ابتدعهم خلقا عجيبا من حيوان و موات [ 1 ] ،
و ساكن و ذي حركات ، فأقام من شواهد البيّنات [ 2 ] على لطيف صنعته ، و عظيم قدرته ، ما انقادت له العقول معترفة به ، و مسلّمة له ، و نعقت [ 3 ] في أسماعنا دلائله على وحدانيّته ، و ما ذرأ من مختلف
[ 1 ] الموات من الأرض : هي التي لم تزرع و لم تعمر ، و لا جرى عليها ملك أحد .
[ 2 ] شواهد البيّنات : الأدلة و الحجج الواضحة .
[ 3 ] نعق : صاح . و المراد : بيان ما سمعناه من أدلة التوحيد ،
و عجائب المخلوقات .
و في كلّ شيء له آية
تدلّ على انّه واحد
[ 41 ]
صور الأطيار الّتي أسكنها أخاديد الأرض ،
و خروق فجاجها ، و راسي أعلامها [ 1 ] ، من ذات أجنحة مختلفة ، و هيئات متباينة ، مصرّفة في زمام التّسخير [ 2 ] و مرفرفة بأجنحتها في مخارق الجوّ المنفسح و الفضاء المنفرج ، كوّنها بعد أن لم تكن في عجائب صور ظاهرة ، و ركّبها في حقاق مفاصل محتجبة [ 3 ] و منع بعضها بعبالة خلقه
[ 1 ] ذرأ . . . : خلق . و اخاديد جمع اخدود : الشق المستطيل في الأرض . و الفج : الطريق الواسع البعيد .
و الرواسي : الثوابت . و اعلامها : المراد بها الجبال ، لذا يقال : الجبال الرواسي .
[ 2 ] مصرّفة . . . : متقلبة . و التسخير : التذليل أَلَم يَرَوا إلى الطَّيرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمسكُهُنَّ إلاّ اللّهُ إنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِقَومٍ يُؤمِنُونَ 16 : 79 .
[ 3 ] الحقاق . . . : مجتمع المفصلين . و المفصل : ملتقى كل عظمين من الجسم . و محتجبه : بما عليها من لحم و غيره .
[ 42 ]
أن يسمو في السّماء خفوفا ، و جعله يدفّ [ 1 ] دفيفا ، و نسقها على اختلافها في الأصابيغ [ 2 ] بلطيف قدرته ، و دقيق صنعته ، فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه ، و منها مغموس في لون صبغ قد طوّق بخلاف ما صبغ به [ 3 ] .
و من أعجبها خلقا الطّاووس الّذي أقامه في أحكم تعديل ، و نضّد ألوانه في أحسن تنضيد [ 4 ] ،
[ 1 ] العبالة . . . : الضخم من كل شيء . و يسمو : يرتفع .
و المراد به النعامة و غيرها من الطيور الكبيرة التي لا يمكنها الارتفاع و التحليق في الجوّ . و دف الطائر : حرك جناحيه و رجليه في الأرض .
[ 2 ] نسقها . . . : نظمها . و الاصابيغ جمع صبغ : ما يصبغ به . و المراد : اختلاف الألوان .
[ 3 ] مغموس في قالب لون لا يشوبه . . . : المراد به اللون الواحد قد طوّق بخلاف ما صبغ به : كالطيور التي يحيط عنقها لون غير لونها .
[ 4 ] نضد الشيء : ضمّ بعضه الى بعض منسّقا .
[ 43 ]
بجناح أشرج قصبه [ 1 ] ، و ذنب أطال مسحبه ، إذا درج إلى الأنثى نشره من طيّه ، و سما به مظلاّ [ 2 ] على رأسه كأنّه قلع داريّ عنجه نوتيّه ، يختال بألوانه ، و يميس بزيفانه [ 3 ] يفضي كإفضاء الدّيكة و يؤرّ بملاقحة أرّ الفحول المغتلمة في الضّراب [ 4 ] أحيلك من ذلك على معاينة [ 5 ] لا كمن يحيل على ضعيف إسناده ، و لو كان كزعم
[ 1 ] شرجت اللبن شرجا : نضدته ، أي نظمت بعضه الى بعض . و القصب الفارسي : صلب غليظ يسقّف فيه البيوت . و المراد : التفكير في القدرة التي ركبت عروق جناحيه و أصولها تركيبا محكما أنيقا .
[ 2 ] درج . . . : مشى . و طوى الشيء : ضمّ بعضه الى بعض .
