[ 41 ]

 

البحث الخامس

في احكام العارفين واخلاقهم

اما الاحكام فالاول - ان كل درجة قبل درجة الوصول فهى ناقصة بالقياس إليها وبيان ذلك اما درجة الزهد فلانه اشتغال بغير الحق لان تحلية الذات عن المنجسات والعلائق البدنية مشروط بالشعور بها والقصد الى اعدامها (1) وذلك التفات الى غير الحق وشغل به.

واما العبادة فلان العابد إذا اتكل على تطويع النفس الامارة للمطمئنة فذلك عجز منه إذ لولا الخوف من الغير لم يحصل الاعتداد بطاعة والفرح بها، واما العرفان مع ابتهاج النفس بزينة الحق والسعادة بالوصول إليه فهوتيه، لان الابتهاج بالنفس لقربها من الحق والفرح بكونها واصلة إليه ابتهاج بغير الله وعشق بالذات لا حوال النفس، واما الاشتغال بالحق ورفض كل ما عداه وهو آخر مقامات السلوك إليه فهو الخلاص المطلق والاخلاص المحقق.

الثاني - اتفقت كلمة اهل العرفان على ان مقامات السالكين الى الحق لا تخلو من التفريق والجمع فيما سوى الحق تعالى ثم من الجمع فيه، اما التفريق فهو تخلية الذات عما سوى الحق تعالى فلها مراتب اربع، فالاولى لابد ان يكلف السالكون الى الحق بالاعراض عما سواه من اللذات البدنية والشهوات الدنياوية ولن يزالوا في كلفة الى ان تستبعد نفوسهم ارذال الميول الحيوانية إليها وهى المرتبة الثانية، ثم يستعدون بالسعي الى ان يمحقوا (2) ما سوى الحق من قلوبهم ويشموا رائحة النفحات الالهية ويتركوا الالتفات بالكلية الى اللذات الفانية وهى المرتبة الثالثة، ثم لا يزالون يستعدون بالانس بالقديم (3) الاعلى والكأس الاوفى الى ان يصير ما سوى الحق مستحقرا عندهم بالنسبة الى تلك اللذات الكاملة وهى المرتبة الرابعة، فهذه درجات التخلية وهى في لسان الحكماء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج: " اعلامها ".

(2) - ا: " يمحق " ج: " يمحوا ".

(3) - ب " النديم ".

 

[ 42 ]

درجات الرياضة السلبيه وفى لسان المجردين (1) من الصوفية درجات التخلق بنعوت الجلال، واما الجمع فهو تحلية الذات بدرجات الرياضة الايجابية وذلك بان يصير السالك رؤفا رحيما جوادا كريما وتسمى هذه الحالة في لسان الشريعة التخلق باخلاق الله، وفى لسان المجردين الترقي في مدارج الجلال، واما الجمع في الله فلن يخلص الا بالوقوف عنده بحيث ينقطع نظر الواصل عن نفسه وابتهاجا بزينتها به وبه يتحقق الكمال التام.

واما الاخلاق فيجب ان يكون العارف شجاعا (2) وذلك ان الشجاعة فضيلة مطلوبة بالذات، واما السبب المانع من الاقدام على الاهوال فخوف القتل الذى غايته الموت والعارف بمعزل عن (3) تقية الموت، ويجب ان يكون عفيفا لان العفة ملكة مطلوبة لذاتها، والمانع منها غلبة القوى البدنية على مقتضى طباعها وانقهار (4) النفس في قيادها والعارف بمعزل عن ذلك إذ (5) كانت قواه البدنية مقهورة في يد قوته (6) العقلية، ويجب ان يكون جوادا لان الجود فضيلة مطلوبة لذاتها، والمانع منها انما هو حب المال والخوف من الفقر، والعارف منزه عن حب الباطل الزائل وحاصل على الغنى الحقيقي الذى لافقر معه، ويجب ان يكون عدلا لان العدالة ملكة قد عرفت انها تحصل عن الحكمة والعفة والشجاعة وهذه الفضائل الثلاث (7) حاصلة له، ويجب ان يكون صفاحا عن زلات الخلق في حقه لانه لا ينفعل عن شئ سوى الله فهو اشرف عن ان ينفعل عن زلة بشر (8) والاشتغال بالانتقام مستلزم للانفعال، ويجب ان لا يكون حقودا لان اشتغال سره بالله يزيل عنه كل ما عداه، ويجب ان يكون طلق الوجه وذلك انه فرحان بالحق وبكل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " المحررين ".

(2) - عبارة ابن سيناء هكذا (كتاب الاشارات، النمط السابع الذى في مقامات العارفين): " تنبيه - العارف شجاع وكيف لا وهو بمعزل عن تقية الموت، وجواد كيف لا وهو بمعزل عن محبة الباطل، وصفاح وكيف لا ونفسه اكبر من ان تجرحها زلة بشر، ونساء للاحقاد وكيف لا وذكره مشغول بالحق ".

(3) - ا ب: " من ".

(4) - ا: " انتهار ".

(5) - ا ج: " إذا ".

(6) - ا: " ترقوته ".

(7) - ب " الثلاثة ".

(8) - ا: " البشر " ج د: " شر ".

 

[ 43 ]

شئ يراه فانه يرى فيه الحق فيدوم فرحه بدوام مطالعته لوجه الحق، ويجب ان يكون لين الجناب (1) متواضعا للخلق بحيث يكون نظره إليهم على سواء في ذلك، لانه لا ينظر الى ما سوى الله من حيث انه هو حتى يكون هناك تفاوت بين الهويات بل انما ينظر الى الكل من حيث تساوى نسبتهم الى الله تعالى ويجد جماع (2) الفضائل النفسانية عند اقتصاصها موجودة فيه ظاهرة بينة العلة، واليك الاعتبار والله الموفق.

 

الفصل الخامس

في بيان احكام اخرى للنفوس الكاملة والاشارة الى اسبابها

 

وفيه بحثان:

 

البحث الاول (3)

في التمكن من الاخبار عن المغيبات وسببه

واجب عليك ايها الاخ إذا ذكر ان خليفة من خلفاء الله أو وليا من اوليائه اخبر عن امر سيكون مبشرا به أو منذرا مما لا تفى بدركه قوتك وانت انت قاصاب ان لا تبادر الى التكذيب بامثال (4) ذلك فانك عند اعتبارك مذاهب الطبيعة تجد الى ذلك سبيلا وله محملا ونحن نشير إلى سببه مجملا ومفصلا.

اما الاول فلان معرفة الامور الغيبية في النوم ممكنة فوجب ان يكون في اليقظة كذلك، بيان الاول ان الانسان كثيرا ما يرى في النوم شيئا ثم يقع اما صريح تلك الرؤيا أو تعبيرها، وذلك يوضح ما قلناه للرائى، ومن لا يرزق ذلك في حال النوم علمه بالتواتر من الخلق العظيم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - كذا ولعله " الجانب ".

(2) - ب " جملة " .

(3) - هذا المبحث مأخوذ من اواخر الاشارات فمن اراد التطبيق فليراجعه.

(4) - ج د " بامكان ".

