ومن وصيّة له لولده الحسن (عليهما السلام): [ يذكر فيها حقوق الاخوان]

«لَا خَيْرَ فِي مُعِينٍ مَهِينٍ وَلَا فِي صَدِيقٍ ظَنِينٍ سَاهِلِ الدَّهْرَ مَا ذَلَّ لَكَ قَعُودُهُ وَلَا تُخَاطِرْ بِشَيْ‏ءٍ رَجَاءَ أَكْثَرَ مِنْهُ وَإِيَّاكَ أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اللَّجَاجِ احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى الصِّلَةِ وَعِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللَّطَفِ وَالْمُقَارَبَةِ وَعِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى الْبَذْلِ وَعِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ وَعِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِّينِ وَعِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ وَكَأَنَّهُ ذُو نِعْمَةٍ عَلَيْكَ وَإِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَيْرِ أَهْلِهِ لا تَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صَدِيقِكَ صَدِيقاً فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ وَامْحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ قَبِيحَةً».(1)

* * *

[الشرح: حكم ومواعظ]:

اشتملت هذه الفقرات النيّرة على جمل من الأمثال والحكم والنصائح:

أوّلها:[العلاقة مع الآخر] قوله صلوات الله عليه:«لا خير في معينٍ مهين، ولا في صديق ضَنين» أخذ الشاعر هذا المعنى فنظمه وسبكه سبكاً لطيفاً فقال:

فإنّ من الاخوان من شحط النوى
ومنهم صديق العين أمّا لقاؤه

 

به وهو راعٍ للوصال أمينُ
فحُلوٌ وأمّا غيبه فظنينُ(2)

ويقول سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف:

ألا ربّ من تدعو صديقاً ولو ترى
مقالته كالشهد ما كان شاهداً
يسرّك باديه وتحت أديمه
تبين لك العينان ما هو كاتم
فرشني بخير طالمـا قـد بـريتني

      

مقالته بالغيب ساءك ما يغري
وبالغيب مأثور على ثغرة النحر
نميمة غشّ يفتري عقب الظهر
من الغلّ والبغضاء بالنظر الشزر
وخير الموالي من يريش ولا يبري(3)

ثانيها: قوله صلوات الله عليه: «ساهل الدهر ما ذّل لك قعوده» ومثل هذا قولهم في المثل: مَن ناطح الدهر أصبح أجمّ، وقولهم: دُر مع الدهر كيفما دار، ومثله قول الشاعر:

من قامر الأيام عن ثمراتها

وقول الآخر:

إذا الدهر أعطاك العنان فسر بـه

      

فأحرِ بها أن تنجلي ولها القمر(4)

رويداً ولا تصنف فيصبح شامسا(5)

ثالثها: قوله صلوات الله عليه: «إحمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة» أمره أن يلزم نفسه ويحملها في حقّ صديقه على أن يقابله ويجازيه عن رذائله بالفضائل؛ كما إذا قطعه أن يصله، وإن جفاه أن يبرّه، وإذا بخل عليه أن يجود عليه، ليعود إلى العقبى الحسنة وتدوم المودّة، وحذرّه أن يضع ذلك في غير موضعه، أو يفعله بغير أهله من اللئام؛ لأن ذلك وضع الشيء في غير موضعه، وهو خروج عن دائرة العقل، قال الشاعر:

وإنّ الذي بيني وبين بني أبي
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم
وإن زجروا طيراً بنحسٍ تمرّ بي
ولا أحمل الحقد القـديم علـيهمُ

 

وبين بني أمّي لمختلف جدّا
وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
زجرتُ لهم طيراً تمرّ بهم سعدا
وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا(6)

* * *

رابعها: نهاه صلوات الله عليه أن يتّخذ عدوّ صديقه صديقاً ونبّه على قبح ذلك بقوله: «فإنّك إن فعلتَ ذلك عاديتَ صديقك» ومعاداة الصديق قبيحة مذمومة، فاتّخاذ عدوّه صديقاً كذلك، وذلك أنّ مصادقة عدوّ الصديق تستلزم نفرة الصديق عمّن يصادق عدوّه، لنفرته من عدوّه؛ لأنّ مصادقة عدوّه تُوهمه مشاركة العدوّ وموافقته في جميع أحواله، ومن جملة أحواله عداوته، فهي إذن توهمه الموافقة على عداوته، فتوجب له النفرة والمجانبة، ويشير الشاعر إلى هذا المعنى بقوله:

تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنّني

وقال الآخر:

إذا صافى صديقُك مَن تعادي

وقال الآخر:

صديقُ صديقي داخلٌ في صداقتي

 

صديقك إنّ الرأي عنك لعازبُ(7)

فقد عاداك وانقطع الكلامُ(8)

وخصمُ صديقي ليس لي بصديقِ

خامسها: أمره صلوات الله عليه أن يخلص نصيحته لأخيه في جميع أحواله، سواء كانت النصيحة حسنة أو قبيحة ـ أي مستقبحة ـ في نظر المنصوح ضارّة له في العاجل، باعتبار استحيائه وانفعاله من المواجهة بها، وهو قوله صلوات الله عليه: «وامحض أخاك النصيحة حسنةً كانت أو قبيحة».

