[ 192 ]

الكلمة الرابعة والثلاثون قوله عليه السلام: من أبدى صفحته للخلق (1) هلك.

أقول: صفحه الشئ جانبه وأبدى اي، اظهر، والهلاك في الاصل السقوط وكل ساقط عن حالة (2) هي في نفس الامر كمال وخير فهو هالك واعلم ان لهذه الكلمة في كلامه عليه السلام تتمة توضح معناها وهى: من أبدى صفحته للخلق (3) هلك عند جهلة الناس، وحينئذ يلوح لك ان المقصود من جود نفسه لمقابلة الجهال من الخلق الذين لا يعرفون قدر نفوسهم وما هي عليه من رذيلة الجهل والنقصان اللازم لها وزحمهم (4) بجانبه في اظهار الحق ونصرته وشهر سيف العصبية (5) عليهم فيه وحملهم على ركوب طريق (6) العدل من غير ان يشوب تلك الخشونة بلين ويخلط تلك الصعوبة بهون هلك فيما بينهم فلم يلتفتوا إليه وضاع فلم يقبلوا عليه لجهلهم (7) بقدر الحق وعدم اطلاعهم على المقاصد التى ينبغى ان تسلك وتعودهم بارتكاب أضدادها ذلك بل نفروا منه وأبغضوه وعادوه لمخالفة (8) اكثر الخلق (9) الذى ألزمهم به لاغراضهم الفاسدة وربما ادى ذلك الى قتله وإفنائه أو اجتلاب (10) انواع الاذى عليه بسبب قوة الاذى الحاصل لهم من تطعم (11) مرارات الحق وضعفه بالنسبة الى اشخاص الجهال ونفارتهم (12) في قبول الحق وعدم قبوله.

وهذه الكلمة من أظهر الدلائل على انه عليه السلام كان أعرف الناس بوجوه التدبير وأحسنهم ايالة وانه كان مقتدرا على اصلاح الدارين متسع القوة للجمع بين الاطراف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " للحق ".

(2) - اب: " عن حاله " (بالاضافة الى الضمير).

(3) - د: " للحق ".

(4) - ج د: " رحمهم ".

(5) - ج د: " الغضبية ".

(6) - اب: " الطريق ".

(7) - بجهلهم ".

(8) - ج د: " لمخارقة ".

(9) - ا ج د: " الحق ".

(10) - ب ج د: " واختلاف ".

(11) - ب: " طعم ".

(12) - ب ج د ل: " وتفاوتهم ".

 

[ 193 ]

المتجاذبة إذ كان معلما بهذه الكلمة انه كيف ينبغى ان يستعمل الانسان اظهار الحق فانه لما ثبت ان الكاتم للحق الغير العامل به بالكلية مع تمكنة من استعماله في بعض موارده أو في كلها هالك فكذلك ينبغى ان يعلم ان المجاهر بالحق بالكلية والمقابل له أباطيل الجهال وأغراضهم الفاسدة هالك، فلم تبق السلامة الا في مزج الاظهار بالاخفاء وخلط - المجاهرة بالرفق وضرب الخشونة باللين والترخيص (1) لهم بالسكوت عنهم عند شوب الحق بالباطل مرة والعزم عليهم والقيام في وجوههم في نصرة الحق مرة بحسب ملاحظة العقل (2) للمصالح الجزئية المتعلقة بشخص شخص ووقت وقت، والله ولى التوفيق.

 

الكلمة الخامسة والثلاثون قوله عليه السلام: إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة.

اقول: الاملاق الفقر والحاجة، والمتاجرة المعاملة في التجارة والمقصود في هذه الكلمة الحث على العبادة المخصوصة التى هي الصدقة عند الاحتياج بما يمكن فان للصدقة ولو بشق تمره حظا عظيم النفع في الدارين وبها تحصل الاعواض التى لا تقابل بالشكر ولا يحصيها العد والحصر.

اما في الاولى (3) فلان المملق المحتاج الى التيسير من العيش يكون في الغالب شره النفس محافظا على ما يحصل في يده لشدة حاجته إليه وخوفه ان لا يقدر على مثله فإذا فرضنا انه يتصدق به أو ببعضه (4) مع ما به من الحاجة إليه دل ذلك منه على اشتماله على ملكة العفة التى عرفت ان بها يكون استعداد النفس لاستجابة ثمرات الادعية وقبول - ابتهالاتها في المطلوبات الممكنة.

وايضا فان النفوس الى مثل صاحب هذه الصدقة كثيرة - الانجذاب، والميول الطبيعية إليه متداعية وخاصة إذا عرف بذلك واشتهر به فكثيرا ما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - اج: " الترخص ".

(2) - ب: " الحق ".

(3) - ب: " الاول ".

(4) - ج د: " يصدق به أو ينفق ".

 

[ 194 ]

يكون ذلك ايضا سببا لادرار الارزاق عليه وعلة لدفع (1) الصلات (2) والمنح إليه، وقد علمت ان من تاجر الله لم يخسر.

واما في الاخرى فلان صاحب هذه الصدقة مع ما فرضنا (3) من حاجته إليها إذا بذلها كان ذلك دليلا على معرفته بأنه لا متاجرة أربح من متاجرة الله وذلك مستلزم لمعرفته بالله ومع ذلك فقد استعدت نفسه بسبب قهرها للقوة الشهوية وضبطها لها عن الضنة بما بذله مع حاجته إليه ومقاومتها وكسرها عن الشره (4) في المشتهيات لقبول انوار عظيمة ونعم جسيمة لا يقاومها شكر، واليه الاشارة بقوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون (5) وقوله تعالى: ان تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم (6) وقوله تعالى: وما تنفقوا من شئ في سبيل الله يوف اليكم وانتم لا تظلمون (7) وأمثال هذه الاشارات كثيرة في القرآن والسنة، ومع ذلك فان فيها من تحصيل الانس الموجب للمحبة بين الخلق المطلوبة منهم بالعناية الالهية لتحصيل السعادتين واستكمال درجة الفوز ما لا يخفى، والله الموفق.

الكلمة السادسة والثلاثون قوله عليه السلام: من جرى في عنان أمله عثر بأجله.

اقول: أراد بالجرى في عنان الامل تطويل الامال المستلزمة لقلة الالتفات الى القبلة الحقيقية والمطالب العلية، والعثور بالاجل الوقوع في الوقت الذى علم الله تعالى فيه مفارقة النفس للبدن (8) وهى الضرورة المسماة بالموت، فأسند عليه السلام العنان الى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " لرفع ".

(2) - ا: " الضلات " (بالضاد المعجمة).

(3) - ب: " فرضناه ".

(4) - ب: " الشرة ".

(5) - صدر آية 92 سورة آل عمران.

(6) - آية 17 سورة التغابن.

(7) - ذيل آية 60 سورة الانفال.

(8) - ب ج د: " البدن ".

