اختاره من شجرة الأنبياء ، و مشكاة الضّياء [ 2 ] ، و ذؤابة العلياء ، و سرّة البطحاء ، و مصابيح الظّلمة ، و ينابيع الحكمة .
( منها ) طبيب دوّار بطبّه [ 3 ] : قد أحكم
[ 1 ] احاط بغموض عقائد السريرات : علم بما تخفيه الضمائر من العقائد .
[ 2 ] مشكاة الضياء . . . : المشكاة : القنديل ( المصباح ) و المراد : منهم اضاءت انوار النبوة ظلام الكفر . و ذؤابة العلياء : الذؤابة : الطائفة من شعر الرأس المتدلي ،
و المراد : تدليهم في اغصان الشرف عن آبائهم كتدلي ذؤابة الشعر عن الرأس . و سرة الوادي : أفضل مواضعه . و البطحاء : مكّة المكرمة .
[ 3 ] طبيب دوّار بطبّه . . . : شبّه نفسه عليه السلام بالطبيب الذي يدور في معالجة المرضى . و احكم مراهمه :
اتقن الدواء الذي يعالج به . و احمى مواسمه : سخّنها ليكوي بها المواضع التي تحتاج الى كي .
[ 67 ]
مراهمه ، و أحمى مواسمه ، يضع ذلك حيث الحاجة إليه : من قلوب عمي ، و آذان صمّ ،
و ألسنة بكم ، متّبع بدوائه مواضع الغفلة ، و مواطن الحيرة ، لم يستضيئوا بأضواء الحكمة [ 1 ] و لم يقدحوا بزناد العلوم الثّاقبة [ 2 ] ، فهم في ذلك كالأنعام السّائمة [ 3 ] و الصّخور القاسية . قد انجابت السّرائر لأهل البصائر [ 4 ] ،
[ 1 ] لم يستضيئوا باضواء الحكمة : انه يعالج الذين مّر وصفهم بالعمى و الصمم و البكم ، و أهل الغفلة و الحيرة الذين لم يهتدوا بالانوار الإلهية .
[ 2 ] و لم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة : قدح الزناد : استخرج النار منه ، و المراد : انهم لم يشتغلوا بتحصيل العلم حتى يستنيروا بانواره ، و يهتدوا بهداه .
[ 3 ] السائمة : التي ترعى حشائش الارض بخلاف المعلوفه و هي التي يهيأ لها العلف .
[ 4 ] قد انجابت السرائر لأهل البصائر : انجابت :
انكشفت . و السرائر : جمع سريرة : ما تنطوي عليه النفس و تضمره . و أهل البصائر : أهل العقول ،
و المعنى : اتضحت عنده اسرار القوم و مقاصدهم السيئة .
[ 68 ]
و وضحت محجّة الحقّ لخابطها [ 1 ] و أسفرت السّاعة عن وجهها [ 2 ] ، و ظهرت العلامة لمتوسّمها . ما لي أراكم أشباحا بلا أرواح ؟ [ 3 ] و أرواحا بلا أشباح . و نسّاكا بلا صلاح ، و تجّارا بلا أرباح ،
و أيقاظا نوّما [ 4 ] ، و شهودا غيّبا ، و ناظرة عميا ،
[ 1 ] و وضحت محجّة الحق لخابطها : محجة الحق :
طريق الحق . و خابطها : السائر عليها .
[ 2 ] اسفرت الساعة عن وجهها : الساعة : القيامة ،
و المراد : ظهرت العلامات التي تشير الى قربها .
و ظهرت العلامة لمتوسمها : لمتفرسها ، المعنى : ان هذه العلامات تظهر و تبدو للمتفرس الباحث عن الساعة .
[ 3 ] اشباحا بلا ارواح . . . : وصفهم بالجمادات لعدم انتفاعهم بالمواعظ . و أرواحا بلا اشباح : و من كان منهم له روح و فهم فهو لا طاقة له بالحرب ، فهو كالروح الخالية من البدن . و نسّاكا بلا صلاح : عبّادا بلا معرفة و بصيرة .
