[ذكر طواف الاسكندر في أقطار العالم وما رآى فيها من العجائب]:

«قال صاحب الكتاب: ثمّ أنّ الاسكندر سار في عساكره إلى أن وصل إلى مدينة البراهمة، فلمّا علموا بوصوله خلصوا نجيّاً، واجتمع رأيهم على أن كتبوا إليه كتاباً يقولون فيه: أيّها الملك ماذا تريد من مدينة سكّانها عباد الله؟

فإن كنت تريد منهم المال فما أنقص عقلك، وهم قوم ليس عندهم سوى الصبر والعلم، وذلك ممّا لا يُسلبونه.

ولو أقمتَ ها هنا لاحتجتَ أن تأكل الحشيش كما يأكلون.

وكان الواصل بهذا الكتاب إلى الاسكندر رجلاً حافياً حاسراً ملتحفاً بإزار منسوج من الحشيش، فلمّا قرأ الكتاب ترك العسكر في مكانه، وركب في جماعة من فلاسفته، وصار إليهم إلى مدينتهم، فاستقبلوه وأحضروه من قُوتهم الذي كانو يُزجون به وقتهم، ودعوا له وأثنوا عليه، فرآهم قوماً حفاة عراة قد ستروا عوراتهم بأُزر من الحشيش، ورأى فيهم عابداً قد اتّزر بجلد غزال، فخاطبهم الاسكندر في أمر ملبوسهم، فقال: من وُلد عرياناً فلا ينبغي له أن يكون حريصاً على الملبوس، على أنّه إذا واراه التراب فهو على خوف من العذاب والبؤس، فسأله الاسكندر عن أعظم الذنوب فقال: الحرص على الدنيا، وإن أردت أن تقف على حقيقة ذلك فاعتبر بنفسك، فإنّك مع احتوائك على جميع ممالك الأرض طالب إليها الزيادة، غير قانع بعظيم ما أُوتيت من الملك والسيادة، ثم قال لهم: ارفعوا إليّ حوائجكم فلن ادّخر عنكم شيئاً، وأسعفكم بمطالبكم عفواً، فقال له أحدهم: أيّها الملك! أغلق دوننا باب الشيب والموت، فقال له: كيف تسلم من الموت وهو لا محالة يهدم بناء عمرك وإن كان من حديد؟ وكيف تنعم بالشباب ومشرعه لا بدّ أن يكدّر برنق المشيب؟ فقال له البرهمي: إذا كنت تعلم أنّه لا مفرّ من الموت ولا سلامة من غصّة الشيب، فما بالك قد صرت تطلب الاحتواء على العالم بجهدك، وتعرض للسمّ القاتل نفسك، وتتعب لغيرك، وتجمع لمن يفرّقه من بعدك؟ والشيب بين يدَي الموت نذير، وإذا طمعت في الحياة بعده فليس لك عذير. ثمّ أنّ الاسكندر وهب لهم هبات كثيرة فما قبلوها، واستعرضهم حوائجهم فما عرضوها. فانصرف عنهم.

وسار حتّى وصل إلى بحر عظيم فرأى عنده رجالاً متنقّبين كالنساء لا يعرف لسانهم عربي ولا فهلوي. ليس لسانهم العربي ولا الفارسية القديمة ولا الفهلويّة ولا التركيّة ولا الصينيّة، وكان قُوتهم من السمك وحيوان البحر، ثمّ أنّه لمح وسط البحر جبلاً أصفر كالشمس، فأمر بإلقاء سفينة في الماء ليركبها ويشاهد عجائب ذلك الجبل. فمنعه من ذلك بعض الفلاسفة وقال: لا تخاطر بنفسك، وليركبها غيرك ممّن يأتي بخبره.

فأركب تلك السفينة ثلاثين شخصاً من الروم وغيرهم، فلمّا قربت السفينة الجبل تحرّك، وإذا به حوت، فالتقم السفينة بمن فيها وانساب في البحر، فتعجّب وقال: العلماء حفظة أرواح الملوك، فطوبى لمن عرف قدرهم واتّبع أمرهم.

فسار الاسكندر إلى أرض قصباء عظيمة القصب كأنّها أشجار الدلب عظماً، وفيها غدير عظيم ماؤه زعاق كأنّه سمّ ذعاف، فعبر منه وانتهى إلى ساحل بحر آخر عظيم، فصادف أرضاً طيّبة العرف كأنّها تتأرّج بأريج المسك، وماء عذب المذاق في حلاوة الشهد، فنـزلوا واستراحوا وأراحوا، فبينما هم من منـزلهم إذ خرجت من الماء أفاعٍ كثيرة، وطلعت من الأجمة عقارب كالفأر ملتهبة، فأتتهم من جميع جوانبهم فُحول من الخنازير ذوو أنياب كالحراب، وضواري سباع ما لأحد بها طاقة، فهلك من الأكابر والامراء خلق كثير، فارتحلوا وانحازوا عن ذلك المكان، وطرحوا فيما كان هناك من القصب حتّى احترق، وقتلوا كثيراً من تلك السباع.

فسار من ذلك المكان إلى أرض الحبشة، فاجتمعت منهم آلاف مؤلّفة من كلّ غرابي ترتجّ الأرض بنعيبه، ويمتلئ الجو بنعيقه، فقاتلوه برماح أسنّتها من العظام فقتلوا كثيراً من أصحابه، فأمر عند ذلك رجاله بالجدّ في قتالهم، فتدبّجوا وصافّوهم فكانت الدبرة على الحبشة وأفناهم القتل، ولما جنّ الليل سمعوا صوت الكركدن فتصدّى لهم ـ وهو حيوان أعظم من الفيل له قرن في أمّ رأسه في لون النيل، فأهلك خلقاً من أصحابه، ثمّ رشقوه بالسهام فانهدّ كأنه جبل من حديد.

ثمّ لمّا أصبح رحل وسار حتّى وصل إلى أرض فيها خلق عراة كأنّهم أشجار باسقة، فلمّا رأوا الاسكندر صاحوا واجتمعوا وقاتلوهم بالحجارة وأمطروها عليهم، فواقعهم أصحاب الاسكندر وقتلوهم حتّى لم يبق منهم إلاّ قليل.

