[ 140 ]

 

الفصل الثالث

في المباحث المتعلقة بالاداب والمواعظ والحكم المصلحية التى تطابقت عليها الشرائع الالهية وصحتها البراهين الحكمية

 

وفيه ست واربعون كلمة:

الكلمة الاولى قوله عليه السلام: اكرم النسب حسن الادب.

أقول: النسب هو ما ينسب إليه الانسان من ابائه أو فرع لابائه أو فضيلة نفسانية أو بدنية، واما الادب فاشتقاقه من المأدب وهو دعاء الناس الى اطعام والمراد به ههنا ما فهمته من معنى الرياضة في القسم الاول وذلك انك قد عرفت ان القوة الحيوانية في الانسان التى هي مبدأ الادراكات والافاعيل الجزئية إذا (1) لم يكن لها ملكة الانقياد لاوامر القوة العاقلة كانت بمنزلة بهيمة غير مؤدبة (2) تدعوها شهوتها تارة وغضبها أخرى بحسب بعث المتخيلة والوهم لهما لما (3) يتذكر انه، وبحسب ما تؤديه الحواس الظاهرة اليهما الى (4) الامور الملائمة لها فتتحرك حركات مختلفة حيوانية بحسب تلك الدواعى وتصير حاكمة على القوة العاقلة في تحصيل مراداتها فتكون هي الامارة بالسوء والقوة العاقلة مؤتمرة لها، اما إذا ادبتها القوة العاقلة بمنعها عن التخيلات والتوهما ت والاحساسات والافاعيل الباعثة لقوة الشهوة والغضب الى مالا ينبغي، وجبرتها على ما يقتضيه العقل العملي الى ان تصير متمرنة على طاعتها متأدبة في خدمتها منقاده لاوامرها سائرة تحت ظلال اعلامها فذلك معنى حسن ادبها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب ج: " إذ ".

(2) - ج د: " غير موذية " (من الايذاء).

(3) - ب: " لها بما ".

(4) - ج د: " اي ".

 

[ 141 ]

وإذا عرفت ذلك فاعلم ان الاباء والاصول الكريمة وان كان الانسان يفتخر بالانتساب إليها ولكن قد عرفت ذلك افتخار وهمى دال على محبة الدار الفانية مستلزم للشرف بفضيلة أو فضائل غير حاصلة لمن يتشرف بها فيمن سلف ممن ينتسب إليه لا يتعداه بل اكرم اصل ينتسب إليه الانسان الادب إذا كان سبب الخير الدائم والموصل الى نيل السعادات الباقية، وبه يكون الرفعة والتعظيم الحقيقي، وانما خص الكلمة بلفظ الكرم دون شئ اخر لانه ههنا في معرض بيان النسب والاصل، والعرب تخص الاصول والاباء المنجبة (1) بالكرم فتقول فيمن صدرت عنه افعال خيرية وكانت له سابقه اصل في ذلك: انه ذو اصل كريم، وهذا فعل ابائه الكرام، فلاجل ذلك خصه عليه السلام ههنا بلفظ الكرم دون الشرف والعز وغير ذلك من الالفاظ، وانما خص الادب دون فضيلة العلم أو غيرها من الفضائل الجليلة لكونه إذا وقع كما ينبغى مستلزما لسائر الفضائل، والانتساب إليه اشهر لكونه أقرب الى طباع عامة الخلق، فقد عرفت ان اكرم درجات النسب درجة حسن الادب.

والله تعالى هو الموفق لمتحلى بحليته، وهو المستعان.

 

الكلمة الثانية قوله عليه السلام: بالبر يستعبد الحر .

اقول: البر الاحسان واما الحر فقد عرفته والمراد به ههنا هو الخالص من وثاق الرق ويستبعد اي يتخذ عبدا وذلك لتحقق معنى العبودية فيه عند الاحسان وهو الخضوع والتذلل ولان الغاية المطلوبة من تسليم الثمن في شراء العبد انما هو الانتفاع بخدمته وتصريفاته (2) وكذلك من أسدى الى حر معروفا قد يكون انتفاعه بسببه اما انتفاعا عاجلا (3) كخدمته وتصرفاته والتامر عليه، واما اجليا وهو التقرب الى الحق تعالى والامتثال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - يقال: انجب الرجل = ولد ولدا نجيبا ".

(2) - ج د: " وتصرفاته ".

(3) - ج: " عاجليا " وهو الاوفق بالمقام لكونه قرينة لكلمة " آجليا ".

 

[ 142 ]

لاوامر الشريعة وحثها على ذلك، وقد يكون أعم من الانتفاع كصدور (1) الاحسان من العناية الالهية على المستعدين.

واما سبب ذلك الانقياد وتحقق الاستعباد فلادراك النافع اللذينت وانبعاث القوة الشهوية الطالبة لادراك الملائم من ذلك النافع وتصور ان ذلك الحضوع والتذلل مما يؤكد تحققه أو توقع زيادة احسان أو يكون جزاء لذلك البر والاحسان أو أمر أعم من ذلك كخضوع العارفين اطلاعا على عظمة الحق الاول وكبريائه وانما خص الحر ههنا بالذكر لان الحر الذى يأنف من الاسترقاق ويشمئز من نسبته الى العبودية لاحد إذا كان بالبر يستعبد الحر فغيره يكون أولى بذلك وذلك من باب الايجاز الجزيل، ويمكن ان يحمل الحر ههنا على صاحب فضيلة الحرية حينئذ يحتمل تخصيصة بالذكر وجها اخر وهو ان من اشتمل سره على فضيلة الحرية وأسدى إليه بر فانه لابدان يعترف به ويلمح ان ذلك البر غير مقابل منه بجزاء فيذل ويخضع وينفعل عنه بحيث يتحقق معنى العبودية في حقه وذلك بخلاف من ليست فيه هذه الفضيلة إذ كان قد ياخذ المال من غير وجهه فلو أسدى إليه معروف جاز ان لا يعترف له بجزاء فلا يكون منه خضوع ولا يتحقق في حقه استعباد فيكون الحر بهذا المعنى أخص من الاول من وجه وأعم منه من وجه، اما انه اخص، فلان الحر بالمعنى الاول قد يكون له فضيلة الحرية وقد لا يكون، واما انه اعم فلان من له فضيلة الحرية قد يكون رقا وقد لا يكون.

وفى هذه الكلمة تنبيه على حسن البر وحث لانه لما كان تعود (2) البر مما يصرف عن محبة المال ويكسر حدة القوة الشهوية في طلبه واقتنائه ويستلزم (3) فضيلة الكرم وكثيرا (4) من الفضائل التى تحت ملكة العفة مع ما فيه من أنواع الخيرا ت كاستنزال الرحمة والبركات (5) على صاحبه من اجتماع همم الخلق المبرورين وكان كثير أذهان أصحاب البر وأهل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " لصدور ".

(2) - ا: " يعود ".

(3) - ب: " مستلزم ".

(4) - اب ج: " كثير ".

(5) - ج د: " البركة ".

 

[ 143 ]

الاحسان انما تنفعل في ابتداء تعودهم للاسداء مثل الشكر والثناء وتذلل الخلق لهم وخضوعهم وخدمتهم لاجرم نبه عليه السلام على حسنه بان ذكر سببيته لاستعباد الاحرار فإذا انفعل البار عن ذلك تبين له عن قريب مافى البر من انواع الخيرات التى يجب ان تقتنى وما حمل (1) معروفه من الذ ثمرة تستطاب وتجتني، والله ولى التوفيق.

 

الكلمة الثالثة قوله عليه السلام: الجزع عند البلاء تمام المحنة .

اقول: قد عرفت ان الجزع الم نفساني يعرض من تصور فقد المحبوب أو فوت - المطلوب والبلاء ههنا الاختيار بالامر المكروه الى الطبع وان كان البلاء قد يكون بالخير ايضا كما يقال أبلاه بلاء حسنا وكذلك المحنة الامتحان وهو الاختبار بالمكروه ايضا، والمقصود من هذ الكلمة بيان ان من قدر له الاختبار بمكروه وقع عليه من القضاء الالهى فتألمت نفسه بسببه كان ذلك التالم ابتلاء ثانيا أعد نفسه لحصوله زيادة على البلاء الاول الذى يجب دفعه عن نفسه ويريد ان لا يكون مقضيا عليه ولا مقدرا له وتماما لمحنته، وهذه الكلمة مستلزمة للنهى عن الجزع إذ بين عليه السلام للجازع ان الذى يهرب منه من البلاء قد جلب الى نفسه مثله بجزعه.

ثم اعلم ان سبب الجزع هو الحرص على اقتناء اللذات الجسمانية والنزوع الى بقاء الشهوات البدنية والحسرة على ما يفقد ويفوت منها وانما يجزع على المحبو ب من ذلك من يظن ان ما يحصل له منها يجوز بقاؤه وثباته وان جميع ما يطلبه من مفقوداتها لابد وان كان يحصل في يده ويصير في ملكه وكل ذلك غفلة منه وغرور فانه لو لاحظ الحق بعين بصيرته والتفت الى خالص سريرته واستعمل الانصاف مع نفسه لعلم (2) ان جميع مافى عالم الكون والفساد غير ثابت ولا باق وان الثابت الباقي هو ما في العالم العلوى فلم يطمع في المحال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب ج د: " حمل " (بلا تشديد للدال).

(2) - د: " يعلم ".

