[ 90 ]

 

الفصل الثاني

في المباحث المتعلقة بالاخلاق الرضية والردية والاداب المتعلقة بها

 

وفيه اثنتان وثلاثون كلمة:

الكلمة الاولى قوله عليه السلام: من عذب لسانه كثر اخوانه.

اقول: الغذب الماء الطيب الخالص من الشوب ويقال بحسب المجاز على كل لذيذ خالص من شائبة اذى، والمراد من اللسان ههنا الكلام كما سبقت الاشارة إليه لان جرم اللسان لا ينسب إليه الطيب والعذوبة، والاخوان الاصدقاء والاعوان، والمقصود الصريح ان من لانت كلمته للخلق وتمرن لسانه بالملاطفة الحسنة لهم بطيب الكلام والاستجابة منهم وتواضع لهم فان طباعهم تميل إليه وتشتاق الى مصاحبته ومخالطته فيكون ذلك سببا لكثرتهم وهذه القضية من المجربات من انواع القضايا الواجب قبولها: واما عله تلك الميول الطبيعية فاعلم ان الشهوات والنفرات الطبيعية للحيوان تكون بحسب تصور الوهم أو (1) العقل للامور الموذية الضارة أو (2) المريحة النافعة فان تصور الحيوان ان كذا موذ له فانه ينبعث بسبب ذلك التصور شوق طالب لدفع ذلك الضار اما بالمقاومة أو الهرب، وان تصور ان ذلك نافع أو لذيذ فانه ينبعث عن ذلك الادراك شوق طالب لادراك الملائمة من ذلك النافع اللذيذ وقد اعلمناك ذلك كله وبينا كيفية تحريك القوى وبعث بعضها لبعض على اختلاف طبقاتها، وإذا عرفت ذلك فاعلم ان التودد بالملاطفة الحسنة بطيب الكلام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب ج: " و ".

(2) - ب ج: " و ".

 

[ 91 ]

وحلاوتة ولينه قد يكون طبيعيا في الانسان وقد يكون تكليفيا (1) وعلى التقديرين فان ادراك الخلق له من صاحبه داع لهم الى محبته والميل إليه باعث لشوقهم الطالب لادرا ك الملائمة فيما (2) يتوهم فيه أو يعقل من الامور النافعة أو (3) اللذيذة فتنبعث (4) ارادتهم على السعي في مصالحة (5) وطلب اخوته ومصادقته، وفى هذه الكلمة تنبيه على تحصيل هذا المعنى فانه سبب عظيم من الاسباب الداعية الى الالفة المستلزمة للمحبة في الله التي هي مطلوبة من من الشريعة بوضع كثير من السنن وبها تكون السعادة الدنياوية والاخروية فان امر المعاش لا يتم الا بمعاونة أو داء واخوان واعوان ناصحين وذلك امر ظاهر، وكذلك التودد سبب للالفة، والالفة سبب للمحبة والمحبة سبب لاجتماع القلوب والابدان، وهما سببان لاستنزال الرحمة بالدعوات وانزال البركات كما يبين فيما بعد ان شاء الله تعالى، وبالجملة فكلمة الانبياء متطابقة على الامر بتحصيل المودة بهذه الطريق قال عليه السلام: من لانت كلمته وجبت محبته، والتنزيل الالهى ناطق به: وقولوا للناس حسنا (6)، وفى حق الوالدين: وقل لهما قولا كريما (7) وقل لهم قولا ميسورا (8) وفى كلمات على (ع): التودد نصف العقل، واشرف انواع التودد ماكان عن عذوبة الكلام، والاستشهاد في ذلك كثير والله الموفق.

الكلمة الثانية قوله عليه السلام: من لان عوده كثفت أغصانه (9).

اقول: العود يطلق حقيقة على ساق الشجر وبحسب المجاز على ما يشابهه في امر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ب: " تكلفا " ج: " تكلفيا " د: " تكليفا ".

(2) - ج د: " مما ".

(3) - ب ج: " و ".

(4) - ج د: " فتلتفت ".

(5) - كذا ولعله: " مصاحبته ".

(6) - من آية 83 سورة البقرة.

(7) - ذيل آية 23 سورة الاسراء.

(8) - ذيل آية 28 سورة الاسراء وصدرها: " واما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها ".

(9) - قال الشارح (ره) في شرح نهج البلاغة في شرح تلك الفقرة مانصه (انظر ص 607 من الطبعة اولى): " استعار لفظ العود للطبيعة وكنى بلينه عن التواضع، وكذلك استعار لفظ الاغصان

 

[ 92 ]

ما، وقد أطلقه عليه السلام ههنا على الانسان، وكذلك اللين يقال بحسب الحقيقة على ما قبل الانغماز حسا، فعبر به عن التواضع وكرم الاخلاق وطيبها، والكثافة تقال على كثرة الاجزاء الحسية فعبر بها ههنا عن شدة الشوكة وكثرة الاخوان والاعوان، وهذه القضية متصلة ايضا يحتاج في تحقيقها الى بيان وجوه التجوزات المذكورة ثم الى بيان الملازمة بين تاليها ومقدمها، اما الاول فاما بالعود عن (1) الانسان فلان التجوز يكفى فيه أدنى ملابسة وههنا وجوه من المشاركة في القوة النباتية والنامية وقوة التغذية وفى النمو باستقامة وغيرها، والمشاركة في (بعض (2) هذه الامور توجب المشابهة فظلا عن كلها فكان ذلك التجوز اطلاقا حسنا لاحد الانواع على نوع آخر للمشابهة بينهما وهو استعارة حسنة.

