كلمات أقطاب العلم وعباقرة الأدب
حول نهج البلاغة
كلمة السيّد كاظم القزوينيّ:
جاء في كتاب شرح نهج البلاغة للسيّد كاظم القزويني: «قرأت في بعض الكتب الحديثة
أنّه قد كُتب حتى اليوم مائة ألف كتاب في ترجمة حياة نابليون الفرنسي بشتّى اللغات
الدارجة، فإن صحّ هذا القول فقد ظلم المسلمون علياً صلوات الله عليه بتقاعدهم
وتكاسلهم وعدم القيام بما يلزم تجاه هذا الإمام صلوات الله عليه, فإنّ ما كتب عن
نابليون أكثر عدداً ممّا كتُب عن الإمام علي بن أبي طالب, مع العلم أنّ نابليون لم
تكن فيه فضيلة إلاّ الثورة ضدّ حكومة الوقت، ولم ينقل إلينا عن نابليون شيء من
العلوم والاكتشافات والروحانيّات والزهد والعدالة والمساواة والتواضع وغير ذلك من
مكارم الأخلاق.
أفلا تستحقّ عظمة الإمام علي صلوات الله عليه أن يُكتب عنه مقدار ما كُتب عمّن
هو دونه في الفضل والدرجة، مع الالتفات أنّ الفضيلة التي اشتهر بها نابليون وطار
صيته بها إنما هي فضيلة واحدة من آلاف الفضائل التي اجتمعت في الإمام علي.
أو ما كان علي جندياً ثائراً على الكفر والشرك من عنفوان شبابه بين يدي رسول
الله (صلى الله عليه وآله)؟
أوَ ما كان علي قائداً مجاهداً طيلة أيام حياته وخاصّة في عهد النبي؟ وعلى
الأخصّ بعد مقتل عثمان حينما أفضت الخلافة إليه، فيوماً قاتل المتمرّدين ـ أصحاب
الجمل ـ ويوماً جاهد الدكتاتوريّين ـ أهل صفّين ـ ويوماً كافح الفوضويّين ـ الخوارج
ـ وهل حياة الإمام إلاّ ثورة وجهاد وانقلاب وكفاح؟
أضف إلى ذلك بقيّة مناقبه ومواهبه التي كلّ واحدة منها فضيلة تُذكر وتشكر وتليق
بكلّ مدح وإطراء وإعجاب وثناء.
ولا أريد أن أقيس نابليون بالإمام علي صلوات الله عليه، فإنّ علياً لا يُقاس به
أحد، بل المقصود أنّ هواة نابليون وأتباعه كتبوا عنه هذا العدد الهائل من
المؤلّفات، والمسلمون لم يراعوا حقّ علي، بل قصّروا بما يجب عليهم حول علي، إلاّ
القليل ممّن وفى لرعاية الحق، ولعلّ الله تعالى يبعث في علماء المسلمين وكتّابهم
وحملة الأقلام ومفكّريهم روح النشاط في العمل وإدامة الجهاد المتواصل في سبيل الله
وسبيل المبدأ والعقيدة والحق، إنّ الله على كلّ شيء قدير».
كلمة الحجّة آغا بزرك الطهراني:
قال الشيخ الحجّة آغا بزرك قدّس الله روحه في المجلّد الرابع من «الذريعة» تحت
عنوان (ترجمة نهج البلاغة): لم يبرز في الوجود بعد انقطاع الوحي الإلهيّ كتاب أمسّ
به ممّا دُوّن في نهج البلاغة، نهج العلم والعمل الذي عليه مسحة من العلم الإلهيّ،
وفيه عبقة من الكلام النبويّ، وهو صدف لئالي الحكم وسفط يواقيت الكلم!
المواعظ البالغة في طيّ خطبه وكتبه تأخذ بمجامع القلوب، وقصار كلماته كافلة
لسعادة الدنيا والآخرة، ترشد طلاّب الحقائق بمشاهدة ضالّتهم، وتهدي أرباب الكياسة
لطريق سياستهم وسيادتهم، وما هذا شأنه حقيق أن يعتكف بفنائه العارفون، وينقّبه
الباحثون، وحريّ أن تُكتب حوله كتب ورسائل كثيرة حتّى يُشرح فيها مطالبه كلاً أو
بعضاً، ويترجم إلى لغات أخر ليغترف أهل كلّ لسان من بحاره غرفة.
وقال في المجلد الرابع عشر منه أيضاً تحت عنوان «نهج البلاغة»: هو كالشمس
الطالعة في رائعة النهار، في الظهور وعلوّ الشأن والقدر وارتفاع المحلّ، قد جُعلت
رؤيتها لجميع الناس مرأى واحداً لا تخفى على أحد، فيقبح من العاقل البصير سؤال ما
هي الشمس الطالعة؟ وهي ممّا يقتبس من إشراق نورها كافّة الكائنات في البرّ والبحر،
كذلك النهج قد طبّقت معروفيّته الشرق والغرب، ونشر خبره في أسماع الخافقين، ويتنوّر
من تعليمات النهج جميع أفراد نوع البشر لصدوره عن معدن الوحي الإلهيّ، فهو أخ
القرآن الكريم في التبليغ والتعليم، وفيه دواء كلّ عليل وسقيم، ودستور للعمل
بموجبات سعادة الدنيا وسيادة دار النعيم، غير أنّ القرآن أنزله حامل الوحي الإلهيّ
على قلب النبي الأمين (صلى الله عليه وآله)، والنهج أنشأه باب مدينة علم النبي
وحامل وحيه، سيّد الموحّدين وإمام المتّقين علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه من
رب العالمين، وقد قيل فيه:
نهج البلاغة نهج العلم والعملِ فاسلُكه يا صاح تبلغ غاية الأملِ
وقد لمحّنا في ج4، ص144 إلى سيادته على سائر الكتب وكونه دون كلام الخالق وفوق
كلام المخلوق، ونِعم ما قيل فيه:
كلامُ عليٍّ كلامٌ عليٌّ وما قاله المرتضى مرتضى
لقد صارت الكلمات التي يلقيها أمير المؤمنين صلوات الله عليه في خطبه، أو
يُمليها إلى كاتبه مخزونة في صدور جمع من أصحابه، على موجب السيرة العربيّة، ثم
قيّد ما في تلك الصدور إلى الكتابة في الأصول الأوّليّة، ومنها ما أُلفّ في عصر
الأمير (عليه السلام)، مثل (كتاب الخطب) تأليف أبي سليمان زيد الجهني الذي شهد حروب
الأمير (عليه السلام)، ثمّ نقل منها إلى سائر الكتب التي أُلّفت في جمع خطبه (عليه
السلام) إلى عصر الشريف الرضي (رحمه الله) ممّا لا يُستهان به، وكانت تلك الأصول
المعتبرة والكتب المعتمدة في مكتبة الوزير سابور بن أردشير وغيرها في بغداد تحت نظر
الشريف الرضي (رحمه الله) يستفيد منها في كلّ حين، حتّى أخرج منها ما اختاره من
منشئآت أمير المؤمنين (عليه السلام) وجعلها بين الدفّتين مرتباً على ثلاثة أقطاب
(1) الخطب (2) الكتب (3) الحكم، وبعد ذلك سمّى ما دوّنه من المنشئات بـ (نهج
البلاغة)، وبيّن وجه التسمية في مقدّمة الكتاب بقوله: لأنه يفتح للناظر في تلك
المنشآت أبواب من البلاغة، فكلّ واحد من الخطب والكتب والحكم مصداق نهج البلاغة، أي
طريقها الواضح، يفتح للناظر فيه أبواب من البلاغة، وبما أنّ ما اختاره ودوّنه في
الأقطاب قد رقى في الجزالة والبلاغة أعلى الدرجات، وعجزت عن إدراك مزاياه أفهام
كثير من الطبقات، كان محتاجاً إلى التعليق والتحشية والشرح والبيان والترجمة إلى
سائر اللغات نظماً ونثراً، لتعميم نفعه لجميع أفراد نوع الإنسان، فقيّض الله
Y جمعاً من أعلام المسلمين من العرب والعجم
والسنّة والشيعة وغيرهم، فقاموا بتلك الوظائف كلّ على مبلغ وُسعه وجدّه ومقدرته،
وتوفيقه وسعادته، وهم بين مَن شرح جميعه، أو علّق عليه كذلك، أو شرح مشكلاته فقط،
أو شرح خطبه، أو شرح كتبه أوجمعها، أو شرح كلماته القصار أو بعض أجزائه، أوترجمه
كلاً أو بعضاً إلى لغة أخرى، أو نظمه كلاً أو بعضاً بالفارسية أو غيرها، أو ألّف في
بعض ما يتعلّق به من تعداد خطبه وكتبه أو فهرس ألفاظه، أو التعريف له أو غير ذلك
ممّا ألّفوه من هذا القبيل حسب ما اطّلعت عليه طيلة السنين، نسأل الله لهم جزيل
الأجر والثواب ونشكر جميل مساعيهم، انتهى.
كلمة العلاّمة السيّد هبة الدين الشهرستاني:
وقال العلاّمة الحبر (رئيس محكمة التمييز الجعفريّة في العراق) السيّد هبة الدين
الشهرستانيّ (رحمه الله) في كتابه (ما هو نهج البلاغة): نهج البلاغة كتاب عربي
اشتهر في مملكة الأدب الأمميّ اشتهار الشمس في الظهيرة، وهو صدف لئالٍ من الحِكَم
النفيسة، ضمَّ بين دفّتيه 242خطبة وكلاماً، و78 كتاباً ورسالة، و498 كلمة من يواقيت
الحكمة وجوامع الكلم لإمام الكلّ في الكلّ أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وذلك
المختار من لفظه الحرّ وكلماته الغرّ وما جادت به يراعته الدفّاقة من لؤلؤٍ رطب
ودرٍّ نضيد، وإنّ لسامعي هذه الخطب والكلم اهتزاز وَجدٍ وتمايل طربٍ محسوسين، وذانك
برهانان لتفوّق الغناء الروحي على نغمات قيثارة ماديّة، بل إنّ النغمات الموسيقيّة
وأغانيها تتلاشى وتبيد بمرور الزمن، ورنّة النغم من كلم الإمام خالدة الأثر عميقة
التأثير، ومن شآء أن يعرف أنّ الحروف كيف تُطرب، وأنّ الكلمة كيف تجذب، وأنّ الكلام
كيف يُكهرب، فليقرأ نهج البلاغة، وهذه الجمل أمثولة منه، إذ يقول في وصف الجنّة بعد
وصف الطاووس وعجيب خلقته:
«فَلَوْ رَمَيْتَ بِبَصَرِ قَلْبِكَ
نَحْوَ مَا يُوصَفُ لَكَ مِنْهَا لَعَزَفَتْ نَفْسُكَ عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ
إِلَى الدُّنْيَا مِنْ شَهَوَاتِهَا وَلَذَّاتِهَا وَزَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا
وَلَذَهِلَتْ بِالْفِكْرِ فِي اصْطِفَاقِ أَشْجَارٍ غُيِّبَتْ عُرُوقُهَا فِي
كُثْبَانِ الْمِسْكِ عَلَى سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا وَفِي تَعْلِيقِ كَبَائِسِ
اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِي عَسَالِيجِهَا وَأَفْنَانِهَا وَطُلُوعِ تِلْكَ
الثِّمَارِ مُخْتَلِفَةً فِي غُلُفِ أَكْمَامِهَا تُجْنَى مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ
فَتَأْتِي عَلَى مُنْيَةِ مُجْتَنِيهَا وَيُطَافُ عَلَى نُزَّالِهَا فِي أَفْنِيَةِ
قُصُورِهَا بِالْأَعْسَالِ الْمُصَفَّقَةِ وَالْخُمُورِ الْمُرَوَّقَةِ»
الخ.
كلمة الحجّة العلاّمة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء:
ولحجّة الاسلام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رضوان الله عليه كلمة حول نهج
البلاغة في كتابه (جنّة المأوى) ص: 136 جاء فيها:
«ما جادت العصور، ولا انجلت الدهور عن كتاب ـ بعد كتاب الله العظيم ـ أنفع ولا
أجمع ولا ألمع وأنصع من نهج البلاغة في إقامة براهين التوحيد ودلائل الصنعة وأسرار
الخليقة وأنوار الحقيقة وتذهيب النفس، وسياسة المدن، وحكمة التشريع والعظات
البليغة، والحجج الدامغة، وإنارة العقول، وطهارة النفوس، بينا تراه يفيض بينابيع
الحكمة النظريّة والعمليّة، ويرهق على توحيد الصانع، ويغرق في وصف الملائكة
والمجرّدات بياناً، ويمثّل لك الجنة والنار عياناً كفيلسوف إلهي، وملاك روحيّ، وإذا
به يعطيك قوانين الحرب وسوق الجيوش وتعبئة العساكر، كقائد حربي ومغامر عسكريّ، لا
تلبث أن تجد فيه ما يبهرك من عجيب وصف الطاووس والخفّاش والذرة والنملة، فيصفها
دقيقاً، ويستوعب فيها من عجائب التكوين وبدائع القدرة، حتى يُخيّل لك من دقّة الوصف
أنّه هو الذي أبدع تصويرها، وقدّر مقاديرها، وركّب أعضاءها، وربط مفاصلها، هو
صانعها ومبدعها، وصوّرها وقدّرها وشقّ سمعها وبصرها».