 

[ 195 ]

الامل تشبيها له بالفارس المطلق عنان فرسه، والعثور الى الاجل تشبيها له بما يعثر به الانسان من حجر أو خشب، وكل هذه تجوزات حسنة في الاسناد لطيفة المشابهة، فان حركة القوة الشهوية الى المشتهيات (1) لاعتقاد حصولها تشبه جرى الفرس، وكون النفس هي المستعملة لتلك (2) القوة والمصرفة (3) لها يشبه الركوب للفرس، الا ان هذه القوة فرس عقلية، وقدرة النفس على ضبط تلك القوة مع عدم ضبطها مشبه لاطلاق عنان الفرس ونسبه الجرى إليه نسبة صادقة فان الفارس تنسب إليه الحركة والجرى وان كانت نسبة عرضية والحركة الذاتية للفرس كذلك الجارى في عنان امله تنسب إليه الحركة الا انها لقوته الشهويه بالذات ولقوته العقلية بالعرض، وكون الجارى في عنان الامل واقعا في الضرورة المذكورة التى لا بد منها يشبه وقوف (4) رجل (5) الجارى في حجر أو خشب يقع بسببه المسمى ذلك عثارا إذ (6) كانا معا مستلزمان لاذى من يقع فيه، وبعد معرفتك بهذه التجوزات وحسن وجوهها تجد المعنى من هذه الكلمة ظاهرا.

واما تخصيص هذا الحكم الذى هو غاية كل انسان بل كل حيوان بمن جرى في عنان امله دون غيره ممن يستقصر الامال ويستصغر الدنيا فليس لاجل ان من استقصر الامل خارج عن هذا الحكم بل لتنبيه مطيل الامل الغافل بسبب ذلك عما يراد به وما هو مطلوب من وجوده وايقاظه من رقدة الغافلين على ان المطلوب منه ليس ما يخوض فيه بالجرى في (7) التماس امثاله فان ذلك لابد من زواله والعثور بضرورة الموت اللازمة للحيوان فينبغي ان يجرى الامل على القانون العدلى المطلوب بلسان التنزيل الالهى والسنن النبوية ويجعل الحظ الاوفر من الالتفات لما وراءه من تحصيل السعادات الباقية والخيرات الدائمة، والله يؤتى كل ذي استعداد من الفضل اتمه، وهو الموفق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج: " الى المسترعيات " د: " النزعيات " فلعل النسختين: " المستدعيات " أو " الرغبات ".

(2) - ا: " بتلك ".

(3) - ج د: " المفرقة " (بلا واو أيضا).

(4) - كذا ولعل الصحيح: " وقوع ".

(5) - كذا.

(6) - ا: ان " ج د: " إذا ".

(7) - ا: " من ".

 

[ 196 ]

 

الكلمة السابعة والثلاثون قوله عليه السلام: لا تتكل على المنى فانها بضائع النوكى.

اقول: المنى جمع منية وهو الشئ المتمنى كقوله: ان سعدى لمنية المتمنى، والبضائع جمع بضاعة وهى البعض من المال تبعثه (1) للتجارة، والنوكى جمع أنوك وهو الاحمق، والمقصود من هذه الكلمة النهى عن اشتغال النفس بتمني الامانى فان ذلك الاشتغال قد يعرض ولا يزال يتزايد حتى يكسب النفس ملكة الوسواس والالتفات عن الانتقاش بنور الحق وسواد لوح الخيال عن قبول المنامات الصافية والالهامات الخالصة.

ثم انه عليه السلام نبه على قبح ذلك بان ذلك بضائع الحمقى لتنفر نفوس العقلاء عن اقتناء هذه البضاعة واتخاذها في تجاراتهم إذ كان العاقل لا يرضى لنفسه تصرفات الاحمق وحركاته.

واما اطلاقه عليه السلام البضاعة على المنى فاستعارة حسنة فان ناقصى العقول الذين ليس لهم ملكة الانتقال الى المعقولات الثانية الناقصين في استعدادهم لاصلاح معاشهم ومعادهم في اكثر الاحوال طالبون (2) لمتخيلاتهم الغائبة أو الغير الممكنة الحصول متمنون لها عن تخيلاتهم القاصرة عن ضبط القوة الصادرة عنها قواهم العقلية اما لضعفها وقوة سلطان الوهم عليها أو لاختلال تلك القوى وقلة صلوحها لتدبير العقل وتصريفه فكأنها حينئذ بضائع لهم ينتظرونها فكما يتوقع التاجر وصول البضاعة التى بعث به للتجارة ومكاسبها كذلك تجد هؤلاء متوقعين متمنين لما يتخيلونه من ضروب اللذات وأنواع المشتهيات ويقطعون بذلك أزمانا حتى ربما صدتهم تلك الامانى عن اشغال مهمة لهم فضلا عما يعنيهم من امر الدين وما يجب عليهم من الامور المقربة الى الله تعالى فينبغي للعاقل إذا عرف سر هذه البضاعة وما تؤدى إليه من الخسران ان يعرض عنها الى استنصاع (3)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " ينبعثه ".

(2) - ا: " الطالبون ".

(3) - ا: " استبصاع " ج: " اصطناع ".

د: " اصطباع.

 

[ 197 ]

فكره في استفادة الجواهر العقلية وارباح النفائس النفسية (1) فان ذلك هو التجارة الرابحة ويهرب من متابعة شيطانه في تحسين البضائع المذكورة له فان من كان تلك بضاعته لم يصبح ليله الا وهو في أسر الشيطان وصفقة الخسران، ولم تزل عين بصيرته عن ادراك الحقائق خاسرة، ويد عقله عن تناول فواكه الجنة قاصرة، يا ويلتا ليتنى لم اتخذ فلانا خليلا * لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للانسان خذولا (2)، والله ولى العصمة.

 

الكلمة الثامنة والثلاثون قوله عليه السلام: لا شرف اعلى من الاسلام.

أقول: الشرف العلو، والاسلام في اللغة الانقياد، وفى الشريعة الانقياد بحسب الاوامر والنواهي الشرعية وتلقيها بالقبول والطاعة والعمل بمقتضاها بحسب الجهد والطاقة، وقد عرفت ان الغاية القصوى منه انما هو الوصول الى الواحد الحق والحصول في المقعد الصدق، وان ذلك الوصول والحصول موقوف على جلاء مرائى الناقصين من درن (3) الباطل حتى تصفو وجوه ألواحهم وتستعد لقبول الانتقاش بالجلايا وعرفت ان ذلك الجلاء والصفاء لن يحصل الا بزوال المانع منه وذلك المانع اما خارجي واما داخلي، اما الخارجي فهو تنحية ما سوى الحق الاول عن سواء السبيل، وحذفه عن درجة الاعتبار، وتنزيه السر عن الاشتغال به عن الحق، وذلك هو الزهد الحقيقي، واما الداخلي فهو تطويع النفس الامارة بالسوء للنفس المطمئنة لتزول دواعى الشيطان الى خيبة (4) الخسران ويخلص سر الانسان لقبول الرضوان وقد عرفت كيفية ذلك التطويع وأسبابه وغايته، والجامع الاجمالي لازالة الموانع قوله تعالى: وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " النفيسة ".

(2) - آية 28 و 29 سورة الفرقان.

