من خطبة له (عليه السلام)[ في معرفة الخالق وتوحيده]:

«أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ وَكَمَالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ وَشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ فَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ وَمَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ وَمَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ وَمَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ...»(1).

* * *

قوله (عليه السلام): «أوّل الدين معرفته» لأن أوّل الواجبات الدينية معرفة الله سبحانه وإطاعته وعبادته، والطاعة والعبادة فرع معرفة المطاع والمعبود، فما لم يُعرف لا يمكن طاعته، ولذلك أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) بعد ما سأله حبرٌ بقوله: هل رأيتَ ربّك حين عبدته؟ أجاب بقوله: ويلك ما أعبد ربّاً لم أره. قال: كيف رأيته؟ قال :ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوبُ بحقائق الايمان.(2)

ثمّ إنّ معرفة الله قد تكون ناقصة وقد تكون تامّة، أمّا الناقصة فهي: إدراك أنّ للعالم صانعاً مدبراً، وأمّا التامّة فقد أشار إليها (عليه السلام) بقوله: «وكمال معرفته التصديق به» أي الاذعان بوجوده ووجوبه، وأنّه واحد لا شريك له ولا شِبه له، فإنّ من عرف الله بهذه الكيفيّة وهذا اللون حرّم الله جسده على النار وأوجب له دخول الجنّة.

روى الصدوق (قدس سره) في كتاب «التوحيد» بإسناده عن زيد بن وهب، عن أبي ذر (رضي الله عنه) قال: خرجت ليلة من الليالي فإذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمشي وحده ليس معه إنسان، فظننت أنّه يكره أن يمشي معه أحد، فجعلت أمشي في ظلّ القمر، فالتفت فرآني فقال: من هذا؟ فقلت: أبوذر، جعلني الله فداك، فقال: يا أبا ذر تعال، فمشيت معه ساعة فقال: إنّ المكثرين هم الأقلّون يوم القيامة إلاّ من أعطاه الله خيراً، فنفخ منه بيمينه وشماله ومن بين يديه وورائه وعمل فيه خيراً، قال: فمشيت ساعة، فقال: اجلس ههنا، وأجلسني في قاع حوله حجارة فقال لي: اجلس حتّى أرجع إليك، قال: وانطلق في الحرّة حتى لم أره، وتوارى عني وأطال اللبث، ثمّ إنّي سمعته وهو مقبل يقول: وإن زنى وإن سرق؟ قال: فلمّا جاء لم أصبر حتّى قلت له: يا نبيّ الله جعلني الله فداك من تكلّمه في جانب الحرّة، فإنّي سمعت أحداً يردّ عليك شيئاً؟ فقال (صلى الله عليه وآله): ذاك جبرئيل عرض لي في جانب الحرّة، فقال: بشّر أمتك أنّه من مات لا يشرك بالله (عز وجل) شيئاً دخل الجنة، قال: قلت: يا جبرئيل وإن زنى وإن سرق وإن شرب الخمر؟ قال: نعم، وإن شرب الخمر.

قال الصدوق بعد ذكر الحديث: يعني بذلك أنه يوفّق للتوبة حتى يدخل الجنة.(3)

وفيه أيضاً عن الأسود بن هلال، عن معاذ بن جبل قال: كنت رفقت النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا معاذ هل تدري ما حقّ الله على العباد؟ يقولها ثلاثاً، قلت: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله: حقّ الله (عز وجل) على العباد أن لا يُشركوا به شيئاً، ثم قال: هل تدري ما حقّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أن لا يعذّبهم، أو قال:أن لا يُدخلهم النار.(4)

وفيه أيضاً عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): والذي بعثني بالحقّ نبياً لا يعذّب الله بالنار موحّداً أبداً، وإنّ أهل التوحيد ليَشفعون فيُشفّعون، ثم قال (صلى الله عليه وآله): إنّه إذا كان يوم القيامة أمر الله تبارك وتعالى بقومٍ ساءت أعمالهم في دار الدنيا إلى النار، فيقولون: يا ربّنا كيف تُدخلنا النار وقد كنّا نوحّدك في دار الدنيا؟ وكيف تحرق بالنار ألسنتنا وقد نطقت بتوحيدك في دار الدنيا؟ وكيف تحرق قلوبنا وقد عقدت على أن لا إله إلا الله؟ أم كيف تحرق وُجوهنا وقد عفّرناها لك في التراب؟ أم كيف تحرق أيدينا وقد رفعناها بالدعاء اليك؟ فيقول الله (عز وجل): عبادي ساءت أعمالكم في دار الدنيا فجزاؤكم نار جهنّم. فيقولون: يا ربّنا عفوك أعظم أم خطيئتنا؟ فيقول الله (عز وجل): بل عفوي، فيقولون: رحمتك أوسع أم ذنوبنا؟ فيقول الله (عز وجل): بل رحمتي، فيقولون: إقرارنا بتوحيدك أعظم أم ذنوبنا؟ فيقول الله (عز وجل): بل إقراركم بتوحيدي أعظم، فيقولون: يا ربّنا فليسعنا عفوك ورحمتك التي وسعت كلّ شيء، فيقول الله (جل جلاله): ملائكتي، وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحبّ إلي من المقرّين بتوحيدي وأن لا إله غيري، وحقّ عليّ أن لا أُصلي بالنار أهل توحيدي، أدخِلوا عبادي الجنة.(5)

 

[ولاية أهل البيت (عليهم السلام) شرط في التوحيد]:

غير أنّ مجرد الاعتقاد بالتوحيد لا يكفي في ترتيب الثواب ودفع العقاب، بل لا بدّ مع ذلك من الاعتقاد بالولاية، ولاية علي وأولاده الطاهرين (عليهم السلام) أجمعين.