 

[ 44 ]

بيان الثاني ان ذلك لما صح في حال النوم لم يمكن (1) القطع على امتناعه حال اليقظة فان الناس لو لم يجربوا ذلك في حال النوم لكان استبعادهم لوقوعه في النوم اشد من استبعادهم له في اليقظة فانه عند عدم التجربة لو قيل لانسان: ان جماعة من الاولياء الكاملين اجتهدو في تلويح مفكراتهم الصافية في تحصيل حكم غيبي فعجزوا ثم ان واحدا منهم لما نام وصار كالميت عرف ذلك الحكم فلا بد ان يكذب بذلك ويستنكره لعدم حصوله مع كمال الحركة وسلامة الحواس عن العطلة الا ان وقوع هذا الامر كثيرا مما ازال الاستبعاد وصحح الصحة، واما الثاني فمبنى على مقدمتين: فالاولى - انه قد ثبت في موضعه ان العقول والنفوس السماوية عالمة بالجزئيات، اما العقول فعلى وجه كلى واما النفوس فعلى وجهه جزئي لان جميع الجزئيات تنتهى في سلسلة الحاجة الى العقول، والعلم بالعلة مستلزم للعلم بالمعلول، وكذلك ثبت ان للفلك قوة جسمانية هي مدركة للجزيئات وثبت ان الحوادث العنصرية مستندة الى الاتصالات والحركات الفلكية وثبت ان المبدأ لتلك الحركات هي النفوس (2) الجسمانية وثبت ان العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فيلزم من مجموع ذلك كون النفس الفلكية عالمة بجميع جزئيات هذا العالم وما يحدث فيه، وكذلك ثبت ان للفلك مع هذه النفوس (3) الجسمانية نفسا مجردة ليست علاقتها مع الجسم علاقة انطباع فتكون أيضا منتقشة بجميع الجزئيات التى تحدث في هذا العالم فالعقول والنفوس الفلكية المجردة والجسمانية إذا منتقشة بها.

الثانية - ان النفوس الانسانية متمكنة من استفادة العلوم من تلك المبادى، وبيان ذلك بتقديم مقدمات: فالاولى - ان القوى الانسانية متجاذبة فالنفس عند اشتغالها بتدبير القوة الغضبية غير متمكنة (4) الالتفات الى القوة الشهوانية وبالعكس وإذا اشتغل الحس الباطن بالحس

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " لم يكن ".

(2) - ب ج: " النفس ".

(3) - ب ج د: " هذه النفس ".

(4) - ب: " غير ممكنة ".

 

[ 45 ]

الظاهر لم يتمكن العقل من استعمال الحس الباطن فلم يمكنه استخدام المفكرة (1) وأيضا فإذا اشتغلت النفس بالافعال التى تخصها منعتها من اعانة القوى على افعالها ولذلك تجدها عند مساعدة القوى على فعل قوى تخصها تذهل عن فعلها الخاص بها فتتركه.

الثانية - انك علمت ماهية الحس المشترك فيما سبق وعلمت انه يرتسم (2) فيه صور المحسوسات بالحواس الخمس (3) لان (4) هذه المحسوسات عند ارتسامها تصير مشاهدة وان عدمت في الخارج وبينا ذلك بالقطرة النازلة خطا مستقيما.

الثالثة - قد يشاهد قوم من المرضى والممرورين صورا محسوسة ويحكمون بصحتها ويصيحون خوفا منها فتلك الصور ليست بمعدومة لان المعدوم لا يشاهد، واذ هي موجودة فليست في الخارج والا لرآها سليم الحس، واذ ليست في الخارج فليس ارتسامها في النفس الناطقة إذ لاترتسم فيها الصور الحسية ولانها لا تدرك الجزئيات بذاتها فهى إذا في قوة جسمانية وليست القوة الباصرة، لان المريض قد يكون اعمى أو بحيث لا يبصر فهى إذا في قوة غيرها ادركت هذه الصور (5) في (6) الحس المشترك ولن (7) ترد عليه هذه الصور من خارج فهى من داخل اما مما انخزن في الخيال فرأى في لوح الحس أو مما تركبه المتخيلة وتخزنه في الخيال فيرتسم نقشه في الحس لانهما بمنزله مرآتين متقابلتين، والسبب ان النفس في حال المرض لاشتغالها بتدبير البدن ضعيفة عن تدبير المتخيلة فاستولت المتخلية وقويت على التشبيح، لا يقال: لو كان كذلك لوجب في كل ما يتخيل ان ان يحس اذلا اختصاص لذلك بوقت دون وقت لانا نقول: المانع من هذا الانتقاش دائما شاغلان، حسى وهو اشتغال لوح الحس بما يرد عليه من الصور الخارجية فلا يتسع للانتقاش بنقش آخر وعقلي أو وهمى وهو ان احدهما عند اشتغال (8) المفكرة تصير المفكرة مستغرقة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " الفكرة ".

(2) - ا: " رسم ".

(3) - ب: " الخسمة ".

(4) -: " وان ".

(5) - ا: " هذه هي ".

(6) - ج: " هي " د: " وهى ".

(7) - ا ب: " وان ".

(8) - ب ج د: " استعمال ".

 

[ 46 ]

لخدمته (1) فلا تتفرغ لفعلها الخاص بها فلم تتمكن من تركيب الصور وتشبيحها للحس الا انه ربما عجز احدهما عن ضبطها فحينئذ تستولى المحسوسة فتشاهدها (2).

الرابعة - النوم شاغل للحس الظاهر شغلا ظاهرا وقد يكون شاغلا للنفس أيضا وذلك عند اشتغال الطبيعة بالهضم فان النفس تكون مظاهرة للقوة الهاضمة على ذلك ومعينة لها لما ثبت ان النفس عند اشتغالها بمهمها تقف سائر القوى عن افعالها فلابد من مظاهرة النفس لها والا لما تم الهضم، وإذا اشتغلت النفس بذلك بقيت المتخيلة خاليه عن المدبر متمكنة من التلويح والتشبيح غير مظبوطة ولوح الحس خال مما يرد عليه من الصور الخارجية لتعطل الحواس حالة النوم، وإذا تم الفاعل والقابل وجد الفعل لا محالة فلا جرم صارت الصور مشاهدة في حال النوم.

الخامسة - النفس تقوى على عين ما ادركته وقد تضعف عن ضبط عينه فتنتقل الى شبهه ومحاكيه من وجه ثم من ذلك المحاكى الى محاكى المحاكى الى ان تصل الى ما لا يناسب المدرك الاول بوجه، وانما يكون كذلك لاستيلاء المتخيلة وضعف النفس عن تصريفها كما ينبغى فإذا قويت النفس جدا لم يكن اصلاحها للبدن عائقا لها عن اتصالها بمباديها وانتقاشها بما هناك بل تكون وافية بالجانبين فلا يعوقها الالتفات الى احدهما عن الالتفات الى الاخر فإذا انضم الى ذلك كونها مرتاضة كان تحفظها عن مضادات الرياضة وتصرفها فيما يناسبها اتم.

وإذا عرفت هذه المقدمات فاعلم ان السبب في مشاهدة الصور في حال النوم والمرض هو ان النفس إذا اتصلت بالعقول الفعالة انتقشت بامور فركبت المتخيلة صورا جزئية تناسب تلك المعقولات، ولوحت تلك الصور الى الحس المشترك فصارت مشاهدة وقد يعرض للمتخيلة ضعف اما لمرض أو لتحلل الروح الحامل اما عن كثرة حركتها فتميل الى الدعة فتقع للنفس فلتة منها فتتصل بالعالم العقلي فتنتقش بالجلايا القدسية فتنزعج المتخيلة الى تشبيح ذلك المعنى العقلي بصورة جزئية لانها بسبب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب ج د: " بخدمته ".

(2) - ا: " فتشاهده " ب ج د: " مشاهدة ".