كلمة ابن أبي الحديد المعتزلي في نهج البلاغة:
قال في المجلد الثاني من شرحه ص 167: «لو سمع هذا الكلام ـ يعني كلام علي (عليه
السلام) ـ النظر بن كنانة لقال لقائله ما قاله علي بن العباس بن جريح لإسماعيل بن
بلبل:
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم
وكم أبٍ قد علا بابنٍ ذُرا شرفٍ |
|
كلاّ ولكن لـعمري منـه شيبانُ
كما علا برسول الله عدنان |
إذ كان يفخر به على عدنان وقحطان، بل كان يقرّ به عين أبيه إبراهيم خليل الرحمن،
ويقول له: إنه لم يُعفَ ما شيّدتُ من معالم التوحيد، بل أخرج الله تعالى من ظهري
ولداً ابتدع من علوم التوحيد في جاهلية العرب ما لم تبتدعه أنت في جاهليّة النبط،
بل لو سمع هذا الكلام أرسطوطاليس القائل بأنّ الله تعالى لا يعلم الجزئيّات لخشع
قلبه ووقف شعره واضطرب فكره، ألا ترى ما عليه من الرواء والمهابة والعظمة والفخامة
والمتانة والجزالة، مع ما قد أُشرب من الحلاوة والطلاوة واللطف والسلاسة، لا أرى
كلاماً يشبه هذا إلاّ أن يكون كلام الخالق سبحانه، فإنّ هذا الكلام نبعة من تلك
الشجرة، وجدول من ذلك البحر، وجذوة من تلك النار، وكأنّه شرح قوله تعالى:
«وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي
الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ
فِي ظُلُماتِ الأَْرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ».(1)
ويعود ثانياً فيقول ص150 منه:
هذا موضع المثل «إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل»(2)
يعني إذا جاء هذا الكلام الربّاني واللفظ القدسي بطلت فصاحة العرب، وكانت نسبة
الفصيح من كلامها إليه نسبة التراب إلى النضار الخالص، ولو فرضنا أنّ العرب تقدر
على الألفاظ الفصيحة المناسبة والمقاربة لهذه الألفاظ، من أين لهم المادة التي
عبّرت هذه الألفاظ عنها، ومن أين تعرف الجاهليّة ـ بل الصحابة المعاصرون لرسول الله
(صلى الله عليه وآله) ـ هذه المعاني الغامضة السمائية ليتهيّأ لها التعبير عنها.
أمّا الجاهلية فإنّهم إنّما كانت تظهر فصاحتهم في صفة بعير أوفرس أوحمار وحشي أو
ثور فلاة أو صفة جبال أو فلوات ونحو ذلك.
وأمّا الصحابة فالمذكورون منهم بفصاحة إنّما كان منتهى فصاحة أحدهم كلمات لا
تتجاوز السطرين أو الثلاثة، إمّا في موعظة تتضمّن ذكر الموت أو ذمّ الدنيا، أو ما
يتعلّق بحرب وقتال من ترغيب وترهيب أو نسب.
فأمّا الكلام في الملائكة وصفاتها وصورها وعباداتها وتسبيحها ومعرفتها بخالقها
وجماله وولهها إليه وما جرى مجرى ذلك، فإنّه لم يكن معروفاً عندهم على هذا التفصيل،
نعم ربّما علموه جملة غير مقسّمة هذا التقسيم ولا مرتّبة هذا الترتيب بما سمعوه من
ذكر الملائكة في القرآن العظيم، وأمّا من عنده علم من هذه المادة كعبد الله بن
سلام، وأمية بن أبي الصلت، وغيرهم، فلم تكن لهم هذه العبارة، ولا قدروا على هذه
الفصاحة , فثبت أنّ هذه الأمور الدقيقة في مثل هذه العبارة الفصيحة لم تحصل إلاّ
لعلي وحده، وأُقسم أنّ هذا الكلام إذا تأمّله اللبيب اقشعرّ جلده ورجف قلبه واستشعر
عظمة الله العظيم في روعه وجلده، وهام نحوه، وغلب الوجد عليه، وكاد أن يخرج من مسكه
شوقاً، وأن يفارق هيكله صبابة ووجداً.
ولاستجلاء هذه الحقائق بأرقامها لا بدّ من ذكر نكتة تؤيّدها وتضمن وجودها: من
العلم بالنسب وأنّ معرفة الصحابة محدودة.
حدّث المعتزلي في المجلّد الأول من (شرح النهج) ص 378 ط الاولى، ونقل القصة
أيضاً المحبّ الطبري في المجلد الأول من كتابه (الرياض النظرة) ص 102 في أحوال أبي
بكر، ونحن ننقلها عن المعتزلي:
روى المعتزلي عن المدائني في كتاب الأمثال عن المفضّل الضبي: أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا خرج عن مكّة يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج
إلى ربيعة ومعه علي (عليه السلام) وأبوبكر، فدُفعوا إلى مجلس ربيعة، فتقدّم أبوبكر
ـ وكان نسّابة ـ فسلّم فردّوا (عليه السلام) فقال: ممّن القوم؟ قالوا: من ربيعة،
قال: أمن هامّتها أم من لهازمها؟ قالوا: من هامتها العظمى، فقال: من أيّ هامتها
العظمى أنتم؟ قالوا: من ذهل الأكبر، قال: أفمنكم عوف الذي يُقال له لا حر بوادي
عوف؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم بسطام ذو اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا. قال:
أفمنكم جسّاس حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم الحوفزان قاتل
الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟
قالوا: لا. قال: أفأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا. قال: فلستم إذاً ذهلاً
الأكبر، أنتم ذهل الأصغر. فقام إليه غلام قد بقل وجهه اسمه دغفل فقال:
إنّ على سائلنا أن نسألهْ والعِبء لا تعرفه أو تحمله
يا هذا إنّك قد سألتنا فأجبناك ولم نكتمك شيئاً، فممّن الرجل؟
قال: من قريش. قال: بخٍ بخٍ أهل الشرف والرياسة، فمن أيّ قريش أنت؟ قال: من تيم
بن مرة، قال: أمكنت ـ والله ـ الرامي من الثغرة، أمنكم قصيّ بن كلاب الذي جمع
القبائل من فهر فكان مجمّعاً؟ قال: لا، قال: أفمنكم هاشم الذي هشم لقومه الثريد؟
قال: لا، قال: أفمنكم شيبة الحمد مُطعم طير السماء؟ قال: لا. قال: أفمن المفيضين
بالناس أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الوفادة
أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل السقاية؟ قال:
لا. قال: فاجتذب أبوبكر زمام ناقته ورجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) هارباً
من الغلام، فقال دغفل: صادف درء السيل درأً يصدعه،(3) أما والله لو ثبت
لأخبرتُه أنّك من زمعات قريش ـ أي من أرذالها ـ فتبسّم رسول الله (صلى الله عليه
وآله)، وقال علي (عليه السلام) لأبي بكر: لقد وقعت يا أبا بكر من الأعرابي على
باقعة، أي داهية، قال: أجل «إنّ لكل طامة طامة، والبلاء موكل بالمنطق» فذهبت مثلاً.(4)
قال ابن أبي الحديد «فهذا الذي تعلمه الصحابة لايتجاوز السطرين أوالثلاثة، أمّا
في موعظة أو نسب أو غير ذلك ممّا ذكرنا من صفات الإبل والخيل أو حمار وحشي».
ويعود ابن أبي الحديد ثالثة فيقول في المجلّد الثاني من شرحه ص546، في دعم من
زعم أنّ خطب نهج البلاغة للشريف الرضي (رحمه الله). تحدّث، بعد ذكر خطبة ابن أبي
الشحماء العسقلاني الكاتب فقال:
هذه أحسن خطبة خطبها هذا الكاتب، وهي ـ كما تراها ـ ظاهرة التكلّف، بيّنة
التوليد، تخطب على نفسها، وإنّما ذكرت هذا لأنّ كثيراً من أرباب الهوى يقولون: إنّ
كثيراً من نهج البلاغة كلام مُحَدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربّما عزوا بعضه إلى
الرضي أبي الحسن وغيره، وهؤلاء قوم أعمت العصبيّة أعينهم فضلّوا عن النهج الواضح،
وركبوا بنيات(5) الطريق ضلالاً وقلّة معرفة بأساليب الكلام، وأنا أوضح
لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط، فأقول: لا يخلو إمّا أن يكون كلّ نهج
البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه، والأوّل باطل بالضرورة، لأنّا نعلم بالتواتر صحّة
إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد نقل المحدّثون _كلّهم أو جلّهم ـ
والمؤرّخون كثيراً منه وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك، والثاني يدلّ على
ما قلناه، لأنّ من قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا طرفاً من علم البيان، وصار له ذوق
في هذا الباب لا بدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح،
وبين الأصيل والمولّد، وإذا وقف على كرّاس واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء أو
لاثنين منهم فقط فلا بدّ أن يفرّق بين الكلامين ويميّز بين الطريقتين، ألا ترى أنّا
ـ مع معرفتنا بالشعر ونقده ـ لو تصفّحنا ديوان أبي تمّام فوجدناه قد كتب في أثنائه
قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمام ونَفَسِهِ
وطريقته ومذهبه في القريض؟ ألا ترى أنّ العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد
كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئاً
كثيراً لما ظهر لهم أنّه ليس من ألفاظه ولا من شعره، وكذلك غيرهما من الشعراء، ولم
يعتمدوا في ذلك إلاّ على الذوق خاصّة، وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه
ماءاً واحداً أو أسلوباً واحداً كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً
لباقي الأبعاض في الماهيّة، وكالقرآن العزيز أوّله كأوسطه، وأوسطه كآخره، وكلّ سورة
منه وكلّ آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطريق والنظم لباقي الآيات والسور،
ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك، فقد ظهر لك بهذا
البرهان الواضح ضلال من زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين (عليه
السلام). واعلم أنّ قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به، لأنّا متى فتحنا
هذا الباب وسلّطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو لم نثق بصحّة كلام منقول عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) أبداً، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول «هذا الخبر منحول وهذا
الكلام مصنوع» وكذلك ما نُقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والأدب
وغير ذلك، وكلّ أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له فيما يرويه عن النبي (صلى الله عليه
وآله) والأئمّة الراشدين والصحابة والتابعين والشعراء المترسّلين والخطباء، فلناصر
أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يستعدّ إلى مثله فيما يروونه عنه من نهج البلاغة
وغيره، وهذا واضح.
كلمة الفيلسوف الشيخ محمّد عبدة:
«مفتي الديار المصرية في مقدّمة شرحه لنهج البلاغة»:
«فقد أوفى لي حكم القدر بالاطّلاع على كتاب نهج البلاغة مصادفة بلا تعمّل، أصبته
على تغيّر حال وتبلبل بال وتزاحم أشغال وعطلة من أعمال، فحسبته تسلية وحيلة
للتخلية، فتصفّحتُ بعض صفحاته وتأمّلت جُملاً من عباراته من مواضع مختلفات ومواضيع
متفرّقات، فكان يخيّل لي في كلّ مقام أنّ حروباً شبّت وغارات شُنّت، وأنّ للبلاغة
دولة، وللفصاحة صولة، وأنّ للأوهام عرامة وللريب دعارة، وأنّ محافل الخطابة وكتائب
الذرابة (أي الفصاحة)(6) في عقود النظام وصفوف الانتظام تنافح بالصفيح
الأبلج (أي السيف)(7) والقويم الأملج (الرمح الاسمر)(8)
وتمتلج المهج (أي تمض)(9) برواضع الحجج، فتفلّ من دعارة الوساوس، وتصيب
مقاتل الخوانس، فما أنا إلاّ والحقّ منتصر والباطل منكسر، ومرج الشكّ في خمود، وهرج
الريب في ركود، وإنّ مدبّر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). بل كنت كلّما انتقلت من موضع إلى
موضع أحسّ بتغيّر المشاهد وتحوّل المعاهد، فتارة كنتُ أجدني في عالم يغمره من
المعاني أرواح عالية في حلل من العبارات الزاهية، تطوف على النفوس الزاكية، وتدنو
من القلوب الصافية، توحي إليها رشادها، وتقوّم منها مرادها، وتنفر بها عن مداحض
المزال إلى جواد الفضل والكمال، وطوراً كانت تنكشف لي الجمل عن وجوه باسرة وأنياب
كاشرة وأرواح في أشباح النمور ومخالب النسور، قد تحفّزت للثواب ثمّ انقضّت
للاختلاب، فخلبت القلوب عن هواها، وأخذت الخواطر دون مرماها، واغتالت فاسد الأهواء
وباطل الآراء.
وأحياناً كنت أشهد أنّ عقلاً نورانيّاً لا يشبه خلقاً جسدانياً فصل عن الموكب
الإلهي واتّصل بالروح الانساني، فخلعه عن غاشيات الطبيعة، وسما به إلى الملكوت
الأعلى، ونما به إلى مشهد النور الأجلى، وسكن به إلى عمّار جانب التقديس بعد
استخلاصه من شوائب التلبيس.
وآنات كأنّي أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعلياء الكلمة، وأولياء أمر الأمّة،
يعرّفهم مواقع الصواب، ويبصّرهم مواضع الارتياب، ويحذّرهم مزالق الاضطراب، ويُرشدهم
إلى دقائق السياسة، ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم إلى منصّات الرئاسة، ويصعدهم
شُرَفَ التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير...» إلى آخر كلماته الظاهرة عليها إمارات
الدهشة والحيرة.