والأخبار الواردة في أبواب التوحيد والمعرفة وإن كانت مطلقة إلاّ أنها يقيدها ـ مضافة إلى إجماع أصحابنا ـ أخبارٌ أُخر مقيّدة لكون الولاية شرطاً في التوحيد وبدونها لا ينتفع بشيء منها.

وهذه الأخبار كثيرة بالغة حدّ الاستفاضة بل التواتر.

منها ما جاء في كتاب جامع الأخبار بالإسناد عن محمد بن عمارة،عن أبيه، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن آبائه الصادقين (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ الله تبارك وتعالى جعل لأخي علي (عليه السلام) فضائل لا يُحصي عددها غيره، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرّاً بها غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ولو أتى القيامة بذنوب الثقلين، ومن كتب فضيلة من فضائل علي بن أبي طالب لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة رسم، ومن استمع فضيلة غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع، ومن نظر إلى كتابة في فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر، ثمّ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): النظر إلى علي بن أبي طالب عبادة، ولايقبل الله إيمان عبد إلاّ بولايته والبرائة من أعدائه.(6)

وفي الكافي باسنإده عن أبي حمزة، قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): إنّما يعبد الله من يعرف الله، فأمّا من لا يعرف الله فإنّما يعبده هكذا ضلالاً، قلت: جعلت فداك فما معرفة الله؟ قال: تصديق الله (عز وجل) وتصديق رسول الله (صلى الله عليه وآله) وموالاة علي (عليه السلام) والائتمام به وبالأئمة (عليهم السلام) والبرائة إلى الله (عز وجل) من عدوّهم، هكذا يعرف الله.(7)

وفي الوسائل ومجمع البيان عن أبي حمزة الثمالي قال: قال لنا علي بن الحسين (عليهما السلام): أيّ البقاع أفضل؟ فقلنا: الله ورسوله وابن رسوله أعلم، فقال: أفضل البقاع لنا ما بين الركن والمقام، ولو أنّ رجلاً عمّر ما عمّر نوح (عليه السلام) في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك المكان ثمّ لقي الله بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئاً.(8)

وفي الوسائل أيضاً بإسناده عن المعلّى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا معلّى لو أنّ عبداً عبد الله مائة عام ما بين الركن والمقام، يصوم النهار ويقوم الليل حتّى يسقط حاجباه على عينيه، ويلتقي تراقيه هرماً جاهلاً بحقّنا لم يكن له ثواب.(9)

وفيه أيضاً عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام) قال: نزل جبرئيل على النبيّ (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمّد، السلام يقرؤك السلام ويقول: خلقت السماوات السبع وما فيهنّ وخلقت الأرضين السبع ومن عليهنّ، وما خلقت موضعاً أعظم من الركن والمقام، ولو أنّ عبداً دعاني منذ خلقت السماوات والأرض ثمّ لقيني جاحداً لولاية علي لأكببتُه في سقر.(10)

وروى علي بن إبراهيم القمّي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) (في حديث) قال: ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضى الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته، أما لو أنّ رجلاًَ قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله وحجّ جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه وتكون جميع أعماله بدلالته، ما كان له على الله حقّ في ثوابه ولا كان من أهل الايمان.(11)

وبالتالي: فقد تحصّل من هذه الأخبار وغيرها من الأخبار الكثيرة أنّ معرفة الإمام والطاعة له شرط في صحّة الفروع والأصول، كما ظهر أنّ اللازم أخذ الاحكام الشرعيّة والمسائل الدينيّة عنهم، لأنّهم الباب الذي أمر الله أن يؤتى منه حيث قال: «وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها».(12)

روي في الصافي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: نحن البيوت التي أمر الله أن تُؤتى أبوابها، نحن باب الله وبيوته التي يُؤتى منه، فمن تابعنا وأقرّ بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها، ومن خالفنا وفضّل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها، إنّ الله لو شاء عرّف نفسه حتّى يعرفونه ويأتونه من بابه، ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله وبابه الذي يُؤتى منه، قال: فمن عدل عن ولايتنا وفضّل علينا غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها، وإنّهم عن الصراط لناكبون.(13)

وفي الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: كلّ من دان الله (عز وجل) بعبادة يجهد فيها نفسه ولا إمام له من الله فسعيه غير مقبول وهو ضالّ متحيّر والله شانئ لأعماله، ومثله كمثل شاة ضلّت عن راعيها وقطيعها فهجمت ذاهبة أو جائية يومها، فلمّا جنّها الليل بصرت بقطيع غنم مع غير راعيها فحنّت إليها واغترّت بها فباتت معها في مربضها، فلما أن ساق الراعي قطيعه أنكرت راعيها وقطيعها، فهجمت متحيّرة تطلب راعيها وقطيعها، فبصرت بغنم مع راعيها فحنّت إليها واغترّت بها فصاح بها الراعي: إلحقي براعيك وقطيعك فأنت تائهة متحيّرة عن راعيك وقطيعك، فهجمت ذعرة متحيّرة تائهة لا راعي لها يرشدها إلى مرعاها أو يردها، فبينا هي كذلك إذ اغتنم الذئب ضيعتها فأكلها، وكذلك ـ والله يا محمد ـ من أصبح من هذه الأمة ولا إمام له من الله (عز وجل) ظاهر عادل أصبح ضالاً تائهاً، وإن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر ونفاق، واعلم يا محمد أنّ أئمّة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله (عز وجل)، قد ضلّوا، وأضلّوا فأعمالهم التي يعملونها «كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْ‏ءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ».(14) (15)

