فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه [ 1 ] على اللّه فليفعل فإن أطعتموني فإنّي حاملكم إن شاء اللّه على سبيل الجنّة ، و إن كان ذا مشقّة شديدة ، و مذاقة مريرة .
و أمّا فلانة فأدركها رأي النّساء ، و ضغن غلا في صدرها كمرجل القين [ 2 ] و لو دعيت لتنال من
[ 1 ] يعتقل نفسه : يحبسها ، و يقصر بها على الطاعات .
[ 2 ] فلانة . . . : عائشة بنت أبي بكر . و الظغن : الحقد . و غلا جاوز الحدّ . و المرجل : القدر . و القين : الحداد . شبهها بقدر الحداد لأنها دائمة الغليان .
[ 81 ]
غيري ما أتت إليّ لم تفعل . و لها بعد حرمتها الأولى ، و الحساب على اللّه .
منه : سبيل أبلج [ 1 ] المنهاج ، أنور السّراج ، فبالإيمان يستدلّ على الصّالحات ،
و بالصّالحات يستدلّ على الإيمان [ 2 ] ، و بالإيمان يعمر العلم ، و بالعلم يرهب الموت [ 3 ] ،
[ 1 ] السبيل . . . : الطريق . و بلج الصبح أسفر و أنار . و المراد :
الطريق الى اللّه تعالى واضح المعالم ، نيّر المسالك .
[ 2 ] فبالإيمان يستدل على الصالحات . . . : وجوده باعث و محفز للعبد على الطاعة . و بالصالحات يستدل على الإيمان : يتبيّن و يستدل عليه بالأعمال المقرّبة الى اللّه تعالى .
[ 3 ] و بالعلم يرهب الموت : لأن العلم يدعو الى العمل ، و من مستلزمات العالم العامل الاستعداد للموت و لما بعده .
[ 82 ]
و بالموت تختم الدّنيا ، و بالدّنيا تحرز الآخرة [ 1 ] و إنّ الخلق لا مقصر لهم عن القيامة ، مزقلين في مضمارها إلى الغاية القصوى [ 2 ] .
و منه : قد شخصوا من مستقرّ الأجداث ،
و صاروا إلى مصائر الغايات [ 3 ] ، لكلّ دار أهلها :
[ 1 ] و بالدنيا تحرز الآخرة : بالأعمال الصالحة التي يعملها العبد في الدنيا يحصّل بها المقامات الرفيعة في الآخرة .
[ 2 ] لا مقصر لهم . . . : لا مستقر لهم ، أي لا بدّ لهم من الأنتقال إلى الآخرة ، و بها يسعدوا أو يشقوا . مرقلين : مسرعين .
و المضمار : المكان الذي تعدّ فيه الخيل للسباق ، و محلّ تسابقها . و المراد : أن الدنيا محلّ تسابق العباد بالأعمال الصالحة . و الغاية القصوى : النتيجة الحتمية للسعادة و الشقاء .
[ 3 ] قد شخصوا من مستقر الأجداث ، و صاروا الى مصائر الغايات : الجدث : القبر . و المصير : ما ينتهي إليه الأمر .
و المراد : انتقلوا من قبورهم الى مصيرهم النهائي ، من سعادة أو شقاء .
[ 83 ]
لا يستبدلون بها ، و لا ينقلون عنها ، و إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لخلقان من خلق اللّه سبحانه ، و إنّهما لا يقرّبان من أجل ، و لا ينقصان من رزق [ 1 ] ، و عليكم بكتاب اللّه فإنّه الحبل المتين ، و النور المبين ، و الشّفاء النّافع ، و الرّيّ النّاقع ، و العصمة للمتمسّك [ 2 ] ، و النجاة للمتعلّق لا يعوجّ فيقام ، و لا يزيع فيستعتب ، و لا تخلقه
[ 1 ] الأمر بالمعروف . . . : الأمر بالأعمال الحسنة . و النهي عن المنكر : النهي عن الأعمال السيّئة . لخلقان من خلق اللّه :
محبوبان عنده ، أمر بهما عباده ، و أحبّ من أتى بهما منهم .
و انّهما لا يقرّبان من أجل . . الخ : لا يجلبان للعامل بهما موتا ، و لا يحرمانه رزقا .
[ 2 ] الحبل المتين . . . : السبيل القوي للنجاة ، تشبيها بالحبل الذي ينجو المتعلق به في الخروج من البئر . الري الناقع :
المزيل للعطش . و أعتصم به أمتنع به ، و لجأ إليه .