 

[ 144 ]

ولم يطلبه ومن قطع طمعه من شئ لم يحزن لفقده بل صرف سعيه الى المطلوبات الصافية واقتصر بهمته على اقتناص المحبوبات الباقية وأعرض عما ليس في طبيعته ان يثبت ويبقى فإذا حصل له منها شئ بالعرض بادر الى وضعه في مواضعه واقتصر منه على مقدار (1) لابد منه في دفع الالام المحصاة من الجوع والعرى وترك الاستكثار والتماس المباهاة به والافتخار ولم يحدث نفسه بالمكاثرة بها (2) والتمنى لامثالها حتى إذا فارقته لم ياسف عليها فانه متى فعل ذلك آمن (3) فلم يجزع وفرح فلم يحزن وفاز بالسعادة الاخروية ونال الدرجات العلية، ومن لم يتدبر الوصية ولم يعالج نفسه بما ذكرناه لم يزل في جزع دائم، إذ لا يعدم (4) في كل وقت فوت مطلوب أو فقد محبوب إذ (5) كان ذلك من لوازم عالمنا عالم الكون والفساد، ومن طمع من الكائن الفاسد ان لا يكون ولا يفسد فقد طمع في المحال ولم يزل خائبا، والخائب ابدا محزون، والمحزون ابدا شقى ومن استغشى (6) العادة الجميلة وهو الرضا بما يجده ولم يحزن لشئ يفوته لم يزل سعيدا مسرورا ورضوان الله اكبر، ذلك هو الفوز العظيم (7).

واعلم ان الجزع امرا طبيعيا ولا ضروريا بل هو مما يخيله الانسان ويضعه وضعا إذ لو كان طبيعيا لما انفك منه (8) لكنه قد ينفك منه ويعود الى حال الغبطة والسرور وهو امر مشاهد كما رأينا (9) - كثيرا ممن فقد (10) الاولاد والاعزة والاصدقاء والاحبة فاشتد (11) جزعهم عليهم ثم لم يلبثوا ان عادوا الى حال المسرة والغبطة والاعجاب والضحك وكذلك ممن فقد المال والصنائع والمقتنيات المستحسنة رأيناهم بعد الجزع الشديد قد سلوا وعادوا الى حال السرور فالجزع إذا من العوارض الطارية الزائلة التى لا يختص بها شخص دون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - د: " مقدار ما ".

(2) - ا: " لها ".

(3) - ب ج د: " امن " (بلا مد ").

(4) - ح د: " لا تقدم ".

(5) - ب: " إذا ".

(6) - ا: " استعشى " ج د: " استغنى ".

يقال: " استغشى ثوبه بثوبه اشتغشاء = تغطى به " فهو بمعنى استشعر ويمكن ان يكون محرفا منه.

(7) - ذيل آية 72 سورة التوبة.

(8) - ج د: " عنه.

(9) - ا: " رأيت ".

(10) - ا: " يفقد ".

(11) - ا ج د: " واشتد ".

 

[ 145 ]

اخر فلا عذر للعاقل بعد اطلاعه على حقيقته وأسبابه وما ذكرناه من احواله في معاودته وارتكابه.

اللهم جللنا عافيتك، فان قدرت علينا بلاء فألهمنا صبرك، ولا تكشف عنا سترك، وافض علينا رضوانك، وهئ لنا من أمرنا رشدا (1).

الكلمة الرابعة قوله عليه السلام: رحم الله امرء قال خيرا فغنم أو سكت فسلم.

اقول: الغنيمة الفئ، وقد استعمله عليه السلام ههنا في اكتساب المدح والثناء والثواب وغيره من أنواع الخيرات، وانما سمى القول خيرا لان كل وسيله الى الخير فهى (2) خير، وان كان عرضيا بالنسبة الى ماهى وسيلة إليه، ومقصوده عليه السلام من هذه الكلمة استنزال الرحمة الالهية بدعائة الموثوق بانه لايرد لعبد حبس لسانه وزمه بزمام العقل عن التلفظ الا بالكلام الخيرى وقد عرفت ان خير الكلام ما تعلق باصلاح (معاد (3) أو تدبير معاش كما ينبغى وعلى الوجه الذى مراعاة القانون العدلى وطلب الفضيلة التى سبق بيانها وهى فضيلة العدل فانه إذا فعل ذلك كان الكلام خيرا له عن السكوت إذ (4) كان يحصل (5) له بذلك غنيمة الدارين واكتساب السعادتين ثم ادرج في ذلك الدعاء من لم يتمكن من قصد الكلام الخيرى بل كان يعبر في كلامه عند

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ذيل آية 10 سورة الكهف.

(2) - د: " فهو ".

(3) - اظن ان اصل المطلب مأخوذ من قول امير المؤمنين عليه السلام: " وليس للعاقل ان يكون شاخصا الا في ثلاث، مرمة لمعاش أو خطوة في معاد أو لذة في غير محرم ".

(4) - ب: " إذا ".

(5) - ب ج د: " يحصل (بصيغة باب التفعيل) ".

 

[ 146 ]

ما يتكلم الى الحد الذى هو رذيلة من القول الكاذب والسخيف والهذر والموذى وغير ذلك مما لا يقتضى مصحلة ولا يصدر عن ترو وتثبت وانما يصدر عن عدم رصانة - العقل وقلة عقليتة (1) لما ينبغي ان يوضح عليه الكلام من الوجوه المصلحية فسكت عن الكلام إذ (2) كان محصلا بذلك السلامة في الدارين والسلامة احدى (3) الغنيمتين اما في الاولى فلان كثيرا ممن كان يدعى كمال العقل وينسب الى تمام الفضل اشرقت على نفوسهم شموس القدس فتبجحوا بزينة الحق في ذواتهم فأطلقوا القوى المحركة فباحوا (4) باسرارهم في الفاظ ورموز نبت عنها افهام العوام واعتقدوا مخالفتها لظاهر الشريعة فأصبحوا حصائد السنتهم وقتلى كلماتهم ولو لزموا السكوت ولم يهتكوا أستار تلك الاسرار لما اصابهم ما اصابهم، وإذا كان حال أصحاب العقل والاسرار الالهية كذلك فما ظنك بالباقين من العوام ومن لم يودب بالاداب الشرعية ولم تلين (5) عريكتة التجارب الصلاحية فحق لاولئك وامثالهم (6) ان لا يفوهوا بحرف واحد إذ كان اكثر كلامهم يصدر عن غير روية وان كان فعن روية فاسدة، واما في الاخرى فلان الساكت عما ذكرناه من الكلام الساقط عن درجة الاعتبار سالم بسكوته عن اكتساب الملكات الردية والهيئات المنقصة (7) بالتمرين على ذلك الكلام والتعود باجرائه (8) والمحاورة (9) به خالص (10) عن التعذيب بها في الاخرة.

وقد تطابقت كلمة النبيين و

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - كذا.

(2) - ب د: " إذا ".

(3) - ب ج د: " احد ".

(4) - ج د: " فناجوا ".

(- في النسخ: " لم تكن ".

(6) - في النسخ: " لذلك وامثاله ".

(7) - قال الفيومى في المصباح المنير: " نقص نقصا من باب قتل ونقصانا وانتقص ذهب منه شئ بعد تمامه، ونقصته يتعدى ولا يتعدى، هذه اللغة الفصيحة، وبها جاء القران في قوله: ننقصها من اطرافها، وغير منقوص، وفى لغة ضعيفة يتعدى بالهمزة و التضعيف ولم يات في كلام فصيح، ويتعدى ايضا بنفسه الى مفعولين فيقال نقصت زيدا حقه وانتقصت مثله ".

(8) - ب د: " باجزائة ".

(9) - ج د: " والمجاور به ".

(10) - ج د: " خلص ".

 

[ 147 ]

توافقت كلمة الحكماء الراسخين على مدح السكوت حذرا من التكلم بما لا يجدى نفعا ولا - يعود على قائلة بخير وحثوا على لزومة وخاصة بين يدى الملوك والقادرين على الانتقام فان في الكلام تغريرا (1) بالنفس الا ممن حصل على ملكة الكلام الخيرى بيان ذلك المدح من وجوه.

الاول - قال رسول الله صلى الله عليه واله: من وقى شر لقلقه وقبقبه وذبذبه ضمنت له الجنة، وذلك يدل على ان للسان حصه في البعد عن الجنة بسبب ما تكسب (2) النفس بتعويده بما لا ينبغى من ملكات السوء وقال عليه السلام: من صمت نجا.

الثاني - قال بعض الحكماء: الزم السكوت فان فيه سلامة، وتجنب الكلام فان فيه ندامة.

الثالث - قال بعضهم: افضل حلية العلماء السكوت.

الرابع - قال بعضهم: انفع الاشياء للانسان ان لا يتكلم على نفسه وذلك حذر من الكلام الموذى فيحتاج الى التروي.

الخامس - قال بعض ملوك الروم: ماندمت على ما لم اتكلم به قط، ولقد ندمت على ما قلت كثيرا.

السادس - قال بعض حكماء العرب في هذا المعنى: من اكثر هجر (3) والمقصود انه ربما خرج الى الهجر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا ج: " تغزيرا " (بالغين المعجمة ثم الراء المعجمة) ب: " تقريرا (بالقاف والراء المهملة) د: " تعزيرا " (بالعين المهملة والزاء المنقوطة والراء المهملة اخيرا) فالتصحيح قياسي يقال: غرزه بالابرة ونحوها (كضرب غرزا) نخسه وغرز الابرة (تغريزا) في الشئ ادخلها فيه ".