أجل ولئن اندهش هذا الفيلسوف من كلام أمير المؤمنين علي (عليه
السلام) واضطرب فكره، فقد اضطربت قبله آراء فلاسفة وحكماء، ووقفت أفكارهم عند حدّه.
كلمة محمد محيي الدين مصدّر شرح النهج لابن عبدة:
«وبعد فهذا الكتاب (نهج البلاغة)، وهو ما اختاره الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن
الحسن الموسويّ من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وهو الكتاب
الذي جمع بين دفّتيه عيون البلاغة وفنونها، وتهيّأت به للناظر فيه أسباب الفصاحة،
ودنا منه قطافها، إذ كان من كلام أفصح الخلق ـ بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) ـ
منطقاً وأشدّهم اقتداراً وأبرعهم حجّة، وأملكهم للّغة، يُديرها كيف شاء، الحكيم
الذي تصدر الحكمة عن بيانه، والخطيب الذي يملأ القلب سحر لسانه، العالم الذي تهيّأ
له من خلاط الرسول وكتابة الوحي، والكفاح عن الدين بسيفه ولسانه منذ حداثته ما لم
يتهيّأ لأحد سواه...».
كلمة السيد الشريف الرضي (رحمه الله) مؤلّف نهج البلاغة:
قال الرضي (رحمه الله): فإنّي كنت في عنفوان السنّ وغضاضة الغصن ابتدأت بتأليف
كتاب في خصائص الأئمة (عليهم السلام) يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم، حداني
عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب، وجعلته أمام الكلام، وفرغت من الخصائص التي تخصّ
أميرالمؤمنين علياً (عليه السلام)، وعاقت عن إتمام بقيّة الكتاب محاجزات الأيام
ومماطلات الزمان، وكنت قد بوّبت ما خرج من ذلك أبواباً، وفصّلته فصولاً، فجاء في
آخرها فصل يتضمّن محاسن ما نُقل عنه (عليه السلام) من الكلام القصير في المواعظ
والحكم والأمثال والآداب، دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة، فاستحسن جماعة من
الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدّم ذِكره، معجبين ببدائعه ومتعجّبين من نواصعه،
وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على المختار من كلام أمير المؤمنين
(عليه السلام) في جميع فنونه ومتشعّبات غصونه من خطب وكتب ومواعظ وأدب، علماً أنّ
ذلك يتضمّن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربيّة وثواقب الكلم الدينيّة
والدنياويّة ما لا يوجد مجتمعاً في كلام، ولا مجموع الأطراف في كتاب، إذ كان أمير
المؤمنين (عليه السلام) مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه (عليه
السلام) ظهر مكنونها، وعنه أُخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كلّ قائل خطيب، وبكلامه
استعان كلّ واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصّروا، وقد تقدّم وتأخّروا، لأنّ كلامه
(عليه السلام) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهيّ، وفيه عبقة من الكلام
النبويّ.
كلمة ميرزا حبيب الله الخوئي
«مؤلّف منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة»:
«... ثم إنّ أحسن الروايات المنشورة، وأبهى الكلمات المنثورة، هو ما دوّنه السيد
السند والركن المعتمد الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين الموسوي قدّس
الله سره ونوّر ضريحه في نهج البلاغة من شرائف الكلام والخطب، ولطائف الوصايا
والكتب والأدب، المأثورة من باب مدينة العلم والحكمة، والمتلقّاة من قطب دائرة
الطهارة والعصمة، حجّة لله في عباده، وخليفة لله في بلاده.
ولعمري إنّه كتاب شرع المناسك للناسك، وشرح المسالك للسالك، وهو خلاص المتورّطين
في الهلكات، ومناص المتحيّرين في الفلوات، ملاذ كلّ بائس فقير، ومعاذ كلّ خائف
مستجير، مدينة المآرب وغنية للطالب، لأنّ ما أُودع فيه كلام عليه مسحة من الكلام
الإلهيّ، وفيه عبقة من الكلام النبويّ، ظاهره أنيق وباطنه عميق، مشتمل على أمر ونهي
ووعد ووعيد، وترغيب وترهيب وجدل ومثل وقصص، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه، يدلّ
على الجنة طالبها، وينجي من النار هاربها، شفاء من الداء العُضال، ونجاة من ظلمة
الضلال، دواء لكلّ عليل ورواء لكلّ غليل، وأمل لكلّ آمل، وبحر ليس له ساحل، وكنـز
مشحون بأنواع الجواهر والدرر، يفوح من نفحاته المسك الأذفر والعنبر.
ومع ذلك قد احتوى من حقائق البلاغة، ودقائق الفصاحة ما لا يبلغ قعره الفكر، وجمع
من فنون المعان وشؤون البيان ما لا ينال غوره النظر، وتضمّن من أسرار العربية
والنكات الأدبية والمحاسن البديعية ما يعجز عن تقديره لسان البشر...».
كلمة الأستاذ حسن نائل المرصفي المصري:
تحدّث أستاذ الفن (حسن نائل المرصفي) مدرس البيان بكليّة العزيز الكبرى بمصر في
مقدّمة شرحه على نهج البلاغة، فجمع بايجاز أطراف البيان حول عبقريّة الإمام وذكر
مزاياه العالية وشرح ماهيّة كلامه في نهج البلاغة ملخّصاً فيما يأتي، قال:
«بهذه الخصال الثلاث ـ يعني جمال الحضارة الجديدة، وجلال البداوة القديمة،
وبشاشة القرآن الحكيم ـ امتاز الخلفاء الراشدون، ولقد كان المجلي في هذه الحلبة علي
صلوات الله عليه، وما أحسبني أحتاج في إثبات هذا إلى دليل أكثر من نهج البلاغة، ذلك
الكتاب الذي أقامه الله حجّة واضحة على أنّ عليّاً (رضي الله عنه) قد كان أحسن مثال
حيّ لنور القرآن وحكمته، وعلمه وهدايته، وإعجازه وفصاحته.
اجتمع لعليّ (عليه السلام) في هذا الكتاب ما لم يجتمع لكبار الحكماء وأفذاذ
الفلاسفة ونوابغ الربّانيّين من آيات الحكمة السامية وقواعد السياسة المستقيمة، ومن
كلّ موعظة باهرة، وحجّة بالغة، تشهد له بالعقل وحسن الأثر.
خاض علي في هذا الكتاب لجّة العلم والسياسة والدين، فكان في كلّ هذه المسائل
نابغة مبرّزاً، ولئن سألت عن مكان كتابه من الأدب بعد أن عرفت مكانه من العلم، فليس
في وسع الكاتب المسترسل، والخطيب المصقع، والشاعر المفلق أن يبلغ الغاية في وصفه
والنهاية من تقريظه، وحسبنا أن نقول: إنّه الملتقى الفذّ الذي التقى فيه جمال
الحضارة وجزالة البداوة، والمنـزل الفرد الذي اختارته الحقيقة لنفسها منـزلاً
تطمئنّ فيه وتأوي إليه بعد أن زلّت بها المنازل في كلّ لغة».
* * *
وكم مثل هذا في الواصفين لنهج البلاغة من حكموا بتفوّقه على كتب الإنشاء ومنشآت
البلغاء، واعترفوا ببلوغه حدّ الاعجاز، وأنّه فوق كلام المخلوقين ودون كلام الخالق
المتعال، وأعجبوا به أقصى الإعجاب، وشهدت ألسنتهم بدهشة عقولهم من عظمةٍ أضاء سنا
برقها من ثنايا الخطب ومزايا الجمل، وليس إعجاب الأدباء بانسجام لفظه وحده، ولا
دهشة العلماء من تفوّق معانيه البليغة حدّ الاعجاز فقط، وإنّما الإعجاب كلّه
والدهشة كلّها في تنوّع المناحي في هذه الخطب والكلم، واختلاف المرامي والأغراض
فيها، فمن وعظ ونصح وزهد وزجر، إلى تنبيه حربيّ واستنهاض للجهاد، إلى تعليم فنّي
ودروس ضافية في هيئة الأفلاك وأبواب النجوم، وأسرار من طبائع كائنات الأرض وكامنات
السماء، إلى فلسفة الكون وخالقه، وتفنّن في المعارف الإلهيّة وترسّل في التوحيد،
وصفة المبدء والمعاد، إلى توسّع في أصول الإدارة وسياسة المدن والأمم، إلى تثقيف
النفوس بالفضائل وقواعد الاجتماع وآداب المعاشرة ومكارم الأخلاق، إلى وصف شعري
لظواهر الحياة، وغير ذلك من شتّى المناحي المتجلّية في نهج البلاغة بأرقى المظاهر.
كلمة الصحافي الشهير «أمين نخلة»:
ولا تغيب عنك كلمة الصحافي الشهير (أمين نخلة) من أفاضل المسيحيين مخاطباً من
رجاه انتخاب (المئة) من كلمات الإمام (عليه السلام)، إذ قال:
«سألتني أن أنتقي مئة كلمة من كلمات أبلغ العرب أبي الحسن تُخرِجها في كتاب،
وليس بين يديّ الآن من كتب الأدب التي يُرجع إليها في مثل هذا الغرض إلاّ طائفة
قليلة منها إنجيل البلاغة (النهج)، فرحت أسرّح اصبعي فيه، ووالله لا أعرف كيف أصطفي
لك المئة من مئات، بل الكلمة من الكلمات، إلاّ إذا سلخت الياقوتة عن أختها
الياقوتة، ولقد فعلت ويدي تتقلّب على اليواقيت، وعيني تغوص في اللمعان، فما حسبتني
أخرج من معدن البلاغة بكلمة لفرط ما تحيّرت في التخيير، فخذ هذه (المئة) وتذكّر
أنّها لمحات من نور وزهرات من نَور، ففي نهج البلاغة من نِعم الله على العربية
وأهلها أكثر بكثير من مئة كلمة».
يصف هذا الكاتب وغيره كلم الإمام (عليه السلام) بالدرّ والياقوت والجوهر، وأنّى
لهذه الأحجار الغالية مزايا الحكمة العالية، ومن أين لها أن تهدي الحيارى في سُبل
الحياة ومسالكها الشائكة، ومن أين لها الوساطة بين الجهل والعلم، وربط الانسان
بعالم اللاهوت، أو أن تكشف للبصائر أسرار الملكوت.
كلمة «نرسيسيان»:
«رئيس كتّاب القنصلية البريطانية ببغداد سنة 1328هـ»
وكان من فضلاء الأرمن زاعماً تفوّق نهج البلاغة على كلّ كلام عربي لكثرة ما فيه
من السهل الممتنع الذي لا يوجد في سواه، وانقياد الأسجاع الصعاب فيه بلا تكلّف،
واستشهد بقوله (عليه السلام):
«أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ وَشُغُفِ
الْأَسْتَارِ نُطْفَةً دِهَاقاً وَعَلَقَةً مِحَاقاً وَجَنِيناً وَرَاضِعاً
وَوَلِيداً وَيَافِعاً ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً وَلِسَاناً لَافِظاً
وَبَصَراً لَاحِظاً لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً وَيُقَصِّرَ مُزْدَجِراً حَتَّى إِذَا
قَامَ اعْتِدَالُهُ وَاسْتَوَى».
معجباً بحسن التسجيع وكيف يجري الروي كالماء السلسال على لسان الإمام (عليه
السلام).
ثم قال: ولو كان يرقى هذا الخطيب العظيم منبر الكوفة في عصرنا
هذا، لرأيتم مسجدها على سعته يتموّج بقبّعات الافرنج للاستقاء من بحر علمه الزاخر.
كلمة مستر «كرينو الانكليزي» أستاذ الآداب العربية:
في كلية (عليكده) الهندية عندما اجتمع الأساتذة والأدباء حوله في حفلة وسألوه عن
إعجاز القرآن أجابهم:
«إنّ للقرآن أخاً صغيراً يُسمّى(نهج البلاغة)، فهل في إمكان أحد أن يأتي بمثل
هذا الصغير حتّى يسوغ لنا البحث عن الأخ الكبير».
كلمة الأستاذ «جورج جرداق»:
تحدث الأستاذ (جورج جرداق) ـ وهو من أفاضل الكتّاب والمؤلّفين المسيحيين ـ في
مؤلّفه «الإمام علي صوت العدالة الانسانية»، وتحت عنوان «الأسلوب والعبقريّة
الخطابيّة» عندما يتحدّث عن (نهج البلاغة) قائلاً:
«نهج البلاغة آخذ من الفكر والخيال والعاطفة آيات تتّصل بالذوق الفنّي الرفيع ما
بقي الانسان وما بقي له خيال وعاطفة وفكر، مترابط بآياته متساوق، متفجّر بالحسّ
المشبوب والإدراك البعيد، متدفّق بلوعة الواقع وحرارة الحقيقة والشوق إلى معرفة ما
وراء هذا الواقع، متآلف يجمع بين جمال الموضوع وجمال الاخراج، حتّى ليندمج التعبير
بالمدلول، أو الشكل بالمعنى، اندماج الحرارة بالنار، والضوء بالشمس، والهواء
بالهواء، فما أنت أزاءه إلاّ ما يكون المرء قبالة السيل إذ ينحدر، والبحر إذ
يتموّج، والريح إذ تطوف، أو قبالة الحدث الطبيعي الذي لا بدّ له أن يكون بالضرورة
على ما هو كائن عليه من الوحدة، لا تفرّق بين عناصرها إلاّ لتمحو وجودها وتجعلها
إلى غير كون.
