روى عن نوف البكالي قال : خطبنا هذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين ( عليه السلام ) و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي ، و عليه مدرعة من صوف و حمائل
[ 1 ] فحسبهم . . . : يكفيهم ذلك هوانا . خروجهم من الهدى :
من الرشاد . و ارتكاسهم : انقلابهم . و الضلال : العدول عن الطريق المستقيم . و المراد بالعمى : ذهاب البصيرة ، و عدم الاهتداء الى خير . و جمح الفرس جموحا : عصا أمر صاحبه حتى غلبه . و المراد : ركبوا هواهم فلا يمكن ردّهم . و التيه :
الضلال .
[ 20 ]
سيفه ليف ، و في رجليه نعلان من ليف ، و كأنّ جبينه ثفنة [ 1 ] بعير . فقال ( عليه السلام ) :
الحمد للّه الّذي إليه مصائر الخلق و عواقب الأمر [ 2 ] ، نحمده على عظيم إحسانه ، و نيّر برهانه ، و نوامي فضله و امتنانه [ 3 ] حمدا يكون لحقّه قضاء ، و لشكره أداء ، و إلى ثوابه مقرّبا ،
و لحسن مزيده موجبا ، و نستعين به استعانة راج
[ 1 ] مدرعة . . . : ثوب من صوف . و الحمائل : علاقة السيف .
و ثفنة البعير : الأثر الذي في ركبته و صدره من كثرة مماسة الأرض . و من ذلك تسمية الإمام علي بن الحسين ( عليه السلام ) بذي الثفنات ، لما في جبهته من أثر السجود سِيمَاهُم فِي وُجُوهِهِم مِن أَثَرِ السُّجُودِ 48 : 29 .
[ 2 ] مصائر الخلق . . . : في يوم القيامة ، عند ما يصيرون الى حكمه . و عواقب الأمور : أواخرها .
[ 3 ] نيّر . . . : مضيء . و البرهان : الحجّة البيّنة الفاصلة .
و نوامي جمع نام : زاد و كثر . و امتنانه : إحسانه و إنعامه .
[ 21 ]
لفضله ، مؤمّل لنفعه ، واثق بدفعه ، معترف له بالطّول ، مذعن [ 1 ] له بالعمل و القول . و نؤمن به إيمان من رجاه موقنا ، و أناب إليه مؤمنا ، و خنع له مذعنا ، و أخلص له موحّدا ، و عظّمه ممجّدا ،
و لاذ به راغبا مجتهدا [ 2 ] : لم يولد سبحانه فيكون في العزّ مشاركا ، و لم يلد [ 3 ] فيكون موروثا هالكا ،
[ 1 ] واثق . . . : متيقّن . بدفعه : بحمايته و انتصاره إنَّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا 22 : 38 . بالطول : بالفضل . و مذعن له : منقاد لأمره .
[ 2 ] رجاه . . . : أمّل فضله . و موقنا : متيقنا لعظيم قدرته .
و أناب : رجع . و خشع : ذلّ و خضع . و مذعنا : منقادا .
و اخلص : له العمل خاليا من شوائب النفاق و الرياء .
و موحدا : مقرّا بأنه واحد أحد ، فرد صمد . و عظّمه : اذعن له بالكبرياء و العظمة . و ممجدا : أثنى عليه . و لاذ به : لجأ إليه . و راغبا : فيما عنده . و مجتهدا : في طاعته .
[ 3 ] لم يولد . . . : ليس له والد فيكون شريكه في العزّ ، لأن الوالد مشارك لولده في الشرف و الرفعة . و لم يلد : و ليس له ولد فيرثه ، بل هو الحيّ القيوم الباقي الدائم لَم يَلِدْ وَ لَمْ يُولَد 112 : 3 .
[ 22 ]
و لم يتقدّمه وقت و لا زمان ، و لم يتعاوره زيادة و لا نقصان [ 1 ] ، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التّدبير المتقن ، و القضاء المبرم [ 2 ] .
و من شواهد خلقه خلق السّموات موطّدات بلا عمد ، قائمات بلا سند [ 3 ] ، دعاهنّ فأجبن
[ 1 ] و لم يتقدّمه وقت . . . : هو قبل كل شيء ، و خالق كل شيء هُوَ الأَوَّلُ وَ الآخِرُ و الظَّاهِرُ وَ البَاطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 57 : 3 . و لم يتعاوره : لم يختلف و لم يتناوب عليه .
