[ 107 ]

 

الكلمة الثالثة عشر قوله عليه السلام: لا وفاء لملول (1).

اقول الوفاء فضيلة نفسانية بها يكون حسن اتمام الامور المعاهد عليها والقيام بها والمواظبة عليها وان اشتملت على احتمال كلفة ومشقة وتصدر (2) عن فضائل وهى كبر النفس والشهامة والحياء فان الانسان إذا كان مقتدرا على حمل الكرامة والهوان مؤهلا نفسه للامور العظام حريصا عليها متوقعا (3) للاحدوثة الجميلة يحذر من الذم والسب الصادق بمواقعة القبيح لابد وان يكون وفيا، ويقابله الغدر مقابلة التضاد أو مقابلة العدم والملكة، فيه تردد.. واما الملال فهو انصراف النفس واعراضها عن اتمام ماهى بصدده من الافعال وله اسباب: احدها - تلعب (4) الوهم بالقوة المتخيلة وتشويشه للفكر ومعارضته للعقل عند التفات النفس الى الاعمال وشروعها فيها بتحسين ملذ أو نافع آخر بالتخييل الكاذب هو اشرف مما هي بصدد تحصيله فينحل (5) عزمها عن الحركة فيه أو بتهوين ذلك الفعل (6) واعتقاد سهولته في كل وقت تتشوق (7) فيه الامال أو غير ذلك فينصرف عنه الى البطالة فيتبعها القوى الى التعطيل.

وثانيها - ضعف الالة وعجزها عن الحركة أو ضعف القوى المحركة وكلالها وعجزها عن التحريك فينصرف عنه طلبا للراحة كما يعرض عند الافكار الكثيرة فتعتاد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - " للملوك ".

(2) - ج د: " يصدر ".

(3) - ج د: " توقعا ".

(4) - ا: " تلعب " ج د: " باعث ".

(5) - د: فيختل ".

(6) - ب ج: " العقل ".

(7) - ب ج د: " فتشوق.

 

[ 108 ]

النفس الوقوف عن الاعمال ويصير ذلك ملكة لها الى غير ذلك من الاسباب، والملول هو من حصلت لنفسه ملكة ذلك الانصراف والالتفات وكثرته لكثرة عروض اسبابه، وإذا عرفت ذلك عرفت ان فضيلة الوفاء لا توجد لنفس الملول لانه إذا تكيف بهذه الملكة لم يتمكن من اتمام امر فضلا عن حسن القيام به والمواظبة عليه وكان داخلا في زمرة الغادرين وكان ذلك موجبا لتنفر طباع الخلق عنه في المعاملات حتى انه لو كان صاحب حرفة أو سالكا لطريق (1) العلم لم يمكنه ان يتوصل بشئ من هذه الاسباب الى اصلاح معاش أو معاد بل كان اسوأ حالا من أصحاب البطالة لانهم ربحوا الراحة عن الحركات المتعبة في تعلم تلك الطرق (2) والصنائع.

وفى هذه الكلمة تنبيه للملول على وجوب معالجة نفسه والاجتهاد في حل عقدة الملال بتحصيل أضداد أسبابه والتعويد لها والتمرن عليها ليمكن ان تحصل له ملكة الوفاء التى هي من الفضائل العظيمة وهى محمودة بكل لسان ومستحسنة عند كل عاقل ويعترف بها كل انسان وان قل حظه من الانسانية وتجدها موجودة في اصناف الخلق كالروم والحبشة والنوبة وكثير من اجناس (3) العبيد (4).

وقابلها الغدر في جميع ما ذكرنا اعني انه مذموم بكل لسان ينفر السامع من ذكره ويانف منه كثير من اجناس العبيد.

وشرف الشئ يبين من خساسة ضده وقد أثنى الله تعالى على صاحب هذه الفضيلة في مواضع من كتابه قال تعالى: والذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق (5) وقال: والموفون بعهدهم إذا عاهدوا (6) وقال تعالى في الامر به: واوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها (7) وقد تمدح تعالى باثبات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب ج د: " بطريق ".

(2) - كذا في النسخ واظن انه: " الحرف ".

(3) - ج د: " اصناف ".

(4) - ب: " كثير من العبيد ".

(5) - آية 20 سورة الرعد.

(6) - من آية 177 سورة البقرة.

(7) - صدر آية 91 سورة النحل.

 

[ 109 ]

اشديته وقال: ومن أوفى بعهده من الله (1) وبالجملة فهى من الصفات الكمالية والفضائل النفسانية بحظ وافر، والله الموفق.

الكلمة الرابعة عشر قوله عليه السلام: لا كرم أعز من التقى (2).

