الحمد للّه خالق العباد ، و ساطح المهاد و مسيل الوهاد ، و مخصب النّجاد [ 1 ] ليس لأوّليّته ابتداء ، و لا لأزليّته انقضاء ، هو الأوّل لم يزل ،
و الباقي بلا أجل [ 2 ] خرّت له الجباه ، و وحّدته
[ 1 ] ساطح . . . : باسط . و المهاد : الأرض المستوية . و الوهاد جمع وهدة : الأرض المنخفظة . و النجاد : ما ارتفع من الأرض و صلب .
[ 2 ] ليس لأوليته ابتداء . . . : هو السابق لجميع الموجودات ،
لأنّه قديم ، و ما عداه محدث ، و القديم يسبق المحدث بما لا يتناهى من تقدير الأوقات . و لا لأزليته انقضاء : الأزل :
القدم . و المراد : انه قديم دائم لا انقضاء لملكه ، و لا أمد لسلطانه . لم يزل : دائما . بلا أجل : بلا نهاية ، فهو الذي يفني الأجسام كلها و ما فيها من الاعراض و يبقى وحده .
[ 30 ]
الشّفاه [ 1 ] ، حدّ الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها [ 2 ] لا تقدّره الأوهام بالحدود و الحركات [ 3 ] ،
و لا بالجوارح و الأدوات ، لا يقال له : « متى ؟ » [ 4 ] و لا يضرب له أمد بحتّى ، الظّاهر لا يقال « ممّا » ، و الباطن لا يقال « فيما » [ 5 ] ، لا شبح
[ 1 ] خرّت له الجباه . . . : سجدت له و خضعت . و وحدته الشفاه : نطقت بتوحيده .
[ 2 ] حدّ الأشياء عند خلقه لها . . . : جعل لكل شيء حدّا ينتهي عنده . ابانة : تمييزا . من شبها : مشابهتها . و المراد : تنزهه جلّ جلاله عن مشابهة مخلوقاته .
[ 3 ] لا تقدّره الأوهام بالحدود و الحركات : كما أن البصر لا يدركه لا تُدرِكهُ الأَبصَارُ وَ هُوَ يُدرِكُ الأَبصارَ 6 : 103 كذلك لا تحيط به الأوهام .
[ 4 ] لا يقال له متى . . . : لا يسئل عنه متى كان . و لا يضرب أمد بحتى : كذلك لا يقال له : حتى متى يكون .
[ 5 ] ظهر . . . : تبيّن و برز . لا يقال مما : من أيّ شيء ، بل هو موجد الأشياء . و بطن : خفي . لا يقال فيما : بطن .
و المراد : ان اتصافه بالظهور و البطون بغير الكيفية المعهودة في الخلق ، و ان معنى ظهوره : علمه بما ظهر ، و معنى بطونه : علمه بما بطن ، فهو الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض و لا في السماء .
[ 31 ]
فيتقضّى ، و لا محجوب فيحوى [ 1 ] . لم يقرب من الأشياء بالتصاق ، و لم يبعد عنها بافتراق [ 2 ] ، لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة ، و لا كرور لفظة ، و لا ازدلاف ربوة ، و لا انبساط خطوة في ليل داج ، و لا غسق ساج [ 3 ] ، يتفيّأ عليه القمر
[ 1 ] لا شبح فيتقضى . . . : المراد بالشبح الوصف بالجسمية .
فيتقضى : يسرع إليه الفناء ، تنزّه عن ذلك . و لا محجوب :
و لا مستور . فيحوى : يحويه الحجاب و يستره .
[ 2 ] لم يقرب . . الخ : ان قربه و بعده ليس بالكيفية المعهودة في الأجسام ، بل المراد بذلك علمه و احاطته ، فعلمه بمن في السماء السابعة كعلمه بمن في الأرض السفلى .
[ 3 ] شخوص لحظة . . . : مدّ البصر دون الجفن . و لا كرور لفظة : تكرار كلمة . و الازدلاف : التقدّم و الاقتراب .
و الربوة : ما ارتفع من الأرض . و المراد : وقوع النظر عليها أو تخطّيها . و داج : مظلم . و الغسق : ظلمة الليل . و ساج :
ساكن لا حركة فيه . و المراد : أحاط علمه جلّ جلاله بمخلوقاته في جميع أحوالهم و تصرّفاتهم .
[ 32 ]
المنير ، و تعقبه الشّمس ذات النّور ، في الأفول و الكرور [ 1 ] و تقلّب الأزمنة و الدّهور ، من إقبال ليل مقبل ، و إدبار نهار مدبر ، قبل كلّ غاية و مدّة و كلّ إحصاء و عدّة [ 2 ] ، تعالى عمّا ينحله المحدّدون من صفات الأقدار ، و نهايات الأقطار ، و تأثّل المساكن [ 3 ] و تمكّن الأماكن :
[ 1 ] يتفيأ عليه القمر المنير . . . : الفيء : كلما كانت عليه الشمس فزالت عنه . و المراد : تشبيه نور القمر الناسخ للظلام بالفيء الذي ينسخ نور الشمس . و تعقبه : تأتي بعده .