(3) - ا ج: " دون ".

(4) - اب: " جنبة ".

 

[ 198 ]

عن الهوى (1) فخوفه ما عداه، ونهيه لنفسه قهره لقواه، حتى إذا تخلى عن هذه الموانع لبه تجلى (2) حينئذ بنور قدس الحق قلبه.

لا يقال: لا نسلم أن هذا هو الاسلام فانا نعلم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وآله كان يحكم باسلام من أظهر الشهادتين وعمل بالاركان وان لم يكن له شئ مما ذكرتم فان واحدا من الاجلاف الجافين (3) من الاعراب الذين (4) يقدمون ويظهرون الاسلام لا يتصور (5) شيئا مما ذكرتموه.

وأيضا فلو كان الاسلام هو الذى ذكرتموه لما كان في الخلق مسلم الا افرادهم وذلك باطل بالاتفاق لانا نقول: الاسلام له معنيان ظاهري وحقيقي والذى ذكرناه وبحثناه انما هو الحقيقي والذى ذكرته هو الالسلام الظاهرى ولاشك فيه وفى تسمية صاحبه مسلما الا ان قول الاسلام عليهما بحسب الاشتراك اللفظى لتباين المعنيين فصاحب الاسلام الظاهرى وان سمى مسلما الا ان اسلامه غير منتفع به وليس اسلامه ذاك هو الذى لاشرف أعلى منه قال صلى الله عليه آله: ان الله لا ينظر الى صوركم ولا الى اعمالكم ولكن ينظر الى قلوبكم، الا انه لما كان مظنة ان يكون وسيلة الاسلام الحقيقي وطريقا إليه وجب اتخاذه (6) والمشاركة بين صاحبه وبين المسلم الحقيقي في الاسم والحكم، قال (ص): الرياء قنطرة الاخلاص.

وقال (ص): من رتع حول الحمى اوشك ان يقع فيه، فلا منافاة إذا بين القولين.

واذ عرفت ذلك ظهر لك ان شرف الاسلام أكمل أنواع الشرف فان الشرف الحقيقي للانسان انما هو كمال جوهر نفسه وصيرورته عقلا مستفادا الذى هو الاسلام الحق لا الكمال الوهمي من مال أو جاه أو انتساب الى كرم اصل فانك قد عرفت ان الفخر والشرف بأمثال ذلك مما لا ينبغى ان يعتد به لفقد الكمال في المفتخر والمتشرف وخلوه منه وذلك سر قوله عليه السلام: لا شرف أعلى من الاسلام، والله ولى التوفيق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - آية 40 سورة النازعات.

(2) - اب: " تحلى " (بالحاء المهملة).

(3) - د: " والجافين ".

(4) - اب د: " حين ".

(5) - في جميع النسخ: " لا يتصورون ".

(6) - اتحاده " (بالحاء والدال المهملتين).

 

[ 199 ]

 

الكلمة التاسعة والثلاثون قوله عليه السلام: لا شفيع انجح من التوبة.

أقول: عرفت معنى الشفيع، والنجاح الظفر وقد يراد به الصواب من قولهم: رأى نجيح اي صواب، والتوبة الاقلاع عن الذنب ويعتبر في تحققها ثلاثة قيود، اولها - ترك الفعل في الحال، والثانى - الندم على الماضي من الافعال.

والثالث - العزم على الترك في الاستقبال، وقد استعمل عليه السلام لفظ الشفيع على المعنى المسمى بالتوبة مجازا من باب الاستعارة، ووجه المناسبة ان الشفيع كما يقصد ليكون وسيلة الى استسماح (1) الجريمة كذلك التوبة عن المعصية يقصد ليكون وسيلة الى سقوط الجريمة وعدم لحوق العقاب عليها ويكاد حسن هذا التشبيه يلحق هذا المجاز بالحقيقة حتى تكون التوبة من جملة أشخاص الشفعاء التى اطلق (2) عليها لفظ الشفيع بحسب الوضع والمقصود ان التوبة اظفر شفيع بقضاء المطلوب من كل شافع وذلك باطباق العلماء على انها لاترد، اما المعتزلة فيوجبون اثرها على الله، واما الحكماء فيوجبون اثرها من الله، وإذا حقق مذهب ابى الحسن الاشعري رجع الى المذهب الثاني وان قال اثرها بفضل (3) من الله إذ (4) كان استقصاء مذهبه يعود الى ان ذلك التفضل فيض العناية الالهية للرحمة على نفس استعدت بالتوبة للقبول وذلك في الحقيقة واجب من الله.

واعلم ان من جزالة هذا اللفظ مع وجازته انك مخير في حمل لفظ النجح فيه على اي معانيه الثلاثة (5) شئت (6)، اما الاول فقد عرفته.

اما بمعنى السرعة فلانه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - د: " استماح ".

(2) - يطلق ".

(3) - كذا في ب ج د، وأما نسخة ا فالعبارة فيها هكذا اثرها من الله ".

(4) - ب: " إذا ".

(5) - ب: " الثلاث ".

(6) - في النسخ: " سبب ".

 

[ 200 ]

لا وسيلة الى حصول الشفاعة اسرع من التوبة إذ كانت النعمة المفاضة على العبد المذنب من ربه غير موقوفة الا على قبوله واستعداده بتحققها.

واما بمعنى الصواب فلانه لا شفيع أصوب في قبول الرحمة من واهبها من التوبة إذ كان التوسل بغيرها من بذل مال أو نفس في مجاهدة ظاهرة أو غير ذلك مع الاصرار على المعصية وعدم التوبة منها غير نافع ولا مخلص من العذاب الحاصل بسبها فالتوسل بها إذا أصوب رأى يراه صاحب الجريمة وقد اكثر الله تعالى في تنزيله من الحث عليها والامر بها ومن وعد التائب وحمده إذ كانت التوبة سببا عظيما من أسباب السعادة الابدية وبها النجاة من اغلال الهيئات المردية فقال عز ذكره: يا ايها الذين آمنوا توبوا الى الله توبة نصوحا (1) بترك محقق وندم صادق وعزم جاز عسى ربكم ان يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الانهار (2) إرجاء واطماعا من غير جزم ايقاعا للذة الدغدغة النفسانية الحاصلة من الرجاء كيلا - ييأسوا من رحمته فينهمكوا في المعاصي بجرأة (3) وبقاء للخوف الناشئ من الوعيد عليها بالاشفاق فيتقهقروا عنها بسرعة، وقال تعالى: انما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب (4) قبل ان يتمكن من جواهر نفوسهم عقارب ابدانها فلا يبقى لها قبول اثر دواء طبيب الاطباء ولا يرجى لها برء ولاشفاء، وليست التوبة للذين يعلمون السيئات حتى إذا حضر احدهم الموت قال انى تبت الان ولا الذين يموتون وهم كفارا، الاية (5).