اقول: الكرم هو انفاق المال الكثير بسهولة من النفس في الامور الجليلة القدر الكثيرة النفع بمقدار ما ينبغى على الوجه الذى ينبغى، وهى من انواع فضيلة السخاء، والتقى في اللغة الخوف، وفى العرف الخاص هو خوف النفس من التدنس بأدناس الهيئات البدنية والتكيف بالملكات الردية ورفض المشتهيات البدنية وتباعدها وهربها منها بمقاومة الشسياطين وأبناء الجن الساكنين في القلل (3) وإلهامات المتشبثين (4) باطراف الفطن عن ان يلحق اعلى المقامات مقاومة بمقدار معتدل كما ينبغى موافق لرسم الشريعة غير خارج عن الرسوم الموضوعة للرياضة الحقيقة وكيفيتها فان تعدى الكمال نقصان، والعزة الجلال وعظمة الشان وإذا عرفت ذلك فاعلم ان الكرم كما يطلق حقيقة ويراد به ما ذكرنا فكذلك قد يطلق مجازا ويراد به انفاق النفس وسمحها بالمشتهيات البدنية وقلة الالتفات الى اللذات الحسية التى يخاف من الاشتغال بها الالتفات عن القبلة الحقيقية الموجب لسخط الله وما (5) اعتبرناه من القيود في حقيقة التقى " بسهولة منها وطيب " على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - من آية 111 سورة التوبة.

(2) - قريب من ذلك قوله (ع) في باب الحكم من نهج البلاغة: " ولا عز اعز من التقوى " وقال الشارح (ره) في شرحه (ص 624 من الطبعة الاولى): " لان التقوى تستلزم جميع مكارم الاخلاق الجامعة لعز الدنيا فكان عزها اكبر عزا من غيرها ".

(3) - ا: " في الفلك ".

(4) - ج د: " المتلثين ".

(5) - ا: " وقد ".

 

[ 110 ]

سبيل الاستعارة التى هي اجل انواع المجاز، ووجه المشابهة ان الكريم كما يسمح بالمال الكثير ويفارقه بسهولة من نفسه في تحصيل الامور الجليلة القدر الكثيرة النفع بمقدار ما ينبغى على الوجة الذى ينبغى كذلك المتقى من جهة انه متق يسمح باللذات الحسية والمشتهيات البدنية بسهولة من نفسه في تحصيل الامور الجليلة القدر الكثيرة النفع وهى اللذات العالية والمشتهيات الباقية بمقدار ما ينبغى وعلى الوجه الذى ينبغى مما لا يخالف الرسوم الشرعية والاوضاع الحقيقية ولهذه المشابهة الشريفة والملاحظة اللطيفة أطلق (ع) عن التقى انه كرم.

وأما بيان انه اعز ما يطلق عليه اسم الكرم وهو المقصود من هذه الكلمة فلان التقى قد سمح (1) بجميع اللذات المستحسنة الحسية وأعرض عنها فان تناول شيئا منها فلا (يتناوله) لانه ملذ بل مقوم للحياة حتى لو قامت حياته بغير ملذ لكان هو والملذ على سواء بالنسبه إليه، والكريم وان سمح فبالمال الذى هو جزئي من جزئيات تلك الملذات، وقد يكون ذلك البذل منه تحصيلا للذة فانية وشتان مابين اللذتين وفرقان ما بين الكرمين.

إذا ما ظمئت الى ريقه * جعلت المدامة منه بديلا

واين المدامة من ربقه * ولكن اعلل قلبا عليلا

فقد عرفت ان التقى أعز كرم وأجله وأعظم مسمياته شانا وارفعها مكانا وان صاحبه هو المستفتح لاغلاق سبل الهدى إذا (2) اغلق عن نفسه ابواب مسالك الردى.

اللهم خذ بأزمة قلوبنا الى اجابة داعيك حتى لا نلتفت (3) الى غيرك ولا تجترئ (4) على هتك استار ابواب محارمك، فتزل قدم بعد ثبوتها ونذوق (5) السؤ بما صددنا عن سبيلك (6)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " يسمح ".

(2) - ب ج د: " إذ ".

(3) - ا ب: " تلتفت.

(4) - ج: " تجترئ ".

(5) - ا: " وتذوق ".

(6) - هي مأخوذة من آية 94 سورة النحل بتغيير

 

[ 111 ]

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب (1).

الكلمة الخامسة عشر قوله عليه السلام: لا معقل احصن من الورع (2) .

اقول المعقل والعقل الملجأ (3) والحرز، والحصن المكان الذى يحفظ فيه الشئ، والورع في اللغة العفة، وفى عرف العلماء عبارة عن لزوم الاعمال الجميلة التى فيها كمال النفس كما بيناه (4) قبل، وعرفت انه نوع من أنواع العفة وقد اطلق عليه السلام لفظ المعقل (5) الذى هو حقيقة في الملجأ الجسماني على الورع مجازا من باب الاستعارة والتشبيه ووجه المناسبة ان الملجأ كما يتحصن الشخص فيه من الامور التى يخافها ويلجأ إليه من عذاب أو هلاك يلحقه كذلك لزوم الاعمال الجميلة تلجأ إليها النفس وتتحصن بها في الدار الاولى من الذم والعقاب العاجل وفى الدار الاخرى من العذاب بسعير (6) ملكات الرذائل والهلاك الاجل، ولما كاد (7) لا يكون بين العذاب الاول والثانى نسبة لشدة التفاوت بينهما في الشدة والضعف عرفت حينئذ التفاوت بين الحصنين والفرق بين الحرزين، وتحققت ان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يسير ونص الاية: " ولا تتخدوا ايمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ".

