أحمده شكرا لإنعامه ، و أستعينه على وظائف حقوقه [ 2 ] . عزيز الجند ، عظيم المجد . و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله ، دعا إلى طاعته ، و قاهر [ 3 ] أعداءه جهادا على دينه . لا يثنيه [ 4 ] عن ذلك اجتماع على تكذيبه ، و التماس لإطفاء نوره .
[ 1 ] تشغر برجلها . . . : ترفعها . تطأ في خطامها : الخطام :
الزمام الذي يقاد به البعير ، شبهها بالناقة الشرود ، تفسد كل شيء مرّت به . تذهب بأحلام قومها : هي لشدّة وقعها على الناس تذهب بعقولهم .
[ 2 ] استعينه على وظائف حقوقه : أطلب منه العون و المساعدة على أداء ما أوجب من أعمال و حقوق .
[ 3 ] قاهر : غالب .
[ 4 ] لا يثنيه : لا يصرفه .
[ 97 ]
فاعتصموا بتقوى اللّه [ 1 ] فإنّ لها حبلا وثيقا عروته ،
و معقلا منيعا ذروته [ 2 ] ، و بادروا الموت في غمراته ، و امهدوا له [ 3 ] قبل حلوله ، و أعدّوا له قبل نزوله ، فإنّ الغاية القيامة [ 4 ] و كفى بذلك واعظا لمن عقل ، و معتبرا [ 5 ] لمن جهل . و قبل بلوغ
[ 1 ] اعتصم به . . . : امتنع به و لجأ إليه . تقوى اللّه : العمل بأوامره ، و الانتهاء عمّا نهى عنه .
[ 2 ] حبلا . . . : استعار لها الحبل لأن التمسّك بها سبب للنجاة من الردى ، كما أن التمسّك بالحبل سبب للخلاص و النجاة . وثيقا عروته : فقد تعلّق بالعروة الوثيقة التي لا يخشى انفصامها . معقلا : ما يعتصم به . منيعا : قويّا .
ذروته : أعلاه .
[ 3 ] بادروا الموت . . . : سارعوا بالأعمال الصالحة من قبل أن يدهمكم . و غمراته : شدائده . و امهدوا له : اتخذوا له المهاد : الفراش وَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأنْفُسِهِم يَمهَدُونَ 30 : 44 .
[ 4 ] الغاية القيامة : النهاية التي ينتهي إليها الناس .
[ 5 ] كفى بذلك واعظا لمن عقل . . . : ان الموت الذي ليس بيننا و بينه إلاّ توقّف القلب ، و انقطاع النفس ، يكفي المرء موعظة و مزدجرا عن ارتكاب الذنوب ، و حرصا على عمل الخير .
معتبرا : متّعظا .
[ 98 ]
الغاية ما تعلمون من ضيق الأرماس ، و شدّة الإبلاس ، و هول المطّلع ، و روعات الفزع ،
و اختلاف الأضلاع ، و استكاك الأسماع ، و ظلمة اللّحد ، و خيفة الوعد ، و غمّ الضّريح ، و ردم الصّفيح [ 1 ] .
[ 1 ] و قبل بلوغ الغاية . . . : من أهوال القبر و عذابه . من ضيق الارماس جمع رمس : القبر . و شدّة الابلاس : الحيرة أَخَذْنهُمْ بَغْتَةً فَإذَا هُمْ مُبْلِسُونَ 6 : 44 . آيسون من النجاة و الرحمة . و الهول : الفزع ، و الأمر الشديد . و هول المطلع : مواقف القيامة و شدائدها التي تنتظره بعد الموت .
و روعات الفزع : الخوف و الذعر . و اختلاف الأضلاع : عند ضغطة القبر . و استكاك الأسماع : صممها من شدّة الأصوات التي يسمعها في تلك العوالم المذهلة . و خيفة الوعد :
الخوف الذي يلحقه بالوعيد الذي سبق أن سمعه في القرآن الكريم للعصاة . و الغمّ : الكرب . و الضريح : القبر .
