[ 171 ]

الكلمة العشرون قوله عليه السلام: من طعن في عجانة قل حياؤه وبذا (1) لسانه.

اقول: امراد من هذه الكلمة قريب مما قبلها فعبر عليه السلام بالطعن الذى هو في الاصل عبارة عن الضرب بالرمح وكل محدد مستقيم مما هو في حكمه عن الضرب بالقضيب مجازا ووجه المشابهة ظاهر وفيه يقول بعض (أهل) الخلاعة:

يايها الناس من كانت له فرس * فليركبن عليها نومة الناس

وليشددن بسرج لا حزام له * وليطعنن برمح لين الراس

والعجان اسم لاخر القضيب مما يلى السبة وعبر به عليه السلام عن السبه مجازا اطلاق اسم المجاور على ما يجاوره، والبذاءة الكلام الفاحش، وانما خصص (ع) العجان بالذكر دون جوانب السبة لملاحظة لطيفة وذلك ان سبب وقوع لذة المفعول فيه بذلك الفعل انما هو محاكة قضيب الفاعل لاصل قضيب المنفعل وهو اعجانه المستلزمة لثوران الشهوة والموجبة للانزال دون سائر الجوانب فلذلك خصه عليه السلام بالذكر دونها، واما بيان - الملازمة بين جزئي هذه الشرطية فلان السبة لما كانت اخس مكان واقبحه من الانسان وكانت طبيعة الخلق مجبولة على سترها إذ كانت جبلة الانسان مبنية على ستر القبيح وكل ما عدا بين الخلق نقصانا ورذيلة، واظهار الجميل والمسارعة الى التكميل بكل (2) ما يعد كمالا وفضيلة، فإذا فرضت انسانا اتصف بهذا الفعل لعروض أسبابه فإذا ثارت (3) قوته الشهوية الى ارتكابه فان عقله حينئذ يكون مقهورا في شهوته فينساق (4) في قيادها الى قبول ما هو مشهور القبح (5) بين الخلق وما كان نافرا منه باصل جبلته من العار والشناعة القبيحة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " بذ " (بتشديد الذال) ولعله مصحف: " بذأ " بهمز الاخر.

(2) - ج د: " فكل ".

(3) - د: " تأدت ".

(4) - ج د: " فيساق " (5) - كذا والظاهر انه: " مشهور بالقبح ".

 

[ 172 ]

والسب الصادق والذم الفاحش بين الخلق ويأنس ولا يبقى له انكار ولاله منه نفار بل ربما تزيى بزى النساء اللاتى هن (1) محل الوطى بأصل الطبيعة، واستحسن ذلك والفه، وإذا كان كذلك لم تنحصر نفسه خشية من الذم وحذرا من اتيان القبيح اشنعه واشتهاره به عن رضى ومحبة، وحينئذ تحصلت له وقاحة الوجه والعين واللسان لامتداد الروح النفساني عند المواجهة بالقبيج ولا يزال ذلك يتزايد بحسب التعويد وطول المواجهة حتى لا يبقى له استشعار خوف من (2) ذم، والا انفعال عن مواجهة بشتم، فقد ظهر لك لزوم قلة الحياء للاتيان المخصوص في المحل المذكور، واما البذاءة فلازمة لقلة الحياء، ولما كانت هذه الرذائل والظلام (3) العارض من عدم هذه الفضائل مهروبا منها وكان ذلك الفعل هو السبب في لزومها كانت هذه الكلمة مشتملة على التنبيه للحذر من قربه والبعد عنه ما امكن، والله المستعان.

 

الكلمة الحادية والعشرون قوله عليه السلام: السعيد من وعظ بغيره.

اقول: السعادة في اللغة هي اليمن والمراد بها ههنا حصول الانسان على الكمال الذاتي له، والاتعاظ الانزجار عما يبعد عن الحضرة الالهية وينافى الكمال المطلوب، واعلم ان هذه القضية في تقرير متصلة وهى: من وعظ بغيره فقد سعد، وبيان الملازمة انا بينا ان العلل العالية الفياضة بالخيرات ليس في جانبها نقصان ولا ينسب إليها تقصير وحرمان بل الاصل في عدم حصول الكمال وتأخره هو نقصان المستعد في ذاته أو (4) عدم استعداده لمطلوباته حتى إذا تم استعداد النفس لامر يوجب فيضه من علته التامة وإذا كان كذلك فاعلم ان الاتعاظ هو انزجار النفس عن متابعة قواها البدنية التى هي شياطينها (5) حتى لا ترد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - في النسخ: " الذين هم ".

(2) - ا: " من خوف ".

(3) - ا: " والكلام ".

(4) - ج د: " و ".

(5) - ب: " شياطينهم ".

 

[ 173 ]

موارد (1) الهلكات ولا تتدنس برذائل الملكات ولزومها لقانون العدل الذى هو (2) وسط بين طرفي الافراط والتفريط فيما يقودها إليه تلك القوى وتمنيها من اباطيل المنى فإذا فرضنا انها انزجرت مثل ذلك الانزجار عن نظرها بعين البصيرة الى حطام هذه الدار فلا شك ولا شبهة انها قد حصلت على الاستعداد المستلزم لنيل السعادة الباقية، واستشعرت لباس الامن سموم عقارب اللذات الفانية، واما ان ذلك الاتعاظ من الغير فلان كل موجود ممكن لا ينفك عن دليل واضح على الحكمة الالهية وبرهان شاهد على كمال العناية الربانية

ففي كل شئ له ايه * تدل على انه واحد

فإذا اطلعت النفس على اثر رحمة الله أو اثر سخطه لاح لها ان المطلوب ليس هو ما يميل قواها البدنية إليه وليس المراد ما تقبل بوجهها عليه فتتقهقر حينئذ عن طاعتها المردية وتنزجر عن متابعتها الموذية الى القانون العدلى ولا شك ان لزوم ذلك القانون معد لقبول السعادات الابدية.

وقد وردت هذه الكلمة برواية أخرى وهى: السعيد من اعتبر بغيره.