(2) - ب: " تكتسب ".

(3) - كذا في النسخ وفى كتب اللغة: هجر في منطقة واهجر هجرا واهجارا تكلم بالهذيان " وفى نهج البلاغة: " من اكثر اهجر، ومن تفكر ابصر ".

وهو من وصيتة لابنة الحسن عليهما السلام (راجع شرح نهج البلاغة ص 525 وص 527 من الطبعة الاولى).

 

[ 148 ]

السابع - قال أكثم بن صيفي: المكثار كحاطب الليل وذلك انه ربما نهشته الحية (1) أو لسبته (2) العقرب في احتطابه ليلا فكذلك المكثار ربما اصابه في اكثاره بغض الناس.

الثامن - قال أكثم ايضا: الصمت يكسب اهل المحبة.

التاسع - قال لقمان الحكيم الصمت حكم وقليل فاعلة.

العاشر - قال بعض الحكماء:

فلئن ندمت على سكوتي مرة * فلقد ندمت على الكلام مرارا

وقال الاخر:

احفظ لسانك ايها الانسان * لا يلدغنك انه ثعبان

وقد استشهد الحكماء على ان كثره الكلام ليس بمطلوب من الحكمة الالهية بان الة السماع والابصار اكثر من الة الكلام فكان اقلي الطلب لذلك، والاحاديث و الامثال الموردة في ذلك كثيرة لكن ينبغى ان يعلم ان الكلام الخيرى الخالى عن المضار والمحتاج إليه عمن (3) عرف بمعرفة مواقع الكلام وحكم بحسن عقله (4) للامور التى ينبغى ان يتكلم فيها خير من السكوت فان غاية السكوت المحمود تطهير النفس عن نجاسات الهيئات الردية وذلك خير عدمي عرضى وغاية الكلام الخيرى اكتساب الهيئات الحاصلة والملكات الشريفة وذلك كمال وجودي ذاتي والوجودي الذاتي اولى بالوجود من العدمي العرضى، وكما علمت ان الكلام ينقسم الى محمود ومذموم كذلك السكوت ينقسم الى ما هو خير والى ما هو شؤم، وان اللائمة (5) كما تقع بالمتكلم بما لا ينبغي كذلك تتعلق بالساكت السكوت الذى لا ينبغى كما قال عليه السلام في موضع آخر (6): لا -

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " حية ".

(2) - ج د: " لسعته " وكلتا اللفظتين بمعتى وهو لدغته.

(3) - ا ب: " عن " ج د: " ممن ".

(4) - ا ب: " عقلته " ج: " عقليته د: " عقيلته ".

(5) - ا: " الملائمة " وفى كتب اللغة: " اللائمة بمعنى اللوم يقال: استحق اللائمة اي اللوم والملامة ".

(6) - ا: " في مواضع اخر ".

 

[ 149 ]

خير في الصمت عن الحكم كما انه لاخير في التكلم بالجهل غير انهم اكثروا الحث على لزوم السكوت وقلة الكلام لان خطر الكلام اقوى واعظم ولذلك كان الذم للمكثار الزم، فقد علمت استحقاق الغانم بكلامه الخيرى والسالم بسكوته الذى بنبغى لاستنزال الرحمة الرحمانية والعناية الربانية بدعائه المستجاب الذى ليس دونه حجاب، والله ولى التوفيق.

الكلمة الخامسة قوله عليه السلام: الاعتذار تذكير بالذنب.

اقول: الاعتذار طلب العذر من المجني عليه، والعذر محو اثر الجريمة من الذكر ليتبين ان اعتقاد سبب ذلك الاثر (1) لم يكن مطابقا وهو مأخوذ من قولهم: اعتذرت المنازل إذا درست، والذنب الجرم والمقصود بيان ان اعادة الاعتذار مستلزم لتذكير المجني عليه بالذنب الصادر في حقه وتقرير هذا الحكم ان نقول: ان ترك الفعل أو القول الذى يحتاج معه الى الاعتذار واجب فان كان ولابد فليكن الاجتهاد في الاعتذار بخلوة من المعتذر إليه دون ان يكون هناك من لا يحتاج إليه في قبول الاعتذار من الشفعاء والوسائط فان الاعتذار بين الخلق مما يشهر حال المعتذر بفعل القبيح المبنى على الستر ويفيد انكسار الحياء وكشف قناعه على الوجه وخشونة الحدقة وقحة الملاقاة وضروب الشرور ثم يجتهد المعتذران لا يزيد في الاعتذار على المرة الواحدة وكفى بها فان في المعاودة شرورا، منها كثرة المطلعين من الخلق على ذلك القبيح الصادر المحتاج الى طلب العذر، منها تذكير الشاعرين بذلك الجرم من الاعتذار الاول ودوام التأذى من قبلهم للمعتذر، ومنها وهو اصعبها تذكير المعتذر منه بالذنب الواقع في حقه واثارة ضغنه (2) واحقاده

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " الاثم ".

(2) - ج د: " صفته ".

 

[ 150 ]

على المعتذر، ولصعوبته خصه عليه السلام بالذكر، وفى هذه الكلمة تنبيه على التأدب بترك اعادة الاعتذار لما بيناه من الاسباب وهو المقصود الذاتي من الكلمة وهو من اشرف محاسن الكلام واجمع مكارم الاداب، والله ولى الهداية.

الكلمة السادسة قوله عليه السلام: النصح بين الملا تقريع.

اقول: النصح والنصيحة تنبيه الانسان على ما عساه غافل عنه من المصالح في امر معاشه أو معاده، والتقريع شدة الضرب بالكلام وقوة اللائمة والتوبيخ، والمراد في هذه الكلمة تأديب الناصح بالادب اللائق باستجلاب الانس الموجب للمحبة و الالفة الذى بينا وجوب تحصيله وذلك ان من اداب النصح اخذ المنصوح بالرفق ولين الكلام وخفض الصوت وفى اخلي المواطن واسر (1) الاحوال والتعطف (2) إليه بالكلمات البعيدة عن الامر الذي يتعلق بالنصيحة وبالتعريض دون التصريح فانه ابلغ، وبضرب (3) الامثال فانه احسن من الكشف، وبالجملة ما يبسط النفس ويضع الانس ويتدرج (4) في ذلك الى ان ينتهى الى المطلوب فيخاض (5) فيه، ولو كان التعريض و ضرب الامثال في مجلس والتصريح بالمطلوب في مجلس بعده فهو اصوب، وإذا عرفت ذلك عرفت ان النصح بين الملا من جملة اضداد الرفق شديد الوقوع على ذهن المستمع مثير لقوته الغضبية منفر لطبعه لما فيه من اطلاع الخلق عليه لما احتاج الى نصيحة (6) فيه وتقريع عليه وربما كان السبب في اثارة قوته الغضبية اعم مما ذكرنا (7) وذلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " اليسر ".

(2) - ا: " وتعطف " ب " ويتلطف " (بصيغة المضارع الغائب) ج د: " وبتلطف " (بباء الجر ولفضة المصدر).

(3) - ب د: " ويضرب " (بصيغة المضارع الغائب).

(4) - ا: " وتدرج " ج: " ويدرج ".

(5) - كذا فلعله: " فيخوض ".

(6) - ج د: " نصحه: " ب " نصح ".

(7) - ب: " ذكرناه "

 

[ 151 ]

لاحتمال ان يكون الامر الذي يتعلق به النصيحة ليس مما يستخفى بفعله (1) فإذا نصح صاحبه فيه ظاهرا ثارت قوته الغضبية لما (2) ان ضربه بالكلام الناصح يوجب له اعتقاد ان الخلق ربما استنقصوا عقله واستصغروا رأيه في عدم الاصابة لذلك الامر وحاجته فيه الى الضرب بالكلام بينهم فينفر طبعه لذلك، ولهذا السركانت هذه الكلمة مستلزمة للتنبيه على النهى عن النصح على هذا الوجه المخصوص، والله ولى التوفيق.

الكلمة السابعة قوله عليه السلام: الشفيع جناح الطالب(3).

أقول: الشفيع هو الطالب لغيره كأنه يشفعه في قضاء حاجته بعد ان كان وترا، واطلاق لفظ الجناح الذى يخص الطائر بحسب اصل اللغة على الشفيع مجاز حسن من باب الاستعارة والتشبيه، ووجه المشابهة ان جناح الطائر لما كان وسيلة له الى طلب ما يحتاج إليه من المطالب والى الهرب عن كل مهروب (4) منه كذلك الشفيع وسيلة للمستشفع الى تحصيل الامر المطلوب له، والى الخلاص من الامر المهروب منه، وفى هذه الكلمة تنبيه وحث للشفيع على السعي في الشفاعة فيما ينبغى وحث لطالب (5) الحاجة على حفظ قلوب الاخوان (6) وادخارهم لوقت الحاجة الى التوسل بهم في المطالب اما الاول فالانها اعني الشفاعة سبب من اسباب حصول المطلوب للطالب فيكون للشفيع شركة في وجود هذا المطلوب كالجناح الذى هو آلة بها يحصل المطلوب، ولذلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " فعله ".

(2) - ا: " كما ".