بيانٌ لو نطق بالتقريع لانقضّ على لسان العاصفة انقضاضاً، ولو هدّد الفساد
والمفسدين لتفجّر براكين لها أضواء وأصوات، ولو انبسط في منطقٍ لخاطب العقول
والمشاعر، فأقفل كلّ باب على كلّ حجّة غير ما ينبسط فيه، ولو دعا إلى تأمّل لرافق
فيك منشأ الحس وأصل التفكير، فساقك إلى ما يريده سوقاً، ووصلك بالكون وصلاً، ووحّد
فيك القوى للاكتشاف توحيداً، وهو لو راعاك لأدركت حنان الأب ومنطق الأبوّة وصدق
الوفاء الانساني وحرارة المحبة التي تبدأ ولا تنتهي، أمّا إذا تحدّث إليك عن بهاء
الوجود وكمالات الخلق وجمالات الكون فإنّما يكتب على قلبك بمدادٍ من نجوم السماء.
بيانٌ هو بلاغة من البلاغة وتنـزيل من التنـزيل.
بيانٌ اتّصل بأسباب البيان العربي، ما كان منه وما يكون، حتّى قال أحدهم في
صاحبه: إنّ كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.
وخطب الإمام جميعاً تنضح بدلائل الشخصيّة، حتّى لكـأنّ معانيها وتعابيرها هي
خوالج نفسه بالذات، وأحداث زمانه التي تشتعل في قلبه كما تشتعل النار في موقدها تحت
نفح الشمال، فإذا هو يرتجل الخطبة حسّاً دافقاً وشعوراً زاخراً وإخراجاً بالغاً
غاية الجمال، وكذلك كانت كلمات علي بن أبي طالب المرتجلة، فهي أقوى ما يمكن للكلمة
المرتجلة أن تكون من حيث الصدق وعمق الفكرة وفنّية التعبير، حتّى أنّها ما نطقت بها
شفتاه إلاّ ذهبت مثلاً سائراً.
والخلاصة أنّ علي بن أبي طالب أديب عظيم نشأ على التمرّس بالحياة، وعلى المرانة
بأساليب البلاغة، فإذا هو مالك ما يقتضيه الفنّ من أصالة في شخصية الأديب، ومن
ثقافة تنمو بها الشخصيّة وتتركّز الأصالة.
أمّا اللغة لغتنا العربية الحبيبة التي قال فيها (مرشلوس) في
المجلّد الأول من كتابه (رحلة إلى الشرق) هذا القول الذكي: «اللغة العربية هي
الأغنى والأفصح والأكثر والألطف وقعاً بين سائر لغات الأرض بتراكيب أفعالها، تتبع
طيران الفكر وتصوّره بدقّة، وبأنغام مقاطعها الصوتية تقلّد صراخ الحيوانات، ورقرقة
المياه الهاربة، وعجيج الرياح وقصف الرعد». أمّا هذه اللغة بما ذكر (مرشلوس) من
صفاتها وبما لم يذكر، فإنّك واجدٌ أصولها وفروعها وجمال ألوانها وسحر بيانها في أدب
الإمام علي، وكان أدباً في خدمة الانسان والحضارة».
ولمّا كان في نفسه أن يُشبع الموضوع ويستعرضه عرضاً دقيقاً، استرسل في حديثه
ثانية بقوله:
وإنّ قسط علي بن أبي طالب من الذوق الفنّي، أوالذوق الجمالي لممّا يندر وجوده
لدى الكثيرين، وذوقه هذا كان المقياس الطبيعي الضابط للطبع الأدبي عنده، أمّا طبعه
في ذلك فهو طبع ذوي الأصالة والموهبة الذين يرون فيشعرون، ويدركون فتنطلق ألسنتهم
بما تجيش به قلوبهم وتنكشف عنه مداركهم انطلاقاًَ عفويّاً، لذلك تميّز عليٌّ بالصدق
كما تميّزت به حياته، وما الصدق إلاّ ميزة الفنّ الأُولى ومقياس الأسلوب الذي لا
يُخادع.
وإنّ شروط البلاغة ـ التي هي موافقة الكلام لمقتضى الحال ـ لم تجتمع لأديب عربي
كما اجتمعت لعلي بن أبي طالب، فإنشاؤه أعلى مَثَل لهذه البلاغة بعد القرآن، فهو
موجز على وضوح قويّ جيّاش تامّ الانسجام لما بين ألفاظه ومعانيه وأغراضه من ائتلاف،
حلو الرنّة في الأذن، موسيقيّ الوقع، وهو يرفق ويلين في المواقف التي لا تستدعي
الشدّة، ويشتدّ ويعنف في غيرها من المواقف، لاسيّما ساعة يكون القول في المنافقين
المراوغين وطلاّب الدنيا على حساب الفقراء والمستضعفين وأصحاب الحقوق المهدورة،
فأسلوب علي صريح كقلبه وذهنه، صادق كطويّته، فلا عجب أن يكون نهجاً للبلاغة، وقد
بلغ أسلوب علي من الصدق حدّاً ترفّع به حتّى السجع عن الصنعة والتكلّف، فإذا هو ـ
على كثرة ما فيه من الجمل المتقاطعة الموزونة المسجعة ـ أبعد ما يكون عن الصنعة
وروحها، وأقرب ما يكون من الطبع الزاخر.
فانظر إلى هذا الكلام المسجّع وإلى مقدار ما فيه من سلامة الطبع «يَعْلَمُ
عَجِيجَ الْوُحُوشِ فِي الْفَلَوَاتِ وَمَعَاصِيَ الْعِبَادِ فِي الْخَلَوَاتِ
وَاخْتِلَافَ النِّينَانِ فِي الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ وَتَلَاطُمَ الْمَاءِ
بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَاتِ». أو إلى هذا القول في إحدى خطبه: «وَكَذَلِكَ
السَّمَاءُ وَالْهَوَاءُ وَالرِّيَاحُ وَالْمَاءُ فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ
وَالْقَمَرِ وَالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ وَالْمَاءِ وَالْحَجَرِ وَاخْتِلَافِ هَذَا
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَتَفَجُّرِ هَذِهِ الْبِحَارِ وَكَثْرَةِ هَذِهِ
الْجِبَالِ وَطُولِ هَذِهِ الْقِلَالِ وَتَفَرُّقِ هَذِهِ اللُّغَاتِ وَالْأَلْسُنِ
الْمُخْتَلِفَاتِ... الخ».
و أُوصيك خيراً بهذا السجع الجاري من الطبع «ثُمَّ زَيَّنَهَا
بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ وَضِيَاءِ الثَّوَاقِبِ وَأَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً
مُسْتَطِيراً وَقَمَراً مُنِيراً فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وَسَقْفٍ سَائِرٍ... الخ».
فإنّك لو حاولتَ إبدال لفظٍ مسجوع في هذه البدائع جميعاً بآخر غير مسجوع لعرفت
كيف يخبو إشراقها ويبهت جمالها، ويفقد الذوق فيها أصالته ودقّته، فالسجع في هذه
الأقوال العلويّة ضرورة فنّية يقتضيها الطبع الذي يمتزج بالصنعة امتزاجاً، حتّى
لكأنّهما من معدن واحد، يبعث النثر شعراً له أوزان وأنغام ترفق المعنى بصورٍ لفظيّة
لا أبهى منها ولا أشهى.
وإذا قلنا إنّ أسلوب علي تتوفّر فيه صراحة المعنى وبلاغة الأداء وسلامة الذوق
الفنّي، فإنّما نشير على القارئ بالرجوع إلى نهج البلاغة ليرى كيف تتفجّر كلمات
عليٍ من ينابيع بعيدة القرار في مادّتها، وبأي حُلّة فنية رائعة الجمال تمور وتجري.
وإليك هذه التعابير الحسان في قوله: «الْمَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ» وفي
قوله: «الْحِلْمُ عَشِيرَةٌ» أو في قوله: «مَنْ لَانَ عُودُهُ كَثُفَتْ
أَغْصَانُهُ» أو في قوله: «كُلُّ وِعَاءٍ يَضِيقُ بِمَا جُعِلَ فِيهِ إِلَّا
وِعَاءَ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَتَّسِعُ» أو في قوله أيضاً: «لَوْ أَحَبَّنِي جَبَلٌ
لَتَهَافَتَ» أوفي هذه الأقوال الرائعة: «الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ
الْمَالَ» «رُبَّ مَفْتُونٍ بِحُسْنِ الْقَوْلِ فِيهِ» «إِذَا أَقْبَلَتِ
الدُّنْيَا عَلَى أَحَدٍ أَعَارَتْهُ مَحَاسِنَ غَيْرِهِ وَإِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُ
سَلَبَتْهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ» «لْيَكُنْ أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَكَ فِي الْحَقِّ
سَوَاءً» «افْعَلُوا الْخَيْرَ وَلَا تَحْقِرُوا مِنْهُ شَيْئاً فَإِنَّ صَغِيرَهُ
كَبِيرٌ وَقَلِيلَهُ كَثِيرٌ» «هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ»
«مَا جَاعَ فَقِيرٌ إِلَّا بِمَا مُتِّعَ بِهِ غَنِيٌّ».
فأنت ترى ما في أقواله هذه من الأصالة في التفكير والتعبير، هذه
الأصالة التي تلازم الأديب الحقّ بصورة مطلقة، إلاّ إذا فاتته الشخصية الأدبية
ذاتها.
ويبلغ أسلوب علي قمّة الجبال في المواقف الخطابية، هذه الأصالة التي تثور بها
عاطفته الجيّاشة، ويتّقد خياله فتعتلج فيه صور حارّة من أحداث الحياة التي تمرّس
بها، فإذا بالبلاغة تزخر في قلبه، وتتدفّق على لسانه تدفّق البحار، ويتميّز أسلوبه
في مثل هذه المواقف بالتكرار بغية التقرير والتأثير، وباستعمال المترادفات،
وباختيار الكلمات الجزلة ذات الرنين.
والخطباء في العرب كثيرون، والخطابة من فنونهم الأدبية التي عرفوها في الجاهلية
والإسلام، ولاسيّما في عصر النبي والخلفاء والراشدين، لما كان لهم بها من حاجة،
أمّا خطيب العهد النبويّ الأكبر فالنبي لاخلاف في ذلك، أمّا في العهد الراشدي وفيما
تلاه من العصور العربية قاطبة، فإنّ أحداً لم يبلغ ما بلغ إليه علي بن أبي طالب في
هذا النحو، فإنّ الله يسّر له العدّة الكاملة بالفطرة السليمة والذوق الرفيع
والبلاغة الآسرة، ثمّ بذخيرة من العلم انفرد بها عن أقرانه، وبحجّة قائمة وقوّة
إقناع دامغة وعبقريّة في الإرتجال نادرة.
وابن أبي طالب على المنبر رابط الجأش شديد الثقة بنفسه وبعدل القول، ثمّ إنّه
قوي الفراسة، سريع الإدراك، يقف على دخائل الناس وأهواء النفوس وأعماق القلوب، زاخر
جنانه بعواطف الحريّة والانسانية والفضيلة، حتّى إذا انطلق لسانه الساحر بما يجيش
به قلبه أدرك القوم بما يحرّك فيهم الفضائل الراقدة والعواطف الخاصّة.
أمّا إنشاؤه الخطابي فلا يجوز وصفه إلاّ بأنّه أساس في البلاغة العربية. يقول
أبو هلال العسكري (في الصناعتين): «ليس الشأن في إيراد المعاني ـ وحدها ـ وإنّما هو
في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه ونزاهته ونقائه وكثرة طلاوته ومائه, مع صحّة
السبك والتركيب، والخلوّ من أود النظم والتأليف، من الألفاظ ما هو فخم كأنه يجرّ
ذيول الأرجوان أنفةً وتيهاً، ومنها ما هو ذو قعقعة كالجنود الزاحفة في الصفيح،
ومنها ما هو كالسيف ذي الحدّين، ومنها ما هو كالنقاب الصفيق يلقى على بعض العواطف
ليستر من حدّتها ويخفّف من شدّتها، ومنها ما له وميض البرق، ومنها ما له ابتسامة
السماء في ليالي الشتاء، من الكلام ما يفعل كالمقرعة وهو كلام الانتقاد والتنديد،
ومنه ما يجري كالنبع الصافي وهو المعدّ للرضى والغفران، ومنه ما يضيء
كالشهاب وهو كلام التعظيم، كذلك من الكلام ما ليس له طابع خاصّ فيؤتى به لتقوية
الجملة ودعم المعنى، فهو يلائم كلّ حال».
كلّ ذلك ينطبق على خطب الإمام علي في مفرداتها وتعابيرها، هذا بالاضافة إلى أنّ
الخطبة تحسن إذا انطبعت بهذه الصفات اللفظية على رأي صاحب الصناعتين، فكيف بها إذا
كانت كخطب ابن أبي طالب تجمع روعة هذه الصفات في اللفظ إلى روعة المعنى وقوّته
وجلاله، انتهى.
لم يسمع الناس بكلام قطّ بعد كلام الله تعالى ورسوله أعمّ نفعاً، وأصدق لفظاً،
وأعدل وزناً، وأجمل مذهباً، وأكرم مطلباً، ولا أحسن موضعاً ولا أسهل مزجاً، ولا
أفصح عن معناه، ولا أبين في فحواه، من كلام علي أميرالمؤمنين (عليه السلام)، فقد
شاهدنا روّاد العبقريّة الانشائيّة مسترشدين بكلمه (عليه السلام) وخطبه وكتبه.