(1) - آية 8 من سورة آل عمران.

(2) - قال الشارح (ره) في شرحه على نهج البلاغة في شرح الفقرة (ص 624 من الطبعة الاولى): " واستعار له لفظ المعقل باعتبار تحصن الانسان به من عذاب الله، ولما كان عبارة عن لزوم الاعمال الجميلة فلا معقل احصن منه ".

(3) - ج د: " المعقل الملجأ " ولعله هو الصحيح.

(4) ب د: " بينا ".

(5) - ب ج: " العقل ".

(6) - ا ج د: " السعير ".

ويمكن ان تكون العبارة هكذا: " من عذاب سعير ملكات الرذائل ".

(7) - ج د: " كان ".

 

[ 112 ]

اللاجى الى غير الورع غير لاج الى مفزع ان ولا ناج من الفزع وانه ملحوق بالعقاب (1) مدرك باشد العذاب، وان المتحصن بحصن - الورع لاخوف عليه إذ لا ملجأ من الله الا إليه، وحق للعاقل ان لا يلجا الا الى حرز ينفعه و (2) حصن يمنعه والا لم يكن واضعا للشئ موضعه فكان (3) ساقطا عن درجة العقلاء، والله الموفق.

الكلمة السادسة عشر قوله عليه السلام: نفاق المرء ذلة.

اقول: قد عرفت حقيقه النفاق واشتقاقه من أي شئ، وأما الذلة فهى المهانة وهى الانظلام والاستجابة لكل احد وقد عرفت ايضا انها طرف التفريط من العدالة والمقصود من هذه الكلمة بيان ان النفاق لازم من (4) الذلة وبيان ذلك ان المنافق لما كان خارجا عن اعتقاد الى اعتقاد (5) متنقلا (6) في احوال لا يجوز التنقل (7) فيها دل ذلك على انقهار نفسه لما يرد عليها من الامور الخيالية واستجابتها للوساوس الشيطانية ولكل ما يرد عليها من ذلك فيوجب ترديدها في العقائد المتضادة واتباعها لهذه تارة ولهذه (8) تارة وذلك معنى المهانة والذلة لا جرم صدق ان نفاق المرء صادر عن ذله وكذا المنافق يتحقق هذه الرذيلة في نفسه التى يخرج بها عن العدالة ويكون سببا لحرمانه سلوك (9) سبيل الخير والانقياد لاسباب السعادة الباقية، ان المنافقين في الدرك الاسفل من النار (10)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " بالعتاب ".

(2) - د: " أو ".

(3) - ج د: " وكان ".

(4) - ا ج د: " عن ".

(5) - ب ج د: " اعتداد ".

(6) - ب: " منتقلا " ج د: " منتقل ".

(7) - ج د: " النقل ويقال: " تنقل من مكان الى آخر تحول وقيل اكثر الانتقال ".

(8) - د: " ولذا ".

(9) - د: " عن سلوك ".

(10) - العبارة صدر آية 45 من سورة النساء وذيلها: " ولن تجد لهم نصيرا ".

 

[ 113 ]

وفى هذه الكلمة تجوز حسن في اطلاق اسم الذلة على سببها وهو من اقوى وجوه المجاز وهى مستلزمة للتنبيه على وجوب حسم اصل هذه الرذيلة بالسعي والترفع (1) الى الحصول على العدالة التى هي الوسط ليسلم الانسان من دنس هذه الرذيلة وما يلزمها من النفاق وغيره، وبالله (2) التوفيق.

الكلمة السابعة عشر قوله عليه السلام: الجزع أتعب من الصبر.

اقول: الجزع ألم نفساني يعرض من تصور فقد محبوب أو فوت مطلوب، واما الصبر فقد عرفت انه فضيلة للنفس بها يكون مقاومتها لهواها لئلا تنقاد الى مقابح (3) اللذات وقد عرفناها (4) فيما قبل بانه مقاومة النفس لهواها، وهو تعريف للشئ ببعض لوازمه الخاصة به إذا عرفت ذلك فاعلم ان المقصود من هذه القضية بيان ان الجزع أشد تعبا على النفس من الصبر وانت عند (5) ادنى تفطن ومراجعة لباطنك ترى ان ذلك امر وجدانى ويزيدك (6) تنبيها على صحة ذلك النظر الى غايتي الجزع والصبر فان الانسان لو لم يقاوم هواه ليسلم من مطاوعته على تعود الجزع لم يزل في حزن دائم وجزع غير منقض وشقاء (7) لا محيص عنه والم دائم لاأتعب من تحمله، وان هو استشعر العادة الجميلة وهو ان يرضى بكل ما يجده حتى يحصل تلك العادة ملكة وخلقا ويكون مقاوما لهواه لئلا يقوده الى الحزن عل مالا يجدى الحزن عليه شيئا اكثر من التألم لم يزل مسرورا مغبوطا فرحا، وكان نسبة ما يعانيه من تعب الصبر الى تعب الجزع كالقطرة بالنسبه الى البحر ولو لم يكن التفاوت الا ان تعب الجزع في زيادة وتعب الصبر في نقصان (8) لكان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - اب: " والرفع ".