 

[ 47 ]

الاستراحة زال عنها الكلال والملال ولان النفس تستعين بها في ضبط تلك الاسرار في تلك الصور (1) الخيالية (2) وتحطها الى الحس فتبقى مشاهدة، وإذا علمت في ذلك حالة النوم لم يبعد إذا كانت النفس قوية الجوهر تتسع للجوانب المتنازعة (3) ان يقع لها هذا الانفلات (4) في حال اليقضة فتتصل بالمبادئ فتقتنص امورا قدسية فتركب المتخيلة لها صورا تناسبها ثم تحطها الى الحس المشترك فتكون محسوسة فتارة تكون ابصار صورة، وتارة تكون سماع كلام وان لم يكن لتلك الامور وجود خارجي الا ان تلك الاثار قد تكون ضعيفة فلا تشتثبتها (5) المتخيلة كما ينبغى فتنمحي سريعا، وقد تكون اقوى من ذلك فتحرك الخيال فينتقل بقوة الى ماله تعلق بذلك المعنى من شبيه أو ضد لان الحكمة الالهية اقتضت ان يكون جبلة هذه القوة على هذا الوجه والا لم ينتفع بها في الانتقال من الحاصل الى المستحصل ولن يمنعها من الانتقال الا احد (6) امرين (7) اما استيلاء النفس عليها وضبطها، واما قوة الصور المنتقشة فيها فانه أيضا قد يرتسم فيها الصور ارتساما قويا بينا فيمنعها جلاؤها لها (8) عن الانتقال منها الى الغير، وما كان كذلك في يقظة أو نوم سمى الهاما أو وحيا صريحا أو حلما لا يحتاج الى تعبير، وما كان من القسم الثاني اعني ان تبقى الصورة المنتقل إليها دون عين الاثر فانه يحتاج الوحى الى تأويل والحلم الى تعبير.

تذنيب (9): قد عرفت ان النفس قد تعوقها عن الاتصال بمباديها قواها البدنية فلذلك ما يحتاج بعض الناس الى الاستعانة بامور مكتسبة يعرض منها للحس حيرة وللخيال وقفة تنفلت معها النفس لتلقى المغيبات كما حكى عن بعض الكهان من الترك انه كان يستعين بحركة شديدة جدا لا يزال يلهث فيها حتى يكاد يغشى عليه فتلوح له امور غيبية والحفظة يتلقون ما ينطق به ليبنوا عليه آرائهم المصلحية وكمن يشغل ابصار الصبيان والنساء

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب ج د: " القشور ".

(2) - ب: " الخالية ".

(3) - ا: " المتنازع ".

(4) - ج د: " الالتفات ".

(5) - ج د: " فلاتثبتها ".

(6) - ب: " لاحد ".

(7) - ج د: " من احد الامرين ".

(8) - ب: " جلاء حالها ".

(9) - مطالب التذنيب كلها من شفاء ابن سيناء، فراجع ان شئت.

 

[ 48 ]

وذوى القوى الضعيفة باشياء شفافة ترعش الابصار برجرجتها وتدهشه بشفيفها كلطخ من سواد براق في بيضة أو في باطن الابهام وكاستعانة بعض الكهنة بالرقص والتصفيق وبايهام العزائم والتخويف بالجن (1) إذا استنطقوا غيرهم، وان كان ما يستعمله الكهنة من ذلك مما يختل به امر القوى ويفسدها ويؤدى الى تعطيلها ولذلك لم يكن التكهن محمودا من العلماء والله ولى التوفيق (2).

 

البحث الثاني

في تمكن النفوس الانسانية من الاتيان بخوارق العادات

واجب على من اهله الله لاستشراق انواره (3) إذا خصه بالقوة العاقلة التى هي سر من اسراره ان لا يستبعد عمن ارتقى درجة العرفان التام ان تصدر منه افعال لا يتمكن غيره من الاتيان بمثلها، وذلك كالامساك عن الطعام المدة المديدة التى يعجز الاتيان بمثله ابناء النوع وكالتحريك أو الحركة التى تخرج عن وسع مثله كما يشاهد من طوفانات تقع باستدعائهم وزلازل أو استنزال عقوبات وخسف بقرى حق عليها القول واستشفاء المرضى واستسقاء العطشى وخضوع عجم الحيوانات وغيرها فانه عند الاعتبار يجد تلك امورا ممكنة من الطبيعة ونحن نشير الى وجه امكانها، اما الامساك عن القوت فتأمل امكانه بل وجوده فينا عند عروض عوارض غريبة لنا، اما بدنية كالامراض

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " بالحق " ج د: " بالجزاء ".

(2) - ا: " والله الموفق ".

(3) - فليعلم ان الشارح (ره) قد ذكر نظائر ما اورده هنا في مقدمة شرح نهج البلاغة في القاعدة الثالثة التى هي في بيان ان عليا عليه السلام كان مستجمعا للفضائل الانسانية بحيث يمكن ان يقال هي بالنسبة الى المطالب المشتملة عليها هذه المباحث في حكم نسخة من هذا الكتاب، استفدنا في التصحيح من تلك القاعدة الا انا لا نشير الى موارد الاختلاف لان الاشارة إليها تستوعب وقتا كثيرا ومجالا وسيعا لا يقتضيه المقام فمن اراد الوقوف عليها فليراجع الكتاب (ص 35 - 30).

 

[ 49 ]

الحادة (1) واما نفسانية كالخوف والغم، اما البدنية فان القوى الطبيعية (2) تشتغل بسببها بهضم المواد الردية عن تحريك المواد المحمودة فتجد المواد المحمودة حينئذ محفوظة قليلة التحلل غنية عن طلب البدل لما يتحلل فربما انقطع الغذاء عن صاحبها مدة لو انقطع مثله عنه في غير حالته تلك عشر تلك المدة هلك، وهو مع ذلك محفوظ الحيوة، واما النفسانية فكما يعرض بعروض الخوف للخائف من سقوط الشهوة وفساد الهضم والعجز عن الافعال الطبيعية التى كان متمكنا منها قبل الخوف لوقوف القوى الطبيعية عن افعالها بسبب اشتغال النفس بما اهمها عن الالتفات الى تدبير البدن، وإذا عرفت امكان الامساك الخارج عن الوسع بسبب العوارض الغريبة فاعلم ان السبب في تحققه في حق العارف توجه النفس بالكلية الى عالم القدس المستلزم لتشييع القوى البدنية لها وذلك ان النفس المطمئنة إذا راضت القوى البدنية انجذبت القوى خلفها في مهماتها التى تنزعج إليها، واشتداد ذلك الانجذاب بشدة ذلك الجذب فإذا اشتد الاشتغال عن الجهة المولى عنها وقفت الافعال الطبيعية المتعلقة بالقوة النباتية فلم يكن من التحليل الادون ما كان في حال المرض وذلك لان المرض في بعض الصور مختص بما يقتضى الاحتياج الى الغذاء لتحلل رطوبات البدن بسبب عروض الحرارات الغريبة المسماة بسوء المزاج الحار (4) له لان الغذاء انما يكون لسد بدل ما تحلل من تلك الرطوبات وشدة الحاجة الى الغذاء انما تكون بحسب كثرة التحليل وكقصور القوى البدنية بسبب المرض المضاد لها وانما الحاجة الى حفظ تلك الرطوبات لحفظ تلك القوى إذ (3) كانت مادة الحرارة الغريزية المقتضية (5) لتعادل الاركان الذى لا تقوم تلك الا معه وشدة الحاجة الى ما يحفظ تلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " الحارة ".

(2) مأخوذ مما ذكره ابن سيناء في اول النمط العاشر من الاشارات ونص عبارته هكذا " تنبيه - تذكر ان القوى الطبيعية التى فينا إذا شغلت عن تحريك المواد المحمودة بهضم المواد الردية انحفظت المواد المحمودة قليلة التحلل غنية عن البدل فربما انقطع عن صاحبها الغذاء مدة طويلة لو انقطع مثله في غير حالته بل عشر مدته هلك وهو مع ذلك محفوظ الحيوة ".

