أمره قضاء و حكمة ، و رضاه أمان و رحمة [ 1 ] ،
يقضي بعلم ، و يعفو بحلم [ 2 ] . اللّهمّ لك الحمد على ما تأخذ و تعطي ، و على ما تعافي و تبتلي ،
حمدا يكون أرضى الحمد لك ، و أحبّ الحمد إليك ، و أفضل الحمد عندك ، حمدا يملأ ما خلقت ، و يبلغ ما أردت ، حمدا لا يحجب
[ 1 ] أمره قضاء و حكمة . . . : القضاء : الحتم . و حكمة : طبقا للمصلحة و ان خفيت : و رضاه أمان و رحمة : أمان : من العذاب و الهوان . و رحمة : يدرك به السعادة الكبرى .
[ 2 ] يقضي بعلم . . . : يحكم بمقتضى علمه بما يصلح به عباده . و يعفو بحلم : يصفح عنهم مع الاقتدار على أخذهم ، حلما منه و تكرّما .
[ 9 ]
عنك ، و لا يقصر دونك [ 1 ] ، حمدا لا ينقطع عدده ، و لا يفنى مدده ، فلسنا نعلم كنه [ 2 ] عظمتك ، إلاّ أنّا نعلم أنّك حيّ قيّوم لا تأخذك سنة [ 3 ] و لا نوم ، لم ينته إليك نظر [ 4 ] ، و لم يدركك بصر ، أدركت الأبصار ، و أحصيت الأعمار ، و أخذت بالنّواصي [ 5 ] و الأقدام ، و ما الّذي نرى من خلقك و نعجب له من قدرتك ،
[ 1 ] لا يقصر دونك : لا يحجب عنك . و المراد : تنزيه العمل من الرياء و العجب و غير ذلك من الآفات التي ترد بها الأعمال .
[ 2 ] الكنه : جوهر الشيء و حقيقته . و المراد : لسنا نعلم حقيقة عظمتك .
[ 3 ] حيّ . . . : لا يعتريك فناء . و القيوم : القائم بتدبير خلقه من انشائهم ، و إيصال أرزاقهم إليهم . و السنة : النعاس .
و المراد : لا يغفل عن خلقه .
[ 4 ] لم ينته إليك نظر : تنزّهت أن تراك العيون لاَ تُدرِكُهُ الأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ 6 : 103 .
[ 5 ] النواصي جمع ناصية : مقدّم الرأس .
[ 10 ]
و نصفه من عظيم سلطانك ، و ما تغيّب عنّا منه ،
و قصرت أبصارنا عنه ، و انتهت عقولنا دونه ،
و حالت ستور الغيوب بيننا و بينه ، أعظم [ 1 ] فمن فرّغ قلبه ، و أعمل فكره ، ليعلم كيف أقمت عرشك ، و كيف ذرأت [ 2 ] خلقك ، و كيف علّقت في الهواء سمواتك ، و كيف مددت على مور [ 3 ] الماء أرضك ، رجع طرفه حسيرا ، و عقله مبهورا ، و سمعه والها [ 4 ] ، و فكره حائرا .
[ 1 ] و حالت سواتر الغيوب بيننا و بينه أعظم : ما غاب عنّا من عظم مخلوقاتك أكبر مما نشاهده . و مصداق كلامه ( عليه السلام ) اكتشاف العلماء في عصرنا لكواكب أكبر حجما من الشمس ملايين المرّات ، و بيننا و بينها ملايين السنين الضوئية ، تعالى الخلاّق العليم .
[ 2 ] ذرأت : خلقت .
[ 3 ] المور : الموج .
[ 4 ] حسيرا . . . : كالا من كثرة المراجعة يَنقَلِب إلَيكَ البَصَر خَاسِئاً وَ هُوَ حَسِير 67 : 4 . مبهورا : مغلوبا . والها : فاقدا للشعور .
