[ 17 ]
البحث الثالث
في الكمالات العقلية الانسانية
لما كان للنفس الانسانية قوتان، قوة نظرية وقوة عملية كذلك وجب ان يكون لكل واحدة من هاتين القوتين كمال يخصها، واستكمال النفس بتلك الكمالات في القوتين يسمى حكمة، فرسم الحكمة إذا استكمال النفس الانسانية بتصور الامور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الانسانية، وهى تنقسم الى نظرية وعملية، فالنظرية هي استكمال القوة النظرية في الادراكات التصورية والتصديقية حتى تصير عقلا مستفادا، والعملية هي استكمال القوة العملية بتصور انه كيف يمكن وينبغى ان يكون اكتساب الكمال بالملكة التامة على الافعال الفاضلة حتى يكون الانسان قويما على الصراط المستقيم وكل واحدة منهما تنقسم الى اقسام (1) ثلاثة: اما اقسام الحكمة النظرية فهى هذه حكمة تتعلق بما في الحركة والتغير من حيث هي في الحركة والتغير وهى الحكمة الطبيعية إذ كان البحث الطبيعي لاعن ذات الجسم بل عن كونه متحركا وساكنا، وحكمة تتعلق بامور من شأنها ان يجردها الذهن عن التغير وان كان وجودها مخالطا للتغير وتسمى حكمة رياضيه، وحكمة تتعلق بما وجوده مستغن عن مخالطة التغير فلا يخالطها اصلا وان خالطها فبالعرض لا ان ذاتها مفتقرة في تحقق الوجود إليه وتسمى الفلسفة الاولى والفلسفة الالهية وهى معرفة الاله من هذه وقد يزاد ههنا قسم رابع وهو الحكمة الباحثة عن لواحق الوجود من حيث هو وجود مثل الوحدة والكثرة والكلية والجزئية والعلية والمعلولية والكمال والنقصان وغيرها وقد ادرجناها في الفلسفة الاولى وان اردنا افراز قلنا في القسم الثالث: وحكمة تتعلق بما وجوده مستغن عن مخالطة التغير اصلا وهى الفلسفة الالهية، وحكمة تتعلق بما وجوده مستغن عن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - في النسخ: " باقسام ".
[ 18 ]
مخالطة التغير وقد يخالطها بالعرض من غير ان تكون ذاتها مفتقرة في تحقيق وجودها إليه وهى الحكمة الكلية.
واما اقسام الحكمة العملية فهى هذه حكمة خلقية وحكمة منزلية وحكمة سياسية وذلك لان كل عاقل فلابد وان يكون ذا غرض في فعله وذلك الغرض اما يكون مختصا به في نفسه وهو علم الاخلاق، أو يكون مختصا به مع خواصه واهل بيته وهو علم تدبير المنزل، واما ان يكون عائدا الى الانسان مع (1) عامة الخلق وهو علم السياسة وقد يزاد في هذه الاقسام رابع وهو غرض الانسان بالنسبة الى مدينته وتسمى حكمة مدنية وهو تعلم تدبير المدينة بكيفية (2) ضبطها ورعاية مصالحها، وهذا علم لابد منه لان الانسان مدنى بالطبع فما لم يعرف كيفية بناء - المدينة وترتيب اهلها على اختلاف درجاتهم لم يتم مقصوده وعلى القسمة الاولى فان هذا القسم جزء من الحكمة السياسية.
اما فائدة الحكمة الخلقية فهو ان يعلم الانسان الفضائل وكيفية انقسامها (3) ليزكى (4) بها نفسه ويعلم الرذائل وكيفية ترتبيها ليطهر نفسه عنها، وفائدة الحكمة المنزلية ان يعلم المشاركة التى ينبغى ان يكون بين أهل المنزل ممن يبتنى عليه ويتم به لينتظم به المصلحة المنزلية، وفائدة الحكمة السياسية ان يعلم كيفية المشاركة التى (5) فيما بين اشخاص الناس (6) ليتعاونوا على مصالح الابدان ومصالح بقاء نوع الانسان.
البحث الرابع
في تفصيل وجيز لاصول الفضائل الخلقية
اعلم انا لما ذكرنا اقسام هذه الحكمة اردنا ان نشير الى اقسام الفضائل والرذائل الخلقية بتفصيل وجيز لتعلق غرضنا بذلك وقبله نقول: ان الخلق ملكة تصدر بها عن النفس افعال بسهولة من غير تقدم روية وتذكر وليس هو نفس القدرة لانها بالنسبة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - ا: " في ".
(2) - ج د " هو علم يعرف به كيفية ".
(3) - ج: " اقسامها ".
(4) - ا ب: " لتزكو ".
(5) - ب ج د " التى تقع ".
(6) - كلمه " الناس " ليست في ا.
[ 19 ]
الى الطرفين (1) على سواء وليس الخلق كذلك، ولانفس الفعل لان الفعل قد يكون تكليفيا ثم انه ليس شئ من الاخلاق بطبيعى في الاصل سواء كان فضيلة أو رذيلة وانما الطبيعي قبوله وان كان ذلك القبول للفضيلة أو الرذيلة مختلفا (2) بالسرعة والبطوء بحسب اختلاف المزاج (3) في قوة الاستعداد وضعفه لاحدى الجنسين، بيان انه ليس بطبيعى انه لو كان طبيعيا لما امكن نقل الانسان عنه بالتأديب والتعويد وقد أمكن فوجب ان لا يكون طبيعيا، اما الملازمة فظاهرة فان اهل العالم لو اجتمعوا عل تعويد الحجر بالحركة الى فوق لما امكن ذلك بيان بطلان اللازم (4) ما يشاهد من انتقال بعض الخلق (5) عن بعض الاخلاق الى بعض ولولا ذلك الانتقال لما كان لوضع التأديب والشريعة التى هي سياسة الله في خلقة فائدة.
واما اصول الفضائل الخلقية (6) فقد اجمع الحكماء على انها ثلاثة وهى الحكمة والعفة والشجاعة بيان ذلك انك قد علمت ان للانسان قوة عقلية وان له قوة بها يكون الغضب والاقدام على الاهوال والتسلط والترفع وظهور الكرامات، وقوة بها تكون الشهوة وطلب الغذاء والنزاع الى الملاذ البدنية واللذات الحسية وقد علمت تباين هذه القوى من جهة ان بعضها إذا قوى اضر بالاخر وربما ابطل احدها فعل الاخر، وقد يقوى احدهما ويضعف الاخر بحسب المزاج والعادة والتاديب فالقوة العقلية بالنسبة الى البدن كالملك بالنسبة الى المدينة ولذلك سميت ملكية وآلتها التى تستعملها من البدن (7) الدماغ، القوة الشهوية تسمى بهيمية وآلتها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - ب: " الطريق ".
(2) - ا: " يختلف ".
(3) - ب ج " اصل الخراج ".
(4) - هذه الكلمه " في د فقط.
(5) - متحركا بالفتحة بضبط الفتحة صريحا في ا.
(6) - اعلم ان الشارح (ره) قد اخذ ما يتعلق بالفضائل الخلقية من ههنا الى ان ينتهى البحث عن هذا الموضوع من كتاب طهارة الاعراق لابن مسكويه اعلى الله درجته الا ان الشارح (ره) تصرف فيه اما بتلخيص وهو كثير واما باضافة وهو قليل لكن المطلب هو ما ذكره ابن مسكويه حتى ان المطالب مأخوذة غالبا بعين العبارة لكن بالتلخيص بمعنى انه اسقط بعضا من العبارة واكتفى ببعضها الاخر في صورة افادة المرام والا تصرف فيه بما يقتضيه المقام.
(7) - ما بين القلابين ليس في نسخ ا ج د.
