أمّا بعد ، فقد جعل اللَّه لي عليكم حقّا بولاية أمركم ، و لكم عليّ من الحقّ مثل الّذي لي عليكم ، فالحقّ أوسع الأشياء في التّواصف ،
و أضيقها في التّناصف [ 1 ] ، لا يجري لأحد إلاّ
[ 1 ] فالحق أوسع الأشياء في التواصف . . . : أن التفوّه بالحق ، و إدعاء الجميع أن لو ملك الأمر سار على نهج الحق سهل على الألسنة . و أضيقها في التناصف : و عند العمل و التطبيق يتضايقون به أشد المضايقة .
[ 81 ]
جرى عليه ، و لا يجري عليه إلاّ جرى له [ 1 ] . و لو كان لأحد أن يجري له و لا يجري عليه لكان ذلك خالصا للَّه سبحانه دون خلقه ، لقدرته على عباده ، و لعدله في كلّ ما جرت عليه صروف قضائه ، و لكنّه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه ،
و جعل جزاءهم عليه مضاعفة الثّواب تفضّلا منه و توسّعا بما هو من المزيد أهله .
ثمّ جعل سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها
[ 1 ] لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه ، و لا يجري عليه إلاّ جرى له :
لا يتوجب عليه حق إلاّ وجب له مثله . و المراد : أن اللَّه سبحانه و تعالى جعل الحقوق متقابلة ، فللوالد حق على الولد ، و للولد حق على الوالد ، و هكذا بقية الحقوق ،
و المفروض بالمسلم كما يطالب و يأخذ حقّه ان يراعي و يعطي حقوق الآخرين . و لمزيد التعرّف على هذه الحقوق أقرأ رسالة الحقوق للإمام زين العابدين عليه السلام .
[ 82 ]
لبعض النّاس على بعض ، فجعلها تتكافأ في وجوهها [ 1 ] ، و يوجب بعضها بعضا ، و لا يستوجب بعضها إلاّ ببعض [ 2 ] . و أعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرّعيّة ، و حقّ الرّعيّة على الوالي ، فريضة فرضها اللَّه سبحانه لكلّ على كلّ ، فجعلها نظاما لألفتهم ، و عزّا لدينهم ، فليست تصلح الرّعيّة إلاّ بصلاح الولاة [ 3 ] ، و لا يصلح الولاة إلاّ باستقامة
[ 1 ] تتكافأ في وجوهها : تتساوى .
[ 2 ] و لا يستوجب بعضها إلاّ ببعض : إذا أخلّ المسلم بما وجب عليه من الحقوق سقط حقه عن الآخرين ، فالحاكم الظالم لا تجب طاعته ، و المرأة الناشز لا تجب لها النفقة .
[ 3 ] فليست تصلح الرعيّة إلاّ بصلاح الولاة الخ : و هي المشكلة الكبرى التي يعاني منها المسلمون اليوم ، فقد فسد حكامهم و ساروا خلف المستعمر الكافر ، و أنجرّت الرعيّة الى التدهور الأخلاقي ، و البعد عن القيم .
[ 83 ]
الرعيّة ، فإذا أدّت الرّعيّة إلى الوالي حقّه ، و أدّى الوالي إليها حقّها ، عزّ الحقّ بينهم [ 1 ] ، و قامت مناهج الدّين ، و اعتدلت معالم العدل ، و جرت على أذلالها السّنن [ 2 ] ، فصلح بذلك الزّمان ،
و طمع في بقاء الدّولة ، و يئست مطامع الأعداء .
و إذا غلبت الرّعيّة واليها ، أو أجحف [ 3 ] الوالي برعيّته ، اختلفت هنالك الكلمة ، و ظهرت معالم الجور ، و كثر الإدغال في الدّين ، و تركت محاجّ السّنن [ 4 ] ، فعمل بالهوى [ 5 ] ، و عطّلت الأحكام
[ 1 ] عزّ الحق بينهم : قوي و سلم من الذل .
[ 2 ] و جرت على أذلالها السنن : سارت الأمور بمجاريها الطبيعية .
[ 3 ] اجحف : اشتد في الاضرار به .
[ 4 ] كثر الأدغال في الدين . . . : الداغل : الذي يبغي أصحابه الشر ، و يضمر لهم و يحسبونه يريد لهم الخير . و محاج جمع محجّة : الجادة . و السنن جمع سنّة : ما صحّ عن الرسول الأعظم صلى اللَّه عليه و آله من قول و فعل . و المراد : تركوا خط الإستقامة .
