حتّى بعث اللّه محمّدا ، صلّى اللّه عليه و آله ،
شهيدا [ 1 ] ، و بشيرا ، و نذيرا ، خير البريّة طفلا ،
و أنجبها كهلا ، أطهر المطهّرين شيمة [ 2 ] ، و أجود المستمطرين ديمة ، فما احلولت لكم الدّنيا في
[ 1 ] شهيدا . . . : يشهد لهم و عليهم . و بشيرا : لهم بالجنة و نذيرا : لهم من العذاب . و في القرآن الكريم يَا أيُّهَا النَبِيُّ إنَّا اَرسلناكَ شَاهداً وَ مبشراً وَ نَذيراً 33 : 45 .
[ 2 ] الشيمة : الطبيعة ، الجبلّة ، فهو صلّوات اللّه عليه أفضل الناس أخلاقا وَ إنَّكَ لعَلى خُلُقٍ عَظيمٍ 68 : 4 .
و الديمة : المطر الدائم في سكون ، و المستمطر : الذي يستسقى به ، و يتوسل به في نزول المطر . و رحم اللّه أبا طالب حيث يقول في مدحه للرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله :
و ابيض يستسقى الغمام بوجهه
ربيع اليتامى عصمة للأرامل
[ 49 ]
لذّتها ، و لا تمكّنتم من رضاع أخلافها [ 1 ] إلاّ من بعد ما صادفتموها جائلا [ 2 ] خطامها ، قلقا وضينها ،
قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السّدر [ 3 ] المخضود ، و حلالها بعيدا غير موجود ،
و صادفتموها ، و اللّه ، ظلاّ ممدودا [ 4 ] إلى أجل
[ 1 ] اخلافها : جمع خلف : حلمة ضرع الناقة .
[ 2 ] جائلا . . . : مائلا . و الخطام : ما يوضع في أنف الناقة لتقاد به . و الوضين : بطان عريض يكون للرحل كالحزام . و المعنى : انكم لم تتمكنوا من الدنيا و الاستكثار منها إلاّ بعد ان وجدتموها كالناقة المهملة ،
و المراد : ان قيادتها في غير أهلها ، و لو كانت بيد الامام المنصوص عليه لما كلّت الفؤوس من تكسير الذهب الذي خلّفه بن عوف ، و لم تكن واردات الزبير من غلاته بالعراق في كل يوم الف دينار ، و لا حصّل مروان على خمس افريقية .
[ 3 ] السدر . . . : شجرة النبق . و المخضود : المقطوع الشوك ، و المراد : انقلبت المفاهيم حتى صار الحرام الذي يجب ان يكون في نظر المسلم كالميتة الذما يكون .
[ 4 ] ظلا ممدودا . . . : الظل : ضوء الشمس اذا استترت عنك بحاجز . و ممدودا : دائما لا تنسخه الشمس . الى أجل معدود : الى مدّة معينة .
[ 50 ]
معدود ، فالأرض لكم شاغرة [ 1 ] و أيديكم فيها مبسوطة و أيدي القادة عنكم مكفوفة ، و سيوفكم عليهم مسلّطة و سيوفهم عنكم مقبوضة . ألا إنّ لكلّ دم ثائرا [ 2 ] و لكلّ حق طالبا ، و إنّ الثّائر في دمائنا كالحاكم في حقّ نفسه [ 3 ] ، و هو اللّه الّذي لا يعجزه من طلب و لا يفوته من هرب . فأقسم باللّه يا بني أميّة عمّا قليل لتعرفنّها في أيدي غيركم
[ 1 ] شاغرة . . . : لا يوجد من يضبطها . و ايديكم فيها مبسوطة : متنفذين فيها . و القادة : هو و اولاده الاحد عشر صلوات اللّه عليهم . مكفوفة : غير متمكنة .
و سيوفكم عليهم مسلّطة : يشير الى قتلهم الحسن و الحسين و علي بن الحسين و محمد الباقر ، صلوات اللّه عليهم . و سيوفهم عنكم مقبوضة : لم يستطيعوا الأخذ بثأرهم .
[ 2 ] ثائرا : مطالبا به .
[ 3 ] الثائر في دمائنا كالحاكم في حقّ نفسه : في وضوح الامر ، و الاستغناء عن البينة .
[ 51 ]
و في دار عدوّكم . ألا و إنّ أبصر الأبصار ما نفذ [ 1 ] في الخير في طرفه ، ألا إنّ أسمع الأسماع ما وعى التّذكير و قبله .