واما باللين عن التواضع وطيب الاخلاق فلان اللين كما انه إذا حصل في الجسم دل على وجود الرطوبة التى تقبل معها الانغماز من الغامز كذلك التواضع وطيب الاخلاق إذا حصل في الشخص دل على رطوبة سره ولينه بالاستعداد للرحمة الالهية وقبوله للانغماز بانفعال طباعه واستجابته لمصادقة الاصدقاء، واكرام الخلطاء وتأهله لفيض العناية الالهية بالرغبة في تحصيل شريف الصفات وجميل الاحدوثات، وتصور (3) اللذة والمنفعة في تحصيل الاخوان وتقوية الشوكة بهم، واما بالكثافة عن ازدحام الاخوان فظاهر فانه لا معنى للكثافة الا تراكم الاجزاء وازدحامها وهو ظاهر ههنا، و (4) هذا بيان التجوز في المفردات.

اما بيانه في الملازمة والتركيب فلانه كما ان الشجرة انما تكثف وتعظم وتكثر أغصانه وتلتف بكثرة الاوراق عن الرطوبة الحاصلة المنمية (5) المستعدة للانبات كذلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للاعوان والاتباع وكنى بكثافتها عن اجتماعهم عليه وكثرته وقوته بهم، والمراد ان من كانت له فضيلة التواضع ولين الجانب كثرت اعوانه واتباعه وقوى باجتماعهم عليه ".

(1) - ا: " على ".

(2) - مابين القوسين زدناها تصحيحا للعبارة.

(3) - ج: " بصور اللذة ".

(4) - ب ج: ليست الواو فيهما.

(5) - ا ج د: " المتمنة " ب: " الممتنة " فالتصحيح نظرى.

 

[ 93 ]

الانسان يشرف وتشتد شوكته وتكثر اخوانه واعوانه وأحباؤه، الصادر كل ذلك عن تواضعه ولين جانبه وكرم اخلاقه وطيبها في حقهم المعبر عنه في الكلمة بلين العود حتى يتصلوا (1) به اتصال الاغصان ويعظم بهم عظم الشجرة بأغصانها الملتفة الكثيفة، واما صحة الملازمة فأمر ظاهر معلوم بالتجربة والله ولى التوفيق.

الكلمة الثالثة قوله عليه السلام: بشر مال البخيل بحادث أو وارث.

اقول: اطلاق البشارة ههنا مجاز من باب اطلاق احد الضدين على الاخر والبخل هو طرف التفريط من الرذيلتين اللتين هما طرفان للوسط الذى هو السخاء وقد عرفته، واما سببه فحكم الوهم بان في بذل المال مضرة تلحقه فيكون ذلك سببا لحركة القوة الشهوية الى جمعه فتحرك بسببها الالات الى الجمع والتحصيل وقد يختلف بالشدة والضعف بحسب اختلاف ذلك الادراك فيهما فمن النفس (من هو) مستعد بحسب أصل مزاجه وجبلته لقوة هذا التوهم (2) الموجب لتحريك تلك القوة، ومنهم من يعرض له ذلك بحسب حدوث استعداد قوته الوهمية لادراك سببه الوهمي، وههنا دقيقة وهى ان تخصيص مال البخيل بهذه البشارة المجازية المستلزمة لانذاره لا يدل على ان مال الجواد ليس كذلك فان احد الامرين المبشرين بها لابد منه في المالين وقد عرفت ان تخصيص الشئ بالذكر لا يدل على نفيه عما عداه، وقد ورد في كلامه عليه السلام بلفظ آخر ما يعم البخيل وغيره فقال: لكل امرء في ماله شريكان، الحادث والوارث (3) لكن لابد من فائدة يستلزمها هذا الحكم وهى الاهانة للبخيل إذ كان قد استعمل لفظ التعظيم في الاهانة كقوله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا ج د: " حتى يتصلون ".

(2) ا: " الوهم ".

(3) - شرحه في نهج البلاغة هكذا (ص 620 من الطبعة الاولى): " نفر عن ادخار المال بذكر الشريكين المكروهين " وهناك بذل " الحادث ": " الحوادث ".

 

[ 94 ]

تعالى: ذق انك انت العزيز الكريم (1) وتبكيته لعدم بذل المال في وجهه وتقريع له وتقرير لما يكرهه ومواجهته بما ينفر طبعه اشد نفار بما لابد منه إذ (2) كانت مفارقة المال عليه اشد من مفارفته على الجواد، ثم لو حمل الجواد على نفسه في ان هذه النذارة واردة عليهما لهون (3) عنده بعض ما يجده من هذه المواجهة لما ان المصيبة إذا عمت هانت لاح له حينئذ الفرق بين الاصل والفرع بما ان بذل المال عن الجواد يكسبه حمدا ومجدا أثيلا في العاجل ونعيما وثوابا جزيلا في الاجل، وهو محروم من ذلك لعدم علة استحقاقه (4) فيه وربما كان ذلك سبب رشده وسبب حرصه على التخلق بضد خلقه واعداد نفسه لاقتناء اسبابه ان كان قد قضى له ذلك ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور (5).

