( 99 ) و من خطبة له عليه السلام

انظروا إلى الدّنيا نظر الزّاهدين فيها ، الصّادفين عنها [ 2 ] فإنّها و اللّه عمّا قليل تزيل الثّاوى [ 3 ] السّاكن ، و تفجع المترف الآمن ، لا يرجع ما تولّى منها فأدبر [ 4 ] ، و لا يدرى ما هو آت منها فينتظر ،

[ 1 ] و سيبتلى أهلك بالموت الاحمر : القتل . و الجوع الأغبر : هو أشد الجوع ، يغير معه الوجه .

[ 2 ] الصادفين عنها : المعرضين .

[ 3 ] تزيل الثاوي . . . : المقيم . و الفجيعة : المصيبة .

و المترف : المنعم .

[ 4 ] لا يرجع ما تولى منها فادبر : المراد بذلك زمن الشباب و القوّة .

[ 41 ]

سرورها مشوب [ 1 ] بالحزن ، و جلد الرّجال فيها إلى الضّعف و الوهن ، فلا يغرّنّكم كثرة ما يعجبكم فيها ، لقلة ما يصحبكم منها [ 2 ] .

رحم اللّه امرأ تفكّر فاعتبر [ 3 ] ، و اعتبر فأبصر ،

فكأنّ ما هو كائن من الدّنيا [ 4 ] عن قليل لم يكن و كأنّ ما هو كائن من الآخرة عمّا قليل لم يزل ،

[ 1 ] مشوب . . . : مخلوط . و المراد : لا تجد احدا مهما تعاظمت نعمه إلاّ و هو مبتلى . و الجلد : الصلب القوي . و الوهن : الضعف .

[ 2 ] فلا يغرنكم كثرة ما يعجبكم فيها لكثرة ما يصحبكم منها : لا تغتروا بملكها و نعيمها لانكم ستفارقوه ، و لا يصحبكم منها إلاّ الكفن .

[ 3 ] فاعتبر . . . : أتعظ بغيره . و المراد : تفكر فيما يصلح به نفسه ، ثم أبصر طريق النجاة فسلكه .

[ 4 ] فكأن ما هو كائن من الدنيا . . . : بالموت تنطوي للانسان صفحة الدنيا و ان ملكها باسرها ، فتكون عنده كأن لم تكن ، فينشغل بعالم الآخرة و مكابداته و كأنه لم يعرف غيره .

[ 42 ]

و كلّ معدود منقض [ 1 ] ، و كلّ متوقّع آت ، و كلّ آت قريب دان .

( منها ) العالم من عرف قدره [ 2 ] ، و كفى بالمرء جهلا ألاّ يعرف قدره ، و إنّ من أبغض الرّجال إلى اللّه لعبدا وكله اللّه إلى نفسه [ 3 ] جائرا [ 4 ] عن قصد السّبيل ، سائرا بغير دليل ،

إن دعي إلى حرث الدّنيا [ 5 ] عمل ، و إن دعي إلى

[ 1 ] و كل معدود منقض . . . : المعدود : هو العمر ، و هو منقض و ان كان عمر نوح عليه السلام . و المتوقع :

الموت ، و كل آت نحوك و أنت سائر اليه ، فقريب ما يكون اللقاء .

[ 2 ] العالم من عرف قدره : لا يتجاوز منزلته و مرتبته ، و يقول الامام الصادق عليه السلام : ما هلك امرؤ عرف قدره .

[ 3 ] و كله اللّه إلى نفسه : انه اعتمد في أموره على نفسه ، و توجّه بحوائجه إلى غير اللّه جلّ جلاله ، فتركه حيث اتجه .

[ 4 ] جائرا . . . : مائلا عن طريق الهدى . قصد السبيل :

الطريق المستقيم .

[ 5 ] حرث الدنيا . . . : ما يعمل لها و لاجلها ، و للانتفاع فيها . و حرث الآخرة : الأعمال التي تنفع فيها .

[ 43 ]

حرث الآخرة كسل كأن ما عمل له واجب عليه [ 1 ] و كأنّ ماونى فيه ساقط عنه .

( منها ) و ذلك زمان لا ينجو فيه إلاّ كلّ مؤمن نومة [ 2 ] : إن شهد لم يعرف ، و إن غاب لم يفتقد ،

أولئك مصابيح الهدى ، و أعلام السّرى [ 3 ] ليسوا بالمساييح ، و لا المذاييع البذر ، أولئك يفتح اللّه لهم أبواب رحمته ، و يكشف عنهم ضرّاء [ 4 ] نقمته .

[ 1 ] كأن ما عمل له واجب عليه . . . : إنّ اهتمامنا بالدنيا و العمل لها كأنّه مما أوجبه اللّه علينا ، علما بأنا نهينا عن ذلك أشدّ النهي ، و تسامحنا في أعمال الآخرة ، و تهاوننا في أدائها كأننا لم نكلف بها .

[ 2 ] نومة : خامل الذكر ، إن حضر لا يعد ، و إن غاب لا يفتقد .

[ 3 ] أعلام السرى : السرى : السير في عامة الليل .

و أعلامه : ادلاؤه . و المراد : بمثل هؤلاء يهتدي المؤمنون ، بل بهم يحفظون ، و بهم يستدفع البلاء .

[ 4 ] الضراء : الشدّة و البلاء .

[ 44 ]

أيّها النّاس ، سيأتي عليكم زمان يكفأ [ 1 ] فيه الإسلام كما يكفأ الإناء بما فيه أيّها النّاس ، إنّ اللّه قد أعاذكم [ 2 ] من أن يجور عليكم ، و لم يعذكم من أن يبتليكم و قد قال جلّ من قائل :

إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ . قال الشريف :

أمّا قوله عليه السّلام : « كل مؤمن نومة » فإنّما أراد به الخامل الذّكر ، القليل الشرّ ، و المساييح :

جمع مسياح ، و هو الذي يسيح بين النّاس بالفساد

[ 1 ] يكفأ : يقلب . و المراد : إبتعاد المسلمين عنه ، و تغيير علماء السوء لمفاهيمه و أحكامه مجاملة للظالمين .

[ 2 ] أعاذكم . . . : عصمكم . و المعنى : إنّ اللّه جلّ جلاله تنزه عن الظلم إنَّ اللّه لا يظلمُ النَّاسَ شَيئاً وَ لكنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُم يظلمُونَ 10 : 44 . و أمر عباده بالاتصاف بالعدل إنَّ اللَّهَ يأمُرُ بِالعدلِ وَ الاحسانِ 16 : 90 .

و أقتضت حكمته جلّ جلاله ان يبتلّي عباده بالمصائب و المحن تكفيرا لذنوبهم ، و رفعا لدرجاتهم .

[ 45 ]

و النمائم ، و المذاييع : جمع مذياع ، و هو الذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها و نوّه بها ، و البذر : جمع بذور ، و هو الذي يكثر سفهه ، و يلغو منطقه .