وتقديرها على هذه الرواية: من اعتبر بغيره، فان فسرنا الاعتبار بالاتعاظ لم يكن بين الروايتين مغايرة الافى اللفظ، وان فسرناه بالمجاوزة والتعدى كما سبق احتجنا في بيان اللازم للملزوم وهو ثبوت السعادة للمعتبر الى وسط هو الاتعاظ، اما المقدمة الاولى فلان المعتبر إذا نظر الى وفق الامر الالهى: قل انظروا ماذا في السماوات والارض (3) فاعتبروا يا اولى الابصار (4) فاستوفى شرائط النظر كان ذلك النظر مستلزما للمجاوزة الى المطلوب استلزام الكل لجزئه (5) فإذا حصل المطلوب على وجهه كان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " مراد ".

(2) - ا: " لقانون العدل هو ".

(3) - صدر آية 101 سورة يونس.

(4) - ذيل آية 2 سورة الحشر.

(5) - ج: " الكلى الجزئية ".

 

[ 174 ]

ذلك سببا لكمال القوة العاقلة يتمكن معه من قهر قواها البدنية وجذبها لها الى المسالمة والمساعدة على تحصيل المطلوبات الحقيقية.

واما الكبرى فبيانها ما سبق في الرواية الاولى وبتقدير صحة الرواية تكون هذه الكلمة صالحة الدخول في القسم الاول وفيها تنبيه على وجوب الاتعاظ فان السعادة لما كانت هي المطلوب (1) بالذات وكان الاتعاظ وسيلة إليها لاجرم كان واجبا، والله ولى التوفيق.

 

الكلمة الثانية والعشرون قوله عليه السلام: رب امل خائب.

اقول: الامل هو الرجاء، والخيبة عدم حصول المطلوب بعد السعي فيه، والمقصود من هذه الكلمة التنبيه على وضع الامال مواضعها كما ينبغى وعلى الوجه الذى ينبغى فان فيها ما هو خائب وان وجهه الامل مذلا (2) فيه نفسه وقد علمت ان اعظم السعي خيبة ما كان سعيا واملا للامور الفانية التى تفنى لذتها وتبقى حسرتها فنح ايها الاخ شهوتك جانبا وحدق بعين بصيرتك الى اين تضع املك فانك ستراه ان شاء الله.

واما تصديره عليه السلام للكلمة برب المقتضية للتقليل فلان الامل لما كان في الغالب انما يوجه الامال الى الامور الممكنة في حقه والتى يكون متأهلا لها إذ ما لا يتصور امكانه في حقه ولا تأهله له لا يكون املا له وإذا كان في الاغلب مستعدا لما يأمله كان ظافرا بحصوله بحسب تأهله له سواء كان ذلك الامل بالنسبة الى الله تعالى أو الى احد من ابناء النوع، اما بالنسبة الى الله تعالى فواجب عند تأهل الامل لمطلوبه ان يظفره به ويفيضه عليه لما ان الجواد المطلق لاتوقف (2) فيه الاعلى تمام القابل في قابليته، واما بالنسبة الى ابناء النوع وان كانت أسباب الخيبة من القابل والمقبول منه كثيرة ولكن الاغلب عند الاجتهاد من الامل وتأهيل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - كذا (2) - اب: " ومد ".

(3) - اب: " توفق " ج د: " يوقف ".

 

[ 175 ]

نفسه لذلك المأمول يقع ذلك المأمول ولذلك قيل (1) من اجتهد وجد وجد، والتوصل الى الامور الممكنة في الاغلب ممكن وان كان على عسر، وحصولها وان كان على بعد جائز، وإذا كان كذلك كان خيبة الاملين اقلية الوجود بالنسبة الى ظفرهم بمطلوباتهم، واما اسباب تلك الخيبة فأمور جزئية واسباب قضائية لا تضبطها قوى البشر وان عد الامل في أنظارهم مستحقا والمأمول منه في العرف والعادة جوادا فلذلك صدر القضية برب المفصحة عن الاخبار باقلية خيبة الاملين، ربنا لاتجبهنا (2) بخيبة امالنا، ولا تفضحنا بسؤء أعمالنا، وأفض علينا رياح رحمتك، وأذقنا برد عفوك وحلاوة مناجاتك، انك انت الوهاب.

 

الكلمة الثالثة والعشرون قوله عليه السلام: رب طمع كاذب.

اقول: قد عرفت ماهية الطمع، واما الكذب فقد يطلق على مالا يطابق من اخبار (3) القائل اعتقاده وعلى ما لا يطابق من الاعتقاد (4) معتقده فيقال: ظن كاذب ووهم كاذب، ولما كان الطمع مستلزما في بعض الصور ظن حصول الشئ المطموع فيه اطلق عليه انه كذب اطلاقا لاسم (5) اللازم على ملزومه والمقصود ههنا بيان اقلية الطمع الكاذب بحسب المطابقة والحث على وضع الاطماع مواضعها بحسب الالتزام وهو المقصود الذاتي، بيان الاول ان الطمع في الغالب انما يتوجه نحو امر ممكن ممن يؤهل نفسه لتناوله وكان اعتقاد حصوله تارة يكون علما وتارة يكون ظنا وتارة يكون وهما، وكان الاعتقاد العلمي لاكذب فيه وكان الاغلب في الظن ان (6) لا كذب فيه وكان الوهم ايضا قد يطابق لا جرم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا ب " ولذلك ما قيل ".

(2) - ج د: " لا تخيبنا " يقال: " جبهه بالمكروه إذا استقبله به " ب ".

(3) - ج د: " افعال ".

(4) - كذا.

(5) - ب: " اطلاق الاسم ".

(6) - ب ج د: " انه ".

 

[ 176 ]

كان عدم مطابقة الطمع الصادر (1) عن تلك الاعتقادات وكذبه اقلي الكون فلذلك صدر عليه السلام القضية برب.

بيان الثاني ان الكلمة مستلزمة للتنبيه على قبح الطمع في الامور الفانية إذ كان طلبها مع ما يؤدى إليه من امر المعاد مشتملا على كذب اعتقاد حصولها بحيث يكون السعي في ذلك المطموع فيه ضائعا لا يعود الا بالضرر فينبغي ان يكون الطامع في مجرى مواقع (2) طمعه العائد عليه بالنفع على تثبت، والله الموفق.

 

الكلمة الرابعة والعشرون قوله عليه السلام: رب رجاء يؤدى الى الحرمان.