 

الكلمة الرابعة قوله عليه السلام: الناس بزمانهم اشبه منهم بآبائهم.

اقول: تقدير الخبر: الناس بأهل زمانهم، وانما حذف المضاف للعلم به كما في قوله تعالى: واسأل القرية، إذ لا مشابهة للناس مع ذات الزمان، ثم ليس المراد من مشابهتهم المشابهة في الصور الجزئية أو الشخصية كما يقال: وجه فلان يشبه وجه فلان فانهم بالاباء في ذلك أشبه، بل المراد أنهم أشبه في أفعالهم وعاداتهم وأخلاقهم وحالاتهم العارضة الغالبة.

ثم انه عليه السلام نبه بقوله " اشبه " على عدم نفى الشبه بالاباء بالكلية فانهم وان كانوا يشبهون الاباء الا انهم بأهل زمانهم أشبه.

واما السبب الغالب في ذل فاعلم انه لما كان الغالب على الخلق الغفلة والجهل البسيط وكانت النفوس الانسانية قد جبلت على محبة البدن وكثيرا ما تكون مطيعة للقوى متبعة للهوى مواظبة على اقتناء الكمالات الوهمية ولم يكن لتلك القوى البدينة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - آية 49 سورة الدخان.

(2) - ب: " إذا ".

(3) - ب ج: " ليهون عنه " (4) - آ: " لعدم استحقاقة ".

(5) - ذيل آية 40 سورة النور

 

[ 95 ]

كما علمت حظ في ادراك الامور الكلية بل لا تدرك الا الامور الحاضرة المحسوسة الجزئية أو (1) المتعلقة بالمحسوس وكان الغالب ان وجود الابناء وغالب حياتهم وتصرفاتهم في زمان غير زمان الاباء لا جرم كانت نفوسهم اكثر انفعالا واطوع لاخلاق زمانهم وعاداتهم وزيهم وحالاتهم منها لعادات الاباء وحالاتهم لمكان المشاهدة للحال الحاضرة والمنادمة والاتصال والمعاشرة والغفلة عن حال الاباء لاقلية معاشرتهم ومصاحبتهم لتقضيهم واقلية وجودهم في زمان وجود الابناء حتى ان انسانا لو عاشر ابا صالحا وتأدب بآدابه وتخلق بأخلاقه ثم فقده وعاشر من له ضد تلك الاخلاق فانه ربما استنكرها في اول الصحبة ثم ان نفسه بعد حين تنفعل عن تلك الاخلاق وتكتسبها لكثرة مشاهدتها وتكررها على قوى الحس وعقلة (2) النفس بها وتحلل الاخلاق الاولى على التدريج فربما انسلخ بالكلية عن تلك الاخلاق الصالحة الى التكيف بضدها وبالعكس وكذلك لو كان لابيه صنعة (3) مستحسنة في وجوده أو لباس يليق بحاله من اهل زمانه وكذلك سائر العادات التى يعتادها ذلك الاب ويتخلق بها ويليق بحاله في وقته ثم نشأ ولده في وقت آخر بين آخرين المنكرين للزى الاول ومستحسنين لزى ثان وعادة قد اكتسبوها غير الاولى فانه لا يتزيا الا بذلك الزى ولا يغير تلك العادة ولا يتخلق بغير الاخلاق الحاضرة دون اخلاق آبائه وعاداتهم، ولو فرضنا انه نشأ عليها وتزيا بها مدة وتكلف البقاء عليها فان طبعه لابد وان يقوده الى العادات والاخلاق الحاضرة اما كلها أو بعضها وليس ذلك الا لما قلناه من من كثرة المشاهدة والاطلاع الحسى على الامور الحاضرة التى عليها أهل زمانه وانفعال النفس بها وغفلتها عن الاحتراز بمراجعة العقل في مراعاة أنفع تلك الاخلاق الماضية واحاضرة في امر المعاش والمعاد واكتسابه (4) واعتبار أضر تلك الادات والحالات فيهما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج: " و ".

(2) - كأنه بضم العين المهملة وسكون القاف ويمكن ان يكون مقلوب ومصحف " علقة " فيكون كالالفة بالشئ وزنا ومعنى وللعقلة ايضا هنا معنى مناسب لانه يقال: " لفلان عقلة يعقل بها الناس، وهى ما يعقل به كالقيد أو العقال.

(3) - ج: " صفه ".

(4) - في النسخ: " واقتنائة.

 

[ 96 ]

واجتنابه حتى لو كانت زمان مضى خلة حميدة تقود الى الهدى وهى مستنكرة في الزمان الحاضر لم يلتفت في ارتكابها (1) الى انكار منكريها بل ارتكبها وواضب عليها، ولو كان لاهل زمانة عادة أو حالة تقود الى ردى تركها، وان كانت مستحسنة بينهم، والله ولى الاعانة على الالتفات الى ما يرضية (2) وهو الموفق.