إذ يجب على الإنسان أن يبذل النصح لأخيه وصديقه ما وسعه، فإنّ النصح من أعظم لوازم المحبّة وأهم مقوّمات المودّة، ولا تتمّ صداقة ولا تنعقد أخوّة ما لم تكن النصيحة رائدها وباعثها، ومن لم يكن ناصحاً لأخيه فليس بأخ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) :«المؤمن أخو المؤمن لا يدع نصيحته على كلّ حال».(9) وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «يحقّ على المؤمن للمؤمن النصيحة».(10) وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «من مشى في حاجة أخيه المؤمن فلم يُناصحه فقد خان الله ورسوله».(11)

وهي أفضل صفة في النوع الانساني، كما أنّ نقيضها ـ وهو الغشّ ـ أقبح خصلة في الإنسان، وهي تجب لعامة المسلمين إعانة وإرشاداً بحقّ وإلى حقّ، كما يحرم نقيضها وهو الغشّ، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «من غشّنا فليس منا».(12)

* * *

[النصيحة في الوعي الديني]:

نحن الآن في جولة واسعة في ساحة النصح وينبوعه، جولة مباشرة للوجدان الانساني، لعلّ ينتفض ضميره ويرتعش وجدانه فيتأثّر بهذه اللمسة التي فيها معنى الانسانية والتكريم العلويّ لهذا المخلوق.

ومن الخير أن نفسح للتحدّث عن الموضوع بفقرة تمهيديّة، فنقول:

من الصعب جدّاً على معظم الناس أن تكلّفهم مزاولة الفضائل والتحلّي بها والسير تحت إشرافها ورعايتها. إنّ فهم الفضيلة حقّ الفهم ومعرفة حدودها حقّ المعرفة، والانقياد لها في المواقف الزلقة حيث تتوفّر المغريات وتتعارض المنافع وتنشط دواعي الجريمة والسوء شيء صعب وتكليف للناس بما لا يطيقون، وإنّما غاية ما تؤثّر الفضيلة في فئة قليلة من الناس تمارس الفضائل وتتلقّى المبادئ وتأخذ أنفسها برياضة شاقّة حقبةً من الزمن لتكون لها ممارسة الفضيلة عادة مألوفة، ولا بدّ أن تكون تلك النفوس كما قال (ارسطو): «قلوبها شريفة بالفطرة، أصدقاء للفضيلة، أوفياء بعهدها». هؤلاء الناس قليلون جدّاً في خضمّ الحياة الزاخر بالشهوات والاندفاعات والمنافع والأغراض.

إذن نستطيع أن نوفّر على الناس الجهود ونقدّم لهم من كتاب الله وسنّة رسوله وأحاديث أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين ما يكون زاداً لكلّ راغب، وعُدّة لكلّ خائض معترك الحياة، عدّة واقية تقيه الغرق في تيّاراتها العنيفة، وتقيه الزلق إذا مشى على مزالقها التي تزلّ فيها الأقدام، وتتهاوى الرجال صرعى أو غرقى أو ملوّثة.

والانسان بما أنّه اجتماعي لا بدّ له من تعاون قهريّ ليس له فيه اختيار، وهذه هي الفضيلة التي لها أثرها الحميد وعطرها الذائع وشرفها المرموق بين الناس.

قال الله تعالى: «وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى».(13) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الخلق عِيال الله، وأحبّ الخلق إلى الله مَن نفع عيال الناس وأدخل على أهل بيت سروراً»(14) وقال (صلى الله عليه وآله): «خصلتان من الخير ليس فوقهما شيء من البرّ: الايمان بالله، والنفع لعباد الله».(15)

وسُئل (صلى الله عليه وآله) من أحبّ الناس إلى الله؟ قال: «أنفع الناس للناس».(16)

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «مَن كان وَصولاً لإخوانه بشفاعةٍ في دفع مغرم أوجرّ مغنم، ثبّت الله قدَميه يوم تزلّ فيه الأقدام».(17)

وقال الإمام زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام): «من قضى لأخيه حاجة فبحاجة الله بدأ، وقضى الله له بها ألف حاجة إحداهنّ الجنّة، ومن نفّس عن أخيه كُربة نفّس الله عنه كرب الدنيا وكرب القيامة بالغاً ما بلغت، ومن سعى له في حاجته حتّى قضاها فيسرّ بقضائها، كان إدخال السرور على رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أن يقول (عليه السلام) في آخر الحديث _: واللهِ لقضاء حاجته أحبّ إلى الله من صيام شهرين متتابعين واعتكافهما في المسجد الحرام».(18)

هذه الأحاديث تعطينا درساً أنّ الاديان غرضها سعادة المجتمع والتعاون على متاعب الحياة، وهي أرفع قدراً من الأمور العباديّة، حيث إنّ العبادة نفعها شخصيّ وهذه الأعمال تعمّ المجتمع، وتدلّنا أيضاً على التعاون الاختياريّ سواء كان الباعث قويّاً على التعاون أم كان ضعيفاً، فالمعين على قضاء حوائج الناس له عند الله منـزلة رفيعة ودرجة سامية، وإن لم تكن الحاجة شديدة إلى المعاونة، فإذا كان الإنسان في ضيق من الأمر قد أحاطت به مفاجئة الحوادث بما يكربه ويضيق الخناق عليه، عند ذاك تكون المعاونة ألزم.