حكى عبد المسيح في شرح قصيدته أنّ شيخه ناصيف اليازجي قال له:
«ما أتقنت الكتابة إلاّ بدرس القرآن العظيم ونهج البلاغة القويم، فهما كنـز
العربيّة الذي لا ينفد وذخيرتها للمتأدّب، وهيهات أن يظفر أديب بحاجته من هذه اللغة
الشريفة إن لم يُحيي لياليه سهراً في مطالعتهما والتبحّر في عالي أساليبهما».
وقال عبد الحميد بن يحيى ـ الذي يُضرب ببلاغته المثل _: «حفظت سبعين خطبة من خطب
الأصلع ففاضت ثمّ فاضت» ـ يعني بالأصلع سيّدنا علياً (عليه السلام).
وقال ابن نباتة: «حفظت من الخطب كنـزاً لا يزيده الانفاق إلاّ سعة، حفظت مائة
فصل من مواعظ علي بن أبي طالب».
وقد زيّن الجاحظ كتبه مثل «البيان والتبيين» بفصول من خطب أمير المؤمنين (عليه
السلام) إعجاباً بها، وإعداداً للنفوس لبلوغ أقصى البلاغة، وشاهدنا جماهير العرب
والعجم والشرقيّين والمستشرقين ممّن يتطلّبون بلاغة اللسان وبراعة القلم يستظهرون
نهج البلاغة لما فيه من فصاحة بانسجام، وبلاغة خالية من كلّ تعقيد أو تكلّف، وعروبة
صحيحة تعالى عهدها عن تصنّعات عهد المولدين، هذه غاية الأدباء في حفظ كلامه (عليه
السلام).
وكم يعود الأسف بليغاً إذا نبذنا مثل هذا الكتاب وراءنا ظِهريّاً، وحرمنا النشء
من فنون بيانه، وتركناه صفر الكفّ من شذور عقيانه، عكس ما لو يثقّف بدراسته دراسة
تفقّهٍ واستحضار وتدبير واستظهار، فندّخر بهذا ومثله لأفلاذ أكبادنا كنـزاً من
الحكمة أو جَنّة باقية وجُنّة واقية تقيهم في مزالق الانشاء، وتملّكهم مقاليد
البلاغة في البيان، والبيان من أهم عوامل الرقيّ في الحياة. لم لا نُصغي لنداء
مرشدنا الروحي الذي يخاطبنا من صميم ضميره الحرّ بداعية الهداية، وما هو ـ لو
أنصفناه ـ إلاّ أستاذ الكلّ في الكلّ، يلقّن العالم نتائج المعارف العالية، ويلقي
دروسه على صفوف من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب بلهجة من لغة الضاد رقّت وراقت فلا
يوجد أجمل منها حسناً وبهاءاً.
كلمة الشيخ محمد مهدي شمس الدين:
قال الشيخ محمد مهدي في كتابه (دراسات في نهج البلاغة): «سواء نظرت إليه من
ناحية الشكل أو من ناحية المضمون وجدته من الآثار التي تقلّ نظائرها في التراث
الانساني على ضخامة هذا التراث، فقد قيل في بيان صاحبه إنّه دون الخالق وفوق كلام
المخلوق، بيان معجز البلاغة، تتحوّل الأفكار فيه إلى أنغام، وتتحوّل الأنغام فيه
إلى أفكار، ويلتقي عليه العقل والقلب، والعاطفة والفكرة، فإذا أنت من الفكرة أمام
كائن حيّ متحرّك ينبض بالحياة ويمور بالحركة. وتلك هي آية الاعجاز في كلّ بيان. ولم
يكرّس هذا البيان المعجز لمديح سلطان، أو لاستجلاب نفع، أو للتعبير عن عاطفة تافهة
ممّا اعتاده التافهون من الناس أن يكرّسوا له البيان.
فلم يمجّد الإمام الأعظم في نهج البلاغة قوّة الأقوياء وإنّما مجّد نضال
الضعفاء، ولم يمجّد غنى الأغنياء وإنّما أعلن حقوق الفقراء، ولم يمجّد الظالمين
العتاة وإنّما مجّد الأنبياء والصُلحاء.
إنّ الحرية والعبودية، والغنى والفقر، والعدل والظلم، والحرب
والسلم، والنضال الأزليّ في سبيل عالم أفضل لإنسان أفضل، هو مدار الحديث في نهج
البلاغة.
فنهج البلاغة كتاب إنسانيّ بكلّ ما لهذه الكلمة من مدلول، إنسانيّ باحترامه
للانسان وللحياة الإنسانية، وإنسانيّ بما فيه من الاعتراف للانسان بحقوقه في عصر
كان الفرد الإنساني فيه عند الحاكمين هباءة حقيرة لا قيمة لها ولا قدر، إنسانيّ بما
يثيره في الانسان من حبّ الحياة والعمل لها في حدود تضمن لها سموّها ونقاءها، لهذا
ولغيره كان نهج البلاغة ـ وسيبقى ـ على الدهر أثراً من جملة ما يحويه التراث
الانساني من الآثار القليلة التي تعشو إليها البصائر حين تكتنفها الظلمات.
وحقّ له أن يكون كذلك وهو عطاء إنسان كان كوناً من البطولات، ودنياً من الفضائل،
ومثلاً أعلى في كل ما يشرف الانسان».
كلمة الأديب جبران خليل جبران:
«أمّا بلاغة الإمام علي فإنّها النور ذو المناهج والطرق التي تاه عنها العرب فلم
يفهموها، ومنهم من آثروا عليها ظلمات أيّامهم يتيهون في شعابها رجوعاً إلى
الجاهليّة واتّصالاً بمن تتمثّل بهم الجاهلية من سماسرة المنافع وتجّار الأعناق، في
عقيدتي أنّ ابن ابي طالب كان أوّل عربي لازم الروح الكلّيّة وجاورها وسامرها، وهو
أوّل عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها على مسمع قوم لم يسمعوا بها من ذي قبل، فتاهوا
بين مناهج بلاغته وظلمات ماضيهم، فمن أعجب بها كان إعجابه موثوقاً بالفطرة، ومن
خاصمه كان من أبناء الجاهلية». نقلاً عن كتاب «الإمام علي صوت العدالة الانسانية»
ص363.
كلمة الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي في كتابه «نظرة في شرح نهج البلاغة»:
«لقد احتوى نهج البلاغة من حقائق البلاغة ودقائق الفصاحة ما لا يبلغ قعره الفكر،
وجمع من فنون المعاني وشؤون البيان ما لا ينال غوره النظر، وتضمّن من أسرار العربية
والنكات الأدبية والمحاسن البديعيّة ما يعجز عن تقديره لسان البشر».
كلمة روكس بن زائدة العزيزي الكاثوليكي:
تحدث الأستاذ روكس عن نهج البلاغة في كتابه (الإمام علي أسد الاسلام وقدّيسه) ص
225 تحت عنوان (أثر الإمام في مثقّفي العرب) قائلاً:
«يقيناً أنّ كلّ مثقّف عربي، كلّ كاتب عربي، كلّ خطيب عربي مدين للإمام علي،
فإذا كان كلّ مسلم في الدنيا مدين للقرآن الكريم في تكوّن عقليّته وتفكيره، فإنّ
كلّ مثقّف عربي مدين لنهج البلاغة في تقويم قلمه، وما أعدت قول اليازجي العظيم إلاّ
ازددت اقتناعاً بما أقول، قال إبراهيم اليازجي: «ما أتقنت الكتابة إلاّ بدرس القرآن
ونهج البلاغة» وإبراهيم اليازجي إذا أردنا أن نحكم على رجل من رجال القلم بالنسبة
إلى كلّ علوم اللغة العربية مجتمعة، لا نجد في القرن التاسع عشر وأوائل القرن
العشرين من يتفوّق عليه، وإن كان في كلّ علم من علومها على انفراد يوجد من ينافسه
ويتفوّق عليه.
إذا كان اليازجي يقول هذا، فإنّ كلّ مثقّفٍ عربي مدين لنهج البلاغة وللإمام علي
في استقامة نهجه الكتابي، وانطلاقاً من هذه النقطة فنحن لا نعدّ كاتباً أو أديباً
عربياً مثقّفاً ثقافة عربية أصيلة إن لم يقرأ القرآن ونهج البلاغة قراءات عميقة
متواصلة.
فالذي يريد أن يفهم المجتمع العربي والعقليّة العربية لا بدّ له
من قراءة نهج البلاغة، والذي يريد أن يفهم أسلوب الحكم في البلاد العربية يحتاج إلى
نهج البلاغة.
الفقيه الذي يرغب في أن يكون نافذ الفكر،مستنير البصيرة هو في أقصى الحاجة إلى
نهج البلاغة.
رجل الوعظ المسلم الذي يريد أن يكون واسع الآفاق محتاج إلى نهج
البلاغة، وإن لم يفعل فإنّه ظلاّم لنفسه، قليل الاحترام لعقله. قرأت شيئاً اسمه
(تشريح شرح نهج البلاغة)، فشعرت بإشفاق على عقلية الرجل، وذكرت حالاً قول ابن
العميد على كتب الجاحظ: «كتب الجاحظ: تعلّم العقل أوّلاً والأدب ثانياً».
ونهج البلاغة في اعتقادي يعلّم العقل أوّلاً، والأدب ثانياً، وأساليب كلّ فنّ من
الكتابة والخطابة ثالثاً، ويطّلع منه الانسان على أمور لا أعتقد أنّها توجد في كتاب
واحد كلّها مجتمعة.
وبعد فأنا أنظر إلى الكتاب على اعتبار أنّه كنـز ثمين لا غنى لمتأدّب عنه، وأنظر
إلى صاحب هذا الكتاب فأرى أنّه طّوق جيد اللغة العربية بمنّةٍ لا تزول حتّى تزول
الأرض ومن عليها.
وعندي أنّه إذا ثبت كلّ ما في نهج البلاغة للإمام علي، فهو
معجزة أدبية، وإذا أراد النافون أن ينفوه عنه وينسبوه إلى جامع الكتاب، فتكون معجزة
الإمام أعظم، إذ يستطيع حبّه أن يُملي على محبّيه أن يأتوا بمثل هذه الدرر الغوالي!
فإثبات نهج البلاغة للإمام ونفيه عنه يثبت عظمة الإمام الخالدة، ولا ينفي الدَين
الذي للإمام على مثقّفي العرب كافّة».
العقّاد ونهج البلاغة:
جاء في كتابه (عبقريّة الإمام)، في فصل ثقافته (عليه السلام) ما نصّه:
«ففي كتاب نهج البلاغة فيض من آيات التوحيد والحكمة الإلهية، تتّسع به دراسة كلّ
مشتغل لعقائد وأصول التأليه وحكمة التوحيد».
ويقول فيه: «فكلّ نمط من أنماط كلامه شاهد له بالملكة الموهوبة في قدرة الوعي
وقدرة التعبير، فهو ولا شكّ من أبناء آدم الذين علموا الأسماء وأُوتوا الحكمة وفصل
الخطاب».
كلمة سبط ابن الجوزي:
جاء في كتابه (تذكرة الخواص) ما نصّه: «كان علي ينطق بكلام قد
حُفَّ بالعصمة، ويتكلّم بميزان الحكمة،كلام ألقى الله تعالى عليه المهابة، فكلّ من
طرق سمعه راعه فهابه، وقد جمع الله له بين الحلاوة والملاحة، والطلاوة والفصاحة، لم
يسقط منه كلمة، ولا بارت له حجّة، أعجز الناطقين، وحاز قصب السبق قي السابقين،
ألفاظ يشرق عليها نور النبوّة وتحيّر الأفهام والألباب».
كلمة الحجّة الشيخ هادي كاشف الغطاء:
جاء في كتابه (مستدرك نهج البلاغة) ما نصّه: «أمّا بعد فإنّ كتاب (نهج البلاغة)
من أعظم الكتب الإسلاميّة شأناً، وأرفعها قدراً، وأجمعها محاسن، وأعلاها منازل، نور
لمن استضاء به، ونجاة لمن تمسّك بعُراه، وبرهان لمن اعتمده، ولبّ لمن تدبّره،
أقواله فصل، وأحكامه عدل، حاجة العالم والمتعلّم، وبُغية الراغب والزاهد، وبُلغة
السائس والمسوس، ومُنية المحارب والمسالم، والجنديّ والقائد، وفيه من الكلام في
التوحيد والعدل، ومكارم الشيم، ومحاسن الأخلاق، والترغيب والترهيب، والوعظ
والتحذير، وحقوق الراعي والرعيّة، وأصول المدنيّة الحقّة، ما ينقع الغلّة ويزيل
العلّة، لم تعرف المباحث الكلاميّة إلاّ منه، ولم تكن إلاّ عيالاً عليه، فهو قدوة
فطاحلها، وإمام أفاضلها».