 

الكلمة الخامسة قوله عليه السلام: اكرم الحسب حسن الخلق (3).

اقول: قد عرفت ان الحسب يقال بحسب الاشتراك اللفظي على ما يعد من المآثر وعلى الكفاية من المال وما يجراه مجراه.

واما الخلق فقد عرفت حده وهو ينقسم الى طبيعي يقتضية اصل المزاج كالضحك المفرط من أدنى معجب وكالحزن والغم من ادنى شئ يعرض والى غير طبيعي يستفاد من التمرن (4) والتعود، وقد يكون مبدأه بالروية والفكر ثم يستمر عليه مرة ومرة حتى يصير ملكة وخلقا وعلى التقديرين فاما ان تكون تلك الحال داعية الى افعال الخير وايثار الجميل وهو الخلق الحسن، أو الى عكسه وهو الخلق السئ الردي إذا عرفت ذلك فاعلم انه يحسن تأويل الكلمة على حسب مفهومي الحسب اما على المفهوم الاول فاعلم انه عليه السلام قد وصف حسن الخلق بافضلية كرم ما يعد من المكارم التى تؤثر عن الانسان، وبرهان صدقه انك علمت ان اصول الفضائل الخلقية ثلاثة، الحكمة والعفة والشجاعة، ومجموعها العدالة، ثم ان الملكة التى للنفس المسماة خلقا هي الاصل الذى تصدر عنه هذه الفضائل وانواعها ولا شك ان الاصل اشرف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - في النسخ: " لم يرتكب في التفاتها ".

(2) - ب ج د: " يرضينا ".

(3) - شرحها الشارح (ره) في شرحه على نهج البلاغة بقوله كلام له (ص 585 من الطبعة الاولى ": " رغب في حسن الخلق بكونه اكرم الحسب لكونه اشرف الكمالات الباقية " (الى آخر ما قال).

(4) - في النسخ: " البدن " ويمكن ان يكون " المرن " (بفتح الميم وكسر الراء) وهو العادة.

 

[ 97 ]

واكرم (1) من الفرع، واما على المفهوم الثاني فهو ان حسن الخلق لما كان منبعا لاصول الفضائل المذكورة كان اكرم كفاية تكون إذ (2) كان كفاية الجزء الباقي من الانسان وكان المال كفاية للجزء (3) الحيوانى الفاني منه، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير املا (4).

وفى هذه الكلمة تنبيه على مراعاة حسن الخلق ان كان موجودا، وعلى الاجتهاد في اكتسابه ان كان مفقودا، إذ بينا انه قد يكون مكتسبا وان اكتسابه ممكن وذلك انه منشأ لجماع مكارم الاخلاق والفضائل التى هي سبب للسعادة الباقية، والله ولى الهداية.

 

الكلمة السادسة قوله عليه السلام: لا ظفر مع البغى.

اقول: الظفر الفوز بالمطلوب بغلبة عدو وغيره، والبغى الظلم وحقيقته انه ضرار غير مستحق للتوصل الى كثرة المقتنيات من حيث لا ينبغى والمقصود ان من قهر خصمه على سبيل ظلم لم يعد في الحقيقة ظافرا به، وان كان قد يطلق ذلك بحسب العرف، وذلك لان (5) الظفر الحقيقي انما يكون بمطلوب مستحق فان المطلوب الغير المستحق وان حصل للطالب الا انه في قوة المنتزع وكيف يكون ظفر وفى مقابلته الذم العاجل بألسنه الخلق اجمعين من بعد لسان الوحى: الا لعنة الله على الظالمين (6) مع ان ذلك قد يكون مقربا لاجل الظلم لمقابلة بقائه ودفعه باجتماع همم الصالحين كما جاء في الاثر: الظالم قصير العمر، مع النتيجة الكبرى والطامة العظمى وهو حرمان الرضوان لتحقق الوعيد الصادق في حقه: والظالمين أعد لهم عذابا اليما (7) والظالمون مالهم من ولى ولا نصير (8)، الى غير

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " واكمل ".

(2) ا: " أو ".

(3) - ج د: " الجزء ".

(4) - ذيل آية 46 سورة الكهف وصدرها: المال والبنون زينة الحيوة الدنيا ".

(5) - ج د: " ان ".

(6) - ذيل آية 17 سورة هود.

(7) - ذيل آية 31 سورة الدهر وصدرها: " يدخل من يشاء في رحمتة " وهى آخر آية تلك السورة.

(8) ذيل آية 8 سورة الشورى.

