حرف الميم

260 من ضيّعه الأقرب أتيح له الأبعد . 1 أي من ضيّعه و خذله قومه و أهله قدّر لمنفعته و معونته الأبعد ، فإنّ الإنسان قد ينصره من لا يرجو نصره و إن أهمله أقربوه و خذلوه ، فقد تقوم به الأجانب من الناس ، و قد وجدنا ذلك في حقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ،

ضيّعه رهطه من قريش و خذلوه ، و تمالئوا عليه ، فقام بنصره الأوس و الخزرج ، و هم أبعد الناس نسبا منه ، لأنّه من عدنان و هم من قحطان .

و قامت ربيعة بنصر أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين ، و هم أعداء مضر الذين هم أهله و رهطه .

و قامت الخراسانيّة و هم عجم بنصر الدولة العبّاسيّة ، و هي

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 14 .

[ 206 ]

دولة العرب . 1 261 ما كلّ مفتون يعاتب . 2 هذه الكلمة قالها أمير المؤمنين عليه السلام لسعد بن أبي وقّاص و محمّد بن مسلمة و عبد اللّه بن عمر لمّا امتنعوا من الخروج معه لحرب أصحاب الجمل . 3 و قال فيهم أيضا :

262 خذلوا الحقّ و لم ينصروا الباطل . 4 و نظير قوله عليه السلام : « ما كلّ مفتون يعاتب » أو قريب منه قول أبي الطيّب : 5

فما كلّ فعّال يجازى بفعله
و لا كلّ قوّال لديّ يجاب

و ربّ كلام مرّ فوق مسامعي
كما إنّ في لوح الهجير ذباب

قال ابن ميثم : الفتنة قد تكون في الدين و قد تكون في الدنيا

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 18 118 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 15 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 18 119 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 18 .

( 5 ) لم أجده في ديوانه و لكن أورده ابن أبي الحديد في شرحه 18 119 .

[ 207 ]

و قد تكون فيهما ، و على التقديرات فقد تلحق الإنسان بسبب منه من جهل بسيط أو مركّب و قد تلحقه بأسباب قدريّة خارجيّة معلومة و غير معلومة . و الذي يعاتب على فتنته من هؤلاء من كانت أسباب فتنته منه أو بعضها كوقوع الفتنة لمصاحبة الفسّاق و نحوه .

هذا إذا حملنا اللفظ على ظاهره ، و يحتمل أن يريد : ليس كلّ مفتون ينفع معه العتاب . 1 263 من جرى في عنان أمله عثر بأجله . 2 روى أبو سعيد الخدريّ أنّ أسامة بن زيد اشترى وليدة بمائة دينار إلى شهر ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : ألا تعجبون من أسامة يشتري إلى شهر إنّ أسامة لطويل الأمل . 3 قال أبو عثمان الهنديّ : قد بلغت نحوا من ثلاثين و مائة سنة ، فما من شي‏ء إلاّ قد عرفت النقص فيه إلاّ أملي ، فإنّه كما كان . 4 كما قال الشاعر :

أراك تزيدك الأيّام حرصا
على الدّنيا كأنّك لا تموت

-----------
( 1 ) شرح ابن ميثم 5 246 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 19 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 18 127 .

( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 18 127 .

[ 208 ]

فهل لك غاية إن صرت يوما
إليها قلت حسبي قد رضيت 1

264 من أبطأ به عمله لم يسرع به حسبه [ نسبه خ . ل ] . 2 هذا الكلام حثّ و حضّ و تحريض على العبادة ، و له نظائر كثيرة .

265 و في رواية اخرى : من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب آبائه . 3 كان يقال : أجهل الناس من افتخر بالعظام البالية ، و تبجّح 4 بالقرون الماضية ، و اتّكل على الأيّام الخالية . 5 قال الشاعر :

كن ابن من شئت و اكتسب أدبا
يغنيك محموده عن النّسب

إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا
ليس الفتى من يقول كان أبي6

 266 من كفّارات الذّنوب العظام إغاثة الملهوف ، و التّنفيس عن المكروب . 7

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 18 127 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 23 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 389 .

( 4 ) أي سرّ و فرح . منه ( ره )

( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 19 331 .

( 6 ) في الديوان المنسوب إلى الإمام عليّ عليه السلام ، ص 37 ، و بعده :

فليس يغني الحسيب نسبته
بلا لسان له و لا أدب

( 7 ) نهج البلاغة ، الحكمة 24 .

[ 209 ]

قد جاء في هذا المعنى آثار كثيرة و أخبار جميلة لا يتّسع لذكره نطاق البيان .

267 ما أضمر أحد شيئا إلاّ ظهر في فلتات لسانه ، و صفحات وجهه . 1 الفلتة : الأمر يقع من غير تروّ . و صفحة الوجه : بشرته .

و ما قاله عليه السلام شهدت به التجربة . قال الشاعر :

تخبّرني العينان ما القلب كاتم
و ما جنّ بالبغضاء و النظر الشّزر2

 268 من أسرع إلى النّاس بما يكرهون ، قالوا فيه 3 ما لا يعلمون . 4 هذا المعنى كثير واسع و لنقتصر على حكاية مختصرة :

روي عن أبان بن الأحمر أنّ شريك ابن الأعور دخل على معاوية ، فقال له : و اللّه إنّك لشريك و ليس له شريك ، و إنّك لابن الأعور و البصير خير من الأعور ، و إنّك لدميم و الجيّد خير من الدميم ،

فكيف سدت قومك ؟ قال : إنّك معاوية و ما معاوية إلاّ كلبة عوت فاستعوت [ و استعرت خ . ل ] ، و إنّك لابن صخر و السهل خير من

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 26 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 18 137 .

( 3 ) في النهج : بما .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 35 .

[ 210 ]

الصخر ، و إنّك لابن حرب و السلم خير من الحرب ، و إنّك لابن أميّة و ما أميّة إلاّ تصغير أمة صغّرت فاستصغرت ، فكيف صرت أمير المؤمنين ؟ فغضب معاوية و خرج شريك و هو يقول :

أيشتمني معاوية بن صخر
و سيفي صارم و معي لساني

و حولي من ذوي يزن ليوث
ضراغمة تهشّ إلى الطعان

فلا تبسط علينا يا ابن هند
لسانك إن بلغت ذرى الأماني1

 269 من أطال الأمل أساء العمل . 2 لمّا كان طول الأمل في الدّنيا مستلزما للإقبال عليها و الانهماك في العمل لها و الغفلة عن الآخرة ، كان ذلك عملا سيّئا بالنسبة إلى الآخرة .

و قد تقدّم منّا كلام في الأمل .

270 المال مادّة الشّهوات . 3 كان يقال : ثلاثة يؤثرون المال على أنفسهم : تاجر البحر ،

و المقاتل بالأجرة ، و المرتشي في الحكم ، و هو شرّهم لأنّ الأوّلين ربّما

-----------
( 1 ) نقلها المؤلّف ( ره ) في سفينة البحار 1 697 عن ابن شهر آشوب ، و نقلها العلاّمة السيّد محسن الأمين في أعيان الشيعة 7 344 عن « النبذة المختارة من كتاب تلخيص أخبار شعراء الشيعة » للمرزبانيّ .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 36 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 58 .

[ 211 ]

سلما ، و لا سلامة للثالث من الإثم . 1 271 من حذّرك كمن بشّرك . 2 هذا مثل قولهم : اتّبع أمر مبكياتك ، لا أمر مضحكاتك . 3 و مثله : صديقك من نهاك ، لا من أغراك . 4 و بالفارسيّة يقولون : دوست آن است كه بگرياند ، دشمن آن است كه بخنداند . 5 قال الشاعر :

به نزد من آن كس نكو خواه تست
كه گويد فلان خار در راه تست

چه خوش گفت يك روز دارو فروش
شفا بايدت داروى تلخ نوش 6

 ثمّ اعلم أنّ التحذير هو النصح ، و هو تعريف الإنسان ما فيه صلاحه ، و دفع المضرّة عنه .

