أما و اللّه لقد تقمّصها فلان [ 2 ] و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى [ 3 ] : ينحدر عنّي السّيل [ 4 ] و لا يرقى إليّ الطّير [ 5 ] فسدلت
[ 1 ] الشقشقة : التي يخرجها الجمل العربي من جوفه ،
ينفخ فيها فتظهر من شدقه .
سميت الخطبة بذلك لقوله عليه السلام : تلك شقشقة هدرت ثم قرّت .
[ 2 ] تقمصها : لبسها مثل القميص ، و المراد بها الخلافة .
[ 3 ] محلّ القطب من الرحى : أي كما أن الرحى لا تدور إلاّ على القطب ، و دورانها بغير القطب لا ثمرة فيه ،
كذلك الخلافة لا تصلح لغيره .
[ 4 ] ينحدر عني السيل : شبّه نفسه عليه السلام بذروة الجبل التي يأتي السيل منها ، و كذلك كان عليه السلام المفزع في المهمات ، و الملجأ في المعضلات ، منه أخذ الناس العلوم .
[ 5 ] و لا يرقى إليّ الطير : هي كالأولى في بيان سمو مقامه و منزلته التي لا تضاهى حتى لا يتمكن الطائر من الدنو منها .
[ 12 ]
دونها ثوبا [ 1 ] ، و طويت عنها كشحا [ 2 ] . و طفقت [ 3 ] أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء [ 4 ] أو أصبر على طخية عمياء [ 5 ] يهرم فيها الكبير ، و يشيب فيها
[ 1 ] سدلت : أرخيت . أرسلت ، و المراد : أنه صلوات اللّه عليه غضّ نظره عنها .
[ 2 ] الكشح : ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف ، و هو كناية عن امتناعه و إعراضه عنها كالمأكول المعاف الذي تطوى البطن دونه .
[ 3 ] طفقت : ابتدأت . أخذت .
[ 4 ] جذّاء : مقطوعة ، و المراد : عدم وجود الناصر .
[ 5 ] أو أصبر على طخية عمياء : على ظلمة و التباس من الأمور ، لا يهتدي فيها السالك إلى طريق الحق ، بل يأخذ يمينا و شمالا .
[ 13 ]
الصّغير [ 1 ] ، و يكدح فيها مؤمن [ 2 ] حتّى يلقى ربّه فرأيت أنّ الصّبر على هاتا أحجى [ 3 ] فصبرت و في العين قذى [ 4 ] ، و في الحلق شجا [ 5 ] أرى تراثي نهبا ، حتّى مضى الأوّل لسبيله ، فأدلى بها إلى فلان بعده [ 6 ] ( ثمّ تمثّل بقول الأعشى ) :
شتّان ما يومي على كورها
و يوم حيّان أخي جابر
[ 7 ]
[ 1 ] يهرم فيها الكبير : يبلغ أقصى الكبر . يشيب فيها الصغير : يبيض رأسه .
[ 2 ] يكدح فيها مؤمن : يسعى في الذب عن الحق ،
و يقاسي الأحزان و الشدائد .
[ 3 ] أحجى : أصلح .
[ 4 ] القذى : ما يقع في العين من تراب أو تبن أو وسخ أو غير ذلك .
[ 5 ] الشجا : ما اعترض في الحلق من عظم و نحوه و الجملة وصف ما كان يعانيه و يكابده .
[ 6 ] أدلى بها إلى فلان : الضمير يعود إلى الخلافة ،
و المعنى : دفعها . و فلان : عمر بن الخطاب .
[ 7 ] معنى البيت : الكور : الرحل الذي يوضع على ظهر الناقة . و حيان : سيد بني حنيفة ، له منزلة عند الملوك ، و نعمة و رخاء . و جابر : أخوه ، و هو بائس فقير ، يعاني متاعب السفر على كور ناقته ، و البيت في بيان وصف ما بينهما .
و مراد الإمام عليه السلام من الاستشهاد بالبيت الفرق ما بينه و بين عمر ، فقد وليها عمر في ظرف ممهد ،
و استقرار تام ، و وليها الإمام عليه السلام في ظرف مضطرب ، و فتن قائمة .
[ 14 ]
فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته [ 1 ] إذ عقدها لآخر بعد وفاته ، لشدّ ما تشطّر ضرعيها [ 2 ] فصيّرها في حوزة [ 3 ] خشناء يغلظ
[ 1 ] يستقيلها : يطلب الإقالة منها ، فقد روى المؤرخون خطبة أبي بكر : اقيلوني أقيلوني ، لست بخيركم و علي فيكم .
[ 2 ] لشد ما تشطرا ضرعيها : شبّه الخلافة بناقة لها ضرعان ، أخذ كل واحد منهما ضرعا منها اقتساما للفائدة و قد قال الإمام عليه السلام لعمر بعد بيعة أبي بكر : أحلب حلبا لك شطره ، أشدد له اليوم يردّه عليك غدا ، فتحقق ذلك .