وسار حتّى وصل إلى مدينة كبيرة بين يديها جبل عظيم يكاد يمسّ السماء، فاستقبله أهلها بالتحف والمبارّ والخدم، فأحسن إليهم، ثمّ سائلهم عن الطريق فقالوا: أيّها الملك كان الطريق على هذا الجبل، وقد قطعه الآن ثعبان عظيم لا يتجاسر معه أحد على العبور فيه، وله علينا كلّ يوم وظيفة خمسة ثيران نُلقيها إليه فيبتلعها وينكفّ بذلك عن أن يتقدّم إلى هذا الجانب، فأمر الاسكندر بخمسة ثيران فذُبحت وسلخت جلودها وحُشّيت سماً ونفطاً، فأمر بإصعادها إلى الجبل وإلقائها إلى الثعبان، فابتلعها فلم يلبث أن تقطّعت أمعاؤه من السم، وصعد بخار السم والنفط إلى دماغه فأخذ يضرب رأسه على الجبل حتّى انفلق وتشقق، فقطعوه بالسيوف.

وعبر الاسكندر بعساكره وسار حتّى وصل إلى جبل آخر عال في السماء، فأصعدوا فيه فرأوا على رأس الجبل تختاً من الذهب منصوباً وعليه شيخ ميّت مسجّى بديباج، على رأسه تاج مرصع بجواهر تزهر العيون، فلم يتجاسر أحد على القرب منه، وكان كلّ من يقدم إليه تأخذه الرعدة في مكانه ويموت في وقته، فلما صعد الاسكندر ذلك الجبل ورأى التخت سمع هاتفاً يقول: أيّها الملك قد جهدت زماناً طويلاً وأفنيت من الملوك كثيراً، وقد دنا وقتك وحان حينك، فعظم عليه ذلك واصفرّ لونه.

وسار قاصداً قصد مدينة هروم، وهي مدينة سكّانها بنات أبكار لا يمكن أحداً من القرب من المدينة، لم يخلق للواحدة منهن إلاّ ثدي واحد وهو الأيمن فحسب، وهنّ في الأيسر كالرجال. قال: فكتب الاسكندر إليهن كتاباً يدعوهنّ إلى الطاعة ويذكر أنّه ما جاء لقصد قتالهنّ ولا لنهب بلادهنّ، وأنّه لم يرد سوى رؤية المدينة والاعتبار بأحوالها، ونفذ الكتاب فيلسوفاً وأمره أن يُلاطفهنّ في الخطاب ويرجع إليه بالجواب، فصادف الرسول أهل المدينة نساء كلّهنّ ليس فيها رجل، فاستقبلنه على الخيول في آلات الحرب، فقرأن الكتاب وقلن في جوابه: إنّك رجل كبير وصيتك عال رفيع فلا تفسدنّه بأن يقال أنّك قاتلت النساء وانهزمت منهنّ، فإنّ ذلك يجرّ عليك عاراً لا يزول أبداً، ولكن إن جئت للتطواف في مدينتنا والنظر إليها والوقوف على أحوالها، أكرمنا مقدمك وتلقّينا بالجميل موردك، وختمن الكتاب وأنفذنه على يدي امرأة عاقلة في ملابس الملوك ومعها عشر فوارس منهنّ، فلمّا أتت الاسكندر ووقف على ما صحبها من الجواب أكرمها وقال: ما لي حاجة في مدينتكنّ سوى النظر إليها، إذا حصل ذلك عبرت وتجاوزت إلى طرف آخر. فعادت وأعلمت صواحبها بما جرى، فاجتمعن واتفقن على إعداد تحف برسم الملك، من التيجان المرصعة والجواهر النفيسة وغير ذلك ممّا يصلح أن يخدم الملوك.

ثمّ رحل الاسكندر من منـزله وسار، فهاج عليهم بعد مرحلتين هواء شديد وتغيّمت السماء وسقط عليهم ثلج أهلك خلقاً من أصحاب الاسكندر، فسار في ذلك الزمهرير منـزلين، ثمّ شاهدوا دخاناً مرتفعاً في السماء وسحاباً أسود كأنّه يمطر النار، فحمى الهواء وعظم الحرّ حتّى حميت الدروع على أكتاف الرجال فأحرقتها، فسار على ذلك فوصل إلى مدينة فيها ناس سود الوجوه كالسبج، هدل الشفاه، تتوقّد النار من أحداقهم وتخرج من أفواههم، فاستقبلوا الاسكندر وخدموه بفيلة عظيمة وتحف كثرة وقالوا: إنّا لم نر أحداً وصل إلى هذه المدينة، ولم نر راكب فرس قطّ، فأقام الملك فيها شهراً.

ثمّ سار قاصداً قصد مدينة النساء، فعبر إليه البحر جلائل أهلها في ألفين من فوارسهنّ مستقبلات له، فقدّمن إليه برسم الهدية تيجاناً مرصّعة وجواهر نفيسة وثياب وشي، ثم ركب الاسكندر ووصل إلى المدينة فأكرمن مقدمه ونثرن عليه نثارات، وخدمنه بتحف ومبرّات، ولمّا رأى المدينة وأهلها، ووقف على أحوالها، خلع عليهنّ وأحسن إليهنّ وارتحل.

 

[وصول الاسكندر مغرب الشمس]:

وسار قاصداً قصد مغرب الشمس، فوصل إلى مدينة فيها ناس حمر الوجوه صفر الشعور، فسايلهم الاسكندر عمّن يعرف عجائبها؟ فقال له من أهل تلك المدينة شيخ طاعن في السن: إنّ وراء مدينتنا عيناً كبيرة فيها تغرب الشمس وتغيب، ووراء هذه العين ظلمات، وفيها من العجائب ما لا يحيط به الوصف، وقد قال بعض عبادنا: إنّ فيها عيناً يقال لها عين الحياة، من شرب منها يخلد ولا يموت، لأنّ مدد مائها من أنهار الفردوس، ومن اغتسل فيها تساقطت عنه ذنوبه، فقال له الاسكندر: كيف تسلك الدواب طريق هذه الظلمة؟ فقال: من أراد أن يسلك طريقها لا ينبغي أن يركب إلا مهراً.