(2) - ب: " من الله ".

(3) - ب ج د: " قبائح ".

(4) - ب د: " عرفناه " ج: " عرفنا " (بلا ضمير).

(5) - ج د: " بعد ".

(6) - ج د: " ونزيدك ".

(7) - ج د: " وتعب ".

(8) - ب: " النقصان ".

 

[ 114 ]

ذلك كافيا في تفاوت الشدة فيهما وفارقا في قوة التعب بينهما فان توهمت ان هذا الاستشعار لا يتم أو لا ينتفع به فانظر الى استشعارات الخلق في مطالبهم ومعايشهم تر عيانا فرح المتعيشين بمعايشهم على تفاوتها وسرور المحترفين بحرفهم على تباينها، وتصفح ذلك في كل طبقة منهم فانه لا يخفى عليك فرح كل احد منهم بما هو فيه، وليس ذلك الا لقوة استشعار كل قوم بحسن طريقتهم ولزومهم لها بالعادة الطويلة، فإذا لزم طالب الفضيلة مذهبه وقوى استشعاره وطالت عادته بذلك كان اولى بالسرور من هذه الطبقات الذين يخبطون في الجهالات وأخفهم مؤنة وأقلهم تعبا وأحظاهم بالنعيم المقيم لانه محق وهم مبطلون، ومتيقن وهم ظانون، وهو ولى الله وهم أعداؤه، الا ان اولياء الله لاخوف عليهم ولاهم يحزنون (1) وإذا تبنيت غاية الجازع والصابر فما اظنك بشاك في صحة هذه القضية وصدقها، والله ولى الاعانة.

الكلمة الثامنة عشر قوله عليه السلام: الذل مع الطمع.

اقول: قد عرفت ان الذل هو المهانة وهى انقهار النفس واستجابتها وانفعالها عن الامور الصادرة (2) عليها، واما الطمع فهو قوة نزوع الشهوة الى طلب شئ مع تصور امكانه للطالب، واعلم ان الطمع قد يكون محمودا وقد يكون مذموما، فالمحمود هو ماكان طمعا في تحصيل أمر باق مما يكون كمالا للنفس أو وسيلة إليه، وعليه يحمل قوله عز وجل حكاية عن الخليل عليه السلام: والذى أطمع ان يغفر لى خطيئتي يوم الدين (3) وأمثاله، والمذموم هو ما كان طمعا في تحصيل ما لا ينبغى من الاستكثار في المقتنيات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) اية 62 سورة يونس.

(2) ج: " الصادة " والظاهر: عنها.

(3) - آية 82 سورة الشعراء.

 

[ 115 ]

الفانية وما لا يعود بنفع في امر المعاد، والمراد ههنا هو الطمع بالمعنى الثاني، وإذا كان كذلك فلابد وان يكون الذل ملازما للطمع واللازم مع ملزومه في الوجود ثم السبب في ذلك اللزوم ان قوتي الغضب والشهوة تتغالبان (1) فأي القوتين كان أغلب فلابد وان تكون النفس تابعة لها وحينئذ تنجذب القوة خلفها، فإذا فرضنا ان القوة الشهوية ثارت بصاحبها وقويت في الطلب الى حد لا ينبغى فلا بد وان يكون العقل مأسورا في يدها، ويتبعها سائر القوى فتنقهر معها قوته الغضبية وتسكن عن الحركة فيما يجب ان يتحرك فيه، وحينئذ تكون المهانة المستلزمة لزوال الانفة والحمية.

وفى هذه الكلمة تنبيه على وجوب ترك رذيلة الطمع بترك متابعة القوة الشهوية وقهرها، لان رذيلة الذل لما كانت مهروبا منها (2) مجتهدا في تحصيل ما يقابلها من الفضائل التى فيها كمال النفس وكان ترك الطمع وسيلة الى تحصيل تلك الفضائل وجب ذلك الترك لوجوبها، والله ولى التوفيق.

الكلمة التاسعة عشر قوله عليه السلام: الحرمان مع الحرص.

اقول: الحرمان منع العطية، وأما الحرص فقد سبق بيانه وهما لفظان مهملان فالقضية مهملة، والمتيقن منها حكم جزئي وعند ذلك نقول: لما كانت الموهبات والعطايا (3) قد تكون دنيوية وقد تكون أخروية، وكان الحرمان نسبة تستدعى حارما ومحروما ومحروما منه (4) كان الحرمان صادقا على منع الموهبة الاخروية وعلى منع الموهبة الدنيوية، غير ان الاليق بكلامه عليه السلام حمله على منع الموهبة الاخروية: وإذا (5) كان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج: " متتابعتان ".