[ 11 ]
منها : يدّعي بزعمه أنّه يرجو اللّه كذب و العظيم ما باله لا يتبيّن رجاؤه في عمله ، فكلّ من رجا عرف رجاؤه في عمله [ 1 ] ، إلاّ رجاء اللّه فإنّه مدخول ، و كلّ خوف محقّق ، إلاّ خوف اللّه فإنّه معلول [ 2 ] : يرجو اللّه في الكبير ، و يرجو العباد في الصّغير ، فيعطي العبد ما لا يعطي الرّبّ [ 3 ] ، فما بال اللّه ، جلّ ثناؤه ، يقصّر به عمّا
[ 1 ] لا يتبين رجاؤه في عمله : ان الراجي لنوال شخص و احسانه يمتثل أمره ، و يجتهد في كسب رضاه ، بينما أعمالكم تدل على عدم رجائكم ، لمخالفتكم لمن ترجونه .
[ 2 ] مدخول . . . : فيه شبهة و ريبة وَ لاَ تَتَّخِذُوا أَيمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلّ قَدَمُ بَعدَ ثُبُوتِهَا 16 : 94 . معلول : غير خالص .
[ 3 ] يرجو اللّه في الكبير . . . : لنعيم الآخرة الذي لا يزول .
و يرجو العباد في الصغير : في بعض أمور الدنيا الفانية فيعطي العبد ما لا يعطي الربّ : يجتهد في ارضاء من رجاه من المخلوقين ، و لا يهتمّ بتحصيل رضاء الخالق .
[ 12 ]
يصنع لعباده ؟ أتخاف أن تكون في رجائك له كاذبا ، أو تكون لا تراه للرّجاء موضعا ، و كذلك إن هو خاف عبدا من عبيده أعطاه من خوفه ما لا يعطي ربّه ، فجعل خوفه من العباد نقدا ، و خوفه من خالقهم ضمارا [ 1 ] و وعدا و كذلك من عظمت الدّنيا في عينه و كبر موقعها في قلبه آثرها على اللّه فانقطع إليها ، و صار عبدا لها .
و قد كان في رسول اللّه ، ( صلّى اللّه عليه و آله ) ، كاف لك في الأسوة [ 2 ] و دليل لك على ذمّ الدّنيا و عيبها ، و كثرة مخازيها و مساويها ، إذ قبضت عنه أطرافها ، و وطّئت لغيره أكنافها ، و فطم
[ 1 ] الضمار : هو الذي لا يرجى من الموعود .
[ 2 ] الأسوة : الاقتداء .
[ 13 ]
عن رضاعها ، و زوي عن زخارفها [ 1 ] ، و إن شئت ثنّيت بموسى كليم اللّه ، ( صلّى اللّه عليه و آله ) ،
إذ يقول : رَبِّ إنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٍ و اللّه ما سأله إلاّ خبزا يأكله ، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض . و لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاف بطنه لهزاله و تشذّب لحمه [ 2 ] و إن شئت ثلّثت بداود ، ( صلّى اللّه عليه و سلّم ) ،
صاحب المزامير ، و قارىء أهل الجنّة ، فلقد كان يعمل سفائف الخوص [ 3 ] بيده و يقول لجلسائه :
[ 1 ] قبضت عنه أطرافها . . . : قبض عليه الرزق ضيّقه .
و أكنافها : جوانبها . ففطم عن رضاعها : استغنى عنها .
و زوى الشيء : طواه و جمعه و قبضه . و الزخرف : الذهب .
[ 2 ] من شفيف صفاق بطنه : الشفيف : ما رقّ منه فلم يحجب البصر عن إدراك ما رآه . و صفاق بطنه : الجلد الباطن تحت الجلد الظاهر . و تشذب لحمه : تفرّقه .
[ 3 ] سفائف الخوص : ما يعمل من خوص النخل من حصر و غيرها .