ولو فرضنا أنّ رجلاً استعان بآخر على دفع مظلمة أو قضاء حاجة أو كشف غمّة أو إزاحة مصيبة، وهو قادر على أن يقوم بحقّه ولم يُنقذه ممّا هو فيه فقد تعرّض لمقت الله، روى علي بن جعفر عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «مَن قصد إليه رجل من اخوانه مستجيراً به في بعض أحواله فلم يجُِره بعد أن يقدر عليه فقد قطع ولاية الله».(19)

وإذا كان من حقّ المسلم أن تُعينه لأنّه أخوك في المعتقد والفكرة والخلق والمثل العليا، فمن حقّه أيضاً أن تبذل له نُصحك وتمنحه إخلاصك، وتفكّر في انقاذه من ورطته، وتفكّر أن لا تزلّ به القدم ولا يُؤخذ على غرّة، فتذكّره بما يُصلح شأنه وينفي المخاوف التي تعلمها أنت ويجهلها هو، وتدلّه على الطريق الذي يأمن به العثار ويبتعد عن مسبّبات الكدر، فأنت مسؤل عن الشوكة تُدميه والعقرب تلسعه والضرر يحيق به، وإذا كنت على سابق علم أو عندك في حوادث الأمور المباغتة اختبار ودراية، فمن الواجبات الاجتماعية أن تنصحه وتوضّح له ما خفي عنه ليتّقي المتاعب ويتجنّب المخاوف ويبتعد عن الخطر.

جاء عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): «إنّ أعظم الناس منـزلة عند الله يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه».(20) وقال (عليه السلام):«يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب».(21)

وقد مضت سنّة الله تعالى بما عرف بالتجارب: أنّ نفع النصح له شرطان أو طرفان: هما الفاعل للنصح، والقابل له، وإنّما يقبله المستعدّ للرشاد، ويرفضه من غلب عليه الغيّ والفساد بمفارقة أسبابه من الغرور بالغنى والجاه والكبر.

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):«الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم».(22)

فالنصيحة لله الاعتقاد في وحدانيّته، وإخلاص النيّة في عبادته، ونصرة الحقّ فيه، ووصفه بأوصاف الكمال، وتنـزيهه عن النقائص، وطاعة أمره، واجتناب نهيه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، وغير ذلك ممّا يجب له، وجميع هذه الأشياء في الحقيقة ترجع مصلحتها إلى العبد، فهي نصيحة لنفسه وكسب خير لها.

والنصيحة للرسول (صلى الله عليه وآله) تصديقه فيما جاء به، واتّباعه فيما أمر به ونهى عنه، وتعظيم حقّه، وتوقيره حيّاً وميّتاً، ومعرفة سنّته والعمل بها، وإحياء طريقته في بثّ الدعوة وتأليف الكلمة والتخلّق بالأخلاق الطاهرة.

والنصيحة لأئمّة المسلمين: إعانتهم على الحقّ وطاعتهم فيه وأمرهم به، وتذكيرهم بحوائج العباد، ونُصحهم في رفق وعدل، وتنبيههم عند الغفلة، وإرشادهم عند الهفوة، وتعليمهم ما جهلوا، وتحذيرهم ممّن يُريد بهم السوء، وإعلامهم بأخلاق عمّالهم وسيرتهم في الرعيّة، وسدّ خلّتهم عند الحاجة، وردّ القلوب النافرة إليهم.

والمراد بأئمّة المسلمين قادتهم في تنظيم شؤن الدنيا وفي إقامة معالم الدين ونشره بين الناس، فيشمل الملوك والأمراء والرؤساء والعلماء.

والنصيحة لعامّة المسلمين: إرشادهم إلى مصالحهم في دُنياهم وأُخراهم، وكفّ الأذى عنهم، وتعليمهم ما جهلوا، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، والشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، والرحمة لصغيرهم، وتفريج كربهم، وتوقّي ما يشغل خواطرهم ويفتح باب الوسواس عليهم.

وليكن أداء النصيحة بعبارة ليّنة رقيقة، بالحكمة والموعظة الحسنة، وأسلوب يُغري بالامتثال، وبطريقة تُبعد عن ذهن المستنصح أنّ الناصح له هو أعلى منه، فذلك يكون أعمق أثراً وأقوى تركيزاً.

ويشترط في الناصح العفّة، والحياء، والصدق، وسلامة الذات، وفوق ذلك كلّه الدين، لأنّه إن كان عفيفاً يأنف من الغشّ حتّى لعدوّه، وإن كان من أهل الحياء يمنعه حياؤه من نسبة الغشّ إليه، وإن كان صدوقاً لا يكذب، لعلمه أنّ الكذوب ممقوت لا يُوصف بالخير، وإن كان سليم الذات لا يرى النصح إلاّ لازماً له لنقاوة نفسه وفطرته، والمتديّن يرى الواجب الديني المبالغة في النصح لكلّ فرد في أيّ عمل أو قول يقوم به، ومرآته (الدين النصيحة).

فمن كان موصوفاً بهذه الصفات ينبغي توجّه القلب والسمع والبصر نحوه ليستفاد من نصحه ورشده، قال أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه: «إنّ معصية الناصح الشفيق العالم المجرّب تُورث الحسرة وتُعقب الندامة».(23)

يقول الشاعر:

خصائص من تشاوره ثلاثة
ودادٌ خالص ووفورُ عقلٍ

 

فخُذ منها جميعاً بالوثيقة
ومعرفة بحالك في الحقيقة

أمّا كونه ناصحاً: فلأنّ الناصح يصدق الفكر ويمحض الرأي، وغير الناصح ربّما يشير بالرأي الفطير فيوقع بالمضرّة.