فأمر الاسكندر بجمع الخيل فاختار منها عشرة آلاف مهر رباع قوي، وسار في عساكره حتّى وصل إلى مدينة كبيرة فيها نعم كثيرة وبساتين وسيعة وقصور رفيعة فنـزل فيها، وصار وحده إلى مغرب الشمس، فبقي ينتظر غروبها، فلمّا كان عند الغروب شاهد قرص الشمس وهو يغيب في تلك العين، فجعل يسبّح الله تعالى ويقدّسه، ثمّ انصرف إلى معسكره فانتخب من أصحابه من عرفه بالعقل والصبر، وتزوّد لأربعين يوماً، واختار من يصلح أن يتقدّم أمامهم ويسير بين أيديهم، فوقع الاختيار على الخضر صلوات الله وسلامه عليه فإنّه كان سيد الجماعة وصاحب الرأي فيما هم بصدده، ففوّض الاسكندر إليه أمره، وقال: أيّها الرجل المتيقّظ! نبّه قلبك لهذا الأمر، فإنّا إن عثرنا على ماء الحياة بقينا نعبد الله تعالى إلى آخر الأبد.

وإنّ معي خرزتين تتّقدان كالشمس في جنح الليل، فخذ إحداهما وسر قدّام القوم، وتكون الأخرى معي، وأنا والعسكر نقتفي أثرك، ونبصر ماذا قسم الله تبارك وتعالى لنا.

 

[الخضر وعين الحياة]:

فتقدّم الخضر وسار الاسكندر في أثره حتّى سار في الظلمات مرحلتين، ولما كان المنـزل الثالث عرض لهم في الظلمات طريقان فسار الخضر في احدى الطريقين ووصل إلى عين الحياة فشرب منه واغتسل وفاز بالمطلوب، وضلّ الاسكندر عنه فسلك الطريق الآخر فأفضى به إلى الضوء، وخرج من الظلمة فرأى جبلاً شاهقاً في السماء على رأسه أشجار من العود، وعلى كلّ شجرة طائر أخضر، فلمّا رأته الطيور نطقن بإذن الله باللسان الروحيّ، فدنا من طائر وأصغى يسمع كلامه فقال له: ماذا تريد أيها الثعبان (أو التعبان) من الدنيا الفانية، وأنت لو بلغت السماء لم يكن لك بدّ من الموت، ثمّ قال للاسكندر: هل حدث الزنا؟ وهل استُعمل الآجر في البناء؟ فقال: نعم، فقال: وهل قرع سمعك صوت المزهر وصياح السكران ونغم الغناء؟ فقال: نعم، فنـزل إليه الطائر عند ذلك وقال: أيّما أكثر العلم مع السداد أم الجهل مع الفساد؟ فقال: العالم بين الناس عزيز، فرجع الطائر إلى مكانه وقال له: هل يسكن العباد في بلادكم الجبال؟ فقال: وهل لهم سكن إلاّ في الجبال. ثم قال له: اصعد إلى رأس هذا الجبل وحدك راجلاً ليس معك أحد فأبصر ما هنالك.

فصعد الاسكندر وحده فرأى إسرافيل (عليه السلام) على رأس ذلك الجبل وبيده الصور، وقد نفخ شدقيه وملأ من الدموع عينيه ينتظر حتّى يأتيه الأمر فينفخ، قال فلمّا نظر إلى وجه الاسكندر صاح عليه وقال: يا عبد الحرص لا تجهدّن هذا الجهد فسوف يأتيك الأمر بالمسير، ويقرع سمعك النداء بالرحيل، فقال الاسكندر: لم يُقسم لي غير الحركة والطواف في أقطار الأرض، ثم نزل من الجبل حليف كآبة ورنين وعاد القهقرى إلى الظلمات، فلما توغّلها هتف هاتف من الجبل الأسود الذي كان هنالك وقال: من يحمل من حجارة هذا المكان يندم، ومن لا يحمل منها فهو أيضاً يندم، فحمل منها بعضهم وأعرض عنها بعضهم، فلمّا خرجوا من تلك من الظلمات رأوا تلك الحجارة جواهر ويواقيت، فندم من حمل حيث لم يستكثر، وندم من لم يحمل حيث لم يحمل.

 

[وصول الاسكندر إلى مشرق الشمس وقصة يأجوج ومأجوج]:

قال: ثمّ إنّ الاسكندر أقام بعد خروجه من الظلمات مقدار أسبوعين، ثمّ ارتحل متوجّهاً نحو المشرق، فسار حتّى انتهى إلى مدينة كبيرة، فاستقبله أكابر أهلها فأكرمهم الاسكندر وأحسن إليهم، ثمّ سايلهم عن عجائب ما هنالك، فأجهشوا إليه بالبكاء وقالوا: أيّها الملك: إنّ أمامنا أمراً عظيماً لا بدّ لنا عن عرضه على رأيك، ونحن منه في عناء وتعب شديد، وذلك أنّ وراء هذا الجبل يأجوج ومأجوج وهم يُفسدون في أرضنا ويعيثون في بلادنا، وهم في خلقهم بحيث لا تتجاوز قامة أحدهم شبراً، ومع ذلك فقد ملأوا الأرض فساداً وشراً، ولهم وجوه كوجوه الإبل وأنياب كأنياب الخنازير، ألسنتهم سود وأعينهم حمر، وعلى أبدانهم شعور في لون النيل، ولهم آذان كآذان الفيلة، إذا نام أحدهم افترش إحدى أُذنيه والتحف بالأخرى، لا تموت الأنثى منهم حتّى تلد ألف مولود، وهم في الكثرة بحيث لا يعرف عددهم إلا الله (عز وجل)، وإذا كان فصل الربيع وجاش البحر وأرعد الجوّ احتمل السحاب التنين من البحر فألقاه إليهم، فيجتمعون إليه ويأكلون منه حتّى تعبل أجسامهم وتسمن أبدانهم، ويكون ذلك من السنة إلى السنة، وفي سائر السنة يجتزئون بنبات الأرض وبما يختطفونه من كلّ جانب، وإذا كانت أيّام الشتاء اعتراهم الضعف حتّى يصير صوت أحدهم في رز صوت الحمام، وإذا أقبلت أيّام الربيع عادوا كالذئاب الضارية.

