و منها في صفة الأرض و دحوها على الماء [ 1 ]

كبس الأرض [ 2 ] على مور أمواج مستفحلة ،

و لجج بحار زاخرة ، تلتطم أو اذيّ أمواجها و تصطفق متقاذفات أثباجها ، و ترغو زبدا كالفحول عند هياجها [ 3 ] ، فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها ، و سكن هيج ارتمائه إذ وطئته

[ 1 ] دحوها على الماء بسطها عليه وَ الاَرضَ بَعدَ ذلكَ دَحاهَا 79 : 30 .

[ 2 ] كبس الأرض . . . : كبس البئر اذا طمها بالتراب .

و المور : المتحرك الشديد . و استفحل الامر : تفاقم و اشتد . و لجج : جمع لجة : معظم الماء حيث لا يدرك قعره ، و المعنى : انه خلقها فوق الماء المتلاحم الامواج دلالة على قدرته .

[ 3 ] الاواذي . . . : الموج الشديد . و الاثباج : اعالي الموج . و الرغاء : صوت الابل . و الفحول : المراد بها ذكور الحيوانات الاليفة من البقر و الابل و نحوها .

و هياجها : اذا غلبت صاحبها و لم يملكها .

[ 69 ]

بكلكلها [ 1 ] ، و ذلّ مستخذيا إذ تمعّكت عليه بكواهلها [ 2 ] فأصبح بعد اصطخاب [ 3 ] أمواجه ساجيا [ 4 ] مقهورا ، و في حكمة الذّلّ منقادا أسيرا و سكنت الأرض مدحوّة في لجّة تيّاره ، و ردّت من نخوة بأوه و اعتلائه و شموخ أنفه و سموّ غلوائه [ 5 ] و كعمته على كظّة جريته فهمد بعد نزقاته ، و لبد بعد زيفان و ثباته [ 6 ] فلّما سكن هياج

[ 1 ] جماح الماء . . . : غليانه . و هيج الماء ثورانه .

وطئته : وطى‏ء الشي‏ء وطئا : داسه و الكلكل :

الصدر . و المعنى : أن هذا البحر العظيم سكن لثقل الأرض .

[ 2 ] و ذلّ مستخذيا . . . : خاضعا منقادا . و تمعكت الدابة تمرغت بالتراب . و الكاهل : ما بين الكتفين .

[ 3 ] الصخب : كثرة الصياح ، و اضطراب الاصوات .

[ 4 ] ساجيا : ساكنا .

[ 5 ] و سكنت الأرض مدحوة . . . : مبسوطة . و اللجة :

معظم الماء . و النخوة : الافتخار و التعظيم . و شموخ انفه : تكبره . و الغلو : تجاوز الحد .

[ 6 ] و كعمته على كظة جريته . . . : الكعام : شي‏ء يجعل في فم الفرس اذا هاج ، و الكظة : ما يعرض للمتلى‏ء من الطعام . فهمد : سكن ، نزقاته : طيشه . لبد :

لصق بالأرض ساكنا . و الزيفان : التبختر بالمشي .

[ 70 ]

الماء من تحت أكنافها ، و حمل شواهق الجبال الشّمّخ البذّخ [ 1 ] على أكتافها ، فجّر ينابيع العيون من عرانين أنوفها ، و فرّقها في سهوب بيدها و أخاديدها ، و عدل حركاتها بالرّاسيات من جلاميدها [ 2 ] و ذوات الشّناخيب [ 3 ] الشّمّ من

[ 1 ] اكنافها . . . : جمع كنف : الجانب و الناحية و الشواهق : العوالي ، و الشمخ : جمع شامخ : العالي الرفيع ، و البذخ : جمع باذخ : العالي .

[ 2 ] عرانين . . . : جمع عرنين : اول كل شي‏ء . و عرنين الانف : اوله تحت مجمع الحاجبين . و السهوب :

الفلاة البعيدة الاطراف . و البيد : جمع بيداء :

الصحراء الواسعة . و اخاديد : جمع اخدود : الشق في الأرض ، و المراد به الانهار . و الراسيات : الجبال الثوابت . و جلاميدها : ضخورها .

[ 3 ] الشناخيب . . . : اعالي الجبال ، و الشّم : المرتفعة .