* * *

 

من كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام): [ في المعروف والانفاق]

«وَلَيْسَ لِوَاضِعِ الْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَعِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ مِنَ الْحَظِّ فِيمَا أَتَى إِلَّا مَحْمَدَةُ اللِّئَامِ وَثَنَاءُ الْأَشْرَارِ وَمَقَالَةُ الْجُهَّالَ مَا دَامَ مُنْعِماً عَلَيْهِمْ مَا أَجْوَدَ يَدَهُ وَهُوَ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ بِخَيْلٌ فَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلْيَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ وَلْيُحْسِنْ مِنْهُ الضِّيَافَةَ وَلْيَفُكَّ بِهِ الْأَسِيرَ وَالْعَانِيَ وَلْيُعْطِ مِنْهُ الْفَقِيرَ وَالْغَارِمَ وَلْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَى الْحُقُوقِ وَالنَّوَائِبِ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ فَإِنَّ فَوْزاً بِهَذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ الدُّنْيَا وَدَرْكُ فَضَائِلِ الْآخِرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ».(16)

* * *

لمّا كان لواضع المعروف ـ سواءً كان في أهله أو غير أهله ـ ثناء من الناس ومدح له بالكرم والبذل، كان ممّا يتميز به وضعه في غير أهله عن وضعه في أهله: أنّ الأوّل إنّما يحصل به لواضعه الحمد من لئام الناس من السفهاء والأشرار والجهال، لعدم معرفتهم بوضع الأشياء في مواضعها التي هي مقتضى العقل الذي به نظام أمور الدنيا وقوام نوع الانسان في الوجود، مع أنّه في الحقيقة وعند أولي الألباب العارفين بمواقع المعروف بخيل في جنب الله تعالى، وأمّا الثاني ـ أي واضع المعروف في أهله ـ فتحصل له المحمدة من الكلّ في الدنيا، محمدة مطابقة للحّق مع الثواب الجزيل في الأخرى.

 

[مواضع المعروف]:

ثم نبّه (عليه السلام) على مواضع المعروف وأمر بوضعه فيها، وذكر منها خمسة: الأوّل صلة الرحم، الثاني حسن الضيافة، الثالث فكّ الأسير والعاني، الرابع إعطاء الفقير والغارم ـ وهو من عليه دين ـ الخامس الحقوق الواجبة على أهلها كالزكاة، والمستحبّة كالصدقات، وأشار بالنوائب إلى ما يلحق الانسان من المصادرات والقرارات التي يفكّ بها الانسان من أيدي الظالمين وألسنتهم، والإنفاق في ذلك من الحقوق الواجبة على الانسان.

ونبّه (عليه السلام) على أنّ الانفاق في هذه الوجوه إنّما يكون وضعاً للمعروف في موضعه إذا قصد به وجه الله تعالى، فأمّا إذا قصد به الرياء والسمعة فهو وإن عُدّ في ظاهر الشريعة مُجزياً إلاّ أنّه غير مُجزٍ ولا مقبول في باطنها.

وقوله (عليه السلام): «فإنّ فوزاً بهذه الخصال شرف مكارم الدنيا ودرك فضائل الآخرة» إشارة إلى ما يتميّز به وضع المعروف في أهله: وهو شرف مكارم الدنيا من الذكر الجميل بين الناس والجاه العريض، ودرك فضائل الآخرة: وهي درجات الثواب الجزيل الموعود لأولي الفضائل النفسانيّة.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أوّل من يدخل الجنّة المعروف وأهله، وأوّل من يرد عليَّ الحوض».(17)

وقال (صلى الله عليه وآله): «إنّ البركة أسرع إلى البيت الذي يمتار منه المعروف من الشفرة في سنام الجزور أو من السيل إلى منتهاه».(18)

 

[تعاريف للمعروف]:

المعروف: اسم جامع لكل فعل يعرف حُسنه بالعقل والشرع.

المعروف: اسم جامع لما عرف من طاعة الله سبحانه، والاحسان إلى الناس في الواجب والمندوب.

المعروف ضدّ المنكر في معناه ومصداقه، والتباين بين المنكر والمعروف بنحو السلب الكلّي من الطرفين، فلا شيء من المنكر بمعروف، ولا شيء من المعروف بمنكر.

المعروف صفة شريفة معروفة، والمنكر صفة رديئة منكرة.

يختصّ المعروف بالأفعال الواجبة والمندوبة شرعاً وعقلاً، ولا يدخل فعل المباحات شرعاً وعقلاً في فعل المعروف، لأنّه خلو من الرجحان، ومن لا رجحان فيه لا خير فيه، والمعروف كلّه خير، ويختصّ المنكر بالمحرّمات شرعاً وعقلاً، فكلّ ما منع الشرع والعقل من فعله منكر.

وأمّا ما منع عنه الشرع والعقل على نحو التنـزيه عن فعله بدون إلزام بالمنع وهو المكروه فلا ريب في خروجه عن دائرة المعروف، وهو أشدّ خروجاً من المباح، والمباح لا يدخل في المنكر، وأمّا المكروه فربّما كان بعض المكروهات من المنكرات إذا تكرّر فعله، وتفصيل ذلك في المباحث الفقهية.

