أمّا بعد ، فإنّي أحذّركم الدّنيا فإنّها حلوة
[ 1 ] و تفقهوا . . . : تفهّموا . و وصفه بربيع القلوب ، فكما أن الربيع محبب للنفوس ، تزهر فيه الأوراد ، و تنمو فيه النباتات ، كذلك القرآن الكريم ، يزهر بمختلف العلوم و الآداب و التعالم .
[ 92 ]
خضرة [ 1 ] ، حفّت بالشّهوات [ 2 ] ، و تحبّبت بالعاجلة ، و راقت بالقليل ، و تحلّت بالآمال ،
و تزيّنت بالغرور ، لا تدوم حبرتها [ 3 ] و لا تؤمن فجعتها ، غرّارة [ 4 ] ضرّارة ، حائلة زائلة نافدة بائدة ، أكّالة غوّالة لا تعدو إذا تناهت [ 5 ] إلى أمنيّة أهل الرّغبة فيها و الرّضاء بها أن تكون كما قال اللّه
[ 1 ] خضرة : جاذبة للناس كما تجذب الأرض المخضرة بالازهار و الاوراد الناظرين .
[ 2 ] حفّت بالشهوات . . . : أحيطت . و تحببت بالعاجلة :
إنّ سبب تعلّق أهلها بها هو ما يتعجلونه و يسارعون فيه من التمتع بها . راقت بالقليل : أعجبت أهلها بقليل لا يدوم . تحلّت بالآمال : تزينت لهم بآمال طويلة يؤملونها فيها حتّى أنستهم الدار الآخرة : تزينت بالغرور : سبيلها خداع الناس و إضلالهم .
[ 3 ] حبرتها . . . : نعمتها . فجعتها : مصائبها و كوارثها .
[ 4 ] غرارة . . . : خدّاعة . ضرارة : كثيرة الضرر . حائلة :
متغيّرة . زائلة : لا بقاء لها . نافذة : فانية . بائدة :
هالكة . غوالة : تغتالهم ( تقتلهم ) .
[ 5 ] لا تعدو اذا تناهت . . . : هي عند ما تبلغ نهايتها ،
و أقصى ما يؤمله منها أهلها ، لا تتجاوز الوصف الذي وصفها به خالقها .
[ 93 ]
تعالى سبحانه كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَ كَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً لم يكن امرؤ منها في حبرة إلاّ أعقبته بعدها عبرة [ 1 ] ، و لم يلق في سرّائها بطنا إلاّ منحته من ضرّائها ظهرا [ 2 ] و لم تطلّه فيها ديمة رخاء إلاّ هتنت عليه مزنة بلاء [ 3 ] . و حريّ إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له متنكرة ، و إن جانب
[ 1 ] لم يكن امرؤ منها في حبرة إلاّ أعقبته بعدها عبرة : الحبرة :
النعمة . و أعقبه : أتى بعده . و العبرة : تردد البكاء في الصدر ،
و الحزن . و المراد : أن نعيمها يزول ، و يتلوه حزن .
[ 2 ] و لم يلق من سرائها بطنا . . . : السراء : النعمة و الرخاء .
و الضراء : العسر و الشدّة . و المراد : سرعة انقلاب حالها و تغيّرها .
[ 3 ] و لم تطلّه فيها ديمة . . . : الطل : المطر الضعيف . و الديمة :
مطر يدوم في سكون . و هتنت : انصبّت . و المزنة : القطعة من السحاب . و المعنى : ان المستفيد بالطل و الديمة يأتيه شاء أو أبى هتن و مزنة يفسد زرعه .
[ 94 ]
منها اعذوذب و احلولى أمرّ منها جانب فأوبى [ 1 ] .
لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا إلاّ أرهقته من نوائبها تعبا [ 2 ] و لا يمسى منها في جناح أمن إلاّ أصبح على قوادم خوف [ 3 ] . غرّارة [ 4 ] غرور ما فيها ، فانية فان من عليها . لا خير في شيء من أزوادها إلاّ التّقوى [ 5 ] . من أقلّ منها استكثر ممّا
[ 1 ] فاوبى : صار كثير الوباء ( المرض ) و المعنى : ان المتنعم بها لا يسلم من مكارهها .
[ 2 ] غضارتها . . . : طيب عيشها . أرهقته تعبا : ألحقت ذلك به .
نوائبها : ما ينتاب أهلها من المصائب . و المعنى : لا يحصل لأحد نعيمها إلاّ نالته نكباتها و آلمها .