فإن أنعم الملك بالتدبير في كفاية شرّهم وكفّ معرّتهم شُكر سعيه بكلّ لسان، ودام ذكره إلى آخر الزمان.

فتعجّب الاسكندر ممّا أوردوا واهتم لذلك، ثمّ غاص في بحر الفكر فقال لهم: إنّي أعاونكم منّي بالأموال والكنوز، فعاونوني بنفوسكم حتّى أعمل دونهم سدّاً بقدرة الله الذي لا إله إلاّ هو سبحانه وتعالى، فدعوا له وقالوا: إنّا كلّنا عبيدك فيما تأمر به، فجاء الاسكندر في علماء فلاسفته وأصحاب رأيه، فنظر إلى الجبل فأمر باستدعاء الحدّادين والفعلة، وأمر باحضار النحاس والرصاص والجصّ والحجارة والحطب، فجمعوا في كلّ واحد ما لا يحيط به الحصر، وحشر صناع الأقاليم فسدّ ما بين الجبلين بسدّين من قرار الأرض إلى رأس الجبل، وجعلوا الأساس في عرض مائة ذراع، فكانوا يصفّون من زبر الحديد صفاً في مقدار ذراع، ويضعون عليه الفحم والنحاس، ويجعلون الكبريت فوقه، ثم صفاً آخر فوقه كذلك، ثم آخر وآخر حتّى انتهى إلى رأس الجبل وساوى ما بين الصدفين، ثمّ خلطوا النفط والدهن وأفرغوه على رأس الجميع، ثمّ صبّوا عليه الفحم، ثمّ ألقوا فيه النار.

واجتمع عليه مائة ألف حدّاد ينفخون فيه، فارتفع الدخان في السماء وتمكّنت النار فيه وبقيت كذلك تتقّد زماناً حتّى تراصّت الأجزاء وتهدّم البناء، فتخلّص العالم بالسدّ الاسكندري من شرّ يأجوج ومأجوج وعاديتهم ولله الحمد، قال: وطول هذا السد خمسمائة ذراع في عرض خمسمائة ذراع.

ولمّا أحكم الاسكندر ذاك ارتحل من تلك المدينة وسار مسيرة شهر فوصل إلى جبل من اللازورد على رأسه بيت من الياقوت الأصفر، فيه قناديل معلّقة من البلّور، وفي وسطه عين ماء مالح فيه جوهر أحمر، له أشعّة تنبثّ أنوارها على الماء فيمتلئ البيت منه بالأضواء، وعند العين تخت من الذهب منصوب، عليه شخص مسجّى مضطجع، رأسه كرأس خنـزير، وبدنه كبدن إنسان، قد فرش تحته الكافور، وكان من أخذ شيء من ذلك البيت تأخذه الرعدة ويموت في مكانه.

فسمع الاسكندر هاتفاً من تلك العين يقول: أيّها الرجل الحريص، لا تحرصنّ هذا الحرص كلّه فقد رأيت ما لم يره أحد، فالواجب أن تصرف الآن عنانك فقد دنت أيّامك، وشارف الانقضاء ملكك.

ففزع الاسكندر وأسرع الانصراف إلى معسكره.

ثمّ ارتحل وسار حتى خرج من البرّيّة وانتهى إلى مدينة آهلة ففرح حين سمع صوت الإنس واستأنس، فتلقّاه أهل المدينة وأظهروا السرور بمقدمه ونثروا عليه النثار الكثير، وقالو: نحمد الله حين جعل عبورك علينا، فإنّه لم يأت هذه المدينة عسكر قط، ولا سمع فيها اسم ولا ذكر لملك، فسايلهم عن عجائب مدينتهم؟ فقال بعضهم: أيّها الملك! إنّ هاهنا عجباً لا يوجد في العالم مثله، وذلك أنّ هاهنا شجرتين ذكر وأنثى، ينطق الذكر بالنهار والأنثى بالليل، فركب الاسكندر واستصحب ترجماناً منهم في جماعة من أصحابه، فسأل الترجمان وقال: متى تتكلّم الشجرة؟ فقال: إذا عبر تسع ساعات من النهار تكلّم الذكر، وإذا جنّ الليل تكلّمت الأنثى، فقال له: وإذا تجاوزنا ما بين الشجرتين فما الذي نراه بعدهما؟ قال: إنّ الدنيا تنتهي عند ذلك، وما بعدها يسمى طرف العالم.

ولمّا قرب من الشجرتين رأى الأرض ملأى من جلود السباع، فسأله عن ذلك فقال: إنّ لهاتين الشجرتين عبّاداً يعبدونهما، وإذا جاؤها للعبادة فلا يأكلون إلاّ لحوم السباع، قال: فلمّا انتصف النهار سمع الاسكندر من إحدى الشجرتين صوتاً أزعجه، فسأل الترجمان عمّا قالت؟ فقال: إنّها تقول: ما بال الاسكندر يجول في أقطار الأرض وقد استوفى نصيبه من العيش، وعند استكمال أربع عشرة سنة من سلطانه يحين حين ارتحاله، فبكى الاسكندر وامتلأ همّاً وحزناً وبقي واجماً لا يتكلّم إلى نصف الليل. فتكلّمت الشجرة الأنثى، فسأله عمّا قالت، فقال: إنّها تقول: إنّك تجول حول الأرض من حرصك، ولم يبقَ إلاّ قليل من عمرك، فلا تتعب نفسك ولا تضيق عليها أمرك، فقال له الاسكندر: سلها هل تكون أمي حاضرة عند رأسي إذا أتاني أمر ربّي؟ فسألها عن ذلك فقالت: شدّ رحالك وأقصر عن ظنّك فإنّه لا تحضرك أمك ولا قرابتك ولا نساء بلدك، ولا تموت إلا غريباً في بلاد غيرك.

