلق الأحنف معهم إلى مقابلة القباع فأخبروه بما يساورهم من قلق فقال الأمير قباع اذكر لي رجلاً يلي الحرب عنكم فقال له الأحنف: إني لا أرى كفؤا غير (المهلب بن أبي صفرة) فقال الأمير : اذن (سأحسم أمركم في يوم غد) ولما حضر المهلب عند الأمير في اليوم التالي قال له: يا أبا سعيد انك لترى ما خامر الناس من طروء هذا العدو على البصرة وقد أجمعوا على اختيارك مطمئناً لقلوبهم وقال له الأحنف: يا أبا سعيد ما أراك تفرط في اختيار الناس اياك فقال المهلب: لا حول ولا قوة إلاّ بالله إني عند نفسي دون ما تشاؤن ولست أرفض ما طلبتموه مني ولكن لي شروطاً اشترطها قالوا: وما هي؟ فقال: إن لي اختيار من أحب وإن لي الأمرة على كل بلد أحتويه وإن لي فيئ كل بلد أظفر به فقال له الأحنف: أما الفيئ فليس لنا استغلال تمامه لأنه هو فيئ للمسلمين، ولكن لك أن تعطي منه لأصحابك ما يستحقون وما أنت تفتقر إليه لمقتضيات الحرب، فقال المهلب قد قبلت ثم كتبوا بينهم كتاباً بذلك كله وأشهدوه الصلت بن حريث بن جابر الجعفي إذ كان حاضراً وقتذاك معهم ثم انصرف المهلب بن أبي صفرة واختار من جنود الأخماس ما بلغ عددهم اثني عشر ألفاً فألبسهم خواتين بيض فوق دروعهم تميزاً عن سواهم من جنود وزودهم بكامل ما يحتاجون إليه من سلاح بينما كان الخوارج يراقبون بحذر جميع مساغيه من بعيد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 190 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وما كاد ينهي أشغاله كلها حتى أمرهم بالتوجه في البدء نحو النهر، فبرز لهم الخوارج فأمر المهلب بتحية جموعهم ريثما يعقد الجسر لعبورهم إلى الضفة الأخرى.

فأمر المغيرة بن المهلب بالامتناع عن متابعتهم وفي ذلك يقول شاعر من الأزد:

ان العراق وأهله لم يخبروا *** مثل المهلب في الحروب فسلموا

أمضى وأيمن في اللقاء نقيبة *** وأقل تهليلاً إذا ما أحجموا

وقد شارك في هذه الوقعة الوجيزة عطية بن عمرو العنبري وهو فارس من فرسان بني تميم وكان صديقاً للمغيرة بن المهلب ثم لبث  المهلب يتنقل بين قرى ومدائن دجلة زهاء أربعين ليلة يجبي الخراج بينما كان الخوارج على نهر (تيرى) لا يملكون هجوماً على المهلب فيتقدم المهلب على نهر (تيرى) فتقهقر عنه الخوارج إلى الأهواز وبقي المهلب حينذاك يستميل إليه الفرسان غير الخوارج حتى بلغ عددهم عشرين مقاتل وثابر المهلب يتنقل بين أصقاع الأهواز تاركاً المعارك بين أبي صفرة مسرفاً على رجال معسكره وتاركاً المغيرة بن أبي صفرة طليعة له أمام جيشه فالتقى المغيرة الخوارج فواقعهم مع جيشه يوماً وليلة وهو صامد راسخ الفوائد.

وفي صباح اليوم التالي انتظم جيش المغيرة مجتمعاً فلم يجد جيش الخوارج في حينما كان فكتب المهلب إلى القباع أي الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة قائلاً في رسالته: أما بعد  فانا لقينا الأزارقة بحد وجد فكانت في الناس ثم تاب أهل الحفاظ والصبر بنيات صادقة وأبدان شذاذ وسيوف حداد فأعقب الله خير عاقبة وجاوز بالنعمة مقدار الأمل فصاروا دريئة رماحنا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 191 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وضرائب سيوفنا وقتل الله أميرهم (ابن ماحور) وأرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها والسلام.

فأجابه القباع بما يلي:

قد قرأت كتابك يا أخا الأزد فرأبتك قد وهب لك شرف الدنيا وعزها وذخر لك – ان شاء الله – ثواب الآخرة وأجرها ورايتك أوثق حصون المسلمين، وهاد أركان المشركين وذا الرياسة وأخا السياسة ، فاستدم الله بشكره يتمم عليك نعمه – والسلام(39).

وكتب إليه أهل البصرة ليهنئونه على انتصاراته المتلاحقة وأما الأحنف بن قيس فهنأه شفوية مع رسول مخصوص أما الخوارج فاجتمعوا يقضهم وقضيضهم في (ارجان) فبايعوا الزبير بن عليّ – وهو فارس همام من بني سليط بن يربوع من قبيلة (ابن الماحور) ولما استعرضهم وجد فيهم ضعفاً ظاهراً وشيئاً من الانكماش عن الرغبة في الحرب ، فجمعهم أول مرة ليكون على بينة من بواطنهم وقال لهم: يا أنصار الله ان البلاء للمؤمن تمحيص وأجر وهو على الكافرين عقوبة وخزي وأن ينزل بأمير المؤمنين شيء يؤلمه فالذي صار إليه خير مما خلف وقد أصبتم منهم مسلم بن عبيس، وربيعا بن الأجزم ، والحجاج بن رباب، وحارثة بن بدر.