اقول: الحرمان مصدر قولك حرمت فلانا العطية إذا منعته اياها بالكلية، والمقصود ههنا بيان ان الرجاء الذى هو سبب في العادة لحصول المطلوب قد يتفق ان يكون سببا لحرمانه وبيان ذلك ان الرجاء اما ان يكون من الله تعالى أو من احد من ابناء النوع وعلى التقديرين فقد يكون سببا للحرمان اما من الله تعالى فصورته رجاء محصل لوقر أو اوقار (3) من المال غلبه الحرص والشرة وساقه (4) امل الزيادة فيه الى السفر به في البحار والقفار وكان في القضاء الالهى تلفه وحرمان صاحبه بالكلية وان كان ذلك غير مقصود بالذات للعناية الالهية، واما من ابناء النوع فصورته ان يقصد الراجى الى بعض المثرين رجاء رفده فيغلبه الحرص والطمع على طلب ما لا يمكن أو التماس ما ينفر الطبع من التماسه فيكون ذلك مثيرا للقوة الغضبية وسببا لمنعه بالكلية بحيث انه لو اقتصر على ما هو دون ذلك واسهل منه لاعطى اياه ولما كان ممنوعا، ولما كانت هذه الاحوال اقلية الوجود بالنسبة الى الرجاء المؤدى الى حصول المطالب وبلوغ الامور المرجوة لاجرم صدر القضية برب.

وفى هذه الكلمة ايضا تنبيه على وجوب وضع الرجاء موضعه كما ينبغى وعلى الوجه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " الصادرة ".

(2) - ب ج د: " تحرى مواضع " (3) - ا: " لوترا واوتار " ج د: لوفدا وفار ".

(4) - ا: " سامه ".

 

[ 177 ]

الذى ينبغى ليحصل عن ذلك ملكه الحرية، ولان الرجاء الخارج عن مجراه الطبيعي مستلزم للحرمان المنفور منه طبعا، والله ولى التوفيق.

الكلمة الخامسة والعشرون قوله عليه السلام: رب ارباح (1) تؤدى الى الخسران.

اقول: الربح الزيادة الحاصلة من التصرف في قدر مخرج من المال للتجارة يسمى برأس المال ويقابله الخسران وهو النقصان الحاصل بسبب التجارة في ذلك القدر المخرج والمراد ان بعض الارباح سبب للخسران وهذا المطلوب يثبت (2) تصوره.

واعلم ان لفظ الربح وان كان حقيقة (3) فيما ذكرنا فقد يطلق مجازا على تحصيل المعارف والعلوم الحقيقية والحصول على الكمالات النفسانية، ورأس مال هذه التجارة هي المعقولات الاولى والثانية بحسب تصرف التاجر وهو العقل فيها واستخراج الارباح التى هي النتائج من المقدمات.

والحجج والحقائق من الحدود والرسوم، ووجه المشابهة بينهما هو ان لكل واحد منهما زيادة حاصلة عن اصله بالتصرف فيه، وكذلك لفظ الخسران كما كان حقيقة في النقصان الحاصل في راس المال كذلك يطلق مجازا على ما يحصل من الخلل في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - هذه الكلمة في جميع النسخ الموجودة عندي " ارباح " بصيغة كما يلاحظ في المتن وما ذكره الشارح (ره) في شرحها ايضا يؤيد كون الكلمة هكذا الا ان الكلمة في كتاب " مطلوب كل طالب في شرح كلمات امير المؤمنين على بن ابى طالب (ع) " نقلت بلفظ المفرد على وزن صباح، ومقابلتها لما سبقها من قوله (ع): " رب رجاء " تؤيد كون الكلمة كذلك وكذا كونها مجرورة برب، قال الطريحي (ره) في مجمع البحرين: " والربح بالتحريك اسم ما ربحه الانسان وكذلك الرباح بالفتح " وصرح بمثل كلامه سائر علماء اللغه فالاولى كون الكلمة " رباح ".

(2) - ا ب: " ثبت ".

(3) - ج د: " حقيقته " (باضافته الى ضميره).

 

[ 178 ]

ترتيب الحدود والبراهين التى هي رأس المال المجازى.

وإذا عرفت ذلك فنقول: قد يكون الربح الوهمي وهو المتعلق بالمال سببا للخسران بالمعنى المجازى أيضا ولست أعنى بالسبب ههنا العلة الموجبة فان احد المتقابلين لا يكون علة للاخر، إذ لا واحد منهما بمجامع للاخر وكل واحد من العلة والمعلول مجامع للاخر بل المقصود انه سبب عرضى معد والعلة لها شئ آخر.

مثال سببية الربح الظاهرى للخسران الظاهرى ما شوهد بالحس ان رجلا سافر الى الهند بسبعة عشر دينارا ولم يزل يتردد ففى مدة يسيرة بلغت تلك الارباح سبعة عشر ألفا، ثم عزم على القرار فنازعته نفسه الامارة بالسوء الخروج وغلبه الحرص على طلب الزيادة فخرج فلم يلبث ان (1) هاج البحر على سفينته فغرقت وخرج عريانا لا يقدر على شئ مما كسب فكانت تلك الارباح مهيجة لحرصه على الطلب والسعى والازدياد فكان سببا معدا لحصول الحركات التى معها وقع ذلك الخسران، وامثال ذلك كثيرة.

ومثال سببية الربح الظاهرى للخسران الاخروي هو ان المشتغل بتحصيل أرباح - التجارات المالية وقد أضنى (2) بدنه وأفنى عمره في الاسفار والمعاملات وتاقت (3) نفسه وانخرطت في سلك هواها وتدنس لوحها بالملكات الردية فحصلت على اضداد الربح المجازى الذى لا يجامعه فكانت تلك الارباح الوهمية أسبابا معدة لنفس حاحب هذه التجارة لان يتصف بأضداد الربح المجازى فكانت أسبابا مودية الى الخسران.

ثم لما كانت تأديتها (4) الى الخسران اقلية الوجود بالنسبة الى تأديتها الى الارباح الوهمية والحقيقية أو الى السلامة من الخسران الكلى المردى في حضيض جهنم لاجرم صدرت هذه الكلمة أيضا برب.

فينبغي للعاقل ان يميز الارباح المودية الى الخسران من غيرها ليسلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " فلم يلبث الا ان ".