[ 20 ]
التى تستعملها من البدن) الكبد، والقوة الغضبية تسمى سبعية وآلتها من البدن القلب وإذا عرفت ذلك فاعلم ان اعداد الفضائل الخلقية المذكورة بحسب اعداد هذه القوى وكذلك اضدادها التى هي رذائل اما الحكمة الخلقية فهى من فضائل القوة العقلية وذلك انها ملكة تحصل للنفس عن اعتدال حركتها بحيث يكون شوقها الى المعارف الصحيحة تصدر عنها الافعال المتوسطة بين افعال الجربزة والغباوة، واما العفة فهى فضيلة القوة البهيمية وهى ملكة تحصل عن اعتدال حركة هذه القوة بحسب (1) تصريف العقل العملي (و) بها تكون الافعال المتوسطة بين (2) افعال الحمود (3) والفجور، واما الشجاعة فهى فضيلة القوة السبعية وهى ملكة تحصل عن (4) اعتدال هذه القوة السبعية بحسب تصرف (5) العقل فيما يقسطه لها وبها تصدر الافعال المتوسطة بين افعال الجبن والتهور، ثم ان هذه الفضائل الثلاث إذا نسب بعضها الى بعض حتى اعتدلت في الانسان حدث عنها ملكة رابعة هي تمام الفضائل الخلقية (و) بها تكون الافعال المتوسطة بين الظلم والانظلام تسمى بالعدالة، ومن الناس من ظن ان المراد من الحكمة ههنا هو الحكمة العملية التى تجعل قسيمة للنظرية وقد عرفت ما بينهما من التباين من تصور حديهما.
واعلم ان تحت كل واحدة من هذه الفضائل الاربع انواعا من الفضائل ونحن نذكرها.
اما الفضائل التى تحت الحكمة: الاولى صفاء الذهن وهو قوة استعدادية للنفس نحو اكتساب الاراء.
الثانية الفهم وهو حسن (6) ذلك الاستعداد لتصور ما يرد عليها من غيرها والتفطن لكيفية لزومه عن المبادئ.
الثالثة الذكاء وهو شدة تلك القوة وسرعة انقداح النتائج للنفس.
الرابعة الذكر وهو ثبات ما يقتنصه العقل والوهم من التصورات والاحكام.
الخامسة التعقل وهو موافقة بحث النفس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - ب: " تحت ".
(2) - ا ب: " من ".
(3) - ا ج: " الجمود وكذا في شرح نهج البلاغة راجع الفصل الثاني الذى عقده لبيان الفضائل النفسانية لامير المؤمنين (ع) ".
(4) ا: " عند ".
(5) - في غير ا: " تعريف ".
(6) - ج د: " " حسن ".
[ 21 ]
عن الاشياء الموضوعة المطلوبة بقدر ماهى (1) عليه.
السادسة سهولة التعلم وهى حدة في الفهم بها يدرك الامور النظرية.
الفضائل التى تحت العفة (2) فالاولى الحياء وهو انحصار الروح خوف اتيان القبائح والحذر من الذم والسب الصادق.
الثانية الدعة وهى سكون النفس عند حركة الشهوات.
الثالثة الصبر وهو مقاومة النفس للهوى لئلا تنقاد لقبائح اللذات.
الرابعة السخاء وهو التوسط في الاخذ والاعطاء بانفاق المال فيما ينبغى بمقدار ما ينبغى وعلى الوجه الذى ينبغى وتحته فضائل سنذكرها ان شاء الله.
الخامسة الحرية وهى فضيلة للنفس بها يكتسب المال من وجهه ويعطى ما يجب في وجهه ويمتنع (3) من اكتساب المال من غير وجهه.
السادسة القناعة وهى التساهل في المآكل والمشارب والزينة.
السابعة الدماثة وهى حسن انقياد النفس للحمد وتسرعها للجميل.
(4) الثامنة الانتظام وهو حال للنفس يقودها الى حسن تقدير الامور وترتيبها على الوجه الذى ينبغى.
التاسعة الهدى وهو محبة تكميل النفس بالرتبة الحسنة.
(5) العاشرة المسالمة وهى موادعة للنفس (6) عن ملكة لااضطراب فيها.
الحادية عشر الوقار وهو ثبات النفس عند الحركات في تحصيل المطالب.
الثانية عشر الورع وهو لزوم الاعمال الجميلة محبة لتكميل النفس.
الفضائل التى تحت الشجاعة الاولى كبر النفس وهو الاستهانة باليسار (7) والاقتدار على حمل الكرامة والهوان واعداد النفس للامور العظيمة مع تأهلها لها.
الثانية عظم الهمة وهى فضيلة للنفس تحتمل معها سعادة الجد وضدها حتى الشدائد التى تكون عند الموت ومقاومتها (8) وفى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - ا: " تبنى عليه ".
(2) - هذا العنوان لم يذكر في نسخة ا بل عد فيها الفضائل بعدد ترتيبي بلا فصل.
(3) - ا ب: " يمنع ".
(4) - في طهارة الاعراق فهى حسن انقياد النفس لما يجمل وتسرعها الى الجميل ".
(5) - في الطهارة: " بالزينة الحسنة " (6) - في الطهارة: " موادعة تحصل للنفس ".
(7) - في الطهارة: " باليسير ".
(8) - ا: " ومفارقتها ".
[ 22 ]
الاهوال (1) الثالثة النجدة وهى ثقة النفس في المخاوف وعدم مخامرة الجزع لها.
الرابعة الحلم وهو فضيلة للنفس تكسبها (2) الطمأنينة فلا تكون شغبة ولا يحركها الغضب بسهولة وسرعة.
الخامسة الثبات وهو قوة للنفس تكسبها سكونا يعسر معه الحركة عند الخصومات في الحروب التى يذب بها عن الحريم والشريعة لشدتها.
السادسة عدم الطيش وهو نفس عسر تلك الحركة لوجود ملكة ذلك السكون.
السابعة الشهامة وهى الحرص على الاعمال العظيمة توقعا للاحدوثة الجميلة.
الثامنة احتمال الكد وهو قوة تستعمل آلات البدن بالتمرن وحسن العادة في الامور الحسنة (3) الفضائل التى تحت السخاء: فالاولى الكرم وهو انفاق المال الكثير بسهولة من النفس في الامور الجليلة القدر الكثيرة النفع كما ينبغى.
الثانية الايثار وهو فضيلة للنفس بها يبذل الانسان (4) بعض حاجاته التى تخصه لمن يستحقها.
الثالثة النبل وهو سرور النفس بالافعال العظيمة وابتهاجها بلزوم هذه السريرة (5) الرابعة المواساة وهو معاونة الاصدقاء والمستحقين ومشاركتهم في الاموال والاقوات بالارادة والاختيار.
الخامسة السماحة وهى بذل بعض ما لا يجب بذله كذلك.
الفضائل التى تحت العدالة: الاولى الصداقة وهى محبة صادقة يعتنى (6) معها بجميع اسباب الصاحب (7) وايثار فعل الخيرات التى بها تكون المحبة.
الثانية الالفة وهى اتفاق الاراء عن التواصل فينعقد عندها التظافر على تدبير المعاش (8).
الثالثة صلة الرحم وهى مشاركة ذوى اللحمة في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - ج: " في الاحوال " (بلا واو ايضا قبل في).
وعبارة طهارة الاعراق بعد: عند الموت: " واما الثبات فهو فضيلة للنفس تقوى بها على احتمال الالام ومقاومتها وفى الاهوال خاصة ".
(2) - في الطهارة: " تكسب بها ".
(3) - في الطهارة " الحسيه ".
(4) - في الطهارة: " بها يكف الانسان عن ".
(5) - في الطهارة: " السيرة ".
(6) - في الطهارة: " يهتم ".
(7) - كذا في النسخ وفى الطهارة: " الصديق ".
(8) - في الطهارة: " تدبير العيش ".
[ 23 ]
الخيرات الدنياوية.
الرابعة المكافأة وهى مقابلة الاحسان بمثلة أو بزيادة عليه.