فانصرف الاسكندر وقيد القلب منخزل النفس نحو معسكره.

فقدم إليه أهل تلك المدينة جواشن ودروعاً وتحفاً كثيرة فيها مائة بيضة من الذهب، وزن كلّ بيضة ستّون منّاً، وصورة كركدن من الذهب مرصّعة بالجوهر، فقبل هداياهم.

 

[الاسكندر وملك الصين]:

وارتحل نحو العين فلمّا قرب منها نزل في عسكره واستحضر الكاتب فأمره أن يكتب إلى بغبور كتاباً مملوءاً بالوعد والوعيد، وختمه، واستصحب بعض ثقاته وأصحاب رأيه، وركب منهم في خمسة فرسان حتّى أتى ملك الصين في زيّ رسول، فلمّا وصل إليه أكرمه وأنزله في موضع يليق به، ثمّ لمّا كان من غده أنفذ إليه مركوباً خاصّاً بآلات الذهب واستحضره، فحضر وأدنى إليه الرسالة، ودعاه أن يُبادر إلى خدمة الاسكندر ويسارع إلى حضرته، وإن لم يفعل ذلك فلينفذ إليه طوائف الصين من فيل وأسلحة وثياب وذهب وفضة ليصرفه بذلك عن أذاه، فضحك بغبور وسأله أن يصف له الاسكندر وينعت له صورته وشكله، ويصف مكارمه وسيرته.

فاندفع الرسول يورد ذلك ويسرده، ثمّ أنّه استحضر الطعام والشراب، ولمّا ثملوا صرف الرسول وقال: سنجيب غداً عن رسالة صاحبك، فانصرف إلى منـزله وهو بين الصاحي والسكران وبيده أترجة، ولمّا طلعت الشمس من غده ركب إلى حضرة بغبور فسايله ولاطفه، ثمّ استحضر الكاتب وأجاب في كتب الاسكندر، وفتح أبواب خزائنه وأخرج خمسين تاجاً مرصّعاً بالجواهر وعشرة تخوت من العاج، وأوقر ألف جمل من الديباج والخزّ والحرير والكافور والمسك والعنبر إلى غير ذلك من الذهبيّات والفضيّات وجلود السنجاب والقاقم والسمور.

ثمّ اختار رجلاً من أكابر الصين موصوفاً بالعقل والرأي، ونفذه بكلّ ذلك في صحبة الرسول. فلمّا انتهى إلى ساحل البحر بادر الملاّح فحمله في مركب وعبر به إلى المعسكر، فلمّا أحس أصحابه بوصوله استقبلوه، ولمّا رأوه ترجّلوا وسجدوا بين يديه، فعلم رسول بغبور أنّه هو الاسكندر نفسه، فنـزل وسجد له. ثمّ لمّا أصبح جلس مجلسه من تخت السلطنة، فخلع على رسول بغبور وأعطاه عطايا كثيرة وصرفه إلى صاحبه، ثمّ أقام الاسكندر في ذلك الموضع شهراً من الزمان.

فلمّا برد الهواء ارتحل وسار حتّى وصل إلى مدينة جغوان ورحل منها قاصداً قصد السند. فركب ملكهم ـ وكان يسمى بنداه ـ في رجاله السود برزوا إلى قتاله في أمثال الأُسود، فجرت ملحمة أفنت السودان عن آخرهم وأتى الأسر والنهب على نسائهم وذراريهم. ثمّ سار الاسكندر إلى نيمروز، وصار منها إلى اليمن، فاستقبله صاحب اليمن بالهدايا الجليلة والتحف الكثيرة، فأكرمه الاسكندر وأحسن إليه.

ثمّ ارتحل من اليمن قاصداً قصد بابل، فوصل في طريقه إلى جبل عظيم فأتعبهم العبور فيه، فلمّا قطعوه وأسهلوا أفضوا إلى بحر عظيم، فعثر بعض أصحابه في ساحله على رجل متسربل البدن بالشعر، له أذنان كآذان الفيلة، فاجتروّه إلى خدمة الاسكندر، فقال له الاسكندر: ما اسمك ومن أنت؟ فقال: أيّها الملك إنّ أبي وأمّي سمّياني بستركوش يعني لحافيّ الأُذن، فقال له: ما هذا الذي نرى في وسط البحر؟ فقال: مدينة طيبة، وفيها خلق طعامهم من السمك وأبنيتهم من عظام السمك، فإن أمر الملك عبرت إليهم وأخبرتهم بمقدمه وحملت منهم جماعة إلى خدمته.

فأذن له الملك في ذلك، فعبر إليهم في ساعة وانصرف ومعه ثمانون شخصاً من عقلاء تلك المدينة في ملابس الخزّ والحرير، بعضهم شبّان وبعضهم شيوخ، مع كلّ شيخ منهم جام مملوء من الدّر، ومع كلّ شاب تاج من الذهب، فحضروا بين يدي الملك فخدموه وسايلهم عن أمور أجابوه عنها، وأقاموا في منـزله على البحر إلى طلوع الفجر من الغد، فارتحل متوجّهاً نحو بابل وقد علم أنّ أجله قد قرب.

وكان يخاف من الكيانيين على بلاد الروم بعد موته، فعزم ألاّ يُبقي منهم أحداً، فكتب كتاباً إلى الحكيم أرسطاطاليس وذكر فيه حاله وما هم به، ثم استقدم جميع أكابر الكيانيّة من أوطانهم وأمرهم بالمبادرة إلى حضرته، فوصل كتاب أرطاطاليس وهو يقول فيه: قد آن لك أن ترتدع عن الشرّ، فاستسلم لأمر الله (عز وجل)، وفوَّض إليه أمورك، ولا تزرع في مُلكك غير الحسن، وما أشرت إليه فلا تجزع منه ولا تهتمّ له، فإنّا لم نولد إلا للموت، وما استصحب أحد فارق الدنيا مالاً ولا ملكاً، وإيّاك أن تمسّ أحداً من الكيانيّة فإنّه لا يحسن غرس العداوة في القلوب، فاتّق الله ولا تسفك دماء الأكابر فإنّه يثمر اللعن إلى يوم القيامة، ولا يورث غير الحسرة والندامة، والرأي أن تستحضر أكابر بيت الملك، وتملّك كلّ واحد منهم بلداً أو إقليماً، ولا تجعل لبعضهم على بعض حكماً ولا يداً، ولا تسمّين منهم للسلطنة أحداً حتّى تشغلهم بحربهم عن بلاد الروم.