(3) ا ج: " إذا ".

(4) - كذا ولعله: " الحاد " (5) - " المفضية ".

 

[ 50 ]

القوى انما هي بحسب شدة فتورها، واما العرفان فانه مختص بامر يوجب الاستغناء عن الغذاء وهو سكون البدن عن اعراض القوى البدنية عن افعالها جال مشايعتها للنفس وانجذابها معها حال توجهها الى الجناب المقدس وتطعمها بلذة معارفة الحق، واليه الاشارة بقوله تعالى حكاية عن خليله عليه السلام: والذى هو يطعمنى ويسقين (1) وبقول سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم: انى لست كاحدكم، ابيت عند ربى يطعمنى ويسقيني.

وإذا عرفت ذلك ظهران المرض وان اقتضى الامساك الخارق للعادة الا ان العرفان بذلك الاقتضاء اولى، واما القدرة على الحركة التى تخرج عن وسع مثله فهى ايضا ممكنة وبيان - سببها انك علمت ان مبدأ القوى البدنية هو الروح الحيوانى فالعوارض الغريبة التى تعرض للانسان تارة تقتضي انقباض الروح بحركته الى داخل كالخوف والحزن، وذلك يقتضى انحطاط القوة وسقوطها، وتارة تقتضي حركته الى خارج كالغضب أو انبساطا معتدلا كالفرح المطرب والانتشاء (2) المعتدل وذلك يقتضى ازدياد القوة ونشاطها وإذا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1) - آية 79 سورة الشعراء.

(2) - ب: " الانتشاب " اقول: هذا المطلب مأخوذ من كلام ابن سيناء في اوائل النمط العاشر من كتاب الاشارات ونص عبارته: " تنبيه - قد يكون للانسان وهو على اعتدال من احواله حد من المنة محصور المنتهى (الى ان قال) وكما يعرض له عند الانتشاء المعتدل وكما يعرض له عند الفرح المطرب فلا عجب لو عنت للعارف هزة كما يعن عند الفرح فاولت القوة التى يعرض له سلاطة أو غشيته عزة كما يغشى عند المنافسة فاشتعلت قواه حمية (الى آخر ما قال) " قال المحقق الطوسى (ره) ضمن شرح العبارة مانصه: " والانتشاء السكر (الى ان قال) واعلم ان مبدأ القوى البدنية هو الروح الحيوانى المقتضية لانقباض الروح وحركته الى داخل كالحزن والخوف يقتضى انحطاط القوة والمقتضية لحركته الى خارج كالغضب والمنافسة أو لانبساطه انبساطا غير مفرط كالفرح المطرب والانتشاء المعتدل يقتضى ازديادها وانما قيد الانتشاء بالاعتدال لان السكر المفرط يوهن القوة لاضراره بالدماغ والارواح الدماغية، ثم لما كان فرح العارف ببهجة الحق اعظم من فرح غيره بغيرها وكانت الحالة التى تعرض له وتحركه اعتزازا بالحق أو حمية الهية اشد مما يكون لغيره كان اقتداره على حركة لا يقدر غيره عليها امرا ممكنا ومن ذلك يتعين معنى الكلام المنسوب الى على (ع): والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن قلعتة بقوة ربانيه ".

 

[ 51 ]

عرفت ذلك فنقول: لما كان فرح العارف ببهجة الحق اتم واعظم من فرح من عداه بما عداها وكانت الغواشى التى تغشاة وتحركة اعتزازا بالحق أو حمية ربانية اعظم مما يعرض لغيره لاجرم كان اقتداره على حركة غير مقدورة لغيره ممكنا وسنبين وقوعه ان شاء الله تعالى، واما السبب في الامور الباقية على الاصول السابقة هو انك علمت ان تعلق النفس بالبدن ليس بانطباعها فيه انما هو على وجه انها مدبرة له مع تجردها (1) ثم ان الهيئات النفسانية قد تكون مبادئ لحدوث الحوادث وبيانه اما اولا فلانك تشاهد انسانا يمشى على جذع ممدود على الارض ويتصرف عليه كيف يشاء (2) ولو عرض ذلك الجذع بعينه على جدار عال أو موضع عال لوجدته عند المشي عليه راجفا متزلزلا يوعده (3) وهمه بالسقوط مرة بعد اخرى لتصوره وانفعال بدنه عن وهمه حتى ربما سقط.

واما ثانيا فلان الامزجة تتغير عن العوارض النفسانية كثيرا كالغضب وكالحزن والخوف والفرح وغير ذلك وهو ضروري.

واما ثالثا فلان توهم المرض أو الصحة قد يوجب ذلك وهو ايضا ضروري، إذا عرفت هذا فنقول: ان الامزجة قابلة لهذه الانفعالات عن هذه الافعال النفسانية فلا مانع إذا ان يكون لبعض النفوس خاصية لاجلها يتمكن من التصرف في عنصر هذا العالم بحيث تكون نسبتها الى كلية العناصر كنسبة انفسنا الى ابدانها (4) فيكون لها حينئذ تأثير في اعدادات المواد العنصرية لان يفاض عليها صور الامور الغربية التى تخرج عن وسع مثلها فإذا انضمت الى ذلك الرياضات فانكسرت سورة الشهوة والغضب وبقيا (5) اسيرين في يد القوة العاقلة فلاشك انها حينئذ تكون اقوى على تلك الافعال

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - مأخوذ من كلام ابن سيناء في اواخر النمط العاشر من الاشارات ونص عبارتة: " تذكرة وتنبيه - اليس قد بان لك ان النفس الناطقة ليست علاقتها مع البدن علاقة انطباع بل ضربا من علائق اخر، وعلمت ان هيئة تمكن العقد منها وما يتبعه قد يتأدى الى بدنها مع مباينتها له بالجوهر حتى ان وهم الماشي على جذع معروض فوق فضاء يفعل في ازلاقه مالا يفعله وهم مثله والجذع عل قرار (الى اخر ما قال) ".

(2) - ب ج: " شاء ".

(3) - في النسخ: " يواعده ".

(4) - في شرح نهج البلاغة للشارح (ره): " ابداننا ".

(5) - في شرح نهج البلاغة: " وبقيتا اسيرتين ".

 

[ 52 ]

وتلك الخاصية اما بحسب المزاج الاصلى أو بحسب مزاج طار غير مكتسب أو بحسب الكسب والاجتهاد في الرياضة وتصفية النفس، والذى يكون بحسب المزاج الاصلى فذو - المعجزات من الانبياء أو الكرامات من الاولياء، فان انضم إليها الاجتهاد في الرياضة بلغت الغاية في ذلك الكمال، وقد يغلب على مزاج من له هذه الخاصية ان يستعملها في طرف - الشر وفى الامور الخبيثة (1) ولا يزكى نفسه كالساحر فيمنعه خبثه عن الترقي الى درجة - السابقين في الكمال فهذا القدر هو الذى اردنا من المقدمات وبالله التوفيق.

 

القسم الثاني

في المقاصد

 

وفيه فصول:

 

الفصل الاول

في المباحث المتعلقة بالعقل والعلم والجهل والظن والنظر

 

وفيه اثنتان وعشرون كلمة:

الكلمة الاولى قوله عليه السلام: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.