(2) - ب: " انضى " يقال: " انضى بعيره انضاء = هزله بكثرة السير " ويقال ": " اضناه المرض اضناء = اثقله ".

(3) - اب: " وانافت " ج د: " واتاقت ".

(4) - ب ج د: " كان تأديتها ".

 

[ 179 ]

باجتنابها عن السقوط في مهاوى الصغار وحلول دار البوار سلامة تستبتع غنيمة عظيمة وتستلزم مسرة مقيمة، فان لها وجودا وان كان أقليا، وعلى الله قصد السبيل في اربح التجارت وأزكاها وانفعها وأنماها، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

الكلمة السادسة والعشرون قوله عليه السلام: في كل اكلة غصة، ومع كل جرعة شرقة.

اقول: الاكلة الواحدة من الاكل والغصة بفتح العين المرة الواحدة من قولك " غص فلان بالماء = امتلا حلقه منه فلم يجزه (1) واما بالضم فهى الشجا، والجرعة من الماء وكل مائع شرب المقدار الذى يجذبه القوة (2) الجاذبة منه دفعة دفعة، والشرق الالم العارض عند الشرب من نفوذ الماء في غير المجرى الطبيعي من الحلق.

والمقصود من هذه الكلمة بيان ان اللذات الدنياوية غير خالصة من شوب الالام، وغير صافية من كدورات الشرور، وان ما يعد فيها خيرا ولذة هو عند التحقيق خلاص من ألم وراحة من تعب، ثم هو ليس بخلاص دائم ولا براحة مستمرة بل مستعقبة للالم وملحوقة بالنصب فكنى عليه السلام بالاكلة والجرعة عن اللذات (3) الدنياوية لا ستلزامها اللذة وكنى بالغصة والشرقة عن الالم لاستلزامهما اياه فكان ذلك اطلاقا لاسم الملزوم على لازمه في الموضعين وهو مجاز حسن وانما خص هذين النوعين بالذكر من سائر الانواع المستلزمة للذة والالم لما ان الاكل والشرب اكثرها وقوعا في الوجود، وفى هذه الكلمة تنبيه لك ايها الاخ على (4) حال هذه اللذات الحاضرة فانها مشوبة بالالام موسخة بالاثام فانظر وفقك الله بعين بصيرتك وجه المناسبة بينها وبين اللذات الباقية الصافية وان كنت لا تطلع منها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " فلم يحزه " ب د: " فلم يخره ".

(2) - ا: " النفس ".

(3) - ا: من اللذة ".

(4) - ب: " عن ".

 

[ 180 ]

مادمت في عالمك هذا الا على قدر مغطى (1) بقشور الخيال محفوف من اللذات الحاضرة بامثال، تجد بينهما فرقانا (2) شديدا وامد بعيدا ولو جردت عقلك عن خيالك وأمكن لك ذلك لما وجدت بينهما مقايسة ولفقدت يبنهما المناسبة، والله تعالى هو الحاكم بالسعادة ومن عنده حسن الوفادة.

الكلمة السابعة والعشرون والثامنة والعشرون قوله عليه السلام: إذا حلت (3) المقادير ضلت التدابير.

(و) إذا حل القدر بطل الحذر.

أقول: المقادير جمع مقدور وهو الامر المقدر من الله، والضلال الضياع والهلاك، والتدابير جمع تدبير وهو اجالة الفكر في ايقاع الافعال على الوجوه التى هي أنفع وأوفق بحال الانسان ونحتاج ههنا الى تفسير القدر ولما كان معلقا بالقضاء احتجنا الى تفسيرهما معا فنقول: قالت الحكماء: لما كان جميع صور الموجودات كلياتها وجزيئاتها التى هي بلا نهاية حاصلة من حيث هي منقوشة في العالم العقلي بابداع الحق الاول تعالى اياها، وكان ابداع الامور المادية منها ممتنعا إذ المادة غير مستعدة لقبول صورتين منها فضلا عن قبول مالا نهاية له وكانت العناية الالهية قد اقتضت تكميل المادة بابداع تلك الصور فيها واخراج ما فيها من قبول تلك الصور من القوة الى الفعل قدر بلطيف حكمته زمانا غير متناه من الطرفين يخرج فيه (4) تلك الامور الى الفعل (5) واحدا بعد آخر (6) فتصير تلك الصور في جميع ذلك الزمان موجودة في موادها والمادة كامله بها، وإذا عرفت ذلك فاعلم ان القضاء اسم لوجود جميع الموجودات في العالم العقلي مجملة على سبيل الابداع، والقدر عبارة عن وجودها

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " ما يغطى ".

(2) - ج د: " فرقا ".

(3) - ا: " حصلت ".

(4) - ا: " مخرج " (بدلا من الكلمتين).

(5) - ج: " العقل ".

(6) - د: " بعد واحد آخر ".

 

[ 181 ]

في موادها الخارجية مفصلة واحدا بعد آخر.

واليهما الاشارة في التنزيل الالهى: وان من شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم (1) وإذا كان كذلك، فنقول: المقصود من هذه الكلمة ان المقادير وهى وجود الموجودات المادية إذا حلت اي حدثت وقامت بالمادة بالفعل وكانت امورا مكروهة الى طباع الانسان ككون (2) الامور المضادة للحياة في موادها أو كون امور اخرى يتضرر بها ويتأذى بوقوعها فان تقديراته واجالة فكره بقوته العملية في كيفية التوقى والسلامة من ذلك التأذى بحسب توهمة انه مالك لاموره قادر (3) على تسليم أحواله من الافات ومقتدر على التوقى بالحذر، والتدابير حينئذ تكون ضائعة باطلة غير منتفع بها إذ كان حكمه بالقدرة على التوقى حكميا وهميا (5) حتى لو راجع عقله لعلم ان المقادير أمور غيبية ولها اطوار وراء - العقول لا يحصن منها تدبير ولا يطلع على وجه الخلاص منها وان اطلع على مثل ما يعتاد معه دفع ذلك المكروه فيما مضى من الاوقات لقصور القوة الانسانية عن ادراك تفاصيل اسباب وقوع الامر المكروه وعرفت من ذلك معنى بطلان الحذر عند وقوعها فان الحذر هو التحرز والتحفظ من وقوع الامور المكروهة بحسب اجالة الفكر العملي أيضا في الحيلة والخلاص من وقوعها بالانسان وقد عرفت ان ذلك غير نافع عند حلول القدر فهو باطل.