فلمّا قرأ الاسكندر كتاب الحكيم استحضر الأكابر الكيانية وأجلسهم في مراتبهم في خدمته، ثمّ فرّق عليهم الممالك، وأمرهم أن يكتب كلّ واحد منهم كتاب عهد يُعاهد فيه على ألاّ يطلب الزيادة على ما في يده، ولا يتعرّض لمملكة غيره، ويجتزي بما في حكمه وتحت يده، فاستتبّ منهم ذلك فُسمّوا ملوك الطوائف.

 

ذكر وفاة الاسكندر: قال في (الشاهنامة):

ثمّ إنّه وصل إلى بابل فاتّفق أنّه وُلد في تلك الليلة مولود له رأس كرأس الأسد، وحافر كحافر الدوابّ، وذنب كذنب الثور، لا يشبه الإنس إلاّ في صدره وكتفه، فلمّا وضعته أمه مات في الحال، فحملوه إلى حضرة الملك فتطيّر منه واستحضر المنجّمين وسألهم عن طالع ذلك المولود وما تدلّ عليه أحكام النجوم في ولادته، فاظلمت الدنيا في عيونهم لما فهموه، وكتموا الاسكندر ما علموه، فأوعدهم وهددهم، فقال له بعض المنجّمين: أيّها الملك! إنّك وُلدت على طالع الأسد، فإذ قد رأيت رأس المولود الميت مثل رأس الأسد فقد دلّ على زوال ملكك وانتهاء عمرك، واتّفقت كلمة سائر المنجّمين على ذلك.

فاغتمّ الاسكندر ثمّ قال: إنّه لا بدّ من الموت، ولست أهتمّ لذلك، ثمّ مرض في يومه ذلك وهو ببابل، فاستحضر كاتبه وكتب إلى أمّه كتاباً يعزّيها فيه عن نفسه ويوصي إليها ويأمرها بالصبر والرضاء بما قدّر له من قصر العمر، والتسليم لقضاء الله النافذ في الخلق، وقال: إنّي قد أمرت أكابر الروم إذا انصرفوا من هذه البلاد بالتمسّك بطاعتك والانقياد لأمرك.

وأمّا أكابر إيران الذين كان يُخاف على بلاد الروم من معرّتهم، فقد ملّكت كلّ واحد منهم إقليماً من الأقاليم حتّى يمنعه الشغل بما في يده عن بلاد الروم. وإذا متّ فادفنوني في تراب مصر وفرّقوا من خزائني مائة ألف دينار في هذه السنة على المشتغلين بأنفسهم من عباد الله، وروشنك ـ يعني زوجته ـ إن ولدت ابناً فهو ملك الروم لا غير، وإن ولدت بنتاً فلتزوّج من ابن فيلقوس، واتّخذيه ولداً، وجدّدي به ذكر الاسكندر أبداً، وأمّا إبنة كيد ملك الهند فردّوها إن أرادت إلى أبيها مع خزائنها التي جائت معها، في عمارتيها ومع تاجها وتختها، وأنا قد استسلمت للموت عن رأس العجز بعد أن فرغت من أشغالي كلها.

وقد أمرت أن يعمل لي تابوت من الذهب، ويملأ من العسل، ثمّ أُضجع فيه مكفّناً في الديباج والحرير، وعند الانتهاء إلى ذلك ينتهي الكلام، ثم احفظي وصيّتي ولا تخالفي موعظتي، ولا تمسكي من الأموال التي جمعتها من الهند والصين وسائر الأقاليم أكثر من القوت، وفرّقي الباقي على المحتاجين.

ثمّ حاجتي إليك ألاّ تجزعي علي ولا تؤذي نفسك، واشفعي إلى الله (عز وجل) وأغيثيني بدعائك فإنّه لا يأخذ بيدي غير ذلك ثمّ ختم الكتاب ونفذه إلى الروم على يدي بعض المسرعين.

قال: ولمّا علم العسكر بمرض الاسكندر تسارعوا إلى خدمة تخته واجتمعوا على بابه وضجّوا من وراء حجابه، فأمر الاسكندر بإخراج تخته من أيوانه إلى الفضاء، فلمّا رأوه على ما به من الضعف أجهشوا إليه بالنحيب والبكاء، فقال لهم الاسكندر: استشعروا الخوف وتسربلوا لباس الحياء، ولا تعدلوا عن المحجّة البيضاء، واحفظوا وصيّتي، ولا تخلعوا ربقة طاعتي. فلمّا فرغ من كلامه خرجت روحه، فوقع العويل والنحيب في العسكر، وقام الصراخ عليه، فأحرقوا داره التي كانت مستقره، وحذفوا من دوابّه ألف فرس، ثمّ جاؤا بتابوت من الذهب مملوء من العسل وغسله سكوباً بالماورد، وغمره بالكافور، وكفّنه في ثوب ديباج مذهّب، ووضعه في وسط العسل من الرأس إلى القدم، وأطبقوا عليه التابوت.

فلمّا رفعوه من ذلك المكان اختلفت الفرس والروم، فقالت الفرس: لا يُدفن الاسكندر إلاّ حيث مات، وقالت الروم: لا يُدفن الاّ حيث وُلد، فقال شيخ من فارس: إنّ هاهنا موضعاً يقال له جرم (أو خرم) وهناك جبل مَن سأله عن شيء أجابه عنه بإذن الله (عز وجل)، فاسألوا الجبل حتى يحكم بينكم، فتوجّهوا نحو الجبل فسألوا فأجاب وقال: ما لكم تحبسون تابوت الملك؟ إنّ تراب الإسكندر في أرض الاسكندرية التي بناها في حياته، فبادروا عند ذلك إلى حمله وحملوه إلى الاسكندرية، فلمّا وصلوا إليها خرج الخلائق واجتمعوا على تابوته، حتّى لو حسبهم المهندس لوجدهم يزيدون على مائة ألف.