 

[ 98 ]

ذلك مما اشتمل عليه التنزيل الالهي والسنة النبوية فأي ظفر لمن القى زمام عقله بيد شهوته، فقادته الى حلول (1) دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار (2) واى فوز لمن أخبر أصدق القائلين بما يلقاه من عدم الولى والحميم ؟ ! وتوعده (3) مالك يوم الدين بما أعد له من العذاب الاليم ؟ ! وتطابقت على خسرانه كلمة النبيين ؟ ! وانطلقت (4) بلعنه (5) وتوبيخه ألسنة اللاعنين ؟ ! نعوذ بالله من سيئات العمل (6) وقبح الزلل وبه نستعين فقد علمت ان الباغى لا يسمى ظافرا وان تصور بصورته، والظالم لا يعد فائزا وان اتسم بسمته، ولذلك قال عليه السلام: ما ظفر من ظفرالاثم به، والغالب بالشر مغلوب، وذلك سر قوله عليه السلام: لا ظفر مع البغى.

 

الكلمة السابعة قوله عليه السلام: لا ثناء مع كبر (7) .

اقول: الثناء الكلام الجميل، واما الكبر فهو العظمة والترفع على الخلق واستحقارهم وهو لازم للظن الكاذب بالنفس في استحقاق رتبة هي غير مستحقة لها تكون (8) لغيرها من غيران يكذب الانسان نفسه الامارة في ذلك لقهرها القوة العقلية والمقصود ههنا انفي وقوع الكلام الجميل في حق المتكبرين وبان ان (9) الثناء مع الكبر مما لا يجتمعان وصدق هذه القضية بين بعد تقديم ما سلف ونزيده تقريرا فنقول: ان بين الثناء الجميل.

الكبر منافاة تقرب من منافاة الضدين وذلك ان الكبر مستلزم لاستحقار الخلق بسبب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - هذه اللفظة ليست في ا.

(2) - ذيل آية 28 وتمام آية 29 سورة ابراهيم وصدر الاية الاولى: " الم تر الى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم ".

(3) - ب ج: " يوعده " د: " يوعدة " (بتشديد العين).

(4) - كذا في النسخ والمعنى ايضا صحيح ومع ذلك يمكن ان يوضع موضعها " ونطقت ".

(5) - ب: " بلعنته ".

(6) - ا ب: " العقل " ج " الخلق العقل " د: " الخلق " فالتصحيح قياسي.

(7) - د: " الكبر ".

(8) - ب: " لا تكون ".

(9) ب ج د: " وبيان ".

 

[ 99 ]

اعتقاد الانفراد بالمرتبة التى لا توجد للغير وذلك الاحتقار والاستصغار مستلزم لتنفير طباع الخلق عمن صدر عنه، اما العقلاء فلاستحقارهم اياه وأنه لا مقدار لما يتكبر به عندهم ولا اعتداد به لخساسة (1) ادبه وسوء خلقه ونزارة حظه من السعادة الباقية واطلاعهم على عدم اطلاعه على عيب نفسه فهو وان كان مستحقرا لهم غير ناظر إليهم كبرا فهو في عيونهم أحقر ومن طباعهم أبعد، ومع ذلك كيف يتصور ثناؤهم عليه ومدحهم له، واما الباقون من العوام وغيرهم فانما تميل طباعهم الى من يتواضع لهم ويقربهم الى نفسه بلين الكلمة والاحترام والشفقة وبذل النفع بالمال والجاه وغيره (2) سيما وكثير منهم يعتقد لعجزه عن الاطلاع على نقصانه انه كامل في ذاته فلا يسلم ان لاحد عليه فضلا البته، ومعلوم ان المتكبر عليهم المستحقر لشأنهم المستصغر لهم لا يبذل لهم من نفسه ما ذكرنا (3) وإذا (4) كان كذلك لم يتحقق منهم الميل إليه، فلم يتصور منهم الثناء عليه لعدم الموجب له ولم يصدر منهم مدح له لفقد علة المدح فقد صدق عليه السلام في بيان هذا السلب الكلى، الله ولى التوفيق.

 

الكلمة الثامنة قوله عليه السلام: لا بر مع شح .

اقول: البر ههنا الاحسان وان كان قد يراد به أيضا الصدق على سبيل الاشتراك اللفظى، والشح البخل مع زيادة حرص، وحده انه منع ما ينبغى بذله عن المستحق مع شدة طلب الجمع، وإذا كان كذلك فاعلم ان المراد من " لابر " ان الاحسان مع الشح

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ج د: " لكناسة ".

(2) - د: " وغيرهما ".

(3) - ب: " ذكرناه " (4) - ب: " واذ ".

 

[ 100 ]

مما لا يجتمعان بيانه ان الاحسان بذل بعض ما لا يجب بذله، وبذل بعض ما لا يجب مع منع ما يجب بذله متنافيا الاجتماع في محل عاقل، لان من منع بذل الواجب عن (1) مستحقه كيف يتصور منه بذل ما ليس بواجب فقد تحققت صحة هذا السلب الكلى.

وفى هذه الكلمة تنبيه على وجوب ترك الشح إذا كان لا يمكن فعل الواجب من البر الا به، وما لا يتم الواجب الا به كان واجبا: قد يكون الشح ملكة طبيعية وحينئذ لا يمكن زوالها فيخرج عن الوسع فيخرج عن التكليف بتركة ؟ - قلت: ان التجربة شاهدة بامكان زواله لكن لا دفعة بل بالتعويد والتدريج ويؤيدة قوله تعالى: ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون (2)، الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل (3) ذمهم على البخل والشح وعلى الامر به، ولو كان لا يمكن زواله لما مكان متعلق الذم والعقاب، والله ولى التوفيق.