الخامسة حسن الشركة وهى الاخذ والاعطاء في المعاملات على الاعتدال الموافق للجميع.
السادسة حسن القضاء وهى المجازاة بغير من ولاندم.
السابعة التردد وهو طلب مودات الاكفاء واهل الفضل بالاعمال التى تستدعى ذلك منهم.
الثامنة العبادة وهى الخضوع لله وتعظيمه وتمجيده واكرام اوليائه من الملائكة والنبيين والائمة والصالحين، والعمل بمقتضى الشريعة مكمل لهذة الاشياء وإذا عرفت هذه الاجناس وما تحتها من الفضائل فينبغي ان تعلم ان كل جنس منها مقابل بجنس من الرذيلة.
ومحتوش (1) برذيلتين هما طرفا الافراط والتفريط وهو وسط لهما اما المقابلات فالجهل مقابل للحكمة، والشره مقابل للعفة، والجبن مقابل للشجاعة، والجور مقابل للعدالة، والمراد ههنا تقابل التضاد.
واما الرذائل المحتوشة لهذه الاجناس فالحكمة (2) محتوشة برذيلتين احداهما البله وهو جانب التفريط منها ونعنى به ههنا تعطيل القوة الفكرية واطراحها ويسمى الغباوة الثانية السفة وهو طرف الافراط منها ونعنى به استعمال تلك القوة فيما لا ينبغى وتسمى الجربزة، واما العفة (3) فمحتوشة برذيلتين كذلك اما رذيلة التفريط فيسمى خمود (4) الشهوة ونعنى به سكون النفس عن اللذة الجميلة التى تحتاج إليها لمصالح البدن مما رخصت فيه الشريعة أو العقل واما رذيلة الافراط فتسمى شرها ونعنى به الانهماك في اللذات والخروج فيها الى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - هو اسم مفعول من: " احتوش القوم فلانا أى جعلوه في وسطهم ".
(2) - نص عبارة طهارة الاعراق هكذا: " اما الحكمة فهى وسط بين السفه والبله واعنى بالسفه استعمال القوة الفكرية فيما لا ينبغى وكما لا ينبغى وسماه القوم الجربزة واعنى بالبله تعطيل هذه القوة واطراحها وليس ينبغى ان يفهم ان البله ههنا نقصان الخلقة بل ما ذكرته من تعطيل القوة الفكرية بالارادة ".
(3) - نص عبارة طهارة الاعراق هكذا: " واما العفة وسط بين رذيلتين وهما الشره وخمود الشهوة وأعنى الشره الانهماك في اللذات والخروج فيها عما ينبغى وأعنى بخمود الشهوة السكون عن الحركة تسلك نحو اللذة الجميلة التى يحتاج إليها البدن في ضروراته وهى ما رخص فيها صاحب الشريعه والعقل ".
(4) - ا: " جمود " (بالجيم).
[ 24 ]
ما لا ينبغى، واما الشجاعة فرذيلة التفريط منهما الجبن وهو الخوف مما لا ينبغى ان يخاف منه واما رذيلة الافراط فالتهور وهو الاقدام على مالا ينبغي ان يقدم عليه واما العدالة فرذيلة التفريط منها الانظلام وهو الاستجابة والاستجداء (1) في المقتنيات لمن لا ينبغى وكما لا ينبغى اما رذيلة الافراط فهو الظلم وهو التوصل الى كثرة المقنيات من حيث لا ينبغى كما لا ينبغى فهذه اطراف الرذائل والاوساط منها هي اجناس الفضائل، وإذا عرفت الرذائل المحتوشة لهذه الاجناس امكنك ان تعرف الرذائل المحتوشة لانواعها والمقابلة لها اعني طرفي الافراط والتفريط من نوع تلك الفضيلة التى هي الوسط وذلك بان تنظر الى حد تلك الفضيلة وتعتبر الزيادة عليه والنقصان عنه وقد عرفت انه هو الوسط الذى ينبغى فتعرف ان الزيادة عليه والتجاوز لحده مما لا ينبغى وهو طرف الافراط وان النقصان عنه والوقوف دونه مما لا ينبغى وهو طرف التفريط وهما رذيلتان بالنسبة الى الفضيلة التى هي وسط لهما وتارة تجد لتلك الاطراف اسماء بحسب اللغة وتارة لاتجد فهذه هي الاشارة الى اصول الفضائل والرذائل الخلقية وتعريف اقسامها.
تنبيه - اعلم ان مبدأ هذه العلوم اعني اقسام الحكمة النظرية والعملية مستفاد من الشريعة الالهية وذلك لان المقصود من بعثة الرسل الى الخلق انما هو ارشادهم الى النهج (2) الصواب والطريق الاصلح في اكتساب العلوم والاعمال ولما كانت مناهج الاعمال محصورة في هذه الاقسام وجب ان تكون غاية بعثة الرسل تعريف مبادئ هذه العلوم وتعريف كمالاتها وما تؤدى إليه على الوجه الكلى وضبط هذه الاوامر والنواهي بقوانين كلية لا تخص زيدا دون عمر ولان ذلك مما يزول بزوال الاشخاص والمقصود بقاء ذلك الارشاد ويجب على سائر الخلق تعلم تلك القوانين في الصور الشخصية والوقائع الجزئية وكذلك مبادئ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - في الطهارة: " واما الانظلام فهو الاستحذاء والاستحانة في المقتنيات لمن لا ينبغى وكما لا ينبغى ولذلك يكون ابدا للجائر اموال كثيرة لانه يتوصل إليها من حيث لا يجب ووجوه التوصل إليها كثيرة واما المنظلم فمقتنياته وامواله يسيرة جدا لانه يتركها من حيث يجب ".
(الى آخر ما فيه من التحقيق المفيد فمن اراده فليطلبه من هناك).
(2) - ج د: " نهج ".
[ 25 ]
العلوم النظرية هي مستفادة من ارباب الشرائع على سبيل التنبية وان كان تحصيل كمالها بالقوة العقلية على سبيل الحجة ثم ان الكمالات الانسانية محصورة في هاتين (1) المرتبتين من الكمال العقلي والعملي والتنزيل الالهى ناطق بذلك قال الله تعالى حكاية عن خليله ابراهيم عليه السلام: رب هب لى حكما والحقني بالصالحين (2) فالحكم تكميل القوة النظرية، والالحاق (3) بالصالحين تكميل القوة العملية، وقال خطابا لموسى (4) عليه السلام: فاستمع لما يوحى اننى انا الله لا اله الا انا فاعبدنى واقم الصلوة لذكرى (5) فالتوحيد كمال القوة النظرية والعبادة كمال القوة العملية وقال حكاية عن عيسى عليه السلام: انى عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيا (6) فالاعتراف بكمال العبودية لله يستلزم كمال قوته النظرية بمعرفة الله وقال بعده واوصاني بالصلوة والزكاة مادمت حيا (7) اشارة الى كمال القوة العملية وقال خطابا مع محمد صلى الله عليه وآله: فاعلم انه لا اله الا الله (8) وذلك اشارة الى كمال القوة النظرية وقال بعده: واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات (9) وهو اشارة الى كمال القوة العملية فقد تطبق لسان الوحى ولسان الحكمة على ان الكمال الانساني محصور في العلم والعمل وبالله التوفيق.
في احوال النفس بعد المفارقة
وفيه ابحاث:
البحث الاول
في ان النفس باقية بعد خراب البدن
برهانه ان كل حادث بعدان لم يكن فلا مكان حدوثه قابل لست (10) اعني الامكان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - ا ب: " هذين ".
(2) - آية 83 سورة الشعراء.
(3) - ا: " والحقان " ب: " واللحاق " (4) - ا ب: " مع موسى ".
(5) - ذيل آية 13 وتمام آية 14 سورة طه.
(6) - آية 30 سورة مريم.
(7) - آية 31 سورة مريم.
(8 و 9) - من آية 19 سورة محمد.
(10) - ج د: " لشئ ".