و ردم المكان : سدّه . و الصفيح : الحجر الذي يسدّ به اللحد .
[ 99 ]
فاللّه اللّه عباد اللّه ، فإنّ الدّنيا ماضية بكم على سنن ، و أنتم و السّاعة في قرن [ 1 ] و كأنّها قد جاءت بأشراطها ، و أزفت بأفراطها ، و وقفت بكم على صراطها . و كأنّها قد أشرفت بزلازلها ،
و أناخت بكلاكلها [ 2 ] و انصرمت الدّنيا بأهلها ،
[ 1 ] على سنن . . . : على طريقة و مثال من سار قبلكم من أهليكم و معارفكم . و أنتم و الساعة في قرن : القرن : الحبل الذي يقرن به البعيران . و المراد : قربها منكم ، و الحديث النبوي ( بعثت و الساعة كهاتين ) مشيرا بإصبعيه .
[ 2 ] قد جاءت بأشراطها . . . : علاماتها فَهَل يَنْظُرُونَ إلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيهِمُ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشراطُهَا 47 : 18 . و أزفت :
دنت . و الفرط : الذي يتقدّم الإنسان من أجر و عمل .
و المراد : قربت منكم بمجيء مقدماتها . و اناخ بالمكان :
برك . و الكلكل : الصدر . و المراد داهمتكم بأهوالها و شدائدها ، تشبيها بالجمل الملقي بثقله على الأرض .
[ 100 ]
و أخرجتهم من حضنها ، فكانت كيوم مضى ، أو شهر انقضى ، و صار جديدها رثّا و سمينها غثّا [ 1 ] ،
في موقف ضنك المقام [ 2 ] ، و أمور مشتبهة عظام ، و نار شديد كلبها ، عال لجبها ، ساطع لهبها ، متغيّظ زفيرها ، متأجّج سعيرها ، بعيد خمودها ، ذاك وقودها ، مخيف وعيدها ، غمّ قرارها [ 3 ] ، مظلمة أقطارها ، حامية قدورها ،
فظيعة أمورها وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلَى الْجَنَّةِ
[ 1 ] رثّا . . . : باليا . و غثّا : مهزولا .
[ 2 ] الضنك . . . : الضيق . و المراد بالمقام : يوم القيامة ، حيث يجتمع الأولون و الآخرون .
[ 3 ] كلب الدهر على أهله : اشتدّ . و لجب البحر : اضطرب موجه و متغيّظ : يسمع لها صوت إذَا رَأَتهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيّظاً وَ زَفِيراً 25 : 12 . و زفرت النار :
سمع لاتقادها صوت . و أجج النار : ألهبها . و السعير :
النار . و ذكت النار : اشتدّ لهبها . و غمّ الشيء : غطّاه .
و قرارها : قعرها . و المراد : هي مطبقة لا يدرك عمقها .
[ 101 ]
زُمَراً [ 1 ] قد أمن العذاب ، و انقطع العتاب ،
و زحزحوا [ 2 ] عن النّار ، و اطمأنّت بهم الدّار ،
و رضوا المثوى و القرار [ 3 ] ، الّذين كانت أعمالهم في الدّنيا زاكية ، و أعينهم باكية ، و كان ليلهم في دنياهم نهارا ، تخشّعا و استغفارا ، و كان نهارهم ليلا [ 4 ] توحّشا و انقطاعا فجعل اللّه لهم الجنّة مآبا [ 5 ] ، و الجزاء ثوابا ، و كانوا أحقّ بها و أهلها [ 6 ]
[ 1 ] زمرا : فوجا بعد فوج .
[ 2 ] زحزحوا : بوعدوا عن النار و نجوا منها فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ 3 : 185 .
[ 3 ] المثوى . . . : المقام . و القرار : المقرّ .
[ 4 ] كان ليلهم نهارا . . . : في تحركهم و قيامهم لصلاة الليل ،
و قراءة القرآن ، و الاستغفار . و كان نهارهم ليلا : لانقطاعهم عن الناس و عزلتهم .
