و منها في صفة خلق الإنسان

أم هذا الّذي أنشأه في ظلمات الأرحام و شغف الأستار [ 1 ] ، نطفة دهاقا ، و علقة محاقا [ 2 ] ،

[ 1 ] شغف الاستار : اغلفة القلب .

[ 2 ] نطفة دهاقا . . . : النطفة : ماء الرجل و المرأة الذي يتكّون منه الجنين . دهاقا : صبّا بقوة . علفة : قطعة دم جامد . محاقا : لم تتصور بعد بصورة الانسان و لقَد خَلَقنا الانسانَ مِن سُلاَلَةٍ مِن طِينٍ ثم جَعَلنَاه نُطفَةً فِي قَرَارٍ مَكين . ثمَّ خَلَقنَا النطفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقنَا العَلَقَةَ مُضغَةً فَخَلَقنَا الْمُضغَةَ عِظَاماً فَكَسَونَا العظَامَ لحماً ثمَّ اَنشَاناه خلقاً آخرَ فَتَبَارَكَ اللَّه اَحسَنُ الخالقينَ 23 : 14 .

[ 89 ]

و جنينا و راضعا ، و وليدا و يافعا [ 1 ] ، ثمّ منحه قلبا حافظا ، و لسانا لافظا ، ليفهم معتبرا ، و يقصّر مزدجرا [ 2 ] ، حتّى إذا قام اعتداله ، و استوى مثاله [ 3 ] نفر مستكبرا ، و خبط سادرا [ 4 ] ماتحا في غرب هواه [ 5 ] كادحا سعيا لدنياه في لذّات

[ 1 ] يافعا : طرّ شاربه .

[ 2 ] ليفهم معتبرا . . . : معتبرا : بالعظات التي يشاهدها .

مزدجرا : منتهيا عما نهي عنه .

[ 3 ] قام اعتداله ، و استوى مثاله : اذا تكاملت قوته ، و بلغ اشده ، و هي الفترة بين الثمانية عشرة من عمره الى الثلاثين .

[ 4 ] نفر . . . : فرّ عما كلف به . و خبط : سار على غير الجادة . سادرا : متحيّرا .

[ 5 ] ماتحا . . . : الماتح : الذي ينزل البئر اذا قلّ ماؤه .

و الغرب : الدلو العظيم . و الهوى : ما تهواه النفس مما لا يحل . و الكدح : شدة السعي . و المراد : استفرغ جهده و قوته في مخالفة ربه ، تشبيها بالماتح الذي يمل‏ء دلوه .

[ 90 ]

طربه ، و بدوات أربه [ 1 ] ، لا يحتسب رزيّة ، و لا يخشع تقيّة [ 2 ] ، فمات في فتنته غريرا ، و عاش في هفوته [ 3 ] يسيرا ، لم يفد عوضا ، و لم يقض مفترضا [ 4 ] ، دهمته فجعات المنيّة في غبّر جماحه ، و سنن مراحه [ 5 ] ، فظلّ سادرا [ 6 ] و بات

[ 1 ] بدوات اربه : البدوات : الخطرات التي تخطر له و الارب : الحاجة . و المراد : انه يعمل ما يريد ، دون تقيّد بالشريعة .

[ 2 ] لا يحتسب رزية . . . : لا يفكر بان تصيبه مصيبة .

و لا يخشع تقية : لا يخاف ربه ، و لا يتقي يتجنب عذابه .

[ 3 ] فمات في فتنته غريرا . . . : فتنته : ضلالته ،

و غريرا : مغرورا . و هفوته : خطيئته .

[ 4 ] لم يفد عوضا . . . : لم يحصّل في الدنيا عوضا مما فاته من نعيم الآخرة . و لم يقض مفترضا : لم يؤد ما افترض عليه .

[ 5 ] دهمته فجعات المنية . . : فاجأته دواهي الموت و شداته . في غبر جماحه : في بقايا من تعنته و اصراره .

و السنن : الطريقة . و المراح : البطر . و المراد : انه حتى في آخر لحظة من عمره متماديا في غروره .

[ 6 ] فظل سادرا : بقي حائرا لأنه لم يأخذ عدته للأمر الذي فاجأه .