[ 26 ]
اللازم للماهية الحادث بل الاستعداد التام لقبول صورته كما تقرر في غير هذا الموضع فلو صح العدم على النفس لوجب ان يكون لامكان عدمها محل وليس هو النفس لوجوب بقاء القابل عند وجود المقبول واستحالة بقائها عند تحقق عدمها فلابد من محل آخر هو المادة فلو طرأ عليها العدم لكانت في مادة وقد فرضت مجردة هذا خلف واما تقرير هذه المقدمات وبيان كون النفوس متحدة بالنوع وحادثة وبيان بطلان التناسخ فمذكور في المطولات.
البحث الثاني
في بيان ماهية السعادة والشقاوة
ونعنى بالسعادة الحالة التى تحصل لذوى الخير والكمال من جهتهما بالشقاوة الحالة التى تكون لذوى الشر والافة من جهتهما واعلم ان المشهور ان السعادة هي اللذة وان الشقاوة هي الالم ثم ان من لم يترق عن حيز البهائم من العوام اعتقدوا انها المحسوسة بالحس الظاهر فقط (1) وربما ترقى بعضهم الى ان اعتقد ان هناك لذة والما يدرك بمدارك اخرى الا انهم ربما انكروا ثبوتها في نفس الامر ونسبوها الى خيالات غير حقيقية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - اصل هذا البيان مأخوذ مما ذكره ابن سيناء في اول النمط الثامن من كتاب الاشارات ونص عبارته: " وهم وتنبيه - انه قد يسبق الى الاوهام العامية ان اللذات القوية المستعلية هي الحسية وان ما عداها لذات ضعيفة وكلها خيالات غير حقيقية وقد يمكن ان ينبه من جملتهم من له تميز ما فيقال له: اليس الذ ما يصفونة من هذا القبيل هو المنكوحات والمطعومات وامور يجرى مجراها وانتم تعلمون ان المتمكن من غلبة ما ولو في امر خسيس كالشطرنج والنرد قد يعرض له مطعوم ومنكوح مع صحة جسمه في صحبة حشمه (الى آخر ما قال فمن اراده فليطلبة من هناك، وقال ايضا بعده بلا فاصلة) تذ نيب - فلا ينبغى لنا ان نستمع الى قول من يقول: انا لو حصلنا على جنة لا نأكل فيها ولا نشرب فيها ولا ننكح فاية سعادة لنا ؟ ! والذى يقول هذا فيجب ان يبصر ويقال له: لعل الحال التى للملائكة وما فوقها الذوابهج وانعم من حال الانعام بل كيف يمكن ان يكون لاحدهما الى الاخر نسبة يعتد بها " ومن طلب التفصيل فليراجع شروح الاشارات.
[ 27 ]
وربما استحقروها بالنسبة الى الحسية وهم مقابلون على غلطهم بأمرين: احدهما - ان لذة الغلبة ولو في امر خسيس كالشطرنج والنرد قد تؤثر على اتم اللذات الحسية مع الحاجة إليها وكل ما يؤثر على غيره مع امكانه فهو اقوى فلذة الغلبة في احد الامور الخسيسة اقوى واتم من اللذات الحسية وكذلك الم الانقهار عند التفطن والاعتبار والمقدمة الاولى وجدانية والثانية اولية.
الثاني - حال الملك اتم واطيب من حال البهيمة وهو ضروري مع ان الملك فاقد اللذات الحسية فلو كانت اللذة هي الحسية فقط لكانت البهيمة اتم واسعد من الملك وإذا عرفت ذلك فاعلم ان اللذة هي ادراك لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك ولا شاغل ولا مضاد للمدرك (1) وشرح هذا الرسم اما الادراك فقد عرفته وانما قيدناه بالوصول (2) لان اللذة ليست ادراك اللذيذ بل ادراك وصول اللذيذ وحصوله وانما قلنا ما هو عند المدرك كمال وخير ولم نعتبر ما هو في نفس الامر كذلك لما ان الشئ قد يكون كمالا وخيرا في نفس الامر والمدرك لا يعتقد كماليته وخيريته فلا يلتذ به وقد لا يكون كذلك وهو يعتقد انه كذلك فيلتذ به فالمعتبر إذا ما يكون بالقياس الى المدرك لاما في نفس الامر وانما كان ذلك الوصول كمالا وخيرا باعتبارين لان الشئ الذى من شأنه ان يناسب المدرك ويليق به له اعتباران: احدهما كون حصوله مخلصا من النقصان والقوة وبهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - مأخوذ مما ذكره ابن سيناء في اوائل النمط الثامن من كتاب الاشارات بهذا العبارة: " تنبيه - ان اللذة هي ادراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك كمال وخير من حيث هو كذلك والالم ادراك ونيل لوصول ما هو عند المدرك آفه وشر ".
(2) - يطابق العبارة ما ذكره المحقق الطوسى (ره) ضمن شرح هذا التعريف ونص عبارته: " وانما قال لوصول ما عند المدرك ولم يقل لما هو عند المدرك لان اللذة ليست هي ادراك اللذيذ فقط بل هي ادراك حصول اللذيذ للملتذ ووصوله إليه وانما قال ما هو عند المدرك كمال وخير لان الشئ قد يكون كمالا وخيرا بالقياس الى شئ وهو لا يعتقد كماليته وخيريته فلا يلتذ به وقد لا يكون كذلك وهو يعتقد فيلتذ به فالمعتبر كماليته وخيريته عند المدرك لافى نفس الامر " (الى آخر ما قال فمن اراده فليطلبة من هناك).
[ 28 ]
الاعتبار كان كمالا والثانى كونه مؤثرا وبهذا الاعتبار كان خيرا وانما قلنا: من حيث هو كذلك، لان الشئ قد يكون كمالا وخيرا من جهة دون جهة واللذة بالشئ انما يكون من جهة كونه كمالا وخيرا فلذلك وجب ذكرها، وانما قلنا: ولاشاغل لان اللذيذ قد يصل ولا يلتذ به لوجود الشاغل كما في حق الممتلئ من الطعام جدا اذلا يلتذ بما يحضره من طعام، وقولنا: ولا مضار لان الذى قد يصل ولا يلتذ به لوجود ضده كما في عليل المعدة ومن تغيرت عذوبة رطوبة ذوقه بغلبة المرارة فان الحلو يصل إليه فلا يلتذ به وإذا عرفت معنى اللذة عرفت ان الالم ما يقابلها وهو ادراك لوصول ما هو عند المدرك آفة وشر من حيث هو كذلك ولا شاغل ولا مضاد للمدرك وشرح هذا الرسم بين من الاول.
البحث الثالث
في اثبات اللذة العقلية للنفوس الانسانية
لاشك ان للجوهر العاقل منا كمالا (1) وهو ان يتمثل فيه جلية (2) الحق الاول بقدر ما يستطيعه إذ تعقل الاول كما هو غير ممكن الا له (تعالى) ثم ما يتجلى له من صور معلولاته المرتبة الى آخر الوجود تمثلا يقينيا بريئا عن شائبة الظنون خالصا عن مخالطة الاوهام على وجه لا يكون بين ذات العاقل وبين ما يتمثل فيها تمايز اصلا بل يصير عقلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - مأخوذ مما ذكره ابن سيناء في النمط الثامن من كتا ب الاشارات ونص عبارته: " تنبيه - كل مستلذ به فهى سبب كمال يحصل للمدرك وهو بالقياس إليه خير ولاشك في ان الكمالات وادراكاتها متفاوته (الى ان قال) وكمال الجوهر العاقل ان يتمثل فيه جلية الحق الاول قدر ما يمكنه ان ينال منه ببهائه الذى يخصه ثم يتمثل فيه الوجود كله على ما هو عليه مجردا عن الشوب مبتدءا فيه بعد الحق الاول بالجواهر العقلية العالية ثم الروحانية السماوية والاجرام السماوية ثم بعد ذلك تمثلا لا يمايز الذات فهذا هو الكمال الذى يصير به الجوهر العقلي بالفعل (الى ان قال) فنسبة اللذة العقلية الى الشهوانية نسبة جلية الاول وما يتلوه الى نيل كيفية الحلاوة (الى آخر ما قال) ".