و الصياخيد : الصخور الصلبة .

[ 71 ]

صياخيدها ، فسكنت من الميدان [ 1 ] لرسوب الجبال في قطع أديمها ، و تغلغلها متسرّبة في جوبات خياشيمها ، و ركوبها أعناق سهول الأرضين و جراثيمها ، و فسح بين الجوّ و بينها ، و أعدّ الهواء متنسّما لساكنها [ 2 ] ، و أخرج إليها أهلها على تمام مرافقها [ 3 ] ثمّ لم يدع جرز الأرض الّتي تقصر مياه العيون عن روابيها ، و لا تجد جداول الأنهار

[ 1 ] الميدان . . . التحرك و الاصظراب . و اديمها :

سطحها . و التغلغل : الدخول . و السرب : بيت في الأرض لا منفذ اليه . و الجوبة : الحفرة ، و الفرجة .

و الخيشوم : اقصى الانف . و جراثيمها : اعاليها ،

و المعنى : جعل اللّه الجبال لسكون الأرض و استقرارها .

[ 2 ] و فسح بين الجو و بينها . . . : وسّع بين منتهى الجو السطح المقعر للسماء و بينها . متنسما لسكانها :

متنفسا لهم .

[ 3 ] و اخرج اليها اهلها على تمام مرافقها : خلق البشر بعد ان خلق لهم ما يحتاجونه فيها ، و ما يصلحهم و يلزمهم .

[ 72 ]

ذريعة [ 1 ] إلى بلوغها حتّى أنشأ لها ناشئة سحاب تحيى مواتها ، و تستخرج نباتها ، ألّف غمامها بعد افتراق لمعه ، و تباين قزعه [ 2 ] حتّى إذا تمخضّت لجّة المزن فيه ، و التمع برقه في كففه ، و لم ينم و ميضه في كنهور ربابه [ 3 ] و متراكم سحابه ، أرسله

[ 1 ] ثم لم يدع جرز الأرض . . . : التي لا نبات فيها لانقطاع مائها . و روابيها : عواليها . ذريعة : وسيلة .

و المراد : ان هناك اراضي لا تصلها مياه الانهار ، فجعل لاهلها المطر اتماما لنعمه على خلقه باستغلال جميع الأرض ، و الاستفادة من خيراتها .

[ 2 ] الف غمامها بعد افتراق لمعه . . . : اللمع : القطعة من النبات اذا أخذت في اليبس ، شبّه بها السحاب لمشابهة اللون و الاضمحلال . و التباين : التباعد . و القزع :

قطع الغيم الرقيقة . نبّه على القدرة العظيمة التي جعلت من اشياء لا اهمية لها ما احيا بها البلاد و العباد .

[ 3 ] حتى تمخضت لجة المزن فيه . . . : تمخضت الغمام تحركت تحركا شديدا . و المزن : السحاب .

و كففه : جمع كفة ، و هي الحاشية و الطرف لكل شي‏ء .

و الوميض : البرق . و كنهور : قطع السحاب كالجبال .

و الرباب : السحاب الأبيض . و المتراكم : المجتمع .

[ 73 ]

سحّا متداركا ، قد أسفّ هبدبه ، تمريه الجنوب درر أهاضيبه و دفع شآبيبه [ 1 ] ، فلمّا ألقت السّحاب برك بوانيها ، و بعاع [ 2 ] ما استقلّت به [ 3 ] من العب‏ء المحمول عليها ، أخرج به من هوامد الأرض النّبات ، و من زعر [ 4 ] الجبال الأعشاب فهي تبهج بزينة رياضها ، و تزدهي بما ألبسته من

[ 1 ] ارسله سحا متداركا . . . : السح : الصب و السيلان ،

و اسف الطائر دنا من الأرض . و هيدبه : السحاب المتدلي . تمريه الجنوب : تستخرجه ريح الجنوب :

و اهاضيب : جمع هضاب و هو المطر . و شآبيبه : ما ينزل منه بشدة و قوة .

[ 2 ] فلما القت السحاب برك بوانيها . . . : البرك : الصدر .

و البواني : قوائم الناقة . و المراد : تشبيه السحاب الماطر بالناقة التي اثقلها الحمل فرمت بصدرها على الأرض ، و البعاع : ثقل السحاب من الماء ، و القى السحاب بعاعه : أمطر كل ما فيه .