و الافول : المغيب . و الكدور : الشروق .
[ 2 ] و قبل كل غاية و مدّة . . . : الغاية : النهاية . و المدّة : المقدار من الزمن . و اللّه جلّ جلاله خالق الزمن و غيره ، فهو قبل كل شيء و بعده . و كل احصاء و عدّة : أحصى الشيء : عرف قدره . و عدّه : عرف مقداره .
[ 3 ] نحله . . . : نسبه إليه . و المحددون : الذين جعلوا له حدودا و هم المشبهة . و صفات الأقدار : المقادير من الطول و العرض و العمق . و نهايات الأقطار : نهايات الأبعاد المتقدّمة . و تأثل المساكن : اكتسابها .
[ 33 ]
فالحدّ لخلقه مضروب [ 1 ] ، و إلى غيره منسوب ،
لم يخلق الأشياء ، من أصول أزليّة ، و لا من أوائل أبديّة ، بل خلق ما خلق فأقام حدّه ، و صوّر ما صوّر فأحسن صورته [ 2 ] ليس لشيء منه امتناع ،
و لا له بطاعة شيء انتفاع [ 3 ] . علمه بالأموات
[ 1 ] فالحدّ لخلقه مضروب : جعل لكل من خلقه حدودا و نهايات لا يستطيع تجاوزها .
[ 2 ] لم يخلق الأشياء من أصول أزلية . . . : الأزل : القدم .
و المراد : ان مخلوقاته لم تكن على مثال سابق فيكون أصلا ، بل أوجدها على سبيل الابداع و الاختراع . و لا أوائل أبدية : لم تكن للمخلوقات أوليات و مشابهات فنسج عليها .
بل خلق ما خلق فأقام حدّه : جعل له حدودا . فأحسن صورته وَ صَوَّركُم فَأَحسَنَ صُوَرَكُمْ 40 : 64 .
[ 3 ] ليس لشيء منه امتناع : لا يمتنع عليه شيء إنّما قَولُنَا لِشَيءٍ .
إذَا أَرَدنَاهُ أَن نَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون 16 : 40 . و لا له بطاعة شيء انتفاع : لا تنفعه طاعة من أطاعه ، و لا معصية من عصاه ، بل نفع ذلك و مضرته تعود على العبد في دنياه و آخرته .
[ 34 ]
الماضين كعلمه بالأحياء الباقين ، و علمه بما في السّموات العلى كعلمه بما في الأرض السّفلى .
منها : أيّها المخلوق السّويّ ، و المنشأ المرعيّ [ 1 ] في ظلمات الأرحام ، و مضاعفات الأستار [ 2 ] ، بدئت من سلالة من طين ، و وضعت في قرار مكين [ 3 ] إلى قدر معلوم ، و أجل
[ 1 ] المخلوق السوي . . . : كامل الخلقة ، بلا نقص و لا تشويه .
و المنشأ المرعي : المعتنى به .
[ 2 ] مضاعفات الاستار : هي التي عبّر عنها القرآن الكريم فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ 39 : 6 . هي ظلمة البطن ، و ظلمة الرحم ،
و ظلمة المشيمة .
[ 3 ] بدئت من سلالة من طين . . . : وَ لَقَدْ خَلَقنَا الإنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِن طِينٍ 23 : 12 . قال الطبرسي : المراد بالإنسان :
ولد آدم ( عليه السلام ) ، و هو اسم الجنس فيقع على الجميع ، و أراد بالسلالة : الماء يسل من الظهر سلاّ ، من طين : أي من طين آدم ، لأنها تولّدت من طين خلق آدم منه .
في قرار مكين : الرحم .
[ 35 ]
مقسوم ، تمور في بطن أمّك جنينا : لا تحير [ 1 ] دعاء ، و لا تسمع نداء ، ثمّ أخرجت من مقرّك إلى دار لم تشهدها ، و لم تعرف سبل منافعها ، فمن هداك لاجترار الغذاء [ 2 ] من ثدي أمّك ؟ و عرّفك عند الحاجة مواضع طلبك و إرادتك ؟ هيهات إنّ من يعجز عن صفات ذي الهيئة و الأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز ، و من تناوله بحدود المخلوقين أبعد [ 3 ] .
[ 1 ] تمور . . . : تتحرك . و لا تجير : لا تقدر على نطق و لا سمع .
[ 2 ] اجترار الغذاء : جذبه .
[ 3 ] ذي الهيئة . . . : الانسان . و الأدوات : الحواس و الجوارح .
و المراد : انه عاجز عن وصف نفسه و ما أودع فيها الخلاّق من أعضاء و أجهزة ، فهو بالأحرى عاجز عن وصف خالقه . و من تناوله بحدود المخلوقين أبعد : و من وصفه بحدود معينة ،
و بالأوصاف التي توصف بها المخلوقات ، فقد أبعد عن وصفه ، و ضلّ في حديثه .
[ 36 ]