 

الكلمة التاسعة قوله عليه السلام: لااجتناب محرم مع حرص.

اقول: الحرص هو بذل الوسع في طلب الامور التى يمكن تحصيلها وهوامر اضافي يختلف في استحقاق الحمد والذم به بحسب اختلاف الامر المطلوب في الشرف والخسة فان كان المطلوب امرا شريفا كاقتناء (4) الامور الباقية والكمالات المسعدة كان الحرص عليه امرا محمودا، وان كان امرا خسيسا كاكتساب الامور الفانية واللذات الوهمية المنقصة (5) كان حرصا مذموما، والحرص المشار إليه في هذه الكلمة هو الحرص على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ليست في ب.

(2) - ذيل آية 9 سورة الحشر و 16 سورد التغابن.

(3) صدر آية 37 سورة النساء 24 سورة الحديد.

(4) ج د: " كاكتساب ".

(5) - ا: " النقيصة " ولكن قال الفيومى في المصباح المنير: " نقص من باب قتل ذهب منه شى بعد تمامه ونقصته يتعدى ولا يتعدى هذه اللغة الفصيحة وبها جاء القرآن في قوله ننقصها من اطرافها، وغير منقوص، وفى لغة ضعيفه يتعدى بالهمزة والتضعيف ولم يأت في كلام فصيح ".

 

[ 101 ]

اقتناء الامور الفانية من اقتناء الاموال وجمعها والازدياد بها من أي وجه كان وعلى أي وجه كان اعني (1) ان لا يكون مراعيا فيها قانون العقل والحرية ويعلم مما سبق ان الحرص المذموم مستلزم لطرف الافراط من طرفي فضيلة العفة إذ كان مستلزما للخروج في (2) الطلب الى مالا ينبغى وما لا يرخص في طلبه الشريعة ولا العقل فيكون المطلوب من (3) محال الحرمة ومواضعها وإذا تحقق الحرص المذموم في الانسان فقد صدق عليه انه مواقع للحرام لا محالة (4) فهو غير مجتنب لمحرم وبه يخرج عن العفة وبخروجه عنها يخرج عن العدالة ويدخل في زمرة الفجار ولذلك كثيرا ما ذم عليه السلام ارباب التجارات فقال: التاجر فاجر والفاجر في النار الامن أخذ واعطى الحق، فقوله: التاجر فاجراشارة الى ان التاجر لا يخلو في غالب الامر من الحرص المذموم فيخرج به عن ملكة العفة الى طرف الفجور، وقوله: " الامن أخذ الحق وأعطى الحق " أي الخالى عنه الملازم لفضيلة الحرية التى هي نوع من أنواع العفة، ولما كان تعلم الاحكام الشريعة والتحلى بآداب الشريعة كثيرا ما يصدر عن ذلك الحرص كان من الواجب ان يقدم الانسان على السعي في التجارة العلم بتلك الاحكام ليتميز للمتجر ما ترخص الشريعة فيه من غيره، روى انه عليه السلام كان يدور في الاسواق ويقول معاشر الناس الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، والله للربا في هذه الامة أخفى من دبيب النمل على الصفا.

وقال عليه السلام: من اتجر بغير علم ارتطم في الربا ثم ارتطم، والارتطام التوحل، وروى عن الصادق عليه السلام انه قال: من لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورط في الشبهات، وكل ذلك اشارة الى ان تعلم الاحكام (5) الفقهية والاداب الشرعية مانع للخلق من الحرص المذموم كاف (6) لهم عن الانهماك في الشهوات وذلك يستلزم امتناع اجتماع اجتناب المحارم مع الحرص المذموم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " يعنى ".

(2) - ا: " عن ".

(3) - في النسخ: " هي ".

(4) في النسخ: " في محاله ".

(5) - ج د: " العلم بالاحكام ".

(6) - في النسخ مع تخفيف الكاف.

 

[ 102 ]

 

الكلمة العاشرة قوله عليه السلام: لاراحة مع حسد (1) .

اقول: الراحة السكون عن الحركات المتبعة حسية كانت أو عقلية، واما الحسد فهو انبعاث القوة الشهوية الى تمنى مال الغير أو الحالة التى هو عليها وزوالها عن ذلك الغير وهو مستلزم لحركة القوة الغضبية ولثبات الغضب ودوامه وزيادته بحسب زيادة حال الحسود التى يتعلق بها الحسد ولذلك قيل: الحاسد مغتاظ على من لاذنب له، وهو نوع من أنواع الظلم والجور، وإذا تصورت حقيقة الراحة والحسد فاعلم ان المطلوب بيان عدم اجتماعهما وذلك ظاهر حينئذ فان حركة شهوة الحاسد وفكره في كيفية حصول الحالة المحسود فيها وفى كيفية زوالها عمن هي له المستلزمة (2) لحركة الات البدن في ذلك مستلزم (3 لعدم الراحة والمستلزم لعدم الشئ غير مجامع لوجوده والا لزم اجتماع النقيضين وهو محال واعلم ان العقلاء (4) قد اتفقوا على ان الحسد مع انه رذيلة عظيمة للنفس فهو من الاسباب العظيمة لخراب العالم إذ كان الحاسد كثيرا ما تكون حركاته وسعيه في هلاك ارباب الفضائل واهل الشرف والاموال الذين يقوم بوجودهم عمارة الارض إذ لا يتعلق الحسد بغيرهم من اهل الخسة أو الفقر، ثم لا يقصر في سعيه ذاك دون ان تزول تلك الحالة المحسود بها عن المحسود أو (5) يهلك هو في تلك الحركات الحسية الفعلية والقولية (6) ولذلك قيل: حاسد النعمة لا يرضيه الا زوالها، وما دام الباعث للقوة (7)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - د: " الحسد ".

