يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض ،
و خلق آدم . و فيها ذكر الحج .
الحمد للّه الّذي لا يبلغ مدحته القائلون ، و لا يحصي نعماءه العادّون ، و لا يؤدي حقّه المجتهدون ، الّذي لا يدركه بعد الهمم [ 1 ] و لا
[ 1 ] الهمم : جمع الهمة ، و المراد به العزم و الجزم الذي لا يعتريه فتور ، و المعنى : أنه جلّ جلاله لا تدركه همم أصحاب النظر ، و أوهام أرباب الفكر و إن علت و بعدت .
[ 24 ]
يناله غوص الفطن [ 1 ] الّذي ليس لصفته حدّ محدود و لا نعت موجود ، و لا وقت معدود ، و لا أجل ممدود ، فطر الخلائق بقدرته [ 2 ] ، و نشر الرّياح برحمته ، و وتّد بالصّخور ميدان أرضه [ 3 ] أوّل الدّين معرفته و كمال معرفته التّصديق به ،
و كمال التّصديق به توحيده ، و كمال توحيده الإخلاص له ، و كمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه [ 4 ] لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف ،
[ 1 ] الفطنة : الحدس و الظن ، و المعنى : لا يصيب كنه ذاته غوص أرباب الفطن و استغراقهم في بحث المعقولات .
[ 2 ] أي خلقهم بقدرته ، و في القرآن الكريم قل أغير اللّه أتخذ وليا فاطر السموات و الأرض 6 : 14 .
[ 3 ] المراد بالصخور الجبال ، فهي تقي الأرض من الاضطراب ، و هي بمنزلة الوتد للخيمة ، و في القرآن الكريم : أ لم نجعل الأرض مهادا ، و الجبال أوتادا 78 : 7 .
[ 4 ] أي منزّه عن الصفات التي توصف بها الأجسام .
[ 25 ]
و شهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة [ 1 ] : فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه [ 2 ] ، و من قرنه فقد ثنّاه [ 3 ] ، و من ثنّاه فقد جزّأه [ 4 ] ، و من جزّأهفقد جهله ، و من جهله فقد أشار إليه ، و من أشار إليه فقد حدّه [ 5 ] ، و من حدّه فقد عدّه [ 6 ] ، و من قال « فيم ؟ » فقد ضمّنه [ 7 ] ، و من قال « علام ؟ » [ 8 ] فقد أخلى
[ 1 ] لأن الصفات مغايرة للموصوف ، فكيف يوصف بصفة من ليس كمثله شيء ، و لا يشبهه شيء ؟ .
[ 2 ] جعل له قرينا و شبيها .
[ 3 ] جعل له ثانيا .
[ 4 ] و متى كان له ثانيا كان مركّبا ذا أجزاء .
[ 5 ] جعل له حدودا كالأجسام و الصور .
[ 6 ] نفى عنه التوحيد و جعله ذا عدد .
[ 7 ] لا يصح الاستفهام عنه جلّ جلاله ، و أيّ محلّ تضمّنه ، فهو لا يحل في مكان ، و لا يخلو منه مكان .
[ 8 ] جعله في جهة علوية كالعرش و الكرسي ، تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا .
[ 26 ]
منه [ 1 ] . كائن لا عن حدث [ 2 ] موجود لا عن عدم ، مع كلّ شيء لا بمقارنة [ 3 ] ، و غير كلّ شيء لا بمزايلة [ 4 ] فاعل لا بمعنى الحركات
[ 1 ] جعله غير موجود .
[ 2 ] أي وجوده لم يسبقه عدم ، و يتضح المعنى بالمثال التالي : فوجودنا و جميع الكائنات مسبوق بالعدم ، أي أنت مرّ عليك زمن لم تكن شيئا مذكورا ثم وجدت ،
و كذلك جميع الكائنات ، و هو جلّ جلاله خلاف هذا كله .
[ 3 ] أن معيته و مصاحبته للأشياء لم تكن عن مقارنة أو مقاربة ، فإن علمه بالسماء السابعة كعلمه بالأرض السفلى و في القرآن الكريم : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم و لا خمسة إلاّ هو سادسهم و لا أدنى من ذلك و لا أكثر إلاّ هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن اللّه بكل شيء عليم 58 : 7 . و قوله تعالى و هو معكم أينما كنتم 57 : 4 .