(3) - قال الشارح في شرح نهج البلاغة في شرح تلك الكلمة (ص 587): " استعار له لفظ الجناح باعتبار كونه وسيلة له الى مطلوبه كجناح الطائر ".

(4) - ب ج د: " المرهوب ".

(5) - ب ج د: " لصاحب ".

(6) - ج د: " الاعوان ".

 

[ 152 ]

كانت الشركة بينهما حاصلة في الجزاء لقوله (1) تعالى: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها، ومن يشفع شفاعة سيئه يكن له كفل منها (2) وايضا فان الشفاعة من اسباب الالفة والمحبة وقضاء الحوائج والمهمات التى هي المطلوبة من كثرة الخلق و اجتماعهم، فيكون تاركها كالكاسر لمقتضى العناية الالهية والحكمة الربانية وذلك يدل على ان السعي فيها من القربات والوسائل الى الخالق المعبود جلت قدرته، واما الثاني فظاهر، وبالله التوفيق.

الكلمة الثامنة قوله عليه السلام: المسؤول حر حتى يعد (3).

اقول: قد عرفت معنى الحر والمراد به ههنا الخالص من وثاق الرق ويقابله العبد، والمقصود ههنا ان المسؤول الخالص من الرق هو حر مادام لا يعد بحاجة فإذا وعد صار الوعد من جملة اسباب استعباده، وتقرير هذا الحكم ان الانسان الموصوف بالحرية بالنسبة الى الامور المطلوبة منه له ثلاثة احوال وذلك انها اما ان يبذلها أو يمنعها رأسا أو يعد بها، وعلى الوجهين الاولين هو حر، وعلى الوجه الثالث هو عبد، واطلاق العبودية عليه مجاز عن الموثوق بوثاق الرق ووجه المشابهة قد سبق بيانها في قوله عليه السلام " بالبر يستعبد الحر " ونزيدها تقريرا فنقول: لما كان من صفات العبد انه مطالب من السيد في كل وقت بما اشتغلت به ذمته من قضاء الواجب عليه من الخدم والاشغال فكذلك باذل الوعد اطلق عليه انه عبد لتحقيق هذه الصفة فيه وذلك انه مطالب من السائل في كل وقت بما اشتغل ذمته به بقضاء الواجب عليه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " كقوله ".

(2) صدر آية 85 سورة النساء.

(3) - هذه الكلمة موجودة في شرح نهج البلاغة لابن ابى الحديد وشرحت فيه مفصلا، واما شرح ابن ميثم فلم اظفر بها فيه، فلعل الكلمة لم تكن موجودة في نسخته فلم يشرحها أو سقطت من النسخة المطبوعة.

 

[ 153 ]

بوعده من قضاء حق الاخوان من الحوائج والمهام فيبقى في رق الوعد الى ان يخلق (1) بقضائه الوثاق فيستحر حينئذ بلحوق العتاق، واما حريته في الوجهين الاولين فلعدم تحقق الصفة المذكورة في حقه واعلم ان قضاء الامر المسؤول مع امكانه اشرف من الوعد، اما بالنسبة الى السائل فلان الانتظار موت احمر، واما بالنسبة الى المسؤول منه فلانه بذل في حقه على شرف قوته العقلية بملكة الحياء والسخاء وغيرهما من الفضائل بخلاف الوعد فان الوعد بما يمكن انجازه يدل على مجاذبة القوة الشهوية للعقل وقوتها عليه في ترديد الامر المسؤول بالقضاء والمنع، ثم الوعد اشرف واولى من المنع بالكلية فان الحرمان شؤم وسبب للمقاطعة والمباينة المضادة (2) لما هو مطلوب من العناية الالهية باجتماع الخلق وتكثرهم (3) مع ما يستلزم من ذهاب الحياء بتعويده وقحة الوجه وخشونة الجانب، والوفاء اشرف من الخلف لا ستلزامه عدم فضيلة الحرية والوفاء والذم العاجل العارض من رذيلة البخل وما يصحبها من الرذائل، وقد اطبق العقلاء على حسن قضاء الموعود والوفاء به وفى المثل: انجز حر ما وعد.

وعن عوف بن النعمان الشيباني انه قال في الجاهلية: لان اموت عطشا احب الى من ان اكون مخلاف الوعد.

وفى المثل السائر: الوفاء من الله بمكان، وفى التنزيل الالهى في مدح اسماعيل عليه السلام (4): انه كان صادق الوعد، وعن عبد الله بن عمر انه وعد رجلا من قريش ان يزوجه ابنته فلما حضرته الوفاة ارسل إليه فزوجه اياها فقال، كرهت ان القى الله تعالى بثلث النفاق، واراد الكذب لان الخلف في الحقيقة كذب، وذلك لان النفاق في الدين مركب من ثلاثة اجزاء، احدها الخروج من الايمان بالقلب، والثانى الرياء بالاعمال من اعتقاد صحتها، والثالث الكذب وهو القول باللسان مع مطابقته للاعتقاد وإذا لقوا الذين امنوا قالوا امنا وإذا خلوا الى شياطينهم قالوا انا معكم انما نحن مستهزؤن (5) و: واذ جاءك المنافقون قالوا انشهد انك لرسول الله والله يعلم انك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب ج د: " يخلع " ومن معاني الخلق القد والمعنى واضح.

(2) - ج د: " المضارة " (بالراء).

(3) - ا: " وبكثرتهم ".

(4) - من آية 44 سورة مريم.

(5) - آية 14 سورة البقرة.

 

[ 154 ]

لرسوله والله يشهد ان المنافقين لكاذبون (1) لعدم مطابقة اقوالهم اللسانية لما انطوت عليه ضمائرهم من العقائد الفاسدة فالكذب حينئذ ثلث النفاق وهو اقوى الاجزاء فسادا لتعدى ضرره الواقع منه الى الغير دون الجزئين الباقيين وعلى ذلك يحمل قول النبي صلى الله عليه وآله، الكذب رأس النفاق.

وقد (2) تنبهت ايها الاخ مما ذكرنا على وجوب انجاز المواعيد لتخلص به الى الحرية من رق من وعدت فان هذا الرق اعظم واقوى لتعلق الذنب بالاخرة دون الرق الحقيقي واليك الاعتبار (3) والله ولى التوفيق.

 

الكلمة التاسعة قوله عليه السلام: اكبر الاعداء اخفاهم مكيدة.

اقول: المكيدة فعيلة من الكيد وهو الاحتيال والخداع، والمقصود في (4) هذه القضية بيان ان كل من كان من الاعداء اخفى كيدا وادق نظرا في الاحتيال كان اكبر الاعداء أي اعلاهم درجة في العداوة واولى بالتحفظ منه من سائر الاعداء، وبرهان هذا الحكم انك فد عرفت ان العداوة بغض صادق يهتم معه بجمع الاسباب الموذية للمبغوض ومحبة افعال الشرور التى يمكن فعلها به وإذا كان كذلك فنقول: كل من كان اقدر على اخفاء الحيلة والخداع كان اقدر على تحصيل الاسباب الموذية لعدوة و كل من كان كذلك كان اعظم الاعداء واكبرهم مكيدة ينتج ان كل من كان اخفى حيلة كان اعظم الاعداء واكبرهم، واما الصغرى فظاهر إذ كان المتجاهر بالحيلة في اذى عدوه قلما يظفر به لاطلاع العدو على كل ذلك واحترازه منه، واما الكبرى فلانه لا معنى لاكبر الاعداء الا من كان اقدر على النكاية والانتقام فقد صحت هذه القضية بالبرهان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - آية 1 سورة المنافقين.

(2) - ب ج د: " فقد ".

(3) - ا: " الاعتذار ".

(4) - ا: " من ".

 

[ 155 ]

واعلم ان التحفظ وان كان من كل الاعداء واجبا لما ان اتفاق الحكماء على انه لا ينبغى للعاقل ان يستصغر عدوا وان صغر فانه من فعل ذلك اغتر ومن اغتر لم يسلم لكن التحفظ من دقيق النظر في الحيلة والخداع اهم والعناية بشأنه اتم فانه ان كان بعيدا لم تؤمن عودته وان كن قريبا لم تؤمن وثبته، وان انكشف منك جانب لم تأمن كرته وان كانت متحزما لم تأمن مكره وحيلته ومثل هذا العدو وان عد ذكيا الا انه قد غير فضيلة الذكاء الى جانب الافراط منها وهو الخبث وقد علمت انه رذيلة نفسانية وصاحب هذه الرذيلة يسمى داهيا ومتجربزا، وهذه الكلمة من التنبيهات المصلحية على مراعاة تمييز اكبر الاعداء والتيقظ لاخفاهم حيلة والاحتراز من عداوته والحيلة في كيفية دفعه ودفاعه وعليك في هذا المعنى بمطالعة الباب الرابع (1) من كتاب كليلة ودمنة فتستفيد بتأمله فوائد جليلة، والله تعالى هو المنقذ من اعدائه وكفى به معينا ينصر من يشاء وهو القوى العزيز.

الكلمة العاشرة قوله عليه السلام: من طلب مالا يعنيه فاته ما يعنيه.