وأمّا كونه شفيقاً: فلأنّ الشفقة تحمل على النصح، فتحمل على حسن التروّي في الأمر وإيقاع الرأي عن ثبت واجتهاد، وفي أمثال العرب «اسمع ممّن لا يجد منك بدّاً» يعني اقبل نصيحة من يطلب نفعك كالأبوين، ومن لا يستجلب بنصحك نفعاً إلى نفسه بل إلى نفسك، يقول الشاعر:

إذا ما عرى خطبٌ ورمتَ وروده
وأنفعُ مَن شاورتَ من كان ناصحاً

      

فشاوِرْ فكم نُجحٍ هدته المشاورهْ
شفيقاً فأبصِر بعدَه مَن تُشاورهْ

وأما كونه عالماً: ففائدته إصابته، لعلمه وجه المصلحة في الأمر، فإنّ الجاهل في الأمر أعمى لا يُبصر وجه المصلحة فيه. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «استرشدوا العاقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا».(24)

وأمّا كونه مجرّباً: فلأنّه لا يتمّ رأي العالم ما لم تنضمّ إليه التجربة؛ وذلك أنّ العالم وإن علم وجه المصلحة في الأمر، إلاّ أنّ ذلك الأمر قد يشتمل على بعض وجوه المفاسد، ولا يطّلع عليها إلاّ بالتجربة مرّة ومرة، فالنصيحة من دون تجربة مظنّة الخطأ، وقد قيل في منثور الحكم: «كلّ شئ محتاج إلى العقل، والعقل محتاج إلى التجارب»، أو كما يقال: «إيّاك ومناصحة رجلَين: شاب مُعجب بنفسه قليل التجارب في غيره، وكبير قد أخذ الدهر من عقله كما أخذ من جسمه» وكان لقمان الحكيم يقول لابنه: «يا بنيّ استنصح مَن جرّب الأمور، فإنّه يُعطيك مِن رأيه ما قام عليه بالغلاء وتأخذه أنت بالمجّان».(25)

وبالتالي يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب.

 

[نصيحة الصحابي سعد بن الربيع لرسول الله (صلى الله عليه وآله)]:

ويحدّثنا التاريخ عن رجال في الصدر الأوّل من الإسلام أنّهم نصحوا لله ولرسوله وآله أحياءً وأمواتاً.

منهم سعد بن الربيع (رضي الله عنه)، قُتل يوم أحد شهيداً بعد ما فرّ المسلمون عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونادى إبليس في المعركة: قُتل محمّد، فقال سعد: لا خير في الحياة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثمّ حمل على المشركين وجعل يضرب بسيفه في وجوههم قدماً حتّى سقط إلى الأرض، ولمّا تراجع المسلمون قال النبي (صلى الله عليه وآله): مَن له عِلم بسعد بن الربيع، فإنّي رأيته وقد أُشرعت إليه اثنا عشر رمح، فقال أبيّ بن كعب: أنا يا رسول الله، فأقبل أبيّ بن كعب وجعل يطوف بين القتلى فوجده وبه رمق، فناداه: يا سعد، فما أجابه فقال: يا سعد إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعثني اليك لآتيه بخبرك فإنّه يقول: رأيتُه وقد أُشرعت إليه اثنا عشر رُمح، قال: فانتعش سعد كما ينتعش الفرخ وقال: أهو حيّ؟ قلت: إي والله. قال: الحمد لله، إنّي طُعنت اثنتي عشرة طعنة أنفذت مقاتلي، اقرأ رسول الله عنّي السلام وقل لقومي عنّي: يقول سعد «الله الله على ما عاهدتم عليه رسول الله، فوالله ما لكم عند الله عذر إن خلص إلى نبيّكم شيء وفيكم عين تطرف»، ثمّ مات (رحمه الله)، فجاء أبيّ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره، فقال (صلى الله عليه وآله): رحم الله سعداً لقد نصح لنا حيّاً وميّتاً.(26)

 

[نصيحة عبد الله بن كعب لعلي (عليه السلام)]:

ومنهم عبد الله بن كعب قُتل يوم صفين، قال نصر بن مزاحم: جالت خيل لأهل الشام وأهل العراق بصفّين فصُرع عبد الله بن كعب، فمشى لمصرعه الأسود بن قيس، فرآه بآخر رمق فقال: عزّ علّي ـ والله ـ مصرعك، أما والله لو شهدتُك لآسيتك ولدافعت عنك، ولو أعرف الذي قتلك لأحببتُ أن لا يُزايلني حتّى يُلحقني بك أو أقضي عليه، ثمّ جلس عنده وقال: والله إن كان جارك ليأمن بوائقك وإن كنت من الذاكرين الله كثيراً، أوصني رحمك الله، فقال: يا أخي أوصيك بتقوى الله وأن تناصح لأمير المؤمنين وتُقاتل معه المشركين حتّى يظهر الحقّ أو تلحق بالله، واقرأ أمير المؤمنين عني السلام وقل له: يقول عبد الله «فليقاتِل على المعركة حتّى يجعلها خلف ظهره، فمن أصبح والمعركة خلف ظهره كان الغالب»، ثمّ مات رحمة الله عليه، فجاء الأسود بن قيس إلى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فأخبره فقال صلوات الله عليه: رحم الله عبد الله، لقد جاهد معنا عدوّنا في الحياة، ونصح لنا عند الممات.(27)

 

[نصيحة ابن عوسجة للحسين (عليه السلام)]:

ومنهم مسلم بن عوسجة (رضي الله عنه) صُرع بين يدَي الحسين (عليه السلام) بطفّ كربلاء. فمشى لمصرعه حبيب بن مظاهر، فوجده بآخر رمق من الحياة، فجلس عند رأسه وقال: عزّ عليّ ـ والله ـ مصرعك، ولو شهدتك لآسيتك ولدافعت عنك، ولو لم أعلم أنّي بالأثر لأحببتُ أن تُوصي إليّ بجميع ما أهمّك، فقال مسلم: يا أخي أوصيك بهذا الغريب ـ وأشار بيده إلى الحسين (عليه السلام) ـ قاتِل دونه حتّى تُقتل، فقال حبيب: والله لأُنعمنّك عيناً، ثمّ مات (رحمه الله).(28)

 

[نصيحة العباس (عليه السلام) لأخيه الحسين (عليه السلام)]:

ومنهم العبّاس بن علي (عليه السلام)، صُرع بطفّ كربلاء بين يدي أخيه الحسين (عليه السلام) فقد كان مناصحاً لأخيه الحسين (عليه السلام) قولاً وفعلاً، أمّا قولاً: فمن ذلك قوله لأخوته: حاموا عن سيّدكم وإمامكم الحسين. وقوله لهم: تقدّموا يا بني أُمّي حتّى أعلم أنّكم قد نصحتم لله ولرسوله.(29)

وأمّا مُناصحته الفعليّة فأثرها ظاهر: قُطعت يمينه وشماله وهو واقف في خطّة الحرب، ثابت في ساحة القتال، لم يطلب لنفسه ملجأً ولا مأمناً، وقف من غير يدَين يذبّ عن أخيه كأنّه قطعة جبل صلد لا يتزعزع، حتّى اغتاله بعضهم مستتراً من وراء نخلة ففضخ هامته بعمود من حديد، فخرّ صريعاً على وجه الثرى، فهذه من أعظم المناصحة وأجلّها.

وقد مُدح بهذه المناصحة وأثنى عليه الأئمّة المعصومون (عليه السلام): قال الإمام الصادق (عليه السلام) في زيارته التي رواها ابن قولويه في كامل الزيارات: «أشهدُ لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبيّ المُرسَل والسبط المُنتَجب والوصيّ المُبلّغ والمظلوم المهتضم...».(30) وقال (عليه السلام) في مقام آخر:

«أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة وأعطيت غاية المجهود».(31) وفي محلّ آخر منها: «أشهد أنّك قد نصحت لله ولرسوله ولأخيك»(32) وفي محلّ آخر: «أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة وأدّيت الأمانة وجاهدت عدوّك وعدّو أخيك، فصلوات الله على روحك الطيّبة، وجزاك الله من أخٍ خيراً ورحمة الله وبركاته».(33)

ولعلّ المراد بالأمانة من قوله: «وأدّيت الأمانة» أنّ الحسين (عليه السلام) من العترة التي هي أحد الثقلَين اللذين أوصى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمّته بالتمسّك بهما وبحفظهما ورعاية حقّهما وجعلهما أمانة عند الخيار من أمّته، وأبو الفضل العباس (عليه السلام) في طليعة الأوفياء بتأدية هذه الامانة وإيصالها لرسول الله (صلى الله عليه وآله) محترمة معظّمة، بذل دون حفظها نفسه النفيسة، وجعل يتلقّى السيوف بوجهه وصدره ونحره لئلاّ يصل إلى وديعة رسول الله شيء منها، أو لعلّ المراد بالأمانة البيعة للحسين (عليه السلام)، ولا شكّ أنّ البيعة أمانة عند المبايع، وأنّ التزامه بشرائطها تأدية لها، والقتل من أظهر مصاديق الوفاء وأجلى مظاهر التأدية للأمانة، ولهذا كان كلّ من أراد الشهادة من أصحاب الحسين (عليه السلام) يقف أمامه ويستأذنه للبراز ويقول: السلام عليك يا أبا عبد الله، أوفيتُ يا ابن رسول الله؟ فيقول (عليه السلام): نعم، أنت أمامي في الجنّة، فاقرأ جدّي وأبي وأمي عنّي السلام وقُل لهم: تركتُ حسيناً وحيداً فريداً لا ناصر له ولا معين.

ويحتمل أيضاً أن يراد بالأمانة ما رواه بعض أرباب المقاتل من أنّ مولانا أمير المؤمنين صلوات الله عليه عند موته أوصى ولده العباس بنُصرة أخيه الحسين (عليه السلام)، فكانت هذه الوصية أمانة من أبيه في عُنقه، فقام بتأديتها وأسقط عنه فرض التكليف بها، فقد ذكر الحجّة الشيخ عبد الحسين الحلي (رضي الله عنه) في كتابه النقد النـزيه: «أنّ عليّاً صلوات الله عليه أوصى عند موته ولده العبّاس أنّه إذا ملك الماء يوم عاشوراء لا يشرب منه وأخوه الحسين (عليه السلام) عطشان».

* * *

من كلام له (عليه السلام) لكميل بن زياد النخعي (رضي الله عنه): (34)

[ في أصناف الناس وفضل العلماء وفيه يتعرض لذكر المهدي (عليه السلام)]

قال كميل بن زياد: أخذ بيدي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأخرجني إلى الجبان، فلمّا أصحر تنفّس الصعداء ثم قال:

«يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ النَّاسُ ثَلَاثَةٌ فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ يَا كُمَيْلُ الْعِلْمُ خَيْرٌ مِنَ الْمَالِ الْعِلْمُ يَحْرُسُكَ وَأَنْتَ تَحْرُسُ الْمَالَ وَالْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ وَالْعِلْمُ يَزْكُوا عَلَى الْإِنْفَاقِ وَصَنِيعُ الْمَالِ يَزُولُ بِزَوَالِهِ.

يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ مَعْرِفَةُ الْعِلْمِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ بِهِ يَكْسِبُ الْإِنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ وَجَمِيلَ الْأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَالْعِلْمُ حَاكِمٌ وَالْمَالُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ يَا كُمَيْلُ هَلَكَ خُزَّانُ الْأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَالْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ أَعْيَانُهُمْ مَفْقُودَةٌ وَأَمْثَالُهُمْ فِي الْقُلُوبِ مَوْجُودَةٌ هَا إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً بَلَى أَصَبْتُ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ مُسْتَعْمِلًا آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا وَمُسْتَظْهِراً بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ وَبِحُجَجِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ أَوْ مُنْقَاداً لِحَمَلَةِ الْحَقِّ لا بَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحْنَائِهِ يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لِأَوَّلِ عَارِضٍ مِنْ شُبْهَةٍ أَلَا لا ذَا وَلَا ذَاكَ أَوْ مَنْهُوماً بِاللَّذَّةِ سَلِسَ الْقِيَادِ لِلشَّهْوَةِ أَوْ مُغْرَماً بِالْجَمْعِ وَالِادِّخَارِ لَيْسَا مِنْ رُعَاةِ الدِّينِ فِي شَيْ‏ءٍ أَقْرَبُ شَيْ‏ءٍ شَبَهاً بِهِمَا الْأَنْعَامُ السَّائِمَةُ كَذَلِكَ يَمُوتُ الْعِلْمُ بِمَوْتِ حَامِلِيهِ اللَّهُمَّ بَلَى لا تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلَّهِ بِحُجَّةٍ إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ اللَّهِ وَبَيِّنَاتُهُ وَكَمْ ذَا وَأَيْنَ أُولَئِكَ أُولَئِكَ وَاللَّهِ الْأَقَلُّونَ عَدَداً وَالْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللَّهِ قَدْراً يَحْفَظُ اللَّهُ بِهِمْ حُجَجَهُ وَبَيِّنَاتِهِ حَتَّى يُودِعُوهَا نُظَرَاءَهُمْ وَيَزْرَعُوهَا فِي قُلُوبِ أَشْبَاهِهِمْ هَجَمَ بِهِمُ الْعِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ الْبَصِيرَةِ وَبَاشَرُوا رُوحَ الْيَقِينِ وَاسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ الْمُتْرَفُونَ وَأَنِسُوا بِمَا اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الْجَاهِلُونَ وَصَحِبُوا الدُّنْيَا بِأَبْدَانٍ أَرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمَحَلِّ الْأَعْلَى أُولَئِكَ خُلَفَاءُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَالدُّعَاةُ إِلَى دِينِهِ آهِ آهِ شَوْقاً إِلَى رُؤْيَتِهِمْ انْصَرِفْ يَا كُمَيْلُ إِذَا شِئْتَ».

«ابن ابي الحديد مج 4 من شرح النهج، ص 310، ط الاولى بمصر».

* * *

الشرح: [أصناف الناس]

قال ابن أبي الحديد: الجبان والجبانة: الصحراء، وتنفّس الصعداء أي تنفّس تنفّساً ممدوداً طويلاً. قوله (عليه السلام): «ثلاثة» قسمة صحيحة، وذلك لأنّ البشر باعتبار الأمور الإلهيّة إمّا عالم على الحقيقة يعرف الله تعالى، وإمّا شارع في ذلك، فهو بعد في السفر إلى الله يطلبه بالتعلّم والاستفادة من العالم، وأمّا لاذا ولا ذاك، وهو العامّي الساقط الذي لا يعبأ الله به. وصدق (عليه السلام) في أنّهم همج رعاع أتباع كلّ ناعق. ألا تراهم ينتقلون من تقليد شخص إلي تقليد الآخر لأدنى خيال وأضعف وهم.

 

[المقارنة بين العلم والمال]:

ثمّ شرع (عليه السلام) في ذكر العلم وتفضيله على المال، فقال: «العلم يحرسك وأنت تحرس المال» وهذا أحد وجوه التفضيل، ثمّ ابتدأ فذكر وجهاً ثانياً، فقال: المال ينقص بالانفاق منه، والعلم لا ينقص بالانفاق بل يزكو، وذلك لأنّ إفاضة العلم على التلامذة تفيد المعلم زيادة استعداد، وتقرّر في نفسه تلك العلوم التي أفاضها على تلامذته وتثبّتها وتزيدها رسوخاً. فأمّا قوله «وصنيع المال يزول بزواله» فتحته سرّ دقيق حكميّ، وذلك لأنّ المال إنّما يظهر أثره ونفعه في الأمور الجسمانيّة والملاذّ الشهوانيّة، كالنساء والخيل والأبنية والمأكل والمشرب والملابس ونحو ذلك، وهذه الآثار كلّها تزول بزوال المال أو بزوال ربّ المال، ألا ترى أنّه إذا زال المال اضطرّ صاحبه إلى بيع الأبنية والخيل والإماء ورفض تلك العادة من المآكل الشهيّة والملابس البهيّة، وكذلك إذا زال ربّ المال بالموت فإنّه يزول آثار المال عنده، فإنّه لا يبقى بعد الموت آكلاً شارباً لابساً، وأمّا آثار العلم فلا يمكن أن تزول أبداً والانسان في الدنيا، ولا تزول بعد خروجه عن الدنيا.

أمّا في الدنيا فلأنّ العالم بالله تعالى لا يعود جاهلاً به، لأنّ انتفاء العلوم البديهيّة عن الذهن وما يلزمها من اللوازم بعد حصولها محال، فإذاً قد صدق قوله (عليه السلام) في الفرق بين المال والعلم أنّ صنيع المال يزول بزواله، أي وصنيع العلم لا يزول، ولا يحتاج إلى أن يقول بزواله، لأنّ تقدير الكلام: وصنيع المال يزول لأنّ المال يزول. وأمّا بعد خروج الإنسان من الدنيا فإنّ صنيع العلم لا يزول، وذلك أنّ صنيع العلم في النفس الناطقة اللّذة العقليّة الدائمة لدوام سببها، وهو حصول العلم في جوهر النفس الذي هو معشوق النفس، مع انتفاء ما يشغلها عن التمتّع به والتلذّذ بمصاحبته، والذي كان يشغلها عنه في الدنيا استغراقها في تدبير البدن وما تورده عليها الحواس من الأمور الخارجيّة.