و المتمسك : العامل بأحكامه . و المراد : ان الذي يسير على نهج القرآن معتصم على سبيل نجاة .
[ 84 ]
كثرة الرّدّ [ 1 ] و ولوج السّمع . من قال به صدق ،
و من عمل به سبق .
و قام إليه رجل و قال : أخبرنا عن الفتنة [ 2 ] ،
و هل سألت عنها رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ) ؟ فقال ( عليه السلام ) :
لمّا أنزل اللّه سبحانه قوله : أَلم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [ 3 ]
[ 1 ] لا يعوج . . . : لا ينحرف فيحتاج الى مقوّم . و لا يزيغ :
يميل عن الحق . فيستعتب : يطلب منه العتبى و الرجوع الى الحقّ . و الخلق بكسر اللام : البالي . و كثرة الردّ : كثرة التكرار و التلاوة . و المراد : ان القرآن لما كان كلام اللّه جلّ جلاله ، و معجزة الرسول الأعظم ( صلّى اللّه عليه و آله ) ، لا يزيده تكرار القراءة إلاّ رغبة فيه ، و تعلّقا به ، خلافا لغيره من الكلام فانّه يملّ بالتكرار .
[ 2 ] الفتنة : الإبتلاء و الإمتحان و الإختبار .
[ 3 ] أيظنّ الناس أن يقنع منهم بأن يقولوا : إنّا مؤمنون فقط ،
و يقتصر منهم على هذا القدر ، و لا يمتحنون بما يتبيّن به حقيقة إيمانهم ؟ هذا لا يكون .
[ 85 ]
علمت أنّ الفتنة لا تنزل بنا و رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه و آله ) ، بين أظهرنا ، فقلت : يا رسول اللّه ،
ما هذه الفتنة الّتي أخبرك اللّه بها ؟ فقال : « يا عليّ ، إنّ أمّتي سيفتنون [ 1 ] من بعدي » فقلت : يا رسول اللّه ، أو ليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين و حيزت عنّي الشّهادة فشقّ ذلك عليّ فقلت لي « أبشر ، فإنّ الشّهادة من ورائك [ 2 ] » ؟ فقال لي « إنّ ذلك لكذلك ، فكيف صبرك إذا ؟ » فقلت : يا رسول اللّه ، ليس هذا من مواطن الصّبر ، و لكن من
[ 1 ] سيفتنون : يبتلون في أنفسهم و أموالهم .
[ 2 ] انحاز . . . : عدل . و المراد : لم أظفر بها : فشقّ : صعب .
من ورائك : امامك .
[ 86 ]
مواطن البشرى و الشّكر [ 1 ] ، و قال « يا عليّ ، إنّ القوم سيفتنون بعدي بأموالهم ، و يمنّون بدينهم على ربّهم [ 2 ] و يتمنّون رحمته ، و يأمنون سطوته [ 3 ] ، و يستحلّون حرامه بالشّبهات [ 4 ] الكاذبة
[ 1 ] من مواطن البشرى و الشكر : مما استبشر و أفرح بها ، و أشكر اللّه تعالى عليها ، لأنّها النعمة الكبرى وَ لاَ تَحسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ .
فَرِحِينَ بِمَا آتاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لم يَلحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ ألاّ خَوفٌ عَلَيْهم وَ لاَ هُمْ يَحزَنُونَ 3 :
170 .
[ 2 ] يمنون بدينهم على ربّهم : كأن لهم المنّة عليه يَمُنُّونَ عَلَيكَ أَن أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسلامَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنُّ عَلَيكُمْ أَنْ هَداكُم لِلإِيمَانِ إن كُنتُم صَادِقِينَ 49 : 17 .
[ 3 ] سطوته : بطشه و قهره .
[ 4 ] يستحلّون حرامه بالشبهات : الشبهة : الالتباس في الشرع ،
و سميت شبهة لأنّها تشبه الحق . و الأهواء : ما تهواه النفس ،
و هو محذّر منه في الشريعة . و الساهية : الغافلة ، و المراد :
أنّهم يجرجرون بالشريعة تبعا لأهوائهم و رغباتهم ، فان لامهم لائم اعترضوا بتلك الشبه .
[ 87 ]
و الأهواء السّاهية ، فيستحلّون الخمر بالنّبيذ ،
و السّحت [ 1 ] بالهديّة ، و الرّبا بالبيع » فقلت : يا رسول اللّه ، بأيّ المنازل أنزلهم عند ذلك ؟
أ بمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة [ 2 ] ؟ فقال : « بمنزلة فتنة » .