اقول: المقصود من هذه الكلمة الحث على الاشتغال بطلب الامور التى بها يكون صلاح المرء في نفسه باصلاح طرفي معاشه ومعاده اما في طرف المعاش فتحصيل الامور التى لابد منها في قوام البدن وبقاء النوع وما يلزمهما (2) وترك الفضول الزائدة التى لا يعود إليها ضرورة واما في طرف المعاد فالسعي في تحصيل الكمالات العلمية (3) والفضائل الخلقية التى هي وسيلة الى نيل السعادة الابدية واللفوز بالنعيم السرمدي وإذا عرفت ذلك فنقول: الامور التى ذكرنا انه بجب على الانسان طلبها هي الامور التى تعنيه اي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - كأنه يريد به باب البوم والغربان لانه الباب الرابع من اصل الكتاب، ولان البحث فيه عن الحزم اكثر فيه من البحث عنه في سائر الابواب.

(2) - ب ج د: " يلزمها ".

(3) - اد: " العملية " (بتقديم الميم على اللام).

 

[ 156 ]

التى يجب ان تدخل في عنايته باحواله التى هي فضيلة بالنسبة الى تلك الامور التى لاتعنيه إذ كانت خارجة عن حاجته زائدة على الامور المكملة له فإذا فرض انه اشتغل بالامور التى لا تدخل في عنايته فقد اشتغل بما لا يعنيه وبذلك يفوته ما يعنيه إذ كان قد اشغل (1) بها وقته الرى يجب ان يستوعبه في تحصيل كماله الذى يعينه فان وقته لو كان اضعاف ما يمكن ان يمتد فيه عمره لم يتسع لاستيفاء كماله القوى باخراجة الى الفعل فإذا اشتغل لما لا يعنيه فقد فوت على نفسه كمالا يعنيه في وقت اشغله لما لا يعنيه.

واعلم ان ذلك خروج عن (2) مقتضى العقل ووضع الاشياء في غير موضعها وهو عبور الى طرف الجور الذى هو طرف الافراط من العدالة وذلك هو الخسران المبين (3) قل هل ننبئكم بالاخسرين اعمالا الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا(4).

 

الكلمة الحادية عشر قوله عليه السلام: السامع للغيبة احد المغتابين .

اقول: الغيبه التحدث في عرض (5) الانسان حال غيبته بما ينفر طبعه من (6) المواجهة به، والسامع المستمع لها عن رضى وايثار، فان السامع المطلق اعم من المستمع فان السامع قد يكون سماعه بقصد ذاتي منه وقد لا يكون بل يكون عرضيا كسماع المار وغيره، والمستمع اعم من المستمع عن رضى فان المستمع قد لا يكون راضيا بل ينتظر سكوت المغتاب لجوابه أو لغرض أخر فإذا اطلاق لفظ السامع على المستمع على وجه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا ب ج: " اشتغل ".

(2) - ب ج د: " من ".

(3) - ذيل آيتين من القرآن (11 سورة الحج و 15 سورة الزمر).

(4) - آية 103 و 104 سورة الكهف.

(5) - د: " اعراض ".

(6) - ج د: " عن ".

 

[ 157 ]

مخصوص مجاز من باب اطلاق العام على الخاص، والغيبة تنقسم الى ما يكون بالكذب والى ما يكون بالصدق، وعلى التقديرين فاما ان يكون بما لو فعله المغتاب لخرج به عن ربقة الدين، اوالا يكون فهذه اربعة اقسام: الاول الغيبة الكاذبة بما يخرج به المغتاب عن الدين، الثاني الغيبة الكاذبة بما لا يكون كذلك، والثالث الغيبة الصادقة بما لا يخرج به عن الدين، الرابع الغيبة الصادقة بما يخرج به عنه، والثلاثة الاول مذمومة ملعون من اشتغل بها، اما الاولان فلاشتمالهما على الكذب الموذى الموجب لتلطخ النفس بملكة الكذب، واما الثالث فلكونه مع خلوه عن الفائدة اشتغالا بما لا يعنى ومستلزما لاذى الغير المؤدى الى التنافر (1) والتباين والتباغض المضاد لمطلوب الله تعالى كما بيناه.

واما القسم الرابع فهو وان كان مذموما من جهة انه اشتغال بما لا يعنى لكثير من الخلق الا ان الشريعة قد رخصت فيه لاشتماله في بعض الاحوال على نوع من المصلحة قال عليه - السلام: لا غيبة لفاسق، ووجه تلك المصلحة ان الغالب في صاحب الفعل القبيح الذى ينفر طبعه عن المواجهة به ان يبلغه (2) ما يقال من القبيح في حقه وما ينشر بين العالم من مطوى سره الذى يستحى ويأنف من ابدائه واظهاره ويلحقه بسببه الذم والعار عاجلا والحسرة والعقاب اجلا فيتقهقر بنفرته الطبيعية عن ارتكاب ذلك القبيح ويبدله بضده المليح فيكون ذلك سببا داعيا له الى الله تعالى، ومن لا يجب داعى الله فليس بمعجز في الارض وليس له من دونه اولياء اولئك في ضلال مبين (3) إذا (4) عرفت ذلك فاعلم ان المقصود من هذه الكلمة بيان ان الاحكام المذكورة اللاحقة للمغتاب من الاقسام الثلاثة الاول للغيبة كما انها لاحقة له فهى ايضا لاحقة للمستمع لها عن رضى ومساعدة، إذ هما مشتركان في الرضا ومتكيفا الذهن بالتصورات المذمومة التى لا تنبغي وان اختلفا في ان احدهما قائل والاخر قابل لكن كل واحد منهما صاحب آلة اما احدهما فذو لسان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " الموذى بالتنافر ".

(2) ا: " لعفله ".

(3) - آية 32 سورة الاحقاف.

(4) ج د: " واذ ".

 

[ 158 ]

يعبر عن نفس قد تنجست بتصور الكذب والعزم عليه واما الاخر فذو سمع تقبل عنه النفس تلك الاثار عن ايثار وسؤ اختيار فيألفها ويعتادها فيتمكن من جوهرها سموم عقارب الباطل ولذلك قيل: السامع شريك القائل، فاسمع ايها الاخ من بحثنا ما يجب ان تسمعه فعساك بعدها لا تسمع ما ينبغى ان لا تسمعه، والله ولى السرائر ويهدى من يشاء الى صراط مستقيم.

الكلمة الثانية عشر قوله عليه السلام: الراحة مع اليأس.

اقول: الراحة لذة تحصل للنفس بالسكون عن الحركات المتعبة سواء كانت تلك الحركات حسية أو عقلية، والياس من الشئ هو انقطاع الطمع منه لاعتقاد انه لم يصر ممكن التحصيل بعد اعتقاد انه كان كذلك، والمقصود بيان ان الراحة لازمة لليأس وذلك ظاهر فان الحركات النفسانية الموجهة للحركات البدنية الى تحصيل المطلوب انما تكون قائمة ما دامت النفس متصورة لامكان تحصيله فإذا تبين لها ان تحصيله غير ممكن فلا بد وان ينقطع حركة الطلب الى تحصيله وتستبدل النفس من تعب حركات الطلب لذلك الراحة اللازمة عن السكون من تلك الحركات، وفى هذه الكلمة تنبيه على ترك الطلب والحرص فيما لا يكسب تحصيله نفعا ولا يعود على صاحبه الا بالاذى والمكروه فيما يجب عليه اصلاحه من امر معاده كالاستكثار من متاع الدنيا و اقتناء الكمالات الوهمية لان الراحة لما كانت مطلوبة وهى لازمة عن ذلك الترك وجب ان يكون ذلك الترك واجبا فان كل تلك الامور سموم ان لم تجهز أعقبت (1)، والمثل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - كأنه مثل أو كلام يجرى مجراه والمراد انه " امور تعقب نتائج وخيمة ان لم تدفع ولم تعالج بدفعها وقلعها وقمعها ".

 

[ 159 ]

المشهور من سيد المرسلين صلى الله عليه وآله في ذلك: وان مما ينبت الربيع لما يقتل حبطا اويلم (1) والمراد به ان ملذات الدنيا وزينتها وان كانت ذات زهرة وجمال فقد تؤل بصاحبها إذا خرج في الاخذ منها الى مالا ينبغي الى سوء المغبة والشقاء الاشقى في الاخرة كما ان اكلة الخضر من الماشية اذالم تقتصد في مراعيها آل بها ذلك الى ان تحبط عنه بطونها اي تنتفخ فتهلك، والملمة النازلة من الامر فكما علمت فيما سبق ان الذل مع الطمع فاعلم ان الراحة مع اليأس، والله الموفق.

الكلمة الثالثة عشر قوله عليه السلام: من كثر مزاحه لم يخل من حقد عليه أو استخفاف به.

اقول: المزاح بضم الميم الدعابة وهو امر اضافي، والحقد غضب ثابت لتقرر صورة الموذى في الخيال مع عدم اعتقاد ان الانتقام في غاية السهولة أو في غاية الصعوبة وفائدة قيد كونه ثابتا انه لو لم يكن كذلك لما كانت صورة الموذى متقررة في الخيال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - قال ابن الاثير في النهاية " فيه: احبط الله عمله اي ابطله يقال: حبط عمله يحبط واهبطه غيره وهو من قولهم: حبطت الدابة حبطا بالتحريك إذا اصابت مرعى طيبا فأفرطت في الاكل فتنتفخ فتموت ومنه الحديث: وان مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا اويلم وذلك ان الربيع ينبت احرار العشب فتستكثر منه الماشية ورواه بعضهم بالخاء المعجمة من التخبط وهو الاضطراب ولهذا الحديث شرح يجيئ في موضعه فانه حديث طويل فانه لا يكاد يفهم إذا فرق " وقال في " لم ": " وفى صفه الجنة: ولولا انه شئ قضاه الله لالم ان يذهب بصره لما يرى فيها اي يقرب، ومنه الحديث: ما يقتل حبطا أو يلم اي يقرب من القتل ".