كلمة الدكتور زكي نجيب محمود:
تحدّث الكاتب (الزكي) عن نهج البلاغة وأطال، ونقتطف من حديثه هذه الباقة: «لنقف
وقفة عند الإمام علي (رضي الله عنه) لننظر كم اجتمع في هذا الرجل من أدب وحكمة
وفروسيّة وسياسة.. عرفت نهج البلاغة في صدر الصبا.. وبقيت منه نغمات في أذني.. وها
أنا ذا أُعيد القراءة هذه الأيام، فإذا النغمات تزداد في الأذنين حلاوة، وإذا
العبارات كأنّها طلاوة إلى طلاوة.. ولست أعني زُخرف الكلام، بل أعني طريقته في
اختيار اللفظ الصلب العنيد الذي لا يقوى على تشكيله إلاّ إزميل تحرّكه يد المثّال
الذي يتخيّر لتماثيله صُمّ الجلاميد، ليبقى عملاً أقوى من الدهر دواماً وخلوداً..
إنّ اللفظ قد نُحت من حجر صوان، وصفّ بعضها إلى بعض صفّاً عجيباً».
وقال: «قلّب معي صفحاته الرائعة الأدبيّة التي تُسمّى بنهج البلاغة، وقل لي:
أنّى ينتهي الأديب ليبدأ الفيلسوف؟ وأنّى ينتهي الفيلسوف الأديب ليبدأ الفارس. ثمّ
أين ينتهي هذا ليبدأ السياسي؟ إنّه لا فواصل ولا فوارق، ففي هذه المختارات خطب
وأحكام وحجاج وشواهد امتزج فيها الأدب بالحكمة، والحكمة بالأريحيّة، وهاتان
بالسياسة». إلى أن يقول: «والنصوص يطول بنا نقلها إلى القارئ ما طال نهج البلاغة،
فخير للقارئ أن يرجع إليه ليطالع نفساً قد اجتمع فيها ما يصوّر عصرها، من حيث
الركون في إدراك حقائق الأمور إلى سلامة السليقة وحضور البديهة وصدق البصيرة، بغير
حاجة إلى تحليلات العقل وتعليلاته، وإلى طريق المناطقة في جمع الشواهد وترتيب
النتائج على المقدّمات». نقلاً عن كتاب (الحسين والقرآن) للشيخ محمد جواد مغنية.
كلمة الأستاذ العلاّمة أحمد أمين الكاظمي:
تحدّث في المجلّد الرابع من كتابه (التكامل في الاسلام) تحت عنوان (ليلة
الميلاد) فقال (رحمه الله):
«فنهج البلاغة كتاب حوى أصول الفلسفة الحقّة عن الكون والحياة ومصير الإنسان
وواقعه، وأصول الاقتصاد حيث لا يضحّي بالفرد على حساب المجتمع، ولا بالمجتمع على
حساب الفرد، حوى أسس إدارة شؤون البلاد، وما يربط الشعب بالهيئة الحاكمة من حقوق،
فهو كتاب فلسفي اجتماعي، عرفاني، اقتصادي، أدبي، وفيه فصل الخطاب في كلّ حقل يحتاجه
الانسان في سيره التكاملي».
كلمة الدكتور صبحي الصالح:
تحدّث الدكتور صبحي الصالح في كتابه (ضبط نصّ نهج البلاغة) ص 12 ط بيروت 1967 م
فقال: «وإنّ نهج البلاغة ليضمّ ـ إلى جانب الموضوعات السابقة ـ طائفة من خطب الوصف
تُبوّئ علياً ذروة لا تُسامى بين عباقرة الوصّافين في القديم والحديث، ذلك أنّ
علياً ـ كما تنطق نصوص النهج ـ قد استخدم الوصف في مواطن كثيرة، ولم تكد خطبة من
خطبه تخلو من وصف دقيق وتحليل نفّاذ إلى بواطن الامور، صوّر الحياة فأبدع، وشخّص
الموت فأجزع، ورسم لمشاهد الآخرة لوحات كاملات فأراع وأرهب، ووازن بين طباع الرجال
وأخلاق النساء، وقدّم للمنافقين نماذج شاخصة، وللأبرار أنماطاً حيّة، ولم يفلت من
ريشته المصوّرة شيطان رجيم يوسوس في صدور الناس، ولا مَلَك رحيم يوحي الخير ويُلهم
الرشاد».
وتحدّث في ص 15 بقوله: «وأغراض علي في كتبه ورسائله وعهوده ووصاياه تشبه أغراضه
في خطبه شبهاً شديداً، كثرت فيها رسائل التعليم والارشاد، وكتب النقد والتعريض،
والعتاب والتقريع، وانضمّت إليها بعض الوثائق السياسيّة والإداريّة والقضائيّة
والحربيّة، ورسائله جميعاً مطبوعة بالطابع الخطابي، حتّى ليكاد الباحث يعدّها خطباً
تُلقى لا كتباً تدبج، إذ تؤلّف فيها الألفاظ المنتقاة، وتنسّق فيها الجمل المحكمات،
فينبعث من أجزائها كلّها نغم حلو الإيقاع يسمو بنثرها الرشيق فوق مجالات الشعر
الرفيع.
وإذا تجاوزنا خطب علي ورسائله إلى المختار من حِكَمه، ألفيناه
يرسل من المعاني المعجزة والأجوبة المسكتة ما ينبئ عن غزارة علمه، وصحّة تجربته،
وعمق إدراكه لحقائق الأشياء، وحكم علي هذه منها ما جمعه الشريف الرضي تحت عنوان
مستقل، نجد فيه مثل قوله: «النَّاسُ أَعْدَاءُ مَا جَهِلُوا» «قِيمَةُ كُلِّ
امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ» «احْذَرُوا صَوْلَةَ الْكَرِيمِ إِذَا جَاعَ وَاللَّئِيمِ
إذا شَبع».
ووصايا علي الاجتماعيّة تتجسّد هاهنا بوضوح من خلال كلماته النوابغ وحِكَمهِ
الحسان، فهو يجلو أبصار صحبه وبصائرهم، ويودّ لو يتبعهم كأس الحكمة بعد الصبوح،
يحذّرهم من العلم الذي لا ينفع «رُبَّ عَالِمٍ قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ وَعِلْمُهُ
مَعَهُ لا يَنْفَعُهُ» و«الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ
أَجْهَلَ».
والفكرة في خطب علي ورسائله وحكمه عميقة من غير تعقيد، بسيطة من
غير إسفاف، مستوفاة من غير إطناب، يلوّنها ترادف الجمل، ويزيّنها تقابل الألفاظ،
وينسّقها ضرب من التقسيم المنطقي يجعلها أنفذ في الحسن وألصق بالنفس.
وكان ينبغي لعلي أن تقذف بديهته بتلكم الحكم الخالدة والآراء الثاقبة، بعد أن
نهل المعرفة من بيت النبوّة، وتوافرت له ثقافة واسعة وتجربة كاملة وعبقريّة نفّاذة
إلى بواطن الأمور.
وتتّسم أفكار علي غالباً بالواقعيّة، إذ كان يستمدّ عناصرها من بيئته الاجتماعية
والجغرافية، فأدبه ـ من هذه الناحية ـ مرآة للعصر الذي عاش فيه، صوّر منه ما قد كان
أو ما هو كائن، ولقد يطيب له أحياناً أن يصوّر ما ينبغي أن يكون، فتغدو أفكاره
مثاليّة عصيّة على التحقيق.
وما من ريب في أنّ الكتاب والسنّة قد رفداه بينبوع ثرّ لا يفيض، فتأثّر بأسلوب
القرآن التصويريّ لدى صياغة خطبه ورسائله، واقتطف من القرآن والحديث كثيراً من
الألفاظ والتراكيب والمعاني.
وأمّا عاطفة علي فثائرة جيّاشة تستمدّ دوافعها من نفسه الغنيّة
بالانفعالات، وعقيدته الثابتة على الحقّ، فما تكلّم إلاّ وبه حاجة إلى الكلام، وما
خطب إلاّ ولديه باعث على الخطابة، وإنّما تتجلّى رهافة حسّه في استعماله الألفاظ
الحادّة، وإكثاره من العبارات الإنشائيّة كالقسم والتمنّي والترجّي والأمر والنهي
والعجب والاستفهام والإنكار والتوبيخ والتقريع، مصحوبة كلّها بترادف بين الفقرات،
وتجانس بين الأسجاع، وحرص واضح على النغم والإيقاع.
وخيال علي ـ فيما يخلعه على موصوفاته من صور زاهيات ـ ينتزع أكثر ما ينتزع من
صميم البيئة العربية إقليميّة وفكريّة واجتماعيّة، وتمتاز صور علي بالتشخيص
والحركة، ولا سيّما حين يتّسع خياله ويمتدّ مجسّماً الأفكار، ملوّناً التعابير،
باثّاً الحياة في المفردات والتراكيب».
كلمة شبلي شميل حول نهج البلاغة:
نقلا عن كتاب (ماذا في التاريخ) ج 7 ص 149:
«هل عرفت عقلاً كهذا العقل، وعلماً كهذا العلم، وبلاغة كهذه
البلاغة، وشجاعة كهذه الشجاعة، تكتمل من الحنان بما لا يعرف حدوداً، حتّى ليبهرك
هذا القدر من الحنان، كما يبهرك ذلك القدر من المزايا، تلتقي جميعاً وتتّحد في رجل
من أبناء آدم وحوّاء، فإذا هو العالم المفكّر، الأديب الإداري، الحاكم القائد الذي
يترك الناس والحكّام وذوي المطامع والجيوش يتآمرون به، ليقبل عليك فيهزّ فيك مشاعر
الانسان الذي له عواطف وأفكار، فيهمس في قلبك هذه النجوى الرائعة بما فيها من حرارة
العاطفة الكريمة، قائلاً: «فَقْدُ الْأَحِبَّةِ غُرْبَةٌ» أو «لَـا تشْمَتُ
بِالْمَصَائِبِ» أو «ليكن دنوُّك من الناس ليناً ورحمة» أو «اعفُ عمّن ظلمكَ، وأعطِ
مَن حرمك، وصِلْ مَن قطعك، ولا تُبغض مَن أبغضك»!
هل عرفت من الخلق عظيماً يلتقي مع المفكّرين بسموّ فكرهم، ومع الخيّرين بحبّهم
العميق للخير، ومع العلماء بعِلمهم، ومع الباحثين بتنقيبهم، ومع ذوي المودّة
بمودّاتهم، ومع الزهاد بزهدهم، ومع المصلحين بإصلاحهم، ومع المتألّمين بآلامهم، ومع
المظلومين بمشاعرهم وتمرّدهم، ومع الأدباء بأدبهم، ومع الأبطال ببطولاتهم، ومع
الشهداء بشهادتهم، ومع كلّ إنسانيّة بما يشرّفها ويرفع من شأنها، ثم إنّ له في كلّ
ذلك فضل القول الناتج عن العمل، والتضحية المتّصلة بالتضحية، والسابقة في الزمان!».
كلمة سليمان كتّاني:
وتحدّث سليمان كتّاني في كتابه «الإمام علي نبراس ومتراس» ص 199 ط 1386 هـ مطبعة
النعمان في النجف عن نهج البلاغة «...وماذا جاء في (نهج البلاغة) فقال: يدغدغ الشكّ
في ما جاء في نهج البلاغة؟ وهل الكتاب كان غير تقويم للرجل الكبير في نهجه الطويل،
الذي زرع عليه الانسان قيمة تتبلور بالعقل الصحيح وتسمو بالفضيلة، وجعل الفضائل
تنمو وتدور على محور واحد، هو محور التقوى والإيمان بالله؟
ومتى، وفي أيّة لحظة من لحظات عمره، لم يعبّر عن هذا النهج
الصريح؟
أفي إعلانه الرسالة وإيمانه بها، ولقد نذر نفسه للدعوة لها والجهاد في سبيلها،
أم في تطبيقها دستوراً كاملاً لكلّ مجاري أفكاره وأقواله وأعماله من حيث كان زهده
وتقواه وشجاعته وبطولته؟
فإذا كان الاقحام في (نهج البلاغة) تكويماً لتعابير تحمل مثل هذه المعاني لم
يسكبها جَنان المنسوبة إليه ضمن حروف نبتت من شقّ قلمه، فإنّ ذلك لن يغيّر نهج
البلاغة بشيء،... لأنّ الكلام المقحم جاء صادقاً في نحت نفسه قالباً لائقاً بالفكر
الأصيل، ولأنّ البلاغة في مفهومها الحقيقي ليست مطلقاً في قوّة اللفظ والنحت بقدر
ما هي تنـزيل لسموّ المعاني في قوالب متينة السبك والحبك، وإنّ هذه الأخيرة تبقى
أبداً قوالب جوفاء ما لم تستتمّ فيها تلك المفاتن.
و(نهج البلاغة)، سواء كان صقل حروفه على يد ابن أبي طالب أم كان على يدي مقحم
فنّان، فإنّه يبقى دائماً تعبيراً عميق البلاغة عن نفسيّة رجل واحد سُمّي بـ «علي
بن أبي طالب».