[ 91 ]

ساهرا ، في غمرات الآلام ، و طوارق الأوجاع [ 1 ] و الأسقام ، بين أخ شقيق ، و والد شفيق ، و داعية بالويل جزعا ، و لادمة [ 2 ] للصّدر قلقا ، و المرء في سكرة ملهية ، و غمرة كارثة ، و أنة موجعة ، و جذبة مكربة ، و سوقة متعبة [ 3 ] . ثمّ أدرج في أكفانه مبلسا ، و جذب منقادا سلسا [ 4 ] ، ثمّ ألقي على

[ 1 ] غمرات الآلام : شدة الأوجاع . طوارق : جمع طارق الحادث ليلا ، و فيها اشارة الى مباغتات المرض و شدائده غالبا ما تكون ليلا .

[ 2 ] الويل . . . : الحسرة . و لادمة : ضاربة .

[ 3 ] في سكرة ملهية . . . : هي سكرات الموت ، تنسيه كل ما كان يأنس به . و الغمرة : الشدّة . و الكارثة : القاطعة لآماله . و أنة موجعة : يئن مما به من الآلام . و جذبة مكربة : اشارة الى جذب ملك الموت لروحه .

و السوق : حال الاحتضار للميت ، فهو يساق لعالم آخر .

[ 4 ] مبلسا . . . : آيسا . و سلسا : سهلا . و المراد : صار يحرك كيف ما شاء محركه .

[ 92 ]

الأعواد ، رجيع وصب ، و نضو سقم [ 1 ] ، تحمله حفدة الولدان ، و حشدة الإخوان [ 2 ] ، إلى دار غربته ، و منقطع زورته [ 3 ] حتّى إذا انصرف المشيّع ، و رجع المتفجّع [ 4 ] أقعد في حفرته نجيّا [ 5 ] لبهتة السّؤال ، و عثرة الإمتحان ،

و أعظم ما هنالك بليّة نزول الحميم ، و تصلية

[ 1 ] ثم القي على الاعواد . . . : هو التابوت المعد للاموات . و الرجيع من الدواب هو الذي يعمل في الاسفار ذاهبا راجعا . و الوصب : التعب . و النضو :

المهزول من الدواب . و المراد : ان اسقامه و آلامه ،

و شدائد الموت جعلته بالصفة المتقدمة .

[ 2 ] الحفدة . . . : ابناء الابناء و الاعوان . و الحشدة :

الجمع .

[ 3 ] منقطع زورته : فهو يكابد الوحدة ، لا يزور و لا يزار .

[ 4 ] المتفجع : المصاب بالمصيبة ، و المراد به اقرباءه و خاصته .

[ 5 ] ناجاه : سارّه . و المراد : ان كلام الملكين معه لا يسمعه غيره .

[ 93 ]

الجحيم ، و فورات السّعير ، و سورات الزّفير [ 1 ] ،

لا فترة مريحة ، و لا دعة مزيحة ، و لا قوّة حاجزة ،

و لا موتة ناجزة ، و لا سنة مسلية ، بين أطوار الموتات [ 2 ] و عذاب السّاعات إنّا باللّه عائذون .

عباد اللّه ، أين الّذين عمّروا فنعموا ، و علّموا

[ 1 ] الحميم . . . : جهنم . و المراد : ان هذه الشدائد و ان عظمت فهي دونها . و الجحيم : النار العظيمة فنُزُل مِن حميمٍ . وَ تصلِيَةُ جَحيمٍ 56 : 94 . و السعير : من اسماء جهنم . و فورانها : شدة غليانها . و سورات :

جمع سورة : الشدة و الهياج . و الزفير : صوت النار عند توقدها .

[ 2 ] لا فترة مريحة . . . : هو في عذاب متواصل ، و لا دعة مريحة : و لا راحة تزيل عنه التعب . و لا قوة حاجزة :

مانعة عنه العذاب . و لا موتة ناجزة : تريحه مما يعانيه .

و السنة : اوائل النوم . و مسلية : ملهية عن الألم .

و اطوار : انواع ، فهو يموت في كل ساعة و يحيا كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلناهم جُلُوداً غَيرهَا ليذوقوا العَذَابَ 4 : 56 .

[ 94 ]

ففهموا ، و أنظروا فلهوا ، و سلموا فنسوا ؟ [ 1 ] أمهلوا طويلا ، و منحوا جميلا ، و حذّروا أليما ، و وعدوا جسيما [ 2 ] احذروا الذّنوب المورّطة ، و العيوب المسخطة [ 3 ] .