فجاء الحكيم الأوسط (أرسطاطاليس) ووضع يده على تابوته وقال: «أين رأيك وعقلك أيّها الملك حتّى صار مسكنك هذا المكان الضيّق؟ وكيف أفضيت بنضارة الشباب إلى مضاجعة التراب؟».

وقال آخر: «أيّها الملك! مازلت تدفن الذهب حتّى دُفنت فيه، ووقعت في خطب لا سبيل إلى تلافيه».

واجتمعت علماء الروم فخاطبه كلّ واحد منهم بحكمة، وأبنّه بموعظة.

ثمّ جاءت أمه ووضعت وجهها على تابوته وهي تبكي وتنتحب وتقول: «ما أبعدك منّي مع قربك! وما أعظم خطبك على صحبك!».

ثمّ جاءت زوجته روشنك بنت دارا وطفقت تبكي وتندبه وتنتحب وتنوح عليه. ثمّ دفنوه ولم تكن أيامه إلاّ كبرق ومض، وطرف غمض.

وهذا آخر الخبر عن قصّة الاسكندر، والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله أجمعين».

يقول مؤلف الكتاب الفقير إلى عفو ربّه وغفرانه حسن السيد علي القبانچي النجفي: هذا آخر ما نقلناه عن الشاهنامه وذلك في سنة 1410 هـ في النجف الأشرف على ساكنها أفضل التحيّات.

* * *

ثلاثون قولاً قيل عند موت الاسكندر:

ذكر المسعودي في المجلّد الأوّل من كتابه «مروج الذهب»:

«إنّه لما مات الاسكندر، طافت به الحكماء ممّن كان معه من حكماء اليونانيين والفرس والهند وغيرهم من علماء الأمم، وكان يجمعهم ويستريح إلى كلامهم، ولا يصدر الأمور إلاّ عن رأيهم، وجعل بعد أن مات في تابوت من الذهب ووضع بالجوهر بعد أن طلي جسمه بالأطلية الماسكة لأجزائه.

فقال عظيم الحكماء والمتقدّم فيهم: ليتكلّم كلّ واحد منكم بكلام يكون للخاصّة معزّياً وللعامّة واعظاً، وقام فوضع يده على تابوت فقال: أصبح آسر الأُسراء أسيراً، ثم قام حكيم ثان فقال: هذا الاسكندر الذي كان يُخبئ الذهب فصار الذهب يخبؤه. وقال الحكيم الثالث: ما أزهد الناس في هذا الجسد وأرغبهم في هذا التابوت. وقال الحكيم الرابع: من أعجب العجب أنّ القويّ قد غلب والضعفاء لاهون مغترّون. وقال الخامس: يا ذا الذي جعل أجله ضماناً وجعل أمله عياناً، هلاّ باعدت من أجلك لتبلغ بعض أملك، هلاّ حقّقت من أملك الامتناع عن فوت أجلك. وقال السادس: أيّها الساعي المنتصب جمعت ما خذلك عن الاحتياج فغودرت عليك أوزاره وفارقت أيّامه، فمغناه لغيرك ووباله عليك. وقال السابع: قد كنت لنا واعظاً فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك، فمن كان له عقل فليعقل، ومن كان مغترّاً فليغترّ. وقال الثامن: ربّ هائب لك كان يغتابك من ورائك وهو اليوم بحضرتك لا يخافك. وقال التاسع: ربّ حريص على سكوتك إذ لا تسكت وهو اليوم حريص على كلامك إذ لا تتكلّم. وقال العاشر: أماتت هذه النفس لئلا تموت وقد ماتت.

وقال الحادي عشر وكان صاحب خزانة كتب الحكمة: قد كنت تأمرني أن لا أبعد عنك، فاليوم لا أقدر على الدنوّ منك. وقال الثاني عشر: هذا اليوم عظيم العِبر أقبل من شرّه ما كان مدبراً، وأدبر من خيره ما كان مقبلاً، فمن كان باكياً على من زال مُلكه فليبك. وقال الثالث عشر: يا عظيم السلطان اضمحلّ سلطانك كما اضمحلّ ظلّ السحاب، وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الرباب. وقال الرابع عشر: يا من ضاقت عليه الأرض طولاً وعرضاً، ليت شعري كيف حالك فيما احتوى عليك منها. وقال الخامس عشر: عجب لمنَ كانت هذه سبيله كيف نفسه بجمع الحطام الهائد والهشيم البائد. وقال السادس عشر: أيّها الجمع الحافل والملتقى الفاضل لا ترغبوا فيما لا يدوم سروره وتنقطع لذّته، فقد بان لكم الصلاح والرشاد من الغيّ والفساد. وقال السابع عشر: انظروا إلى حلم النائم كيف انقضى، وظلّ الغمام كيف انجلى. وقال الثامن عشر: قد رأيتم أيها الجمع هذا الملك الماضي فليّتعظ به الآن هذا الباقي. وقال العشرون: هذا الذي دار كثيراً والآن يقرّ طويلاً.

