و تجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة غيرها ما وحّده من كيّفه ، و لا حقيقته أصاب من مثّله ، و لا إيّاه عنى من شبّهه ، و لا صمده من أشار إليه و توهّمه [ 1 ] . كلّ معروف بنفسه مصنوع ،
[ 1 ] ما وحده من كيّفه . . . : ما آمن بتوحيده من جعل له كيفية و هيئة . و لا حقيقته أصاب من مثله : و لا أدرك صفته من جعل له مثيلا لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ 42 :
11 . و لا إياه عنى من شبهه : بتشبيهه خرج عن نعته و وصفه . و لا صمده من أشار إليه و توهّمه : صمده : قصده .
و المراد : تنزّهه من أن تراه العيون ، أو تحيط به الأوهام ،
و انّما تدركه العقول السليمة بالفطرة الصحيحة ، مستدلّة بآلائه ، و عجائب مخلوقاته .
[ 68 ]
و كلّ قائم في سواه معلول [ 1 ] ، فاعل لا باضطراب آلة ، مقدّر لا بجول فكرة ، غنيّ لا باستفادة [ 2 ] .
لا تصحبه الأوقات ، و لا ترفده الأدوات [ 3 ] ، سبق
[ 1 ] كل معروف بنفسه مصنوع . . . : كل من تعرف حقيقته تعرف أجزاؤه ، و كل ذي جزء مركّب ، و المركّب محتاج الى صانع خالق . و كل قائم في سواه معلول : ان جميع الكائنات قائمة بعلّة ، أي بمقوّم يقيمها ، فالبدن بالهيكل العظمي ، و الخيمة بالعمود ، و السقف بالجدران ، و هكذا ، أما هو جلّ شأنه فقائم بذاته ، و جميع ما في الوجود قائم به وَ يُمسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إلاّ بِإذْنِهِ 22 : 65 .
[ 2 ] فاعل لا باضطراب آلة . . . : تنزّه عن مشابهة المخلوقين في استعانتهم بأعمالهم و صنعهم بآلة ، و اللّه تعالى شأنه اذا أراد شيئا قال له : كن فيكون . مقدّر لا بجول فكرة : تنزّه عن صفات المخلوقين في جولان الفكر ، و عمل الرأي تمهيدا لأعمالهم . غنيّ لا باستفادة : غنيّ بذاته ، بينما العباد غناهم مكتسب ، و هم مفتقرون إليه .
[ 3 ] لا تصحبه الأوقات . . . : تنزّه من أن يوصف و يقرن بزمان ،
لأن الزمان حادث و هو قديم ، بل هو خالق الزمن و سائر المخلوقات . و لا ترفده : تدعمه . الأدوات : جمع أداة :
آلة . و المراد : استغناؤه عن استخدام آلة و شبهها في خلقه .
[ 69 ]
الأوقات كونه ، و العدم وجوده ، و الإبتداء أزله [ 1 ] .
بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له [ 2 ] ،
و بمضادّته بين الأمور عرف أن لا ضدّ له ،
و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له [ 3 ] ، ضادّ
[ 1 ] سبق الأوقات كونه . . . : هو الأوّل فلا شيء قبله . و العدم وجوده : هو الباقي الدائم الذي لا يعتريه عدم و لا فناء .
و الابتداء أزله . الأزل : القديم . و المراد : سبق وجوده كل شيء .
[ 2 ] بتشعيره . . . : اعداده لها ، و لما يصلح كل منها . و المشاعر :
الحواس . لا مشعر له : لعدم مشابهته لخلقه .
[ 3 ] و بمضادته بين الأمور . . . : كالذي بين الطبائع و الماهيات .
عرف ان لا ضدّ له : كما قال عليه السلام : لو كان لربّك شريك لأتتك رسله . و بمقارنته بين الأشياء : المقارنة :
المصاحبة و الملازمة كما اقتضته حكمته من استحالة انفكاك بعضها عن بعض كالحرارة للنار . عرف أن لا قرين له : لا شبيه له .
[ 70 ]
النّور بالظّلمة ، و الوضوح بالبهمة ، و الجمود بالبلل ، و الحرور بالصّرد [ 1 ] . مؤلّف بين متعادياتها ، مقارن بين متبايناتها ، مقرّب بين متباعداتها ، مفرّق بين متدانياتها [ 2 ] . لا يشمل
[ 1 ] ضاد النور بالظلمة . . . : جعل أحدهما مزيلا للآخر .