ولا ريب أنّ العاشق إذا خلا بمعشوقه وانتفت عنه أسباب الكدر كان في لذّة عظيمة، فهذا هو سرّ قوله «وصنيع المال يزول بزواله»، فإن قلت: ما معنى قوله (عليه السلام): «معرفة العلم دين يُدان به» وهل هذا إلاّ بمنـزلة قولك «معرفة العلم المعرفة» أو «العلم العلم» وهذا كلام مضطرب، قلت: تقديره: معرفة فضل العلم أو شرف العلم أو وجوب العلم دين يُدان به، أي المعرفة بذلك من أمر الدين، أي ركن من أركان الدين واجب مفروض.

ثمّ شرح (عليه السلام) حال العلم الذي ذكر أنّ معرفة وجوبه أو شرفه دين يُدان به، فقال: «العلم يكسب الإنسان الطاعة في حياته» أي من كان عالماً كان لله تعالى مطيعاً، كما قال سبحانه:

«إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ»(35) ثم قال (عليه السلام): «وجميل الأُحدوثة بعد وفاته» أي الذكر الجميل بعد موته، ثمّ شرع في تفضيل العلم على المال من وجه آخر فقال: «العلم حاكم والمال محكوم عليه» وذلك أنّك لعلمك أنّ مصلحتك في إنفاق هذا المال تنفقه، ولعلمك بأنّ المصلحة في إمساكه تُمسكه، فالعلم بالمصلحة داعٍ وبالمضرّة صارف، وهما الأمران الحاكمان بالحركات والتصرّفات إقداماً وإحجاماً، ولا يكون القادر قادراً مختاراً إلاّ باعتبارهما، وليسا إلاّ عبارة عن العلم أو ما يجري مجرى العلم من الاعتقاد والظنّ، فإذن قد بان وظهر أنّ العلم من حيث هو علم حاكم وأنّ المال ليس بحاكم بل محكوم عليه.

ثمّ قال (عليه السلام): «هلك خُزّان المال وهم أحياء» وذلك لأنّ المال المخزون لا فرق بينه وبين الصخرة المدفونة تحت الأرض، فخازنه هالك لا محالة، لأنّه لم يلتذّ بإنفاقه، ولم يصرفه في الوجوه التي ندب الله تعالى إليها، وهذا هو الهلاك المعنويّ، وهو أعظم من الهلاك الحسيّ، ثم قال:

«والعلماء باقون ما بقي الدهر» هذا الكلام له ظاهر وباطن، فظاهره قوله: «أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة» حقيقة لا مجازاً على قول من قال ببقاء الأنفس، وأمثالهم في القلوب كناية ولغز، ومعناه ذرّاتهم في حظيرة القدس، والمشاركة بينها وبين القلوب ظاهرة؛ لأنّ الأمر العام الذي يشملها هو الشرف، فكما أنّ تلك أشرف عالمها كذا القلب أشرف عالمه، فاستُعير لفظ أحدهما وعُبّر به عن الآخر.

قوله (عليه السلام): «ها إنّ ههنا لعِلماً جمّاً، وأشار بيده إلى صدره» هذا عندي إشارة إلى العرفان والوصول إلى المقام الأشرف الذي لا يصل إليه إلّا الواحد الفذّ من العالم، ممّن لله تعالى فيه سرّ وله به اتصال، ثمّ قال: «لو أصبتُ له حَمَلة» ومن الذي يطيق حمله؟ بل من الذي يطيق فهمه فضلاً عن حمله؟ ثمّ قال: «بُلى أُصيب» ثم قسّم الذي يصيبهم خمسة أقسام: أحدهم: أهل الرياء والسمعة الذين يُظهرون الدين والعلم ومقصودهم الدنيا، فيجعلون الناموس الدينيّ شبكة لاقتناص الدنيا. وثانيها: قوم من أهل الخير والصلاح ليسوا بذوي بصيرة في الأمور الإلهيّة الغامضة، فيخاف من إفشاء السرّ إليهم أن تنقدح في قلوبهم شبهة بأدنى خاطر، فإنّ مقام المعرفة مقام خطر صعب لا يثبت تحته إلاّ الأفراد من الرجال الذين أُيّدوا بالتوفيق والعصمة، وثالثها رجل صاحب لذّات وطُرف، مشتهر بقضاء الشهوة، فليس من رجال هذا الباب، ورابعها رجل مُغرم بجميع المال وادّخاره، لا يُنفقه في شهواته ولا في غير شهواته، فحكمه حكم القسم الثالث. ثم قال (عليه السلام): «كذلك يموت العلم بموت حامليه» أي إذا متُّ مات العلم الذي في صدري لأنّي لم أجد أحداً أدفعه إليه وأورثه إيّاه.

 

[إشارة إلى الإمام المهدي (ع)]:

ثمّ استدرك فقال: «اللهمّ بلى لا تخلو الأرض من قائم لله بحجّة» كيلا يخلو الزمان ممن هو مهيمن لله تعالى على عباده ومسيطر عليهم.