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 18 193 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 59 .

( 3 ) مجمع الأمثال 1 49 .

( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 18 195 .

( 5 ) أمثال و حكم دهخدا ، ج 2 836 .

( 6 ) كليّات سعدي 259 .

[ 212 ]

و معنى قوله عليه السلام : « كمن بشّرك » ، أي ينبغي لك أن تسرّ بتحذيره لك ، كما تسرّ لو بشّرك بأمر تحبّه ، و أن تشكره على ذلك ، كما تشكر لو بشّرك بأمر تحبّه ، لأنّه لو لم يكن يريد بك الخير لما حذّرك من الوقوع في الشرّ .

272 المرأة عقرب حلوة اللّسبة . 1 استعار للمرأة لفظ العقرب باعتبار أنّ من شأنها الأذى ، لكن أذاها مشوب بما فيها من اللذّة بها ، و هو كأذى الجرب المشوب بلذّته في زيادة حكّته .

اللّسبة : اللّسعة ، لسبته العقرب بالفتح و لسبت العسل بالكسر : لعقته .

و منه قولهم : من الفواقر امرأة سوء إن حضرتها لسبتك ، و إن غبت عنها لم تأمنها . 2 قد أكثروا القول في ذمّ النساء ، و لا يناسب كتابنا الطويل .

نظر حكيم إلى امرأة مصلوبة على شجرة ، فقال : ليت كلّ شجرة تحمل مثل هذه الثمرة . 3

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 61 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 18 200 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 18 198 .

[ 213 ]

كتب فيلسوف على باب داره : ما دخل هذا المنزل شرّ قطّ ، فقال بعضهم : اكتب : إلاّ المرأة . 1 و في كلام الحكماء : اعص هواك و النساء ، و افعل ما شئت2 .  و في الحديث : المرأة ضلع عوجاء إن داريتها استمتعت بها ، و إن رمت تقويمها كسرتها . 3 قال الشاعر في هذا المعنى :

هي الضّلع العوجاء لست تقيمها
ألا إنّ تقويم الضّلوع انكسارها

أ يجمعن ضعفا و اقتدارا على الفتى
أليس عجيبا ضعفها و اقتدارها4

 و من كلامهم : ليس ينبغي للعاقل أن يمدح امرأة إلاّ بعد موتها . 5 و في الأمثال : لا تحمدنّ أمة عام شرائها ، و لا حرّة عام بنائها . 6 و كان يقال : ما نهيت امرأة عن أمر إلاّ أتته . 7

-----------
( 1 ) نفس المصدر السابق .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 18 199 .

( 3 ) نفس المصدر السابق .

( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 18 199 .

( 5 ) المصدر السابق .

( 6 ) مجمع الأمثال 3 154 .

( 7 ) شرح ابن أبي الحديد 18 200 .

[ 214 ]

و قال حكيم : أضرّ الأشياء بالمال و النفس و الدين و العقل و العرض شدّة الإغرام بالنساء ، و من أعظم ما يبتلى به المغرم بهنّ أنّه لا يقتصر على ما عنده منهنّ و لو كنّ ألفا ، و يطمح إلى ما ليس له منهنّ . 1 و قال بعض الحكماء : من يحصي مساوئ النساء اجتمع فيهنّ نجاسة الحيض و الاستحاضة ، و دم النفاس ، و نقص العقل و الدين ،

و ترك الصوم و الصلاة في كثير من أيّام العمر ، ليست عليهنّ جماعة و لا جمعة ، و لا يسلّم عليهنّ ، و لا يكون منهنّ إمام و لا قاض و لا أمير ، و لا يسافرن إلاّ بوليّ . 2 قلت : و كفى في هذا المقام كلام أمير المؤمنين عليه السلام : « معاشر الناس إنّ النساء . . . » . 3 273 من نصب نفسه للنّاس إماما فعليه أن يبدأ 4 بتعليم نفسه قبل تعليم غيره ، و ليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه ، و معلّم نفسه و مؤدّبها أحقّ بالإجلال من معلّم النّاس و مؤدّبهم . 5

-----------
( 1 ) المصدر السابق .

( 2 ) نفس المصدر السابق .

( 3 ) نهج البلاغة ، الخطبة 80 .

( 4 ) في النهج : فليبدأ .

( 5 ) نهج البلاغة ، الحكمة 73 .

[ 215 ]

اعلم أنّ الفروع تابعة للأصول ، فإذا كان الأصل معوجّا استحال أن يكون الفرع مستقيما ، كما قال صاحب المثل : « و هل يستقيم الظلّ و العود أعوج » 1 ، فمن نصب نفسه للناس إماما ، و لم يكن قد علّم نفسه ما 2 انتصب ليعلّمه الناس ، كان مثل من نصب نفسه ليعلّم الناس الصياغة و النجارة ، و هو لا يحسن أن يصوغ خاتما ، و لا ينجر لوحا ، و هذا نوع من السفه ، بل السفه كلّه .

ثمّ قال عليه السلام : و ينبغي أن يكون تأديبه لهم بفعله و سيرته قبل تأديبه لهم بلسانه ، و ذلك لأنّ الفعل أدلّ على حال الإنسان من القول ،

و الطباع لمشاهدة الأفعال أطوع و أسرع انفعالا منها للأقوال . و لهذا قال بعض الخلفاء : أنتم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال .

ثمّ رغّب في تأديب النفس بكون مؤدّب نفسه أحقّ بالتعظيم و الإجلال من مؤدّب غيره ، لأنّ من علّم نفسه محاسن الأخلاق أعظم قدرا ممّن تعاطى تعليم الناس ذلك و هو غير عامل بشي‏ء منه .

274 من ترك قول « لا أدري » أصيبت مقاتله . 3 ترك هذا القول كناية عن القول بغير علم ، و إصابة المقاتل كناية

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 18 220 .

( 2 ) « ما » مفعول علّم . منه ( ره )

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 85 .

[ 216 ]

عن الهلاك الحاصل بسبب القول بالجهل لما فيه من الضلال و الإضلال و ربّما يكون بسببه هلاك الدّنيا و الآخرة .

جاءت امرأة إلى بزرجمهر ، فسألته عن مسألة ، فقال : لا أدري ،

فقالت : أيعطيك الملك كلّ سنة كذا و كذا و تقول : لا أدري ، فقال : إنّما يعطيني الملك على ما أدري ، و لو أعطاني على ما لا أدري لما كفاني بيت ماله . 1 و كان يقول : « لا أعلم » نصف العلم . 2 275 من أصلح ما بينه و بين اللّه أصلح اللّه ما بينه و بين النّاس ، و من أصلح أمر آخرته أصلح اللّه له أمر دنياه ، و من كان له من نفسه واعظ كان عليه من اللّه حافظ . 3 مثل الكلمة الأولى قولهم : رضا المخلوقين عنوان رضا الخالق . 4 و السرّ في ذلك أنّ رضا الخالق يكون بالتقوى ، و من تقوى العبد إصلاح قوّتي الشهوة و الغضب اللذين هما مبدءا الفساد بين الناس و لزوم العدل فيهما ، فإذا جانب العبد من الفساد بين الناس رضي الناس عنه .

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 18 236 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 18 236 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 89 .

( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 18 242 .

[ 217 ]

و إلى مفاد الكلمة الثانية أشار بعض من دعا في قوله :

أنا شاكر أنا مادح أنا حامد
أنا خائف أنا جائع أنا عار

هي ستّة و أنا الضّمين بنصفها
فكن الضّمين بنصفها يا باري1

 و مثل الكلمة الثانية قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ . 2 276 مثل الدّنيا كمثل الحيّة ليّن مسّها ، و السّمّ النّاقع في جوفها ،

يهوي إليها الغرّ الجاهل ، و يحذرها ذو اللّبّ العاقل . 3 قد أخذ أبو العتاهية هذا المعنى فقال : 4

إنّما الدهر أرقم ليّن المسّ
و في نابه السّقام العقام

277 من قصّر في العمل ابتلي بالهمّ ، و لا حاجة للّه فيمن ليس للّه في ماله و نفسه نصيب . 5 قوله عليه السلام : « من قصّر في العمل » ، هذا مخصوص بأصحاب اليقين ، و الاعتقاد الصحيح ، فإنّهم الذين إذا قصّروا في العمل ابتلوا بالهمّ ، فأمّا غيرهم من المسرفين على أنفسهم و ذوي النقص في اليقين

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 18 242 .