وفى هذه الكلمة تنبيه باعث على المبادرة الى التوبة إذ كان الجاني انما يجتهد في انجح وسيلة لاستسماح جريمته وتنجيز أظفر شفيع لاستغفار خطيئته ويبالغ في احسن الاعذار لمحو سيئته وقد ثبت ان التوبة اعظم شفيع وانجحه واسرعه وانفعه فيما ان بقى كان مهلكا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) صدر آية 8 سورة التحريم.

(2) - من بقيه آية 8 سورة التحريم.

(3) ب: " بجراءة.

(4) - صدر آية 17 سورة النساء وذيلها: " فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله حكيما عليما ".

(5) - آية 18 سورة النساء.

 

[ 201 ]

شر هلاك فيجب على صاحب الجريمة عن يحرص عليها ولا يقصر في المبادرة إليها ويستغنم (1) فرصة المهل ولا يسوف في الامل فيقع في خطر فوات العمل بحلول الاجل فيكون وجوده عدما له وشرا وحياته موتا وضرا، والله ولى التوفيق للصواب.

الكلمة الاربعون قوله عليه السلام: لا لباس اجمل من العافية.

اقول: اللباس بكسر اللام ما يلبس من ثوب وغيره محسوسا كان أو معقولا إذ يقال: لبس فلان الامر الفلاني وتلبس به إذا دخل فيه، والجمال الحسن والبهاء، والعافية السلامة من كل مكروه من قولهم: اعفي من كذا وعوفى منه اذالم يصب به والمقصود بيان افضلية الجمال الحاصل من لباس العافية على غيره من انواع الجمال وهذه القضية ضرورية وجدانية فان كل عاقل يجد من نفسه ان ملائمة الكمال الحاصل من التجمل بثوب أو غيره من أنواع الجواهر لطبعه مستحقر في جانب لذته بحصول العافية عن (2) حمى يوم و (3) التجمل بلبسها فضلا عما هو أفضل من ذلك كالعافية من الذم أو استحقاق العقاب أو غير ذلك.

فإن توهّم متوهّم وقال (4) عن وهمه: التفاوت في الجمال انما هو بحسب التفاوت في الخيرية واللذة ونحن نجد ان اللذة بجمع الاموال وغلبة الرجال والمباضعة أتم من اللذة بالعافية التى نحن فيها ؟ - فجوابه من وجهين اما لاول - فلان كل ما زعمت انه لذيذ فلذته بالحقيقة عافيته من بلاء الالم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - كذا ولم اجد استعماله في كتب اللغة فلعله: " يغتنم ".

(2) - ا: " من ".

(3) - ب: " أو ".

(4) ج د: " متوهم مال ".

 

[ 202 ]

الحاصل من فقد ذلك اللذيذ وراحته بالنسبة الى التعب الحاصل من طلبه واما ثانيا فلان من شرط الالتذاذ حصول اللذيذ مع الشعور بوجه الالتذاذ لكن الشعور غير حاصل لذى العافية بالكمال الذى هو العافية فان استمرار المحسوسات واستقرارها يذهل النفس عن ادراكها فان اردت التنبه لشرف هذا الكمال فانظر الى طويل المرض عند الرجوع الى الحالة الطبيعية وحدوث العافية عليه بسرعة غير خفية التدريج كيف يجد اللذة التامة الصادقة بل ربما حصل اللذيذ فكره كما يكره بعض المرضى الحلو فضلا عن ان لا يكون إليه باعث شوق ولا يقدح ذلك في كونه لذيذا لانه ليس بكمال بالنسبة الى ذلك المريض في حاله تلك إذ ليس بشاعر به بالحس من حيث هو كمال وخير وذلك يبين صحة ما قلناه، وفى دعوات الائمة رضوان الله عليهم: اللهم انى أسالك العافية وتمام العافية، والشكر على العافية ياولى العافية، اللهم انى أسالك عافية الدنيا من البلاء وعافية الاخرة من الشقاء، فقد ظهران العافية أجمل لباس وأحسن شعار أفيض على الناس، والله ولى التوفيق.

 

الكلمة الحادية والاربعون قوله عليه السلام: لا صواب مع ترك المشورة.

اقول: الصواب الاصابة في الامور التى تفعل، والمشورة طلب الرأى المحمود من الاوداء والنصحاء وغيرهم في ترجيح احد الامور المحتملة في ذهن المستشير أو تأكيدها وبيان ان المصلحة في ايها تكون ؟ واما علة هذا السبب الكلى فمن وجهين، الاول - ان الانسان لما كان بحيث لا يمكن استقلاله وحده بأمور معاشه ومعاده لحاجته الضرورية الى ما لابد منه من غذاء ولباس ومسكن وغير ذلك وكانت هذه الامور كلها أمورا

 

[ 203 ]

صناعية لا يمكن ان يقوم بها صانع واحد الا في مدة لا يمكن ان يبقى بدونها أو يتعسر ان امكن بل لابد من جماعة يتشاركون ويتعاونون على تحصيل تلك المنافع ويتعارضون ويتعاوضون وكان هذا التعاون لايتم الا ان بان يكون بينهم انس طبيعي قضاء للعناية الالهية بهذا العالم ومنه اشتق اسم الانسان في اللغة فواجب على الانسان إذا ان يكتسبه مع أبناء الجنس ويحرص عليه بالجهد والطاقة ولانه ايضا مبدأ المحبة الواجبة التى هي سبب السعادتين إذ كان كل شخص يرى كماله عند الاخر فلولا ذلك لم يتم السعادة بينهم فيكون كل انسان بمنزلة عضو من اعضاء البدن وقوام الانسان بتمام بدنه، وانما وضعت الشريعة والعادة الجميلة اتخاذ (1) الدعوات والاجتماع في المأدبات (2) لتحصيل هذا الانس بل لعل الشريعة انما حثت الناس على الاجتماع في المساجد وفضلت صلوة الجماعة على الصلوة المنفردة ليحصل لهم هذا الانس بالفعل إذ كان حاصلا فيهم بالقوة، ثم يتأكد فيهم بالاعتقادات الصحيحة الجامعة لهم وينبهك على ان مطلوب صاحب الشريعة صلى الله عليه وآله ذلك انه أوجب على اهل المدينة كلهم ان يجتمعوا في كل اسبوع يوما معينا في مسجد يسعهم ليجتمع ايضا شمل المحال والسكك كما اجتمع اهل الدور والمنازل في كل يوم، ثم أوجب ان يجتمعوا في كل سنة مرتين في مصلى بارزين مصحرين ليجمعهم المكان ويتزاوروا ويتجدد الانس بين كافتهم ويشملهم المحبة الناظمة لهم.

ثم أوجب بعد ذلك ان يجتمعوا من البلدان في العمر كله مرة واحدة في الموضع المقدس بمكة ولم يعين من العمر وقتا مخصوصا ليتسع لهم الزمان فيجتمع اهل المدن البعيدة كما اجتمع اهل المدينة والواحدة ويصير (3) حالهم في الانس والمحبة وشمول الخير وافاضة الرحمة والسعادة بحسب انفعالات نفوسهم واستعدادها الصادرة عن ذلك الاجتماع على غاية من الكمال لا يحصل لهم بدونه وكان هذا الانس لايتم الا بالحديث المستطاب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " اتحاد " (بالحاء والدال المهملتين) ج د: " ايجاد " (بالجيم والدال " ولعله: " الاجابة ".