(2) - د: " عنها ".

(3) - ج د: " والعطيات ".

(4) - ب: " يستدعى محرما ومحروما منه " د: " محروما ومحروما منه ".

(5) - ب ج: " إذا " د: " أو ".

 

[ 116 ]

حرمانها لازما من لوازم الحرص المذموم لما عرفت ان المقبل بوجهه على الانهماك في طلب حاضر اللذات منقاد بكف سلطان الشهوة الى دنى المشتهيات، مشغول اللوح عن الانتقاش بالاثار العلوية، غير مستعد لقبول الانوار القدسية، ومن لم يستعد لامر كان محروما منه وهو سبب الحرمان وعلة فوت الاحسان من غير تقصير من الفاعل ولا نقصان، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك (1)، بمتابعة (2) هواها وعدم الاستعداد لاحسان مولاها، واعتبر ما قلنا (في انه) من لم يستعد لشئ كان محروما منه تجد الحريص على اقتناء أبقى اللذات وهو الحرص المحمود مشغولا بأضداد ما اشتغل به المحروم الشقى محروما (3) بعدم استعداده للملذ الدنى والكمال الوهمي البدني فيصدق حينئذ ان الحرمان مع الحرص في المحرومين الحريصين من الطرفين.

وقد تصدق هذه القضية في المتعارف الظاهر على وجه آخر وهو ان الحرص في طلب العطايا والمنح الدنيوية قد يكون مستلزما لحرمان الطالب، وإذا (4) قلنا ان القضية مهملة امكن حملها ايضا على هذا المطلوب وبيانه ان الحرص يسنلزم اللجاج والالحاف (5) في السؤال مما ينفر طباع المطلوب منه لما انهما لازمان للرذيلة المنفور منها طبعا ويولد السأم، والنفرة مستلزمة للبغض المنافى للميل الى العطاء، وحينئذ يصدق ان الحرص سبب الحرمان والمعلول مع علته في الوجود.

وانت إذا سبح فكرك في بحر جواهر كلامه علمت ان ينابيع الحكم (6) منبعثة منه، وان علوم كثير العلماء جداول تأخذ (7) عنه:

وإذا قضى في المشكلات ترادفت * حكم تريك الوحى كيف تنزلا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - صدر آية 79 سورة النساء.

(2) - ا: " فمتابعة ".

(3) ليست في ا.

(4) ب: " واذ ".

(5) - د: " والالحاح "، اقول: هما بمعنى واحد.

(6) - ا: " ان الحكمة ".

(7) - ج د: " تؤخذ ".

 

[ 117 ]

 

الكلمة العشرون قوله عليه السلام: عبد الشهوة أذل من عبد الرق.

اقول: اثبات هذا الحكم ببيان امرين: احدهما - ان المنقاد لشهوته ذليل أي مهين خاضع.

والثانى - ان مهانته واستجابته لشهوته أشد من مهانة عبد الرق واستجابته لسيده.

اما الاول فلا اشكال فيه إذ لا معنى لانقياده لشهوته وعبوديته لها الا خضوعه وامتهانه في يدها، والضرورة حاكمة بان المنقاد للشئ والخاضع له ممتهن في يده واما الثاني فواضح ايضا ويزيده (1) وضوحا ان خضوع عبدالرق لمولاه وتذلله له قد يكون عن كره وعدم شهوة بل بحسب الغلبة والقهر والخوف من الاذى وحينئذ تكون الاعمال الصادرة عن ذلك كثيرا ما تكون سجعة (2) غير منظومة ولا تامة ومع ذلك لا يخلو من مشاغبة ونفرة طبع يلحقه بحسب ملال يعرض له أو بحسب شرة في طبعه بحيث لا يفي بضبطها السيد فلا يصدق معها الخضوع والامتهان والتذلل، واما خضوع المنقاد لشهوته وامتهانها له فربما خرج به الى حد لو قطع من جلده قطعة لم يحس بها حال انقياده لها، واعتبر ذلك فيمن غلبته (3) شهوته وحكمت عليه بالوصول الى امرأة مستحسنة ممانعة له الى غير ذلك من المشتهيات، فتجده بحسب خضوعه لشهوته وانقياده لها ممعنا في امتهان نفسه في احكام ما يصدر عنه من الافعال واتقان (4) ما يتحرك فيه من الاعمال من غير سأم (5) ونفار ومن دون انفة أو مراعاة حشمة وجاه، ولو كان ما يدعوه إليه الشهوة أقبح الاعمال وأشنعها كبذل اللص نفسه وماله في تحصيل الات السرقة واصلاحها والخروج بها متخفيا في ظلام الليل والامكنة المخوفة والمواضع المخطرة التى يتيقن غيره فيها الهلاك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " نزيده ".

(2) كذا وفى نسخة ج د: " منتخبة " والظاهر: سمجة.

(3) - ج: " غلبت عليه " د " غلب عليه ".

(4) - ج: " وانفال " د: وانفعال ".