(2) - ب ج د: " المستلزم ".

(3) - ا: " المستلزم ".

(4) - د: " العلماء ".

(5) - ا ج د: " و ".

(6) - ج: " والقوائية ".

(7) - ج د: " الى القوة ".

 

[ 103 ]

الغضبية (1) قائما فهى قائمة متحركة ومحركة واكثر ما تؤثر السعاية بين يدى الملوك لعلم الساعي بقدرتهم على تنفيذ أغراضه ولاعتقاده انهم اقرب الى قبول قوله من الغير لغلبة القوى الشهوية والغضبية فيهم، وانما كانت فيهم أقوى لتمرنهم عليها وأكثرية وقوعها منهم لتمكنهم من اعطائها لمطلوباتها من المشتهيات والانتقامات فيصير جريانها منهم (2) سريعا ويحصل لهم من ذلك ملكات ارسال القوى الشهوية والغضبية وتصير الغفلة عن المصالح الكلية ملكة لهم ايضا، وكثيرا ما توثر السعاية معهم لذلك الا من لمحه (3) الله بعين العناية منهم حتى راض نفسه بالاداب الشرعية وساسها بالتعويد بالفضائل الخلقية فيراعى المصالح الكلية والتدبيرات المدنية فملك زمام شهوته وغضبه بكف عقله العملي وصرفه بها فاولئك ما عليهم من سبيل (4) وقليل ماهم.

انما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الارض بغير الحق (5) فيصير بغيهم سببا لخراب الارض فيفسد الحرث والنسل والله لا يجب الفساد (6).

فقد علمت ان الحسد من أعظم أسباب الخراب ولاح لك ان الحاسد وان أتعب غيره فهو متعب لنفسه بتلك الحركات النفسانية والبدنية وتوابعها من اللوم والذم العاجل والشقاوة التامة في الاجل وذلك مما يستلزم عدم الراحة المستلزم لعدم امكان اجتماع الراحة والحسد وذلك تحقيق لهذا السلب الكلى، والله الموفق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " العملية ".

(2) - ب ج: " فيهم ".

(3) - ا: " منحه ".

(4) - ذيل آية 41 سورة الشورى.

(5) - صدر آية 42 سورة الشورى.

(6) - مأخوذ من قوله تعالى " وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد " (وهى آية 205 من سورة البقرة).

 

[ 104 ]

 

الكلمة الحادية عشر قوله عليه السلام: لا زيارة مع زعارة.

اقول: الزعارة بتشديد الراء شكاسة (1) الخلق، والمراد بيان ان الزيارة لا تحصل ولاتصدق مع شكاسة الاخلاق سواء كانت من طرفي المتزاورين أو من طرف احدهما فإذا هما أمران متضادان بيان ذلك ان الزيارة الصادقة انما تكون بين المتؤانسين (2) المتحابين وقد عرفت ان راس أسباب الالفة والانس هو حسن الخلق الذى يحسن معه المعاشرة فإذا كان محل الاخلاق الفاضلة مشغولا باضدادها وهى الاخلاق الشكسة (3) وهى سبب عظيم لتنفير (4) طباع الخلق الذى هو سبب التفرقة والتباين بينهم كان ذلك سببا لقطع الزيارة وامتناعها منهم، وتحققت حينئذ ان الزيارة مع شكاسة الاخلاق مما لا يجتمعان.

وفى هذه الكلمة تنبيه على وجوب ترك الزعارة لان الزيارة لما كانت مأمورا بها لما انها سبب المحبة المطلوبة من الشريعة ومحرض (5) على القيام بها ومداومتها لتحصيل الوداد وكان وجود الزيارة منافيا لوجود الزعارة كان وجوب الزيارة والامر بها مستلزما للنهى عن ارتكاب الزعارة ولوجوب تركها، والله ولى التوفيق.

الكلمة الثانية عشر قوله عليه السلام: لامروة (6) لكذوب (7).

اقول: المروة فضيلة للنفس بها يكون الترفع والاحتشام عن مواقعة (8) القبيح

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - الشكاسة معنى الشراسة.

(2) لعله " المتونسين " لان " تانس " (من باب التفاعل) لم اجده في كتب اللغه.

(3) - ب د: " الشكيسة ".

(4) ج د: " لتنفر ".