و المراد : تنزيهه عما يلحق الكائنات الحيّة من الزيادة و النقصان .
[ 2 ] ظهر للعقول . . . : ببدائع خلقه ، و عجائب صنعه . و المراد بالتدبير : حسن القيام على شؤون الخلق . و المتقن :
المحكم صُنْعَ اللّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ 27 : 88 . و المراد بالقضاء : الحكم و الفصل . و المبرم : المحكم .
[ 3 ] شواهد خلقه . . . : ما يشهد على الابداع . و وطّد الشيء :
أرساه و قوّاه . و بلا سند : بلا عماد يرفعها اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَونَها 13 : 2 .
[ 23 ]
طائعات مذعنات ، غير متلكّئات و لا مبطئات [ 1 ] .
و لو لا إقرارهنّ له بالرّبوبيّة و إذعانهنّ له بالطّواعية [ 2 ] لما جعلهنّ موضعا لعرشه و لا مسكنا لملائكته ،
و لا مصعدا للكلم الطّيّب [ 3 ] و العمل الصّالح من خلقه . جعل نجومها أعلاما يستدلّ بها الحيران في مختلف فجاج [ 4 ] الأقطار ، لم يمنع ضوء
[ 1 ] فأجبن طائعات . . . : مذعنات فَقَالَ لَهَا وَ لِلأَرْضِ إتِيَا طَوعاً أَو كَرهاً قَالَتا أَتَيْنَا طَائِعِين 41 : 11 . و غير متلكئات : بلا توقّف و لا ابطاء إنَّمَا قَولُنَا لِشَيءٍ إذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ 16 : 40 .
[ 2 ] بالطواعية : بالطاعة .
[ 3 ] مصعدا للكلم الطيّب : تمجيده و تقديسه و تحميده إليْهِ يصعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرفَعهُ 35 : 10 و لعلّ أفضله كلمة لا إله إلاّ اللّه .
[ 4 ] اعلاما جمع علم : الراية التي يهتدي بها الجيش . و المراد :
بها يهتدي المسافرون ، و يعلمون الجهة التي يقصدونها ،
سواء في البرّ كانوا أو في البحر وَ عَلاَماتٍ وَ بِالنَّجمِ هُم يَهْتَدُونَ 16 : 16 . و الفجاج : الطرق بين الجبال .
[ 24 ]
نورها ادلهمام سجف اللّيل المظلم ، و لا استطاعت جلابيب سواد الحنادس [ 1 ] أن تردّ ما شاع في السّموات من تلألؤ نور القمر ، فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داج ، و لا ليل ساج [ 2 ] في بقاع الأرضين المتطأطئات ، و لا في يفاع السّفع [ 3 ] المتجاورات ، و ما يتجلجل به الرّعد في أفق السّماء ، و ما تلاشت عنه بروق
[ 1 ] اسجف الليل : أظلم . و جلابيب جمع جلباب : ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها . و الحنادس جمع حندس : الليل المظلم . و المراد : بيان استيعاب الظلام .
[ 2 ] فسبحان . . . : تنزّه . و غسق الليل : أظلم . و دجا : عمّت ظلمته و البس كل شيء . و ساج : ساكن .
[ 3 ] المتطأطئات . . . : الأماكن المنخفضة كالوديان . و يفع الشيء : علا و ارتفع . و السفع جمع سفعاء : سوداء يضرب الى الحمرة . و المراد بذلك ألوان الجبال .
[ 25 ]
الغمام ، و ما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء و انهطال السّماء [ 1 ] ، و يعلم مسقط القطرة و مقرّها ، و مسحب الذّرّة [ 2 ] و مجرّها ، و ما يكفي البعوضة من قوتها ، و ما تحمل الأنثى في بطنها .
الحمد للّه الكائن [ 3 ] قبل أن يكون كرسيّ أو عرش ، أو سماء أو أرض ، أو جانّ أو إنس ، لا
[ 1 ] الجلجلة . . . : صوت الرعد . و تلاشت : فنيت . و الانواء جمع نوء : النجم . و الانواء ثمانية و عشرون نجما ، يسقط في كل ثلاثة عشرة ليلة نجم في المغرب مع طلوع الفجر ،
و يطلع آخر يقابله في المشرق من ساعته ، و كلاهما معروف مسمى ، و هكذا طيلة السنة . و ربط العواصف بها من جهة ان العرب تضيف الرياح و الأمطار و الحرّ و البرد إليها . و انهطال السماء : بالمطر .