(5) - ا: " تسأم ".

 

[ 118 ]

لو سلكها ومع ذلك فتجده غير خائف بالنسبة الى حكم شهوتة وطاعة هواه وغافلا عن كل شئ سواه، وربما وقع في الاسر وأشفى على الهلاك مرة ومرة وقطعت يده أو رجله فلا يبقى الا ريثما يبرأ قطعه ثم يعود الى ماكان عليه حتى لو قطعت الات بدنه التى يتمكن بهامن السرقة لكان في خياله بحسب حكم شهوته انه لو كانت له آله يتوصل بها الى صنعته تلك لعاودها، كل ذلك طاعة لشهوته ومهانة وخضوعا في يدها بحيث يجزم الانسان انه لو كلف عبد الرق الذى احسن إليه المدة الطويلة بأقل تلك الاعمال وأيسرها أوفى وقت لم تجر عادته بتكليفه فيه ولم يكن العبد مشتهيا لها لنفر طبعه منها ومانع (1) في عدم قبول امره فيها، وإذا عرفت ذلك ظهر لك ان ذل (2) عبد الشهوة اقوى من ذل الرق بأضعاف وان من ساوى بينهما فقد فقد الانصاف وكابر عقله، وذلك مفهوم مقصده العزيز وسر لفظه الجزيل الوجيز، وفيه تنبيه على وجوب قهر الشهوة وكسرها إذا كانت داعية (3) الى اتباع الشيطان والعدول عن (4) طاعة الرحمن.

وكان كثير ممن يدعى الشرف والفضل ويزعم انه كامل العقل ويسخط ويأنف ان ينسب إليه نقصان ورذيلة ويأبى ان يسلب عنه كمال وفضيلة، فضلا عن ان يقال: هو رق لمولى منقادا في اسر الشيطان متهالكا في طاعته وهو عن رشده غافل مذعنا ومشتغلا (5) بقبول (6) اوامر شهوته وهو لما يراد به جاهل، حتى يتنبه بهذه الاشارة اللطيفة على انه إذا كان انفته وعزة نفسه ونفار طبعه من ان يقال: انه رق لفلان العبد الصالح انما كان لما في ذلك من الخضوع والامتهان ولما ينسب إليه من النقصان فلم ارتكب من طاعة شهوته والانقياد لها ما يوجب له الامتهان التام الذى هو اشد والنقصان اللازم الذى هو آكد، بل ما يعده (7) للعذاب الاليم بسبب زيغه عن الصراط المستقيم وهل ذلك الا من جهله بالعواقب وقلة عقله لما يلزمه من المصائب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب ج د: " وبالغ ".

(2) - ج د: " ذلة ".

(3) - في النسخ: " داعيا ".

(4) - د: " من ".

(5) - ب ج د: " منفعلا ".

(6) - في النسخ: " لقبول ".

(7) - ا ج: " بعده " (بالباء الموحدة).

 

[ 119 ]

فنبغى للعاقل كما يأنف ان يقال: انه عبد لمولى ان يأنف بالطريق الاولى من ان يقال: هو رق الهوى فيتقهقر عن متابعة الشيطان ليخلص من (1) اسره، وينقاد لاثار الرحمن وينفعل عن امره، ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا (2).

 

الكلمة الحادية والعشرون قوله عليه السلام: الحاسد مغتاظ على من لاذنب له.

اقول: قد سبق بيان ماهية الحسد، واما الغيظ فظاهر والمقصود ههنا اثبات الغيظ للحاسد في حال حسده على من لم يكن له ذنب معه وبيان ذلك انا لما ذكرنا ماهية الحسد اعتبرنا في ماهيته حركة القوة الشهوية وانبعاثها ثم ان تلك الحركة مستلزمة لحركة القوة الغضبية ودوام الغضب وثباته المسمى حقدا بدوام الامر المحسود به لتصور الاذى الحاصل من حركة القوة الشهوية في تحصيل مالا يمكنها تحصيله من حال المحسود وحينئذ يظهر لك المطلوب من هذه القضية وهو اثبات الغيظ الذى هو الغضب للحاسد في حق المحسود.

واما ان غيظ الحاسد يتحقق فيمن لاذنب له مع المحسود فظاهر، إذ قد يتفق ذلك بمشاهدة الحاسد للمحسود على حاله معينة مرة واحدة، وقد يتفق الحسد بحسب السماع فلاذنب حينئذ الا ما هو فيه من النعمة والحالة المحسود بها كقوله (3):

تعد ذنوبي عند قوم كثيرة * ولا ذنب لي الا العلى والفواضل

وكقول الامير على بن مقرب في شكايته من قومه (4):

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " ليتخلص عن ".

(2) ذيل آية 119 سورة النساء.

(3) - هو البيت الخامس من قصيدة لابي العلاء المعرى تشتمل على واحد واربعين بيتا (انظر سقط الزند، الجزء الاول، ص 110 من النسخة المطبوعة سنة 1286).