أولى الأبصار و الأسماع ، و العافية و المتاع

[ 1 ] عمروا فنعموا . . . : عاشوا عمرا متنعمين فيه . و علموا ففهوا : تيقنوا الأمر . و انظروا : لم يعاجلهم الموت .

فلهوا : عما يصلحهم . و سلموا : من العوارض و الآفات . فنسوا : نعم اللّه جلّ جلاله و ما يلزمهم من العمل و الاستعداد .

[ 2 ] امهلوا . . . : عمّروا طويلا . و منحوا جميلا : اعطوا خيرا . و حذروا اليما : عذابا شديدا . و وعدوا جسيما :

وعدهم اللّه سبحانه ثوابا عظيما على الطاعة .

[ 3 ] المورطة . . . : المهلكة . و في دعاء كميل : اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم ، اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم ، اللهم اغفر لي الذنوب التي تغيّر النعم ، اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الدعاء ،

اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء . و العيوب المسخطة : المعائب التي تسخط اللّه تعالى .

[ 95 ]

هل من مناص ، أو خلاص أو معاذ ، أو ملاذ ،

أو فرار ، أو محار ؟ أم لا ؟ فأنّى تؤفكون أم أين تصرفون ؟ [ 1 ] أم بماذا تغترّون ؟ و إنّما حظّ أحدكم من الأرض ذات الطّول و العرض قيد قدّه ، متعفّرا على خدّه [ 2 ] . الآن عباد اللّه و الخناق مهمل [ 3 ] و الرّوح مرسل ، في فينة الإرشاد ،

[ 1 ] مناص . . . : ملجأ . معاذ : تعوذون تمتنعون به .

ملاذ : تلوذون به فرارا من النار . محار : مرجع الى الدنيا . تؤفكون : تنقلبون . تصرفون : تلفتون .

و المعنى : يا اصحاب الابصار و الاسماع ، و يا أهل العافية ، و المتمتعين بالدنيا ، فقد بصرتم و سمعتم ،

فاتعظوا بهذه المواعظ ، و تذكّروا الموت الذي هو ملاقيكم .

[ 2 ] قيد قدّه . . . : بمقدار طوله . و المعنى : انه لو ملك الدنيا باسرها لا يحصل منها إلا هذا القدر لمضجعه الاخير . و العفر : التراب ، و المراد : وصف الميت في القبر .

[ 3 ] الخناق مهمل . . . : الخناق : هو الحبل الذي يخنق به ، و مهمل : متروك . و الروح مرسل . . . : لم يحضر اجله . و المراد : اغتنم حياتك للعمل الصالح قبل حضور أجلك .

[ 96 ]

و راحة الأجساد ، و باحة الإحتشاد [ 1 ] و مهل البقيّة ، و أنف المشيّة ، و إنظار التّوبة ، و انفساح الحوبة [ 2 ] قبل الضّنك و المضيق ، و الرّوع و الزّهوق [ 3 ] و قبل قدوم الغائب المنتظر [ 4 ] و أخذة العزيز المقتدر . قال الشريف : و في الخبر أنه لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود ، و بكت العيون ،

و رجفت القلوب . و من الناس من يسمي هذه الخطبة « الغراء » .

[ 1 ] في فينة الارشاد . الفينة : الوقت . و الارشاد : زمن ارتياد النفوس ، و ما تستعد به من الكمال للقاء اللّه جلّ جلاله . و الباحة : الساحة . و الاحتشاد : الاجتماع ،

و المراد بها دار الدنيا .

[ 2 ] و مهل البقيّة . . . : استغلال البقيّة الباقية من العمر .

و انف المشية : أي يمكنكم استئناف مشيئة و حالة تقرّبكم الى اللّه جلّ جلاله ، و انظار التوبة : المهلة التي جعلها اللّه تعالى لعبده ليتوب فيها . و الانفساح : اتساع الزمن . و الحوبة : الحالة لحصول عمل الخير .

[ 3 ] الضنك . . . : الشدة . و المضيق : القبر . و الروع :

الخوف . و زهوق النفس خروجها من البدن .

[ 4 ] الغائب المنتظر : الموت .

[ 97 ]