وقال الحادي والعشرون: إنّ الذي كانت الآذان تُنصت له قد سكت، فليتكلّم الآن كلّ ساكت. وقال الثاني والعشرون: سيلحق بك مَن سرّه موتُك كما لحقتَ من سرّك موته. وقال الثالث والعشرون: ما لك لا تقلّ عضواً من أعضائك وقد كنت تستقلّ ملك الأرض! بل ما لك لا ترغب بنفسك عن ضيق المكان الذي أنت به وقد كنت ترغب بها عن رحب البلاد؟ وقال الرابع والعشرون ـ وكان من نُسّاك الهند وحكمائها _: إنّ دنياً يكون هكذا آخرها فالزهد أولى أن يكون في أوّلها. وقال الخامس والعشرون ـ وكان صاحب مائدته _: قد فُرشت النمارق ونُضدت الوسائد وهيّئت الموائد، ولا أرى عميد المجلس. وقال السادس والعشرون ـ وكان صاحب بيت ماله _: قد كنت تأمرني بالجمع والادّخار، فإلى من أدفع ذخائرك؟ وقال السابع والعشرون ـ وكان خازناً من خزّانه _: هذه مفاتيح خزائنك فمن يقبضها قبل أن أؤخذ بما لم آخذ منها. وقال الثامن والعشرون: هذه الدنيا الطويلة العريضة طويت منها في سبعة أشبار التاسع والعشرون: قول زوجته روشنك بنت دارا ملك فارس: ما كنت أحبّ أنّ غالب دارا الملك يُغلب، وإن كان هذا الكلام الذي سمعت منكم معاشر الحكماء فيه شرابه فقد خلّف الكأس الذي تشرب به الجماعة. القول الثلاثون ما يُحكى عن أمّه أنّها قالت حين جاءها نعيه: لئن فقدت من ابني أمره، فما فقدت من قلبي ذِكره.

وقُبض الاسكندر وهو ابن ست وثلاثون سنة، وكان ملكه تسع سنين.

 

[قصة أخرى في وفاة الاسكندر]:

ولمّا تمّ للاسكندر مُلك الدنيا، وقبض على جميع ما في الأرض، وعاد متوجّهاً إلى الاسكندرية إلى أمّه فلمّا وصل إلى شهر زورا أحسّ بالموت ـ أي اعتلّ علّة الموت _، فقال للحكماء الذي كانوا معه ـ وهم أربعمائة حكيم ـ إنّي لمائت، فإذا متّ فاطلوا جسدي بالصبر، واجعلوني في تابوت من ذهب، وأخرجوا يدي من التابوت وهي مبسوطة ـ يشير بذلك إلى أنّي خرجت من الدنيا بلا شيء، وفي ذلك يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) مشيراً إلى ذلك:

وفي قبض كفّ الطفل عند ولادةٍ
وفي بسطها عند الممات دلالةٌ

 

دليلٌ على الحرص المؤبّد في الحيِّ
ألا فانظروني قد خرجتُ بلا شيّ

قال الاسكندر: فإذا تمّ ذلك فابعثوا رسولاً إلى أمّي يخبرها أن تولم وليمة وتدعو لها كلّ من لم يُصَب بمصيبة ـ أراد أن يُعلم أمه بموته قبل أن يعلمها أحد ـ فلمّا جاء الرسول إليها، قالت له: أين ولدي؟ قال: هو خلفي، ولكن أوصى أن تصنعي وليمة وتدعين إليها كلّ من لم يُصَب بمصيبة، فصنعت ذلك وأمرت المنادي ينادي في الناس أن يحضر الوليمة كلّ من لم يُصَب بمصيبة، فلم يأتها أحد من الناس. قالت: ما لي لا أرى أحداً من الناس؟ قالوا: من يأتي وليس أحد من الناس إلاّ وأُصيب بمصائب، فلا يأتي أحد، فقالت: إنّ ولدي قد مات، ثمّ حُمل إلى أمه بالاسكندرية فطاف به من معه من الحكماء الذي كان يجمعهم ويستريح إلى كلامهم، فتقدّم كبير الحكماء وقال: ليتكلّم كلّ واحد منكم بكلام يكون موعظة للعامّة وتعزية للخاصّة، ووضع يده على التابوت وقال: أصبح آسر الأسراء أسيراً. وقال آخر: هذا الذي كان يُخبئ الذهب فصار الذهب يخبؤه، وقال آخر: قد كنتَ لنا واعظاً فما وعظتنا بموعظة أبلغ من الموت. وقال آخر: رب هائب لك من وراء الغيب وهو اليوم بحضرتك فلا يهابك. وقال صاحب دار حكمته: قد كنت تأمرني أن لا أبعد عنك، واليوم لا أقدر على الدنّو منك. وقال آخر: يا عظيم السلطان قد اضمحلّ سلطانك كما اضمحلّ ظلّ السحاب، وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الذئاب. وقال آخر: ما لك لا تقلّ عضواً من أعضائك وكنت تستقلّ بملك الأرض، وقال صاحب مائدته: قد فُرشت النمارق ونُضدت النضائد ولا أرى عميد القوم، وقال صاحب بيت المال: قد كنت تأمرني بالادّخار، فإلى من أدفع ذخائرك؟ وقالت زوجته روشنك: ماكنت أحسب أنّ غالب دارا يُغلب، وإنّ الكلام الذي سمعته من الجماعة لا يخلو من شماتة، وإنّ الكأس الذي شربت به ـ أي كأس الموت ـ لا بدّ وأن تشرب به الجماعة، وقالت أمّه: إن فُقد من عيالي شخصه لم يُفقَد من قلبي ذِكره.

ذكر ابن أبي الحديد في المجلد الثاني من شرح النهج ص 434: من كلام الحكماء الذين تكلّموا عند تابوت الأسكندر فقال أحدهم: حرّكنا بسكونه. وقال الآخر: قد كان سيفك لا يجفّ، وكانت مراقيك لا ترام، وكانت نقماتك لا تؤمن، وكانت عطاياك يفرح بها، وكان ضياؤك لا ينكسف، فأصبح ضوؤك قد خمد، وأصبحت نقماتك لا تخشى، وعطاياك لا ترجى، ومراقيك لا تمنع، وسيفك لا يقطع. وقال الآخر: انظرا إلى حلم المنام كيف انجلى، وإلى ظلّ الغمام كيف انسرى. وقال آخر: ما كان أحوجه إلى هذا الحلم وإلى هذا الصبر والسكون أيام حياته. وقال آخر: القدرة العظيمة التي ملأت الدنيا العريضة الطويلة طُويت في ذراعين. وقال الآخر: أصبح آسر الاسراء أسيراً، وقاهر الملوك مقهوراً، كان بالأمس مالكاً فصار اليوم هالكاً.

* * *