[ 4 ] و ايقاظا نوّما . . . : هذه صفات متضادة ،
و المعنى : انهم و ان كانوا ايقاظا و شهودا يبصرون و يسمعون و يتكلمون ، و لكنهم لم ينتفعوا بذلك فصار حكمهم حكم النيام و الغائبين ، و فاقدي البصر و السمع و النطق .
[ 69 ]
و سامعة صمّا ، و ناطقة بكما ؟ رأيت ضلالة قد قامت على قطبها [ 1 ] و تفرّقت بشعبها تكيلكم بصاعها [ 2 ] و تخبطكم بباعها ، قائدها خارج من الملّة [ 3 ] ، قائم على الضّلّة ، فلا يبقى يومئذ منكم إلاّ ثفالة كثفالة [ 4 ] القدر ، أو نفاضة كنفاضة
[ 1 ] قد قامت على قطبها . . . : القطب : الحديدة التي تدور عليها الرحى ، و المراد : انها ثبتت و استقامت . و تفرقت بشعبها : انتشرت و امتدت فروعها متغلغلة في المدن .
[ 2 ] تكيلكم بصاعها . . . : الصاع : اناء يكال به .
و تكيلكم بصاعها : تأخذكم للهلاك كما يأخذ الكيّال الطعام . و تخبطكم بباعها : الخبط : ضرب الشجر بالعصا ليتناثر ورقها ، و الباع : قدر مد اليدين ،
و المراد : اذلالها و قهرها لكم .
[ 3 ] خارج من الملّة . . . : خارج من الاسلام . قائم على الضلّة : يدعو الى الضلال .
[ 4 ] الثفالة . . . : ما استقذر تحت الشيء من الكدر . و ثفال القدر : ما سفل فيه من الرز المطبوخ . و النفاضة ما سقطت من الثوب المنفوض . و العكم : العدل و المراد : يبقى في العدل بعد افراغه من غبار أو زاد لا يعبأ به ، و المراد : لا يبقى إلاّ الرذال و الاشرار .
[ 70 ]
العكم تعرككم عرك الأديم [ 1 ] و تدوسكم دوس الحصيد و تستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الطّير الحبّة البطينة [ 2 ] من بين هزيل الحبّ ، أين تذهب بكم المذاهب و تتيه بكم الغياهب [ 3 ] و تخدعكم الكواذب ؟ ؟ و من أين تؤتون و أنّى تؤفكون [ 4 ] فلكلّ أجل كتاب ، و لكلّ غيبة إياب ، فاستمعوا
[ 1 ] تعرككم عرك الاديم . . . : العرك : شدة الدلك .
و الاديم : الجلد المدبوغ . و الحصيد : المحصود من الحبوب . و المراد : شدّة ما تؤخذون به .
[ 2 ] الحبّة البطينة : الممتلية .
[ 3 ] الغياهب : جمع غيهب : الظلمة الشديدة ، و شدّة سواد الليل ، و المعنى : أنتم في متاهات و ظلمات ، و بعد عن طريق النجاة ، و كأنه عليه السلام ينظر الى وضعنا الحاضر ، و تفرّقنا احزابا .
[ 4 ] و انى تؤفكون : كيف تصرفون عن الخط المستقيم .
[ 71 ]
من ربّانيّكم [ 1 ] و أحضروا قلوبكم ، و استيقظوا إن هتف بكم [ 2 ] و ليصدق رائد أهله [ 3 ] و ليجمع شمله ، و ليحضر ذهنه ، فلقد فلق لكم الأمر فلق الخرزة [ 4 ] ، و قرفه قرف الصّمغة ، فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه [ 5 ] ، و ركب الجهل مراكبه ،
[ 1 ] ربانيكم : نسبة الى الرب ، و المعنى : العارف باللّه جلّ جلاله ، المتأله العالم بدينه .
