الحمد للّه الّذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته ، و ردعت عظمته العقول فلم تجد مساغا
[ 1 ] الخفاش : حيوان ثديي ، قادر على الطيران ، و لا يطير إلاّ في الليل .
[ 75 ]
إلى بلوغ غاية ملكوته [ 1 ] ، هو اللّه الملك الحقّ المبين [ 2 ] ، أحقّ و أبين ممّا تراه العيون ، لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبّها ، و لم تقع عليه الأوهام [ 3 ] بتقدير فيكون ممثّلا ، خلق الخلق على غير تمثيل ، و لا مشورة مشير ، و لا معونة معين ،
فتمّ خلقه بأمره ، و أذعن لطاعته فأجاب و لم
[ 1 ] انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته . . . : انقطعت . و المعنى :
عجز الواصفون عن صفته . و ردعت عظمته : منعت .
و المساغ : المسلك . و ملكوته : ملكه و سلطانه . و المراد : ان عظمته حجزت العقول عن الاهتداء و الوصول الى منتهى عزّه و سلطانه .
[ 2 ] المبين : البيّن الواضح .
[ 3 ] لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبها . . . : لا تستطيع العقول أن تحدّه : أي تجعل لذاته حدودا و نهايات لأن ذلك من لوازم الأجسام ، و هو منزّه عن ذلك كله . و لم تقع عليه الأوهام : و حتى الأوهام و التخيّلات عاجزة عن إدراكه .
[ 76 ]
يدفع [ 1 ] و انقاد و لم ينازع .
و من لطائف صنعته ، و عجائب حكمته ، ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش الّتي يقبضها الضّياء الباسط لكلّ شيء ، و يبسطها الظّلام [ 2 ] القابض لكلّ حيّ ، و كيف عشيت أعينها [ 3 ] عن أن تستمدّ من الشّمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها [ 4 ] ، و تصل بعلانية برهان الشّمس إلى معارفها ، و ردعها [ 5 ] تلألؤ ضيائها
[ 1 ] لم يدفع : لم يمتنع .
[ 2 ] يقبضها الضياء الباسط . . . : يجعلها تختفي و تلازم أوكارها .
و يبسطها الظلام : يجعلها تخرج و تنتشر .
[ 3 ] عشيت أعينها : العشاء : سوء البصر بالنهار ، أو العمى .
[ 4 ] مذاهبها : مسالكها ( طرقها ) .
[ 5 ] ردعها : منعها .
[ 77 ]
عن المضيّ في سبحات إشراقها [ 1 ] و أكنّها [ 2 ] في مكامنها عن الذّهاب في بلج ائتلاقها [ 3 ] فهي مسدلة الجفون بالنّهار على أحداقها ، و جاعلة اللّيل سراجا تستدلّ به في التماس أرزاقها ، فلا يردّ أبصارها إسداف ظلمته ، و لا تمتنع من المضيّ فيه لغسق دجنّته [ 4 ] ، فإذا ألقت الشّمس قناعها [ 5 ] ، و بدت أوضاح نهارها ، و دخل من
[ 1 ] سبحات اشراقها : نورها و بهاؤها .
[ 2 ] أكنها : سترها .
[ 3 ] يلج . . . : الصبح : أسفر فأنار . و الإئتلاق : اللمعان .
و المراد : أنها تختفي عند نور الشمس .
[ 4 ] أسدف . . . : الليل : اذا أظلم ، و غسق الليل : أظلم .
و الدجنة : الظلمة . و المراد : ان ظلمة الليل لا تحجبها عن الإنطلاق .
[ 5 ] القناع : ما يستر به الوجه . و المراد : ظهور بياض الصبح .
[ 78 ]
إشراق نورها على الضّباب في وجارها [ 1 ] أطبقت الأجفان على مآقيها ، و تبلّغت [ 2 ] بما اكتسبت من فيء ظلم لياليها . فسبحان من جعل اللّيل لها نهارا و معاشا ، و النّهار سكنا و قرارا ، و جعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطّيران كأنّها شظايا [ 3 ] الآذان غير ذوات ريش و لا قصب [ 4 ] ، إلاّ أنّك ترى مواضع العروق بيّنة
[ 1 ] الضباب : جمع ضب : حيوان من جنس الزواحف ،
غليظ الجسم خشنه ، له ذنب عريض ملتوي ، يكثر في صحاري الأقطار العربية . و الوجار : حجره ( بيته ) و المراد من ذكره هنا لمعاكسته للخفاش ، فانه يخرج عند شروق الشمس .
[ 2 ] مآقيها . . . : جمع ماق : طرف العين مما يلي الأنف .
و تبلغت : اكتفت .
[ 3 ] الشظية : الفلقة من الشيء . و المراد : أن أجنحتها كأنّها مؤلّفة من قطع الآذان .
[ 4 ] القصبة : عمود الريش .
[ 79 ]
أعلاما [ 1 ] لها جناحان لمّا يرقّا فينشقّا ، و لم يغلظا فيثقلا [ 2 ] ، تطير و ولدها لاصق بها ، لاجىء إليها : يقع إذا وقعت ، و يرتفع إذا ارتفعت ، لا يفارقها حتّى تشتدّ أركانه ، و يحمله للنّهوض جناحه ، و يعرف مذاهب عيشه [ 3 ] و مصالح نفسه ،
فسبحان الباري لكلّ شيء على غير مثال خلا [ 4 ] من غيره .
[ 1 ] أعلاما : رسوما واضحة .
[ 2 ] لم يرقا فينشقا ، و لم يغلظا فيثقلا : لم يكونا رقيقين فيسرع لهما العطب ، و لا سميكين فيجهداها في الطيران .
[ 3 ] يعرف مذاهب عيشه : الطرق التي يكسب منها قوته .
[ 4 ] فسبحان . . . : تنزيها له . و الباري : المنشىء للخلق . و خلا :
تقدّم . و المراد : لم يسبقه خالق فيقلده في صنعه .
[ 80 ]