أمّا بعد فإنّ الأمر ينزل من السّماء إلى الأرض كقطرات المطر : إلى كلّ نفس بما قسم لها من زيادة و نقصان ، فإذا رأى أحدكم لأخيه غفيرة [ 2 ] في أهل أو مال أو نفس فلا
[ 1 ] هبلتهم الهبول : هبلتهم : ثكلتهم . و الهبول : المرأة التي لا يبقى لها ولد . و المراد : الدعاء عليهم بالهلاك .
[ 2 ] غفيرة : زيادة و كثرة .
[ 18 ]
تكوننّ له فتنة [ 1 ] ، فإنّ المرء المسلم ما لم يغش دناءة [ 2 ] تظهر فيخشع لها إذا ذكرت [ 3 ] و تغرى بها لئام النّاس ، كان كالفالج الياسر [ 4 ] الّذي ينتظر أوّل فوزة من قداحه [ 5 ] توجب له المغنم ، و يرفع
[ 1 ] فلا تكونن له فتنة : لا يحسد أخاه على ما أعطاه اللّه جلّ جلاله من النعم فيقع في معصية .
[ 2 ] ما لم يغش دناءة : ما لم يأت برذيلة .
[ 3 ] فيخشع لها إذا ذكرت : يخجل من ذكرها . و من حكمه عليه السلام : لا تعمل عملا في السر و تستح منه في العلانية .
[ 4 ] كالفالج الياسر : المقامر الفائز .
[ 5 ] قداحه : أسهمه الرابحة . يشير عليه السلام إلى ما ذكره القرآن الكريم و إن تستقسموا بالأزلاَمِ 5 : 3 .
فكانوا يشترون البعير و يقسمونه عشرة أجزاء ، و كان لهم عشرة قداح ، سبعة رابحة ، و ثلاثة خاسرة ، فمن خرج له قدح الربح أخذ سهمه من اللحم ، و على الثلاثة الخاسرة ثمن البعير .
[ 19 ]
بها عنه المغرم [ 1 ] ، و كذلك المرء المسلم البريء من الخيانة ينتظر من اللّه إحدى الحسنيين إمّا داعي اللّه فما عند اللّه خير له ، و إمّا رزق اللّه فإذا هو ذو أهل و مال ، و معه دينه و حسبه ، إنّ المال و البنين حرث الدّنيا ، و العمل الصّالح حرث الآخرة ، و قد يجمعهما اللّه لأقوام ،
فاحذروا من اللّه ما حذّركم من نفسه [ 2 ] ،
و اخشوه خشية ليست بتعذير [ 3 ] ، و اعملوا في غير رياء و لا سمعة ، فإنّه من يعمل لغير اللّه يكله
[ 1 ] المغرم : ما يلزم به الانسان من غرامة أو يصاب في ماله بخسارة .
[ 2 ] ما حذركم من نفسه : يريد في هذا الكلام النهي عن الحسد ، فهو الذي حذّر اللّه جلّ جلاله عباده منه ،
و الحاسد ساخط على اللّه تقديره .
[ 3 ] بتعذير : لم يثبت له عذر ، و المعنى : خشية ليس فيها تعذير يعتذر منه .
[ 20 ]
اللّه لمن عمل له [ 1 ] نسأل اللّه منازل الشّهداء ،
و معايشة السّعداء ، و مرافقة الأنبياء .
أيّها النّاس إنّه لا يستغني الرّجل ، و إن كان ذا مال ، عن عشيرته ، و دفاعهم عنه بأيديهم و ألسنتهم ، و هم أعظم النّاس حيطة من ورائه [ 2 ] و ألمّهم لشعثه [ 3 ] ، و أعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به . و لسان الصّدق [ 4 ] يجعله اللّه للمرء
[ 1 ] يعمل لغير اللّه . . . : العمل لغيره تعالى هو عمل المرائي ، و يكله اللّه الى من عمل له : كناية عن حرمان الثواب ، و في الحديث النبوي : « إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء : يا كافر ، يا فاجر ، يا غادر ، يا خاسر ، حبط عملك ، و بطل أجرك ، فلا خلاص لك اليوم ، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له » .
[ 2 ] حيطة من ورائه : حفظا له .
[ 3 ] و المهم لشعثه : أجمعهم لمتفرق أمره .
[ 4 ] لسان الصدق : كناية عن الذكر الجميل له ، و أجمعت الحكماء على أن الذكر الجميل أثمن شيء في الحياة .
و في القرآن الكريم حكاية عن نوح عليه السلام :
و تركنا عليه في الآخرين 37 : 78 و معناه : أبقينا عليه الذكر الجميل إلى يوم القيامة .
[ 21 ]
في النّاس خير له من المال يورّثه غيره .
و منها : ألا لا يعدلن عن القرابة يرى بها الخصاصة [ 1 ] أن يسدّها بالّذي لا يزيده إن أمسكه ، و لا ينقصه إن أهلكه [ 2 ] ، و من يقبض يده عن عشيرته فإنّما تقبض منه عنهم يد واحدة ، و تقبض منهم عنه أيد كثيرة ، و من تلن حاشيته [ 3 ] يستدم من قومه المودّة . قال الشريف : أقول : الغفيرة ههنا الزيادة و الكثرة ، من قولهم للجمع الكثير : الجم الغفير ،
[ 1 ] الخصاصة : الفقر و الحاجة .
[ 2 ] أهلكه : بذله . و هذه الكلمة نهاية الحث على بذل المال ، و مساعدة الأقرباء به .
[ 3 ] تلن حاشيته : يحسّن خلقه .
[ 22 ]
و الجماء الغفير . و يروى « عفوة من أهل أو مال » و العفوة الخيار من الشيء ، يقال : أكلت عفوة الطعام ، أي : خياره ، و ما أحسن المعنى الذي أراده عليه السلام بقوله : « و من يقبض يده عن عشيرته إلى تمام الكلام » فإنّ الممسك خيره عن عشيرته إنّما يمسك نفع يد واحدة فإذا احتاج إلى نصرتهم و اضطرّ إلى مرافدتهم قعدوا عن نصره ،
و تثاقلوا عن صوته ، فمنع ترافد الأيدي الكثيرة ،
و تناهض الأقدام الجمّة .