تنبيه - ولا يحملنك هذا البحث على الانهماك في المعاصي ولا استكثار من الامور الموبقة في......

(6) فإذا نوقشت على ذلك احلته على القضاء والقدر وزعمت (7) انك بذلك متخلص من العقاب فانك حينئذ تكون من الغالطين غلطا تكون به من الهالكين بل ينبغى ان تقبل بكليتك على قبول الاوامر والنواهي الشرعية والعمل بمقتضاها وتعلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - آية 21 سورة الحجر.

(2) - ا: " لكون ".

(3) - ب ج د: " وقادر ".

(4) - ب: " أمواله " (بالميم في اول مفرده على ان يكون جمع مال لاكما في المتن من كونها جمع حال (بالحاء المهملة).

(5) - في النسخ: " حكم وهمى ".

(6) - هنا بياض بقدر كلمتين في ثلاث نسخ (ا ج د) واما نسخه ب فليس فيها كلمة " في " والبياض.

(7) - ا: " فزعمت ".

 

[ 182 ]

ان موجدك قد أعطاك قدرة وعقلا وامرك بفعل هو ممكن في نفسه وبالنسبة الى ذهنك هو ممكن ايضا لك فالتكليف وارد عليك بحسب ذلك لا بحسب ما في علمه وان عقاب الانسان على خطيئة وهى الحركات التى لا تنبغي (1) منه المنسوبة إليه ظاهرا وفى اعتقاده الجازم بالقدرة عليها فيم يعد (2) جوهر نفسه لتمكن الملكات الردية منها ورسوخها فيها امر لازم جوهرها وهى نار الله الموقدة التي تطلع على الافئدة (3) وكذلك ما يتبعها من دوام التعذيب بها (4) وانت بالنظر الى نفسك معتقد جازم بانك قادر على تدبير الخلاص من تلك الهيئات الردية بالسعي في اكتساب أضدادها، وعلى ان لا تعرض لنفسك بالكلية.

واما نسبتك ذلك الى القدر فذلك ليس من تكليفك (5) على ان الشرور الواقعة بك ليس إليها (6) قصد ذاتي بالفضائل من حيث انه لا يمكن بز (7) الخير الموجود فيك منها والا لما كنت انت انت.

فان خطر ببالك ما يقال: ان العقاب على الامور الواجبة ظلم وقبيح يجب تنزيه الله تعالى عنه فاعلم ان حديث الظلم وقبحه والعدل وحسنه آراء محمودة سبب شهرتها وحدنها (8) من جمهور الخلق اشتمالها على مصالحهم وانتظام امورهم دون ان تكون بديهية (9) فإذا بناء احكام الله تعالى عليها غير لازم ولا مستقيم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " لا تنتفى " ج د: " لا تبتغى ".

(2) - اج د: " بعد ".

(3) - آيتان من القرآن الكريم (6 و 7) سورة الهمزة) أتى بهما في كلامه.

(4) - ا: " لها.

(5) - ا: " منه تكفيك ".

(6) - ج د: " انها ".

(7) - ج د: " بر ".

(8) - ب: " وحدثها " ج د: " ووجدتها ".

(9) - هذا كلام عجيب جدا، وصدوره من مثله أعجب

 

[ 183 ]

 

الكلمة التاسعة والعشرون قوله عليه السلام: ليس العجب ممن هلك كيف هلك انما العجب ممن نجا كيف نجا(1)

أقول: يشير في هذه الكلمة الى انه لا ينبغى ان يتعجب من كيفية هلاك من هلك في الاخرة باسباب الهلاك بل ينبغى ان يتعجب من كييفية نجاة الناجين والعلة في هذا الحكم انه لما كان الانسان ذا قوى ثلاثة بحسبها (2) تصدر عنه الافعال الاختيارية وتصير بسببها هالكا أو (3) مالكا وهى القوة الناطقة والشهوية والغضبية وكان الغالب على الناس في اكثر الاحوال الانحراف عن الاحوال التى ينبغى ان كونوا عليها وهى مطلوبة منهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - هذه الكلمة نقلت عن غيره عليه السلام ايضا لكن باختلاف في اللفظ، فمنه ما نقله المحدث الكاشانى المولى محسن الفيض (ره) في آخر رسالته الصغيرة الموسومة بمقالة ضياء - القلب وقد طبعت ضمن رسائلة مانصه (ص 185): " وروى عن الحسن البصري انه قال: ليس العجب ممن نجا كيف نجا، انما العجب ممن هلك كيف هلك، مع كثرة الدلالات ووفور البينات، وفى أمالى الصدوق (ره) باسناده قال: كان الصادق (ع) كثيرا ما يقول:

علم المحجة واضح لمريده * وأرى القلوب عن المحجة في عمى

ولقد عجبت لهالك ونجاته * موجودة ولقد عجبت لمن نجا

وقال المجلسي (ره) بعد نقل البيتين عن امالي الصدوق مسندا في المجلد الاول من البحار (ص 117 من طبعة امين الضرب): " بيان - العجب من الهلاك لكثره بواعث الهداية ووضوح المحجة، والعجب من النجاة لندورها وكثرة الهالكين وكل أمر نادر مما يتعجب منه " وأوردهما ايضا في المجلد الحايعشر في ترجمه الصادق (ع) نقلا عن مناقب ابن شهر آشوب (انظر ص 111 من طبعة امين الضرب (فليعلم ان الكلام الاول المنسوب الى الحسن البصري قدنسب الى مولينا ابى محمد الحسن المجتبى عليه السلام على ما رأيت في بعض الكتب فمن اراد التحقيق فليراجع مظانه من مجلدات ناسخ التواريخ.

(2) - ا: " بحقيقتها.

(3) - اب " و ".