(2) - ا: " الماديات " ج د: " المناديات " لكن المأدبة جمعها المعروف " المآدب ".

(3) - ا: " تصير ".

 

[ 204 ]

بالمشاورة في الامور والاطلاع على بعض الاسرار التى لا تضر اذاعتها ليتم بذلك أنس المستشار وتسكن نفسه ان لو كان لها نفار وتنبسط ولا تنقبض قال عز من قائل تأديبا لنبيه بالادب الجميل: وشاورهم في الامر (1) ولتوسع (2) المفاكهة (3) المحبوبة والمزاح المستعذب الذى يقدره العقل حتى لا يتجاوز الى الاسراف فيها فيسمى ذلك الاسراف مجونا وفسقا وخلاعة وشبهها من أسماء الذم، ولا يقصر فيه فيسمى ذلك القصور فدامة (4) وعبوسا وشكاسة وما اشبهها من طرف التفريط المذموم بل يتوسط بينهما فيسمى ذلك المتوسط ظريفا معاشرا هشا بشا، وإذا عرفت ان المشورة من اجل اسباب تحصيل الانس المطلوب من الخلق عرفت انها مطلوبة.

ثم انه عليه السلام نبه على وجوب اتخاذها والمواظبة عليها بانه لا صواب في فعل يفعل بدونها لما ان تصرفات الخلق اما أقوال أو أفعال، وإذا كان الجميع موقوفا على المشورة بأمره وأشارته فلابد وان يستجيبوا عند دعائه لهم إليها فتارك المشورة إذا مخطئ إذ ضيع سببا عظيما من أسباب الفضائل التى يجب طلبها، والمخطئ غير مصيب فتارك المشورة غير مصيب وان تصور بصورة المصيب.

الثاني - ان تارك المشورة في اموره غير مصيب في أغلب أفعاله ومقاصده فهو إذا أخطأ كان ملوما ولعله يكون مأثوما، إذ كان المستشار العاقل كثيرا ما يكون مطلعا على وجوه من مصالح ذلك الفعل المستشار فيه اما بحسب تجربته أو بحسب قوة عقله وجودة حدسه بحيث لا يكون مثل ذلك الاطلاع حاصلا للمستشير والسبب الاكثرى في الغلط ان الوهم الانساني في غالب الاحوال وأكثرها لابد وان يحكم بترجيح أحد طرفي الامر المتردد فيه المطلوب فيه الاستشارة بغتة (5) قبل مراجعة العقل وانما كان الصواب في الطرف الاخر عند الفكر والتحديق فإذا (6) فعل بين (7) له بعد ذلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - من آية 159 سورة آل عمران.

(2) - ب ج د: " ولتوضح ".

(3) - ا: " المكافهة " (4) - يقال: " فدم الرجل فدامة وفدومة كان فدما وهو العيى عن الكلام في ثقل ورخاوة وقلة فهم وفطنة ".

(5) - ا: " بعثه " ج د: " بعينه ".

(6) - ج د: " وإذا ".

(7) - ب ج د: " تبين ".

 

[ 205 ]

عن قريب أو بعيد خطاؤه وانه قد ضيع حزما واتبع هواه، ولو فرض ان مطلوبه حصل لم يعد ايضا في عرف العقلاء مصيبا، إذ كان كالسالك لطريق كثيرة المخاوف غير عالم بمراحلها ومنازلها وغير مطلع على آفاتها ومخاوفها فهو لا يدرى على ما يقدم فإذا وصل الى غايته من ذلك السلوك سالما فان أحدا من العقلاء لا يقول: انه مصيب بل يطبقون على ذمه وتوبيخه ويعدونه متهورا مغرورا بنفسه (1) مضيعا لها، وذلك بخلاف حال المواظب على المشورة فانه يعد في عرف العقلاء مصيبا وان لم يحصل مطلوبه، إذ كان كالسالك لسبيل يعلم أحوالها وانها آمنه فيتفق له عند سلوكه لها لص اتفاقا فان أحدا من العقلاء لا يقول: انه مخطئ (2) في سلوكه لها.

وفى هذه الكلمة تنبيه على وجوب الاستشارة فان كلمة العقلاء قد تطابقت على ذم تاركها ومدح طالبها، وان الاول مخطى وان اصاب، وان الثاني مصيب وان خاب، واتفقوا على انه يجب على كل ذي حزم (3) مراجعة من هو فوقه أو دونه في المنزلة فان الفضل لن يكمل (4) لاحد ولن يختص به احد وان الرأى الفرد لا يكتفى به في الامور الخاصة ولا ينتفع به في الامور العامة، واتفقوا على مدح الرأى الصائب وتفضيل صاحبه ووجوب الاستعانة به في الامور وذلك لشدة عقليته (5) لها وحسن استنباطه للرأى فيما ينبغى ان يفعل من الامور المصلحية وفى هذا المعنى يقول أبو الطيب المتنبي:

الرأى قبل شجاعة الشجعان * هو اول وهى المحل الثاني

فإذا هما اجتمعا لنفس مرة * بلغت من العياء كل مكان

ومن امثال العرب في مدح الرأى قوله عليه السلام: رأى الشيخ خير من مشهد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - يقال: " غرر بنفسه = عرضها للهلكة.

(2) - ا: " محظ ".

(3) - ب ج د: " على ذي الحزم ".

(4) ج: " لم يكمل " د: " لا يكمل ".

(5) - ج د: " عقليه ".

 

[ 206 ]

الغلام (1) وفى مدح ذي الحزم والتجربة والاراء الصائبة قولهم: قد حلب فلان الدهر اشطره (2) اي قد اختبر الدهر شطرين من خير وشر، ومنها قولهم في نعت الحازم ايضا: إذا تولى عقدا أحكمه (3) قال الشاعر:

وما عليك ان اكون أزرقا * إذا تولى عقد شئ أوثقا

والامثال والشعر في هذا المعنى كثير، والله ولى التوفيق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - قال الميداني في مجمع الامثال (ص 254 من طبعة ايران): " رأى الشيخ خير من مشهد الغلام، قاله امير المومنين على عليه السلام في بعض حروبه ".

قال الرضى (ره) في باب الحكم من نهج البلاغة " وقال عليه السلام: رأى الشيخ احب الى من جلد الغلام، ويروى من مشهد الغلام " وقال شارح الكلمات (ابن ميثم) رحمه الله في شرحه (ص 590 من الطبعة الاولى من شرح نهج البلاغة): " جلده قوته وقد مر ان الرأى مقدم على القوة والشجاعة لاصالة منفعته، وانما خص الرأى بالشيخ والجلد لان كلا منهما مظنة ما خصه به فان الشيخوخة مظنة الرأى الصحيح لكثرة تجارب الشيخ وممارساته للامور، والغلام مظنة القوة والجلد، وعلى الرواية الاخرى فمشهد حضوره والمعنى ظاهر ".

