الحمد للّه الّذي جعل الحمد مفتاحا لذكره ،
و سببا للمزيد من فضله ، و دليلا على آلائه [ 3 ] و عظمته .
[ 1 ] السحت : ما خبث و قبح من المكاسب ، و لزم منه العار ،
كالرشوة و غيرها .
[ 2 ] الردّة . . . : الإردتداد عن الإسلام . و المراد بالفتنة : البلية في الدين ، و هي دون الكفر .
[ 3 ] مفتاحا لذكره : به تفتتح الصلاة ، و به يبدأ الدعاء ، و هو أحبّ الأعمال الى اللّه تعالى . و سئل الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن أحبّ الأعمال الى اللّه عزّ و جلّ ، فقال : أن تحمده . و آلائه :
نعمه .
[ 88 ]
عباد اللّه ، إنّ الدّهر يجري بالباقين كجريه بالماضين ، لا يعود ما قد ولّى منه ، و لا يبقى سرمدا [ 1 ] ما فيه . آخر فعاله كأوّله ، متسابقة أموره ، متظاهرة أعلامه [ 2 ] ، فكأنّكم بالسّاعة تحدوكم حدو الزّاجر بشوله [ 3 ] ، فمن شغل نفسه بغير نفسه تحيّر في الظّلمات ، و ارتبك في
[ 1 ] سرمدا : دائما لا ينقطع .
[ 2 ] متسابقة أموره . . . : متوالية مصائبه و نكباته ، فهي تجري مجرى التسابق ، فلا يكاد يفرغ من واحدة حتى تحلّ به الأخرى . متظاهرة أعلامه : يعمل بالمتأخرين كعمله بالأولين من الهلاك و الإبادة .
[ 3 ] تحدوكم . . . : حدا الإبل : ساقها و حثّها على السير .
و الزاجر : السائق . و الشول من الابل التي مضى من حملها أو وضعها سبعة أشهر .
[ 89 ]
الهلكات ، و مدّت به شياطينه في طغيانه [ 1 ] ،
و زيّنت له سيّء أعماله ، فالجنّة غاية السّابقين ،
و النّار غاية المفرّطين [ 2 ] .
اعلموا عباد اللّه ، أنّ التّقوى دار حصن عزيز ، و الفجور دار حصن ذليل : لا يمنع أهله ،
و لا يحرز من لجأ إليه [ 3 ] . ألا و بالتّقوى تقطع حمة الخطايا ، و باليقين تدرك الغاية القصوى [ 4 ] .
[ 1 ] شغل نفسه بغير نفسه : اهتم بما لا ينفعه و ينجيه في الآخرة . و مدت له شياطينه في طغيانه : زادته الشياطين ضلالا و طغيانا .
[ 2 ] الغاية . . . : النهاية و الآخر . و المفرطين : المقصّرين في طاعة اللّه تعالى .
[ 3 ] التقوى . . . : هي العمل بما أمر اللّه تعالى به ، و الانتهاء عمّا نهى عنه . و الحصن : الموضع المنيع . و المراد : ان المتقي أحرز النجاة ، و أمن من المخاوف . و لا يحرز : و لا يحفظ . و لجأ إليه : اعتصم به .
[ 4 ] الحمة . . . : إبرة العقرب . و المراد : ان التقوى الحصانة المانعة للإنسان من ارتكاب المآثم . و اليقين : العلم و زوال الشكّ ، و فسّر بالتوكّل على اللّه تعالى ، و التسليم لأمره ،
و الرضا بقضائه ، و التفويض إليه . و الغاية القصوى : النهاية التي ليس بعدها شيء ، و المراد بها الجنة .
[ 90 ]
عباد اللّه ، اللّه اللّه في أعزّ الأنفس عليكم ،
و أحبّها إليكم ، فإنّ اللّه قد أوضح لكم سبيل الحقّ [ 1 ] و أنار طرقه . فشقوة لازمة ، أو سعادة دائمة ، فتزوّدوا في أيّام الفناء لأيّام البقاء [ 2 ] ، قد دللتم على الزّاد ، و أمرتم بالظّعن ، و حثثتم على المسير ، فإنّما أنتم كركب وقوف ، لا تدرون متى تؤمرون بالمسير [ 3 ] .
[ 1 ] سبيل الحق : طريقه .
[ 2 ] تزوّدوا . . . : حصّلوا فيها ما ينفعكم . و أيام الفناء : الدنيا .
لأيام البقاء : الآخرة .
[ 3 ] الظعن : المسير . و متى يؤمرون بالمسير : المراد بذلك الموت .
[ 91 ]
ألا فما يصنع بالدّنيا من خلق للآخرة ؟ و ما يصنع بالمال من عمّا قليل يسلبه ، و تبقى عليه تبعته و حسابه [ 1 ] ؟ .