( 2 ) سورة النحل ( 16 ) 128 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 119 .

( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 18 284 .

( 5 ) نهج البلاغة ، الحكمة 127 .

[ 218 ]

و الاعتقاد ، فإنّه لا همّ يعروهم و إن قصّروا في العمل .

و قال ابن ميثم : المقصّر في العمل للّه يكون غالب أحواله متوفّرا على الدّنيا مفرطا في طلبها و جمعها ، و بقدر التوفّر عليها يكون شدّة الهمّ في جمعها و تحصيلها أوّلا ، ثمّ في ضبطها و الخوف على فواتها ثانيا .

و في المشهور : « خذ من الدّنيا ما شئت و من الهمّ ما ضعفه » . فنفّر عليه السلام عن التقصير في الأعمال البدنيّة و الماليّة بقوله : و لا حاجة للّه . . الى آخره . و كنّى بعدم حاجته فيه عن إعراضه عنه و عدم النظر إليه بعين الرحمة لعدم استعداده لذلك . 1 278 من أعطي أربعا لم يحرم أربعا : من أعطي الدّعاء لم يحرم الاجابة ، و من أعطي التّوبة لم يحرم القبول ، و من أعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة ، و من أعطي الشّكر لم يحرم الزّيادة . 2 قال الرضيّ : و تصديق ذلك في كتاب اللّه سبحانه ، قال في الدعاء :

اُدْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ . 3 و قال في الاستغفار : وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَو يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً . 4

-----------
( 1 ) شرح ابن ميثم 5 310 311 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 135 .

( 3 ) سورة غافر ( 40 ) 60 .

( 4 ) سورة النساء 110 .

[ 219 ]

و قال في الشكر : لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ . 1 و قال في التوبة : إِنَّما التَّوبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كَانَ اللَّهُ عَليماً حَكِيماً . 2 3 الأمور الأربعة الأولى إذا كانت بإخلاص كان كلّ منها سببا في إعداد النفس لقبول صورة الرحمة الإلهيّة من واهبها .

279 ما عال من اقتصد . 4 أي : ما افتقر من أنفق بقدر الحاجة المتعارفة ، و ذلك لأنّ قدر الحاجة من المال قد تكفّل اللّه تعالى بإدراره مدّة البقاء و هو ما لا بدّ للمقتصد منه . قال تعالى : وَ الَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُروا وَ كَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً . 5 280 المرء مخبوء تحت لسانه . 6 أي حاله مستور عند عدم نطقه ، و تحت لسانه كناية عن سكوته ،

-----------
( 1 ) سورة إبراهيم ( 14 ) 7 .

( 2 ) سورة النساء ( 4 ) 17 .

( 3 ) نهج البلاغة ، ص 494 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 140 .

( 5 ) سورة الفرقان ( 25 ) 67 .

( 6 ) نهج البلاغة ، الحكمة 148 .

[ 220 ]

و ذلك لأنّ مقداره بمقدار عقله و مقدار عقله يعرف من مقدار كلامه .

و هذه اللفظة لا نظير لها في الإيجاز و الدلالة على المعنى ، و هي من ألفاظه المعدودة .

و إليه أشار السعديّ في نظمه بالفارسيّة :

تا مرد سخن نگفته باشد
عيب و هنرش نهفته باشد1

 281 ما اختلفت دعوتان إلاّ كانت إحداهما ضلالة . 2 لمّا كانت الدعوة إمّا إلى الحقّ أو إلى غيره ، و كان كلّ ما عدا الحقّ ممّا يدعى إليه فهو ضلال عن الحقّ و عدول عن سبيل اللّه لا جرم لم يختلف دعوتان إلاّ كانت إحداهما حقّا و الاخرى ضلالة .

282 ما كذبت و لا كذّبت ، و لا ضللت و لا ضلّ بي . 3 هذه كلمة قد قالها مرارا ، إحداهنّ في وقعة النهروان . 4 و لا كذّبت بالضمّ أي لم يخبرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن المخدج 5 خبرا كاذبا ، لأنّ أخباره صلّى اللّه عليه و آله كلّها صادقة .

-----------
( 1 ) كليّات سعدي ، ص 79 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 183 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 185 .

( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 18 368 .

( 5 ) المخدج : ناقص اليد ، و هو ذو الثدية كبير الخوارج ، قتل يوم النهروان . ( سفينة البحار 1 129 ) .

[ 221 ]

283 من أبدى صفحته للحقّ هلك . 1 أي : من نابذ اللّه و حاربه هلك ، يقال لمن خالف و كاشف : قد أبدى صفحته . 2 284 ما شككت في الحقّ مذ أريته . 3 أي : منذ أعلمته ، و يجب أن يقدّر ها هنا مفعول محذوف ، أي منذ أريته حقّا ، لأنّ « أرى » يتعدّى إلى ثلاثة مفاعيل .

285 من وضع نفسه مواضع التّهمة فلا يلومنّ من أساء به الظّنّ . 4 لأنّه هو السبب في إساءة الظنّ بنفسه .

قال ابن أبي الحديد : رأى بعض الصحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله واقفا في درب من دروب المدينة و معه امرأة فسلّم عليه ، فردّ عليه ، فلمّا جاوزه ، ناداه فقال : هذه زوجتي فلانة ، قال : يا رسول اللّه ، أوفيك يظنّ فقال : إنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم . 5 286 و 287 من ملك استأثر ، و من استبدّ برأيه هلك ، و من شاور

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 188 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 18 371 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 184 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 159 .

( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 18 380 .

[ 222 ]

الرّجال شاركهم 1 في عقولهم . 2 هذه ثلاث كلمات : تريد بالأولى : أنّ الأغلب في كلّ ملك أن يستبدّ و يستأثر على الرعيّة بالمال و العزّ و الجاه ، و ذلك لتسلّطهم و عدم المنازع لقواهم الأمّارة بالسوء .

و نحو هذا المعنى قولهم : من غلب سلب ، و من عزّ بزّ . 3 و أريد بالثانية : أنّ من انفرد برأيه ، و لم يقبل النصيحة فهو في مظنّة الهلاكة ، و ذلك معلوم .

و بالثالثة : الترغيب في الاستشارة ، و ذلك لأنّه يستنتج منها الرأي الأصلح ليعمل به .

قالوا : المشورة لقاح العقول ، و رائد الصواب . 4 و من ألفاظهم البديعة : ثمرة رأي المشير أحلى من الأري 5 المشور . 6

-----------
( 1 ) في النهج : شاركها في عقولها .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 160 و 161 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 18 381 .

( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 18 383 .

( 5 ) الأري : العسل . و شار العسل : استخرجه . و المشور : المستخرج . ( لسان العرب 7 233 شور ) .

( 6 ) شرح ابن أبي الحديد 18 383 .

[ 223 ]

288 من كتم سرّه كانت الخيرة بيده . 1 أي كان مختارا في إذاعته و كتمانه بخلاف من أذاع سرّه ، فإنّه لا يتمكّن بعد ذلك من كتمانه .

قال الشاعر :

فلا تفش سرّك إلاّ إليك
فإنّ لكلّ نصيح نصيحا2

 289 من قضى حقّ من لا يقضي حقّه فقد عبّده . 3 عبّده بالتشديد أي : اتّخذه عبدا ، و المقصود مدح من يقضي حقّ من لا يقضي حقّه ، أي من فعل ذلك بإنسان فقد استعبد ذلك الإنسان ، لأنّه لم يفعل ذلك معه مكافأة له عن حقّ قضاه إيّاه ، بل فعل ذلك إنعاما مبتدأ ، فقد استعبده بذلك .