وأما الذي أصاب قلب المهلب من جراء مقتل أخيه المعارك بن أبي صفرة فهو أشد ما يمكن ان يلقاه في حياته وزيادة على ذلك فإن الذي لقيه المهلب من (يوم سولاق) فهو يضاهي ما لقيتموه في يوم (سلي) واعلموا بأن المهلب وأعوانه ليسوا إلاّ صغاراً عند الله، وانكم المستخلفون في الأرض.

ثم أكمن مئة فارس لقتل المهلب في مخبئ على طريق (مروة) المعهود

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 192 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ولكن المهلب كشف ما أضمره له أعداءه وفي ذلك اليوم قتل (الزبير بن عليّ) ثم برز (قيس الأكاف) وهو أمهر فرسان الخوارج ونادى (الحارث بن هلال) أن يبرز إليه فما عتم الحارث أن يبرز إليه فقتله على مشهد من الخوارج فأضعف بذلك من شوكتهم وقدرتهم وبقى المهلب مستمراً على خضد الخوارج جهد طاقته خلال ولاية الحارث القباع حتى عزل وتولى مكانه مصعب بن الزبير فكتب إلى المهلب لا انه يقدم إليه مستخلفاً ابنه المغيرة في مكانه ففعل وانصرف إلى مصعب بن الزبير استجابة لأمره وفيما كان المهلب في طريقه إلى مصعب كتب مصعب إلى المغيرة بن المهلب بتوليته مكان أبيه قائلاً : انك ان لم تكن مثل أبيك فانك كاف لما وليت فشمر وائتزر، وجد واجتهد.

ثم ذهب مصعب بن الزبير إلى المزار بين واسط والبصرة فقتل أحمر بن شميط ثم اتجه الى الكوفة فقتل المختار بن أبي عبيد.

ولما قتل الزبير بن عليّ قائد جيوش الخوارج في الميدان أمر عتاب بن ورقاء قائد جيوش المسلمين أن لا يتبعوا الخوارج في أعقاب هزيمتهم ليبتعدوا ويستعرضوا بينهم أسماء قتلاهم وما نزل بهم من بلاء واذلال.

أما الخوارج فقد اجتمعوا فيما بينهم وهي في أشدها حالات الأسف على قتلاهم وخصوصاً على زعيمهم الزبير بن عليّ فارتأوا أن يختاروا زعيماً يتولى أمورهم فأجمعوا أمرهم على اختيار قطري بن الفجاءة المازني فبايعون ونادوا به أمير المؤمنين فيما بينهم. ولما تمت مباعيته وعلم ان أعداءه على مقربة منه وانه هو أول أهداف أعدائه حينذاك أمر أصحابه بالانتقال إلى الأهواز ولما وجدوا أنفسهم في الأهواز معرضين لمخاطر شتى انتقلوا الي قرية ابذاح ومنها مباروا إلى كرمان ثم إلى (رامهرمز) فبلغهم يومذاك مقتل مصب في مدينة (مسكن) فاستبشروا بمقتله فاجتمعوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 193 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بأسرهم أمام المسلمين وعلى رأسهم المهلب فناداهم أحد الخوارج ما تقولون في مصعب فلم يجيبوه ثم قال: فما تقولون في عبد الملك؟ قالوا: انه إمام هدى فقال لهم الخارجي: يا أعداء الله انكم نبذتموه أمس بأنه ضال مضل فكيف صار اليوم إمام هدى؟

ولقد كانت الخوارج وأعداؤهم في خلال تلك الأيام إذا ما كفوا عن القتال يتواقفون ويتساءلون عن أمور دينية فيتجاوبون على اطمئنان وبصراحة أمينة حتى ان عبيدة بن هلال الشكري سأل أبا حزابة التميمي وهو من أشباع الدولة الأموية فقال عبيدة بن هلال لأبي حزابة إني أسألك عن أشياء فهل تجيبني عنها بصراحة؟ قال: نعم ان ضمنت لي مثل ذلك قال : نعم قد فعلت فاسأل عما بدا لك.