وقال ابن ابى الحديد في شرحه (ج 4، ص 280 من طبعة مصر): انما قال كذلك الان الشيخ كثير التجربة فيبلغ من العدو برأيه ما لا يبلغ بشجاعته الغلام الحدث غير المجرب لانه يغرر بنفسه فيهلك ويهلك اصحابه، ولا ريب ان الرأى مقدم على الشجاعة ولذلك قال أبو الطيب: الرأى (فذكر البيتين الذين ذكرهما الشارح مع ثلاثة ابيات اخر من القصيدة وخاض في نقل غير ذلك ايضا فمن ارداه فليطلبه من هناك).

(2) - قال الميداني في مجمع الامثال (ص 178 من طبعة ايران): " حلب الدهر اشطره، هذا مستعار من حلب اشطر الناقة، وذلك إذا حلب خلفين من اخلافهما ثم يحلبها الثانية خلفين ايضا، ونصب اشطره على البدل (اي) اشطر الدهر والمعنى انه اختبر الدهر شطرى خيره وشره فعرف ما فيه، يضرب فيمن جرب الدهر ".

(3) - قال الميداني في مجمع الامثال (ص 26 من طبعة ايران): " يضرب لمن يوصف بالحزم والجد في الامور ".

 

[ 207 ]

 

الكلمة الثانية الاربعون قوله على السلام: لا محبة مع مراء.

أقول: المراء والمماراة المجادلة، والمقصود من (1) هذه الكلمة بيان ان المماراة ومجاذبة القول مع لاصدقاء وأهل المودات مما لا يجامع محبتهم وأنسهم للممارى (2) بل يقتلعه (3) اقتلاعا وتقرير ذلك انا بينا فيما سبق ان المحبة سبب للالفة (4) والانس الذى يحتاج الخلق إليه في اصلاح معاشهم، وبينا (5) انه سبب للسعادتين واتفق الحكماء وارباب العقول على ان المرء مع هؤلاء يقلع (6) المودة من اصلها وذلك انها سبب الاختلاف، والاختلاف سبب التباين المضاد اللالفة التى حثت عليها الشريعة القويمة واتفقت على وجوبها كلمة النبيين، ومن الناس مؤثر المراء ويزعم انه يشحذ الاذهان ويثير الشكوك ويفيد (7) رياضة النفس في ميدان الكلام فهو يتعمد (8) ذلك في المحافل ومجالس أهل النظر ويخرج في كلامه الى الفاظ العامة ليزيد في خجل صديقه ويظهر انقطاعه وانقهاره (9) في يده ولو فعل ذلك في الخلوة لكان اهون لكنه يفعله حيث يعتقد الحاظرون انه أدق نظرا وأدق حجة وأغزر عملا، وهذا الرأى غير لائق الا بأهل البغى وجبابرة أهل الاموال إذ كان من عادتهم ان يستحقر بعضهم بعضا ولا ينفك أحدهم يصغر صاحبه، ويزري عليه، وينقص مروته، ويبحث عن عيوبه ويتتبع عثراته، ويبالغ كل منهم فيما يقدر عليه من مساءة صاحبه حتى يؤدى ذلك الى العداوة البالغة التى يكون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا د: " في ".

(2) - ب: " للتمارى ".

(3) - د: " تقلعه ".

(4) - ب: " سبب الالفة ".

(5) - ا: " وقلنا ".

(6) - ب: " قلع ".

(7) - ج د: ويقيد ".

(8) - ا: " يعهد " فهو مضارع من: " عهد الشى إذا حفظه وراعاه حالا بعد حال ".

(9) - ا: " انتهاره " (من ن ه‍ ر).

 

[ 208 ]

فيها سعاية بعضهم ببعض وازالة نعمته فيسوق ذلك الى سفك الدماء وأنواع الشرور، وإذا كان كذلك فيكف يثبت المحبة مع المراء أو ترجى معه الفة أو استجلاب انس ؟ ! وفى هذه الكلمة تنبيه على وجوب ترك المماراة لما انها مستلزمة لعدم ما وجوده مطلوب بلسان الشريعة فقد لاح لك سره الصادر عن المعالم (1) التامة المزينة بحلى الاداب ومحاسنها، والله ولى التوفيق.

 

الكلمة الثالثة والاربعون قوله عليه السلام: لا سؤدد مع انتقام.

اقول السؤدد من السيادة، والانتقام والاخذ بالعذاب لتقدم جريمة من المأخوذ عن حركة القوة الغضبية كما سبق بيانه وهو قد يكون محمودا وقد يكون مذموما اما المحمود فما صدر موافقا لرسم الشريعة في السياسات تدبير المدن، واما المذموم فهو الذى يخرج الى طرف الافراط من ذلك وهو المقصود في (2) هذه الكلمة بالذات المنافى للسؤدد، والسبب في مضادته له ان الانتقام مثير للقوى الغضبية ممن ينتقم منه وحامل له على (3) طلب المقاومة والدفع والمغالبة انفة وحمية، أو على الهرب والترك وكل ذلك مستلزم لتنفر (4) الطباع وبعدها عن التألف، والسؤدد انما يحصل بالتواضع وخفض الجناح للتابعين ولين الكلمة واستجلاب طباعهم بأنواع التلطفات والمباسطات والتكرم والتجاوز عن بعض اساءتهم والصفح عن بعض جرائمهم ليحصل الانس والمحبة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " العالم ".

اقول: كأن الجملة قد سقط منها شئ.

(2) - ج د: " من ".

(3) - ب: " عن ".

(4) - ا: " لتنفير ".

 

[ 209 ]

الطبيعية التى هي سبب الالفة والانقياد وذلك ما ادب (1) الله تعالى نبيه بالاداب الصلاحية فقال عز من قائل: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (2) ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر (3) كل ذلك طلب للانس واستجلاب للمحبة وحسن الالفة، واما الانقياد فتابع لحصول الالفة لانهم بعدها إذا لمحوا كماله الخالين عنه وتمامه الفارغين منه انقادوا تحت أوامره بقلوب صافية وسلموا أنفسهم إليه بنيات صادقة الا من لم يؤثر التودد في أدمة (4) قلبة ولم يجد التلطف سبيلا الى خالص لبه لتقدم حقد وضغينة أو غيرها من الاسباب القدرية، واذ كان كذلك فحيث حصل ما يضاد ما ذكرنا من الاسباب التى يجب بها أو معها السؤدد لزم ان لا تكون تلك الاسباب حاصلة وبانتفائها ينتفى السؤدد الذى هو معلولها.