اقول: الغطاء في اصل اللغة هو ما يستر به الشئ ويغطى، واليقين في عرف العلماء هو اعتقاد ان الشئ كذا مع اعتقاد انه لا يمكن ان لا يكون كذا، وهو اخص من العلم الذى هو اخص من الاعتقاد الجازم المطابق الذى هو اخص من الاعتقاد المطابق الذى هو اخص من مطلق الاعتقاد، واعلم انه ليس المراد من لفظ الغطاء والمغطى والتغطية ههنا هو ما يتعارفه افهام الخلق حال اطلاقه والا لم يبق للكلام فائدة بل لابد من مفهوم آخر يحتاج الى تفطن ما زائد على نباهة اهل الظاهر سواء كان اطلاق لفظ الغطاء على ذلك المعنى وعلى غيره حقيقة اما بحسب الاشتراك اللفظى أو المعنوي على سبيل التواطى بان يكون الغطاء حقيقة نوعية ذلك المعنى من جملة اشخاصها التى لا يخالف بعضها الا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د " الخسيسة ".

 

[ 53 ]

بالعدد (1) أو على سبيل التشكيك على معنى ان في افراد الغطاء ما هو اشد تغطية واقوى من غيره، أو مجازا على معنى ان الغطاء حقيقة عرفية في جسم ستر جسما مجازا في المعنى الذى نريده فان البحث عن ذلك لفظي غير مهم.

فاما بيان ذلك المعنى فقبل تقريره نقول: انك قد علمت ان النفوس الانسانية في الكمال والنقصان على مراتب، وعرفت ان اعلى تلك المراتب مرتبة نفوس قدسية استغرقت في محبة الله تعالى وابتهجت بمطالعة أنوار كبريائه غاية الابتهاج، وهى درجة الانبياء ومن يليهم من الاولياء الكاملين في قوتيهم النظرية والعملية المشار إليها بقوله تعالى: السابقون السابقون اولئك المقربون (2) ثم عرفت ان ذلك الاستغراق مستلزم لاعراضهم عما سوى الحق تعالى من العوائق البدنية واللذات الدنية اعراض استحقار لها واستهانة بها، بل اعراضا لا التفات معه إليها بوجه وإذا عرفت ذلك فنقول: المراد من الغطاء المذكور في الخبر هو البدن والشوائب المادية الحاصلة حال تعلق النفس به وكونها مدبرة له، اما وجه كونه غطاء فلان الاشارات النبوية مشتملة على مواعيد ووعيدات بانواع من الكرامات الاخروية وضروب من العقوبات لاتفى بدركها القوة الانسانية الا لو قد نضت هذا البدن وتجردت الى عالمها فالنفس مادامت ملابسة له فهى ملتحفة مغطاة بالشوائب العارضة والهيئات اللازمة لها من ملابسته، فإذا فارقته وتجردت عنه ابصرت ما اعد لها بعد المفارقة من سعادة أو شقاوة واليه اشير في التنزيل الالهى: فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (3) وهذا الحكم وان كان عاما للنفوس الانسانية القدسية البالغة في الكمال الى الحد المذكور وان كانت في الظاهر ملتحفة بجلابيب الابدان متغطية بأغطية الشوائب المادية وكأنها (4) لما (5) رزقت من الاعراض عما سوى القبلة الحقيقية ومن التوجه والاقبال

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " بالعداد ".

(2) آية 10 و 11 سورة الواقعة.

(3) - ذيل آية 22 سورة ق.

(4) - ب ج: " فكأنها ".

(5) - يمكن قراءة الكلمة بكسر اللام وتخفيف الميم بناء على انها مركبة من لام الجر وما الموصول.

 

[ 54 ]

عليها بالكلية فصار كل كمال لها بالقوة فعليا قد نضت تلك الاغطية وخلعت تلك الاغشية والقت تلك الجلابيب الحسية وخلصت الى الحضرة القدسية متصلة بالملاء الاعلى، مرتوية بالكأس الاوفى، مشاهدة لامور تعجز عن ادراكها الاوهام وتكل عن بيانها العبارات والافهام مبتهجة بما لاعين رأت ولا اذن سمعت صادرة عن كمالاتها الحاصلة لها آثار هي المعجزات والكرامات حتى انها لو فارقت ابدانها بالكلية لما زاد ذلك الاستغراق وتلك المشاهدة على ماكان قبل المفارقة.

ثم لما كان ولى الله امير المؤمنين على عليه السلام متسنما لذروة ذلك المقام رائيا ببصيرته الاسرار الالهية مطلعا بقوته القدسية على الاطوار الورائية لاجرم صدق في مقاله الكاشف عن كماله: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا، ولم يكن ذلك منه دعوى عرية عن البرهان بل دلت على صدقه اخباراته وانذاراته الصادقة ونجوم حكمه (1) الزاهرة (2) وكشفت عن حقيقة مقاله آياته الباهرة وكراماته الظاهرة، وقد اشرنا لك الى اسباب التمكن من تلك الايات وسنبين وقوعها منه ان شاء تعالى.

اللهم يا واهب الحياة ويا منتهى طلب الحاجات (3) اذقنا حلاوة العرفان، وملكنا ملكة التجرد عن جلابيب هذه الابدان، واهلنا لاستشراق سنا خواطف انوارك، واجعل ذواتنا من اتم قوابل فيض اسرارك، وهيئ لنا من امرنا رشدا (4).

 

الكلمة الثانية قوله عليه السلام: الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.

اقول: النوم كما يقال بحسب الحقيقة على تعطل الحواس الظاهرة عن الادراك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " حكمته ".

(2) - ج: " الظاهرة ".

(3) - كذا في النسخ ولا بأس به الا ان العبارة وردت في الصحيفة السجادية، وهناك هكذا " اللهم يا منتهى مطلب الحاجات (انظر اول الدعاء الثالث عشر وهو من دعائه في طلب الحوائج).

(4) - ذيل آية 10 من سورة الكهف.

 

[ 55 ]

للاسباب التى ذكرناها كذلك قد يقال مجازا على اشتغال النفس بالعلائق الجسمانية ومتابعة القوى البدنية وغفلتها عن مبدئها المفارق وعدم التفاتها إليه وكذلك الانتباه كما يقال حقيقة على استعمال الحواس الظاهرة للاسباب المذكورة كذلك يقال مجازا على اقبال النفس على القبلة الحقيقة وانتقاشها بجلايا القدسية بيان وجه التجوز عن النوم ان عدم انصباب النفس الى الجناب القدسي حين اشتغالها بالعلائق الجسدانية وتعطلها بسببه عن الانتقاش بصور المعقولات مشابه لعدم انصباب الروح النفساني الى الحواس الظاهرة وتعطلها بسبب ذلك عن الانتقاش بصور المحسوسات، بيان وجه التجوز عن الانتباه هو ان الانتباه المحسوس لما كان عبارة عن انتقاش لوح الحس المشترك عن المحسوسات بسبب استعمال (1) الحواس الظاهرة عن انصباب الروح النفساني إليها كذلك الانتباه المعقول هو انتقاش لوح النفس بصور المعقولات عن مباديها بسبب التفاتها واقبالها عليها، وإذا عرفت ذلك فاعلم انه عليه السلام اشار بالموت الى مفارقة الحياة، وبالنوم والانتباه ههنا الى المعنيين المجازيين، وانت بعد وقوفك على وجه التجوز تستفتح (2) بعين بصيرتك سرهذه الكلمة، ثم ان الناس نيام في مرقد الطبيعة لن ينتبهوا الا عند مفارقته، ثم يلوح لك ان القضية مهملة في قوة الجزئية وان الحكم خاص بمن عدا درجة السابقين فانهم ابدا ايقاظ في صورة نيام قد هجروا مضاجع الطبائع فهم في لجة الوصول سابحون، ثم للباقين في النوم درجات متفاوتة فأقربها الى اليقظة نفس كان اشتغالها عن الالتفات الى الجناب المقدس بمجرد مصالح البدن ومتابعتها للقوى البدنية فيما لابد منه في اقامة تدبيره وفى حاجته الى ما يقود الضرورة إليه مما رخصت فيه الشريعة، هذا بعد أن تكون متحلية بالمعرفة عن البرهان مراعية لشرائط الايمان، واشدها فيه اغتمارا وابعدها عن ساحة الرضوان دارا نفس ألقت زمامها الى قواها البدنية وانهمكت في طاعتها، فأعرضت بالكلية عن مباديها، ولم تستيقظها من رقدة الغافلين شدة استماع مناديها،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - كذا في النسخ والصحيح: " اشتغال ".