(5) - ج د: " محرص " (بالصاد المهملة ".

(6) - اصلها: " مروءه (بالهزة).

(7) - ج: " للكذوب ".

(8) - ج د: " موافقة ".

 

[ 105 ]

حذرا من الذم والسب الصادق، والكذب هو القول الغير المطابق لما عليه الامر في نفسه، والكذوب هو متعود الكذب، والمقصود من هذه الكلمة بيان ان المروة والتعود للكذب مما لا يجتمعان وبيانه ان الكذب لما كان من الرذائل المستقبحة إذ كان مضادا (1) لمصلحة العالم ولانه قد يوقع بالمكذوب عليه امورا مكروهة لا يكون شاعرا بها فيكون ذلك سببا منفرا للطباع وعلة لاستقباح (2) العرف والشرع وكان التعود به يكسب النفس ملكة متمكنة من جوهرها بسببها يجترئ على التظاهر بلزوم القبيح وعدم التخفي بفعله واحتمال المكافحة (3) بالذم والسب الصادق وعدم تصديق الخلق له في وجهه (4) ولذلك قيل: ان الكذوب لا يصدق ومنه المثل السائر في العامة: من عرف بالصدق جاز كذبه، ومن عرف بالكذب لم يجز صدقة، قال أبو عبيد: ومما يحقق هذا المثل حكم الله في الشهادة انها مردودة من اهل الفسوق، ولعلهم قد شهدوا بالحق، هذا مع ما يلزم ذلك من جرأته على مقابلة النهى الشرعي وقلة مبالاته والوعيد فسمى وقحا وخسيسا لاجرم كانت المروة منافية لذلك لان ملكة مواقعة القبيح والميل إليه مع الملكة الموجبة للاحتشام والترفع مما لا يجتمعان، ولذلك قال بعض الحكماء: لو لم يترك العاقل الكذب الا للمروة لقد كان حقيقا بذلك (5) فكيف وفيه المأثم والعار، وذلك يدل على ان المروة تسقط مع الكذب فكيف مع تعوده.

واعلم ان المروة لما كانت من صفات الكمال الانساني مما يجب طلبه فكان ذلك مستلزما للامر بترك مالا يجتمع معه وهو تعود الكذب وهذا مع ما اتفقت عليه كلمة النبيين وتطابقت عليه مقالات الحكماء الراسخين من قبح الكذب وذمه ووجوب الردع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - د: " مضارا ".

(2) - ا: " لاستقباع ".

(3) - ب: " المكافى ".

(4) - ب ج د: " وجه ".

(5) - ا: لذلك ".

 

[ 106 ]

عنه بالعقوبة (1) وانه مضاد لمصلحة العالم وسبب من الاسباب الموجبة لخرابه إذ كان صاحبه قد ألقى زمام قوته العقلية الى حكم شهوته وغضبه فصرفاه على مقتضى طباعهما فتارة تميل به الشهوة فيهيج به الحرص أو الحسد فيحمله ذلك على القول الباطل في سلب الاموال، وتارة يميل به الغضب فيهيج به شهوة الانتقام فيقوده ذلك على القول الباطل الموجب لسفك الدم بين يدى الملوك وغيرهم وقد عرفت انه لا نظام للعالم الا بهما.

واما (2) الذم فقال عليه السلام: الكذب رأس (3) النفاق وذلك لخروج (4) الكاذب عن الصدق الذى هو صنف من اصناف الورع كما يخرج المنافق من ربقة الايمان، واشتقاق النفاق من قولهم: نفق اليربوع إذا خرج من حجره، وقال تعالى: ومن أضلم ممن افترى على الله كذبا (5) فمن أظلم ممن كذب على الله (6) ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة (7) وبالجملة فذم الكذب في الكتب الالهية والسنن الشرعية وبين اهل العالم اكثر من ان يحصى، ولو لم يكن فيه الا ما ذكرناه لكان كافيا في قبحه فيكف وهو من أعظم الاسباب لحرمان الخير الدائم والنعيم في الاخرة إذ كان من يتعود الكذب ملطخا لنفسه بملكة تحدث عنه يحرم (8) معها صحة المنامات (9) وصدق الالهامات ويسود لوحها (10) بتلك الملكة فتشتغل عن قبول الانتقاش بالحق والتحلى (11) بالجلايا القدسية والاستشراق للانوار العلوية فأعظم به سببا لخراب (12) الدارين... ! وعلة لحرمان السعادتين.. ! نعوذ بالله من سوء الاختيار ونستجيره من عذاب النار.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) - ا: " بالمعقولية " (2) - د: " اما ".

(3) - د: " أس ".

(4) - ا ج: " بخروج ".

(5) - صدر آية 21 و 93 سورة الانعام و 62 سورة العنكبوت و 18 سورة هود.

(6) - صدر آية 32 سورة الزمر.

(7) صدر آية 60 سورة الزمر.

(8) - في النسخ: " تحرم ".

(9) - اج د: " المقامات ".

(10) - ا: " لوجهها ج: " اوجها " فلعل الصحيح: " مسودا لوجهه ".

(1) - ب: " بالتجلى ".

(12) - د: " لخسران ".