* * *
نهج البلاغة في الشعر العربي
قيل فيه شعراً:
نهج البلاغة نهج العلم والعمل
كم فيه من حِكَمٍ بالحقّ مُحكمة
ألفاظه دررٌ أغنت بحليتها
ومن معانيه أنوار الهدى سطعت
وكيف لا وهو نهج طاب منهجه |
|
فاسلكه يا صاح تبلغ غاية الأملِ
تُحيي القلوب ومن حُكمٍ ومن مَثَلِ
أهل الفضائل عن حلي وعن حُلل
فانجاب عنها ظلام الزيغ والزلل
أهدى إليه أمير المؤمنين علي |
وكتب أبو يوسف يعقوب بن أحمد(10) في آخر نسخة من
كتاب (نهج البلاغة):
نهج البلاغة نهج مهيع جددُ
يا عادلاً عنه تبغي بالهدى بدلاً
والله والله إنّ التاركيه عموا
كأنّها العقد منظوماً جواهرها
ما حالهم دونها إن كنتَ تنصفني |
|
لمن يريد علوّاً ما له أمدُ
اعدل إليه ففيه الخير والرشد
عن شافياتِ عظاتٍ كلّها سدد
صلّى على ناظميها ربُّنا الصمد
إلاّ العناد وإلاّ البغي والحسـد(11) |
واقتدى بذلك الأديب عبد الرحمن بن الحسين حين وقع له الفراغ،
فقال:
نهج البلاغة نهج الذخر والسندُ
عين الحياة لمن أضحى يؤمّلها
ما إن رأت مثلها عينٌ ولا سمعت
شرّبت روحي حياةً عند كتبتها
صلّى الإله على مَن كان منطقه |
|
وفيه للمؤمنين الخير والرشدُ
يا حبّذا معشر في مائها وردوا
أُذنٌ ولا كتبت في العالمين يد
وكان للروح من آثارها مدد
روحاً تزايد منه الروح والجسد(12) |
وقال آخر:
نهج البلاغة هذا سيّد الكتب
كم فيه من حكمة غرّاء بالغة
ومن دواء لذي داءٍ وعافية
فيه كلام وليِّ الله حيدر من
وصيّ خير عباد الله كلّهمُ
عليٌ مرتضى مَن في مودّته
فمن يعاديه في نار الجحيم هوى
ومن يواليه من صدق الجَنان ففي
قد امتزجت(14)
بقلبي حبّه فجرى
صلّى عليه إلهُ الخلق خالقنا
وزاده في جنان الخلد منـزلة |
|
نهج الرسائل والأحكام والخطبِ
ومن علوم(13) إلهي ومن
أدبِ
لذي بلاء ومن روح لذي تعب
يمينه في عطاء المال كالسُّحب
مختار ربّ البرايا سيّد العرب
يُرجى النجاة ليوم الحشر والرعبِ
وعاش ما عاش في ويلٍ وفي حرب
الجِنان له طنب يفوق السبع
والشهبِ
في النفس مجرى دمي في اللحم والعصب
ربّ الورى وعلى أبنائه النُّجب
ورتبةً وعلاً يعلو على الرتب(15)
|
وقال علي بن أبي أسعد الطبيب:(16)
نهج البلاغة مشرع الفصحاءِ
درج عقود عقولِ أرباب التقى
في طيّه كلّ العلوم كـأنّه
من كان يسلك نهجه متشمّراً
غررٌ من العلم الإلهيّ انجلت
ويفوح منها عبقةٌ نبويّة
روض من الحِكَم الأنيقة جاده
أنوار علمِ خليفَةِ اللهِ الذي
مشكاةُ نورِ الله خازنُ علمه |
|
ومعشعش البلغاءِ والعلماءِ
في درجه من غير إستثناء
الجفر المشار إليه في الأنباء
أمن العثار وفاز بالعلياء
منظومة فيها ضياء ذكاء
لا غرو قُدّا من أديم سناء
جود من الأنوار لا الأنواء
هو عصمة الأموات والأحياءِ
مختارهُ من سرّة البطحاءِ(17) |
وفي كتاب (مصادر نهج البلاغة) تأليف الخطيب السيد عبد الزهراء
الحسيني:
قال أبو الحسن علي بن أحمد الفنجكردي:(18)
نهج البلاغة من كلام المرتضى
بهرَ العقولَ بحسنه وبهائه
ألفاظه علويّة لكنّها
فيه لأرباب البلاغة مقنع
وترى العيون إليه صوراً إن تلا
أعجِبْ به كلماته قد ناسبت
نِعم المعين على الخطابة للفتى |
|
جمع الرضي الموسوي السيدِ
كالدرِّ فصّل نظمه بزبرجدِ
علويّة حلّت محلّ الفرقد
من يعن باستظهاره يستسعد
منه كتاباً رائعاً في مشهد
كلمات خيرِ الناس طُرّاً أحمدِ
وبه إلى طُرق الكتابة يهتدي(19) |
وفي المجلّد الثاني من كتابنا (نزهة الخاطر):
وللسيد الإمام عزّ الدين سيد الأئمة المرتضى بن الإمام العلاّمة ضياء الدين علم
الهدى قدّس الله روحيهما:
|
نهج البلاغة نهجه لذوي البلاغة واضحُ
وكلامه لكلام أرباب الفصاحة فاضح
العلم فيه زاخر والفضل فيه راجح
وغوامض التوحيد فيه جميعها لك لائح
ووعيده مع وعده للناس طرّاً ناصح
تحظى به هذي البريّة صالح أو طالح
لا كالعريب ومالها فالمال غادٍ رائح
هيهات لا يعلو على مرقى ذراه مادح
إن الرضي الموسوي لمائه هو مائح
لاقت به وبجمعه عدد القطار مدائحُ(20) |
|
وقال آخر:
نهج البلاغة يهدي السالكين إلى
فاسلكه تُهدى إلى دار السلام غداً |
|
مواطن الحق من قول ومن عملِ
وتحضَ فيها بما ترجوه من أمل(21) |
وجاء في شرح القصيدة العينيّة لعبد الباقي العمري، قال بعضهم:
ألا إنّ هذا النهج نهج بلاغة
على قممٍ من آل صخر ترفّعت |
|
لمنتهج العرفان مسلكه جلي
كجلمود صخرٍ حطّه السيلُ من عَلِ(22) |
وقال آخر:
كتاب كأنّ الله رصّـع لفظه
حوى حِـكماً كالدّرٍ تنطق صادقاً |
|
بجوهر آيات الكتاب المنـزل
فلا فرق إلاّ أنّـه غير مُنـزَلِ(23) |
وقال عبد الباقي العمري في عينيته:
نهج البلاغة نهج عنك بلّغنا
به دفعت لأهل البغي أدمغة
كم مصقع من خطاب قد صقعت به
ما فرّق اللهُ شيئاً في خليقته |
|
رشداً به اجتثّ عِرق الغيّ فانقمعا
لنخوة الجهل قد كانت أَشَرّ وعا
فوق المنابر صقع الغدر فانصقعا
من الفضائل إلاّ عندك اجتمعا |
وقال آخر:
انظر إلى نهج البلاغة هل ترى لأولي الفصاحة منه أبلغ منطقا
وقال آخر:
هذا الكتاب كتاب الله أنزله
أخو الكتاب الذي جاء النبيّ به |
|
على لسان عليٍّ أفصح العربِ
كلاهما من نبيٍّ أو وصيِّ نبي |
وقال آخر:
نهج البلاغة منهج البُلغاء
فيه معانٍ في قوالبَ أُحكمت
وتضمّن الكلمات في إيجازها
صلّى الإله على النبيّ محمّد |
|
وملاذ ذي حصر وذي إعياءِ
لهدايةٍ كالنجم في الظلماء
بذواتها بجوامع العلياء
وعلى عليٍّ ذي علاً وإخاء(24) |
وقال قطب الدين تاج الاسلام محمد بن الحسين بن الحسن الكيدري:
نهج البلاغة نهج كلّ مسدّد
يا من يبيت وهمّه درك العُلى
ينبوع مجموع العلوم رمى به
فيه لطلاّب النهاية مقنع
صلّى الإله على منظّمه الذي |
|
نهج المرام لكلّ قوم أمجدِ
فاسلكه تحظَ بما تروم وتقصدِ
نحو الأنام ليقتفيه المهتدي
فليلزمنه الناظر المسترشدِ
فاق الورى بكماله والمحتدِ(25) |
وقال الحسن بن يعقوب بن أحمد:
نهج البلاغة درجٌ ضمنه دررُ
نهج البلاغة وشيٌ حاكه صبغ
أو جونة مُلئت عطراً إذا فتحت
صدّقتكم سادتي والصدق من خُلقي
صلّى الإله على بحر غواربـه |
|
نهج البلاغة روض جاده دررُ
من دون موشية الديباج والحبر
خيشومنا فغمت ريح لها ذفر
وإنّه خصلة ما عابها بشر
رمت به نحونا ما القمر(26) |
وقال العلاّمة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي:
وبنور نهجك وهو منبع حكمةٍ
أوردتنا فيه نميراً صافياً
أحكمته بقواعد حكميّة
تقف العقول أمامه مسحورةً
أنت المحيط معـارفاً لكنّـما |
|
متدفّق أوضحت أيّ مشاكلِ
ينمى لخير موارد ومناهل
كفلت بيان أصول كلّ مسائل
ببيانه وبنسقه المتواصل
لم تحوِ غيرَ جواهـر وفضائـل |
وللشيخ محمد علي صنعان النجفي:
فاح النسيم فباح بالأسرار
وأتى يخبّر عن كتاب ناظم
نهج البلاغة روضة ممطورة
أو حكمة قدسيّة جليت بها
خطب روت ألفاظها عن لؤلؤ
وتنسّمت كلماتها عن جنّة
فكأنّما عين اليقين تفجّرت
حِكم كأمثال النجوم تلألأت
كشف الغطاء بيانها فكأنها
وترى من الكلم القصار جوامعاً
|
|
سَحَراً فأيقظ راقد الأزهار
سلكاً فيعقد للنثار دراري
بالنور من سُبحات وجه الباري
مرآة ذات الله للنظّار
عن مائه بحر المعارف جاري
حُفّت من التوحيد بالنوّار
من فوق عرش الله بالأنهار
من ضوء ما ضمنت من الأسرار
للسامعين بصائر الأبصار
تُغنيك عن سفرٍ من الأسفار(27)
|
* * *
علي ونهج البلاغة
فيما ذهب إليه بعض المرجفين
لم يكن من القصد عرض هذا الموضوع، حيث أنّ العلماء وعباقرة الأدب أسهبوا فيه
وأحاطوا به من جميع نوافذه، لولا إشارة ولدي الفاضل السيد صدر الدين حفظه الله، فقد
أشار عليَّ أن أخوض فيه ـ ولو في سطور قصيرة لأنّ المجال يستدعيه، فاستصوبت رأيه،
واكتفيت بكلمة الدكتور مهدي محبوبة، فإنّه أعطاه ما يستحقّه، وألمّ به من جميع
أطرافه.
قال (سلّمه الله) في كتابه (ملامح من عبقرية الإمام) تحت عنوان (علي ونهج
البلاغة فيما ذهب إليه بعض المرجفين):
«التراث الفكري زاخر بالمواهب، عبق بالانتاج، واسع بالمدركات، متمثّل
بالعبقريات، ماثل بالنقل والرواية، لكلّ تراث منتج يتميّز ذلك الانتاج به، والأخصّ
في مجال الأدب والسياسة، فلا يصحّ السند إذا لم يستوفِ الأثر دلائله وبراهينه
الكامنة فيه والمنطلقة منه.
وإنّ لكلّ أديب نفحته الأدبية التي تعبق بمعتقداته وآرائه ومُثله وسياسته ووجهة
تفكيره.
ثمّ إنّ للزمن أثره وللمحيط فعله في كلّ نتاج أدبي، فالأدب آخذ من بيئته لا
محالة.
ولو أردنا استقصاء نهج البلاغة وإطالة النظر فيه لرأيناه قد استوفى حُججه
واستكمل براهينه الكائنة فيه، لأنّه يحمل الروح العلويّة في كلّ سطر منه وبكلّ
تعبير فيه، ويعطي الدلالة السياسية والاقتصادية والعقائدية والأدبية للإمام، ويمثّل
روح عصره بما تمخّض عن أحداث جسام.
ولم يكن الشريف الرضي ممّن عركتهم الظروف غير المواتية، وادلهمّت بهم الأوضاع،
لأنّه كان والحكم في وئام، ومع الأحداث في سلامة. ولم يكن الشريف قد ارتفعت به
الأمّة الإسلامية حتّى كان قطب رحاها، ومنطلق وجودها وعُلاها، ومَعين إسلامها
ومعتقدها، وإن كان على جانب كبير من المعرفة والمنـزلة الاجتماعية.
لم تُلجئه الظروف للمقارعة باللسان والقلم، ولم يوليه وقته
الخلافة أو القيادة, وإنّ نفحة نهج البلاغة على غير ما هو فيه، فهي نفحة الثائر في
أشدّ ظروف الثورة.
ومَن دَرَس سيرة الرضي وأدرك حقيقته عرف أنّه على جانب كبير من الصلاح والتقوى
ممّا هو بعيد عن الكذب والانتحال والتقوّل.
ذهب بعض المؤرّخين إلى أنّ قسماً من النهج قد سطره يراع الرضيّ، وذهب بعض إلى
أنّه من وضع الرضي, وكانت لهم حُججهم سأوردها جميعاً وسأذهب إلى تفنيدها.
ومن أهمّ الحُجج التي تذرّع بها هؤلاء ما ورد في النهج من
تقريعٍ وتأنيب لبعض من واكب الإسلام في إبّان ظهوره، كمعاوية وطلحة والزبير
وأضرابهم، وورد فيه بعض العتاب لبعض كبار الصحابة، مع علم هؤلاء المؤرّخين بأنّ ما
يورده الإمام فهو حجّة قاطعة وإدانة واردة، وإلاّ فلا مبرّر لحديثهم.