يمتاز أهل المعروف بمعروفهم ولهم مكانة معروفة، وفي الحديث الشريف «من بذل معروفه آتاه الله جزاء معروفه» وفيه «أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة»(19) يعني كما أنّهم يصنعون المعروف في الدنيا كذلك يصنعونه في الآخرة، يهبون حسناتهم لمن شاؤا كما قال الإمام الصادق (عليه السلام): «يُقال لهم في الآخرة: إنّ ذنوبكم قد غُفرت لكم فهبوا حسناتكم لمن شئتم وادخلوا الجنّة».(20)

وفي حديث ابن عباس قال: «يأتي أهلُ المعروف يوم القيامة فيُغفر لهم لمعروفهم وتبقى حسناتهم تامّة، فيعطونها لمن زادت سيئاته على حسناتهم فيُغفر له فيدخلون الجنّة، فيجتمع لهم الاحسان إلى الناس في الدنيا والآخرة».(21)

وفي الحديث «ليس شيء أفضل من المعروف إلاّ ثوابه» وفيه «ليس كلّ من يحبّ أن يصنع المعروف إلى الناس يصنعه، وليس كلّ من يرغب فيه يقدر عليه، ولا كلّ من يقدر عليه يؤذن له فيه، فإذا اجتمعت الرغبة والقدرة والإذن تمّت السعادة للطالب والمطلوب إليه».(22)

وفي الحديث دلالة على أنّ الأعمال الخيريّة تحتاج إلى التوفيق من الله سبحانه بعد الرغبة والقدرة.

جاء عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله: «إنّ بقاء المسلمين وبقاء الإسلام أن تصير الأموال عند من يعرف فيها الحق ويصنع المعروف، وإنّ من فناء الإسلام وفناء المسلمين أن تصير الأموال في أيدي من لا يعرف فيها الحقّ ولا يصنع فيها المعروف».(23)

وقال (عليه السلام) مخاطباً لزرارة: «ثلاثة إن تعلّمهنّ المؤمن كانت زيادة في عمره وبقاء لنعمته عليه، فقلت: وما هنّ؟ فقال: تطويله في ركوعه وسجوده في صلاته، وتطويله لجلوسه على طعامه إذا أطعم على مائدته، واصطناعه المعروف إلى أهله».(24)

وقوله (عليه السلام): «صنائع المعروف تدفع ميتة السوء وتقي مصارع الهوان».(25)

وهذا يدلّ على أنّ فعل الاحسان إلى الناس والرفق بهم سببٌ للوقاية من موارد الذل والهوان.

وفي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «قال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله): فداك آباءنا وأمّهاتنا، إنّ أصحاب المعروف في الدنيا عُرفوا بمعروفهم، فبم يعرفون في الآخرة؟ فقال (صلى الله عليه وآله): إنّ الله إذا أدخل أهل الجنّة الجنّة أمر ريحاً عبقة طيّبة فلصقت بأهل المعروف، فلا يمرّ أحد منهم بملأ من أهل الجنّة إلاّ وجدوا ريحه فقالوا: هذا من أهل المعروف».(26)

وذو المعروف الذي يشير إليه الإمام (عليه السلام) هو كلّ من يُسدي خيراً ومعروفاً إلى أحد، ومن أجلّ أفراده هو الله سبحانه، فهو أوّل المحسنين، وهو أوّل ذوي الخير، فيجب شكره عن طريق العبادة والاخلاص له، وعن طريق ترك ما سواه والتوجّه التامّ إليه، فإذا كان ذلك فقد حصل الشكر، وإلاّ فالمعروف الذي ليس يُقابَل بشكر يُخاف عليه الزوال، والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: «إذا رأيتم أوائل النعم فلا تُنفروا أقصاها بقلّة الشكر»(27) فقلّة الشكر يبعد النعم، وإنّ الشكر عليها مجلبة لها ومدعاة.

 

[أنواع المعروف]:

والمعروف ضربان: ضرب عام يقتضي الجهر به والاعلان له، وضرب خاص لا ينبغي له غير الاخفاء والكتمان.

فمن الضرب الأول ما يكون المجد في إعلانه والشرف، مثل صدقات الفرائض وغنائم الجيوش ومكافأة الملوك على الأعمال الصالحة بعلامات الشرف وما يشابهها، ممّا يزيد الجهر بها والإعلان لها قيمتها، قال الله تعالى: «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»(28) قال ابن عباس: صدقات السر في التطوّع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها بسبعين ضعفاً.

والضرب الآخر هو الذي لا تكون العطايا فيه من شأنها ارتفاع القدر وازدياد الشرف، بل من شأنها سدّ الحاجة ودفع العوز ومداركة الافتضاح، وهذا يجب فيه الكتمان وجوباً محتوماً، وألاّ يعلم بالصنيع أحد سوى المقصود وحده بها.

ويتفرّع من المعروف أمور: منها الأمر بالمعروف، ومنها العفو عن المسيء، ومنها الاحسان.

لا نرتاب بأنّ الأمر بالمعروف من أهله في محلّه ربّما كان أعظم من فعل المعروف، لأنّ فيه حفظ النظام بين أفراد النوع الانسانيّ، وبه اكتساب الفضائل الدينيّة والعقليّة، وإزالة الأخلاق الفاسدة والعمل بما فيه الحياة في الدارين.

ولا أراك تشكّ بأنّ التهذيب والتعليم والالزام لشخص بما فيه ظهور كماله وجميل صنعه وحسن سيرته خير له من إعطائه ألف درهم يتنعّم بها في معاشه مع تلوّثه بأقذار المفاسد وتهوّره في هوّة الجهالة.