[ 3 ] الهوامد . . . : الأرض التي لم يكن بها نبات .

[ 4 ] زعر : جمع زاعر : المواضع القليلة النبات .

[ 74 ]

ريط أزاهيرها ، و حلية ما سمطت [ 1 ] به من ناضر أنوارها ، و جعل ذلك بلاغا للأنام [ 2 ] و رزقا للأنعام ، و خرق العجاج في آفاقها ، و أقام المنار للسّالكين على جوّاد طرقها [ 3 ] ، فلمّا مهد أرضه [ 4 ] ، و أنفذ أمره ، اختار آدم ، عليه

[ 1 ] و تزدهي بما البسته من ريط ازاهيرها . . . : ريط : جمع ريطة : كل ثوب رقيق . و سمطت : زينت . يصف الأرض بعد ان يصيبها المطر كيف تخضر و تزدهر بالنبات ، و يتجلى الابداع في المناطق الجبلية ،

و الفيافي الصحراوية فهي غرس القدرة الالهية ، فسبحان الخلاّق العليم .

[ 2 ] و جعل ذلك بلاغا للانام . . . : البلاغ ما يتبلغ به من القوت ، و الانام : الناس ، و الانعام : الحيوانات .

[ 3 ] و خرق الفجاج في آفاقها . . . : خرق : خلق .

و الفجاج : جمع فج : الطريق الواسع بين جبلين .

و آفاقها : نواحيها . و المنار : العلائم التي يهتدى بها على الطريق . و جواد طرقها : الوسط من الطريق .

و المراد : بيان نعمه على الانسان بان جعل له طرقا يسلكها في الجبال و الفيافي و القفار لبلوغ المقصد .

[ 4 ] مهّد ارضه : سوّاها و اصلحها .

[ 75 ]

السّلام ، خيرة من خلقه ، و جعله أوّل جبلّته [ 1 ] و أسكنه جنّته ، و أرغد فيها أكله ، و أوعز إليه [ 2 ] فيما نهاه عنه ، و أعلمه أنّ في الاقدام عليه التّعرّض لمعصيته ، و المخاطرة بمنزلته ، فأقدم على ما نهاه عنه موافاة لسابق علمه [ 3 ] فأهبطه بعد التّوبة ،

ليعمر أرضه بنسله ، و ليقيم الحجّة به على عباده ، و لم يخلهم بعد أن قبضه ، ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته ، و يصل بينهم و بين معرفته ،

بل تعاهدهم بالحجج [ 4 ] على ألسن الخيرة من أنبيائه ، و متحمّلي ودائع رسالاته ، فرنا فقرنا ،

[ 1 ] اول جبلته : اول من خلقه من البشر .

[ 2 ] ارغد فيها أكله . . . : جعله طيبا . اوعز اليه : بيّن له .

[ 3 ] موافاة لسابق علمه : سبق في علمه جلّ جلاله أن آدم عليه السلام يأكل من الشجرة ، و ان يعاقب بالاخراج من الجنة . فيعمّر الأرض بنسله .

[ 4 ] تعاهدهم بالحجج : ارسل اليهم الانبياء عليهم السلام اقامة للحجة عليهم فلِلهِ الحجّةُ البالِغَةُ 6 : 149 .

[ 76 ]

حتّى تمّت بنبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حجّته ، و بلغ المقطع عذره و نذره [ 1 ] ،

و قدّر الأرزاق فكثّرها و قلّلها و قسّمها على الضّيق و السّعة ، فعدل فيها ليبتلي من أراد بميسورها و معسورها [ 2 ] ، و ليختبر بذلك الشّكر و الصّبر من غنيّها و فقيرها ، ثمّ قرن بسعتها عقابيل فاقتها و بسلامتها طوارق آفاتها [ 3 ] ، و بفرج أفراحها

[ 1 ] و بلغ المقطع عذره و نذره : المقطع : من كل شي‏ء غايته ( نهايته ) . و المراد : برسالة محمد صلى اللّه عليه و آله بلغ اعذاره و انذاره لخلقه الغاية .

[ 2 ] ليبتلي من اراد بميسورها و معسورها : جعل بعضهم موسرين ( اغنياء ) ليمتحنهم باداء ما اوجبه عليهم من الانفاق في طرق الخير . و جعل بعضهم معسرين ( فقراء ) امتحانا لهم ، و سببا لحصول الأجر .