290 من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ . 4 لا شكّ أنّ المتصفّح لوجوه الآراء و المفكّر في أيّها أصوب لا بدّ أن يعرف مواقع الخطأ في الأمور و مظانّها و هو ترغيب في الاستشارة و الفكر في استصلاح الأعمال .

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 162 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 18 384 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 164 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 173 .

[ 224 ]

291 من أحدّ سنان الغضب للّه قوي على قتل أشدّاء الباطل . 1 هذا من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و المعنى أنّ من أرهف عزمه على إنكار المنكر ، و قوي غضبه في ذات اللّه ، و لم يخف مخلوقا أعانه اللّه على إزالة المنكر و إن كان قويّا .

292 من لم ينجحه الصّبر أهلكه الجزع . 2 يحتمل أن يريد بالهلاكة هلاكة الدّنيا أو هلاكة الآخرة أو كليهما ،

فإنّ الجزع سبب لكلّ ذلك .

293 متى أشفي غيظي إذا غضبت ؟ أحين أعجز عن الانتقام فيقال لي : لو صبرت أم حين أقدر عليه ، فيقال لي : لو عفوت . 3 هذا الفصل فصيح لطيف المعنى ، أي لا سبيل لي إلى شفاء غيظي عند غضبي ، لأنّي إمّا أن أكون قادرا على الانتقام فيصدّني عن تعجيله قول القائل : لو عفوت لكان أولى و إمّا أن لا أكون قادرا فيصدّني عنه كوني غير قادر عليه .

294 من حاسب نفسه ربح ، و من غفل عنها خسر ، و من خاف أمن ،

و من اعتبر أبصر ، و من أبصر فهم ، و من فهم علم . 4

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 174 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 189 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 194 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 208 .

[ 225 ]

قد جاء في الحديث : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا . 1 قوله عليه السلام : « و من خاف أمن » أي من اتّقى اللّه أمن من عذابه .

« و من اعتبر أبصر » أي من قاس الأمور بعضها ببعض ، و اتّعظ بآيات اللّه و أيّامه أضاءت بصيرته ، و من أضاءت بصيرته فهم ، و من فهم علم .

و الفهم ها هنا معرفة المقدّمات ، و العلم هو معرفة النتيجة . 2 295 من لان عوده كثفت أغصانه . 3 تكاد هذه الكلمة أن تكون إيماء إلى قوله تعالى : وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ . 4 و المعنى أنّ من حسن خلقه ، و لانت كلمته كثر محبّوه و أعوانه و أتباعه . 5 و نحوه قوله : من لانت كلمته ، وجبت محبّته .

قال تعالى : وَ لَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ

-----------
( 1 ) أمالي المفيد 274 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 19 28 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 214 .

( 4 ) سورة الأعراف ( 7 ) 58 .

( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 19 35 .

[ 226 ]

حَوْلِكَ 1 ، و الأصل في الكلمة أنّه إذا كان اليبس غالبا على شجرة كانت أغصانها أخفّ ، و كان عودها أدقّ ، و إذا كانت الرطوبة غالبة كانت أغصانها أكثر ، و عودها أغلظ ، و ذلك لاقتضاء اليبس الذبول ،

و اقتضاء الرطوبة الغلظ و العبالة و الضخامة ، ألا ترى أنّ الإنسان الذي غلب اليبس على مزاجه لا يزال مهلوسا نحيفا ، و الذي غلبت الرطوبة عليه لا يزال ضخما عبلا .

296 من نال استطال . 2 يجوز أن يريد به : من أثرى و نال من الدّنيا حظّا استطال على الناس . و يجوز أن يريد به : من جاد استطال بجوده .

يقال : نالني فلان بكذا ، أي جاد به عليّ ، و رجل نال ، أي جواد . 3 297 من أشرف أفعال 4 الكريم غفلته عمّا يعلم . 5 أي تغافله و إغضاؤه عمّا يعلم من معائب الناس ، و من هفواتهم .

-----------
( 1 ) سورة آل عمران 159 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 216 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 19 37 .

( 4 ) في النهج : أعمال .

( 5 ) نهج البلاغة ، الحكمة 222 .

[ 227 ]

و كان يقال : التغافل من السؤدد . 1 و قال أبو تمّام :

ليس الغبيّ بسيّد في قومه
لكنّ سيّد قومه المتغابي2

 298 من كساه الحياء ثوبه ، لم ير النّاس عيبه . 3 قيل : الحياء انقباض النفس عن القبائح ، و هو من خصائص الإنسان ، و هو خلق مركّب من جبن و عفّة ، و لذلك لا يكون الفاسق مستحيا ، و لا المستحي فاسقا . و قلّما يكون الشجاع مستحيا و المستحيي شجاعا ، و لعزّة وجود ذلك ما يجمع الشعراء بين المدح بالشجاعة و الحياء . 4 299 من أصبح على الدّنيا حزينا فقد أصبح لقضاء اللّه ساخطا ، و من أصبح يشكو مصيبة نزلت به ، فإنّما يشكو ربّه 5 ، و من أتى غنيّا فتواضع له لغناه ذهب ثلثا دينه ، و من قرأ القرآن فمات فدخل النّار فهو ممّن كان يتّخذ آيات اللّه هزوا ، و من لهج قلبه بحبّ الدّنيا التاط منها 6 بثلاث : همّ لا

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 19 44 .

( 2 ) ديوان أبي تمّام 28 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 223 .

( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 19 45 .

( 5 ) في النهج : فقد أصبح يشكو ربّه .

( 6 ) في النهج : التاط قلبه منها .

[ 228 ]

يغبّه ، و حرص لا يتركه ، و أمل لا يدركه . 1 قيل في قوله عليه السلام : « و من أتى غنيّا . . » إلى آخره وجوها ، منها : أنّ مدار الدين على الاعتقاد بالقلب و الإقرار باللّسان و العمل بالأركان ،

و من شأن المتواضع للغنيّ لغناه اشتغال لسانه بمدحه و شكره ، و اشتغال جوارحه بخدمته عن طاعة اللّه و القيام بشكره ، فهو مهمل لثلثي دينه .

قوله عليه السلام : « التاط بقلبه » أي لصق . و « لا يغبّه » ، أي لا يأخذه غبّا و هو يوم و يوم لا بل يلازمه دائما ، و ذلك لأنّ حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة ، و حبّ الدّنيا هو الموجب للهمّ و الغمّ و الحرص و الأمل و الخوف على ما اكتسبه أن ينفذ ، و الشحّ بما حوت يده ، و غير ذلك من الأخلاق الذميمة .

300 من يعط باليد القصيرة يعط باليد الطّويلة . 2 قال الرضيّ رضي اللّه عنه : و معنى ذلك أنّ ما ينفقه المرء من ماله في سبيل الخير و البرّ و إن كان يسيرا فإنّ اللّه تعالى يجعل الجزاء عليه عظيما كثيرا ، و اليدان ها هنا عبارة عن النعمتين ، ففرق بين نعمة العبد و نعمة الربّ تعالى ذكره ، بالقصيرة و الطويلة ، فجعل تلك قصيرة و هذه طويلة ، لأنّ نعم اللّه أبدا تضعّف على نعم المخلوقين أضعافا كثيرة ، إذ

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 228 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 232 .

[ 229 ]

كانت نعم اللّه أصل النعم كلّها ، فكلّ نعمة إليها ترجع ، و منها تنزع . 1 301 المرأة شرّ كلّها ، و شرّ ما فيها أنّه لا بدّ منها . 2 أي أنّ أحوالها كلّها شرّ على الرجل ، أمّا من جهة مؤونتها فظاهر ،

و أمّا من جهة لذّتها و استمتاعه بها فلاستلزام ذلك ، البعد عن اللّه و الاشتغال عن طاعته .