و الوضوح : البياض . بالبهمة : بالسواد . و الجمود :
اليبوسة . بالبلل : بالرطوبة . و الحرور : الحر : ، بالصرد :
بالبرد .
[ 2 ] مؤلف بين متعادياتها . . . : مختلفاتها مع ما فيها من تضاد و اختلاف اقتضت الحكمة الإلهية جمعها ، كما هو الحال في الجسم ، فقد جمع فيه اليبوسة و الرطوبة ، و الحرارة و البرودة ، بنسب معيّنة ، لو تغيّرت قليلا لاختلّ الجسم ،
انظر الى الرأس فقد جمع على صغره المياه المختلفة : فماء العين مالح ، حفظا لها من التأثّر بالحرارة ، لأنّها أشبه ما تكون بالشحم ، و ماء الفم حلو ، ليتهنّأ بمطعمه و مشربه ،
و ماء الأذن مرّ ، حفظا لها من الهوام الوافدة عليها ، و ماء الأنف بارد ، لأنّه بمنزلة جهاز التبريد للسيارة . مقارن :
جامع . بين متبايناتها : مغايراتها ، كما مرّ آنفا . مقرب بين متباعداتها : كجمعه في الجسم الواحد بين الأمور المتضادة .
مفرّق بين متدانياتها : كتفريقه بين الروح و البدن بالموت .
[ 71 ]
بحدّ و لا يحسب بعدّ ، و إنّما تحدّ الأدوات أنفسها ، و تشير الآلات إلى نظائرها [ 1 ] .
منعتها منذ القدميّة ، و حمتها قد الأزليّة ،
و جنّبتها لو لا التّكملة [ 2 ] ، بها تجلّى صانعها
[ 1 ] لا يشمل بحدّ . . . : لأن الحدود للأجسام ، و قد تنزّه عن الجسمية . و لا يحسب بعد : لا يلحقه الحساب و العدّ .
و انّما تحدّ الأدوات أنفسها : الأدوات التي يعدّ بها كالأصابع و اللسان ، فهي لا تستطيع إلاّ أن تعدّ الأجسام المماثلة لها .
و تشير الآلة : التي يعدّ بها . الى نظائرها : من الأجسام .
[ 2 ] منعتها منذ القدمة . . الخ : الضمائر المتصلة بالأفعال الثلاثة تعود الى الآلات و الأدوات ، فقولنا : هذه الآلات وجدت منذ كذا يمنع كونها قديمة أزلية ، و كذلك قولنا : وجدت هذه الآلات وقت كذا ، يحكم بقربها من الحال ، و عدم أزليتها ،
كما أن اطلاق لفظ لو لا على هذه الآلات يجنبها التكملة ( الكمال ) نقول : ما أحسن هذا لو لا أن فيه كذا .
[ 72 ]
للعقول [ 1 ] ، و بها امتنع عن نظر العيون ، لا يجري عليه السّكون و الحركة و كيف يجري عليه ما هو أجراه [ 2 ] ، و يعود فيه ما هو أبداه ، و يحدث فيه ما هو أحدثه ؟ إذا لتفاوتت ذاته ، و لتجزّأ كنهه ،
و لامتنع من الأزل معناه ، و لكان له وراء إذ وجد له امام و لالتمس التّمام إذ لزمه النّقصان و إذا لقامت آية المصنوع فيه ، و لتحوّل
[ 1 ] بها تجلّى صانعها للعقول . . . : بالأدوات الحواس و المشاعر ، و عجائب المخلوقات ظهر الصانع للعقول . و بها امتنع عن نظر العيون : العقول السليمة قطعت عن امتناع النظر إليه .
[ 2 ] لا يجري عليه السكون و الحركة . . . : لا يوصف بذلك ،
لأنّها من صفات الجسمية . و كيف يجري عليه ما هو أجراه :
كيف يتّصف بالصفات التي أحدثها في خلقه ، و جعلها دلالة على نقصهم و حاجتهم إليه ؟
[ 73 ]
دليلا بعد أن كان مدلولا عليه ، و خرج بسلطان الإمتناع [ 1 ] من أن يؤثّر فيه ما يؤثّر في غيره .