وهذا يكاد يكون تصريحاً بمذهب الإماميّة، إلاّ أنّ أصحابنا يحملونه على أن المراد به الأبدال الذين وردت الأخبار النبويّة عنهم أنّهم في الأرض سائحون. فمنهم من يُعرف ومنهم من لا يعرف، وأنّهم لا يموتون حتى يُودعوا السرّ ـ وهو العرفان ـ عند قوم آخرين يقومون مقامهم، ثمّ استنـزر عددهم فقال: «وكم ذا» أي كم ذا القبيل وكم ذا الفريق، ثم قال: وأين اولئك؟ استبهم مكانهم ومحلّهم، ثمّ قال: «هم الأقلّون عدداً، الأعظمون قدراً» ثمّ ذكر أنّ العلم هجم بهم على حقيقة الأمر، وانكشف لهم المستور المغطّى، وباشروا راحة اليقين وبرد القلب وثلج العلم، واستلانوا ماشقّ على المترفين من الناس ووعر عليهم نحو التوحّد ورفض الشهوات وخشونة المعيشة، قال: «وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون».

يعني العزلة ومجانبة الناس وطول الصمت وملازمة الخلوة ونحو ذلك ممّا هو شعار القوم.

قال: «وصحبوا الدنيا بأرواحٍ أبدانُها معلّقة بالمحلّ الأعلى» هذا ما يقوله أصحاب الحكمة من تعلّق النفوس المجرّدة بمبادئها من العقول المفارقة، فمن كان أزكى كان تعلّقه بها أتمّ. ثمّ قال: «أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلى دينه» لا شبهة أن بالوصول يستحقّ الإنسان أن يُسمّى خليفة الله في أرضه، وهو المعنيّ بقوله سبحانه للملائكة: «إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً»(36) وبقوله: «هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَْرْضِ»(37) ثم قال(عليه السلام): «آه آه شوقاً إلى رؤيتهم». وهو (عليه السلام) أحقّ الناس أن يُشتاق إلى رؤيتهم؛ لأنّ الجنسيّة علّة الضمّ، والشيء يشتاق إلى ما هو من سنخه وسوسته وطبيعته، ولمّا كان هو (عليه السلام) شيخ العارفين وسيّدهم، لا جرم اشتاقت نفسه الشريفة إلى مشاهدة أبناء جنسه، وان كان كلّ واحد من الناس دون طبقته. ثم قال لكميل: «انصرف إذا شئت»، وهذه الكلمة من محاسن الآداب ومن لطائف الكلم؛ لأنّه لم يقتصر على أن قال: انصرف، كيلا يكون أمراً وحُكماً بالانصراف لا محالة، فيكون فيه نوع علوّ عليه، فأتبع ذلك بقوله: «إذا شئت» ليُخرجه من الحكم وقهر الأمر إلى عزّة المشيئة والاختيار».(38)

انتهى الكتاب والحمد له والشكر له في اليوم الحادي عشر من شهر صفر سنة 1410 هـ [وكان الابتداء به سنة 1396 هـ]

بقلم مؤلفه حسن علي القبانچي النجفيّ في النجف الأشرف

* * *

(1) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 16: 104.

(2) شرح نهج البلاغة 16: 105.

(3) البداية والنهاية 3: 180؛ أسد الغابة 2: 377.

(4) أي الغلبة.

(5) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 106.

(6) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 107.

(7) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16: 107.

(8) نفس المصدر.

(9) الجامع الصغير للسيوطي 2: 662/ ح9156؛ كنـز العمال 1: 142/ ح687.

(10) مشكاة الانوار: 184؛ وفي الكافي 2: 208/ ح3: يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة.

(11) فقه الرضا: 369؛ الكافي 2: 362/ ح2 باختلاف يسير.

(12) دعائم الاسلام للقاضي النعمان 2: 28؛ مستدرك الوسائل 13: 201؛ وفي لفظ الكافي 5: 160/ ح1 عن الصادق (عليه السلام) ليس منّا من غشّنا.

(13) المائدة: 2.

(14) الكافي 2: 164/ ح6.

(15) تحف العقول: 35؛ بحار الانوار 74: 137/ ح2.

(16) الكافي 2: 164/ ح7.

(17) وسائل الشيعة 16: 342/ ح21715.

(18) وسائل الشيعة 16: 342 و343/ ح21716؛ عوالي اللئالي 1: 355 و356/ ح24.

(19) الكافي 2: 366 و367/ ح4.

(20) الكافي 2: 208/ ح5.

(21) الكافي 2: 208/ ح2.

(22) روضة الواعظين: 424؛ بحار الانوار 88: 199.

(23) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 204.

(24) الجامع الصغير للسيوطي 1: 149/ ح975.

(25) شرح نهج البلاغة 20: 41.

(26) الطبقات الكبرى لابن سعد 3: 524.

(27) بحار الانوار32: 519.

(28) اللهوف لابن طاووس: 64.

(29) الارشاد للمفيد 2: 109.

(30) كامل الزيارات: 440/ ح671.

(31) كامل الزيارات: 441/ ح671.

(32) المزار للشيخ المفيد: 124.

(33) بحار الانوار 68: 330.

(34) كان كميل بن زياد من خاصّة الإمام والصفوة من شيعته، ولمّا ولي الحجّاج طلبه للقتل فهرب منه واختفى، فما كان من الحجّاج إلاّ أن منع العطاء عن قومه.. ولمّا علم كميل بذلك قال: أنا شيخ كبير، وقد نفد عمري، ولا ينبغي أن أكون سبباً لحرمان قومي من أقواتهم، وسلّم نفسه للحجّاج، فلمّا رآه قال له: كنت أحبّ أن أجد عليك سبيلاً، فقال كميل: لا تصرف عليَّ أنيابك كالبعير، فاقضِ ما أنتَ قاضٍ، فالموعد الله، وبعد القتل حساب وجزاء، فقال الحجّاج لجلاوزته: اضربوا عُنقه، فضُربت...

(35) فاطر: 28.

(36) البقرة: 30.

(37) الانعام: 165.

(38) شرح نهج البلاغة 18: 347 - 352.