(4) - هو من قصيدة تشتمل على اثنين وسبعين بيتا والبيت المذكور هو البيت العشرون من تلك القصيدة (انظر ص 372 من ديوان الامير جمال الدين على بن مقرب العيونى الشاعر الفحل المشهور وقد طبع ديوانه

 

[ 120 ]

ولا ذنب لى الا حجى وبراعة * ومجد وبيت في ربيعة عال

وفى هذه الكلمة تنبيه على قبح الحسد ورداءة التخلق به والتكيف بهذا الغضب الخالى عن السبب إذ (1) كان الغضب الذى ينبغى يستدعى تقديم جريمة من المغضوب عليه، اما الغضب الخالى عن السبب فمن باب وضع الاشياء في غير مواضعها وذلك خروج عن مقتضى العقل ومفارقة للانسانية، وبالله التوفيق.

الكلمة الثانية والعشرون قوله عليه السلام: منع الموجود سوء الظن بالمعبود.

اقول: منع الموجود اشارة الى البخل وهو منع ما ينبغى اخراجه من المال على الوجه الذى ينبغى بحسب القانون المراعى في استكمال فضيلة العفة، وامام سؤ الظن بالمعبود فتصوره على الوجه الذى لا ينبغى ان يتصور عليه في ذاته أو في الحاق ذاته بصفات يجب ان ينزه عنها، والمقصود من هذه الكلمة بيان ان من جملة أسباب منع الموجود وعدم صرفه وفى جهه وبذله لمستحقه هو عدم تصور الخالق الرازق على الوجه الذى ينبغى وتصوره كمالا ينبغى الا انه اطلق لفظ الملزوم وهو سوء الظن على لازمه وهو منع الموجود مجازا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذا سنة 1383 بمصر بتحقيق وشرح لعبد الفتاح محمد الحلو) فليعلم ان هذا الديوان طبع مرة اخرى قبل ذلك في بمبئى سنه 1310 الا ان فيه نقائص كثيرة فان طلبت البيت من هذه الطبعة (انظر ص 381) وشرح البيت في هكذا " الحجى العقل، وبرع الرجل بضم الراء وفتحها إذ افاق اصحابه في العلم وغيره " ومما يحقق ما ذكرناه من كون الطبعة الاولى ناقصة ان القصيدة المشار إليها بانها اثنان وسبعون بيتا في الطبعة الثانية لم يطبع في الطبعة الاولى منها الا سبعة وخمسون بيتا من دون اشارة الى انها تشتمل على اكثر من ذلك والتفصيل موكول الى ملاحظة الطبعتين وقراءة مقدمة الطبعة الثانية.

(1) - ب ج د: " إذا ".

 

[ 121 ]

وبيان ذلك ان الوجه الذى ينبغى ان تعتقد هو ان صرف المال في وجوهه معد له لاستحقاق امثاله وان معبوده هو الجواد المطلق والكريم المطلق و (1) لا توقف لافاضته العالية على أمر فائت من جهته (2) ولا نقصان عارض لذاته بل على تمام استعداد القابل لاحسانه واستكماله باستعمال العقل في وضع الاشياء مواضعها، فإذا هو عدم ذلك الاعتقاد فقد استلزم ذلك عدم معرفته بالمعبود كما ينبغى، ومن لم يعرفه على الوجه الذى ينبغى ان يعرفه عليه لم يخل (3) في تصوره له من تكيفه (4) بكيفيات غير لائقة بجوده ووصفه بهيئات غير لاحقة لكمال وجوده من تشبيهه (5) بملوك (6) الدنيا واصحاب الاموال الذين ينسب إليهم الاعطاء والمنع والمفاخرة بجميع الاموال وكثرتها وادخارها، ويتضررون بانتقاصها وعدمها، وان من صفات هؤلاء وجاري عاداتهم جمع الاموال التى هي قوام مناصبهم وبها استقامة أمورهم ومنع كثير من المستحقين وعدم الالتفات من كثير منهم الى الفقراء والمساكين وكان هذا التشبيه سوء ظن به إذ (7) كان اعتقادا غير مطابق لما عليه الامر في نفسه (8)، وكان مستلزما لمتابعة النفس الامارة بالسوء الحاكمة بان المال هو الكمال الذى ينبغى ان يطلب ويقتنى، وانه ثمرة الاعمال التى يجب ان تجتنى، وان مطلق الانفاق داعية للفقر وسبب للحاجة (9) الى من للمال عنده حرمة ويجوز ان لا يعطى المستحق ولا يفيض الكمال على المستعد له الناشئ كل ذلك من عدم معرفته كما ينبغى وتصوره على الوجه الذى لا ينبغى وكان (10) ذلك سببا لمنع الموجودات الفانية وسدا لسبل الخيرات الباقية وصدا عن الصعود الى المقامات العالية، ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا (11) وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الاخر (12) بالتصورات المناسبة لمقتضى الاوامر الشرعية " وأنفقوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - الواو فقط في نسخة ا.

(2) - د: " من وجهه ".

(3) - ا ب: " ولم يخل " (بواو).