و أسباب الشرّ شرور و إن كانت غرضيّة . و لمّا كان كونها لا بدّ منها ، أعني وجوب الحاجة إليها في طبيعة الوجود الدنيويّ هو السبب في تحمّل الرجل للمرأة ، و وقوعه في شرورها وجب أن يكون ذلك الاعتبار أقوى الشرور المتعلّقة بها ، لأنّ السبب أقوى من المسبّب . 3 302 من أطاع التّواني ضيّع الحقوق ، و من أطاع الواشي ضيّع الصّديق . 4 الواشي : النّمام .

303 من ظنّ بك خيرا فصدّق ظنّه . 5 من كلام بعضهم : إنّي لأستحيي أن يأتيني الرجل يحمرّ وجهه

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، ص 509 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 238 .

( 3 ) شرح ابن ميثم 5 361 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 239 .

( 5 ) نهج البلاغة ، الحكمة 248 . و هذا كلامه لولده الحسن عليهما السلام .

[ 230 ]

تارة من الخجل ، و يصفرّ أخرى من خوف الردّ قد ظنّ بي الخير و بات عليه و غدا عليّ أن أردّه خائبا . 1 304 مرارة الدّنيا حلاوة الآخرة ، و حلاوة الدّنيا مرارة الآخرة . 2 لمّا كانت الدنيا ضدّ الآخرة وجب أن يكون مرارة آلام الدّنيا اللازمة عن ترك اللذّة طلبا للآخرة مستلزمة لحلاوة الآخرة و لذّاتها ،

و كذلك العكس .

305 من تذكّر بعد السّفر استعدّ . 3 306 ما قال النّاس لشي‏ء « طوبى له » إلاّ و قد خبأ له الدّهر يوم سوء . 4 أي : ما استحسن الناس من الدنيا شيئا إلاّ و في قوّة الدهر إعداد لفساده و إهلاكه يوما ما . و قد شاهدنا ذلك في الدّنيا كثيرا .

307 ما أكثر العبر و أقلّ الاعتبار . 5 ما أوجز هذه الكلمة و ما أعظم فائدتها و لا ريب أنّ العبر كثيرة

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 19 82 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 251 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 280 . و هذا مثل قولهم في المثل : الليل طويل و أنت مقمر ( جمهرة الأمثال 2 189 ) .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 286 .

( 5 ) نهج البلاغة ، الحكمة 297 .

[ 231 ]

جدّا ، بل كلّ شي‏ء في الوجود ففيه عبرة ، و لا ريب أنّ المعتبرين بها قليلون ، و أنّ الناس قد غلب عليهم الجهل و الهوى ، و أرداهم حبّ الدنيا ، و أسكرهم خمرها ، و أنّ اليقين في الأصل ضعيف عندهم ، و لو لا ضعفه لكانت أحوالهم غير هذه الأحوال .

308 من بالغ في الخصومة أثم ، و من قصّر فيها ظلم ، و لا يستطيع أن يتّقي اللّه من خاصم . 1 هذا مثل قوله عليه السلام في موضع آخر : الغالب بالشرّ مغلوب . 2 و كان يقال : ما تسابّ اثنان إلاّ غلب ألأمهما . 3 و قد نهى العلماء عن الجدل و الخصومة في الكلام و الفقه ، و قالوا :

إنّهما مظنّة المباهاة و طلب الرئاسة و الغلبة ، و المجادل يكره أن يقهره خصمه ، فلا يستطيع أن يتّقي اللّه . و هذا هو كلام أمير المؤمنين عليه السلام بعينه4 .  309 ما أهمّني أمر [ ذنب خ . ل ] أمهلت بعده حتّى أصلّي ركعتين و أسأل اللّه العافية . 5

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 298 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 327 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 19 204 .

( 4 ) المصدر السابق .

( 5 ) نهج البلاغة ، الحكمة 299 .

[ 232 ]

أي : ما أحزنني ذنب أمهلني اللّه بعده حتّى أصلّي ركعتين ، لأنّ الصلاة تكفّر الذنب .

قال السيّد الطباطبائي ( ره ) في « الدرّة » : 1

و إنّها للحسنات المذهبه
للسيّئات و المعاصي الموجبه

و شأنها كشأن نهر جار
تقلع رين الذنب بالتكرار

تنهى عن المنكر و الفحشاء
اقصر فذاك منتهى الثناء2

 310 ما المبتلى الّذي قد اشتدّ به البلاء ، بأحوج إلى الدّعاء من المعافى الّذي 3 لا يأمن البلاء . 4 أي إنّهما سواء في الحاجة إلى دعاء اللّه ، فذاك لحاجته إلى الخلاص من بلائه ، و هذا لبقاء عافيته و أمنه من لحوق البلاء . و هو حثّ لأهل العافية على الدعاء و التضرّع إلى اللّه تعالى .

311 ما زنى غيور قطّ . 5 و ذلك لأنّ الغيور إذا همّ بالزنا تخيّل مثل ذلك في نفسه من الغير ،

-----------
( 1 ) « الدرّة المنظومة » في الفقه للسيّد بحر العلوم الشهير بالعلاّمة الطباطبائي ( ره ) لها شروح ذكرها العلاّمة الطهرانيّ ( ره ) في الذريعة 8 109 111 .

( 2 ) الدرّة المنظومة ، باب الصلاة .

( 3 ) في النهج : بأحوج إلى الدعاء الذي .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 302 .

( 5 ) نهج البلاغة ، الحكمة 305 .

[ 233 ]

فيعارض خياله داعيه فيحجم عنه .

فقد ورد : من زنى زني به و لو في عقب عقبه . 1 و هذا قد جرّب فوجد حقّا ، و قلّ من ترى مقداما على الزنا إلاّ و القول في حرمه و أهله و ذوي محارمه كثير فاش .

312 مودّة الآباء قرابة بين الأبناء ، و القرابة أحوج إلى المودّة 2 من المودّة إلى القرابة . 3 استعار لفظ القرابة للمودّة المتأكّدة بين الأبناء فهي كالقرابة .

قال الشاعر :

أ بقى الضّغائن آباء لنا سلفوا
فلن تبيد و للآباء أبناء

4 و ورد : الحبّ و البغض يتوارثان . 5 و من كلام بعضهم ، لمّا قيل له : أيّما أحبّ إليك ؟ أخوك أم صديقك ؟

[ فقال : ] إنّما أحبّ أخي إذا كان صديقا . 6 فالقربى محتاجة إلى المودّة ، و المودّة مستغنية عن القربى .

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 19 211 .

( 2 ) في النهج : إلى المودّة أحوج .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 308 .

( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 19 214 .

( 5 ) نفس المصدر .

( 6 ) شرح ابن أبي الحديد 19 214 .

[ 234 ]

313 ما ظفر من ظفر الإثم به ، و الغالب بالشّرّ مغلوب . 1 هذا مثل قوله عليه السلام : من بالغ في الخصومة أثم . إلى آخره . 2 314 المسؤول حرّ حتّى يعد . 3 قد كثر القول في الوعد و المطل . و من كلام يحيى بن خالد لبنيه : يا بنيّ ، كونوا أسدا في الأقوال ، نجّازا في الأفعال ، و لا تعدوا إلاّ و تنجزوا ،

فإنّ الحرّ يثق بوعد الكريم ، و ربما ادّان عليه . 4 315 معاشر النّاس ، اتّقوا اللّه ، فكم من مؤمّل مالا يبلغه ، و بان مالا يسكنه ، و جامع ما سوف يتركه ، و لعلّه من باطل جمعه ، و من حقّ منعه ،

أصابه حراما ، و احتمل به آثاما ، فباء بوزره ، و قدم على ربّه ، آسفا لاهفا ، قد خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ ، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ . 5 6 معاني هذه الفقرات واضحة ، و كم قد شاهدنا من أمل ما لا يبلغه ،

و من بنى ما لا يسكنه ، و جمع ما تركه .

و لقد أحسن من قال :

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 327 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 298 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 336 .

( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 19 248 .

( 5 ) سورة الحجّ ( 22 ) 11 .

( 6 ) نهج البلاغة ، الحكمة 344 .