[ 3 ] القوادم : ريش في مقدم الجناح يساعد على الطيران .
و المراد : بيان ما يعقب نعيمها من البلاء .
[ 4 ] غرارة : خدّاعة .
[ 5 ] لا خير في شيء من ازوادها إلاّ التقوى : أخذه من قوله جلّ جلاله : وَ تَزَوَّدوا فإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَ اتقُونِ يَا أُولِي الألبابِ 2 : 197 .
[ 95 ]
يؤمنه ، و من استكثر منها استكثر ممّا يوبقه [ 1 ] ،
و زال عمّا قليل عنه . كم من واثق بها فجعته [ 2 ] ،
و ذي طمأنينة إليها قد صرعته . و ذي أبّهة [ 3 ] قد جعلته حقيرا ، و ذي نخوة [ 4 ] قد ردّته ذليلا . سلطانها دول ، و عيشها رنق ، و عذبها أحاج ، و حلوها صبر ،
و غذاؤها سمام ، و أسبابها رمام [ 5 ] . حيّها بعرض
[ 1 ] من أقل منها استكثر مما يوبقه . . . : من أقلّ الاهتمام بها ،
و التكالب عليها ، فقد حصّل على نصيب وافر من الأمان في الآخرة . و من استكثر منها استكثر مما يوبقه : يهلكه .
و المعنى : من انهمك في جمعها فقد عرّض نفسه للهلكة في الآخرة .
[ 2 ] فجعته : أصابته رزاياها و نكباتها .
[ 3 ] ذي أبهة : ذي عظمة و بهجة .
[ 4 ] ذي نخوة : افتخار .
[ 5 ] سلطانها دول . . . : لا يدوم لأحد وَ تِلْكَ الأَيَّامُ نُداوِلُهَا بَيْنَ النَّاس 3 : 140 . و عيشها رنق : متكدّر . و عذبها أجاج : شديد الملوحة . و حلّوها صبر : مرّ . و غذاؤها سمام : جمع سم : مادة قاتلة . و أسبابها : حبالها . رمام :
بالية .
[ 96 ]
موت . و صحيحها بعرض سقم . ملكها مسلوب ،
و عزيزها مغلوب ، و موفورها منكوب ، و جارها محروب [ 1 ] . ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا ، و أبقى آثارا ، و أبعد آمالا ، و أعدّ عديدا [ 2 ] ، و أكثف جنودا . تعبّدوا للدّنيا أيّ تعبّد ،
و آثروها أيّ إيثار [ 3 ] ثمّ ظعنوا عنها بغير زاد مبلّغ و لا ظهر قاطع [ 4 ] فهل بلغكم أنّ الدّنيا سخت لهم نفسا بفدية [ 5 ] ، أو أعانتهم بمعونة أو أحسنت لهم صحبة . بل
[ 1 ] موفورها . . . : المستكثر منها . منكوب : مصاب بمصائبها . و جارها محروب : مسلوب المال .
[ 2 ] أعدّ عديدا . . . : أكثر جيوشا .
[ 3 ] تعبّدوا للدنيا . . . : أنزلوها بمنزلة المعبود في الاهتمام لها ، و الامتثال لما تدعوهم إليه ، و آثروها : اختاروها على الآخرة .
[ 4 ] ثم ظعنوا عنها . . . : رحلوا عنها . بغير زاد مبلغ : لم يعدّوا طعاما يكفيهم لسفرهم . و لا ظهر قاطع : و لا راحلة يقطعون بها الطريق .
[ 5 ] فهل بلغكم أن الدنيا سخت لهم نفسا بفدية : إن اهتمامهم بها ، و جمعهم لها ، و عبادتهم إيّاها لم يحصلوا منها مقابل ذلك على مكافئة ، فهي لم تفدهم مما حلّ بهم من كوارث الموت و ما بعده .
[ 97 ]
أرهقتهم بالفوادح ، و أوهنتهم بالقوارع ، و ضعضعتهم بالنّوائب و عفّرتهم للمناخر ، و وطئتهم بالمناسم [ 1 ] ، و أعانت عليهم ريب المنون [ 2 ] . فقد رأيتم تنكّرها لمن دان لها [ 3 ] ، و آثرها و أخلد لها ، حتّى ظعنوا [ 4 ] عنها لفراق الأبد ، و هل زوّدته إلاّ السّغب ، أو أحلّتهم
[ 1 ] أرهقتهم بالفوادح . . . : الارهاق : أن يحمل الانسان ما لا يطيق . و فدحه الأمر : أثقله . و أوهنتهم : أضعفتهم .