[ 2 ] مسقط القطرة . . . : من المطر . و مقرّها : مكان سقوطها .
و مسحب الشيء : جرّه على الأرض ، و الذر : صغار النمل .
[ 3 ] الكائن : الموجود .
[ 26 ]
يدرك بوهم ، و لا يقدّر بفهم [ 1 ] ، و لا يشغله سائل ، و لا ينقصه نائل [ 2 ] و لا ينظر بعين ، و لا يحدّ بأين [ 3 ] ، و لا يوصف بالأزواج ، و لا يخلق بعلاج ، و لا يدرك بالحواسّ [ 4 ] ، و لا يقاس
[ 1 ] لا يدرك بوهم . . . : و كما لا تدركه الحواس كذلك لا تحيط به الأوهام و التصورات ، و انّما ينبغي التفكير في عظيم قدرته ،
و جميل آلائه . و لا يقدّر بفهم : العقول .
[ 2 ] لا يشغله سائل . . . : عن سائل ، و لا شأن عن شأن ، و ان علمه بمن في المشرق كعلمه بمن في المغرب . و النائل :
الجود و العطية .
[ 3 ] لا يبصر بعين . . . : ليس إدراكه بحاسة البصر ، تنزّه عن مشابهة المخلوقين . و لا يحدّ بأين : لا تحدّه العقول بالأمكنة لتنزّهه عن التحيّز .
[ 4 ] الأزواج . . . : الاشكال و الأمثال . و المراد : نفي التعدد عنه .
و لا يخلق بعلاج : بدون مزاولة آلة ، و معالجة سبب ، بل كن فيكون . و لا يقاس بالناس : لا مشابهة بينه و بين مخلوقاته لَيْسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ 42 : 11 . و لا يدرك بالحواس : لا يتوصل الى معرفته بحاسة و شبهها ، بل يهتدى الى معرفته ببدائع مصنوعاته .
[ 27 ]
بالنّاس . الّذي كلّم موسى تكليما ، و أراه من آياته عظيما [ 1 ] ، بلا جوارح و لا أدوات ، و لا نطق و لا لهوات [ 2 ] . بل إن كنت صادقا أيّها المتكلّف لوصف ربّك ، فصف جبرائيل و ميكائيل و جنود الملائكة المقرّبين في حجرات القدس مرجحنّين [ 3 ] متولّهة عقولهم أن يحدّوا [ 4 ] أحسن
[ 1 ] كلّم موسى تكليما : ان كلامه و أوامره الى أنبيائه عن طريق الوحي ، باستثناء موسى ( عليه السلام ) ، فانّه جلّ جلاله خلق بقدرته كلاما أودعه الشجرة ، سمعه موسى ( عليه السلام ) .
و أراه من آياته عظيما : هي النار ، و استماع الكلام من الجهات الستّ ، و العصا .
[ 2 ] بلا جوارح و لا أدوات . . . : لم يكن الكلام منبعثا عن جارحة نطق و شبهها ، بل عن طريق الإعجاز و القدرة . و اللهواة جمع لهاة : قطعة اللحم المشرفة على الحلق .
[ 3 ] حجرات . . . : جمع حجرة : غرفة . و القدس : الطهر .
و المراد : منازل الكرامة التي هم فيها . و مرجحنين : مائلين الى جهة تحت . و المراد : بيان انحنائهم و خضوعهم لعظمة الخالق جلّ شأنه .
[ 4 ] متولهه . . . : متحيّرة . و يحدّوا : يجعلوا له حدودا . و المراد :
انهم مع سموّ مرتبتهم و قربهم و معرفتهم ، لا يجعلون لخالقهم حدودا ، و لا يصفونه بصفات المصنوعين .
[ 28 ]
الخالقين . فإنّما يدرك بالصّفات ذوو الهيئات و الأدوات ، و من ينقضي إذا بلغ أمد حدّه بالفناء [ 1 ] فلا إله إلاّ هو أضاء بنوره كلّ ظلام ،
و أظلم بظلمته كلّ نور .
أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه [ 2 ] ، الّذي
[ 1 ] و من ينقضي اذا بلغ أمد حدّه بالفناء : لما بيّن العجز عن وصف الخالق الجبّار ، بل حتّى عن وصف الملائكة ، بيّن أن الوصف ممكن للأجسام المتلاشية بالموت ، المعرّضة للفناء .
[ 2 ] أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه : و كلمة التقوى وردت في القرآن الكريم و نهج البلاغة ، و أحاديث أهل البيت ( عليهم السلام ) آلاف المرّات ، اهتماما بها ، و حثّا عليها ، و المراد منها :
العمل بأوامر اللّه تعالى ، و الانتهاء عمّا نهى عنه .
[ 29 ]
ألبسكم الرّياش ، و أسبغ [ 1 ] عليكم المعاش ، و لو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلّما أو إلى دفع الموت سبيلا لكان ذلك سليمان بن داود عليه السّلام :
الّذي سخّر له ملك الجنّ و الإنس مع النّبوّة ،
و عظيم الزّلفة ، فلمّا استوفى طعمته ، و استكمل مدّته ، رمته قسيّ الفناء بنبال [ 2 ] الموت ،
و أصبحت الدّيار منه خالية ، و المساكن معطّلة ،
و ورثها قوم آخرون ، و إنّ لكم في القرون السّالفة لعبرة [ 3 ] أين العمالقة و أبناء العمالقة ؟ أين
[ 1 ] الرياش . . . : اللباس الفاخر . و اسبغ نعمه : أكملها و أتمّها .
[ 2 ] عظيم الزلفة . . . : المنزلة الرفيعة ، و الدرجة العالية .
و استوفى : أخذه وافيا تاما . و طعمته : كل ما يطعم .
و المراد : نفاذ ما قسم له من الرزق . و قسي جمع قوس :
آلة على هيئة الهلال ترمى بها السهام . و النبال : السهام .
[ 3 ] عبرة : عظة و معتبر تعتبرون بها .
[ 30 ]
الفراعنة و أبناء الفراعنة [ 1 ] ؟ أين أصحاب مدائن الرّسّ الّذين قتلوا النّبيّين . و أطفأوا سنن المرسلين [ 2 ] ، و أحيوا سنن الجبّارين ؟ أين الّذين ساروا بالجيوش ، و هزموا بالألوف ، و عسكروا العساكر ، و مدّنوا المدائن ؟ منها : قد لبس للحكمة جنّتها ، و أخذها بجميع أدبها : من الإقبال عليها ، و المعرفة بها ،
[ 1 ] العمالقة . . . : ملوك اليمن و الحجاز ، و الفراعنة : ملوك مصر ، منهم فرعون موسى عليه السلام ، اسمه الوليد بن مصعب .
[ 2 ] مدائن الرس . . . : هي اثنتا عشرة مدينة ، على نهر يقال له :
( الرس ) في أذربيجان ، كانوا يعبدون شجرة ، فأرسل اللّه لهم نبيّا ، فقتلوه بأبشع قتلة ، فأهلكهم بريح عاصفة كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ و أَصحابُ الرَّسِّ و ثَمُودُ 50 : 12 .
و سنن جمع سنة : ما أوثر عن الأنبياء من قول و فعل .
و المرسلين : الأنبياء . و المراد : سعيهم الحثيث لتخريب معالم الدين .
[ 31 ]
و التّفرّغ [ 1 ] لها ، و هي عند نفسه ضالّته الّتي يطلبها [ 2 ] ، و حاجته الّتي يسأل عنها . فهو مغترب إذا اغترب الإسلام و ضرب بعسيب ذنبه ، و ألصق الأرض بجرانه [ 3 ] ، بقيّة من بقايا حجّته [ 4 ] ،
[ 1 ] الحكمة . . . : هي العقل و العلم و العمل به ، و الاصابة في الأمور وَ لَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ 31 : 12 . و الجنّة : كل ما يقي من سلاح و غيره . و المراد : وصفه بجميع صفات الكمال ، و التهيّىء لقبول الفيض الإلهي ، تشبيها بمن يلبس الدرع للتأهّب للحرب . و المراد بذلك الإمام المهدي عليه السلام . بجميع أدبها : بكل ما يلزم بها من آداب و سلوك .