قال: ما تقولون في أئمتكم؟ قال: يبيحون الدم الحرام، قال ويحك كيف فعلهم في المال؟ قال: يجبونه من غير حله وينفقونه من غير وجهه قال فكيف فعلهم في اليتيم؟ قال: يظلمونه ماله، ويمنعونه حقه، وينكحون أمه. قال: ويحك يا أبا حزابة أمثل هؤلاء تتبع؟ قال: مالك وهذا الأمر إني قد جئتك فاسمع سؤالي ودع عتابي على رأيي، قال: أي الخمر طيب خمر السهل أم خمر الجبل قال: ويحك أمثلي يسأل عن هذا؟ قال: قد أوجبت على نفسك أن تجيب، قال: أما إذا أبيت فإن خمر الجبل أقوى وأسكروخمر السل أحسن وأسلس. قال: فأي الزواني أفره؟ أزواني رامهرمر أم زواني أرجان؟ ويحك ان مثلي لا يسال عن هذا. قال: لابد من الجواب أو تعذر. قال أما إذا أبيت فزواني رامهرمز أرقا ايثاراً وزواني أوجان أحسن أبداناً قال فأي الرجلين أشعر جرير أم الفرزدق قال: عليك وعليهما لعنة الله قال: لابد أن تجيب قال أيهما الذي قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 194 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وطوى الطراد مع العباد بطونها *** طي النجار بحضرموت برودا

قال جرير فهو أشعرهما(40).

وروى (أبو الفرج) ان امرأة من الخوارج كانت قطرى بن الفجاءة يقال لها ام حكيم، وكانت من أجمل الناس وجهاً وأشجعهم في الحرب وأحسنهم بالدين تمسكاً وخطبها جماعة منهم خوارج فردتهم ولم تجبهم فأخبر من شاهدها في الحرب انها كانت تحمل على الناس الأعداء وترتجز فتقول:

احمل رأساً قد سئمت حمله *** وقد مللت دهنه وغسله

الا فتى يحمل عني ثقله(41)

وروى أبو الفرج نفسه في كتاب الأغاني قال:

كان عبيدة بن هلال إذا توقف الناس وتكافؤ عن القتال نادى: ليخرج إليَّ بعضكم فيخرج إليه فتيان من عسكر المهلب بن أبي صفرة فيقول لهم: أيما أحب إليكم؟ أقرأ عليهم القرآن أم أنشدكم الشعر؟ فيقولون له: أما القرآن فقد عرفناه مثل معرفتك، ولكن تنشدنا الشعر، فيقول: يا فسقة قد والله علمت انكم تختارون الشعر على القرآن ثم ما يزال ينشدهم حتى يملوا ويفترقوا(42).

وهكذا كان الخوارج في بواطنهم، ولم يكونوا في واقعهم كما كانوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ص 195 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لن يقاربوا أدنى مداحض الشيطان ولا أقل مزالق الفاسقين سواء أكان في أيام السلم أم في أيام الحرب، ولعل من أعجب العجائب ان نرى أبعاضاً من المسلمين يؤمنون (بمزاعمهم) في السر والعلن من غير تعمق ولا استحياء.

 

***  تم بعونه تعالى ***

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الهوامش ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 ـ حرب الجمل وحرب صفين:186 ، 187، 188 تاليف السيد محسن الأميني.

2 و 3 ـ حرب الجمل وحرب صفين:190،191،193،194  تاليف السيد محسن الأميني العاملي.

4 ـ حرب صفين:  187، 189 تاليف السيد محسن الأمين العاملي.

5 ـ كتاب رجال حول الرسول تأليف الاستاذ خالد محمّد خالد ص 211.

6 ـ حرب صفين:  181، 182 تاليف السيد محسن الأمين العاملي.

7 ـ حرب صفين:  183، 184 تاليف السيد محسن الأمين العاملي.

8 ـ حرب صفين:  178، 198 تاليف السيد محسن الأمين العاملي.

9 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  5 : 195.

10 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  5 : 197.

11 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  5 : 199 - 200.

12  شرح نهج البلاغة ج5 ص199 ـ 200، تحقيق محمد أبو الفضل.

13 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم 5 : 204.

14 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  5 : 206 - 207.

15 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم 5 :213.

16 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  5 : 263 - 264.

17 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  5 :218 - 219.

18 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  5 :218 - 219.

19 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم 5 : 229.

20 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  5 :218 - 219.

21 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  5 :231.

22 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم 5 :233.

23 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  5 :238.

24 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  5 :243.

25 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  5 :249 - 250.

26 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  5 :251 - 252.

27 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  5 :256.

28 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  5 :258.

29 ـ حرب صفين : 228 تأليف السيد محسن الأمين الحسيني العاملي.

30 ـ حرب صفين : 230 للسيد محسن الأمين العاملي.

31 ـ حرب صفين : 230  - 231 للسيد محسن الأمين العاملي.

32 ـ حرب صفين : 232 ، 234، 235، 236.

33 ـ حرب صفين : 231  - 232 للسيد محسن الأمين العاملي.

34 و 35 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  3 :315 - 316.

36 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  3 :315 - 316.

37 ـ حرب صفين : 251  - 252 للسيد محسن الأمين العاملي.

38 ـ حرب صفين: 250، 251، 252 للسيد محسن الأمين العاملي.

39 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  4 : 155 - 156.

40 ـ شرح نهج البلاغة تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم  2 :169 - 170.

41 ـ كتاب الأغاني 9 : 151 ط الدار.

42 ـ كتاب الأغاني 6: 161 ط الدار.