واعلم ان الانتقام بالمعنى الاول وان حصلت منه للطباع نفرة وكان مثيرا للقوة الغضبية لكنه لما كان ذلك موافقا لرسم الشريعة والتأديبات الصلاحية وقد تطابقت عليه المقالات النبوية وكانت أذهان الخلق تمرنت عليه بحسب تعويد الشرائع وانغرس فيها وجوبه حتى انقادت نفوسهم وأذعنت للاعتراف به وكان ذلك لا يصدر الا بحسب جناية متعارفة القبح (5) بيتهم لم يكن ذلك منافيا للسؤدد بل كان من متمماته وواجباته، إذ كان سببا عظيما من أسباب بقاء النوع الانساني فلو حصلت بسببه نفره من المنتفم منه أو ممن يتعلق به ممن عليه الاحتشام وحب (6) الحيوة عن (7) الانقياد للعقوبات الشرعية لكن ذلك أمرا جزئيا غير ملتفت إليه ولاقادح في سيادة المنتقم إذ كانت شوكة القوى الغضبية من الخلق مقهورة بسيف الشريعة قد تقاصرت وتحاشت عن مقابلة امر سماوي لمعاضدة (8)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " ولذلك ادب ".

(2) - آية 215 سورة الشعراء.

(3) - وسط آية 159 سورة آل عمران.

(4) - ا: " ادبه " ج د: " اذمة ".

(5) - ا: " الشح ".

(6) - ج د: " وجب ".

(7) - ب ج د: " على ".

(8) - ا: " لمعاضد ".

 

[ 210 ]

شيطان (1) مثلها وألقت زمامها الى القوى العقلية في الانقياد لما ينبغى على الوجه الذى ينبغى.

وفى هذه الكلمة تنبيه لطالب السؤدد على انه ينبغى ان يترك ما ينافيه وهو الانتقام الخارج الى حد الرذيلة والا لكان مناقضا لسعيه، وكاسر لما هو طالب لتقويمه، وذلك نهاية الجهالة، والله الموفق.

 

الكلمة الرابعة والاربعون قوله عليه السلام: لا شرف مع سوء الادب.

اقول: قد عرفت ان حسن الادب يعود الى معنى الرياضة المعتدلة للقوى البدنية وقد بينا كيفيتها فاعرف من ذلك ان سوء الادب وهو سوق تلك القوى على حد طباعها وانهماكها في مطلوباتها الطبيعية لها على قانون وهمى دون ان يكون على وفق القانون العدلى المرسوم من الشريعة والحكمة وكما علمت ان الشرف الحقيقي انما هو باجتماع أجزاء الكمال من العقل واجتماع مكارم الاخلاق والآداب المستحسنة حتى تتحصل ما هيته المطلوبة عنها فاعرف ان عدمه بفواتها أو بفوات أحدها (2) إذا كان اجتماع الاجزاء هو المحقق للماهية المركبة وكان عدم الجزء الواحد كافيا في عدمها فإذا فرضنا اشتمال (3) الانسان على سوء الادب المقابل لكماله وحسنه فبالضرورة لم يشتمل على ما يقابله من الادب الجميل (4) وإذا كان خاليا عن ذلك الجزء من الكمال لم يتحقق ماهية الكمال فلم يتحقق ماهية الشرف لعدم علته وقد ظهر (5) لك في هذه الكلمة (سر تنبيهه) (6) لطالبي الشرف والمجتهدين في تحصيل الكمال الانساني على وجوب الرياضة وتأديب القوى النزوعية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) ب: " الشيطان ".

(2) - ب: " احدهما ".

(3) - ا: " استكمال ".

(4) ب: " الجهل ".

(5) - ب: " اظهر ".

(6) - في النسخ " تنبيها " فالصحيح نظرى.

 

[ 211 ]

وردعها عما تميل إليه بطباعها وقهرها بيد القوة العاقلة وتصريفها على قانون العدل إذ كان الشرف وسوء الادب مما لا يجتمعان، والله ولى المن والاحسان

الكلمة الخامسة والاربعون قوله عليه السلام: ما اضمر احدكم شيئا الا اظهره الله في فلتات لسانه وصفحات وجهه.

اقول الاضمار كتمان السر وغيره في الضمير وهو الذهن والعقل، والفلتات جمع فلته وهى وقوع الامر بغته من غير اختيار ولا ترو وتدبر، وصفحات الوجه جوانبه والمقصود ههنا بيان ان الاعتقادات التى يضمرها الانسان ويحافظ عليها ويراعى سترها عن اطلاع الغير عليها لمصالح متصورة ومقاصد اختيارية سواء كانت نافعة أو ضاره فانها وان بولغ في مراعاة حفظها واجتهد في عدم اطلاع الغير عليها لا بد وان تظهر، ثم انه عليه السلام نبه على سببين من اسباب الظهور وحكم بانه لابد وان تظهر باحدهما مع تلك المحافظة: احدهما - فلتات اللسان وذلك ان النفس وان كان لها عناية بحفظ ذلك لكنها قد تنصرف الى مهم (1) آخر فتنفعل حينئذ عن ملاحظة وجه المصلحة في كتمانه وسبب وجوب ستره فتنفلت (2) المتخيلة من اسر العقل العملي فتلوحه وتبعث الشهوة الى التكلم (3) به من غير ان يكون للنفس شعور بشعورها به، وذلك معنى كونه فلتة، وقد يصدر الكلام فلتة على وجه آخر وذلك ان يتلفظ المضمر بكلام يكون مستلزما للايماء أو التنبيه على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " تتصرف الى فهم ".

(2) - ج د: " فنلتفت ".

3 - ج د: " المتكلم ".

 

[ 212 ]

ذلك المعنى المضمر والمتكلم غافل عن ذلك الايماء وغير عالم بكيفية التنبيه من ذلك الكلام على مضمره والسامع ذو حدس قوى فيقع له الاطلاع على ذلك المضمر مع شدة الاعتناء بستره.

الثاني - صفحات الوجه وذلك اشارة الى القرائن والامارات المستلزمة لاظهار المكتوم كما يدل تقطيب الوجه والعبوس والاعراض عن الشئ من معتاد البشاشة على بغض (1) ذلك الشئ، وانبساط الوجه والفرح به والاقبال عليه على محبته، وكما تدل الصفرة العارضة للوجه حال نزول الامر المخوف على اضمار الوجل، والحمرة العارضة عند نزول أسبابها كمشافهة من يتستر من فعل القبيح على حال فعله ومواجهته به على الخجل، وكدلالة عرق الوجه وغض الطرف على الحياء، وكدلالة الملاحظة بالبصر على وجه مخصوص على العداوة، وعلى كثير من الامور النفسانية وأمثال ذلك من القرائن التى تكاد لا تتناهى، فهذه الامور وامثالها وان اجتهد في اخفائها فلابد وان تلوح من السببين المذكورين.

وفى هذه الكلمة تنبيه للعاقل على انه لا ينبغى ان يضمر من الامور الا مالو اطلع عليه منه لما كان مستقبحا في العرف ولما نفر طبعه من المواجهة به فانه ان اضمر امرا يستقبحه الخلق ويستنكر فيما بينهم لو اطلعوا عليه ولابد من الاطلاع عليه للاسباب المذكورة لم يسلم (2) من الافتضاح وكان وقته مشغولا بالقبيح اما في مدة اضماره وستره فبالمحافظة عليه واشتغال النفس به عن السعي في مصالحها الكلية الذاتية، واما بعد ظهوره فبمعاناة الخلاص من عاره والتألم من المواجهة به والندم والتأسف على ايقاع (3) ما استلزم اظهار ذلك والجزع الذى لا يجدى نفعا ولا يعود بطائل، وكل ذلك منهى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - في النسخ " بعض " بالعين المهملة فالتصحيح نظرى.