من الإقبال عليها : التوجّه لها . و المعرفة بها : التفهّم لها .
و التفرّغ لها : التوجّه الكلّي إليها .
[ 2 ] الضالة : كل ما ضلّ و ضاع . و نشد الضالة : طلبها .
و المراد : انها مطلوبه .
[ 3 ] فهو مغترب . . . : مختفي . اذا اغترب الإسلام : إذا تباعدوا عن أحكامه ، و نبذوا تعاليمه . و عسيب ذنبه : طرفه .
و جرانه : صدره . هذا وصف للبعير إذا أعيى و برك .
و المراد : تشبيه الإسلام في هذه الفترة التي تباعد فيها المسلمون عن تعاليمه بالبروك لعدم الأخذ بتعاليمه ، و الحكم بأحكامه ، و الاهتداء بأنواره .
[ 4 ] بقيّة من بقايا حججه . . . : هو الحجّة على الخلق .
و الخليفة : الامام : و خلفاء النبي اثنا عشر . فقد روى الخاص و العام عن جابر بن سمرة قال : سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول : يكون لهذه الأمة إثنا عشر خليفة . روى الحديث الإمام أحمد في مسنده عن أربع و ثلاثين طريقا ،
و رواه البخاري و مسلم بألفاظ متقاربة . و الحديث لا ينطبق إلاّ على أئمّة أهل البيت الاثني عشر ، أوّلهم أمير المؤمنين عليه السلام ، و آخرهم الإمام المهدي عليه السلام . و كلام الامام عليه السلام نصّ صريح في ذلك .
[ 32 ]
خليفة من خلائف أنبيائه .
ثم قال عليه السلام :
أيّها النّاس ، إنّي قد بثثت لكم المواعظ الّتي وعظ الأنبياء بها أممهم ، و أدّيت إليكم ما أدّت الأوصياء إلى من بعدهم ، و أدّبتكم بسوطي فلم تستقيموا ، و حدوتكم بالزّواجر فلم
[ 33 ]
تستوسقوا [ 1 ] للّه أنتم ، أ تتوقّعون إماما غيري يطأ بكم الطّريق ، و يرشدكم السّبيل [ 2 ] ؟ ألا إنّه قد أدبر من الدّنيا ما كان مقبلا ، و أقبل منها ما كان مدبرا [ 3 ] ، و أزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار ، و باعوا قليلا من الدّنيا لا يبقى بكثير من
[ 1 ] أدّبتكم بسوطي . . . : كان عليه السلام يطوف أسواق الكوفة و بيده الدّرة ( السوط ) يأمرهم بالمعروف ، و ينهاهم عن المنكر . . و حدا الابل : ساقها و حثّها على السير . و المراد بالزواجر : المواعظ التي تزجر المرء و تمنعه عن سيّىء الأعمال وَ لَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الأَنْبَاءِ ما فِيهِ مزدَجَر 54 : 4 .
فلم تستوثقوا : لم تنتظموا و تجتمعوا .
[ 2 ] يطأ بكم الطريق . . . : يسلك بكم طريقا مستقيما .
و السبيل : الطريق .
[ 3 ] أدبر من الدنيا ما كان مقبلا . . . : من الإيمان و التقى ،
و جميع معالم الخير التي كانت تسود العالم الإسلامي . و أقبل منها ما كان مدبرا : من الفساد ، و خصال الشر .
[ 34 ]
الآخرة لا يفنى [ 1 ] ، ما ضرّ إخواننا الّذين سفكت دماؤهم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص ، و يشربون الرّنق [ 2 ] ؟ قد و اللّه لقوا اللّه فوفّاهم أجورهم ، و أحلّهم دار الأمن [ 3 ] بعد خوفهم ، أين إخواني الّذين ركبوا
[ 1 ] أزمع الأمر : عزم و ثبت و جدّ في إمضائه . و رحل عن المكان رحلا و رحيلا و ترحالا : سار و مضى . و باعوا قليلا من الدنيا الخ : قدّموا من المال و غيره قليلا نفي ،
فحصّلوا به الكثير الباقي ، مما لا عين رأت ، و لا أذن سمعت ، و لا خطر على قلب بشر .