[ 14 ]
أيّكم يكفيني بيعها ؟ و يأكل قرص الشّعير من ثمنها ، و إن شئت قلت في عيسى ابن مريم ،
( عليه السلام ) ، فلقد كان يتوسّد الحجر و يلبس الخشن ، و يأكل الجشب و كان إدامه الجوع ،
و سراجه باللّيل القمر ، و ظلاله [ 1 ] في الشّتاء مشارق الأرض و مغاربها ، و فاكهته و ريحانه ما تنبت الأرض للبهائم ، و لم تكن له زوجة تفتنه [ 2 ] ، و لا ولد يحزنه ، و لا مال يلفته ، و لا طمع يذلّه ، دابّته رجلاه ، و خادمه يداه .
فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر ( صلّى اللّه عليه
[ 1 ] جشب . . . الرجل : غلظ مأكله و خشن . و الأدام : الطعام الذي يؤكل مع الخبز . و ظلاله : ما يستظلّ به من الشمس .
[ 2 ] تفتنه . . . : يبتلى بها وَ اعلَمُوا أَنَّما أَمْوَالكُم وَ أَولادُكُمْ فِتْنَةٌ 8 : 28 . و لفت الشيء : لواه الى غير وجهه ، و صرفه ذات اليمين و ذات الشمال .
[ 15 ]
و آله ) ، فإنّ فيه أسوة لمن تأسّى ، و عزاء لمن تعزّى ، و أحبّ العباد إلى اللّه المتأسّي بنبيّه ،
و المقتصّ لأثره [ 1 ] : قضم الدّنيا قضما [ 2 ] و لم يعرها طرفا ، أهضم أهل الدّنيا كشحا ، و أخمصهم من الدّنيا بطنا [ 3 ] ، عرضت عليه الدّنيا فأبى أن يقبلها ، و علم أنّ اللّه سبحانه أبغض شيئا فأبغضه ، و حقر شيئا فحقره ، و صغّر شيئا فصغّره ، و لو لم يكن فينا إلاّ حبّنا ما أبغض اللّه
[ 1 ] فتأس بنبيك . . . : أقتد به لَقَد كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسوةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَ اليَوْمَ الآخِرَ وَ ذَكَرَ اللّهَ كَثيراً 33 :
21 . المقتصّ لأثره : يأخذ ذلك للعمل و التطبيق .
[ 2 ] قضم الشيء : كسره باطراف أسنانه . و المراد : بيان قلة تناوله منها .
[ 3 ] هضم هضما : خمص بطنه ، و لطف كشحه ، و قلّ اتّساع جنبيه . و الكشح : ما بين الخاصرة الى الضلع الخلف .
و أخمصهم : أخلاهم .
[ 16 ]
و رسوله ، و تعظيمنا ما صغّر اللّه و رسوله ، لكفى به شقاقا للّه ، و محادّة [ 1 ] عن أمر اللّه و لقد كان ،
( صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ) ، يأكل على الأرض ، و يجلس جلسة العبد ، و يخصف بيده نعله ، و يرقع بيده ثوبه ، و يركب الحمار العاري ،
و يردف خلفه [ 2 ] ، و يكون السّتر على باب بيته فتكون فيه التّصاوير فيقول : يا فلانة لإحدى أزواجه غيّبيه عنّي ، فإنّي إذا نظرت إليه ذكرت
[ 1 ] و لو لم يكن فينا إلاّ حبّنا ما أبغض اللّه و رسوله . . . : لو لم يكن في حبّ الدنيا ، و الاهتمام بها ، و السعي لها ، إلاّ أنّها مبغوضة عند اللّه و رسوله لكفى في ذلك عيبا . و شقاقا :
مخالفا وَ مَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَ يَتَّبع غَيرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَ نُصّلِهِ جَهَنَّمَ وَ سَاءَتْ مَصِيرا 4 : 115 . و محادّة : مخالفة في عناد .
[ 2 ] يخصف نعله . . . : يصلحها . و يردف خلفه : يركب معه آخر .