(4) - ج د: " تكفيه ".

(5) - ج د: " تشبهه ".

(6) - ب: " لملوك ".

(7) - ب: " إذا ".

ا: " عليه الامر نفسه ".

(9) - ج د: " وسبب الحاجة ".

(10) - ج د: " فكان ".

11 و 12 - ذيل آية 38 وصدر آية 39 سورة النساء.

 

[ 122 ]

مما رزقهم الله (1) " على وفق تلك المناسبات العقلية " وكان الله بهم عليما " (2) مطلعا على تفاوت درجاتهم ومراتب استحقاقاتهم فينزل بقدر ما يشاء (3) انه حكيم عليم (4).

وفى هذه الكلمة اشارة الى وجوب السعي في تحصيل المعرفة الممكنة اللائقة بالمعبود لتحصل بها السلامة عن رذيلة البخل الذى هو سبب الحرمان في الدارين، والله ولى التوفيق.

 

الكلمة الثالثة والعشرون قوله عليه السلام: العداوة شغل القلب.

اقول: قد عرفت معنى العداوة وانها رذيلة تقابل فضيلة الصداقة تقابل الضدين، واما اثبات المطلوب من هذه الكلمة وهو انها شغل القلب مستلزمة للغضب الثابت وقد عرفت ان الغضب حركة للنفس (5) يحدث منها حرارة دم القلب وغليانه شهوة للانتقام، فإذا كان الغضب ثابتا دائما كان ذلك الغليان متجددا في كل وقت ولحظة وذلك شغل عظيم للقلب ملفت عن سائر أشغاله الواجبة، وان شئت فاحمل ذلك بنظر آخر أدق من هذا النظر على ما هو ادق من هذا المعنى وذلك انك قد علمت ان القلب قد يعبر به في عرف العارفين عن القوة العاقلة التى هي محل العلوم الكلية ثم قد علمت ان العداوة وبغض صادق يهتم معه بجمع (6) الاسباب الموذية للمبغوض وإذا كان كذلك كان كون العداوة شغلا للقلب ظاهرا لان اهتمام النفس بجمع اسباب الاذى للمغبوض وتحصيلها وفكرها في كيفية التحصيل وفى كيفية الخلاص والسلامة من مماكرة (7) العدو وكيده والاحتراز عن ذلك شغل شاغل لها وملفت عن توجهها الى المقاصد الحقة التى يجب سعيها فيها، وإذا لاح

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1 و 2) - ذيل آية 39 سورة النساء.

(3) - مأخوذ من آية 27 سورة الشورى باضافة الفاء على اولها.

(4) - ذيل آية 139 سورة الانعام.

(5) - ج د: " في النفس ".

(6) - في النسخ: " من جميع ".

(7) - ا ج د: " والسلامة مما كره ".

 

[ 123 ]

لك سر هذه الكلمة عرفت انه مستلزم للتنبيه على ترك هذا الشغل وذلك انما يكون بحسم سببه المذكور فانه رذيلة يستلزم وجودها نفى فضيلة الصداقة الموجبة للاتحاد في الواحد الحق (1) الموجب لسعادة الدارين.

 

الكلمة الرابعة والعشرون قوله عليه السلام: لا حياء لحريص.

اقول قد علمت ان الحياء هو انحصار النفس خوف اتيان القبائح وحذرا من الذم والسب الصادق، وان الحرص المذموم هو بذل الوسع في طلب الامور الفانية كاقتناء الاموال وجمعها والسعى في تحصيل اللذات الحاضرة الوهمية التى هي بالحقيقة دفع آلام، وإذا تصورت هذين المعنييين لاح لك وجه المضادة بينهما إذ (2) كان باذل الوسع في تحصيل ما ذكرنا (3) غير منفك عن (4) قحة وخشونة وجه يتمكن معها من المنازعات والمخاصمات والمماحكات في البيع والشراء وغيرهما من التصرفات، وإذا كان كذلك لم يتحقق في حقه حينئذ خوف اتيان القبائح ولم يكن عنده حذر من الذم، ولا مبالاة بالشتم والسب، وذلك يستلزم عدم الحياء ونفيه (5) عن محل الحرص بالكلية، ولما كان الحياء والحرص مما لا يجتمعان وعلمت ان الحياء فضيلة من الفضائل التى تحت العفة وان العفة جزء عظيم من اجزاء العدالة التى يكون بها الانسان (6) كاملا في قوتيه (7) العملية والنظرية وجب عليك ايها الاخ ان يكون بعدك من الحرص بعد حرصك على لزوم فضيلة الحياء والمحافظة عليها ان كانت موجودة فيك وان لم تكن فليكن حرصك على غسل درن الحرص لتحصيلها، والله يوفقنا واياك لما يزلف لديه، انه جواد كريم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " الحى ".

(2) - ب: " إذا ".

(3) - ب: " ذكرناه ".

(4) - ب ج د: " من ".

(5) - ج د: " وبعثه ".

(6) - ج: " النفس ".

(7) - ا ب ج: " قوته ".