(2) - ب: " تستليح " ج د: " تستنتج ".

 

[ 56 ]

فخوطبت تقريعا بالهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر (1) ومنع (2) مناديها (3) من التكرير عليها إذ (4) كان قد اعذر إليها، فذرهم في غمرتهم حتى حين آيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون (5) وما بينهما درجات بعضها فوق بعض، فإذا فارقت النفوس مضاجعها ابصر كل منها بعين بصيرته ماكان قد اعد له وهيئ، فأبصر الاولون بها العزة وجمالها، ولاحظوا جلال الحضرة القدسية وكمالها، وجوه يومئذ ناضره الى ربها ناظرة (6) ووجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة (7) وشاهد الاخرون سلاسل الهيئات البدنية واغلال الملكات الردية، وجوه يومئذ باسرة، تظن ان يفعل بها فاقرة (8) ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة (9) وما بين الدرجتين بحسابه.

فانظر الى هذه الالفاظ الخفيفة كيف انطوت على هذه الاسرار اللطيفة.. ! واحسن بهذه العبارات الوجيزة كيف استلزمت هذه التشبيهات العزيزة.. ! وكيف لا وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وآله: اعطيت جوامع الكلم، واعطى على جوامع العلم، ولما نزلت وتعيها اذن واعية (10) قال (ص): اللهم اجعلها اذن على، فقال (ع): والله ما نسيت بعدها ابدا.

وقال عليه السلام: علمني رسول الله (ص) من العلم الف باب فانفتح لى من كل باب الف باب.

وكان مصداق ذلك قوله صلى الله عليه وآله انا مدينة العلم وعلى بابها، فليت شعرى كم في الخزائن التى وراء تلك الابواب من الكنوز والذخائر ؟ ! وكم في بحور اولئك عوامها من زواهر الجواهر ؟ !

اشتاقكم حتى إذا نهض الهوى * بى نحوكم قعدت بى الايام (11)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - آية 1 و 2 سورة التكاثر.

(2) - ب " وضع ".

(3) - ج: " مباديها ".

(4) - ا ب د: " إذا ".

(5) آية 54 و 55 و 56 سورة المؤمنين (6) - آية 22 و 23 سورة القيامة.

(7) آية 38 و 39 سورة عبس.

(8) - آية 24 و 25 سورة القيامة.

(9) - آية 40 و 41 سورة عبس.

(10) - ذيل آية 12 سورة الحاقة وصدرها: لنجعلها لكم تذكرة، وسابقتها: انا لما طغا الماء حملناكم في الجارية.

(11) - لم اعرف قائل البيت الا ان في هامش نسخة الالف بيتين هكذا: تمامه:

وكانها مع قربكم مرالحيا * وكانها مع بعدكم اعوام

ولقد وقفت بربعكم اشكو الجوى * فعليكم منى ومنه سلام "

 

[ 57 ]

يقولون لو واصلتنا سكن الهوى * بقلبك يا مجنون وانقطع الحزن

فها انا قد واصلتهم مثل قولهم * وما هدأ الاشواق والقلب ما سكن

 

الكلمة الثالثة قوله عليه السلام: من عرف نفسه فقد عرف ربه.

اقول: المعرفة بحسب عرف العلماء يخص التصور دون التصديق وان قل الفرق بينهما وبين العلم في وضع اللغة ثم ما اسهل ما يتأتى لك الاطلاع على معنى هذه المتصلة بعد احاطتك بالاصول السابقة فانك قد علمت ان للنفس الانسانية قوتين عالمة وعاملة هما في مبدء الامر خاليتان عن الكمال، وعلمت ان العاملة هي التى تكون لها بحسب حاجتها الى تدبير البدن وتكميله، وان العالمة هي التى تكون لها بحسب تأثرها عن مباديها وحاجتها الى تكميل جوهرها عقلا بالفعل (1)، ثم اطلعت على مراتب استعدادات هذه القوة وإذا عرفت ذلك فاعلم ان المراد حينئذ من اطلع على نفسه فعرفها بكثرة عيوبها ونقصاناتها وفقرها الى كمالات خارجة عن ذاتها ليست لها من حيث هي هي بل يحتاج لها الى استعدادات مترتبة حتى يفاض عليها بحسب استحقاقها حالا بعد حال ثم علم كيفية تنقل قوتة العاقلة في المراتب المذكورة اما بحسب ذوق العرفان أو بحسب سوق (2) البرهان فقد استلزم ذلك معرفته لربه بحسبهما استلزاما ضروريا لما ان العلم بالمعلول مستلزم للعلم بعلته الا انه ينبغى ان يعلم ان معرفته بالكنه غير ممكنة الا له إذ كانت حقيقته بريئة عن جهات التركيب العقلية والخارجية المستلزمة للامكان المستلزم للفقر والنقصان، ومعرفة الشئ بكنهه انما تحصل بالاطلاع على اجزاء ماهيته وابعاضها فالمطلع عليه إذا لوازم (3) سلبية أو اضافية تلزم معقوليته وواجبيته لزوما عقليا وعند ذلك المقام تزاحم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع ص 17 - 14.

(2) - ج د: " شوق " (بالشين المعجمة).

(3) - ج د: " لورام ".

 

[ 58 ]

اقدام العقول وغايتها الغرق في لجة ذلك الوصول.

فان قلت: لم لم يقل عليه السلام: من عرف ربه عرف نفسه، ومعلوم ان ترتيب هذه المتصلة على هذا الوجة أولى فان استلزام مقدمها لتاليها يكون اقوى من استلزامه له ان لو كانت (1) على الترتيب المذكور الان لانه استدلال ببرهان لم، ولاشك ان برهان لم اقوى من برهان ان، لما ان العلم بالعلة المعينة مستلزم للعلم بالمعلول المعين واما العلم بالمعلول المعين فلا يدل الا على العلة المطلقة، اما المعينة فلا، لجواز تعليل المعلول النوعى بعلتين فلا يتعين الشخصي (2) لاحديمها ؟ قلت: لا شك فيما ذكرته من ان برهان لم اقوى والاستدلال به اولى الا انا نقول: ان هذه الكلمة خرجت منه عليه السلام مخرج التأديب والحث على جماع مكارم - الاخلاق واقتناء الفضائل، وذلك ان الانسان إذا عرف نفسه بكثرة عيوبها ونقصانها وحاجتها الى التكميل كان ذلك داعيا له على اصلاح قوتيه العملية والنظرية ثم انه نبه على وجوب معرفة النفس بعد ذكرها بانها اقرب قريب الى الانسان بحيث يحتاج في معرفتها الى طلب زائد هي وسيلة الى الغاية المطلوبة للكل الواجبة على الاطلاق وهى معرفة - الصانع وهذا شأن المؤدب الحاذق ان يعين مطلوبه اولا لمن (3) يؤدبه عليه ثم ينبهه على حسنه ووجه وجوبه عليه وليس مقصوده الاول ههنا هو التنبيه على وجوب معرفة الله ولو انه قدم معرفة الله تعالى لفات الغرض المذكور من الكلمة، ولما بقى ذلك الذوق لها، ولما كان ذلك حثا للانسان على الاطلاع على عيب نفسه، وانت بعد مخض هذه الكلمة في سقاء ذهنك وارسال الرائد الفكري في جميع مفهوماتها ستجمع لك زبدتها، والله ولى هدايتنا، وبه حولنا وقوتنا، اللهم اهلنا لاستشراق نفحات عزتك، وملكنا ملكة الاتصال بارباب حضرتك، وانشر لنا جناح الفرح (4) بمطالعة كبريائك، ولمحات جمالك وبهائك، انك انت الوهاب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " ان كانت ".