[ 3 ] الحوزة : الناحية . و الخشن : الشديد .
[ 15 ]
كلامها [ 1 ] ، و يخشن مسّها ، و يكثر العثار فيها ،
و الاعتذار منها [ 2 ] ، فصاحبها كراكب الصّعبة [ 3 ] إن أشنق لها خرم ، و إن أسلس لها تقحّم ، فمني النّاس لعمر اللّه بخبط و شماس [ 4 ] و تلوّن و اعتراض [ 5 ] ، فصبرت على طول المدّة ، و شدّة
[ 1 ] كلامها : الكلام : الأرض الغليظة و المراد : تشبيهه بالغلظة و يخشن مسها : تؤذي و تضر من يمسّها و المراد : بيان سوء خلقه و شدته ، و تسرّعه إلى الغضب .
[ 2 ] يكثر العثار فيها : المراد بالعثار الخطأ في الحكم و نحوه ، و ثم الاعتذار عن ذلك و انه كان على سبيل الخطأ .
[ 3 ] كراكب الصعبة : هي الناقة الصعبة الانقياد ، و قد شرح السيد الرضي الجملة في آخر الخطبة .
[ 4 ] مني الناس : ابتلوا ، و الخبط : السير على غير الجادة ، و الشماس : نفار الفرس .
[ 5 ] التلوّن : الانتقال من حالة إلى أخرى ، و الاعتراض :
هو السير على غير الاستقامة ، كأنه يسير عرضا ،
و المراد وصف ما عانته الأمّة في ولايته .
[ 16 ]
المحنة [ 1 ] حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم ، فياللّه و للشّورى [ 2 ] متى اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت أقرن إلى هذه النّظائر [ 3 ] لكنّي أسففت إذ أسفّوا [ 4 ] و طرت إذ طاروا فصغى رجل منهم لضغنه [ 5 ] و مال الآخر لصهره [ 6 ] مع هن و هن [ 7 ]
[ 1 ] المحنة : الابتلاء .
[ 2 ] فيا للّه و للشورى : الاستعانة باللّه تعالى و الشكوى إليه مما أصابني من الشورى ، فقد جعلوني في مصاف جماعة لا يساووني في علم و لا فضل و لا جهاد .
[ 3 ] أي متى كان الشك عارضا لأذهانهم في مساواتي لأبي بكر حتى صرت أقرن إلى هؤلاء مع أنهم أقل منه رتبة .
[ 4 ] أسف الطائر : إذا دنا من الأرض في طيرانه ، و المراد أن موقفه كان مقاربا للقوم حفاظا على الإسلام ،
و حرصا على جمع الكلمة ، و حتى لا يجد أعداء الإسلام سبيلا إلى التحرك و العمل .
[ 5 ] فصغى رجل منهم لضغنه : صغى : مال ، و الضغن :
الحقد ، و المراد به سعد بن أبي وقاص ، كان منحرفا عن الإمام عليه السلام ، و السبب أن أمّه حمنة بنت سفيان بن أمية ، فهو يحقد على الإمام عليه السّلام لقتله لصناديدهم .
[ 6 ] و مال آخر لصهره : المراد به عبد الرحمن بن عوف كان صهرا لعثمان .
[ 7 ] مع هن وهن : كناية عن شيء قبيح ، تقول : هذا هنك : أي شينك و المراد : مع أمور أخرى لا يريد ذكرها .
[ 17 ]
إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه [ 1 ] بين نثيله و معتلفه [ 2 ] ، و قام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضمة الإبل نبتة الرّبيع [ 3 ] إلى أن انتكث
[ 1 ] نافجا حضنيه : النفج : الرفع . و الحضن : ما بين الإبط و الكشح ، و هي تقال لمن امتلأ بطنه طعاما .
[ 2 ] النثيل : الروث . و المعتلف : موضع أكل الدابة ،
و المقصود : أن همته كانت بطنه أو طلب الدنيا ، بدون اهتمام بأمر المسلمين .
[ 3 ] الخضم : الأكل بملء الفم . و نبتة الربيع : هو ما تنبته الأرض في الربيع ، فإن الإبل تستلذها لجوعها في فصل الشتاء لقلة وجود النبات .
[ 18 ]
فتله [ 1 ] ، و أجهز عليه عمله [ 2 ] و كبت به بطنته [ 3 ] فما راعني [ 4 ] إلاّ و النّاس كعرف الضّبع إليّ [ 5 ] ينثالون عليّ من كلّ جانب حتّى لقد وطىء الحسنان ، و شقّ عطفاي [ 6 ] ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم [ 7 ] فلمّا نهضت بالأمر نكثت
[ 1 ] انتكث : انتقض . و فتله : برم حبله ، و المراد : فشل سياسته و تدبيره .