[ 235 ]

وا حسرتا مات حظّي من وصالكم
و للحظوظ كما للناس آجال

إن متّ شوقا و لم أبلغ مدى أملي
كم تحت هذي القبور الخرس آمال

1 316 من العصمة تعذّر المعاصي . 2 أي من أسباب العصمة ، و ذلك لأنّ الإنسان يتعوّد بتركها حين لا يجدها حتّى يصير ذلك ملكة له .

317 ماء وجهك جامدا يقطره السّؤال ، فانظر عند من تقطره . 3 قد أخذ الشعراء معنى هذا الكلام ، و ذكروها في أشعارهم . قال الشاعر :

ما ماء كفّيك إن أرسلت مزنته
من ماء وجهي إذا استقطرته عوض .

4 318 من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره ، و من رضي برزق اللّه لم يحزن على ما فاته ، و من سلّ سيف البغي قتل به ، و من كابد الامور عطب ، و من اقتحم اللّجج غرق ، و من دخل مداخل السّوء اتّهم ،

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 19 259 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 345 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 346 .

( 4 ) البيت لأبي تمّام في ديوانه 392 .

[ 236 ]

و من كثر كلامه كثر خطؤه ، و من كثر خطؤه قلّ حياؤه ، و من قلّ حياؤه قلّ ورعه ، و من قلّ ورعه مات قلبه ، و من مات قلبه دخل النّار ، و من نظر في عيوب غيره 1 ، فأنكرها ، ثمّ رضيها لنفسه ، فذلك الأحمق بعينه . و القناعة مال لا ينفد ، و من أكثر من ذكر الموت رضي من الدّنيا باليسير ، و من علم أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه . 2 تلك عشرة كاملة ، رابعها : « من كابد الأمور عطب ، و من اقتحم اللجج غرق » ، أي من قاساها بنفسه استعدّ بها للهلاك . مثل هذا قول القائل :

من حارب الأيّام أصبح رمحه
قصدا و أصبح سيفه مفلولا

3 و سادسها : « من كثر كلامه . . . الى قوله : دخل النار » ، هذا تنفير عن المنطق الزائد ، و ما فيه من المحذور .

و كان يقال : قلّما سلم مكثار ، أو أمن من عثار . 4 و عاشرها : من علم أنّ كلامه . . . إلى آخره ، لا ريب أنّ الكلام عمل من الأعمال ، و فعل من الأفعال ، فكما يستهجن من الإنسان أن لا يزال يحرّك رأسه أو يده و إن كان عابثا ، كذلك يستهجن أن لا يزال

-----------
( 1 ) في النهج : في عيوب الناس .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 349 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 19 265 .

( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 19 265 .

[ 237 ]

يحرّك لسانه فيما هو عبث ، أو يجري مجرى العبث .

319 من ضنّ بعرضه فليدع المراء . 1 ضنّ ، أي بخل ، و حدّ المراء الجدال المتّصل لا يقصد به الحقّ ، و لا ريب أنّ المراء داعية ثوران القوّة الغضبيّة ، من الممارين و مبدء المشاتمة و المسابّة .

قيل لميمون بن مهران : مالك لا تفارق أخا لك عن قلى ؟ قال :

لأنّي لا أشاريه 2 و لا أماريه . 3 320 من الخرق المعاجلة قبل الإمكان ، و الأناة بعد الفرصة . 4 الخرق : الحمق و قلّة العقل ، و كلتا الجملتين دليل على الحمق و النقص .

321 من هوان الدّنيا على اللّه أنّه لا يعصى إلاّ فيها ، و لا ينال ما عنده إلاّ بتركها . 5 قد ورد في ذمّ الدّنيا أكثر من أن يحصى . و ورد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مرّ على شاة ميّتة ، فقال : أترون أنّ هذه الشاة هيّنة على أهلها ؟ قالوا :

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 362 .

( 2 ) أي لا أجادله . منه ( ره ) .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 19 280 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 363 .

( 5 ) نهج البلاغة ، الحكمة 385 .

[ 238 ]

نعم ، و من هوانها ألقوها . فقال : و الذي نفسي بيده للدّنيا أهون على اللّه من هذه الشاة على أهلها ، و لو كانت الدّنيا تعدل عند اللّه جناح بعوضة لما سقى كافرا منها شربة ماء . 1 322 من طلب شيئا ناله أو بعضه . 2 هذا مثل قولهم : من طلب شيئا وجدّ وجد ، و من قرع بابا و لجّ ولج . 3 و ظاهر أنّ الطلب معدّ لحصول المطلوب ، فإنّ تمّ الاستعداد له نال الكلّ و إلاّ فبقدر نقصان الاستعداد يكون نقصان المطلوب .

323 ما خير بخير بعده النّار ، و ما شرّ بشرّ بعده الجنّة ، و كلّ نعيم دون الجنّة فهو محقور ، و كلّ بلاء دون النّار عافية . 4 « خير » برفع ، اسم « ما » و « بعده النار » صفة له ، و موضعه رفع ،

و موضع الجارّ و المجرور نصب لأنّه خبر ما ، و الباء زائدة ، و التقدير : ما خير تتعقّبه النار بخير ، و كذلك قوله عليه السلام : « ما شرّ بشرّ بعده الجنّة » .

و الجملتان الأقربان تكونان كالتفسير للفقرتين الأوليين .

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 19 330 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 386 .

( 3 ) شرح ابن ميثم 5 435 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 387 .

[ 239 ]

324 المنيّة و لا الدّنيّة ، و التّقلّل و لا التّوسّل . 1 أي المنيّة أسهل من الدنيّة ، أي الخسيسة من الأمر ترتكب في طلب الدنيا . و هذا كما قال الحسين عليه السلام :

الموت أولى من ركوب العار
و العار أولى من دخول النّار

2 و معنى الفقرة الثانية أنّ القناعة بالقليل من العيش و التبلّغ به خير من التوسل إلى أهل الدنيا في طلبها . قال الشاعر :

أقسم باللّه لمصّ النّوى
و شرب ماء القلب المالحه
3
أحسن بالإنسان من ذلّه
و من سؤال الأوجه الكالحه

فاستغن باللّه تكن ذا غنى
مغتبطا بالصفقة الرابحه

فالزهد عزّ و التّقى سؤدد
و ذلّة النفس لها فاضحه

كم سالم صيح به بغتة
و قائل عهدي به البارحه

أمسى و أمست عنده قينة
و أصبحت تندبه نائحه

طوبى لمن كانت موازينه
يوم يلاقي ربّه راجحه4

 325 من لم يعط قاعدا لم يعط قائما . 5

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 396 .

( 2 ) أورده الجاحظ في البيان و التبيين 3 255 .

( 3 ) القلب بضمّتين : جمع قليب ، و هي البئر . ( لسان العرب قلب )

( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 19 362 .

( 5 ) نهج البلاغة ، الحكمة 396 .

[ 240 ]

أي إنّ الرزق قد قسمه اللّه تعالى ، فمن لم يرزقه قاعدا لم يجب عليه القيام و الحركة .

قال ولده الشهيد المظلوم عليه السلام :

و إن تكن الأرزاق قسما مقدّرا
فقلّة حرص المرء في الرزق أجمل

1 و قال الشاعر :

جرى قلم القضاء بما يكون
فسيّان التحرّك و السكون

جنون منك أن تسعى لرزق
و يرزق في غشاوته الجنين2

 326 مقاربة النّاس في أخلاقهم أمن من غوائلهم . 3 الغائلة : الحقد ، و ذلك لأنّ مباعدة الناس في أخلاقهم تستلزم منافرتهم و عداوتهم و أحقادهم فالعدول عنها إلى المقاربة و المشاكلة يستلزم الأمن من ذلك منهم .

و كان يقال : إذا نزلت على قوم فتشبّه بأخلاقهم ، فإنّ الإنسان من حيث يوجد ، لا من حيث يولد . 4

-----------
( 1 ) مقتل الحسين ( اللهوف على قتلى الطفوف ) ، لابن طاووس 31 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 19 363 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 401 .

( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 20 3 .