الّذي لا يحول ، و لا يزول ، و لا يجوز عليه الأفول [ 2 ] ، و لم يلد فيكون مولودا ، و لم يولد فيصير
[ 1 ] لتفاوتت ذاته . . . : بين الحركة و السكون . و الكنه : جوهر الشيء و حقيقته . و لامتنع من الأزل معناه : الأزل : القدم .
و المراد : لو صحّ عليه السكون و الحركة كان محدثا ، و ذهب عنه معنى الأزليّة . و لكان له وراء اذا وجد له امام : لو جرت عليه الحركة لكان له أمام يتحرّك إليه ، كما يلزم من ذلك أن يكون له وراء لتلازم ما بينهما . و لالتمس التمام إذا لزمه النقصان : لأن السكون نقص ، و الحركة كمال ، و لكان في حركته ملتمسا للكمال ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا . و اذا لقامت آية المصنوع : هي التغيير و الانتقال من حال الى حال .
و لتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه : صار بحركته و سكونه دليلا على وجود خالق له . و خرج بسلطان الامتناع : هو سلطان الربوبية و القدرة .
[ 2 ] الذي لا يحول و لا يزول . . . : لا يعتريه تغيير . و لا يجوز عليه الأفول : يستحيل عليه الغيبة .
[ 74 ]
محدودا [ 1 ] . جلّ عن اتّخاذ الأبناء ، و طهر عن ملامسة النّساء [ 2 ] ، لا تناله الأوهام فتقدّره ، و لا تتوهّمه الفطن فتصوّره ، و لا تدركه الحواسّ فتحسّه ، و لا تلمسه الأيدي فتمسّه [ 3 ] . لا يتغيّر بحال ، و لا يتبدّل بالأحوال ، و لا تبليه اللّيالي
[ 1 ] لم يلد فيكون مولودا . . . : لو جعلنا له ولدا لزمنا القول بأن له والدا ،
بل مولودا لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَد 112 : 3 . و لم يولد فيصير محدودا : لأن لكل جسم اجزاء و حدود و نهاية .
[ 2 ] جلّ عن اتخاذ الأبناء . . . : تنزّه عن ذلك . و طهر عن ملامسة النساء : لأن ذلك من خواص الأجسام وَ لم تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ 6 : 101 .
[ 3 ] لا تناله الأوهام فتقدره . . . : كما امتنع عن الأبصار من أن تراه ، كذلك امتنع عن الأوهام أن تتوهّمه ، و تتصوّر كنهه .
و لا تتوهّمه الفطن فتصوّره : الفطنة : الحذق و المهارة .
و المراد : أن العقول الحاذقة قاصرة عن الإحاطة بكنهه . و لا تدركه الحواس فتحسّه : لأنّها لا تدرك إلا الأجسام . و لا تلمسه الأيدي فتمسّه : لأنّه ليس بجسم .
[ 75 ]
و الأيّام ، و لا يغيّره الضّياء و الظّلام ، و لا يوصف بشيء من الأجزاء [ 1 ] و لا بالجوارح و الأعضاء ،
و لا بعرض من الأعراض ، و لا بالغيريّة و الأبعاض [ 2 ] . و لا يقال له حدّ و لا نهاية ، و لا انقطاع و لا غاية [ 3 ] . و لا أنّ الأشياء تحويه فتقلّه
[ 1 ] لا يتغيّر بحال . . . : لا يطرأ عليه تغيير . و لا يتبدّل بالأحوال : لا ينتقل من حال الى حال . و لا تبليه : و لا تفنيه . و لا يغيّره الضياء و الظلام : بيان مخالفته للأجسام ،
لأنّها بالضياء تدرك حاجتها .
[ 2 ] و لا يوصف بشيء من الأجزاء : ليس بمركّب من أجزاء . و لا بالجوارح و الأعضاء : لأن ذلك من مستلزمات الجسمية . و لا بعرض من الأعراض : كالكمّ و الكيف . و لا بالغيرية و الابعاض : ليس له ابعاض و لا اجزاء بعضها مغاير للآخر .