و القوارع : الدواهي . و ضعضعتهم : ذللتهم . و النوائب :
المصائب . و عفرتهم للمناخر : تعفّرت وجوههم بالتراب ،
و ذكر المناخر الأنوف لكونها موضع العزّة و الانفة .
وطىء الشيء داسه . و المنسم : خف البعير .
[ 2 ] ريب المنون : أحداث الدنيا و مصائبها .
[ 3 ] دان لها . . . : خضع لها . و أخلد لها : اطمأن إليها .
[ 4 ] ظعنوا : ارتحلوا .
[ 98 ]
إلاّ الضّنك ، أو نوّرت لهم إلاّ الظّلمة [ 1 ] ، أو أعقبتهم [ 2 ] إلاّ النّدامة . أفهذه تؤثرون ، أم إليها تطمئنّون ؟ أم عليها تحرصون ؟ . فبئست الدّار لمن لم يتّهمها ، و لم يكن فيها على وجل [ 3 ] منها فاعلموا و أنتم تعلمون بأنّكم تاركوها و ظاعنون عنها ، و اتّعظوا فيها بالّذين قالوا « من أشدّ منّا قوّة » . حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا [ 4 ] ،
و أنزلوا الأجداث [ 5 ] . فلا يدعون ضيفانا [ 6 ] و جعل
[ 1 ] السغب . . . : الجوع . و الضنك : الضيق ، و المراد به القبر . أو نوّرت . . . : لم يجدوا إلاّ الظلام .
[ 2 ] أعقبتهم : أورثتهم ، و المراد : لم يحصّلوا منها إلاّ الندم .
[ 3 ] على وجل : على خوف .
[ 4 ] فلا يدعون ركبانا : جمع راكب . و المعنى أن الموتى و إن حملوا لا يمكن وصفهم بالركبان ، لأن الراكب من كان له الاختيار في المشي و الوقوف و النزول ، أمّا هم فقد سلبوا الاختيار .
[ 5 ] الاجداث : القبور .
[ 6 ] فلا يدعون ضيفانا : الضيف : النازل عند غيره ، و هم و إن نزلوا في غير بيوتهم لا تطلق عليهم كلمة الضيافة .
[ 99 ]
لهم من الصّفيح أجنان ، و من التّراب أكفان ،
و من الرّفات جيران [ 1 ] ، فهم جيرة لا يجيبون داعيا ، و لا يمنعون ضيما ، و لا يبالون مندبة [ 2 ] . إن جيدوا [ 3 ] لم يفرحوا ، و إن قحطوا لم يقنطوا .
جميع و هم آحاد ، و جيرة و هم أبعاد . متدانون لا يتزاورون ، و قريبون لا يتقاربون . حلماء قد ذهبت
[ 1 ] من الصفيح أجنان . . . : الصفيح : وجه كل شيء عريض ، و المراد به وجه الأرض . و أجنان : قبور .
و الرفات : العظام البالية . و المعنى : انهم نزلوا القبور ،
و حتى الأكفان لم يسلموا عليها ، فقد أكلها التراب ،
و صار لهم بمنزلة الكفن ، و جيرانهم رفات الذين سبقوهم .
[ 2 ] و لا يبالون مندبة : الندب : ذكر محاسن الميت ، و المراد :
انهم لانشغالهم بأنفسهم لا يكترثون بندبة نادب ، و لا يفرحون بمدحة مادح .
[ 3 ] جيدوا : امطروا .
[ 100 ]
أضغانهم ، و جهلاء قد ماتت أحقادهم [ 1 ] لا يخشى فجعهم [ 2 ] ، و لا يرجى دفعهم . استبدلوا بظهر الأرض بطنا ، و بالسّعة ضيقا ، و بالأهل غربة ،
و بالنّور ظلمة . فجاؤوها كما فارقوها ، حفاة عراة .
قد ظعنوا عنها [ 3 ] بأعمالهم إلى الحياة الدّائمة و الدّار الباقية ، كما قال سبحانه كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ .
[ 1 ] حلماء قد ذهبت أضغانهم ، و جهلاء قد ماتت أحقادهم :
بموتهم ارتفعت الاحساسات التي تولد الحقد و غيره ،
فصاروا بمنزلة حلماء لا يغضبون ، و جهّال لا يشعرون .
[ 2 ] لا يخشى فجعهم : لا يخاف حصول ضرر منهم .
[ 3 ] ظعنوا عنها : فارقوها .
[ 101 ]