 

[ 160 ]

فلا تشتاق النفس الى الانتقام وفائدة عدم اعتقاد سهولته انه لو حصل اعتقاد السهولة لكان كالحاصل فلا يشتد الشوق الى تحصيله ولذلك لا يبقى الحقد مع الملوك، وفائدة عدم اعتقاد صعوبته انه لو لو حصل ذلك الاعتقاد لكان كالمعتذر (1) فتقصر النفس عن الشوق الى حصوله ولذلك لا يبقى احقد مع الفقراء، واما الاستخفاف والاحتقار والاستهانة بالمنزلة والمقصود بيان ان من كثر مزاحه لم تخل حاله ممن يمازحه ويحاربه من احد حالين اما حقد عليه أو استحفاف منه وهذه قضيه متصلة مقدمها قولنا: من كثر مزاحه وتاليها اللازم لها قضية منفصلة مانعة الجمع والخلو وبيان ذلك ان المتمازحين اما ان يكونا شريفين أو وضيعين أو احدهما شريفا والاخر وضيعااما الاول فلان المزاج يزرع بينهما حقدا باقيا ولا يحصل مع ذلك استخفاف من احدهما بالاخر لا عتقاد كل واحد منهما شرف الاخر، واما الثاني فلان المزاح يوجب بينهما استخفافا واستصغارا من كل واحد منهما لصاحبه ولا يتصور هناك حقد اما لان سلاطة كل واحد منهما على الاخر وجرأته عليه واستخفافه به قام مقام انتقامه منه، أو لاعتقاد كل واحد منهما ان الانتقام صعب، واما الثالث فلان المزاح يوجب بينهما ايضا الاستخفاف دون احقد، اما من الشريف فلاستصغاره امر الضعيف وسهولة الانتقام منه فلا يبقى له غضب في حقه، واما من الضعيف فلان استخفافه بالشريف وسلاطته عليه من جهة بسطه لنفسه معه يجرى في حقه مجرى انتقامه منها أو انه لاعتقاده صعوبة الانتقام لا يبقى له الحقد فثبت بما قررناه ان الحقد والاستخفاف لا يجتمعان ولا يرتفعان، واما بيان الملازمة فلان كثيرا المزاح مستلزم لحركته تلك لثوران القوة الغضبية من الممزوح معه وبثوران الغضب يكون احد اللازمين المذكورين.

فاعلم ان المزاح قد يكون محمودا وقد يكون مذموما، والاول هو المزاح المعتدل المقدار الذى لا يخرج بصاحبه في الكمية و الكيفية الى ما لا ينبغى، والوقوف على المقدار المعتدل منه وان كان صعبا لغلبة القوة الشهوية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب ج: " كالمعتذر ".

 

[ 161 ]

عند انبعاثها في المزاج من اكثر الخلق وقلة مراجعة العقل بالتحديق الى ما يجره ذلك الفعل عن كثرته ولقلة الاطلاع من المزاج (1) على تفاوت الامزجة في قبول ذلك الفعل وعدم قبوله وسرعة انفعال طباعهم لسرعة تصور متخيلاتهم للموذى وبطوءه لكنه ممكن ومع امكانه هو موجود وذلك ممن استكمل الفضائل العلمية والعملية وكانت قوته الشهوية في اسر قوته العقلية وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ولا يقول الا حقا وكان امير المؤمنين عليه السلام كذلك، وذمه عليه السلام لكثرة المزاح في هذه الكلمة دليل على انه كان يقف منه على القدر المحمود، والسبب في كون القدر المعتدل منه محمودا هو انه من الاسباب الباسطة للنفس الموجبة للانس الذى هو سبب الالفة التى هي سبب المحبة التى بينا وجوبها فيما سبق وانها مطلوبة من العناية الالهية وحينئذ يكون ذلك المقدار متعلقا بالفضائل الخلقية وسببا من اسباب الاستكمال النفساني، واما المذموم منه فهو الذى يبتدئ به صاحبه ولا يدرى اين (2) يقف منه فيخرج به عن احد الاعتدال (3) الى ما لا ينبغى ولا يزال يزداد به في حق صاحبه حتى يثير قوته الغضبية ويقع احد ما ذكرنا، وكل ذلك موجب للوحشة الموجبة للمقاطعة والتباين المضاد للالفة والمحبة فيحصل ضدما ذكرنا من انه مطلوب العناية الالهية فواجب على من لا يعرف اين (4) يقف منه إذا ان يحذره ويتذكر قول القائل: رب حقد قاده اللعب، وقول الاخر: لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا الدنئ فيجترئ عليك، وقول الشاعر:

اياك اياك المزاح فانه * الى الشر دعاء وللشر جالب

والعجب الذى لا ينقضى ممن عاب امير المؤمنين بالدعابة فقال: لولا ان فيه دعابة ؟ ! كيف يقبل منه ذلك فان هذا الانكار ان كان لانه ارتكب القدر المعتدل منه وقد عرفت انه أمر محمود كان ذلك انكارا مستلزما للنهى عن المعروف وهو غير جائز، وان كان ذلك لانه ارتكب القدر الخارج منه الى مالا ينبغى فترى انه عليه السلام كان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا ج د: " المزاح ".

(2) -: " أو " د " انى ".

(3) - ا ب: " العدل ".

(4) - ج د: " انى ".

 

[ 162 ]

لايعرف القدر الذى يجب الوقوف عنده من المزاح مع ما تواتر عنه مما يوضح انه كان اكمل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله في قوتيه النظرية والعلمية وانه ينبوع العلوم اليقينية والاخلاق الرضية الذى يستقى (1) من تياره فحول الاسلام من اكابر العلماء الراسخين واشراف الزهاد العارفين كما هو مأثور عنه مشهور وفى اذهان الخلق مقرر مسطور، مع ما صدر عنه في ذم المزاح المفرط في هذه الكلمة وغيرها وما نقل عنه عليه السلام من الرد على العائب له بذلك وتكذيبه اياه وذلك قوله عليه السلام في ذكر عمرو بن العاص (2): يزعم لاهل الشام ان في دعابة وانى امرؤ تلعابة، اعافس وامارس، لقد قال باطلا ونطق اثما، اما وشر القول الكذب، انه ليقول فيكذب، ويعد فيخلف، ويسال فيلحف، ويسأل فيبخل، ويخون العهد، ويقطع الال، فإذا كان عند الحرب فاى زاجر وامر هو ما لم تأخذ السيوف مآخذها، فإذا كان ذلك كان اكبر مكيدته ان يمنح القرم سبته، اما والله انى ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وانه ليمنعه من قول الحق نسيان الاخرة، وانه لم يبايع معاوية حتى شرط له ان يوتيه أتية ويرضخ له على ترك الدين رضيخة.

ومن انصف من نفسه وقهرها عن متابعة الهوى وسلوك سبيل العناد علم ان هذه الالفاظ لم تصدر عنه عليه السلام وهو مرتكب لما ينكره من ذلك.

ويكفيك في معرفة فضل المعيب نقصان العائب المذكور بما اشتهر عنه مما ذكره عليه السلام فيه من الاخلاق الردية والافعال القبيحة فان من اجتمع فيه ان يكون كذوبا مخلافا للوعد بخيلا ملحفا (3) في السؤال يخون العهد ويقطع الرحم ثم ينضاف الى ذلك معجبا بنفسه لظنه الكاذب بنفسه في الحروب وغيرها انها مستحقة لمرتبة من الكمال مع انها ليست كذلك فيكون في ابتداء الحرب في صورة امر وزاجر ومشير مع انه ليس لشئ من ذلك بأهل حتى إذا اخذت السيوف مآخذها كان حينئذ مستشعرا لباس الخوف والجبن فرارا غير كرار وكان وجه خلاصه من الهلاك باظهار رذيلة الخبث والخداع عن اردء وجه واقبحه وهو كشف سوءته في رد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " يستسقى ".

(2) - انظر شرح النهج لشارح الكلمات (ص 210 - 209).

(3) - ا: " ملحا " (من الح بالحائين).

 

[ 163 ]

سيفه عليه السلام الذى لم يقتل به الا كافرا ومن هو في حكمه حتى صار ذلك مثلا يضمن الاشعار والاخبار الى يوم الدين قال: كما ردها يوما بسوأته عمرو، مع ما ظهر من نفاقه وكفره ببيع دينه من معاوية.

واذ كان عائبه عليه السلام بهذا النقصان المستلزم لنهاية - الخسران كفاك ذلك في معرفة حاله وكذب مقاله واستلزم ذلك فضل المعيب وشرفه قال أبو الطيب:

وإذا أتتك مذمتي من ناقص * فهى الشهادة لى بأني فاضل

والعدو إذا اطلق عنان هواه في اذى من عاداه اجتهد في قلب الفضائل رذائل وتصوير صحيح افعالة بصورة الباطل وخاصة عداوة عن حسد مرشح (1) بحقد صار عن مشاجرات ومجاهدات في الله وما اكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين (2) وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون (3).