(2 - اب: " ولم يسلم ".

(3) - ا: " اتباع ".

 

[ 213 ]

عنه لانه اشتغال الانسان بما لا يعنيه، واما نسبة ذلك الاظهار الى الله تعالى فظاهر من قولنا: انه مفيض الكل وعلة العلل، والله ولى الصواب.

الكلمة السادسة والاربعون قوله عليه السلام: اللهم اغفر لنا رمزات الالحاظ، وسقطات الالفاظ، وهفوات اللسان، وسهوات الجنان.

اقول: الرمزات جمع رمزة وهى الاشارة، والالحاظ جمع لحظ وهى النظر الخفيف وسقطة القول الخطيئة فيه وجمعه سقطات وسقاط، والهفوة الزلة، والسهو الغفلة وهى التفات النفس عن الشئ حال اشتغالها بشئ آخر، والجنان القلب ماخوذ من الاجتنان وهو الاختفاء، ولما كانت هذه الامور الاربعة في الظاهر وبالنسبه الى من لا يعلم وجه وقوعها ذنوبا وجرائم يذم فاعلها ويعد خارجا عن مقتضى القانون العدلى (1) لاجرم كان طالبا لغفرها وهو سترها.

بيان الاول اما ان الاشارات بالالحاظ قد تكون ذنوبا فذلك كل رمز يكون وسيلة الى ارتكاب جريمة فانه يكون جريمة، ومثاله ما يفعله من يطلب منه ظالم تعريف انسان ليقصده بالظلم فيكره المطلوب منه التصريح بذلك بلسانه خوف الشنعة والسب الصادق والمقصود بالظلم حاضر فيرمز بلحظه إليه فينبه الظالم عليه، وكمن يرمز بلحظه تنبيها للغافل عن بعض المعاصي عليها حتى يكون ذلك سببا لركوبها، وكل ما كان وسيلة الى ارتكاب جريمة فهو جريمة، والدال على الشر كفاعله، ودلالة الالحاظ كصريح الالفاظ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " العدل ".

 

[ 214 ]

واما سقطات الالفاظ وهو الخطأ فيه والتكلم بردية وساقطة وبما لا ينبغى وظاهر انه جريمة، إذ لا معنى للجريمة الا ما اكتسبه الانسان من الافعال مخالفا للقانون العدلى الذى هو غاية الشرائع من التكاليف البشرية.

واما هفوات اللسان وهى زلله فظاهر انه جريمة أيضا وهو علة لسقطات الالفاظ فان بهفوات اللسان قد يقع الردى من القول (1).

واما سهوات الجنان فقد عرفت ان المقصود بالقلب النفس الا ان القلب لما كان المتعلق الاول للنفس أطلق اسمه عليها مجازا اطلاقا لاسم المتعلق على المتعلق ولانه الظاهر المتعارف بين الخلق من لب (2) الانسان لخفاء تصور النفس على اكثر الناس.

وسهواته غفلات النفس عن مطالعة الخزانة التى فيها الامر المغفول عنه اما معنى أو صورة لاشتغالها بمهم آخر أو (3) بمعارضة الوهم لها حال التفاتها الى ذلك مع بقائه في تلك الخزانة، وهذا القدر هو الفارق بين السهو والنسيان فان النسيان يشترط فيه مع ذهول النفس عن الامر انمحاؤه (4) من الخزانة بالكلية وهذه السهوات هي من أسباب الهفوات التى هي من اسباب السقطات والرمزات، وأسباب الجرائم في العرف الظاهر جرائم وإذا كانت جرائم مستقبحة تعاب على من وقعت منه لاجرم كان طالبا لسترها ملتسما لغفرها ومعدا نفسه بالابتهال الصادق للعصمة منها.

بقى سؤلان أحدهما - ان يقال: ان سهوات الجنان غير مؤاخذ بها، إذ لا يدخل في التكليف فلم يطلب غفرانها ويلتمس سترها ؟ !

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج: 2 فان هفوات اللسان قد يقع فيها الردى من القول ".

(2) - كذا.

(3) - ب ج: " و ".

(4) - النسخ: " المخاوة ".

 

[ 215 ]

الثاني - ان الشيعة أثبتت له عليه السلام العصمة عن المعاصي، سهوها وعمدها من حين الولادة وما بعدها، وطلبه للغفران لنفسه دليل جواز صدور المعاصي عنه وهو مبطل لقولهم ؟ ! والجواب عن الاول ان صدور هذه عن الانسان لما كان معدودا في العرف جرائم ومعايب منفرة للطباع مستلزمة للذم ممن لا يعلم كيفية وقوعها هل هو عن سهو أو عمد لاجرم جاز طلب سترها وغفرها واعداد النفس بالابتهالات والدعوات لتقوى وتشرف وتتعالى بذلك الاستعداد عن حيز السهوات الموجبة للهفوات والسقطات فلا يقع منها بل ينستر في ستر العدم الاصلى، ولا يلزم من ذلك ان يكون مكلفا بها.

وعن الثاني من وجهين: الاول - ان الدعاء ههنا والتماس المغفرة مشروط بوقوع هذه الاشياء (1) منه فكأنه قال عليه السلام: اللهم ان وقع منى كذا وكذا فاغفر لى، وهذا كلام صادق لكنك قد علمت في علم المنطق انه لا يلزم من صدق الشرطية صدق كل واحد من جزئيها بل ولا يلزم جواز وقوعه فانك لو قلت ان كانت الارض محيطة بالسماء كانت اعظم من السماء كان ذلك لزوما صادقا مع استحالة كل واحد من الجزئين فنحن نمنع وقوع المعاصي منه وان صدق هذا الكلام، وطلب المغفرة كما يكون لصدور الذنب كذلك يكون للتذلل والخضوع والانقطاع الى الله والاعتراف بالتقصير عن اداء حقوقه ومجازاة نعمه.

الثاني - ان للشيعة ان يقولوا: لما ثبتت عصمته بالبرهان وكان قوله عليه السلام: " لنا " ضميرا عاما يتناول بظاهره كل مؤمن ومسلم معه ممن يجوز صدور هذه الامور منه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج: " الاسباب ".

 

[ 216 ]

كان ذلك العموم مخصوصا بالدليل العقلي الدال على عصمته عليه السلام ويبقى عاما في الباقين، واضافة ذلك الى نفسه وادخاله لها في جملة اولئك اعتراف بالعبودية وخضوع لله تعالى واظهار للحاجة الى لطيف عنايته وافاضة ستره ووقايته وتمام تلك النعمة عليه، وذلك من جميل الاخلاق وكمال العرفان، ونجد الادعية الصادرة عن الانبياء عليهم السلام مشحونة بطلب المغفرة والاعتراف بالذنوب والمعاصي مع الاتفاق على عصمتهم وذلك محمول على ما قلناه، والله ولى التوفيق وبه الحول والقوة.