[ 241 ]

327 من أومأ إلى متفاوت خذلته الحيل . 1 المتفاوت : كالأمور المتضادّة أو التي يتعذّر الجمع منها .

328 ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلبا لما عند اللّه ،

و أحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتّكالا على اللّه سبحانه . 2 تيه الفقراء على الأغنياء أصعب عليهم و أشقّ من تواضع الأغنياء لهم . إذ كان تيههم يستدعي كمال التوكّل على اللّه ، و هو درجة عالية في الطريق إليه ، فلذلك كان أفضل و أحسن لقوله صلّى اللّه عليه و آله : أفضل الأعمال أحمزها 3 قال الشاعر :

قنعت فأعتقت نفسي و لن
أملّك ذا ثروة رقّها

و نزّهتها عن سؤال الرجال
و منّة من لا يرى حقّها

و إنّ القناعة كنز اللبيب
إذا ارتتقت فتقت رتقها

فما فارقت مهجة جسمها
لعمرك أو وفّيت رزقها4

 

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 403 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 406 . و ليست « سبحانه » في النهج .

( 3 ) شرح ابن ميثم 5 441 .

( 4 ) شرح ابن ابي الحديد 20 39 .

[ 242 ]

329 ما استودع اللّه امرأ عقلا إلاّ ليستنقذه 1 به يوما ما . 2 العقل إمّا أن ينقذ الإنقاذ الدينيّ ، و هو الفلاح و النجاح على الحقيقة ، أو ينقذ من بعض مهالك الدّنيا و آفاتها .

كان يقال : العاقل يروّي ثمّ يروي و يخبر ثمّ يخبر . 3 330 من صارع الحقّ صرعه . 4 هذا مثل قوله عليه السلام : من أبدى صفحته للحقّ هلك . 5 331 من صبر صبر الأحرار و إلاّ سلا سلوّ الأغمار . 6 و في خبر آخر أنّه عليه السلام قال للأشعث بن قيس معزيا عن ابن له :

332 إن صبرت صبر الأكارم ، و إلاّ سلوت سلوّ البهائم . 7 الأغمار : الجهّال ، جمع غمر . و ذكر أبو تمّام هذا الخبر في قوله :

و قال عليّ في التّعازي لأشعث
و خاف عليه بعض تلك المآثم

أ تصبر للبلوى عزاء و حسبة
فتؤجر أم تسلو سلوّ البهائم8

 

-----------
( 1 ) في النهج : استنقذه .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 407 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 20 41 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 408 .

( 5 ) نهج البلاغة ، الحكمة 188 .

( 6 ) نهج البلاغة ، الحكمة 413 .

( 7 ) نهج البلاغة ، الحكمة 414 .

( 8 ) ديوان أبي تمّام 300 .

[ 243 ]

333 مسكين ابن آدم مكتوم الأجل ، مكنون العلل ، محفوظ العمل ، تؤلمه البقّة ، و تقتله الشّرقة ، و تنتنه العرقة . 1 « مسكين » خبر ل « ابن آدم » ، و التقدير : ابن آدم مسكين ، ثمّ بيّن مسكنته من ستّة أوجه : أجله مكتوم لا يدري متى يخترم ، و علله باطنة لا يدري بها حتّى تهيج عليه ، و عمله محفوظ : مَا لِهَذا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَ لاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا 2 ، و قرص البقّة يؤلمه ،

و الشرقة بالماء تقتله ، و إذا عرق أنتنته العرقة الواحدة و غيّرت ريحه ،

فمن كان على هذه الصفات فهو مسكين لا محالة ، لا ينبغي أن يأمن و لا أن يفخر .

334 من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيته ، و من عمل لدينه كفاه اللّه أمر دنياه ، و من أحسن فيما بينه و بين اللّه أحسن اللّه ما بينه و بين النّاس . 3 لا ريب أنّ الأعمال الظاهرة تبع للأعمال الباطنة ، فمن صلح باطنه صلح ظاهره و بالعكس ، و ذلك لأنّ القلب أمير مسلّط على الجوارح ، و الرعيّة تتبع أميرها و لا ريب أنّ من عمل لدينه كفاه اللّه أمر دنياه ، قال تعالى : وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجَاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 419 .

( 2 ) سورة الكهف ( 18 ) 49 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 423 .

[ 244 ]

حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ 1 و لهذا أيضا علّة ظاهرة ، و هي أنّ الناس إذا حسنت عقيدتهم في إنسان و علموا متانة دينه بوّبوا له إلى الدنيا أبوابا لا يحتاج أن يتكلّفها ، و لا يتعب فيها ، فيأتيه رزقه من غير كلفة و لا كدّ .

و قوله : « و من أحسن . . . » إلى آخره ، و ذلك لأنّ القلوب بالضرورة تميل إليه و تحبّه ، و ذلك لأنّه إذا كان محسنا بينه و بين الناس عفّ عن أموالهم و دمائهم و أعراضهم ، و ترك الدخول فيما لا يعينه ،

و لا شبهة أنّ من كان بهذه الصفة فإنّه يحسن ما بينه و بين الناس .

335 من شكا الحاجة إلى مؤمن فكأنّما شكاها إلى اللّه ، و من شكاها إلى كافر فكأنّما شكا اللّه . 2 شكاية المؤمن إلى المؤمن شكاية في موضعها . إذ كانت ثمرة الشكاية المعاونة على دفع الأمر المشكوّ منه ، و المؤمن من شأنه ذلك ،

بخلاف الكافر . و رغّب في الأوّل بتشبيهها بالشكاية إلى اللّه ، و وجه الشبه أن المؤمن حبيب اللّه و مقرّب عند اللّه فكأنّ المشتكي إليه جعله وسيلة إلى اللّه في شكواه فأشبه الشكوى إليه ، بخلاف الشكاية إلى الكافر فإنّه عدوّ اللّه ، فمن شكا إليه أمرا فكأنّما شكا من اللّه إلى عدوّه .

-----------
( 1 ) سورة الطلاق ( 65 ) 2 3 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 427 .

[ 245 ]

336 ما كان اللّه ليفتح على عبد باب الشّكر و يغلق عنه باب الزّيادة ،

و لا ليفتح على عبد باب الدّعاء و يغلق عنه باب الإجابة ، و لا ليفتح عليه 1 باب التّوبة و يغلق عنه باب المغفرة . 2 فتح اللّه هذه الأبواب بقوله : لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ 3 و ادْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ . 4 337 ما أنقض النّوم لعزائم اليوم . 5 قال ابن ميثم : « ما » ها هنا للتعجّب . و هذه الكلمة تجري مجرى المثل ، يضرب لمن يعزم على أمر فيغفل عنه أو يتهاون فيه و يتراخى عن فعله حتّى ينتقض عزمه عنه . و أصله أنّ الإنسان قد ينوي السفر مثلا أو الحركة بقطعة من الليل ليتوفّر في نهاره على سيره فيغلبه النوم إلى الصباح ، فيفوت وقت عزمه ، فينتقض ما كان عزم عليه في يومه . 6

-----------
( 1 ) في النهج : و لا ليفتح لعبد .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 435 .

( 3 ) سورة إبراهيم ( 14 ) 7 .

( 4 ) سورة غافر ( 40 ) 60 . لم يذكر المؤلّف ( ره ) الباب الثالث و هو باب التوبة و المغفرة في قوله تعالى : وَ إنّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدى سورة طه ( 20 ) 82 .

( 5 ) نهج البلاغة ، الحكمة 440 .

( 6 ) شرح ابن ميثم 5 454 .

[ 246 ]

338 من اتّجر بغير فقه فقد ارتطم في الرّبا . 1 ارتطم فلان في الوحل و الأمر إذا ارتبك فيه و لم يقدر على الخروج منه ، و إنّما قال ذلك لأنّ مسائل الربا مشتبهة بمسائل البيع ، و لا يفرق بينهما إلاّ الفقيه الكامل .

339 من عظّم صغار المصائب ابتلاه اللّه بكبارها . 2 و إنّما لزمه ذلك لاستعداده بتضجّره و تسخّطه من قضاء اللّه لزيادة البلاء و لو قد حمد اللّه على بلائه لاستعدّ بذلك لدفعه .