[ 4 ] المزايلة : المباينة ، و المراد : أنه جلّ جلاله مغاير لجميع الأشياء ليس كمثله شيء و هو السميع البصير 42 : 11 .
[ 27 ]
و الآلة ، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه [ 1 ] متوحّد إذ لا سكن يستأنس به و لا يستوحش لفقده [ 2 ] ،
أنشأ الخلق إنشاء ، و ابتدأه ابتداء ، بلا رويّة أجالها [ 3 ] ، و لا تجربة استفادها ، و لا حركة أحدثها ، و لا همامة نفس اضطرب فيها [ 4 ] أحال الأشياء لأوقاتها و لأم بين مختلفاتها [ 5 ] ، و غرّز غرائزها [ 6 ] و ألزمها أشباحها [ 7 ] عالما بها قبل
[ 1 ] و في القرآن الكريم : لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير 6 103 .
[ 2 ] المراد بالسكن الأهل و الزوجة ، و في القرآن الكريم :
ما اتخذ صاحبة و لا ولدا 72 : 3 .
[ 3 ] بلا فكر اداره .
[ 4 ] بلا تردد و اضطراب كما يحصل لنا في أعمالنا ، تنزّه سبحانه عن هذا و شبهه .
[ 5 ] مثاله : خلق في الإنسان عقلا و شهوة ، و خلق بعض الملائكة من ثلج و نار .
[ 6 ] الغريزة : الطبيعة ، و المعنى : أودع مخلوقاته الطبائع التي تستقيم بها ، و تلتئم بها مع غيرها .
[ 7 ] الشبح : الشخص ، و المراد : الزم سبحانه الأشخاص ما أودعه فيهم من هذه الغرائز .
[ 28 ]
ابتدائها ، محيطا بحدودها و انتهائها عارفا بقرائنها و أحنائها [ 1 ] ثمّ أنشأ سبحانه فتق الأجواء [ 2 ] و شقّ الأرجاء [ 3 ] ، و سكائك الهواء [ 4 ] فأجرى فيها ماء متلاطما تيّاره [ 5 ] متراكما زخّاره [ 6 ] . حمله على متن الرّيح العاصفة ، و الزّعزع القاصفة [ 7 ] . فأمرها بردّه و سلّطها على شدّه ، و قرنها إلى حدّه [ 8 ]
[ 1 ] عارفا بنفوسها و أعضائها .
[ 2 ] الفتق : الشق و الفصل .
[ 3 ] الأرجاء : الناحية .
[ 4 ] سكائك : جمع سكاكة ، و هو الهواء الملاقي عنان السماء .
[ 5 ] تياره : موجه .
[ 6 ] المتراكم : بعضه فوق بعض . زخاره : امتلاؤه بالماء .
يقال : بحر زاخر : أي ممتلىء .
[ 7 ] الزعزع القاصفة : الشديدة الصوت .
[ 8 ] فأمرها بردّه : بمنعه عن الهبوط . سلّطها على شدّه :
على حبسه و وثاقه ، قرنها إلى حدّه : جعلها مكانا له .
[ 29 ]
الهواء من تحتها فتيق [ 1 ] و الماء من فوقها دفيق .
ثمّ أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبّها [ 2 ] و أدام مربّها [ 3 ] ، و أعصف مجراها ، و أبعد منشأها ،
فأمرها بتصفيق الماء الزّخّار [ 4 ] و إثارة موج البحار ، فمخضته مخض السّقاء [ 5 ] ، و عصفت به عصفها بالفضاء . تردّ أوّله إلى آخره ، و ساجيه إلى مائره [ 6 ] حتّى عبّ عبابه [ 7 ] و رمى بالزّبد
[ 1 ] فتيق : مصبوب مندفق .
[ 2 ] اعتقم مهبها : صار مهبها عقيما لا تلقح سحابا فيمطر ، و لا نباتا فيثمر .
[ 3 ] و أدام مربها : ملازمتها لتحريك الماء .
[ 4 ] تصفيق الماء الزخار : تحويله و قلبه ، و ضرب بعضه ببعض بشدة .