(2) - نذكر معنى الجلية عن قريب في موضع انسب ان شاء الله تعالى.
[ 29 ]
مستفادا على الاطلاق ولاشك ان هذا الكمال خير بالقياس إليه ثم لاشك انه مدرك لهذا الكمال والخير ولحصوله له فإذا هو ملتذ به وهى اللذة العقلية وانت بعد المقايسة بين هذه اللذة واللذة الحيوانية تجد العقلية اشرف من الحسية واقوى في الكيفية واكثر (1) في الكمية اما انها اشرف فلان المدرك بالعقل ذات الله تعالى وصفاته وملائكته وكيفية وضع العالم الاعلى والاسفل والمدرك بالحسن سطوح الاجسام وعوارضها وإذا كانت المدركات العقلية اكمل واعلى كان الابتهاج بوصولها اشرف واسنى، واما انها اقوى كيفية فلان الادراك العقلي ينفذ في باطن الشئ ويميز بين الماهية واجزائها ولواحقها ويميز بين الجزء الجنسى والفصلي ثم يعتبر ذلك التمييز في كل جزء جزء واما الحس فلا شعور له الا بظاهر المحسوس، واما انها اكثر كمية فلان عدد الامور المعقولة لا يكاد يتناهى وذلك ان اجناس الموجودات وانواعها والمناسبات الحاصلة بينها غير متناهية واما الحس فان مدركاته محصورة في اجناس قليلة وان تكثرت فبالاشد والاضعف كالسوادين المختلفين في الحلوكة وإذا كانت الكمالات العقلية اقوى واكثر وادركاتها اتم كانت اللذة التابعة لها اشد لان فرقان ما بين اللذتين فرقان مابين الكمال والادراكين فإذا اللذة العقلية اتم واشرف من الحسية بل لانسبة بينهما، لا يقال: لو كانت المعقولات كمالات للنفس الانسانية لوجب اشتياقها الى حصولها ولتألمت بحصول اضدادها لكن التالى باطل فالمقدم باطل.
اما بيان الملازمة فلان كل قوة فانها تشتاق الى كمالاتها المستلزمة للذاتها وتتألم بحصول اضدادها كالباصرة فانها تشتاق الى النور وتتألم بالظلمة، واما بطلان التالى فظاهر لانا نقول: الملازمة ممنوعة فان الاشتياق لا يجب الا بشرط عدم سبب عدمه لكن سبب عدمه هنا موجود وهو ان النفوس مادامت في هذا البدن فهى مشغولة بالمحسوسات والعلائق الجسمانية فيمنعها ذلك عن الالتفات الى المعقولات ويصرف وجوهها عن الاقبال عليها وما لم يقبل عليها لم يحصل لها ذوق فإذا لا يكون لها إليها شوق واما اضدادها فلا ستمرارها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - ب: " اكبر ".
[ 30 ]
في الوجود وعدم تجددها أو اشتغال النفس بغيرها لم تكن مدركة لها فلم تتألم بحصولها.
البحث الرابع
في درجات السعداء والاشقياء
احوال النفوس الانسانية في السعادة والشقاوة اما ان تعتبر في القوة النظرية بحسب العقائد أو في القوة العملية بحسب الاعمال، وعلى التقديرين فالنفس اما ان تكون موصوفة بالعقائد الحقة والاخلاق الفاضلة أو بأضدادها وهى العقائد الباطلة والاخلاق المسترذلة أو موصوفة بالاعتقادات الحقة والاخلاق الردية أو بالعكس أو خاليه عن احدهما أو عنهما معا فهذه تسعة اقسام:
اما القسم الاول فالاعتقادات الحاصلة اما ان تكون برهانية أو لا تكون فان كان الاول فاعلي هذه الدرجة نفس شاهدت العالم المعقول وانتقشت بنقوش الجلايا (1) القدسية وصارت عقلا مستفادا وبعد وقوفك على مراتب الاستعداد للانتقال الى المعقولات الثانية (2) تعرف تلك الدرجات وهؤلاء هم اولياء الله الابرار وهم في الغرفات آمنون وان كان الثاني فهى درجة اصحاب التقليد ولهم عذاب يخصهم بسبب انهم علموا باكتساب ما ان لهم كمالا ما فحصل لهم شوق بحسبه ولم يصلوا الى ما اشتاقوا إليه من ذلك الكمال لنقصان اكتسابهم النظرى وقصورهم عن الوصول، وتفاوت ذلك العذاب بحسب تفاوت ذلك الشوق وهو عذاب منقطع ويصلون عنه الى سعادة تخصهم بحسب ادراكهم لما تصوروه من الكمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - قال ابن سينا في النمط السابع من الاشارات مانصه: " " تذنيب - فيظهر لك من هذا ان كل ما يعقل فانه ذات موجودة يتقرر فيها الجلايا العقلية تقرر شئ في شئ " قال المحقق الطوسى (ره) في شرحه على الاشارات ضمن شرح العبارة الثانية مانصه " والجلية في اللغة وهو الخبر اليقين وانما عبر عن المعقولات بالجلايا لانها الصور المطابقة لذوات تلك الصور بالقين.
(2) - ا: " الثابتة ".
[ 31 ]
واما القسم الثاني وهو النفوس الموصوفة بالاعتقادات الباطلة والاخلاق الردية فتلك الامور اما ان تكون راسخة فان كانت راسخة فهى التى يدوم بها العذاب لان الجهل المركب مضاد لليقين فإذا كان متمكنا من جوهر النفس اعتقدت حينئذ انه كمالها ورجت الوصول الى ما تمثل (1) فيها انه كمالها المسعد (2) وكانت لا محالة بعد الموت منقطعة بفقدان مارجته فتصير معذبة بعدم الوجدان لما كانت راجية له فيدوم بدوام الجزم بصحة ذلك وان كانت غير راسخة فلهم عذاب منقطع لكون الهيئات الحاصلة لهم بسبب الاشتغال بالمضاد حالات غير متمكنة من تلك النفوس ولا مستحكمة فيها أو لانها مستفادة من احوال وامزجة فتزول بزوالها.
واما القسم الثالث وهى الموصوفة بالاعتقادات الحقة والاخلاق الردية فتلك الاعتقادات ان كانت برهانية فالنفوس بها سعيدة الا ان تلك السعادة مكدرة بعذاب يحصل من تلك الاخلاق الردية الا انه زائل بزوال تلك الاخلاق اما لانها غير راسخة أو لكونها مستفادة من الامزجة فتزول بزوالها.
القسم الرابع - وهى النفوس الموصوفة بالاعتقادات الباطلة والملكات الفاضلة وعذابها دائم ان كانت تلك الاعتقادات راسخة ومنقطع ان كانت غير راسخة والعلة ما سبق.
القسم الخامس - النفوس الخالية عن الاعتقادات الحقة والباطلة الموصوفة بالاخلاق الفاضلة كنفوس كثير من البله، والذى عليه ظاهر نظر المحققين انها بعد المفارقة لا يكون لها عذاب بسبب خلوها عن اسباب العذاب فإذا هي في سعة من رحمة الله وهذا مطابق للاشارة النبوية: اكثر اهل الجنة البله، وان كان ذلك ليس تمام المراد من الاشارة، ثم لا يجوز عندهم ان يتعطل عن الادراك اذلا تعطل (3) في الوجود ولا يمكن ان يدرك الا بآلة جسمانية فذهب بعض الحكماء الى جواز تعلقها باجرام اخرى فلكية (4) ضربا من التعلق لاعلى سبيل انها نفوس لتلك الاجرام مدبرة لها فان ذلك غير ممكن بل قد تستعمل تلك الاجرام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) -: " يمثل ".