ولست أطيل الردّ على هذه الفقرة، فإنّ ما ورد لهو صدی لتلك الحروب الطاحنة للجمل
وصفّين والنهروان، وهذا لا غبار عليه، وإنّ ما أورده الإمام لقليل إذا قيس بالدماء
التي أُريقت والنفوس التي انتُهكت، والثائر على خليفة زمانه كافر، فإذا أردنا أن
نُبعد قول الإمام فيهم فليس باستطاعة أحد أن يُبعد التاريخ الحافل بتلك الأحداث.
ولم يتعرّض للخلفاء الراشدين إلاّ تلميحاً وعتاباً، وهو الصدى القائم ليوم
السقيفة، وكان ذلك في خطبته الشقشقيّة.
ولو أردنا الاسترسال فيما يحمله الإمام من اعتقاد جازم في حقّه بالخلافة وسبقه
إليها، لأدركنا أنّه لم يرد في النهج ما يُسيء، ولم يقل الإمام مقول عثمان في عمر
كما أورده الدكتور طه حسين في كتابه عثمان «لقد وطئكم ابنُ الخطّاب برجله، وضربكم
بيده، وقبعكم بلسانه، فخفتموه ورضيتم منه بما لا ترضوه مني، لأنّي كففت عنكم يدي
ولساني». ولم يرد في الخطبة الشقشقيّة إلاّ ما أثبته التاريخ.
وأمّا تعرّضه بعثمان فهو تعرّض الناصح المؤمن بأداء رسالته على أكمل وجه، وقد
وافانا التاريخ بما وصل إليه الحال في عهده، وللإمام كامل الحقّ أن يدافع عن حظيرة
الإسلام ومبادئه.
«كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيتّه».(28)
ونحن لا نعدم الخلاف ولا نذكره إلاّ لنبسط التاريخ واضحاً صحيحاً ليكون لنا عبرة
لجمع الشمل وإبعاد الخلاف، وعلينا أن نعتزّ بمن هو أفضل، وكلّهم عرب إسلام منّا
وإلينا، فعلينا أن لا نعدم الحقّ والوجدان.
وإنّ كلّ ما أورده النهج لدليل على النفحة العلويّة وعلى
ملامسته للأحداث.
وقد ذكر بعض الناقدين في النهج من التنميق الأدبي في السجع وتزويق اللفظ ممّا لم
يعهده العصر الاسلامي الأول. وفيه من دقّة الوصف والاحاطة بالقصد، كوصفه للطاووس
والنملة والجرادة ممّا يخرج عن دائرة ذلك العهد وأدب ذلك الزمن، وفيه من الحكمة
والمنطق وبأساليب بيانية لم تُعرف قبل عهد الترجمة، وقبل تعريب مآثر اليونان
والرومان والفرس والهنود.
أمّا موضع التنميق الأدبي والسجع فلم يكن وارداً في نهج البلاغة إلاّ عرضاً
وحسبما تقتضيه الأصول البلاغيّة، وأقلّ ممّا ورد في القرآن، كما ورد في سورة الرحمن
وسور أخرى كثيرة.
وأمّا ما فيه من دقّة في الوصف والإحاطة في القصد، فإنّي أذكر قول معاوية لمجفن
عندما قال له: أتيتُك مِن أعيا الناس.
أجابه معاوية: ويلك فإنّه ما سنّ الفصاحة لقريش غيره.(29)
وبالطبع إنّ لربّ الفصاحة والبلاغة أسلوبه الخاص وسحره الممتنع، وإعجازه الفريد،
واستقلاله بوضع أسس بلاغيّة أدبيّة لم يعهدها عصره، وهذه من أوّليّات ما يلزم أن
يؤمن بها الباحث، وإلاّ فعلام أجمع المؤرخون قاطبة على سموّه الأدبي البلاغي الفريد
ممّا لم يُعهد لسواه. وقد ذهب كثير من المؤرّخين وكتّاب السير إلى ذكر كلام الإمام،
فوضعوه كأرفع كلام عربي بعد القرآن والحديث، وقد ورد ذلك قبل أن يُخلق الشريف
الرضي.
وإنّي أقول: فكما أنّ للقرآن مميّزاته وحدوده التي لا يمكن أن يصل إليها كلام،
فللنهج كذلك مميّزاته وحدوده التي اختصّ بها، فلا يمكن أن يصل إلى شأوها كلام.
ولم يكن للإمام إلاّ ما أورده الشريف الرضي في النهج فحسب، وإنّما ورد كثير مما
لم يرد في النهج ولا يقلّ روعة وأسلوباً عنه. وإنّ معظم ما ورد في النهج لهو معروف
قبل الشريف الرضي حسبما وصل إليه المحقّقون. وقد ذكر المسعودي في مروج الذهب، وهو
قبل الشريف الرضيّ: «أنّ الناس حفظوا عن الإمام علي أربعماءة ونيّف وثمانين خطبة،
يوردها على البديهة».
ولم يتناقلها الناس ويولوها حفظهم إلاّ لسموّها ورفيع أدبها، وليس للمؤرّخ أن
يسجّل إلاّ ما وصل إليه وقد يتعدّاه الكثير، وإنّ زمن المسعودي ليس ببعيد عن زمن
الإمام، وذلك ممّا يجعل الثقة واردة في روايته.
وإنّ أبرز ما في النهج ممّا سوّلت نفوس بعض الحاقدين عدم نسبته إليه هو عهده
المشهور لمالك الأشتر عندما ولاّه مصر، والذي تسيخ العقول أن تأتي بمثله، حيث وضع
به معالم الحكم على ممرّ العهود ممّا لا ترتضيه الحكومات المتعاقبة ذات النـزعة
الفرديّة، وبالأخصّ من بني أميّة وبني العبّاس، وهذا العهد قد رواه بعض الثقاة قبل
الشريف الرضي، ومنهم صاحب كتاب (تحف العقول) المتوفّى في سنة 332.(30)
ولو فرضنا أنّنا لم نصل لهذا العهد إلاّ عن رواية الشريف الرضي، فهل يصحّ لنا
نسبته إليه، وهو الذي لم تتجسّم أمامه تلك الأحداث والانقلابات الرائعة في صدر
الإسلام، ولم يهضم الحكم ويمسّه، ويندفع إلى قراره، ويدركه كإدراك الامام؟
وهل أوثر عن الشريف ما يُماشي ذلك أو يقاربه؟
وهل يصحّ نسبة الخبر لناقله مع إقراره على نقله وإفصاحه على جمعه، مع العلم أنّه
لم تكن تلك النـزعة الشعبيّة والنظرة إلى الحريّة في الحكم بباقية الى عهد الشريف
الرضي، والتي طمستها عهود أميّة وبني العباس، حتّى أصبحت الخلافة ملكاً مطلقاً
استبداديّاً فرديّاً، وأنّ تلك النفحة التحررية العلوية قد رسمتها طبيعة الصحراء
وحياة العرب، وقوّمتها ووضعت لها السنن والقوانين الثورية الإسلامية، وتبنّاها
الإمام علي لما له من العروبة والإسلام، ولكنّها تلاشت على ممرّ عصور الحكم الفرديّ
وممارسة الضغط والإرهاب وأخذ الناس بالبطش، حتّى أصبح الفرد العربي والفرد المسلم
دُمية لاحول له ولا قوة إلاّ ما يفرضه الخليفة وعائلته وبِطانته.
ولا يخلو عن البال أنّ ما يمكن الرضي من الحفاظ عليه من تراث الإمام لا يتأتّى
لسواه، لأنّه سليل العترة العلوية، وأبرز وارث لها ولمأثورها، وبالأخصّ بما برزت به
العهود السابقة له من طمس لمعالم الإمام والأخذ بأقصى العقوبة على من يذكر فضائله
أو يروي خبره أو يُعرف بولائه له، وهذا ممّا يدع ما يصل إليه لا يصل إلى غيره، بل
قد يمتنع وصوله إلى غيره.
وأمّا ما أوثر عن انطباع بعض حكم الإمام وآرائه بما أوثر عن الإغريق والفرس فقد
لا يتعدّى التوارد في الآراء، وليست الآراء بوقف على أمّة.
وممّا لا شكّ فيه أنّ عهد الترجمة الفكرية وصل العرب منذ العهد الإسلامي بالفتح
والاختلاط، وقد تكون له جذوره من العهد الجاهلي لاتّصال العرب بفارس والشام، وأمّا
الترجمة المنسّقة المسجّلة المبنيّة على تحديد النقل فقد وصلت متأخّرة عن العهد
الإسلاميّ الأوّل، حيث ابتدأت بصورة مبسّطة في العصر الأموي والعصر العبّاسي
الأوّل، ونشطت على عهد المأمون.
وبما يمتاز الإمام به من حدّة في الذكاء، ومن نظر ثاقب بعيد المدى، ومن قوّة في
الإدراك والتعبير، فقد استوعب من مخالطته الفرس والروم وسواهم لتواردهم على دار
الخلافة والإسلام، وهذا وارد فلا ردَّ عليه.
ثمّ إنّ الإمام عاصر فتح الشام وفارس وبقي بعد ذلك بزمن طويل، ممّا تصحّ الترجمة
الفكرية الشفهيّة بإسلام كثير من الأجانب ممّن أدرك الثقافة الإغريقية الرومانية
والفارسية والهندية، وكثير منهم طبعها بلغته الجديدة، لغة القرآن والسنّة وهي
العربية.
ولنضرب على ذلك مثلاً واحداً: ذكر ابن شهر آشوب أنّ أوّل من صنّف في الإسلام علي
بن أبي طالب، ثمّ سلمان الفارسي الذي أشار بحفر الخندق، فيستدل أنّ سلمانَ كان على
مستوى كبير من العقل والإدراك، وكان من حواريّي الإمام ممّا تصحّ ترجمته الفكرية،
ودليل على ذلك إشارته بحفر الخندق وهي خطّة عسكرية فارسيّة لم يعهدها العرب، فهو
وأضرابه قد حمل للأمّة العربية كثيراً من معالم بلده وأوطانه ومجتمعه الأوّل.
ثم إنّ حكميّات الإمام وآراءه لم تكن منوطة بالنهج وماثلة بين
دفتيه فحسب، بل إنّ ما جمعه الأوائل والأواخر لكثير، وأكثره ممّا لم يذكره الشريف
الرضي.
فقد جمع الشيخ عبد الواحد التميمي كتاباً من حكم الإمام القصيرة يقارب نهج
البلاغة، سمّاه (غُرر الحكم ودُرر الكلم).
وقد افتخر الجاحظ ـ وهو من أكبر العلماء العرب ومن العهد الاسلامي الأوّل بأنّه
جمع مائة كلمة لأمير المؤمنين.
وقد جمع القاضي القضاعي من كلام الإمام سمّاه (دستور معالم
الحكم).
وجمع الطبرسي صاحب تفسير مجمع البيان كتاباً من حكم الإمام سمّاه (نثر اللآلي).
وقد ذكر المفيد ـ وهو أستاذ الشريف الرضي ـ في كتابه (الإرشاد) كثيراً من كلام
وخطب الإمام.
وجمع نصر بن مزاحم خطب الإمام في صفّين وكُتبه إلى معاوية في كتاب (صفّين).
وجمع إسحاق الأنصاري كتاباً من كلام الإمام سمّاه (مطلوب كلّ
طالب).
وجمع القاضي الإمام أبو يوسف كتاباً من كلام الإمام سمّاه (قلائد الحكم وفرائد
الكلم).
وألحق ابن أبي الحديد في تفسيره للنهج ألف كلمة على مستوى النهج بلاغة وفصاحة
وحكمة ممّا لم تكن فيه.
وهكذا لو أردنا الاسترسال لطال بنا البحث ممّا نحن لسنا بصدده، وإنّما هي عجالة
نريد بها إحقاق الحق وإزهاق الباطل.
ولست ممّن يؤمن بتحريف التاريخ تبع الهوى، ولست ممّن يؤمن بالاسترسال بزيفه،
فإنّ الواقع لا بدّ أن يظهر من خلال البحث والتدقيق.
وإنّ أوّل واضع للشك هو قاضي القضاة شمس الدين الإربلي صاحب (وفيات الأعيان)
المولود في إربل سنة 608 والمتوفّى بدمشق سنة 681 من الهجرة، وإنّ من تبعه لفّ لفّه
وأخذ منه، وهم عدد يسير.
وكلّ ما أورده المرجفون لا يتعدّى الحجج الواردة الذكر، والتي لم تثبت أمام
الإجماع والتواتر وسند النقل، والبراهين الماديّة الثابتة.
ولا أخالني بعيداً عن الصواب إذا قلت: إنّ الذي حدا بذلك القاضي على الشكّ هو
أنّ كلام الإمام يتناقله الناس متفرّقاً ومجزءاً ممّا لم يستوعب أثره، ولما جمع
الرضي كثيراً منه ضمن سفر جليل عظيم الأثر التمسه الناس وشاع فأصبح النقد وارداً.
ولربّما يكون وضع الشكّ وارداً لإقرار الشكّ في نسبة النهج للإمام، إذ ما يرد عن
الإمام يلتزم به الإسلام، وإنّ النهج يحدّد مفهوم السلطة تحديداً دقيقاً، ويشيع
الحقوق العامة، ويبعث الحرية والعدالة الاجتماعية ممّا لا يرتضيه الخلفاء والولاة،
ولا يستسيغه قضاتهم، فإذا بطلت النسبة للإمام أو بعض منه ممّا رآه ذلك القاضي فقد
ابتعدت مفاهيمه عن الجماهير.
* * *
|