340 من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهوته . 3 قال الشاعر :

فإنّك إن أعطيت بطنك سؤله
و فرجك نالا منتهى الذمّ أجمعا

4 341 ما مزح امرؤ مزحة إلاّ مجّ من عقله مجّة . 5 استعار لفظ المجّ بما يطرحه الإنسان من عقله في مزحه أو مزحاته ، فكأنّه قد مجّه كما يمجّ الماء من فيه .

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 447 .

( 2 ) نهج البلاغة ، الحكمة 448 .

( 3 ) نهج البلاغة ، الحكمة 449 . و فيه : شهواته .

( 4 ) البيت لحاتم الطائيّ ، انظر ديوانه 17 و فيه : و إنّك مهما تعط . . .

( 5 ) نهج البلاغة ، الحكمة 450 .

[ 247 ]

و كان يقال : خير المزاح لا ينال ، و شرّه لا يستقال . 1 و قيل : لكلّ شي‏ء بذر و بذر العداوة المزاح . 2 و قيل : سمّي المزاح مزاحا لأنّه أزيح عن الحقّ . 3 342 ما زال الزّبير رجلا منّا أهل البيت حتّى نشأ ابنه المشؤوم عبد اللّه . 4 عبد اللّه بن الزبير : 5 أمّه أسماء ذات النطاقين بنت أبي بكر . قيل :

هو أوّل مولود ولد في الإسلام من المهاجرين بعد الهجرة ، ففرحوا به فرحا شديدا ، و ذلك لأنّه قيل لهم : إنّ اليهود سحرتكم فلا يولد لكم .

و شهد مع أبيه و خالته الجمل ، و كان شديد البأس ، و مبارزته مع الأشتر ، و قوله : « اقتلوني و مالكا و اقتلوا مالكا معي » معروف . و كان أطلس لا لحية له و لا شعر في وجهه كقيس بن سعد الأنصاري ،

و أحنف بن قيس ، و شريح القاضي ، و يقال لهم : السادات الطلس .

و كان بخيلا ، ضيّق العطن ، سيّئ الخلق ، حسودا كثير الخلاف ،

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 20 100 .

( 2 ) غرر الحكم 5 24 ، ح 7316 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 20 100 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 453 .

( 5 ) انظر تفصيل ما قاله المؤلّف ( ره ) في مروج الذهب ج 3 و الاستيعاب ج 2 و شرح ابن أبي الحديد 20 102 149 .

[ 248 ]

و أخرج محمد بن الحنفيّة من مكّة و المدينة ، و نفى عبد اللّه بن عبّاس إلى الطائف ، و الكلمات التي ردّت بينهما معروفة .

و كان عدوّا لأمير المؤمنين عليه السلام و كانت عائشة تحبّه شديدا حتّى قيل : لم يكن أحد أحبّ اليها بعد أبي بكر من عبد اللّه بن الزبير .

و كان لسنا ، و هو الذي قال في جواب فضالة بن شريك الوالبيّ حيث قال له : لعن اللّه ناقة حملتني إليك ، قال : إنّ 1 و راكبها . 2 و من اطّلع على هذه القضيّة يطّلع على شدّة بخله أيضا .

و قد ذكر المسعوديّ و غيره أنّ عبد اللّه بن الزبير جمع بني هاشم كلّهم و منهم محمّد بن الحنفيّة في سجن عارم ، و أراد أن يحرقهم بالنار ،

فجعل في فم الشعب حطبا كثيرا إذ ورد أبو عبد اللّه الجدلي من جانب المختار في أربعة آلاف و قصد الشعب بإخراج الهاشميّين منه و هرب ابن الزبير فلاذ بأستار الكعبة . 3 قال ابن أبي الحديد : قال المسعوديّ : و كان عروة بن الزبير يعذر أخاه عبد اللّه في حصر بني هاشم في الشعب ، و جمعه الحطب ليحرقهم و يقول : إنّما أراد بذلك أن لا تنتشر الكلمة ، و لا يختلف المسلمون ، و أن

-----------
( 1 ) « إنّ » ها هنا بمعنى نعم ، كأنّه إقرار بما قال .

( 2 ) نقله أبو الفرج في الأغاني 1 15 .

( 3 ) مروج الذهب 3 85 .

[ 249 ]

يدخلوا في الطاعة ، فتكون الكلمة واحدة ، كما فعل عمر بن الخطّاب ببني هاشم لمّا تأخّروا عن بيعة أبي بكر ، فإنّه أحضر الحطب ليحرق عليهم الدّار . 1 و روى أيضا عن المسعوديّ عن سعيد بن جبير ، أنّ ابن عبّاس دخل على ابن الزبير ، فقال له ابن الزبير : إلام تؤنّبني و تعنّفني قال ابن عبّاس : إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول : « بئس المرء المسلم يشبع و يجوع جاره » و أنت ذلك الرجل ، فقال ابن الزبير : و اللّه إنّي لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة . و تشاجرا ، فخرج ابن عبّاس من مكّة ، فأقام بالطائف حتّى مات . 2 و بالجملة قتله الحجّاج الثقفيّ في أيّام عبد الملك بمكّة و صلب جسده ، و به أخبر أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في قوله : « خبّ ضبّ ، يروم أمرا و لا يدركه ، ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا ،

و هو بعد مصلوب قريش » . 3 343 ما لابن آدم و الفخر أوّله نطفة ، و آخره جيفة . لا يرزق 4 نفسه ،

-----------
( 1 ) مروج الذهب 3 86 ، شرح ابن أبي الحديد 20 147 .

( 2 ) مروج الذهب 3 89 ، شرح ابن أبي الحديد 20 148 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 7 48 .

( 4 ) في النهج : و لا يرزق .

[ 250 ]

و لا يدفع حتفه . 1 و قد أخذ الشاعر هذا الكلام في قوله :

ما بال من أوّله نطفة
و جيفة آخره يفخر

يصبح ما يملك تقديم ما
يرجو و لا تأخير ما يحذر2

 قال بعض الحكماء : الفخر هو المباهاة بالأشياء الخارجة عن الإنسان ، و ذلك نهاية الحمق لمن نظر بعين عقله ، و انحسر عنه قناع جهله ، فأعراض الدّنيا عارية مستردّة ، لا يؤمن في كلّ ساعة أن ترتجع ، و المباهي بها مباه بما في غير ذاته . 3 344 منهومان لا يشبعان : طالب علم و طالب دنيا . 4 نهم فلان بكذا فهو منهوم ، أي مولع به ، و اقتبس عليه السلام هذه الكلمة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : « منهومان لا يشبعان : منهوم بالمال ، و منهوم بالعلم » 5.  345 ما المجاهد الشّهيد في سبيل اللّه بأعظم أجرا ممّن قدر فعفّ ،

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 454 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 20 150 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 20 150 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 457 .

( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 20 174 .

[ 251 ]

لكاد العفيف أن يكون ملكا من الملائكة . 1 في حكمة سليمان بن داود : إنّ الغالب لهواه أشدّ من الّذي يفتح المدينة وحده . 2 و قال سليمان بن داود : يا بني إسرائيل ، أوصيكم بأمرين أفلح من فعلهما : لا تدخلوا أجوافكم إلاّ الطيّب ، و لا تخرجوا من أفواهكم إلاّ الطيّب . 3 346 ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلّموا حتّى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا . 4 لمّا كان التعلّم على الجاهل فريضة ، و لا يمكن إلاّ بمعلّم عالم ، كان وجوب التعلّم على الجاهل مستلزما لوجوب التعليم على العالم . روي :

من علم علما و كتمه ألجمه اللّه يوم القيامة بلجام من نار . 5

-----------
( 1 ) نهج البلاغة ، الحكمة 474 .

( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 20 233 .

( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 20 241 .

( 4 ) نهج البلاغة ، الحكمة 478 .

( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 20 247 .

[ 253 ]