[ 3 ] قرن بسعتها عقابيل فاقتها . . . : العقابيل : الشدائد .

و الفاقة : الفقر . و الطوارق : جمع طارق : الآتي ليلا .

و الآفات : المصائب . و المعنى : ان الدنيا مع ما بها من بهجة محفوفة بالشدائد و الفقر ، لا ينجو احد من آفاتها و مصائبها ، و الحديث القدسي : جعلت الراحة في الآخرة و الناس تطلبها في الدنيا فلن يجدوها .

[ 77 ]

غصص أتراحها [ 1 ] و خلق الآجال فأطالها و قصّرها ، و قدّمها و أخّرها ، و وصل بالموت أسبابها [ 2 ] و جعله خالجا لأشطانها ، و قاطعا لمرائر أقرانها [ 3 ] عالم السّرّ من ضمائر المضمرين ،

و نجوى المتخافتين ، و خواطر رحم الظّنون ، و عقد عزيمات اليقين [ 4 ] و مسارق إيماض الجفون ، و ما

[ 1 ] و بفرج افراحها غصص اتراحها : الفرج : جمع فرجة :

انكشاف الهم و الترح : الغم و الهلاك ، فهي ما تكاد تحلو حتى توافي همومها و غمومها .

[ 2 ] و وصل بالموت اسبابها : من مرض و غيره يؤدي به الى الموت .

[ 3 ] جعله خالجا لاشطانها . . . : خالجا : جاذبا .

و اشطانها : جمع شطن : الحبل الطويل . و المراد :

جعل الموت جاذبا بحبائل الآجال اليه ، و المرائر :

الحبال الشديدة الفتل . و الاقران : جمع قرن : حبل يجمع به البعيران . و المراد : الاشارة الى موت الاشخاص الذين يتمتعون بقوة المزاج و البنية .

[ 4 ] عالم السر . . . : هو يعلم بما يضمره الانسان في نفسه و النجوى : إسرار الحديث و المراد : انه يعلم ما يدور بين الاشخاص من خفي الكلام . و خواطر رجم الظنون : يعلم ما يخطر في قلب الانسان من خواطر و افكار . و عقد عزيمات النفس : و يعلم ما تحكمه و تتيقنه النفس من العقائد .

[ 78 ]

ضمنته أكنان القلوب ، و غيابات الغيوب [ 1 ] و ما أصغت لاستراقه مصائخ الأسماع [ 2 ] و مصائف الذّرّ و مشاتي الهوامّ [ 3 ] و رجع الحنين من

[ 1 ] مسارق ايماض الجفون . . . : يعلم الاشارات و النظرات الخفية للعيون . و ما ظمنته اكنان القلوب :

اكنان : جمع كن : ما يستتر به . و المعنى : يعلم ما اخفته القلوب من اسرار . و غيابات الغيوب : الامور الغيبية التي لا يعلمها سواه .

[ 2 ] و ما اصغت لاستراقه مصائخ الاسماع : مصاخ : مكان الاصاخة و هي ثقبة الاذن . و المراد : يعلم ما مالت لاستماعه خفية .

[ 3 ] و مصائف الذر . . . : الذر : صغار النمل . و المراد :

يعلم الاماكن التي تسكنها صغار النمل صيفا ، و الاماكن التي تعيش فيها الحشرات شتاء .

[ 79 ]

المولهات [ 1 ] و همس الأقدام [ 2 ] و منفسح الثّمرة من ولائج غلف الأكمام [ 3 ] و منقمع الوحوش [ 4 ] من غيران الجبال و أوديتها ، و مختبأ البعوض بين سوق الأشجار و ألحيتها [ 5 ] و مغرز الأوراق من الأفنان [ 6 ] و محطّ الأمشاج من مسارب الأصلاب [ 7 ] و ناشئة الغيوم و متلاحمها [ 8 ] ،

[ 1 ] رجع الحنين . . . : ترديد الصوت . و المولهة :

الحزينة .

[ 2 ] همس الاقدام : اخفى ما يكون من اصواتها .