(2) - ب الشخص ".

(3) - ب ج " ممن ".

(4) - " الفرج " بالجيم.

 

[ 59 ]

 

الكلمة الرابعة قوله عليه السلام: ما هلك امرؤا عرف قدره (1).

اقول: الهلاك في اللغة هو السقوط، وهذه القضية سالبة كليه تقديرها: لا واحد ممن عرف ربه بهالك، ينتج: لا واحد ممن عرف نفسه بهالك، اما الصغرى فقد مر بيانها، واما الكبرى فبيانها انه لما كانت السعادة الابدية والكمال المسعد (2) هو الاتصال بالملاء الاعلى ومطالعة بهاء (3) الاسرار الالهية والمثول بين يدى الواجب الاول، وكان ذلك الكمال هو المستلزم للسلامة المطلوبة للخلق من الهوى في قعر جهنم وحافظا لزلل - اقدام السالكين الواصلين من السقوط عن الصراط المستقيم الى حضيض الجحيم لاجرم صحت كبرى هذا القياس وصحت بصحتها نتيجته، وهذا المطلوب وان حصل لغير هذا الصنف اعني اصحاب النوع الانساني فانما يحصل لهم بحسب الباعث على الحركة المنبعثة في تحصيل الحد الاوسط والتفطن للترتيب، واما حصوله لمثله عليه السلام (فلا) فان قوته الشريفة البالغة غير مفتقرة فيه الى شوق باعث على الحركة في تحصيل الاوسط بل تنساق قوته القدسية إليه طبعا فيحصل المطلوب طبعا.

ذي المعالي فليعلون من تعالى * هكذا هكذا والا فلا لا

 

الكلمة الخامسة قوله عليه السلام: رحم الله امرء عرف قدره ولم يتعد طوره.

اقول: قدر الانسان مقداره، وقيمته في كل وقت من فضيلة يكون عليها أو رذيلة أو شرف أو خسة، أو كمال أو نقصان، وطوره حالته القولية أو الفعلية التى ينبغى ان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - هو مذكور في نهج البلاغة هكذا: " هلك امرء لم يعرف قدره " (انظر ص 601 من شرح ابن ميثم من الطبعة الاولى).

(2) - ج د: " العد " د: " المعد ".

(3) - في النسخ: " بها ".

 

[ 60 ]

يكون عليها عند كونه في ذلك المقدار من الكمال أو النقصان، وتعداه تجاوزه الى حالة اخرى لا يليق بمقداره ذلك، وإذا عرفت هذا كان المقصود من هذه الكلمة استنزال الرحمة بدعائه عليه السلام لعبد اطلع على مقداره في مدة حياته الدنيا مراعيا لموافقة طوره وهو قوله أو فعله وبالجملة الحال التى يليق بمقداره لمقداره بحيث لا يتعداه الى حالة وطور يكون اليق بمقدار آخر غير مقداره، وذلك كان يكون مثلا من اهل الدناءة فيأخذ في الكبر الفخر بالاباء وغير ذلك، أو يكون شريف العقل عالما فيعمل اعمال الملوك ويقتنى مقتنياتهم، فان ذلك في الحقيقة جور وهو طرف الافراط من فضيلة العدالة وتجاوز منها إليه.

ويمكن ان تأول هذه الكلمة على وجه آخر فنقول: ان قدر الانسان مقداره ومبلغه الذى ينبغى ان يصل إليه، وطوره حده الذى ينبغى ان يقف عليه وتعداه تجاوزه، ثم المبلغ الذى ينبغى ان يطلب هو ما عرفت انه الوسط الحقيقي من كل حركة ارادية خيرية وهو الفضيلة النفسانية التى تحدث عنه (1) متسالمة (2) القوى البدنية بعضها لبعض، واستسلامها للقوة المميزة حتى لا يتغالب ولا - يتحرك نحو مطلوباتها على حد (3) طباعها وهى الفضيلة المسماة بالعدالة وقد عرفتها وعرفت انها تحدث عن اجتماع الفضائل الثلاث التى هي امهات الفضائل، وهى الحكمة والعفة والشجاعة وقد عرفت حدودها وانواعها، وإذا عرفت ذلك فنقول: مقصود هذه الكلمة انما هو استنزال الرحمة الالهية بدعائه عليه السلام لعبد عرف هذه الفضيلة المستلرمة لحصول هذه الفضائل ثم وقف عندها فانها طوره الذى ينبغى ان يقف عنده ولم - يتجاوزها الى طرف الافراط فيدخل في زمرة الجائرين (4) الملعونين بلسان الله: الا لعنة الله على الظالمين (5).

فان قلت لو اراد ذلك لقال تماما لذلك: ولم يقصر عن طوره، إذ كان تحقق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " عنها ".

(2) - في النسخ: " مسالمة ".

(3) - ا: " جد " ج: " حده ".

(4) د: " الجابرين " (بالباء الموحدة، من الجبر).

(5) - ذيل آية 18 سورة هود.

 

[ 61 ]

تلك الفضيلة لايتم مع التقصير عنها والوقوف دونها والدخول في المهانة التى هي طرف التفريط من تلك الفضيلة ؟ قلت: انه لا حاجة به عليه السلام الى ذكر هذا القيد إذ يكون تكريرا وقد تنزهت الفاظه الا عن الوجازة المستلزمة للجزالة، إذ المعنى الذى اردت واليه قصدت مذكور في الكلام مدلول عليه بطريق الالتزام، وذلك ان استنزال الرحمة لمن يتجاوز هذه الفضيلة يستلزم النهى عن تجاوزها، والنهى عن التجاوز مستلزم للامر بالوقوف عندها، وهو مستلزم للامر بطلبها وعدم الوقوف دونها فلا جرم ذكر عليه السلام هذا القيد ولم يذكر ذلك، والاول اظهر، والله ولى التوفيق.

الكلمة السادسة قوله عليه السلام: قيمة كل امرء ما يحسنه (1).

اقول: القيمة يقال بحسب الحقيقة على ما يقوم مقام الشئ ويعوض عنه وهو الثمن ويقال بحسب المجاز على الامور التى تكتسبها النفس الانسانية من الهيئات كالعلوم والاخلاق الفاضلة واضدادها، ووجه المجاز ان التفاوت كما انه حاصل في قيمة الشئ بحسب تفاوت جوهر المثمن في الجودة والرداءة والشرف والخسة، وبحسب تفاوت انظار اهل - التقويم ورغبات الطالبين كذلك هو حاصل فيما يحسنه الانسان مما هو مكتسب له من تلك الهيئات كالاعتقادات المختلفة، فمنها علوم موصولة الى السعادة الابدية، ومنها اعتقادات

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - شرحها الشارح (ره) في شرحه على نهج البلاغة هكذا (ص 590 من الطبعة الاولى): " غرض هذه الكلمة الترغيب في اعلى ما يكتسب من الكمالات النفسانية والصناعات ونحوها، وقيمة المرء مقداره في اعتبار المعتبرين ومحله في نفوسهم من استحقاق تعظيم وتبجيل، أو احتقار وانتقاص، وظاهر ان ذلك تابع لما يحسنه المرء ويكتسبه من الكمالات المذكورة، فأعلاهم قيمة وارفعهم منزلة في نفوس الناس اعظمهم كمالا، وانقصهم درجة اخسهم فيما هو عليه من حرفة أو صناعة، وذلك بحسب اعتبار عقول الناس للكمالات ولوازمها ".

