الحمد للّه المعروف من غير رؤية ، و الخالق من غير رويّة [ 2 ] ، الّذي لم يزل قائما دائما ، إذ لا سماء ذات أبراج ، و لا حجب ذات أرتاج و لا ليل داج ، و لا بحر ساج ، و لا جبل ذو فجاج ، و لا فجّ ذو اعوجاج ، و لا أرض ذات مهاد ، و لا خلق ذو اعتماد [ 3 ] : ذلك مبتدع
[ 1 ] الظل . . . : ضوء الشمس اذا استترت عنك بحجاب .
و اجل معدود : الى مدة معدودة . و المراد : سرعة زوالها و فنائها .
[ 2 ] من غير رويّة : من غير فكر و امعان نظر .
[ 3 ] ذات ابراج . . . : هي منازل الشمس و القمر و الدقة في مسيرهما اليها . و لا حجب ذات ارتجاج : هي حجب القدرة و الجلالة و العظمة ، لا يعلم سعتها و وصفها و عظمتها الا خالقها . و الارتاج : الابواب و الاغلاق .
و ليل داج : مظلم . و بحر ساج : ساكن و الفجاج :
الطرق الواسعة . و لا فج ذو اعوجاج : هي الطرق المعوجّة كالطرق الجبلية التي توصل الانسان الى مقصده . و لا ارض ذات مهاد : مهيئة صالحة للتصرف .
و لا خلق ذو اعتماد : صاحب مقدرة .
[ 34 ]
الخلق و وارثه [ 1 ] و إله الخلق و رازقه ، و الشّمس و القمر دائبان [ 2 ] في مرضاته : يبليان كلّ جديد و يقرّبان كلّ بعيد [ 3 ] ، قسم أرزاقهم ، و أحصى آثارهم و أعمالهم ، و عدد أنفاسهم ، و خائنة أعينهم ، و ما تخفى صدورهم من الضّمير [ 4 ]
[ 1 ] مبتدع الخلق : مخترعه ، و وارثه : الباقي بعد فنائه .
[ 2 ] دائبان : مجدّان في سيرهما .
[ 3 ] يبليان كل جديد . . . : يفينان كل يوم . و يقربان كل بعيد : يقربان فناء العمر و ان طال ، أو بالاحرى يقربان الآخرة .
[ 4 ] خائنة اعينهم . . . : مسارقة نظرهم الى ما لا يحل .
و ما تخفي صدورهم من الضمير : هو عالم بضمائرهم و نواياهم .
[ 35 ]
و مستقرّهم و مستودعهم من الأرحام و الظّهور [ 1 ] ،
إلى أن تتناهى بهم الغايات [ 2 ] ، هو الّذي اشتدّت نقمته على أعدائه في سعة رحمته [ 3 ] و اتّسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته ، قاهر من عازّه ، و مدمّر من شاقّه ، و مذلّ من ناوأه [ 4 ] ،
و غالب من عاداه ، و من توكّل عليه كفاه ، و من
[ 1 ] و مستودعهم من الأرحام و الظهور : علمه بهم سبق وجودهم ، فهو عالم بهم و هو نطف في اصلاب آبائهم ،
و ارحام امهاتهم .
[ 2 ] الغاية : النهاية و الآخر . و المراد : انه عالم بهم من مبتدأ حالهم الى نهايتهم
[ 3 ] هو الذي اشتدت نقمته . . . : عقوبته . و المراد : انه مع ما اتصف به من العطف و الحنان و الرحمة ، فهو الرحمان الرحيم ، و بنفس الوقت شديد العقاب .
[ 4 ] قاهر من عازه . . . : رام مشاركته في شيء من عزّه .
و مدمّر من شاقه : نازعه . و مذلّ من ناواه : خالفه .
و أنت بحمد اللّه ناج من صفتين ، فاجتهد من النجاة من الثالثة ، اعني مخالفته .
[ 36 ]
سأله أعطاه ، و من أقرضه قضاه [ 1 ] ، و من شكره جزاه .
عباد اللّه زنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ،
و حاسبوها [ 2 ] من قبل أن تحاسبوا ، و تنفّسوا قبل ضيق الخناق ، و انقادوا قبل عنف السّياق [ 2 ]
[ 1 ] و من اقرضه قضاه : يشير الى الآية الكريمة منْ ذَا الَّذي يُقرِضُ اللَّه قرضاً حَسناً فيضاعِفَهُ لَهُ اضْعَافاً كثيرَةً 2 : 245 . و قضاه : وفّاه ثوابه على انفاقه باكثر مما يتصور .
[ 2 ] زنوا انفسكم من قبل ان توزنوا . . . : انظروا الى انفسكم ، و فتشّوا عن صفاتها الحسنة و الرذيلة ،
و اعمالها المقرّبة و السيئة ، ثم قدّروا النسبة في ذلك لتستزيدوا خيرا ، و تبتعدوا عن شرّ . و حاسبوها : حاسبوا أنفسكم على اعمالها قبل ان تحاسبوا ، لان في امكانكم الآن التغيير و التبديل ، أما اذا حوسبتم فلا يبقى لكم مجال .
[ 3 ] و تنفسوا قبل ضيق الخناق . . . : الخناق : الحبل الذي يخنق به فيموت ، و المعنى : اغتنموا عمركم للعمل الصالح . و عنف السياق : شدة جذبة ملك الموت للروح .
[ 37 ]
و اعلموا أنّه من لم يعن على نفسه [ 1 ] حتّى يكون له منها واعظ و زاجر لم يكن له من غيرها زاجر و لا واعظ .
[ 1 ] و اعلموا انه من لم يعن على نفسه . . . : من لم يعنه اللّه جل جلاله على نفسه ، فيعظ نفسه بنفسه ، و يزجر نفسه بنفسه ، لم ينتفع بمواعظ الآخرين . و ليس موضوع الاعانة لناس دون آخرين ، فان ذلك مناف للعدالة ، فالكل عبيد اللّه و في قبضته ، بل ان المراد :
ان بعض العباد يتقدم نحوه بالطاعة فينشطه لها ، و يعينه عليها ، و البعض يتباعد عنه ، تاركا لتعاليمه ، عاملا بنواهيه ، فيتركه و اختياره ذهبَ اللَّه بنورِهِم و تركهم في ظلماتٍ لا يبصرُون 2 : 17 .
[ 38 ]
بسم اللّه الرحمن الرحيم