و قد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد و قدم عليه عاملاه على اليمن ، و هما عبيد اللّه بن عباس و سعيد بن
[ 1 ] عصبه بكم : ربطه بكم ، و المعنى : اعملوا بما أمركم به جلّ جلاله .
[ 2 ] لفلجكم : لظفركم .
[ 24 ]
نمران لما غلب عليهما بسر بن أبي أرطاة [ 1 ] فقام
[ 1 ] من قوّاد معاوية بن أبي سفيان ، أرسله معاوية لاخافة أهل الحرمين ، و قتال أهل اليمن ، فقتل في وجهه ذلك ثلاثين الفا ، و ممن قتل طفلين لعبيد اللّه بن العباس بن عبد المطلب ، و في ذلك تقول أمهما :
يا من أحسّ بابني اللذين هما
كالدرتين تشظى عنهما الصدف
يا من أحسّ بابني اللذين هما
قلبي و سمعي فقلبي اليوم مختطف
من دلّ والدة حيرى مدلهة
على صبيين ضلاّ إذ غدا السلف
خبرت بسرا و ما صدقت ما زعموا
من إفكهم و من القول الذي اقترفوا
انحى على ودجي ابني مرهفة
مشحوذة و كذاك الاثم يقترف
و بلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فساءه ذلك ، و دعا الناس الى الجهاد ، و أرسل جارية بن قدامة في جيش ،
و أخذ يحث السير في طلب بسر ، و بسر ينهزم أمامه ، و وثب الناس ببسر عند منصرفه و أصابوا بعض ثقله .
و دعا الإمام عليه السلام على بسر بالجنون ، فاستجاب اللّه له فيه ، و سلب الطاغية عقله ، فكان يطلب السيف يضرب به المرفقة ، فعمل له سيف من خشب فكان يضرب به حتى يغشى عليه ، فكان هذا دأبه حتى هلك .
[ 25 ]
عليه السلام على المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد و مخالفتهم له في الرأي ، فقال :
ما هي إلاّ الكوفة [ 1 ] أقبضها و أبسطها [ 2 ] ، إن لم تكوني إلاّ أنت تهبّ أعاصيرك [ 3 ] فقبّحك اللّه .
[ 1 ] الكوفة : مدينة على شاطىء الفرات ، بينها و بين بغداد 100 كلم اتخذها الامام عليه السلام عاصمة له .
[ 2 ] اقبضها و ابسطها : شبهها بالثوب الذي يقبض و ينشر استصغارا لها .
[ 3 ] أعاصيرك : جمع أعصار : ريح عاصف ترفع ترابا إلى السماء كأنه عمود من نار ، تسميه العرب ( الزوبعة ) و في القرآن الكريم فأصابها أعصار فيه نار فاحترقت 2 : 266 و لعلّ المراد بالأعاصير ما بها من فتن و منافقين و خوارج ، أطمعهم فيها عفوه و عدله .
[ 26 ]
و تمثل بقول الشاعر :
لعمر أبيك الخير يا عمرو إنّني
على وضر من ذا الإناء قليل [ 1 ]
ثم قال عليه السلام :
أنبئت بسرا قد اطّلع اليمن [ 2 ] و إنّي و اللّه لأظنّ أنّ هؤلاء القوم سيدالون منكم [ 3 ] :
باجتماعهم على باطلهم ، و تفرّقكم عن حقّكم ،
و بمعصيتكم إمامكم في الحقّ ، و طاعتهم إمامهم في الباطل ، و بأدائهم الأمانة إلى صاحبهم و خيانتكم ، و بصلاحهم في بلادهم و فسادكم . فلو
[ 1 ] الوضر : بقايا الدسم في الطعام . و معنى البيت : إن ما بيدي من البلاد كنسبة بقايا الدسم إلى ما يشتمل عليه الاناء من الطعام .
[ 2 ] اطلع اليمن : وصلها و تغلّب عليها .
[ 3 ] سيدالون منكم : يتغلبون عليكم .
[ 27 ]
ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته [ 1 ] اللّهمّ إنّي قد مللتهم و سئمتهم [ 2 ] و سئموني ، فأبدلني بهم خيرا منهم و أبدلهم بي شرّا منّي ، اللّهمّ مث قلوبهم [ 3 ] كما يماث الملح في الماء ، أما و اللّه لوددت أنّ لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم [ 4 ] .
هنالك ، لو دعوت ، أتاك منهم
فوارس مثل أرمية الحميم
ثم نزل عليه السلام من المنبر . قال الشريف : أقول : الأرمية جمع رمى
[ 1 ] القعب : الاناء الكبير . و علاقته : عروته التي يعلّق بها ،
و المراد : وصفهم بالخيانة .
[ 2 ] سئمتهم : مللتهم .
[ 3 ] مث قلوبهم : دعا عليهم بأن تذاب قلوبهم بتوارد الهموم و الأحزان عليهم .
[ 4 ] فراس بن غنم : حيّ من كنانة ، عرفوا بالشجاعة .
[ 28 ]
و هو السحاب ، و الحميم ههنا : وقت الصيف ،
و إنما خص الشاعر سحاب الصيف بالذكر لأنه أشد جفولا و أسرع خفوفا لأنه لا ماء فيه .
و إنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء ،
و ذلك لا يكون في الأكثر إلاّ زمان الشتاء ، و إنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا ، و الإغاثة إذا استغيثوا ، و الدليل على ذلك قوله هنالك لو دعوت أتاك منهم .