(2) - ا ج د: " المستعد ".
(3) - ب ج د: " معطل ".
(4) - ا: " ملكية ".
[ 32 ]
فتعدها (1) لامكان التخيل ثم تتخيل الصور التي كانت معتقدة عندها فان كانت انما تتخيل الخير شاهدت الخيرات الاخروية على حسب ما كانت تتخيله (2) والا فشاهدت العقاب والشر وبعضهم جوز ان تكون الاجرام متولدة من الهواء والادخنة ثم جوزوا بعد ذلك ان يكون ذلك التعلق مفضيا (3) لاستعدادهم للكمال المسعد (4) وهذه المواضع غامضة وطريق الجزم فيها صعب نسأل الله تعالى الهداية الى سواء السبيل.
القسم السادس - النفوس الخالية عن الاعتقادات الموصوفة بالاخلاق الردية ولهم بعد المفارقة عذاب بسبب شوقهم الى ما فارقوه من اللذات الجسمانية وعدم تمكنهم منها، ويتفاوت ذلك العذاب بحسب تفاوت ذلك الشوق وبحسب شدة تمكن الهيئات البدنية من نفوسهم وضعفها وربما حكم ههنا بان ذلك الشوق ينقطع ويكون حكم هؤلاء بعده حكم الذين قبلهم.
القسم السابع - النفوس الموصوفة بالاعتقادات الخالية عن الاخلاق كنفوس كثيرا من الزهاد المنقطعين في رؤس الجبال وفى البراري فتلك الاعتقادات ان كانت برهانية فلهم سعادة تامة هي في التمام دون مرتبة اهل القسم الاول ان كانوا فاقدين للملكات الفاضلة الخلقية المعدة للكمال الاتم، وان كانت تقليدية فحكمهم حكم المقلدين في القسم الاول ولعل للاولين زيادة شرف بسبب الاخلاق الفاضلة.
القسم الثامن - النفوس الموصوفة بالاعتقادات الباطلة الخالية عن الاخلاق فتلك الاعتقادات ان كانت راسخة دام بها العذاب والعلة ما سبق، وان كانت غير راسخة دام بها العذاب ريثما (5) يبقى ثم نقطع بانقطاعها، ولعل هذه النفوس بعد ذلك تلحق بنفوس البله لعدم عرفانها بكمالاتها وعدم اشتياقها إليها.
القسم التاسع - النفوس الخالية عن الاعتقادات والاخلاق بالكلية وهى كالنفوس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - ا يبعدها ".
(2) - ب ج د: " متخيلة ".
(3) - ج د: " مقتضيا ".
(4) - ب ج د: " المستعد ".
(5) - ج د: " زين ما " وهو قطعا مصحف: " ريث ما ".
[ 33 ]
الهيولانية التى للاطفال، وليس للحكماء فيها مذهب ظاهر الا ان الاليق بحال اصولهم ان - يلحقوها بالنفوس الساذجة كنفوس البله ويكون حكمها حكمها، والله اعلم.
في الاشارة الى بعض احوال السالكين الى الله تعالى والواصلين من ابناء النوع الانساني
وفيه ابحاث:
البحث الاول
في بيان مسمى الزاهد والعابد والعارف
لما كان الكمال الذاتي للطالبين انما هو شروق نور الحق في اسرارهم وكان الطالب لامر عند توفيقه للطلب لابد وان يعرض عما يعتقد انه يبعده عن المطلوب ثم يقبل ويواظب على ما يعتقد انه يقربه الى المطلوب ثم بعد ذلك يصل الى المطلوب لاجرم لزم طالب ذلك الكمال في ابتداء امره ان يعرض عما يشغله عن المطلوب (1) من متاع الدنيا وطيباتها، وصاحب هذا الاعراض يختص (2) باسم الزاهد (3)، ثم يلزمه ان يواظب على ما يعتقد انه مقرب الى الحق من افعال مخصوصة هي العبادات كالصيام والقيام وبهذا الاعتبار يختص (4) باسم العابد، فإذا وجد الحق فاول درجات وجدانه هو المعرفة وحينئذ يختص (5)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - ب ج د: " عن الطلب " (2) - ب ج د: " يخص " (3) - اعلم ان هذه التعريفات ماخوذة من الشفاء لابن سينا (انظر اوائل النمط التاسع الذى في مقامات العارفين) ونص عبارته هناك هكذا: (تنبيه - المعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يخص باسم الزاهد، والمواظب على فعل العبادات من القيام والصيام ونحوهما يخص باسم العابد، والمنصرف بفكره الى قدس الجبروت مستديما لشروق نور الحق في سره يخص باسم العارف، وقد يتركب بعض هذه مع بعض ".
4 و 5 - ب ج د: " يخص ".
[ 34 ]
باسم العارف، وقد يتركب بعض هذه الاحوال مع بعض تركبا ثنائيا وثلاثيا فالاول زاهد عابد، زاهد عارف، عابد عارف، واما الثاني فتركب (1) واحد.
البحث الثاني
في انه كيف يكون الزهد والعبادة مؤديين الى المطلوب الذاتي
الزهد والعبادة من الامور المتممة لاغراض المعنى المسمى بالرياضة فلنبين اولا معنى الرياضة وكيفية تأديها (2) الى المطلوب، اما الرياضة في اللغة فهى تمرين البهيمة على الحركات التى ترتضيها (3) الرائض بحسب مقتضى اغراضه وتعويدها بها، ويستلزم ذلك منعها عن الحركات التى لا ترتضيها، ولما كانت النفس الحيوانية التى هي مبدأ الادراكات والحركات الحيوانية قد لا تكون مطيعة للنفس العاقلة باصل جبلتها لاجرم كانت بمنزلة البهيمة التى لم ترض، تقودها الشهوة تارة والغضب اخرى بحسب اثارة الوهم والمتخيلة لهما عما يتصورانه الى ما يلائمها فتتحرك حركات مختلفة حيوانية بحسب اختلاف تلك الدواعى فتستخدم حينئذ القوة العاقلة في تحصيل اغراضها فتكون هي الامارة بالسوء، اما إذا قويت النفس العاقلة على قهر تلك القوة ومنعها عن الحركات والافعال الباعثة للقوة الشهوية والغضبية وطوعتها بحسب ما يقتضيه العقل العملي الى ان تصير متأدبة في خدمتها مؤتمرة بأوامرها منتهية عن مناهيها كانت العاقلة هي المطمئنة التى تصدر عنها الافعال المنتظمة وكانت باقى القوى بأسرها مؤتمرة مستخدمة متسالمة (4 منقادة، ثم ان بين كون هاتين القوتين غالبة ومغلوبة مطلقا حالة تكون القوة الحيوانية فيها متابعة لهواها خارجة عن طاعة القوة العاقلة ثم تفئ الى الحق وتلوم نفسها على ذلك الانهماك فتسمى لوامة، والى القوى الثلاث اشير في الكتاب العزيز، ان النفس لامارة بالسوء (5) يا ايتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك (6) ولا اقسم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - ب ج د: " فتركيب ".
(2) - ج ب: " تأديتها ".
(3) - ا: " ترضيها ".
(4) - ب: " مسالمة ج د: " سالمة ".
(5) - وسط آية 53 سورة يوسف.
(6) - آية 27 و 28 سورة الفجر.
[ 35 ]
بالنفس اللوامة (1) فإذا الرياضة ههنا نهى النفس عن هواها وامرها بطاعة مولاها، واليهما اشير في التنزيل الالهى: واما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى (2) واما متمماتها فانه لما كان الغرض الاصلى منها هو نيل الكمال الحقيقي، وكان ذلك النيل موقوفا على حصول الاستعداد له، وكان ذلك الاستعداد مشروطا بزوال الموانع، وكانت الموانع داخلية وخارجية كان ذلك الغرض مستلزما لامور ثلاثة (3): احدها - ازالة ما عدا الحق الاول تعالى عن الوجهة المقصودة ازاحته عن سواء السبيل وهى الموانع الخارجية.