الأمر بالمعروف وفعل المعروف واجبان بحكم العقل والشرع وجوباً كفائياً على كافة العقلاء، ولا شرط لوجود فعل المعروف سوى القدرة عليه.

 

[شروط تأثير الأمر بالمعروف]:

إنّ تأثير الأمر بالمعروف له شروط يتوقّف تحريك خطابه للمكلّفين عليها:

الأول: القدرة على الأمر بالمعروف، وغير القادر لا يجب عليه.

الثاني: العلم أو الظنّ أو احتمال التأثير فيمن يأمره بالمعروف.

الثالث: أن يكون الآمر بالمعروف عاملاً به، وإلاّ لم يكن أهلاً لأن يأمر به، لأنّ فاقد الشيء لا يُعطيه، نعم فاقد الشيء لا يعطيه، إذ كلّ شيء تتصوّره وترى أنّك تفقده يستحيل أن تعطيه لمن يطلبه منك، فالمرتكب للمنكر نجد من المنكر نهيه عنه فضلاً عن كونه لا يؤثّر نهيه بأحد، والتارك للفعل الحسن مع قدرته عليه لا يحسن منه أن يأمر به ولا يؤثّر أمره بأحد، كلّ ذلك لأنّ فاقد الشيء لا يُعطيه.

جاء النصّ في القانون الاسلامي على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال سبحانه: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».(29)

دلّت هذه الآية الشريفة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصرّحت بانحصار الفلاح فيمن قام بهما، والعقل يحكم بلزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفظاً للنظام وسدّاً لأبواب الفساد.

ومن ظاهر الآية عرفنا أنّ الوجوب كفائي حيث قال سبحانه: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ »ولو كان الوجوب عينيّاً لكان الخطاب بغير هذا البيان.

وقال سبحانه في صفة من آمن بالله حقيقة الايمان: «يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَيَأْمُرُونَ ِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ».(30)

فانظر كيف قرن إيمانهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنبيهاً على أهميّة وجوبهما وأثرهما.

قال صاحب الدعوة الإسلاميّة الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله): «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه»،(31) وقال (صلى الله عليه وآله) حين سُئل عن خير الناس: «آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأرضاهم»(32) وقال (صلى الله عليه وآله): «لتأمرنّ بالمعروف وتنهونّ عن المنكر أو ليسلطنّ عليكم سلطاناً ظالماً لا يُجلّ كبيرَكم ولا يرحم صغيرَكم، وتدعو خيارُكم فلا يُستجاب لهم، وتستنصرون فلا تُنصرون، وتستغيثون فلا تُغاثون»(33) وقال (صلى الله عليه وآله): «يأتي على الناس زمان لئن يكون فيهم جيفة حمار أحبّ إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر».(34)

ومن ضروب المعروف العفو عن المسيء، العفو عن أرباب الهفوات، والتجاوز بإقالة العثرات، والحلم عن مقترفي الزلاّت، والصفح عن ذوي الهيئآت، وإسداء الاحسان وفعل الخيرات، كلّ ذلك معدود من محاسن الحسنات ومكارم الأخلاق، وقد نطق بذلك القرآن الكريم في كثير من الآيات وصرّحت به السنّة النبوية على ألسنة الرواة الثقات، قال الله تعالى: «وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى»(35) وقال تعالى: «وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»(36) وقال تعالى: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».(37)

وقال تعالى: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ»(38) وقال تقدّس اسمه يخاطب نبيّه: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ»(39) وقال تعالى: «وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ».(40)

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «رأيت قصوراً مشرفة على الجنّة، قلت: يا جبرئيل لمن هذه؟ قال: للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس».(41)

وحَسبُك في هذا الباب ما فعله النبي (صلى الله عليه وآله) مع مشركي قريش الذين آذوه واستهزأوا به وأخرجوه من دياره، ثمّ قاتلوه وحرّضوا عليه غيرهم من مُشركي العرب حتّى تمالأ عليه جمعُهم، ثمّ لمّا فتح الله عليه مكّة ما زاد أن عفا وصفح وقال: ما ترون أنّي فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابنُ أخٍ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطُلقاء.(42)

وظفر أمير المؤمنين (عليه السلام) بأهل البصرة، فلمّا دخلها واجتمع عليه أهلها خطبهم، وقال: يا أهل البصرة يا جند المرأة وأتباع البهيمة، رغى فرجفتم، وعُقر فانهزمتم، أحلامكم رقاق، وعبيدكم شقاق، وأنتم فسقة مرّاق، يا أهل البصرة نكثتم بيعتي وتظاهرتم على عداوتي، فما تروني صانعاً بكم وما تظنّون بي؟ قالوا: نظنّ خيراً، ونعلم أنّك ظفرتَ وقدرت، فإن عاقبتَ فقد استحققنا عقوبة المجرمين، وإن عفوتَ فالعفو أحبّ إلى ربّ العالمين. فأطرق (عليه السلام) برأسه إلى الارض ثم رفع رأسه وقال: اذهبوا وإيّاكم والفتنة، فإنّكم أوّل من شقّ عصا الأمّة ونكث البيعة، فأخلِصوا إلى الله التوبة.(43)

خرج الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) إلى المسجد فسبّه رجل، فقصده غلمانُه ليضربوه ويؤذوه، فنهاهم (عليه السلام) وقال لهم: كفّوا أيديكم عنه، ثمّ التفت إلى ذلك الرجل وقال: يا هذا أنا أكثر ممّا تقول، وما لا تعرفه منّي أكثر ممّا عرفته، فإن كان لك حاجة في ذِكره ذكرتُه لك، فخجل الرجل واستحيا، فخلع عليه زين العابدين قميصه وأمر له بألف درهم، فمضى الرجل وهو يقول: أشهد أنّ هذا الشاب ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله).(44)