[ 3 ] منفسخ الثمرة . . . : مكان نموّها . ولائج : جمع وليجة : البطانة الداخلية . الاكمام : وعاء الطلع في النخيل .

[ 4 ] منقمع الوحوش : محل اختفائها .

[ 5 ] الحيتها : قشرتها .

[ 6 ] الافنان : الاغصان . و المعنى : يعلم محل كل ورقة من الغصن وَ مَا تَسقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ اِلاّ يَعلَمُها وَ لا حَبّةٍ في ظُلُماتِ الاَرضِ وَ لاَ رطبٍ وَ لاَ يابِسٍ اِلاّ فِي كتابٍ مُبينٍ 6 : 59 .

[ 7 ] و محط الامشاج في مسارب الاصلاب : الامشاج :

جمع مشيج : مختلط ، و المراد به النطفة لانها منحدرة من عناصر متعددة . و المسارب : مجاري المني .

و المعنى : انه عالم بها حال نزولها ، فالحذر من انزالها في المواضع التي نهى عنها .

[ 8 ] ناشئة الغيوم . . . : أول ما ينشأ منها . و تلاحمها :

التصاقها .

[ 80 ]

و درور قطر السّحاب في متراكمها ، و ما تسقي الأعاصير بذيولها و تعفو الأمطار بسيولها [ 1 ] و عوم نبات الأرض في كثبان الرّمال [ 2 ] و مستقرّ ذوات الأجنحة بذرى شناخيب الجبال [ 3 ] ، و تغريد

[ 1 ] و درور قطر السحاب في متراكمها . . . : سيلان الامطار من متكائف السحاب . و تسفي : تثيره و تذروه من التراب باطرافها . و الاعاصير : جمع اعصار : الريح المثيرة للسحاب . و تعفو الامطار بسيولها : تمحوه و تدرسه بمائها الكثير السائل .

[ 2 ] و عوم نبات الأرض في كثبان الرمال : العوم : السبح .

و كثبان : جمع كثيب و هو التل ، و المراد : النباتات التي غطتها تلول الرمال .

[ 3 ] الذرى . . . : جمع ذروة : اعلى الشي‏ء و الشناخيب : رؤوس الجبال .

[ 81 ]

ذوات المنطق في دياجير الأوكار [ 1 ] ، و ما أوعبته الأصداف و حضنت عليه أمواج البحار [ 2 ] و ما غشيته سدفة ليل [ 3 ] أو ذرّ عليه شارق نهار ، و ما اعتقبت عليه أطباق الدّياجير ، و سبحات النّور [ 4 ] و أثر كلّ خطوة ، و حسّ كلّ حركة ، و رجع كلّ كلمة ، و تحريك كلّ شفة ، و مستقرّ كلّ نسمة ،

و مثقال كلّ ذرّة ، و هماهم كلّ نفس هامّة [ 5 ] و ما عليها من ثمر شجرة ، أو ساقط ورقة ، أو قرارة

[ 1 ] دياجير الاوكار : ظلماتها .

[ 2 ] و ما اوعبته الاصداف . . . : اوعبته : جمعته :

و الاصداف : جمع صدف : غشاء اللؤلؤ . و حضنت عليه امواج البحار : ما اشتملت عليه من الاسماك و غيرها من المخلوقات .

[ 3 ] غشيته . . . : غطته . و سدفة الليل : ظلمته .

[ 4 ] اعتقبت . . . : تعاقبت . و الدياجير الظلام . و سبحات النور : درجاته و اطواره .

[ 5 ] هماهم كل نفس : كلامها الخفي الذي يسمع و لا يفهم محصوله .

[ 82 ]

نطفة أو نقاعة دم و مضغة [ 1 ] أو ناشئة خلق و سلالة [ 2 ] ، لم يلحقه في ذلك كلفة ، و لا اعترضته في حفظ ما ابتدعه من خلقه عارضة ،

و لا اعتورته في تنفيذ الأمور و تدبير المخلوقين ملالة و لا فترة [ 3 ] بل نفذ فيهم علمه ، و أحصاهم

[ 1 ] قرارة نطفة . . . : مقرّها . و نقاعة دم : نقرة يجتمع فيها الدم و المضغة : القطعة الصغيرة من اللحم .

[ 2 ] أو ناشئة خلق . . . : ما ينشئه من الارواح و الابدان .