الثاني - تطويع النفس الامارة للنفس المطمئنة لينجذب الخيال والوهم الى الجنبة (4) العالية مستتبعين لسائر القوى الحيوانية وهى الموانع الداخلية.
الثالث - اعداد النفس لان يتمثل فيها (5) الجلايا القدسية بسرعة.
ثم لما كان بهذه الاغراض متممات وامور تعين عليها لاجرم كان الزهد الحقيقي مما يعين على الغرض الاول، والعبادات الشرعية مما يعين على الغرض الثاني وذلك هو الغرض منها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - آية 2 سورة القيامة (2) - آية 40 سورة النازعات.
(3) - هذه الامور مأخوذة من النمط التاسع من كتاب الشفاء ونص عبارته هناك: " اشارة - ثم انه ليحتاج الى الرياضة، والرياضة متوجهة الى ثلاثة اغراض، الاول تنحية ما دون الحق عن متن الايثار، والثانى تطويع النفس الامارة للنفس المطمئنة لتنجدب قوى التخيل والوهم الى التوهمات المناسبة للامر القدسي منصرفة عن التوهمات المنصرفة للامر السفلى، والثالث تلطيف السر للتنبيه، والاول يعين عليه الزهد الحقيقي، والثانى يعين عليه عدة اشياء، العبادة المشفوعة بالفكرة ثم الالحان المستخدمة لقوى النفس الموقعة لما لحن به من الكلام موقع القبول من الاوهام، ثم نفس الكلام الواعظ من قائل زكى بعبارة بليغة ونغمة رخيمة وسمت رشيد، واما الغرض الثالث فيعين عليه الفكر اللطيف والعشق العفيف الذى يأمر فيه شمائل المعشوق ليس سلطان الشهوة " فلله در الشارح قدس سره فانه اعرض عن الاشارة الى العشق ولو كان عفيفا فضلا عن الخوض فيه.
(4) ج د: " الجنة " (بتشديد النون).
(5) - ا " منها ".
[ 36 ]
بيان الاول ان الزهد الحقيقي (1) هو اعراض النفس عما يشغل سرها عن التوجه الى (2) القبلة الحقيقية وظاهر كونه معينا على الغرض الاول، واما كون المواظبة على العبادات معينا على الغرض الثاني فظاهر أيضا لانها رياضة ما لقوى العابد العارف المدركة والمحركة لتجرها بالتعويد عن الجنبة السافلة الى جناب (3) القدس (4) وكسر الهمة المتعلقة بما يضاد الكمال الذاتي، وانما اعتبرنا الزهد الحقيقي دون الظاهرى لان الاعراض عن المشتهيات البدنية إذا كان بحسب الظاهر فقط مع ميل القلب إليها لم ينتفع به لقوله صلى الله عليه وآله ان الله لا ينظر الى صوركم ولا الى اعمالكم ولكن ينظر الى قلوبكم، نعم وان كان لابد للسالك في مبدء الامر من الزهد الظاهرى لان الزهد الحقيقي مشروط به اولا وقد اتفق على ان: الرياء قنطرة الاخلاص، واما العبادات فأجملها (5) ماكان مشفوعا بالفكر المناسب وفائدة ذلك ان الغرض من العبادة تذكر المعبود الحق والمجردين (6) من الملائكة وذلك مما لا يتأتى الا بالفكر فلاجرم وجوب كونها مشفوعة به، وان كان لتلك الاغراض متممات اخر ومعينات كالكلام الواعظ من قائل زكى معتقد فيه، والالحان المناسبة البريئة عن التعود بمخالطة اللذات الخسيسة، وعن الايقاع في مجالس الانذال واجتماعاتهم لقبيح ما يفعل، وغير ذلك مما هو مذكور في مظانه فقد لاح لك حينئذ الغرض من الزهد والعبادة وكيفية تأديهما الى المطلوب الاصلى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - هذا المبحث مأخوذ من الشفاء (النمط التاسع) ونص عبارته: " تنبيه - الزهد عند غير العارف معاملة ما كأنه يشترى بمتاع الدنيا متاع الاخرة، وعند العارف تنزه ما عما يشغل سره عن الحق وتكبر على كل شئ غير الحق، والعبادة عند غير العارف معاملة ما كأنه يعمل في الدنيا لاجرة ياخذها في الاخرة هي الاجر والثواب، وعند العارف رياضة ما لهممة وقوى نفسه المتوهمة والمتخيلة لتجرها بالتعويد عن جناب الغرور الى الحق فتصير مسالمة للسر الباطن (الى آخر ما قال).
(2) - جميع النسخ " عن ".
(3) - ا ب: " الجناب ".
(4) - ب ج د: " المقدس ".
(5) - ب ج: " فاجلها ".
(6) - ا: " والمجرد ".
[ 37 ]
البحث الثالث
في غرض غير العارف من الزهد والعبادة
وغرضه منهما ومن عرفانه الزهد والعبادة عند غير العارف معاملتان، اما الزهد فلان مطلوب غير العارف منه ان يشترى بمتاع الدنيا متاع الاخرة، واما العبادة فلان غرضه منها ان يأخذ الاجرة عليها في الاخرة، واما غرض العارف منهما فقد سبق بيانه، اما من الزهد فالتفات القلب عن (1) ما سوى الله لئلا يمنعه من الاستغراق في محبته، وترك اخس المطلوبين لاشرفهما واجب في اوائل العقول، واما من العبادة فان تصير القوى البدنية مراضة تحت قياد (2) - النفس في توجهها الى مطلوبها الاصلى من الاستغراق في بحور الجلال لئلا يمنعها عن ذلك بالاشتغال بالامور المضادة له، واما غرضه من عرفانه فليس الا الحق لذاته لا غيره حتى العرفان فانه امر اضافي يقال بالنسبة الى المعروف فهو مغاير للمعروف لا محالة، فلو كان غرض العارف نفس العرفان لم يكن من مخلصي التوحيد لانه قد اراد مع الحق غيره وهذه حال المتبجح بزينة في ذاته، فاما من عرف الحق وغاب عن ذاته كما ستعرف فهو لا محالة غائب عن العرفان واجد للمعروف فقط، وهو السابح لجة الوصول وهناك درجات التحلية بالامور الوجودية التى هي النعوت الالهية وهى غير متناهية واليها اشير في الكتاب العزيز: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربى لنفد البحر قبل ان تنفذ كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا (3) والله ولى الخلاص وله منتهى الاخلاص.
البحث الرابع
في درجات حركات العارفين
فالاولى من تلك الدرجات الحركة التى تسمى في عرف اهل الطريقة بالارادة، وذلك انه إذا حصل للانسان اعتقاد ان السعادة التامة بالاقبال على الله تعالى وبالاعراض عما سواه كان ذلك الاعتقاد برهانيا أو تقليديا أو بحسب الجبلة، فانه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - في جميع النسخ " الى ".
(2) - ج د: " مبادى ".
(3) - آية 109 سورة الكهف.