 

[ 62 ]

مخلدة في الشقاوة السرمدية، وما بينهما درجات، وكذلك الحال في باقى الامور المكتسبة للانسان والطبيعية له.

ثم ان ذلك التفاوت دل على ان الموصوف باحد هذه الصفات كيف هو مستلزم لتفاوت درجات الاستدلال على احواله في ذاته وكمالها ونقصاهنا بحسب تفاوتها في ذلك فلا جرم صدق عليه السلام ان " قيمة كل امرء ما يحسنه ".

واعلم ان في هذا الكلام مع اشتماله على الوجازة والصدق والبلاغة حثا على اكتساب اشرف انواع الثمن المذكور من الكمالات النظرية والعملية واقتناء المكارم، وذلك ان العاقل إذا سمع هذا اللفظ واطلع على سره مع ما في نفسه من محبة ان يكون اشرف ابناء نوعه فلابد وان يجتهد ويبالغ في طلب اقصى المراتب الشريفة فيكون ساعيا في تحصيل القيمة الاوفى حتى إذا حصلت دلت على شرف ذاته وكمالها في نفسها كما تدل القيمة على شرف ماهى قيمة له.

واعلم انه يحتمل ههنا ان تفسر القيمة باعتبار الخلق بعضهم لبعض ويكون التقدير ان اعتبار الناظرين ووزنهم للانسان في نفسه بميزان العقل لا بالنظر الى ذاته من حيث هي ذاته بل بالنظر الى ما يحسنه، فيكون اعتبارهم لذاته تابعا لاعتبارهم الهيئات التى اكتسبها والاعمال التى ارتكبها، ويكون رجحان ذاتها وشفافيتها وكمالها في انظارهم ونقصانها وشرفها وخستها الذى هو قيمته في الحقيقة تابعا لشرف احواله وافعاله وما يحسنه من الصناعات الموجبة للتكميل والتنقيص، والاعتبار الاول اظهر، وبالله التوفيق.

الكلمة السابعة قوله عليه السلام: الناس ابناء ما يحسنون.

اقول، معنى هذه الكلمة قريب من معنى التى قبلها وذلك لان (1) الابن كما يطلق حقيقة على حيوان يتولد عن آخر من نوعه نطفته من حيث هو كذلك وينسب إليه فيما يصدر عنه من الافعال ويشاهد منه من الاخلاق والاقوال وكثيرا ما تختلف تلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب ج د: " ان ".

 

[ 63 ]

النسبة بحسب اختلاف درجات افعال ابائهم في الخير والشر وتفاوت اخلاقهم في الشرف والخسة حتى لو كان الاب رجلا شريفا أو وضيعا ففعل الابن فعلا مناسبا لفعل ابيه أو تكلم بكلام مناسب لكلامه قيل، فلان ابن ابيه، كذلك يطلق مجازا على من ينسب الى امر شريف أو خسيس يكون عالما به وعاقلا له وذلك من باب الاستعارة والتشبيه حتى إذا تكرر عنه ذلك الامر أو عرف منه فضيلة أو رذيلة نسب إليها وصار معروفا بها كما كان يعرف بانه ابن فلان وينسب (1) إليه وفى هذا الكلام ايضا مافى الاول من الحث على طلب اشرف الرتب واعلى الدرجات الموصلة الى السعادة الدنياوية والاخروية وتنبيه للعاقل على ما عسى ان يكون غافلا عنه من انه يجب ان لا يرضى بناقص الاعمال ودنيها بل يواظب على طلب الاشرف من ذلك والاعلى حتى لا ينتسب الا إليه ولا ينتسب الى اب ساقط وضيع فيعلم حينئذ ان الفخر السنى والكمال البهى والشرف الاصيل والمنصب الجليل انما هو بتخلية الذات عن المنجسات وتحليتها باشرف الصفات لا بشرف القنيات (2) والنسبة الى العظام الرفاة:

وما الفخر بالعظم الرميم وانما * فخار الذي يبغى الفخار بنفسه

 

الكلمة الثامنة قوله عليه السلام: المرء مخبوء تحت لسانه (3).

اقول: يقال: خبأت الشئ اخبأه خبئا إذا سترته وحفظته عن النظر، واللسان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " نسب ".

(2) - ب: " القينات " (بتقديم الياء على النون) ج: " العنيات " (بالعين المهملة) د: العينات " (بتقديم الياء على النون).

(3) - شرحهاا الشارح (ره) في شرحه على نهج البلاغة بهذه العبارة (انظر ص 601 من الطبعة الاولى): " أي حاله مستورة في عدم نطقه فحذف المضاف للعلم به، وتحت لسانه كناية عن سكوته وذلك ان مقداره بمقدار عقله، ومقدار عقله يعرف من مقدار كلامه لدلالته عليه، فإذا تكلم بكلام الحكماء ظهر كونه حكيما، أو بكلام السفهاء عرف كونه منهم، وما بين المرتبتين بالنسبة ".

 

[ 64 ]

يطلق حقيقة على اللحمة المخصوصة الموجودة في الفم ويقال مجازا على نفس العبارة كما اشير إليه في التنزيل الالهى: واختلاف الستنكم والوانكم (1) والمعنيان محتملا الارادة وتقدير - الخبر: معرفة المرء مخبو تحت لسانه لان نفس حقيقه المرء لا يظهرها العبارة واعلم انه لما كان الانسان ليس عبارة عن مجرد هذا البدن المحسوس بل لابد في تحقق الانسان من امر اخر كما علمت قبل وكان لا ينفك ذلك الامر عن ان يكون موصوفا بصفة كمال أو صفة نقصان وكان ذلك الجزء منه وما يصحبه من الصفات الكمالية والنقصانية مستورا لا يطلع عليه (2) احد من ابناء نوعه بشئ من الحواس، إذ كان غير محسوس بل لابد في الاطلاع عليه بحسب العقل من دليل يوضح تحققه لاجرم صدق عليه انه مستور مخبوء.

ثم ان العناية الالهية اقتضت ان يكون له قوة نطقية معربة عن تلك الصفات بحسب الالتزام كاشفة لستر الجهل بها عن بصائر المبصرين وضمائر المختبرين فلا جرم صدق ان المرء مخبوء " تحت " لسانه، والمقصود من جهة " تحت " انما هي الجهة الوهمية لا المكانية وانما خصصها بجهة " تحت " لان العبارة التى هي المقصود من وضع اللسان لما كان سببا يكشف لذلك الستر ويظهر معرفة المرء من خباء الجهل به الى ظاهره بالانتقاش في اذهان المختبرين وكان السبب اعلى من المسبب لاجرم كان المسبب الذى هو المعرفة تحت سببه الذى هو اللسان المشار إليه.

وان حملنا اللسان على حقيقته كان ايضا حسنا فان هذه اللحمة المخصوصة لها سببية في تلك المعرفة واظهارها فانها محل العبارة فهى سبب معدلها وباقى التقرير بحاله، وهذه نكتة لطيفة في باب الاستعارة وهى قطرة من بحر اسرار كلامه عليه السلام فانظر الى عناية الله كيف خصته بهذا القوة القديسة الشريفة البالغة تقريرا وبيانا لقوله تعالى: يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد اوتى خيرا كثيرا وما يذكر الا اولوا الالباب (3).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - من آية 22 سورة الروم.

(2) - ب ج: " عليها ".

(3) - آية 269 سورة البقرة.

 

[ 65 ]