[ 2 ] هتف بكم : دعاكم .
[ 3 ] و ليصدق رائد أهله . . . : الرائد : الذي يتقدم القوم في البحث عن الكلاء ، و الطريق السهل لوصوله .
و المعنى : ليكن كل منكم رائدا لأهله ، يدلهم على الصلاح ، و يمنعهم من الفساد ، و يجمع شملهم كي لا يشذّوا ، و يوحّد كلمتهم على التوحيد .
[ 4 ] فلق الخرزة . . . : جعلها نصفين . و الصمغ : ما يجلب من شجر الغضا . و قرفه : القاه بكليته لم يدخر شيئا منه ، لان الصمغة تقتلع من شجرها و لا يبقى عليها علقة ، و المراد : انه ادّى اليكم النصائح و المواعظ ، لم يدّخر منها شيئا .
[ 5 ] اخذ الباطل مآخذه : تمكّن الباطل و تغلغل ، و ازدادت مجالاته .
[ 72 ]
و عظمت الطّاغية [ 1 ] ، و قلّت الدّاعية ، و صال الدّهر صيال السّبع العقور [ 2 ] ، و هدر فنيق الباطل بعد كظوم [ 3 ] ، و تواحى النّاس على الفجور [ 4 ] ،
و تهاجروا على الدّين ، و تحابّوا على الكذب ،
و تباغضوا على الصّدق ، فإذا كان ذلك كان الولد غيظا [ 5 ] و المطر قيظا [ 6 ] ، و تفيض اللّئام
[ 1 ] عظمت الطاغية . . . : عظم الطغيان . و قلّت الداعية :
قلّ دعاة الخير .
[ 2 ] و صال الدهر صيال السبع العقور : أشتدّ الزمان على الناس ، و العقور : الضاري المفترس .
[ 3 ] هدر فنيق الباطل بعد كظوم : هدر : البعير ردّد صوته في حنجرته . و الفنيق : الفحل من الابل . بعد كظوم :
بعد سكون و امساك . و المراد : ظهور الباطل و تمكّن أهله .
[ 4 ] تواخى الناس على الفجور . . . : صار الفجور رابطة لتآخيهم ، و حب بعضهم البعض . و تهاجروا على الدين : المهاجرة : المقاطعة ، و المعنى : قاطع الفجار المؤمنين من أجل دينهم .
[ 5 ] كان الولد غيظا : سببا لحزن والده و اذاه .
[ 6 ] و المطر قيظا : صيفا . و المراد : عدم الانتفاع به .
[ 73 ]
فيضا [ 1 ] ، و تغيض الكرام غيضا ، و كان أهل ذلك الزّمان ذئابا ، و سلاطينه سباعا ، و أوساطه أكّالا [ 2 ] ، و فقراؤه أمواتا ، و غار الصّدق [ 3 ] ،
و فاض الكذب ، و استعملت المودّة باللّسان ،
و تشاجر النّاس بالقلوب ، و صار الفسوق نسبا ،
و العفاف عجبا ، و لبس الإسلام [ 4 ] لبس الفرو مقلوبا .
[ 1 ] و تفيض اللئام . . . : تكثر . و تغيض الكرام : ثقل ،
و لعله اشارة الى قتلهم من قبل الطواغيت ، و تفرّقهم في البلاد خوفا على انفسهم .
[ 2 ] و أوساطه أكّالا . . . : المراد بالاوساط الطبقة الوسطى من المجتمع ، و لقربهم من الدولة و اربابها أكلوا حقوق الفقراء ، و استغلوهم حتى اماتوهم جوعا .
[ 3 ] غار الصدق : يقال : غار الماء : إذا ذهب في الارض ، و المراد هنا ترك الناس لفضيلة الصدق .
[ 4 ] البس الاسلام لبس الفرو مقلوبا : بدّلوا احكامه ،
فجعلوا حلاله حراما ، و حرامه حلالا .
[ 74 ]