 

الكلمة الرابعة عشر قوله عليه السلام: كفى بالظفر شفيعا للمذنب.

اقول: قد عرفت معنى الظفر ومنه القدرة على العدو والفوز، ومقصود هذه الكلمة الحث على التأدب عند الظفر بصاحب الجريمة بتشفيع الظفر فيه وترك اذاه وهو في الحقيقة اعني ذلك التأدب عند التعود به يكون اثرا للملكة المسماة بالحلم ويصير ملكة تسمى بالعفو، ثم انه عليه السلام اطلق لفظ الشفيع على معنى الظفر مع تباين حقيقتهما فان الشفيع كما علمت هو الشخص الذى يشفع المذنب في طلب الخلاص من جريمته بعد ان كان وترا، والظفر معنى من المعاني فتعرف (4) إذا انه اطلاق مجازى من باب الاستعارة والتشبية.

وبيان المناسبة ان الشفيع كما يكون غايته في التلطف والتماس الاعذار وتحمل (5) الامتنان ممن إليه الشفاعة هو ازالة الامور المتوهمة في المشفوع له من وهم المشفوع إليه وذاكرته أو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب ج د: " موشح ".

(2 و 3) - ذيل آية 103 و 106 سورة يوسف.

(4) - ب ج د: " فيعرف ".

(5) - ب ج د: " ويحمل ".

 

[ 164 ]

ازالة بعضها وبالجملة ما تسكن معه القوة الغضبية عن الحركة والتحريك في اذى المذنب والانتقام منه كذلك الظفر عند تحققه مزيل للحقد وكاسر للقوة الغضبية من الظافر عن التحريك لشهوة الانتقام اما لان المحرك لذلك الشوق وهو الوهم قد زال منه تصور الموذى أو لاعتقاد الظافر حالة ظفره قلة الاذى وعدم تأثيره في حقه وإذا لاحت هذه المشابهة الحسنه (1) لاح ان ذلك التجوز من احسن الاستعارات فكفى إذا بالظفر الذى في معنى الشفيع شفيعا للمحتاج الى الشفاعة في الصفح عن جريمته والتجاوز عن سيئته ومع ما ذكرنا فيه من سر فائدة تشفيعه وهى انه يحصل بالتعويد به الملكة المسماة بالحلم (2) له فائدة اخرى وهى ان تشفيع الظفر في الغالب موجب لانمحاء الحقد من جانب المظفور (3) به ايضا فيكون العفو عنه وترك الانتقام منه سببا لاعتقاده ايصال (4) المنفعة من العافى إليه فيكون ذلك سببا داعيا الى الميل الى جانب الظافر وموجبا لتبديل العداوة بالصداقة والوحشة بالانس والفرقة بالالفة والبغض بالمحبة، وكل ذلك قد عرفت انه مطلوب للعناية الالهية باجتماع الخلق وتكثرهم في الوجود فكفى إذا بالظفر شافعا حافظا للادب كاسرا للغضب واقيا من العطب موجبا للالفة والحب الذى فيه رضا الرب، والله ولى التوفيق.

 

الكلمة الخامسة عشر قوله عليه السلام: رب ساع فيما يضره (5).

اقول: السعي قد يكون سعيا ذاتيا وقد يكون عرضيا، اما السعي الذاتي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " الحسية ".

(2) - ج د: " بالحكمة ".

(3) - د: " المظفر ".

(4) - د: " اتصال ".

(5) - هو مروى في نهج البلاغة في وصية امير المؤمنين (ع) لابنه الحسن (ع) وشرحة الشارح (ره) هناك بقوله (انظر ص 524 و 526 من الطبعة الاولى): " نبهه بطريق التمثيل ايضا على التحرز في السعي والتثبت في ارتياد المصالح بقوله: رب ساع فيما يضره، فالاصل هو الساعي، والفرع هو المخاطب، والعلة هي السعي، والحكم هو التضرر ".

 

[ 165 ]

فانما يكون في تحصيل النافع لاعتقاد المنفعة المستلذ بها من جهته اما عاجلية كالسعي في تحصيل المنافع الدنيوية المستلذ بهاحسا، اواجلية كالسعي في تحصيل اللذات الباقية والخيرات الدائمة الموجبة لكمال النفس وسعادتها، واما العرضى فقد يكون نحو المنفعة وقد يكون نحو المضرة، مثال الاول اما نحو المنفعة الحاضرة فكمن يحتفر بئرا فيقع على كنز، واما نحو المنفعة الباقية فكمن يسعى في الاموال فيتفق له استاذ مرشد الى العلم بصير بمنهاجه فيهتدى به الى سواء السبيل.

مثال الثاني اما نحو المضرة فكمن يحتفر بئرا فتنهشه حيه أو يكون سببا لترديه فيه (1) واما نحو المضرة الاجلية فكمن يسعى في تحصيل العلم فيتفق له استاذ مضل جاهل فيكسبه الجهل بشبهه (2) فيبقى منكسا في الظلمات، وفى درج هذه الاقسام اقسام اخرى بحسب اعتبارات اخر غيرى ان ما ذكرناه كاف في بيان المطلوب، إذا عرفت ذلك ظهر لك ان الساعي فيما يضره جزء من كل بالنسبة الى مطلق السعاة الطالبين للمطالب فلا جرم استعمل سلام الله عليه ههنا لفظ " رب " المقتضية للتقليل، وهذه الكلمة مستلزمة لوجوب التيقظ والاحتراز في المساعى والاجتهاد في تمييز نافعها من مضرها ولزوم القانون العدلى في تعرف كيفية السلوك للصراط المستقيم فان الباطل قد يكون بصورة الحق بالنسبه الى اوهام كثير من الخلق، والكذب في كثير من مخارجه وقد (3) يتشبه بالصدق، والله ولى الهداية.

 

الكلمة السادسة عشر قوله عليه السلام: روحوا القلوب فان القلب أذا أكره عمى.

اقول: المراد بالقلب النفس والاكراه الالزام لما يكره وروحوها اي ارددوها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - كذا في النسخ والصحيح: " فيها " لان البئر مؤنثة قال الله تعالى: " وبئر معطلة ".

(2) - ا ج د: " بشبهه " (بلفظ المفرد لا باضافة جمعه الى ضمير الاستاذ كما في المتن ".

(3) كذا، وفى نسخة د: " قد " (بلا واو).

(4) - ج د: " عادته ".

 

[ 166 ]

عما هي عادية (1) فيه من قولهم: روح ابله إذا ردها وقت الرواح من السوم الى المنزل، والعمى ذهاب البصر من العينين معا وهذه الكلمة من التأديبات الصلاحية للسالكين في العلوم والاعمال والمقصود بها ان القوى البدنية التى هي الات النفس في التوصل (4) - الى مراداتها المتعلقه بالبدن لاشك انا متناهية القوة فلا تقوى على الاعمال الغير المتناهية فإذا وجهتها النفس في تحصيل المطالب فتحركت كثيرا فانه حينئذ يحصل لها من الكلال والملال ما يوقف النفس عن العمل لضعف آلاتها (3) وملالها وربما بقى فيها ميل ونزاع (4) وان ضعفت التها وملت قوتها الفكرية الا انه إذا كان كذلك فينبغي ان الا تبالغ النفس في المعاطفة (5) على ذلك الفعل بعينه فانها ان فعلت ذلك خارت (6) قوتها الفكرية التى هي عينها التى تبصر بها وجوه المطالب ووهت (7) فزال نورها وذلك معنى العمى ولم يمكنها فتح ذلك البصر واستعادة ذلك النور الاعلى عسر لنفار الطبع عن المعاودة من تصور الوهم للموذى، وعرفت من هذا ان اطلاق معنى العمى على ما ذكرناه استعارة حسنة للمشابهة البينة من بحثنا فينبغي للساعي في تحصيل المطالب الفكرية ان لا يقهر نفسه و (لا) يلزمها السعي فيما عجزت عن تحصيله بل يروحها كما يروح صاحب الابل ابله لمراعاة مصالحها وحفضها من (8) العمى بالاكراه كما يراعى ذو السائمة ابله ويحفضها من العطب فان النشاط فيما يصرفها إليه ويسميها فيه بعد ذلك اتم والميل اصدق بحسب تجدد قوة القوى ونشاطها.

فان قلت: هذا التأويل يتوجه عليه شكان: الاول ان الترويح يستدعى مروحا ومروحا والنفس لا تكون مروحة لنفسها فلما كانت هي المروح وجب ان يكون المروح غيرها ؟ ! الثاني ان الاكراه يستدعى مكرها ومكروها، والنفس لا يتصور ان تكون مكرهة لنفسها ؟ !

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " عادته ".

(2) - ب: " في توصل ".

(3) - ب ج د: " آلتها ".

(4) - ب ج د: " ميل ولها نزاع ".

(5) - ب ج د: " المواظبة ".

(6) - ا ج د: " حارت ".

(7) - ا: " ورهت " (بالراء المهملة في فاء الفعل).

(8) - ا: " عن ".

 

[ 167 ]

قلت: الجواب عن الاول ان المروح للنفس هو النفس من جهة عقليتها (1) للمصلحة في ذلك والمروح هو ايضا باعتبار ضعف آلتها حال ضعفها والى مثل ذلك اشير في التنزيل الالهى: يا ايها الذين امنوا قوا انفسكم واهليكم نارا (2)، فان المعطى للنفس الوقاية هو النفس من جهة كونها عاقلة لمصالحها وما يجب ان تفعل، ولاخذ للوقاية هو هي ايضا من حيث كونها قادرة متمكنة مما فيه مصلحتها وذلك غير متناف.