[ 2 ] أجهز عليه عمله : أسرع إليه بالقتل .
[ 3 ] كبت به : أسقطته . بطنته : كناية عن إسرافه في تبذير أموال المسلمين و تقسيمها بين أهله و عشيرته .
[ 4 ] فما راعني : كلمة تستعمل لمفاجأة الأمر فتقول : ما راعني إلاّ مجيئك .
[ 5 ] كعرف الضبع : عرف الدابة : شعر عنقها ، و عرف الضبع : مضرب مثل في الإزدحام .
[ 6 ] شق عطفاي : خدش جانباي لشدة الازدحام ، و هذه الفقرات وصف للتجمع الذي حصل لبيعته عليه السلام ، و تباشر المسلمين بها ، فقد حصل له ما لم يحصل لأحد من قبله و لا لأحد من بعده .
[ 7 ] كربيضة الغنم : الأغنام المجتمعة في مرابطها .
[ 19 ]
طائفة [ 1 ] ، و مرقت أخرى [ 2 ] ، و قسط آخرون [ 3 ] كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه حيث يقول : تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَ لاَ فَسَاداً وَ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بلى و اللّه لقد سمعوها و وعوها ، و لكنّهم حليت الدّنيا في أعينهم [ 4 ] و راقهم زبرجها ، أمّا و الّذي فلق الحبّة ، و برأ النّسمة [ 5 ] لو لا حضور الحاضر [ 6 ] و قيام الحجّة بوجود النّاصر ، و ما أخذ اللّه على
[ 1 ] نكثت طائفة : نقضت البيعة ، و هم أصحاب الجمل .
[ 2 ] مرقت أخرى : خرجت من الدين كخروج السهم من الرمية ، و المراد بهم الخوارج .
[ 3 ] قسط آخرون : جاروا و في القرآن الكريم و أما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا 72 : 16 و المراد بهم أهل الشام .
[ 4 ] وراقهم زبرجها : أعجبهم زينتها .
[ 5 ] برأ النسمة : خلق الإنسان .
[ 6 ] لو لا حضور الحاضر : المراد به جماعة المسلمين الذين بايعوه .
[ 20 ]
العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم [ 1 ] ، و لا سغب مظلوم [ 2 ] ، لألقيت حبلها على غاربها [ 3 ] ،
و لسقيت آخرها بكأس أوّلها [ 4 ] ، و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز [ 5 ] .
قالوا : و قام إليه رجل من أهل السواد [ 6 ] عند
[ 1 ] لا يقاروا : لا يسكتوا . و الكظة : ما يعتري الإنسان عند الامتلاء من الطعام ، و هي كناية عن أخذه ما لا يحل له ، و المعنى : إن اللّه جلّ جلاله أوجب على العلماء دفع الظالمين ، و أخذ حقوق المظلومين .
[ 2 ] السغب : الجوع ، و هو كناية عن أخذ حقوقه .
[ 3 ] الغارب : أعلى كتف الناقة ، و المعنى : لو لا الواجب المتعين عليّ بوجود الأعوان لتركت الخلافة كما يترك الراعي الناقة المهملة ترعى حيث شاءت غير مبال بما يصيبها .
[ 4 ] لسقيت آخرها بكأس أولها : لتركتها آخرا كما تركتها أولا .
[ 5 ] أزهد : أهون : و عفطة العنز : ما تنثره من أنفها ، و هو مثل في هوانها عليه ، و عدم أهميتها عنده .
[ 6 ] من أهل السواد : من أهل القرى ، و العرب تسمي القرى سوادا لخضرتها بالزرع .
[ 21 ]
بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتابا ،
فأقبل ينظر فيه ، قال له ابن عباس رضي اللّه عنهما : يا أمير المؤمنين ، لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت [ 1 ] :
فقال : هيهات يا ابن عبّاس ، تلك شقشقة هدرت [ 2 ] ثمّ قرّت .
قال ابن عباس : فو اللّه ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أراد .
( قوله « كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم و إن أسلس لها تقحم » يريد أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام و هي تنازعه رأسها خرم أنفها ، و إن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها : يقال : أشنق الناقة ، إذا جذب رأسها
[ 1 ] اطردت : تابعت . أفضيت : انتهيت .
[ 2 ] هدير الجمل : ترديده الصوت في حنجرته . و قرت :
سكنت .
[ 22 ]
بالزمام فرفعه و شنقها أيضا ، ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق : و إنما قال : « أشنق لها » و لم يقل « أشنقها » لأنه جعله في مقابلة قوله « أسلس لها » فكأنه عليه السلام قال : إن رفع لها رأسها بمعنى أمسكه عليها ) .