عباد اللّه ، إنّه ليس لما وعد اللّه من الخير مترك ، و لا فيما نهى عنه من الشّرّ مرغب [ 2 ] عباد اللّه ، احذروا يوما تفحص فيه الأعمال ، و يكثر فيه الزّلزال ، و تشيب فيه الأطفال [ 3 ] .
[ 1 ] تبعته : مسؤوليته ، و المحاسبة عليه .
[ 2 ] ليس لما وعد اللّه من الخير مترك . . . : لا يسعك ترك شيء منه . و لا فيما نهى عنه من الشرّ مرغب : لا يمكن لعاقل أن يختاره و يرغب فيه .
[ 3 ] تفحص فيه الأعمال . . . : يدقق النظر فيها لينال الجزاء عليها . و يكثر فيها الزلزال : الهول و البلية و الشدة يَومَ تَرَونَهَا تَذهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَت وَ تَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَملَها وَ تَرى النَّاسَ سُكَارى وَ مَا هُمْ بِسُكَارى و لكِنَّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيد 22 : 2 . و تشيب فيه الأطفال : و هذه نهاية الشدّة التي يشيب فيها حتى الطفل فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إن كَفَرتُم يَوماً يَجعَلُ الوِلدَانَ شيباً 73 : 17 .
[ 92 ]
اعلموا عباد اللّه ، أنّ عليكم رصدا من أنفسكم ، و عيونا من جوارحكم ، و حفّاظ صدق يحفظون أعمالكم [ 1 ] و عدد أنفاسكم ، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج ، و لا يكنّكم منهم باب ذو رتاج [ 2 ] و إنّ غدا من اليوم قريب .
يذهب اليوم بما فيه ، و يجيء الغد لاحقا
[ 1 ] الرصد . . . : الرقيب . و العين : الجاسوس . و المراد : ان جوارح الانسان عيون تشهد عليه يوم القيامة يَوْمَ تَشهَدُ عَلَيهِمْ أَلْسِنَتَهُم و أَيْدِيهِمْ و أَرْجُلُهم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 24 :
24 . و حفاظ صدق : المراد بهم الملائكة مَا يَلفِظُ مِن قَولٍ إلاّ لدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيد 50 : 18 .
[ 2 ] ليل داج . . . : شديد الظلمة . و لا يكنكم : و لا يستركم . باب ذو رتاج : باب عظيم مغلق . و المراد : أن ما يستتر به المجرمون عن الناس حال ارتكابهم للجرائم هو مكشوف و مشاهد للملائكة .
[ 93 ]
به [ 1 ] ، فكأنّ كلّ امرىء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته [ 2 ] ، و مخطّ حفرته ، فياله من بيت وحدة ، و منزل وحشة ، و مفرد غربة و كأنّ الصّيحة قد أتتكم ، و السّاعة قد غشيتكم و برزتم لفصل القضاء [ 3 ] ، قد زاحت عنكم الأباطيل ،
و اضمحلّت عنكم العلل ، و استحقّت بكم الحقائق ، و صدرت بكم الأمور مصادرها [ 4 ] ،
[ 1 ] و ان غدا من اليوم قريب . . . : المراد من الغد هو الموت ،
و ليس بيننا و بينه إلاّ انقطاع النفس . و يجيء لاحقا به : يشير الى سرعة مرور الزمن ، فالأيام تمرّ سريعة .
[ 2 ] منزل وحدته : القبر .
[ 3 ] و كأن الصيحة قد أتتكم . . . : هي نفخة اسرافيل التي يقوم فيها الخلائق للحساب . و الساعة : القيامة . و غشيتكم :
أدركتكم ، و لا محيص لكم منها . و برزتم لفصل القضاء :
حوسبتم على أعمالكم .
[ 4 ] قد زاحت عنكم الأباطيل . . . : هي الأعذار التي يعتذر بها المسيؤون . و اضمحلّت عنكم العلل : ما يتعللون به أمام من يلومهم . و استحقت بكم الحقائق : وجب و حقّ ما كنتم توعدون به من شدّة ذلك اليوم و أنتم في الدنيا . و صدرت بكم الأمور مصادرها : رجوع كل امرىء الى ثمرة ما قدّم .
[ 94 ]
فاتّعظوا بالعبر ، و اعتبروا بالغير ، و انتفعوا بالنّذر [ 1 ] .
[ 1 ] فاتّعظوا بالعبر : الموعظة : ما يوعظ به من قول و فعل .
و العبرة : الاتعاظ و الاعتبار بما مضى . و الغير : تغيرات الدهر ، و تبدلات الزمن ، و ما يشاهد من مصائب الدنيا و تقلباتها . و انتفعوا بالنذر : بما أنذركم و خوّفكم به اللّه جلّ جلاله ، و رسوله ( صلّى اللّه عليه و آله ) .
[ 95 ]