[ 3 ] و لا يقال له حدّ و لا نهاية . . . : ليس لأوّليته حدّ و نهاية ، لأنّ الحدود و النهايات من صفات الأجسام . و لا انقطاع و لا غاية : ليس له آخرية و نهاية ، فهو الأَوَّلُ و الآخرُ وَ الظَّاهِرُ وَ البَاطِنُ 57 : 3 .
[ 76 ]
أو تهويه ، أو أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعدله [ 1 ] .
ليس في الأشياء بوالج و لا عنها بخارج [ 2 ] . يخبر لا بلسان و لهوات ، و يسمع لا بخروق و أدوات [ 3 ] .
يقول [ 4 ] و لا يلفظ ، و يحفظ و لا يتحفّظ ، و يريد و لا
[ 1 ] و لا أن الأشياء تحويه . . . : تضمّه . فتقله : ترفعه . أو تهويه : الى جهة تحت . و المراد : ليس له مكان يحويه . أو أن شيئا يحمله : لأن ذلك من صفات الأجسام . فيميله :
الى جانب . أو يعدله : بالنسبة الى جميع الجوانب .
[ 2 ] ليس في الأشياء بوالج . . . : بداخل . و لا عنها بخارج :
بعيد منها ، لا يعلم أمرها ، بل لاَ يَعزُبُ عَنْهُ مثقَالُ ذَرَّةٍ 34 : 3 أي لا يغيب عن علمه ، و لا يخفى عليه .
[ 3 ] يخبر لا بلسان و لهوات . . . : جمع لهاة : اللحمة التي في أقصى الفم . و يسمع لا بخروق و أدوات : المراد بالخروق :
تجويفات الأذن ، و بالأدوات : الأذنين . و المراد : أن نطقه و سمعه ليس بالكيفية المعهودة في الأجسام ، بل بالقدرة .
[ 4 ] يقول . . . : تكرّر في القرآن الكريم كلمة القول له سبحانه .
و لا يلفظ : لأن اللفظ من صفات الأجسام . و المراد : أن قوله ليس بالكيفية المعهودة في خلقه ، بل بالكيفية التي لا يعلمها إلاّ هو . و يحفظ : المراد بالحفظ إحاطته بعباده ، و حفظه لأعمالهم يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ مَا خَلْفَهُم 2 : 255 .
و التحفّظ : تكلّف الحفظ الذي يحصل بالتكرار و المذاكرة ،
و قد تنزّه عن ذلك . و يريد و لا يضمر : الاضمار : العزم على الفعل و التفكير في الاقدام عليه ، و اللّه سبحانه إذا أراد شيئا قال له : كن فيكون .
[ 77 ]
يضمر ، يحبّ و يرضى من غير رقّة ، و يبغض و يغضب من غير مشقّة [ 1 ] يقول لمن أراد كونه « كن » فيكون [ 2 ] لا بصوت يقرع ، و لا بنداء يسمع ، و إنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه ،
و مثله لم يكن من قبل ذلك كائنا ، و لو كان قديما
[ 1 ] يحب . . . : المطيعين . و يرضى : عنهم . من غير رقّة :
تنزّه عن مشابهة المخلوقين في الرقّة القلبية . و يبغض :
العصاة . و يغضب من غير مشقّة : تنزيها له عن صفات الأجسام و ما يحدث لها من انزعاج و انفعال عند الغضب .
[ 2 ] يقول لمن أراد كونه : المراد : انقياد الكائنات له جلّ شأنه ،
و استجابتها لمشيئته من غير توقّف .
[ 78 ]
لكان إلها ثانيا [ 1 ] .
لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصّفات المحدثات و لا يكون بينها و بينه فصل و لا له عليها فضل [ 2 ] ، فيستوي الصّانع و المصنوع ،
و يتكافأ المبتدع و البديع [ 3 ] . خلق الخلائق على
[ 1 ] لا بصوت يقرع ، و لا بنداء يسمع . . . : قد يتبادر للذهن من الآية الكريمة أن هناك أمر كلامي منه سبحانه ، فوضّح بهذه الجملة ، و المراد بالآية إرادة التكوين الصادرة عن القدرة الإلهية . و انّما كلامه سبحانه : تنزيها له . فعل منه أنشأه :
بالكيفية التي لا يعلمها إلاّ هو . لم يكن من قبل ذلك كائنا :
من قبل خلقه له و إيجاده . و لو كان قديما لكان إلها ثانيا : ان كلامه محدث و لا قديم إلاّ هو .