وذكر المؤرّخ ابن خلكان في ترجمة مجد الملك ابن شمس الخلافة أحد وزراء الخلفاء في مصر المتوفّى في حدود الستمائة، أنّ هذا الوزير ذكر في كتاب له ألّفه في محاسن المحاضرة وآداب المسامرة، فقال: إنّ عصام بن المصطلق ـ وكان شاميّاً أُموياً ـ قال: دخلت المدينة فرأيت الحسين بن علي (عليه السلام) ومعه غلمانه وحاشيته فأعجبني سمته ورواؤه وحسنه وبهاؤه، وأثار الحسد ما كان يخفيه صدري لأبيه من البغض، فجئت إليه وقلت: أنت ابن أبي تراب؟ فقال: نعم، فبالغتُ في شتمه وشتم أبيه، فنظر إلي نظر عاطف رؤوف برقّة ورحمة ثمّ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم «وإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ * وإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ»(45) ثم قال: خفّض عليك، أستغفرُ الله لي ولك، إنّك لو استعنتنا لأعنّاك، ولو استرفدتنا لرفدناك، ولو استرشدتنا لأرشدناك. قال عصام: فندمت على ما قلت، وتوسّم مني الندم على ما فرط مني، فقال: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»(46) ثمّ قال: أمن أهل شام أنت؟ قلت نعم، فقال: «شنشنةٌ أعرفها من أخزم» حيّانا الله وإياك، انبسِط إلينا في حوائجك وما يعرض لك تجدنا عند أفضل ظنّك إن شاء الله.

قال عصام: فضاقت علي الأرض بما رَحُبت ووددت لو أنّها ساخت بي، ثمّ انسللت من بين يديه وما على وجه الأرض أحب إليّ منه ومن أبيه.(47)

 

[الإمام الكاظم (عليه السلام) والعمري]:

وفي كتاب (إعلام الورى) للطبرسي، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، في أحوال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام): أنّ رجلاً من ولد آل الخطاب كان بالمدينة يؤذي أبا الحسن موسى الكاظم (عليه السلام) إذا رآه ويشتم عليّاً، فأراد بعض موالي الإمام الوقيعة فيه، فنهاه الإمام أبو الحسن أشدّ النهي، ثم سأل (عليه السلام) عن العمري فقيل له: «إنّ له زرعاً بناحية من نواحي المدينة، فركب (عليه السلام) إليه فوجده في زرعه، فدخل المزرعة وهو راكب على حماره، فصاح به الخطّابيّ: لا تطأ زرعنا، فوطئه أبو الحسن بالحمار ولم يلتفت إذ لم يجد طريقاً يسلكه غير ذلك، حتّى إذا وصل إليه نزل وباسطه في القول وسأله عمّا غرمه في زرعه؟ فقال: غرمتُ مائة دينار، ثمّ سأله عمّا يرجو أن يصيب منه؟ قال: مأتي دينار، فدفع إليه أبو الحسن (عليه السلام) ثلثماءة دينار لما غرمه ولما يرجوه، وبشّره بسلامة زرعه وإنتاجه، ففرح العمريّ بهذا الخلق الكريم الممتزج بالحلم والسخاء والبشارة بنتاج عمله، فصاح: الله أعلم حيث يجعل رسالته، وقبّل رأسه ويده وسأله الصفح عمّا فرط من القول فيه، فتبسّم أبو الحسن (عليه السلام) وانصرف إلى أصحابه يقول: أيّما أحسن: ما أردتم أو ما صنعته، إنّني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم، وهدى اللهُ الرجلَ وصار من مواليه».(48)

 

[المأمون وعفوه عن عمّه إبراهيم]:

ومن رائع ما أثر في العفو عند القدرة ما رُوي عن المأمون أنّه لمّا خرج عليه عمّه إبراهيم بن المهدي وبايعه العباسيون بالخلافة ببغداد وخلعوا المأمون وكان إذ ذاك بخراسان، فلمّا بلغه الخبر قصد العراق، فلمّا دخل بغداد اختفى إبراهيم بن المهدي وعاد العبّاسيون وغيرهم إلى طاعة المأمون، ولم يزل المأمون متطلّباً إبراهيم حتّى أخذه مستنقباً مع نسوة، فحُبس ثم أُحضر حتّى وقف بين يدي المأمون فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال له المأمون: لا سلّم الله عليك ولا قرّب دارك، استغواك الشيطان حتى حدّثتك نفسك بما تنقطع دونه الأوهام، فقال إبراهيم: مهلاً يا أمير المؤمنين فإنّ ولّي الأمر يحكم في القصاص والعفو، والعفو أقرب للتقوى، ولك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) شرف القرابة وعدل السياسة، ومن تناول الاغترار بما مدّ له من أسباب الرجاء أمن عادية الدهر على نفسه، وهجمت به الأيام على التلف، وقد جعلك الله فوق كلّ ذي ذَنْب كما جعل كلّ ذي ذنب دونك، فإن أخذت فبحقّك، وإن عفوت فبفضلك، والفضل أولى بك يا أمير المؤمنين، ثم قال :