[ 5 ] مخض السقاء : تحريكه لاستخراج الزبد ، و التشبيه هنا لشدة التحريك .
[ 6 ] أي ساكنه على متحركه .
[ 7 ] ارتفع معظمه .
[ 30 ]
ركامه [ 1 ] ، فرفعه في هواء منفتق و جوّ منفهق [ 2 ] فسوّى منه سبع سماوات جعل سفلاهن موجا مكفوفا [ 3 ] و علياهنّ سقفا محفوظا ، و سمكا مرفوعا [ 4 ] ، بغير عمد يدعمها ، و لا دسار ينظمها [ 5 ] ثمّ زيّنها بزينة الكواكب ، و ضياء الثّواقب [ 6 ] و أجرى فيها سراجا مستطيرا [ 7 ] و قمرا منيرا : في فلك دائر ، و سقف سائر ، و رقيم مائر [ 8 ] ثمّ فتق ما بين السّماوات العلا ، فملأهنّ
[ 1 ] ركامه : متراكمه و ما اجتمع منه بعضه فوق بعض .
[ 2 ] منفهق : مفتوح واسع .
[ 3 ] ممنوعا من السيلان بامساكه بقدرته .
[ 4 ] بناءا مرفوعا ، و في القرآن الكريم : رفع سمكها فسوّاها 79 : 28 .
[ 5 ] الدسار : المسمار الذي يشد به الخشب .
[ 6 ] الثواقب : النجوم . و في القرآن الكريم : النجم الثاقب 86 : 3 .
[ 7 ] مستطيرا : منتشرا .
[ 8 ] الرقيم : اللوح ، و المراد به هنا الفلك ، شبّه به لأنه مسطّح فيما يبدو للناظر . و مائر : متحرك .
[ 31 ]
أطوارا من ملائكته منهم سجود لا يركعون ،
و ركوع لا ينتصبون ، و صافّون لا يتزايلون [ 1 ] ،
و مسبّحون لا يسأمون [ 2 ] لا يغشاهم نوم العيون ،
و لا سهو العقول ، و لا فترة الأبدان [ 3 ] ، و لا غفلة النّسيان . و منهم أمناء على وحيه ، و ألسنة إلى رسله ، و مختلفون بقضائه و أمره و منهم الحفظة لعباده [ 4 ] ، و السّدنة لأبواب جنانه [ 5 ] . و منهم الثّابتة في الأرضين السّفلى أقدامهم ، و المارقة
[ 1 ] لا يتزايلون : لا يتفارقون ، و المعنى أنهم قيام صفوفا للعبادة .
[ 2 ] لا يضجرون .
[ 3 ] هو ما يعتريها من كسل و ملل .
[ 4 ] هم الموكلون بالخلائق يحفظونهم من المهالك . و في القرآن الكريم : له معقبات من بين يديه و من خلفه .
[ 5 ] هم الموكلون بها ، و الخدم لأهلها .
[ 32 ]
من السّماء العليا أعناقهم ، و الخارجة من الأقطار أركانهم ، و المناسبة لقوائم العرش أكتافهم [ 1 ] .
ناكسة دونه أبصارهم [ 2 ] متلفّعون تحته [ 3 ] بأجنحتهم ،
مضروبة بينهم و بين من دونهم حجب العزّة ،
و أستار القدرة [ 4 ] . لا يتوهّمون ربّهم بالتّصوير ، و لا يجرون عليه صفات المصنوعين ، و لا يحدّونه بالأماكن ، و لا يشيرون إليه بالنّظائر .
[ 1 ] هذه صفة لبعض الملائكة و ضخامة أجسامهم ،
فأقدامهم في أسفل أرض ، و أعناقهم خرقت السماء السابعة ، فسبحان الخالق المصوّر ما أعظمه .
[ 2 ] أي دون العرش و هذا وصف حالهم في الخشوع و الخضوع و العبادة .
[ 3 ] ملتفعون تحته : تلفع به : اشتمل به ، و المراد أنهم تحت العرش .
[ 4 ] أي بين الملائكة و الإنس و الجن حجب و استار خلقها رب العزّة جلّ جلاله تمنع من الاطلاع عليهم ،
و الاتصال بهم .
[ 33 ]