أمّا بعد ، فإنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه ، و هو لباس التّقوى [ 2 ] ، و درع اللّه الحصينة ، و جنّته الوثيقة [ 3 ] فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذّلّ و شملة البلاء ، و ديّث بالصّغار و القماء [ 4 ]
[ 1 ] سناها : لظاها . لهبها ، و المراد : أن العدو قد تهيأ للحرب ، و أعدّ عدته ، فعليكم بالجهاد .
[ 2 ] لباس التقوى : زي المتقين و شعارهم .
[ 3 ] جنته الوثيقة : الجنة : كل ما يقي يحمي الإنسان من المخاطر ، و المراد : أن الجهاد يقي المجاهد مخاطر الدنيا و الآخرة .
[ 4 ] و ديث بالصغار و القماء : ديث : ذلل . و الصغار : الذل و الهوان . و القماء : الذل . أتى عليه السلام بثلاث كلمات في معنى واحد ، و هو ما يلحق تارك الجهاد من ذل و هوان في الدنيا و الآخرة .
[ 32 ]
و ضرب على قلبه بالأسداد [ 1 ] ، و أديل الحقّ منه [ 2 ] بتضييع الجهاد ، و سيم الخسف [ 3 ] و منع النّصف [ 4 ] ، ألا و إنّي قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا و نهارا ، و سرّا و إعلانا ، و قلت
[ 1 ] و ضرب على قلبه بالاسداد : جمع سد و هو الحاجز .
و في القرآن الكريم و جعلنا من بين أيديهم سدا و من خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون 35 : 9 و ذلك كناية عن خذلان اللّه لهم لتركهم أمره .
[ 2 ] و اديل الحق منه : غلبه عدوه .
[ 3 ] و سيم الخسف : الزم الذل .
[ 4 ] و منع النصف : النصف : العدل . و المعنى : انه بتركه فريضة الجهاد يبتلى بحكام ظالمين يعاملونه بالظلم ،
و قد حصل ذلك لأهل الكوفة ، فقد حكمهم زياد بن أبيه ، و المغيرة بن شعبة ، و الحجاج بن يوسف ، و يوسف ابن عمر ، أشر حكام بني أمية .
[ 33 ]
لكم : أغزوهم قبل أن يغزوكم ، فو اللّه ما غزي قوم في عقر دارهم إلاّ ذلّوا ، فتواكلتم ، و تخاذلتم حتّى شنّت الغارات عليكم ، و ملكت عليكم الأوطان . و هذا أخو غامد و قد وردت خيله الأنبار [ 1 ] و قد قتل حسّان [ 2 ] بن حسّان البكريّ و أزال خيلكم عن مسالحها [ 3 ] و لقد بلغني أنّ الرّجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة ،
و الأخرى المعاهدة [ 4 ] ، فينتزع حجلها و قلبها
[ 1 ] الأنبار : بلد على الفرات ، تبعد عن بغداد 100 كلم .
[ 2 ] حسّان : الوالي الحاكم فيها من قبل الامام عليه السلام ، و قد أبدى و من معه بطولة و استماتة في القتال ،
و لكن النسبة بينهم و بين العدو مفقودة ، فهم ثلاثون ،
و العدو ستة آلاف .
[ 3 ] مسالح : جمع مسلحة ، و هي الحدود التي يقف فيها الجنود استعدادا للطوارىء ، و في عرف اليوم تسمى ( حامية ) .
[ 4 ] المعاهدة : المرأة الكتابية ، يهودية كانت أو نصرانية ،
داخلة في حماية الاسلام . و هنا أمر يجب الانتباه له ،
و هو أن الامام عليه السلام لم يفرّق بينها و بين المسلمة ،
و تألمه عليهما معا ، و هي نظرة الإسلام إلى أهل الأديان المسالمين ، فهو يحميهم و يدافع عنهم ، و هنا تتبين عدالة الإسلام ، و هذا لا نظير له في الأديان الأخرى .
[ 34 ]
و قلائدها و رعاثها [ 1 ] ما تمنع منه إلاّ بالاسترجاع و الاسترحام [ 2 ] ثمّ انصرفوا وافرين [ 3 ] ما نال رجلا منهم كلم [ 4 ] ، و لا أريق لهم دم ، فلو أنّ امرءا مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما ،
بل كان به عندي جديرا ، فيا عجبا و اللّه
[ 1 ] حجلها و قلبها و قلائدها و رعاثها : الحجل : الخلخال .
و القلب : السوار . و الرعاث : القرط ، و كل هذا مما تتزين به النساء .
[ 2 ] بالاسترجاع و الاسترحام : الاسترجاع : ترديد الصوت بالبكاء . و الاسترحام : مناشدة الرحم . و المراد : ليس لها ما تمتنع به إلاّ الاستعطاف و التوسل .
[ 3 ] الوافر : التام .
[ 4 ] كلم : جرح .
[ 35 ]
يميت القلب و يجلب الهمّ اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم ، و تفرّقكم عن حقّكم ، فقبحا لكم و ترحا [ 1 ] حين صرتم غرضا يرمى [ 2 ] : يغار عليكم و لا تغيرون ، و تغزون و لا تغزون ،
و يعصى اللّه و ترضون ، فإذا أمرتكم بالسّير إليهم في أيّام الصّيف قلتم هذه حمارّة القيظ [ 3 ] أمهلنا يسبّخ عنّا الحرّ [ 4 ] و إذا أمرتكم بالسّير إليهم في الشّتاء قلتم : هذه صبارّة القرّ [ 5 ] أمهلنا ينسلخ عنّا البرد ، كلّ هذا فرارا من الحرّ و القرّ ، فأنتم و اللّه من السّيف أفرّ ، يا أشباه الرّجال و لا رجال
[ 1 ] الترح : الحزن .
[ 2 ] الغرض : الهدف .
[ 3 ] حمارة القيظ : شدة الحر .
[ 4 ] يسبّخ : يخف .
[ 5 ] صبارة القر : شدة البرد .
[ 36 ]
حلوم الأطفال ، و عقول ربّات الحجال [ 1 ] لوددت أنّي لم أركم و لم أعرفكم معرفة و اللّه جرّت ندما ، و أعقبت سدما [ 2 ] قاتلكم اللّه لقد ملأتم قلبي قيحا ، و شحنتم صدري غيظا ،
و جرّعتموني نغب التّهمام أنفاسا [ 3 ] و أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان و الخذلان ، حتّى قالت قريش :
إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع ، و لكن لا علم له بالحرب .
للّه أبوهم و هل أحد منهم أشدّ لها مراسا ، و أقدم فيها مقاما منّي [ 4 ] ؟ لقد نهضت
[ 1 ] ربات الحجال : النساء ، و الحجال : جمع حجلة ، و هي بيت العروس المزيّن بالستائر .
[ 2 ] سدما : حزنا .
[ 3 ] و جرعتموني نغب التهمام أنفاسا : النغب : جمع نغبة و هي الجرعة . و التهمام : الهم . و أنفاسا : جرعة بعد جرعة .
[ 4 ] مراسا : مزاولة . مباشرة .
[ 37 ]
فيها و ما بلغت العشرين ، و ها أناذا قد ذرّفت على السّتّين [ 1 ] ، و لكن لا رأي لمن لا يطاع .