 

[ 184 ]

باللسان النبوى وذلك الانحراف بسبب طاعة قوتي الشهوة والغضب والانهماك فيما تميلان إليه بمقتضى طباعهما (1) وتجران القوة العاقلة إليه من مطلوباتهما وذلك مما يصرف عن التوجه الى القبلة الحقيقية ويمنع من التعلق بعصم النجاة فلا جرم كان التعجب من كيفية هلاك الهالكين تعجبا في غير موضعه لان اسباب الهلاك غالبة في الخلق اكثرية - الوجود، واكثرية وجود المعلول تابع لاكثرية وجود اسبابه.

ولما عرفت ان درجات السعادة غير متناهية فاعلم ان درجات الهلاك والشقاوة (ايضا) غير متناهية ولسنا نعنى باهلاك الهلاك السرمدي فأن ذلك مختص بالانحراف على وجه مخصوص اعني ان يوجب ذلك الانحراف والميل ملكات ردية تلزم جوهر النفس فيدوم به العذاب بل نعنى به ما هو أعم من ذلك حتى يكون الهلاك المنقطع داخلا فيه ويكون اكثر وجودا من النجاة، وما كان اكثريا ومعتادا لا ينبغى ان يتعجب منه، وكان التعجب من كيفية نجاة الناجين تعجبا في موضعه لا يستنكر (2) لقلة اسباب النجاة وضعف وجودها من الخلق.

وفى هذه الكلمة ايماء الى وجوب الاحتفاظ (3) والاخذ بالحزم في تحصيل اسباب النجاة والاجتهاد فيها فانها لا تدرك بالمنى ولا تحصل بالهوينا، واليك الاعتبار، والله تعالى ولى اعدادك لما هو اهله، وهو الموفق.

 

الكلمة الثلاثون قوله عليه السلام: الاحسان يقطع اللسان.

أقول: لفظ القطع يقال حقيقة على تفريق اتصال الجسم بالالة القطاعة كالسكين وغيرها، وقد استعملة عليه السلام ههنا مجازا في منع الكلام القبيح الخارج

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " طباعهم ".

(2) - ا ب: " لا يستكثر ".

(3) - ب ج د: " الاحتياط ".

 

[ 185 ]

عن (1) لسان الذام الاحسان لا يفعل ذلك التفريق في اللسان بل يكون بسببه منع اللسان من الحركة بما لا ينبغى، ووجه المناسبة انه كما انه الغاية من قطع اللسان بالالة القطاعة ترك الكلام فكذلك في الغاية من اسكاته بالعطية، وهذا من محاسن الاستعارة.

واما علة هذا الحكم فنقول الاحسان قسمان، ذاتي وعرضى، فالذاتي هو الذى يصدر عن الاخيار الفضلاء وذلك ان سيرهم محمودة محبوبة فهم محبوبون لذواتهم وأفعالهم مسرورون بأنفسهم مسرور بهم غيرهم، وكل احد يجب ان يواصلهم ويصادقهم، فهم أصدقاء انفسهم والناس أصدقاؤهم، ومن هذه سيرته فتجده يحسن الى الناس بقصد وغير قصد إذ كانت أفعاله محبوبة لذيذة والمحبوب اللذيذ مختار ومطلوب، وإذا كان كذلك فلابد وان يكثر المقبلون عليه والمحتفون به، ومن كانت هذه حاله برئ ان (2) يصل إليه ذم أو يلحقه لوم بل تكون الالسنة مقطوعة عنه بل هي دائما رطبة بالثناء عليه متحركة بشكره فضلا ان تكون ذامة له وهذا هو الاحسان الذى يبقى ولا ينقطع، ويزيد ولا ينقص، ويكون به الاخوة الصادقة والمحبة المطلقة.

واما العرضى فهو الذى ليس بخلقي ولا معتاد لصاحبه ولاشك انه منقطع والمحبة العارضة عنه محبة عرضية مقيد دوامها بدوامه باقية ريثما هو باق وفيها زيادة ونقصان من طرفي المحسن والمحسن إليه، فان محبة المحسن تكون أشد من محبة المحسن إليه: واعتبر ذلك في المقرض والمستقرض تجد المقرض اشد محبة للمستقرض منه للمقرض وربما كان داعيا له بالبقاء وسبوغ النعمة والكفاية وان كان كل ذلك ليصل الى حقه وليعود إليه ماله لا لمحبة خالصة، واما المقرض فليس له هذه الهمة ولا ذلك الدعاء ولكن يكون شهوته الى الاحسان ومحبته له أشد من محبة المحسن.

وإذا عرفت ذلك فمثل هذا الاحسان وان كان قاطعا للسان الا ان قطعه ليس بدائم ولا مستمر بل هو موقوف على دوام الاحسان، وقد يتفق لمثل هذا المحسن ان لا تنقطع عنه الالسنة عند وقوف الخلق واطلاعهم على ان ذلك الاحسان عرضى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " من ".

(2) - اب: " برئ انه " د: " من ان ".

 

[ 186 ]

واعلم ان الاول وان كان هو المقصود الذاتي من الكلمة الا ان الثاني ايضا مراد، إذ يصدق عليه انه قاطع اللسان ايضا.

ثم اعلم ان الاحسان كما يقطع اللسان فهو موجب للالفة والمحبة كما عرفت التى هي سبب لتحصيل السعادتين، وعلة لاستحقاق المنزلين، وموجبة لمحبة الخالق والحصول في جواره المقدس كما اشير إليه في التنزيل الالهى: والله يحب المحسنين (1) وان الله لمع المحسنين (2) وبه يستعبد الاحرار كما يقطع السنة الاشرار، قال الشاعر (3):

أحسن الى الناس تستعبد قلوبهم * فطالما استعبد الانسان احسان

وينبغى للعاقل ان يلزم محاب الله فأنه يكون محبوبا لله، وان يكون من الكائنين مع الله، وان يختار لنفسه ما اختاره الله لنفسه من التسمية محسنا، فمن كان مع الله فقد حصل في جواره، ومن كان محبوبا لله فقد فاز بجميع مقاصده، ومن تخلق بأخلاق الله فقد استحق الخلود في دار البقاء وكل ميسر لما خلق له (4).

الكلمة الحادية والثلاثون قوله عليه السلام: احذروا نفار النعم فما كل شارد بمردود.