[ 2 ] لا يقال كان بعد أن لم يكن . . . : انه موجود قديم لم يسبقه عدم . فتجري عليه الصفات المحدثات : من عدم و وجود .
و لا يكون بينها و بينه فصل : يتساوى حينئذ معها . و لا له عليها فضل : لأنّهما مفتقران الى صانع .
[ 3 ] فيستوي الصانع و المصنوع . . . : لأن كلاّ منهما مرّ بدور العدم ، فلزم من هذا أن يكون الخالق أزلي قديم . و يتكافأ المبتدع : الخالق . و البديع : المخلوق .
[ 79 ]
غير مثال خلا من غيره [ 1 ] ، و لم يستعن على خلقها بأحد من خلقه ، و أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال ، و أرساها على غير قرار ، و أقامها بغير قوائم ، و رفعها بغير دعائم ، و حصّنها من الأود و الإعوجاج ، و منعها من التّهافت [ 2 ] و الإنفراج . أرسى أوتادها ، و ضرب أسدادها ،
[ 1 ] على غير مثال خلا من غيره : لم تكن مخلوقات لخلاّق غيره فأنشأ مخلوقاته على غرارها .
[ 2 ] أنشأ الأرض فأمسكها . . . : على الماء . من غير اشتغال :
لم يشغله خلقها عن غيرها من العوالم وَ لاَ يؤُدُهُ حِفْظَهُمَا وَ هُوَ العَليُّ العَظِيم 2 : 255 . و أرساها : ثبّتها . على غير قرار : مستقر . و أقامها بغير قوائم : تحملها . و المراد : ليس تحتها ما يمسكها سوى القدرة . و رفعها بغير دعائم : ترتكز عليها . و حصنها : جعلها منيعة . من الأود : الاعوجاج .
و منعها من التهافت : التساقط .
[ 80 ]
و استفاض عيونها ، و خدّ أوديتها [ 1 ] ، فلم يهن ما بناه ، و لا ضعف ما قوّاه [ 2 ] .
هو الظّاهر عليها بسلطانه و عظمته ، و هو الباطن لها بعلمه و معرفته ، و العالي على كلّ شيء منها بجلاله و عزّته [ 3 ] و لا يعجزه شيء منها طلبه ،
[ 1 ] أرسى الشيء : أنبته و الراسي : الثابت الراسخ . و الوتد : ما ثبت في الأرض أو الحائط من خشب . و أوتاد الأرض الجبال وَ الجِبَالَ أَوتَاداً 78 : 7 . و أسدادها جمع سدّ : و المراد به الحدود التي تفصل بعضها عن بعض من جبال و انّهار و غير ذلك . و استفاض عيونها : جعلها فائضة . و خدّ : شقّ .
و أوديتها جمع وادي : كل منفرج بين الجبال و التلال و الآكام .
[ 2 ] فلم يهن ما بناه . . . : لم يضعف . و لا ضعف ما قواه : من جبال و غيرها عبر السنين المتطاولة .
[ 3 ] هو الظاهر . . . : الغالب العالي على كل شيء . بسلطانه :
بقوته و قهره . و عظمته : كبريائه . الباطن : العالم بكل شيء فلا أحد أعلم منه . العالي : فلا شيء فوقه في الرتبة .
بجلاله : بتنزّهه عن صفات المخلوقين . و عزّته : قهره و سلطانه .
[ 81 ]
و لا يمتنع عليه فيغلبه ، و لا يفوته السّريع منها فيسبقه ، و لا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه . خضعت الأشياء له ، و ذلّت مستكينة [ 1 ] لعظمته ، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه و ضرّه ، و لا كفء له فيكافيه [ 2 ] ، و لا نظير له فيساويه ، هو المفني لها بعد وجودها ، حتّى يصير موجودها كمفقودها .
و ليس فناء الدّنيا بعد ابتداعها ، بأعجب من إنشائها و اختراعها [ 3 ] و كيف و لو اجتمع جميع
[ 1 ] مستكينة : خاضعة ذليلة .