وعن الثاني ان المكره للنفس هو هي من جهة عقليتها لما ينبغي ان يفعل وغلطها في ذلك فالمكره على ذلك السعي هو هي ايضا من جهة كونها قادرة على التصرف.

فائدة - لو حملنا القلوب على القوى المفكرة باعتبار والمتخيلة بأعتبار وحملنا المروح لها على النفس الناطقة وحملنا المكره عليها والمكره على تلك القوى وحملنا على عدم انتفاع النفس بها وعدم رؤيتها لوجوه المطالب بواسطتها لكلالها وملالها حتى كان ذلك صالحا لان يكون هو المراد أو قريبا منه، والله ولى التوفيق.

 

الكلمة السابعة عشر قوله عليه السلام: الادب صورة العقل.

اقول: قد عرفت معنى الادب ومعنى الفعل، واما الصورة فتطلق ويراد بها في الظاهر ما يشاهد من الشكل والهيئة وتسمى صورة شخصية وتطلق في عرف قوم ويراد بها الجوهر الحال في المحل المقوم لما يحله (3) ويتحصل متحيزا باقترانه به وتسمى صورة طبيعية وتسمى محله مادة ويسمى المركب منه ومن محله جسما طبيعيا، وتارة يراد به ما يقع به اختلاف انواع الجسم بعد اشتراكها في الصورة الجسمية العامة وتسمى تلك صورة نوعية، وقد اطلق عليه السلام ههنا لفظ الصورة على الادب مجازا، والاشبه ان ذلك المجاز

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - عقليها ".

(2) - صدر آية 6 سورة التحريم.

(3) - ا: " يحله فيه ".

 

[ 168 ]

عما سميناه صورة شخصية ووجهه المناسبة بينعها ان الصورة الشخصية لما كانت سببا يعرف به كل شخص شخصا (1) ويميز الرائى بها (2) بعض الاشخاص عن بعض ويستثبتها خياله كذلك الادب هو سبب يوضح امر صاحبه ويستبدل بوجوده فيه على وجود استعداده للنفحات الالهية الذى هو عقله، وبتفاوته يستدل على تفاوت العقول ومغايرة بعضها لبعض كما يستدل بتفاوت الصور في حسنها وقباحتها على اختلاف الاشخاص وتغايرها.

وإذا لاح وجه التجوز الحسن ونظرت الى المعنى المجازى المستحسن فقد اشرفت من (3) مصدرها (4) على بحر لا يعام وادركت صورة غاية لا ترام، وفى هذه الكلمة تنبيه على وجوب لزوم قانون الادب الكاشف عن وجود معنى العقل والمقرر له، والله يختص برحمته من يشاء (5) وهو الموفق.

 

الكلمة الثامنة عشر قوله عليه السلام: اليأس حر والرجاء عبد.

اقول: الرجاء توقع حصول المطلوب، واليأس عدم الرجاء عما من شأنه ان يكون راجيا ثم نقول: ليس المقصود ان اليأس نفسه له صفه الحرية ولا الرجاء له صفه العبودية بالحقيقة بل الراجى والآئس فإذا اطلاق هذين اللفظين على معنى اليأس والرجاء بحسب المجاز من باب اطلاق اسم المتعلق على المتعلق والمقصود بيان ان الراجى لامر ما اما من الله تعالى أو من احد من ابناء النوع لا يزال ما دامت نفسه منتظرة لذلك المرجو خاضعا للمرجو منه متذللا له، ذابا عنه ساعيا في مصالحه مجتهدا في ارضائه بكل انواع الرضا ويظهر الملق والتودد، ويحتمل (6) المشاق في المساعى من الذم وغيره حتى تجده في رجائه من عالم الخفيات والسرائر امرءا يبتهل ويدعو ويكثر زيارة المساجد ومواضع القرب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - اب: " كل شخص شخص ".

(2) - اب: " لها ".

(3) - ا: " في ".

(4) - ج د: " مصادرها ".

(5) - مأخوذ من القرآن المجيد من آية 105 سورة البقرة.

(6) - ا: " تحمل ".

 

[ 169 ]

ويوجب على نفس المنذورات في خلاص ما يرجوه ووصوله إليه ولا معنى للعبودية الا ذلك فان الخضوع والتذلل ههنا اتم ما يكون ان يكون، واما بيان ان الائس حر، فظاهر، إذ منقطع الرجاء من الشئ متخلص العنق من وثاق التذلل والخضوع للمرجو منه، وان كان اطلاق لفظ الحر والعبد على الراجى والائس مجازيا بالنسبة الى من وضعا له.

وههنا نظر اخر - وذلك ان الحر يقال على ذي الفضيلة النفسانية التى بها يكسب المال من وجهه، ويعطى ما يجب في وجهه، ويمنع من اكتساب المال من غير وجهه، ويقابله العبد لمن له ضد تلك الفضيلة من الرذائل (1) ومعلوم ان الاول انما كان قادرا على التصرف المذكور بحسب قهر النفس الامارة بالسوء وتطويعها للنفس المطمئنة وانقيادها في اسرها، وان الثاني انما لم يقدر على ذلك لغلبة النفس الامارة على النفس المطمئنة وجذبها لها الى المشتهيات الدنية واللذات البدنية فإذا كان كذلك لاح لك حينئذ ان الراجى لامر فان لما كانت قوته الشهوية قائدة لعقله الى الطمع فيما لا ينبغى ان يطمع في وتوقع ما لا ينبغى ان يتوقع ولا يجوزان يشغل النفس بطلبه لاجرم كان عبدا لتحقق معنى العبودية فيه وهى الرذيلة الصادرة عن متابعة الشهوة، وان الائس لما كان منقطع الرجاء وزائل الطمع في هذه الاشياء دل ذلك على قهر قوته العاقلة لهواه ومتى كان كذلك كانت نفسه متحصلة لتك الفضيلة المسماة بالحرية فلا جرم كان حرا، والاعتبار الاول أظهر وأشهر والثانى أدق عند النظر، والله ولى التوفيق.

 

الكلمة التاسعة عشر قوله عليه السلام: من لانت أسافلة صلبت أعاليه.

اقول: المراد بالاسافل السبة (2) والاليتان، واللين الخنث وهو الاسترخاء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - د: " من الرذيلة ".

(2) - السبه (بضم السين وتشديد الباء) الاست.

 

[ 170 ]

والتكسر (1) لا مطلقا فان مطلق استرخاء ما ذكرنا لا يلزمة صلابة الاعالى بل على وجه خاص وهو ان يكون ذلك عن مباشرة الرجال والاتيان في ذلك المحل للشهوة العارضة الداعية الاتيان فيه ويسمى صاحب هذا الفعل مخنثا لكون الاسترخاء من لوازم ذلك الفعل إذ كان صاحب هذه الشهوة كثيرا ما يميل الى طباع النساء وخاصه في البلدان الحارة الرطبة فاطلاق الخنث على هذه الشهوة اطلاق اسم اللازم على ملزومه.

واما الاعالى فالوجه واللسان والعين، وليس المراد صلابتها عدم قبول الانغماز فان قبولها للانغماز ظاهر بل المراد القحة والخشونة المتعارفة التى تصدر عن عدم الحياء كما ستعرفه في الكلمة التى بعد هذه الكلمة.

واما السبب في تحريك هذه الشهوة فهو قوة تخيل (2) اللذة في هذا الفعل الباعثة لتحريك الشهوة بقوة وكثرة الاسباب المادية (3) للشهوة وقوتها في بعض الامزجة.

ثم قد يكون الاستعداد لهذا الانفعال والتخيل لازما لوجود الشخص من اصل مادته فتراه من حيث الصبا (4) وقبل تمام الشهوة منخنث (5) الكلام يتعانى (6) لين كلمات النساء وكثيرا ما يرجى (7) لمثل هذا فلاح، وقد يكوهن ذلك الاستعداد عارضا اما عن عادة لذلك الفعل حدث ابتداؤها عن اجبار أو عن اختيار فتكون الحركة عن ذلك الاستعداد الى ذلك الفعل والمبادرة إليه سريعة.

واما بيان لزوم التالى للمقدم فهو ان ذلك الفعل لما كان أقبح ما يرتكبه الانسان في العرف وبين اهل العالم وكان التظاهر به مستلزما لاطفاء نور ملكة الحياء من وجه الفاعل المستلزم لغلظ الوجه وقحة الحدقة لا جرم كانت صلابة الاعالى لازمة للين الاسافل كما سنزيده تقريرا في الكلمة التى تأتى بعدها.

وقد عرفت ان هذه الكلمة مستلزمة للتنبيه على قبح ارتكاب هذا الفعل لقبح ما يلزمه من الرذائل التى يجب اجتنابها وتطهير النفس عنها، والله يطهر سرائرنا عن ملكات السوء انه ولى كل نعمة، وبه التوفيق والعصمة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " والتكسير " ج د: " والتليين ".

(2) - ا: " تخييل ".

(3) - ا: " المادة ".

(4) - ب ج د: " الصبى ".

(5) - د: " متخنث ".

(6) - كذا في النسخ ولعل الصحيح: " يتعاطى ".

(7) - ب ج د: " لا يرجى ".