و سلالة : خلقه من ماء يسل من الظهر سلا وَ لَقَد خَلَقنَا الاِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِن طينٍ 23 : 12 ، و المراد من هذا الفصل بيان علمه جلّ جلاله بمخلوقاته ، فهو كما وصف نفسه في كتابه العزيز يعلَمُ السِّرَّ وَ اخفى 20 : 7 و السر : ما حدث به العبد غيره في خفية ،

و اخفى منه : ما اضمره في نفسه ما لم يحدث به غيره .

فينبغي لنا التحرز من مخالفته ، و ارتكاب معاصيه .

[ 3 ] لم تلحقه في ذلك كلفة . . . : مشقّة . و لا اعتورته :

و لا تناولته . و الملالة : الضجر . و الفترة : انصراف النفس عن العمل .

[ 83 ]

عدّه [ 1 ] ، و وسعهم عدله ، و غمرهم [ 2 ] فضله ، مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله [ 3 ] .

اللّهمّ أنت أهل الوصف الجميل ، و التّعداد الكثير [ 4 ] إن تؤمّل فخير مؤمّل [ 5 ] ، و إن ترج فأكرم مرجوّ . اللّهمّ و قد بسطت لي فيما لا أمدح به غيرك ، و لا أثني به على أحد سواك ، و لا أوجّهه إلى معادن الخيبة و مواضع الرّيبة [ 6 ]

[ 1 ] احصاهم عدّه : عالم بعددهم وَ كُلَّ شَي‏ءٍ اَحصَينَاهُ فِي اِمامٍ مُبينٍ 36 : 12 .

[ 2 ] غمرهم : شملهم .

[ 3 ] مع تقصيرهم عن كنه ما هو اهله : الكنه : الحقيقة .

و المراد : تقصيرهم عما هو مستحقه من الحمد و الثناء .

[ 4 ] و التعداد الكثير : من النعم التي لا تحصى وَ اِن تُعدُّوا نعَمَة اللَّه لا تُحصُوهَا 14 : 34 .

[ 5 ] ان تؤمل فخير مؤمل : ان من قصدك مؤملا معروفك و احسانك فاز و ربح .

[ 6 ] و لا اوجهه الى معادن الخيبة . . . : لا اقصد بمدحي و ثنائي المخلوقين ، لان من قصدهم خيبوا امله .

و الريبة : الشك و عدم الثقة في الحصول على معروفهم .

[ 84 ]

و عدلت [ 1 ] بلساني عن مدائح الآدميّين ، و الثّناء على المربوبين المخلوقين . اللّهمّ و لكلّ مثن على من أثنى عليه مثوبة [ 2 ] من جزاء ، أو عارفة من عطاء [ 3 ] ، و قد رجوتك دليلا على ذخائر الرّحمة [ 4 ] و كنوز المغفرة . اللّهمّ و هذا مقام من أفردك بالتّوحيد الّذي هو لك ، و لم ير مستحقّا لهذه المحامد و الممادح غيرك ، و بي فاقة [ 5 ] إليك لا يجبر مسكنتها [ 6 ] إلاّ فضلك ، و لا ينعش من خلّتها [ 7 ] إلاّ منّك وجودك ، فهب لنا في هذا

[ 1 ] عدلت : ملت . حدت .

[ 2 ] مثوبة : مكافأة و اجرا .

[ 3 ] العارفة : الاحسان .

[ 4 ] ذخائر الرحمة : ما ادخرته لاوليائك من معروفك و احسانك .

[ 5 ] فاقة : حاجة .

[ 6 ] مسكنتها : فقرها و حاجتها .

[ 7 ] خلتها : سوء حالها . و ينبغي للذين يكتبون فى الامامة ، و يذكرون ادلة التفضيل ، ان يذكروا هذه الخطبة ، فقد اشتملت على بليغ اللفظ ، و جميل العرض ، و الاشارة الى علوم لم تكن معروفة في عصره ، بل و لا من بعد عصره ، مع ما تضمنته من ادلة التوحيد ، و عجائب القدرة ، و التي لو تأملها الطبيعيون ،

و دعاة الالحاد لرجعوا الى صفوف الموحدين .

[ 85 ]

المقام رضاك ، و أغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك ، إنّك على كلّ شي‏ء قدير .