[ 38 ]
يحدث عن ذلك الاعتقاد ارادة التوجه الى الله تعالى والفرار والبعد عما سواه، فمهما بقى الانسان كذلك سمى مريدا، ثم إذا توغل في السلوك وبلغت به الارادة والرياضة حدا ما (1) ظهرت عليه انوار الهية لذيذة تشبه البرق اللامع المختفى ويسميها اهل الطريقة بالاوقات وكل واحد منها محفوف بوجدين، وجد إليه وهو الشوق المتقدم عليه، ووجد عليه وهو التأسف على فواته وهو متأخر عنه، لان مفارقة تلك المعارفة (2) بعد حصولها يوجب حنينا وانينا شوقا (3) الى ما فات، واليه اشار صاحب الوجد في قوله:
إذا ما سقاني شربة من رضا به * ظمئت الى ذاك المدام فلم اروى (4)
وقول الاخر (5):
فابكى ان نأوا شوقا إليهم * وأبكى ان دنوا خوف الفراق
ثم ان هذه اللوامع تكون في مبدء الامر قليلة ثم لا تزال تكثر بحسب الامعان في الرياضة والتوغل فيها وتزداد وتتفاوت ازمانها بحسب زيادة قوة استعداد النفس لها حتى تصير تلك الاحوال ملكات فيظهر عليها في غير حال الارتياض وفى هذه الاحوال ربما عرضت له تلك الغواشى وهو غافل عنها فتستفزه عن مجلسه (6) وتوجب له الهرب والقلق (7) والاضطراب دفعة وذلك لكون النفس غير متأهبة لتلقيه كما نقل عن سيد المرسلين في مبدء الوحى انه كان يضطرب ويقول: زملوني زملوني، وكما اشير إليه في الكتاب العزيز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - مأخوذ من الشفاء (من النمط التاسع) ونص عبارته: " اشارة ثم انه إذا بلغت به الارادة والرياضة حدا ما عنت له خلسات من اطلاع نور الحق عليه لذيذة كأنها بروق تومض إليه ثم تخمد عنه وهو المسمى عندهم اوقاتا، وكل وقت يكتنفه وجدان، وجد إليه ووجد عليه، ثم انه ليكثر عليه هذه الغواشي إذا امعن في الارتياض، ثم انه ليتوغل في ذلك حتى يغشاه في غير الارتياض فكلما لمح شيئا عاج منه الى جناب القدس يتذكر من امره امرا فغشيه غاش فيكاد يرى الحق في كل شئ " وله ذيل في اشاراته الاتية فمن اراده فليطلبه من هناك.
(2) - ا: " العارفة " ج د: " المعارف ".
(3) - ب ج د: " تشوقا ".
(4) - كذا في النسخ.
(5) - هاتان الكلمتان والبيت الاتى لم يذكر شئ منها في نسخة ا.
(6) - ج: " محله ".
(7) - ج: " والقلقة ".
[ 39 ]
حكاية عن موسى عليه السلام: فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى اقبل ولا تخف انك من الامنين (1)، ثم انه ليزداد تعويده بظهور تلك الغواشى الى ان تصير تلك الغواشى مألوفة له فتطمئن بها (2) نفسه ويسكن إليها قلبه وتسمى حينئذ في عرفهم سكينة حتى تصير بعد ان كانت آثار البهجة باشراق تلك الانوار في سره ظاهرة عليه وعلامات الاسف والتلهف على فراقه كثيرة لديه بحيث يقل ذلك الظهور فيراه جليسه حال الاتصال بجناب الحق حاضرا عنده في اوقات السفر مقيما معه وهو في الحالين غائب مسافر ولا يزال يتدرج (3) في ذلك بحسب صفاء جوهره واستعداده بالملكة التامة الى ان يصير له ذلك متى شاء ثم يترقى في ذلك الى ان يتوقف ذلك الامر على مشيته بل يكون له بمطالعة كل شئ عبرة من غير قصد الاعتبار (4) بتلك المطالعة، فإذا عبر مقام السلوك الى النيل صار سره كمرآة (5) مجلوة حوذى (6) بها وجه الحق متسعا باشراقه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - ذيل آية 31 سورة القصص.
(2) - ا: " لها ".
(3) - ج د: " يندرج ".
(4) - ج د: " الاعتقاد ".
(5) - ج " مراة ".
(6) - النسخ: " حوفى " أوما يشبهه وصححناها بقرينة قول الشارح (ره) في شرح نهج البلاغة ضمن شرح قوله امير المؤمنين (ع): " والله لابن ابى طالب آنس بالموت من الطفل بثدى امه ": " فان علمه بعواقب الامور وادبارها وتطلعه الى نتائج الحركات بعين بصيرته التى هي كمرآة صافية حوذى بها صور الاشياء في المرائى العالية فارتسمت فيهاكما هي " (ص 104 الطبعة الاولى) ونظيره قوله الاخر في وصف التالين للقرآن حق تلاوته (ص 406 من الطبعة الاولى): " حتى صارت نفوسهم كمرائى مجلوة حوذى بها شطر الحقائق الالهية فتحلت وانتقشت بها " الى غيرهما واصل التعبير مأخوذ من كلام ابن سيناء (انظر كتاب الاشارات، النمط التاسع): " اشارة - فإذا عبر الرياضة الى النيل صار سره مرآة مجلوة محاذيا بها شطر الحق ودرت عليه اللذات العلى (الى آخر كلامه) " وقد قال أيضا قبل ذلك في كلام له: " وإذا اعرضت النفس عنه الى ما يلى العالم الجسدانى أو صورة اخرى انمحى المتمثل الذى كان اولا كأن المرآة التي كانت يحاذي بها جانب القدس قد اعرض بها عنه الى جانب الحس أو الى شئ آخر من الامور القدسي " قال المحقق الطوسى (ره) في شرح العبارة الثانية مانصه: " اشاره الى حاجة الذهول وسببه، وتمثل بالمرآة لانها في الجسمانيات اشبه شئ بالنفس المستفيضه عن المجردات ".
[ 40 ]
فيه مبتهجا باعلى اللذات الا انه مع ذلك مبتهج بنفسه لما فيها من اثر الحق فله مع نظره الى الحق نظر آخر الى نفسه فهو بعد واقف دون مقام الاخلاص فإذا غاب عن نفسه (1) يلحظ الجناب المقدس (2) فقط وان لحظ نفسه فبالعرض من حيث هي لاحظة للحق لامن حيث هي متزينة بزينة الحق فهناك يتحقق الوصول، وفى كلمات محققى اهل الطريقة (3): ما رأينا شيئا الا ورأينا الله بعده، فلما ترقوا قالوا: ما رأينا شيئا الا ورأينا الله فيه، فلما ترقوا قالوا: ما رأينا شيئا الا ورأينا الله قبله، فلما ترقوا قالوا: ما رأينا شيئا سوى الله، والكلمة (4) الاولى اشارة الى مقام الاعتبار مع قصده، والثانية اشارة الى مقام حصول تلك البروق غير متوقفة على مشيته، والثالثة اشارة الى مقام النيل مع ملاحظة النفس من حيث هي مبتهجة بزينة الحق فان الشبح الذى في المرآة هو المرئى قبلها، والرابعة اشارة الى مقام الفناء وهو ملاحظة الحق الاول مع الغيبة عن النفس، وقد جمعوا أيضا مراتب السلوك ومقامات الوصول في كلمة اخرى فقالوا: السفر سفران، سفر الى الله، وسفر في الله، والاول اشارة الى انتقالات النفس في مراتب السلوك، والثانى اشارة الى انتقالها في درجات الوصول، والله ولى التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) - عبارة ابن سيناء هكذا (في النمط التاسع من كتاب الاشارات): " ثم انه ليغيب عن نفسه فيلحظ جناب القدس فقط وان لحظ نفسه فمن حيث هي لاحظة لامن حيث هي بزينتها وهناك يحق الوصول ".
(2) - ا: " القدس " والشارح قد يعبر في كتبه بتعبير " جناب القدس " وقد يعبر بتعبير " الجناب المقدس ".
(3) - قال الشارح (ره) في شرح نهج البلاغة ضمن ذكر معنى الظهور عند شرح قول امير المؤمنين (ع): " وكل ظاهر غيره باطن " مانصه (ص 180 من الطبعة الاولى): " كما اشار إليه بعض مجردى السالكين: ما رأينا شيئا (فساق الكلام الى آخره فقال) والاولى مرتبة الفكر والاستدلال عليه، والثانية مرتبة الحدس، والثالثة مرتبة المستدلين به لا عليه، والرابعة مرتبة الفناء في ساحل عزته ".
(4) - في النسخ " والاية ".