[ 17 ]
الدّنيا و زخارفها [ 1 ] فأعرض عن الدّنيا بقلبه ،
و أمات ذكرها من نفسه ، و أحبّ أن تغيب زينتها عن عينه ، لكيلا يتّخذ منها رياشا ، و لا يعتقدها قرارا [ 2 ] ، و لا يرجو فيها مقاما ، فأخرجها من النّفس ، و أشخصها [ 3 ] عن القلب ، و غيّبها عن البصر ، و كذلك من أبغض شيئا أبغض أن ينظر إليه ، و أن يذكر عنده .
و لقد كان في رسول اللّه ، ( صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ) ، ما يدلّك على مساوي الدّنيا و عيوبها ، إذ جاع فيها مع خاصّته ، و زويت عنه
[ 1 ] زخارفها : زينتها .
[ 2 ] رياشا . . . : لباسا فاخرا . و عقد قلبه على الشيء : لزمه .
و قرارا : مستقرا .
[ 3 ] اشخصها : أبعدها .
[ 18 ]
زخارفها مع عظيم زلفته [ 1 ] . فلينظر ناظر بعقله أكرم اللّه محمّدا بذلك أم أهانه ؟ فإن قال :
« أهانه » فقد كذب و أتى بالإفك العظيم ، و إن قال : « أكرمه » فليعلم أنّ اللّه قد أهان غيره حيث بسط الدّنيا له ، و زواها عن أقرب النّاس منه ، فتأسّى متأسّ بنبيّه و اقتصّ أثره ، و ولج مولجه [ 2 ] و إلاّ فلا يأمن الهلكة ، فإنّ اللّه جعل محمّدا ، ( صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ) ، علما
[ 1 ] خاصته . . . : أهل بيته الذين خرج بهم لمباهلة نصارى نجران ، و هم عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين ( عليهم السلام ) و زويت : صرفت . و الزلفى : المنزلة و الدرجة الرفيعة .
[ 2 ] التأسي . . . : الاقتداء . و اقتصّ أثره : اتّبع منهجه . و ولج مولجه : دخل مدخله .
[ 19 ]
للسّاعة [ 1 ] و مبشّرا بالجنّة ، و منذرا [ 2 ] بالعقوبة :
خرج من الدّنيا خميصا [ 3 ] و ورد الآخرة سليما ، لم يضع حجرا على حجر [ 4 ] حتّى مضى لسبيله ،
و أجاب داعي ربّه ، فما أعظم منّة اللّه عندنا حين أنعم علينا به سلفا نتّبعه ، و قائدا نطأ عقبه [ 5 ] و اللّه
[ 1 ] علما للساعة : دليلا على قربها يَسئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إنَّما عِلمُهَا عِنْدَ اللّهِ وَ مَا يُدرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قرِيباً 33 : 63 .
[ 2 ] مبشّرا بالجنّة إنَّا أَرسَلنَاكَ شَاهداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً 48 : 8 .
[ 3 ] خميصا : جائعا .
[ 4 ] لم يضع حجرا على حجر : لم يبن بيتا ، و لم يتخذ عقارا ،
و كذلك كانت سيرة الامام ( عليه السلام ) ، فلما سكن الكوفة ، و جعلها عاصمة له ، نزل في بيت ابن اخته جعدة بن هبيرة المخزومي .
[ 5 ] سلفا نتبعه . . . : سلف الانسان من تقدمه بالموت من آبائه و ذوي قرابته ، و المراد : انتهاج سيرته ، و ترسم خطاه . و نطأ عقبه : العقب : مؤخّر القدم . و المراد : نسلك سلوكه ،
و نتبع أثره .
[ 20 ]
لقد رقّعت مدرعتي هذه حتّى استحييت من راقعها و لقد قال لي قائل : ألا تنبذها عنك ؟ فقلت :
اغرب عنّي « فعند الصّباح يحمد القوم السّرى » [ 1 ] .