أقول: اسناد النفار والشرود حقيقة في النعم وقد استعملها عليه السلام ههنا مجازا في النعم ووجه المشابهة انهما يستلزمان المفارقة في الموضعين، والمقصود من هذه الكلمة التحذير من مفارقة النعم وهى الكمالات الخيرية بمفارقة أسبابها، والتنبيه بالسالبة الجزئية وهى قوله: فما كل شارد بمردود، على ان النعم بعد مفارقتها قد لا تعود إليكم فان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - في مواضع من القرآن منها ذيل آية 134 سورة آل عمران.

(2) - ذيل آخر آية من سورة العنكبوت وهى (آية 69).

(3) - يريد به ابا الفتح البستى فان الشعر من نونيته المشهورة.

(4) - هو وارد في حديث نبوى معروف.

 

[ 187 ]

الابل الشاردة كما يجوز ان الا ترد فالواجب حينئذ ان يكونوا من نفارها على حذر ويتقوا ما في ذلك من عظيم خطر.

فان قلت: النعم امور موهوبة من واهبها فاسترجاعها جائز فضبطها وحفظها غير ممكن فلا يدخل في التكليف فان كثيرا من الخلق يحافظون على أموالهم ويجتهدون في ضبطها ولا يزيدها ذلك الانفارا ؟ - قلت: ليس المقصود من التحذير من نفارها والامر بحفظها هو حفظها بالجمع والضبط بل لعل المقصود من حفظها (حفظها) بالتفريق فان الانسان إذا فرق منها ما ينبغى ان يفرق على الوجه الذى ينبغى ان ينفق واكد ذلك السداد وايد (1) ذلك الاستعداد بالشكر والثناء على واهب تلك النعم بما هو أهله مراعيا (2) في ذلك قانون العدل كان لذلك أثر (3) عظيم في اعداد النفس لقبول العناية الالهية ببقاء تلك النعم ودوام تلك الافاضة، وإذا لم يفعل المنعم عليه شيئا من ذلك وخالف مقتضى العدل فيها لم يلبث ان تنفر نفار الناقة الشرود التى يوشك ان لا تعود.

فان قلت: اليس قد قام البرهان على ان خلاف معلوم الله تعالى محال، وإذا كان كذلك فنقول: ان كان في علم الله تعالى ان تلك النعم تنفر أو لاتنفر فلابد وان تكون كذلك، فما الفائدة في التحذير ؟ وهل ذلك الاجار مجرى قولك للزمن: لاتطر (4) ؟ ! وان كان في علمه عكس ذلك فلابد وان يكون، فلا يتحقق الحذر ايضا ؟ - قلت: هذا كلام (5) حق الا ان ما علم الله وقوعه أو عدم وقوعه قد يكون مشروطا وقد لا يكون، فما كان مشروطا من ذلك فيستحيل ان يوجد من دون شرطه وان صدق انه يعلم وقوعه لكن مطلقا بل بشروطه وأسبابه، فعلى هذا جاز ان يكون التوقى والحذر من نفار النعم شرطا لبقائها فلهذا الجواز كان مأمورا بالحذر.

بقى علينا ان يقال: انكم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " ابد " (بالباء الموحدة).

(2) - ا: " فراعى ".

(3) - اب: " امر ".

(4) - ا: " لا تطير ".

(5) - ب د: " الكلام ".

 

[ 188 ]

اعترفتم بأن المشروط لا يجب ان يكون هو كل النعم مع انكم أوجبتم الحذر عند كل نعمه ؟ - فنقول: لما كان العبد غير مستقل وغير مطلع على اسباب الكائنات وشروطها وكانت غير محصورة ولا متناهية في حق الجليل (1) من الخلق فضلا عن جملتهم حتى يمكن ان يوقف (2) عليها وعلى اسبابها المفصلة لاجرم وجب ان يحذر الحذر المطلق لئلا يتوقى فيما ليس من شرطة التوقى والحذر ويتركهما في موضع هو في الحقيقة مشروط بذلك، فانه إذا حذر في كل نعمة مفارقتها فزع (3) الى حفظها بالمواظبة على اسباب الحفظ التى اشرنا إليها جملة فتلك المواظبة وان لم تكن شرطا لاستثبات تلك النعمة فهى معدة لضروب اخرى من النعم، وان كانت شرطا فقد صادف محله، والله ولى التوفيق.

 

الكلمة الثانية والثلاثون قوله عليه السلام: إذا وصلت اليكم اطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر.

اقول: أطراف النعم أو أوائلها، وأقصاها أو اخرها، والمقصود من هذه الكلمة التنبيه على استدامة النعم الموهوبة بدوام الشكر وبيانه أنك عرفت أن دوام الشكر عن نية صادقة وتحريك اللسان بالذكر عن اعتقادات صافية يستمريان (4) مزيد النعم كما يستمرى الحالب الدر من الضرع لما ان دوام الشكر وما في معناه من الابتهالات والتضرعات والتعود بها أسباب معدة للنفس لدوام افاضات (5) انواع الخيرات، وإذا كان وجوده سببا لوجود النعم وبقائها واتصال اواخرها باوائلها كان عدمه أو قلته سببا عرضيا يكون معه نفارها قلة ثباتها وانقطاع تواترها واتساقها،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - كذا في النسخ ولعل الصحيح: " الجل " أو " القليل " (2) - ا ب: " يوقفوا ".

(3) - ب ج: " فرع " (بالراء المهملة).

(4) - ج د: " يستمرى ".

(5) - ج د: " اضافات ".

 

[ 189 ]

لا لقصور من مفيضها، فانه برئ عن النقصان أجود الاجودين، فيضه تام وكرمة عام بل لانسبة لجود الى جوده ولا اضافه لكرم عبد الى كرمه بل لعدم امكان القابل لتقصيره في السعي الى تحصيل أسباب ذلك الامكان كالتضرع والدعاء والشكر والثناء، واما نسبة التنفير إليهم فلانهم بقلة شكرهم سبب للنفار بوجه عرضى كما علمت فلا جرم نسبه إليهم.