[ 2 ] و لا كفء له فيكافيه : لا نظير له و لا مثيل .
[ 3 ] و ليس فناء الدنيا . . . الخ : لا داعي للعجب لما ورد من فناء الدنيا ، لأن إنشاءها و ما فيها من بدائع المخلوقات أعجب من الفناء ، و عملية الهدم أيسر من عملية البناء .
[ 82 ]
حيوانها من طيرها و بهائمها ، و ما كان من مراحها و سائمها و أصناف أسناخها و أجناسها و متبلّدة أممها و أكياسها [ 1 ] ، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها ، و لا عرفت كيف السّبيل إلى إيجادها ،
و لتحيّرت عقولها في علم ذلك و تاهت ، و عجزت قواها و تناهت ، و رجعت خاسئة حسيرة [ 2 ] ، عارفة بأنّها مقهورة ، مقرّة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة بالضّعف عن إفنائها .
و إنّ اللّه سبحانه يعود بعد فناء الدّنيا وحده لا شيء معه : كما كان قبل ابتدائها ، كذلك
[ 1 ] مراح الابل : مأواها . و سائمها : راعيها . و اسناخها جمع سنخ : الأصل من كل شيء . و أجناسها : أنواعها . و متبلدة أممها : الأغنياء منهم . و أكياسها : عقلائها .
[ 2 ] خاسئة : ذليلة ، صغيرة ، بعيدة عن نيل المراد . حسيرة :
كالة من كثرة المراجعة .
[ 83 ]
يكون بعد فنائها ، بلا وقت و لا مكان ، و لا حين و لا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات [ 1 ] و زالت ، و السّنون و السّاعات ، فلا شيء إلاّ الواحد القهّار الّذي إليه مصير جميع الأمور . بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها ، و بغير امتناع منها كان فناؤها [ 2 ] ، و لو قدرت على الإمتناع دام بقاؤها . لم يتكأّده صنع شيء منها إذ صنعه ، و لم يؤده منها خلق ما خلقه و برأه [ 3 ] ، و لم يكوّنها
[ 1 ] عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات : ان الزمن نتيجة لحركات الفلك ، فمن دوران الأرض حول الشمس يحدث الليل و النهار ، و مسيرة القمر في جميع بروجه و منازله يستوعب سنة كاملة ، فاذا انعدمت الأفلاك انعدم الزمن .
[ 2 ] بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها . . . الخ : لم تكن المكوّنة لنفسها ، كذلك لم يكن لها ان تمتنع عن إرادة فنائها .
[ 3 ] لم يتكأّده . . . : لم يصعب عليه . و لم يؤده : لم يشق عليه . برأه : خلقه .
[ 84 ]
لتشديد سلطان ، و لا لخوف من زوال و نقصان ،
و لا للإستعانة بها على ندّ مكاثر ، و لا للإحتراز بها من ضدّ مثاور [ 1 ] ، و لا للإزدياد بها في ملكه ، و لا لمكاثرة شريك في شركه ، و لا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها . ثمّ هو يفنيها بعد تكوينها ، لا لسأم دخل عليه في تصريفها [ 2 ] و تدبيرها ، و لا لراحة واصلة إليه ، و لا لثقل شيء منها عليه . لم يملّه طول بقائها فيدعوه إلى سرعة إفنائها ، لكنّه سبحانه دبّرها بلطفه ،
و أمسكها بأمره ، و أتقنها بقدرته ، ثمّ يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها ، و لا استعانة بشيء
[ 1 ] الندّ . . . : المثل و النظير . و كاثرة : غالبة بالكثرة . و مثاور :
محارب .
[ 2 ] سأم الشيء : ملّه . و تصريفها : تدبيرها و توجيهها .
[ 3 ] و لا استعانة بشيء منها عليها : لا يستعين على الاعادة بشيء من الدنيا ، بل يعيدها بالقدرة التي بدأها أولا ، ثم أفناها آخرا .
[ 85 ]
منها عليها ، و لا لإنصراف من حال وحشة إلى حال استئناس ، و لا من حال جهل و عمى إلى حال علم و التماس ، و لا من فقر و حاجة إلى غنى و كثرة ، و لا من ذلّ و ضعة إلى عزّ و قدرة .