[ 2 ] سفكت دماؤهم . . . : أريقت ( قتلوا ) . و يسيغون :
يتجرّعون . و الغصّة : ما اعترض في الحلق من طعام و شراب . و المراد معاناتهم للأذى . و رنق الماء : كدر و ذهب صفاؤه .
[ 3 ] فوفاهم أجورهم . . . : أعطاهم ثواب أعمالهم و جهادهم .
و أحلّهم دار الأمن : أنزلهم منزلا يأمنون فيه من جميع المكاره وَ جَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَواتُ وَ الأَرضُ أُعِدَّتْ لِلمُتَّقِينَ 3 :
133 .
[ 35 ]
الطّريق و مضوا على الحقّ [ 1 ] ؟ أين عمّار ؟ و أين ابن التّيّهان ؟ و أين ذو الشّهادتين ؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الّذين تعاقدوا على المنيّة [ 2 ] ، و أبرد
[ 1 ] ركب الشيء : علاه . و المراد : سيرهم في الطريق الذي أمر اللّه به أن يسلك . و عمّار بن ياسر : أبو اليقظان ،
صحابي عظيم الشأن ، قديم الإسلام ، قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : تقتلك الفئة الباغية . استشهد بين يدي الإمام عليه السلام في صفّين . و ابن التيهان : أبو الهيثم ،
مالك بن التيهان : أحد النقباء ليلة العقبة ، من عظماء الصحابة ، استشهد بين يدي الإمام عليه السلام في صفّين .
و ذو الشهادتين : خزيمة بن ثابت الأنصاري ، جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شهادته بشهادة رجلين و هو الذي كان يحمل راية بني خطمه يوم فتح مكّة . استشهد بين يدي الإمام عليه السلام يوم صفّين .
[ 2 ] تعاقد القوم : تعاهدوا . و المنية : الموت . و المراد :
تعاهدهم و اتفاقهم على الشهادة ، نظير ما حصل يوم بدر ،
فقد تعاهد الإمام عليه السلام ، و حمزة بن عبد المطلب ،
و عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، و نزل فيهم : مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ مَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً 33 : 23 .
[ 36 ]
برؤوسهم إلى الفجرة ؟ قال : ثم ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء ، ثم قال عليه السلام :
أوه على إخواني الّذين قرأوا القرآن فأحكموه ، و تدبّروا الفرض فأقاموه [ 2 ] أحيوا
[ 1 ] و أبرد برؤوسهم الى الفجرة : أرسلت رؤوسهم بالبريد الى الكافرين إمعانا بالفجور ، و تنكيلا بالصالحين .
[ 2 ] أوه . . . : كلمة توجّع . و أحكموه : فهموا مقاصده ، و عملوا بأحكامه . و تدبروا : نظروا فيه و تفكّروا . و الفرض :
الفرائض المطلوبة . فأقاموه : عملوا به . و المراد : تفكيرهم فيها و في أهدافها ، و العطاء الإلهي المدّخر فيها . و من هذا الباب حديث الإمام الصادق عليه السلام : كان أكثر عبادة أبي ذرّ رحمه اللّه خصلتين : التفكّر و الاعتبار .
[ 37 ]
السّنّة ، و أماتوا البدعة [ 1 ] ، دعوا للجهاد فأجابوا ،
و وثقوا بالقائد فاتّبعوه .
ثمّ نادى بأعلى صوته :
الجهاد الجهاد عباد اللّه ألا و إنّي معسكر في يومي هذا ، فمن أراد الرّواح إلى اللّه [ 2 ] فليخرج .
قال نوف : و عقد للحسين عليه السلام في عشرة آلاف ، و لقيس بن سعد رحمه اللّه في عشرة
[ 1 ] السنة . . . : ما صدر عن الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله من قول و فعل . و احياؤها : العمل بها ، و دعوة الناس الى اتباعها . و البدعة : ما أحدث في الدين ما لم يكن على عهد الرسول صلّ اللّه عليه و آله . و إماتتها : عدم العمل بها ،
و دعوة الناس الى اجتنابها .
[ 2 ] الرواح . . . : المسير : و الى اللّه : الى رضوانه ، و الفوز بما أعدّه للمجاهدين .
[ 38 ]
آلاف ، و لأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف ،
و لغيرهم على أعداد أخر ، و هو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه اللّه ، فتراجعت العساكر فكنّا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كل مكان .