واعلم انه يتوجه ههنا ايضا ان نورد الشك المذكور في الكلمة التى قبلها وهو ان ما علم الله تعالى وقوعه أو عدم وقوعه كان معلومه واجبا فلا فائدة حينئذ في الشكر والثناء لانك (1) قد عرفت وجه الجواب هناك وهو ان الثناء والشكر جاز ان يكون مشروطا في الدوام والاتصال كما قررناه وقد علمت ان الشكر كيف هو سبب لاستنزال (2) المنن الالهية وعلة لا تصالها ودوامها واليه الاشارة بقوله تعالى: لئن شكرتم لازيدنكم (3) والى سببية انقطاعه وقلته لانقطاع النعم واستحقاق العذاب لتدنس النفس بالاشتغال بأضداده والاعراض عنه اشار بقوله: ولئن كفرتم ان عذابي لشديد (4) وقال تعالى: ومن شكر فانما يشكر لنفسه (5) اي ان منفعة الشكر عائدة على نفسه من الاستعداد للافاضات الخيرية واشكروا لله ان كنتم اياه تعبدون (6) فالشكر من تمام العبادة التى بها تكون النفس طاهرة مستحقة لرضوان الله، ومن الله الهداية الى طلب ما يرضيه، انه ولى التوفيق .

 

الكلمة الثالثة والثلاثون قوله عليه السلام: اكثر مصارع العقول تحت بروق الاطماع.

اقول: يقال: صرع فلان فلانا إذا غلبه ورمى به الى، الارض والمصارع جمع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - في النسخ: " الا انك ".

(2) - ب: سبب استنزال ".

(3) - من آية 7 سورة ابراهيم.

(4) - ذيل آية 7 سورة ابراهيم.

(5) - من آية 12 سورة لقمان وكذا من آية 40 سورة النمل.

(6) - ذيل آية 172 سورة البقرة.

 

[ 190 ]

مصرع وهو موضع الفعل، ومصارع العقول مواضع أغلاطها، وبروق الاطماع هو تصور امكان حصول الامور التى يتوهم الانتقاع بها فيقع الميل الى تحصيلها والمقصود ههنا تنبيه الانسان على وجوب التثبت عندما تلوح له المطامع حتى لا يميل فيها ولا يتضرع الا لما ينبغى منها على الوجه الذى ينبغى ونبه عليه السلام على ذلك بأن اكثر أغلاط العقول منشؤها ومبدؤها (1) ونزوع القوة الشهوية نحو المشتهيات بحسب اعتقاد حصولها.

وههنا تجوز ان حسنان في التركيب والاسناد، احدهما اسناد المصارع الى العقول التى هي في الحقيقة للاجسام وعبر به عن انخداعها وغلطها ووقوع حركتها على غير قانون صحيح ووجه المناسبة في هذا المجاز ان العقول إذا لم تثبت على الصراط المستقيم ولم تلزم قانون العدل المأمور بلزومه بلسان الحق بل مالت بها الشهوة تارة والغضب تارة ولعبت به االقوة الوهيمة فأزالت أقدامها عن حاق (2) الوسط الى طرف (3) الرذيلة التى هي أرض ونار بالنسبة الى سماء فضيلة العدل وجنتها فلاجرم صدق عليها انها مصروعة وان لها مصارع.

والثانى نسبة البروق الى الاطماع واسنادها إليها.

واعلم ان البرق في الاصل هو اشتعال اللامع المشاهد من السحاب ولنعين حقيقته لينكشف بها وجه المجاز، فنقول: ان الدخان المرتفع من الارض جسم لطيف من مائية وأرضية عملت فيها الحرارة والحركة المازجة عملا قويا فقرب لذلك مزاجه من الدهنية فهو لا محالة يشتعل بأدنى سبب مشعل فكيف بالحركة الشديدة فإذا اشتعلت تلك المادة من شدة المحاكة عند تمزيق السحاب كان ذلك الاشتعال هو البرق وإذا عرفت ذلك وقد عرفت ان الطمع هو نزوع القوة الشهوية الى تحصيل المشتهيات بحسب التصور للمنفعة واللذة واعتقاد حصولها وكانت التصورات لاتفاض على النفس الا بعد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب ج د: " منشأها ومبدأها ".

(2) - ا: " خان " ب: " خاف " د: " حاف " (بالحاء المهملة).

(3) - وكذا ولعل الصحيح: " طرفي ".

 

[ 191 ]

تهيئتها واستعدادها لقبولها من الفاعل عزت قدرته جرى ذلك الاستعداد وقبول النفس به (1) لاشراق تلك التصورات عن مشرقها مجرى استعداد تلك المواد وقبولها بحسبه للاشراق بذلك الاشتعال فكما ان ذلك الاشتعال والاشراق المخصوص من السحاب سبب محرك لشهوات الخلق واطماعهم الى نزول المطر كذلك اشراق تلك التصورات ويروقها في سر الطامع مبدؤ محرك لقوته الشهوية الى المشتهيات فلاجل هذه المشابهة صح اسناد البروق الى الاطماع.

واما برهان هذه القضية فظاهر بعد احاطتك بالاصول السابقة وذلك انك عرفت ان سبب وقوع النفس وتورطها في الرذائل المستلزمة للنقصان هو انحراف احدى القوتين اعني الشهوية والغضبية ومتابعة العقل لها وميلها به الى مقتضى طباعها من طرفي الافراط والفريط مما هو المعنى بمصارعه.

وههنا دقيقة وهى (2) انه عليه السلام خصص المصارع بجهة تحت دون سائر الجهات وذلك من اوضح (3) الدلائل على اطلاعه على نكت الاسرار ومعرفته التامة بنظم الكلام ووجوه المجازات المستحسنة.

انما خصصها بتلك الجهه لاحد وجهين: احدهما - ان مصارع العقول من مسببات (4) بروق الاطماع والمسبب أدون من السبب والسبب والسبب أعلى والمسبب تحت بالنسبة إليه وليست الجهة الجهة الحسية بل الجهة العقلية.

الثاني - ان بروق الاطماع لما كانت علامات للطامع على حصول المنفعة واللذة حتى لزم عن ذلك ان انصرع عقله كانت بروق الاطماع دلالا ت (5) على مصارع العقول ولاشك ان الدليل اظهر من المدلول واعلى في الذهن واسبق وجودا منه فينبغي ان تكون مصارع العقول التى هي المدلول تحت بالنسبة الى دليلها، والله ولى الهداية والتوفيق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - كذا ولعل الصحيح: " له " (2) - اب: " هو ".

(3) - ا: " افصح ".

(4) - ا: " حنيات ".

(5) - ج: " دالة ".