ذنبي إليك عظيمٌ
فخذ بحقّك أو لا
إن لم أكن في فِعالي

وأنت أعظم منه
فاصفح بعفوك عنه
من الكرام فكُنه

فلمّا سمع المأمون كلامه وشعره ظهرت الدموع في عينيه وقال: يا إبراهيم القدرة تذهب بالحفيظة، والندم توبة، وبينهما عفو الله وهو أعظم ممّا يحاول وأكثر ممّا يؤمّل، ولقد حبّب إليّ العفو حتّى خفت ألاّ أُوجر عليه، لا تثريب عليك، وردّ أمواله جميعها إليه، فقال فيه مخاطباً:

رددتَ مالي ولم تمنن عليّ به
فإن جحدتُكَ ما أوليت من كرم

وقبل ردّك مالي قد حقنت دمي
إنّي لباللؤم أولى منك بالكرم(49)

* * *

وحُكي أنّه أشرف يوماً على قصره فرأى رجلاً يكتب بفحمة على حائط قصره فقال لبعض خدمه: إذهب إلى ذلك الرجل فانظر ما كتب وائتني به، فبادر الخادم إلى الرجل مسرعاً وقبض عليه وقال: ما كتبت؟ فإذا هو قد كتب بيتين أوّلهما:

يا قصر جمّع فيك الشؤم واللؤمُ متى يعشعش في أركانك البومُ

فقال له الخادم: أجِب أمير المؤمنين، فقال الرجل: سألتك بالله لا تذهب بي إليه، فقال الخادم: لا بدّ من ذلك، ثمّ ذهب به، فلمّا مثل بين يدي المأمون وأعلم بما كتب، قال له المأمون: ويلك ما حملك على هذا؟ فقال يا أمير المؤمنين إنّه لا يخفى عليك ما حواه قصرك هذا من خزائن الأموال والحلل والطعام والشراب والفرش والأواني والأمتعة والجواري والخدم وغير ذلك ممّا يقصر عنه وصفي ويعجز عنه فهمي، وإنّي قد مررت عليه الآن وأنا في غاية الجوع والفاقة، فوقفت مفكّراً في أمري وقلت في نفسي: هذا القصر عامر عال وأنا جائع ولا فائدة لي فيه، فلو كان خراباً ومررت به لم أعدم رخامة أو خشبة أو مسماراً أبيعه وأتقوّت بثمنه، أو ما علم أمير المؤمنين رعاه الله قول الشاعر:

إذا لم يكن للمرء في دولة امرءٍ
وما ذاك من بُغضٍ لها غير أنّه

نصيبٌ ولا حظّ تمنّى زوالها
يُرجّي سواها فهو يهوي انتقالها

فقال المأمون: يا غلام أعطه ألف درهم، ثم قال: هي لك في كلّ سنة ما دام قصرنا عامراً بأهله مسروراً بدولته.(50)

* * *

 

[الرشيد وعفوه عن الخارجي]:

ومن ذلك ما رُوي من أنّ الرشيد بن المهدي خرج عليه خارجيّ رام زوال ملكه وإفساد دولته، فجهّز له جيشاً وأنهض الناس والجند للخروج لقتاله، فلمّا توجه الجيش إليه وظفروا به أحضروه إلى دار الخلافة، فلما دخل على الرشيد قال له: ما تريد أن أصنع بك؟ قال: اصنع بي ما تريد أن يصنع الله بك إذا وقفت بين يديه، وهو أقدر عليك منك عليَّ، فأطرق الرشيد مليّاً ثم رفع رأسه وأمر باطلاقه، فلمّا خرج قال بعض الحاضرين: يا أمير المؤمنين تقتل رجالك وتفنى أموالك وتظفر بهذا الذي خرج عليك وأفسد في بلادك وتُطلقه بكلمة واحدة، تأمّل يا أمير المؤمنين هذا الأمر فإنّه يُجرّئ عليك أهل الفساد، فأمر الرشيد بردّه فلمّا عاد ومثل بين يديه علم أنّه قد سُعي به وأُشير على الخليفة بقتله، فقال: يا أمير المؤمنين لا تُطع فيّ مشيراً يمنعك عفواً تدّخر به عند الله يداً، ويبعثك على الانتقام الذي ليس من مكارم الأخلاق، واقتدِ بالله تعالى فإنّه لو أطاع فيك مُشيراً ما استُخلِفتَ طرفة عين، وأحسِن كما أحسن الله اليك، فأمر باطلاقه وقال: لا تعاودوني فيه.

* * *

[معن بن زائدة وعفوه عن الاسرى]:

وحكي عن معن بن زائدة أنّه أُتي بجملة من الأسرى فعرضهم على السيف، فقال له بعضهم: أصلح الله الأمير نحن أسراك وبنا جوع وعطش فلا تجمع علينا الجوع والعطش والقتل، فأمر لهم بطعام وشراب، فأكلوا وشربوا ومعن ينظر إليهم، فلمّا فرغوا قال الرجل: أصلح الله الأمير كنّا أسراك ونحن الآن أضيافك، فانظر ما تصنع بأضيافك، قال: قد عفوت عنكم، فقال الرجل: أيّها الأمير ما ندري أيّ يوم أشرف، يوم ظفرك بنا أو يوم عفوك عنّا، فأمر لهم بمال وكسوة.(51)

 

المروءة النادرة:

لمّا أفضت الخلافة إلى بني العباس اختفت رجال من بني أمية منهم إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك، وكان رجلاً عالماً أديباً كاملاً وهو في سنّ الشبيبة، فأخذوا له أماناًَ من السفاح، فقال له يوماً: حدّثني عمّا مرّ بك في اختفائك، قال: كنت مختفياً بالحيرة في منـزل شارع على الصحراء، فبينما أنا على ظهر البيت إذ نظرت أعلاماً سوداً قد خرجت من الكوفة تريد الحيرة، فتخيّلت أنها تريدني، فخرجت من الدار متنكّراً حتى أتيت الكوفة ولا أعرف أحداً أختفي عنده، فبقيت في حيرة فإذا أنا بباب كبير رَحْبته واسعة، فدخلت فيها فإذا رجل وسيم حسن الهيئة على فرس قد دخل الرحبة ومعه جماعة من غلمانه وأتباعه، فقال: من أنت وما حاجتك؟ فقلت: رجل خائف على نفسه وقد استجار بمنـزلك، فأدخلني منـزله ثم صيّرني في حجرة تلي حرمه، وكنت عنده في ذلك على ما أحبّه من مطعم ومشرب وملبس، لا يسألني عن شيء من حالي، إلاّ أنّه يركب في كلّ يوم ركبة، فقلت له يوماً: أراك تُدمن الركوب ففيم ذلك؟ قال: إبراهيم بن سليمان قتل أبي صبراً وقد بلغني أنّه مُختفٍ أطلبه لأدرك منه ثاري، فكثر والله تعجّبي، وقلت: القدر ساقني إلى حتفي في منـزل من يطلب دمي وكرهت الحياة، فسألت الرجل عن اسمه واسم أبيه، فأخبرني فعلمت أنّ الخبر صحيح وأنا الذي قتلت أباه، فقلت له: يا هذا قد وجب علي حقّك، ومن حقّك أن أدلّك على خصمك وأقرّب إليك الخطوة، قال: وما ذاك؟ قلت: أنا إبراهيم بن سليمان قاتل أبيك فخذ بثارك، فقال: إنّي أحسبك رجلاً قد مضّه الاختفاء فأحببت الموت، فقلت: لا والله ولكن أقول لك الحقّ يوم كذا وكذا، فلمّا علم صدقي تغيّر لونه واحمرّت عيناه وأطرق ملياً، ثمّ قال: أما أنت فستلقى أبي عند حكمٍ عدل فيأخذ بثاره، وأمّا أنا فغير مُخفر ذمّتي، فاخرج عني فلست آمن عليك من نفسي، وأعطاني ألف دينار فلم آخذها منه وانصرفت عنه، فهذا أكرم رجل رأيته بعد أمير المؤمنين.(52)

* * *

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 72، ط مكتبة المرعشي النجفي.

(2) عوالي اللئالي 1: 405/ ح 66؛ بحار الانوار 4: 44/ ح23.

(3) التوحيد: 25 - 26/ ح24.

(4) التوحيد: 28/ ح28.

(5) التوحيد: 29/ ح31.

(6) رواه الصدوق في الأمالي 119/ ح9؛ والمجلسي في البحار 38: 196.

(7) الكافي 1: 180/ ح1.

(8) وسائل الشيعة 1: 122/ ح 308؛ تفسير مجمع البيان 2: 349.

(9) وسائل الشيعة 1: 122/ ح309.

(10) وسائل الشيعة 1: 123/ ح311.

(11) رواه الكليني في الكافي بإسناده عن عليّ بن إبراهيم 2: 18 - 19 / ح5.

(12) البقرة: 189.

(13) تفسير الصافي 1: 228.

(14) البقرة: 264.

(15) الكافي 2: 183 - 184/ ح8.

(16) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 74، ط مكتبة المرعشي النجفي. قم.

(17) مكارم الاخلاق: 136؛ عوالي اللئالي 1: 377/ ح110.

(18) الكافي 4: 29/ ح2.

(19) فيض القدير 1: 695؛ النهاية في غريب الحديث 3: 216.

(20) الكافي 4: 29/ ح2.

(21) النهاية في غريب الحديث 3: 217.

(22) الكافي 4: 26/ ح3؛ من لا يحضره الفقيه 2: 55 - 56/ ح1686.

(23) الكافي 4: 25/ ح1؛ مستدرك الوسائل 12: 339/ ح14225.

(24) الكافي 4: 50/ ح15.

(25) من لا يحضره الفقيه 1: 205/ ح613.

(26) الكافي 4: 29/ ح1؛ بحار الانوار 8: 156/ ح95.

(27) مشكاة الأنوار: 72؛ بحار الانوار 68: 53/ ح85.

(28) البقرة: 271.

(29) آل عمران: 104.

(30) آل عمران: 114.

(31) تفسير مجمع البيان 2: 359.

(32) تفسير مجمع البيان 2: 359.

(33) نفس المصدر.

(34) نفس المصدر.

(35) البقرة: 237.

(36) آل عمران: 134.

(37) النور: 22.

(38) آل عمران: 159.

(39) الاعراف: 199.

(40) الشورى: 37.

(41) المستدرك على الوسائل 9: 14/ ح10070.

(42) بحار الانوار 21، 132.

(43) الجمل للشيخ المفيد: 217 - 218.

(44) انظر البداية والنهاية لابن كثير 9: 123.

(45) الأعراف: 200 - 202.

(46) يوسف: 92.

(47) أخرجه القرطبي في تفسيره 7: 350 - 351، وابن عساكر في تاريخ دمشق 34: 224 - 225.

(48) إعلام الورى 2: 26.

(49) الفرج بعد الشدّة للقاضي التنوخي 2: 252 - 253.

(50) بحار الأنوار 61: 332 - 333.

(51) الفرج بعد الشدّة 2: 284.

(52) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 6: 416 - 417، ترجمة إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك بن مروان.