[ 5 ] عمل بالهوى : ما تميل اليه نفوسهم دون الإلتزام بخط الشريعة الغراء .
[ 84 ]
و كثرت علل النّفوس [ 1 ] ، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل ، و لا لعظيم باطل فعل [ 2 ] فهنالك تذلّ الأبرار ، و تعزّ الأشرار ، و تعظم تبعات اللَّه عند العباد [ 3 ] ، فعليكم بالتّناصح في ذلك و حسن التّعاون عليه ، فليس أحد و إن اشتدّ على رضا
[ 1 ] و كثرت علل النفوس : هي الأمراض التي تصيب النفس ،
و علاجها أعسر من أمراض الجسم . و المراد بها الحسد ،
و العجب ، و الكبرياء ، و غيرها .
[ 2 ] فلا يستوحش بعظيم حق عطّل . . . : فلا يستغرب حينئذ بتعطيل الحقوق . و لا لعظيم باطل فعل : فبتكرار ذلك ينتفي العجب منه .
[ 3 ] و تعظم تبعات اللَّه عند العباد : العقوبات التي استوجبوها
[ 85 ]
اللَّه حرصه [ 1 ] ، و طال في العمل اجتهاده ببالغ حقيقة ما اللَّه أهله من الطّاعة [ له ] و لكن من واجب حقوق اللَّه على العباد النّصيحة بمبلغ جهدهم ، و التّعاون على إقامة الحقّ بينهم ، و ليس امرؤ و إن عظمت في الحقّ منزلته [ 2 ] ، و تقدّمت في الدّين فضيلته بفوق أن يعان على ما حمّله اللَّه من حقّه ، و لا أمرؤ و إن صغّرته النّفوس ،
و اقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك ، أو
[ 1 ] فليس أحد و ان اشتدّ على رضا اللَّه حرصه الخ : لا يمكن لعبد و ان اجتهد في العبادة أن يبلغ مدى عبادة اللَّه تعالى ،
و الغاية في طاعته ، و في سيرة الإمام عليه السلام و ما ورد عنه من أدعية أكبر شاهد .
[ 2 ] و ليس أمرؤ و إن عظمت في الحق منزلته الخ أن أي شخص مهما ارتفعت منزلته ، و سمت مرتبته ، مستغن عن المعونة على اداء ما كلفه اللَّه تعالى .
[ 86 ]
يعان عليه [ 1 ] .
فأجابه عليه السلام رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه و يذكر سمعه و طاعته له ، فقال عليه السلام :
إنّ من حقّ من عظم جلال اللَّه في نفسه ،
و جلّ موضعه من قلبه ، أن يصغر عنده لعظم ذلك كلّ ما سواه [ 2 ] ، و إنّ أحقّ من كان كذلك
[ 1 ] و ان صغّرته النفوس . . . : لم تحفل به . و اقتحمته العيون :
احتقرته . بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه : أن ايّ مسلم و إن صغرت منزلته يجب أن يعين على الحق ، و يعان عليه .
[ 2 ] جلاله . . . : عظمته . و جلّ موضعه من قلبه : عظم في نفسه . أن يصغر عنده لعظم ذلك كل ما سواه : يستصغر غيره ، و لا يخاف أحدا إلاّ منه .
[ 87 ]
لمن عظمت نعمة اللَّه عليه [ 1 ] ، و لطف إحسانه إليه ، فإنّه لم تعظم نعمة اللَّه على أحد إلاّ ازداد حقّ اللَّه عليه عظما [ 2 ] ، و إنّ من أسخف حالات الولاة عند صالح النّاس أن يظنّ بهم حبّ الفخر ، و يوضع أمرهم على الكبر [ 3 ] ، و قد كرهت أن يكون جال في ظنّكم أنّي أحبّ الإطراء ،
[ 1 ] و ان أحق من كان كذلك لمن عظمت نعمة اللَّه عليه : و ان أولى الناس بتعظيم اللَّه جلّ جلاله من كثرت عليه نعمه ،
و غمره بإحسانه .
[ 2 ] فإنه لم تعظم نعمة اللَّه على أحد إلاّ ازداد حق اللَّه عليه عظما : كلما زادت النعم زادت الحقوق ، و وجب المزيد من الشكر .
[ 3 ] أن يظن بهم حب الفخر . . . : و الثناء عليهم ، و المدح لهم . و يوضع أمرهم على الكبر : على الإستعلاء و الكبرياء .