[ 5 ] مآبا : مرجعا يرجعون إليه .
[ 6 ] و كانوا أحقّ بها . . . : بالجنّة . و أهلها : من الحور العين .
[ 102 ]
في ملك دائم ، و نعيم قائم .
فارعوا عباد اللّه ما برعايته يفوز فائزكم [ 1 ] ،
و بإضاعته يخسر مبطلكم ، و بادروا آجالكم بأعمالكم فإنّكم مرتهنون بما أسلفتم ، و مدينون بما قدّمتم ، و كأنّ قد نزل بكم المخوف فلا رجعة تنالون ، و لا عثرة تقالون [ 2 ] . استعملنا اللّه و إيّاكم
[ 1 ] فارعوا . . . الخ : حافظوا على ما بحفظه تفوزون غدا و تتنعّمون ، و بتركه تخسرون و تعذّبون . و المراد بذلك اتباع أوامر اللّه تعالى ، و الانتهاء عمّا نهى عنه . و بادروا :
أسرعوا . و رهن الشيء : حبسه عنده بدين . و المراد :
لا سبيل الى خلاصكم من العذاب إلاّ بالأعمال الصالحة كُلُّ امرِىءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ 52 : 21 . مدينون :
مجزيّون .
[ 2 ] المخوف : الموت . فلا رجعة تنالون : حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ . . لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلَهَا وَ مِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 23 : 100 . و عثر : زلّ و كبا . و أقاله : وافقه على نقض البيع و سامحه . و المراد : عدم قبول المعذرة ، و سدّ باب التوبة .
[ 103 ]
بطاعته و طاعة رسوله ، و عفا عنّا و عنكم بفضل رحمته .
إلزموا الأرض و اصبروا على البلاء ، و لا تحرّكوا بأيديكم و سيوفكم في هوى ألسنتكم ، و لا تستعجلوا بما لم يعجّله اللّه لكم [ 1 ] ، فإنّه من مات منكم على فراشه و هو على معرفة حقّ ربّه و حقّ رسوله و أهل بيته مات شهيدا ، و وقع أجره على اللّه ، و استوجب ثواب ما نوى من صالح عمله ،
[ 1 ] الزموا الأرض . . . الخ : المراد بذلك السكون ، و ترك الحرب ، و الصبر على تحمّل الغصص . في هوى ألسنتكم :
ما تهواه من السباب و الشتم . و لا تستعجلوا بما لم يعجله اللّه لكم : لا تسرعوا بإتيان ما لم يفرض عليكم ، و لم تكلّفوا به .
[ 104 ]
و قامت النّيّة مقام إصلاته لسيفه [ 1 ] ، و إنّ لكلّ شيء مدّة و أجلا .
[ 1 ] و قامت النيّة مقام اصلاته لسيفه : المؤمن الذي وطّن نفسه على حمل السلاح ، و القتال في سبيل اللّه ، ثم اقتضت الحال منه السكون و الدعة ، فقد حصّل بنيّته أجر المجاهدين .
و يقول ابن أبي الحديد : أمر أصحابه أن يتثبّتوا و لا يعجلوا في محاربة من كان مخالفا لهم من ذوي العقائد الفاسدة كالخوارج ، و من كان يبطن هوى معاوية ، و ليس خطابه هذا تثبيطا لهم عن حرب أهل الشام ، كيف و هو لا يزال يقرّعهم و يوبّخهم عن التقاعد و الإبطاء في ذلك ، و لكنّ قوما من خاصّته كانوا يطّلعون على من عند قوم من أهل الكوفة ،
و يعرفون نفاقهم و فسادهم ، و يرومون قتلهم و قتالهم ، فنهاهم عن ذلك ، و كان يخاف فرقة جنده ، و انتشار حبل عسكره ،
فأمرهم بلزوم الأرض ، و الصبر على البلاء .
[ 105 ]