أيّها النّاس ، استصبحوا [ 2 ] من شعلة مصباح واعظ متّعظ ، و امتاحوا [ 3 ] من صفو عين قد روّقت من الكدر .
عباد اللّه ، لا تركنوا إلى جهالتكم [ 4 ] ، و لا
[ 1 ] أبصر الأبصار ما نفذ . . . : أفضل الأبصار ما عاد على المبصر بالانزجار و الاعتبار ألا ان اسمع الاسماع . . . :
أحسن الاسماع ما عاد على السامع بالاتعاظ .
[ 2 ] استصبحوا . . . : استسرجوا ( أوقدوا المصباح ) و المراد :
نوروا قلوبكم و عقولكم بأنواره .
[ 3 ] و امتاحوا . . . : استقوا . روّقت : صفت من الاكدار و المراد : ان علومه خلصت من الشوائب و القشور .
[ 4 ] لا تركنوا الى جهالتكم . . . : لا تطمئنوا الى الجهل ،
و لا تنقادوا لأهوائكم : و لا تتبعوا شهواتكم . نازل بشفا جرف هار : الشفا : طرف الشيء . و الجرف : جانب الوادي . و هار : من الانهيار . و المراد : ان بناءه قائم على حافة الوادي أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلى تَقوى مِن اللَّهِ وَ رِضوَانٍ خيرٌ أَم مَن أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرفٍ هارٍ فانْهَار به في نَارِ جهَنَّمَ وَ اللَّهُ لاَ يَهدي القَومَ الظَّالمينَ 9 : 109 .
[ 52 ]
تنقادوا لأهوائكم ، فإنّ النّازل بهذا المنزل نازل بشفا جرف هار ، ينقل الرّدى [ 1 ] على ظهره من موضع إلى موضع لرأي يحدثه بعد رأي [ 2 ] ،
يريد أن يلصق ما لا يلتصق [ 3 ] ، و يقرّب ما لا يتقارب ، فاللّه اللّه أن تشكوا إلى من لا يشكي شجوكم [ 4 ] .
و لا ينقض برأيه ما قد أبرم لكم . إنّه ليس على
[ 1 ] ينقل الردى : يحمل الهلاك .
[ 2 ] لرأي يحدثه بعد رأي : من الآراء الفاسدة ، و القياس في الشريعة .
[ 3 ] يريد ان يلصق . ما لا يلتصق : يريد تثبيت الباطل بحجج باطلة .
[ 4 ] ان تشكوا الى من لا يشكي شجوكم . . . : يشكي :
يسمع . و شجوكم : حزنكم . و ينقض : يكشف .
و المراد : لا ترفعوا مشاكلكم و احزانكم الى من لا يستطيع تغيير ذلك و كشفه عنكم .
[ 53 ]
الإمام إلاّ ما حمّل من أمر ربّه [ 1 ] ، الإبلاغ في الموعظة ، و الاجتهاد في النّصيحة ، و الإحياء للسّنّة ، و إقامة الحدود على مستحقّيها ، و إصدار السّهمان على أهلها [ 2 ] : فبادروا العلم من قبل تصويح نبته [ 3 ] و من قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن
[ 1 ] ليس على الامام إلاّ ما حمل من امر ربه : ليس عليه إلاّ ما كلفه به الرسول الأعظم صلى اللّه عليه و آله بامر من اللّه تعالى ، و المراد : ان عليه الدعاء و ليس عليه الهداية لَيسَ علَيكَ هُداهُم و لكنَّ اللَّهَ يَهدي مَن يشاءُ 2 :
272 .
[ 2 ] اصدار السهمان على أهلها : اعادتهما الى أهلها ، و هي سهام ذوي القربى من آل محمد صلى اللّه عليه و آله ،
من الخمس ، فقد جعل اللّه تعالى لهم الخمس عوضا عن الزكاة و الصدقات ، و قد منعهم الخلفاء ذلك اذلالا لهم .
[ 3 ] قبل تصويح نبته : تصوح النبت يبس و تشقق .
و المراد : المبادرة اليه عند اول فرصة ، و عدم الانشغال بغيره .
[ 54 ]
مستنار العلم [ 1 ] من عند أهله و انهوا عن المنكر و تناهوا عنه [ 2 ] ، فإنّما أمرتم بالنّهي بعد التّناهي .