[ 88 ]
و استماع الثّناء ، و لست بحمد اللَّه كذلك ، و لو كنت أحبّ أن يقال ذلك لتركته انحطاطا [ 1 ] للَّه سبحانه عن تناول ما هو أحقّ من العظمة و الكبرياء ، و ربّما استحلى النّاس الثّناء بعد البلاء [ 2 ] ، فلا تثنوا عليّ بجميل ثناء لإخراجي نفسي إلى اللَّه [ 3 ] و إليكم من التّقيّة في حقوق لم أفرغ
[ 1 ] إنحطاطا : تصاغرا و تواضعا . و المراد : لو كان شأني حب الثناء كان يجب عليّ تركه طلبا لمرضاة اللَّه تعالى .
[ 2 ] و ربما استحلى النّاس الثناء بعد البلاء : يحب البعض المديح عند قيامهم بعمل مجهد كالجهاد و غيره .
[ 3 ] لإخراجي نفسي الى اللَّه . . الخ : هي حقوق اللَّه سبحانه ،
و حقوق عباده . و فرائض لا بد من إمضائها : لا بد من إقامتها و المراد : لا استوجب منكم مدحا على حقوق و واجبات مفروضة عليّ . نهاهم أن يسلكوا معه سلوك الشعب مع الحاكم الجبّار ، من التعظيم و الإحترام . و يقول ضرار بن ضمرة الكناني لمعاوية و قد سأله أن يصف له الإمام عليه السلام : كان فينا كأحدنا يدنينا إذا أتيناه ، و يجيبنا إذا سألناه ، و يأتينا إذا دعوناه ، و ينبئنا إذا استنبأناه .
[ 89 ]
من أدائها ، و فرائض لا بدّ من إمضائها ، فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة ، و لا تتحفّظوا منّي بما يتحفّظ به عند أهل البادرة ، و لا تخالطوني بالمصانعة [ 1 ] ، و لا تظنّوا بي استثقالا في حقّ قيل لي ، و لا التماس إعظام لنفسي [ 2 ] ، فإنّه من
[ 1 ] فلا تكلموني بما تكلّم به الجبابرة ؟ . . . : من التعظيم و التبجيل . و لا تتحفظوا مني بما يتحفظ به أهل البادرة :
تتحفظوا : تحترزوا . و البادرة : ما يبدر من رجل عند غضبه من خطأ . و لا تخالطوني بالمصانعة : المداراة و الموافقة على الرأي و ان كان خطأ . و لا لوم بعد هذا على الأستاذ الكبير جورج جرداق حيث سمّى موسوعته القيمة ( علي بن أبي طالب صوت العدالة الإجتماعية ) .
[ 2 ] و لا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي . . . : نهاهم أن يظنوا به الكره لإستماع الحق فيخفوه عنه ، فتضيع حينئذ بعض الحقوق . و لا التماس أعظام لنفسي : و أيضا لا تظنّوا بي أني أحب و أرغب أن تعظموني .
[ 90 ]
استثقل الحقّ أن يقال [ 1 ] له ، أو العدل أن يعرض عليه ، كان العمل بهما أثقل عليه ، فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ ، أو مشورة بعدل ، فإنّي لست في نفسي بفوق أن أخطىء [ 2 ] ، و لا آمن ذلك من فعلي إلاّ أن يكفي اللَّه من نفسي ما هو أملك به منّي [ 3 ] ، فإنّما أنا و أنتم عبيد مملوكون لربّ لا ربّ غيره : يملك منّا ما لا نملك من أنفسنا ،
[ 1 ] فإنّه من استثقل الحق أن يقال له . . . : الخ . إن من يصعب عليه إستماع الحق ، أو أن يعرض عليه العدل ، فان العمل بهما يكون أشق و أصعب .
[ 2 ] فلا تكفّوا عن مقالة بحق . . . : لا تتركوا قول الحق .
و مشورة بعدل : أو تشيروا بما فيه تحقيق العدالة . فإني لست في نفسي بفوق أن أخطىء : نظير قول الصدّيق عليه السلام : وَ مَا ابرىءُ نَفسي إنَّ النَّفس لأمَّارَةُ بالسُّوءِ إلاّ مَا رَحِمَ رَبّي 12 : 53 .
[ 3 ] ما هو أملك به مني : يعصمني من الخطأ .
[ 91 ]
و أخرجنا ممّا كنّا فيه إلى ما صلحنا عليه [ 1 ] ،
فأبدلنا بعد الضّلالة بالهدى ، و أعطانا البصيرة بعد العمى .