و سما به : رفعه . و مطلا : مشرفا .
[ 3 ] يختال . . . : يتكبّر . و يميس : يتبختر . و زيفانه : تمايله و تبختره .
[ 4 ] يفضي . . . : يسفد ( ينكح ) . و الفحول المغتلمة : الشديدة الشهوة . و ضرب الفحل الناقة : نزا عليها .
[ 5 ] احيلك من ذلك على معاينة : شاهد ذلك بعينك .
[ 44 ]
من يزعم أنّه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه فتقف في ضفّتي جفونه ، و إنّ أنثاه تطعم ذلك ثمّ تبيض لا من لقاح فحل سوى الدّمع المنبجس [ 1 ] لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب [ 2 ] تخال قصبه مداري من فضّة [ 3 ] و ما أنبت عليه من عجيب داراته و شموسه خالص العقيان ، و فلذ الزّبرجد [ 4 ] ،
[ 1 ] المنبجس : المنفجر .
[ 2 ] مطاعمة الغراب : ذكر ( عليه السلام ) رأيا للعرب ، و هو أن الطاووس تدمع عينه فتلتقطها الأنثى ، فتلقح منها ، و قال :
ان ذلك ليس بأعجب مما زعموا من أن الغربان تتناكح بالمطاعمة بالمناقير . و الامام ( عليه السلام ) عبّر عن ذلك بالزعم ، و هو كنية الكذب ، و لم يطل في تفنيده باعتبار لو صحّ ذلك دلّ أيضا على عظمة القدرة الإلهية .
[ 3 ] تخال . . . : تظنّ و قصبه : عظام أجنحته . و مدارى جمع مدري : شيء من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط و أطول منه ، يسرّح به الشعر المتلبّد . و من فضة :
في بياضها .
[ 4 ] داراته . . . : جمع دارة : هالة القمر . و العقيان : الذهب الخالص . و الزبرجد : حجر كريم يشبه الزمرّد .
[ 45 ]
فإن شبّهته بما أنبتت الأرض قلت : جنى جني من زهرة كلّ ربيع [ 1 ] ، و إن ضاهيته بالملابس فهو كموشيّ الحلل ، أو مونق عصب اليمن [ 2 ] ، و إن شاكلته بالحليّ فهو كفصوص ذات ألوان قد نطّقت باللّجين المكلّل [ 3 ] ، يمشي مشي المرح المختال [ 4 ] ، و يتصفّح ذنبه و جناحيه فيقهقه
[ 1 ] جنيّ . . . : ملتقط . جني من زهر كل ربيع : هو في ألوانه يشابه أزهار الربيع و نضارتها و بهجتها .
[ 2 ] ضاهيته . . . : شبهته . و الموشى : المنقوش . و الحلة :
الثوب الجيد الجديد . و الأنيق : الذي راع حسنه و اعجب .
و عصب اليمن : كساء يصبغ غزله ثم ينسج .
[ 3 ] شاكلته . . . : شبهته و ماثلته . و الحلي : ما يتزين به من المصوغات الذهبية و شبهها . و الفصوص : الأحجار الكريمة . و اللجين : الفضة . و المكلل : المزيّن .
[ 4 ] المرح . . . : شدّة الفرح . و المختال : المعجب بنفسه .
[ 46 ]
ضاحكا لجمال سرباله ، و أصابيغ وشاحه [ 1 ] .
فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا [ 2 ] معولا يكاد بصوت يبين عن استغاثته . و يشهد بصادق توجّعه ، لأنّ قوائمه حمش كقوائم الدّيكة الخلاسيّة [ 3 ] و قد نجمت من ظنبوب ساقه صيصيّة خفيّة [ 4 ] ، و له في موضع العرف قنزعة خضراء موشّاة [ 5 ] و مخرج عنقه كالإبريق ، و مغرزها إلى
[ 1 ] السربال . . . : القميص . و المراد من الأصابيغ وصف ألوانه و رشاقته . و الوشاح : نسيج عريض يرصّع بالجواهر ، تشدّه المرأة بين عاتقها و كشحيها .
[ 2 ] زقا الطائر : صاح . و المعول : الصارخ .
[ 3 ] احمش الساقين : أدقهما . و الخلاسية : المتولدة بين الدجاج الهندي و الفارسي .
[ 4 ] نجمت . . . : نبتت . و الطنبوب : حرف الساق من امام .
و الصيصية : شوكة تكون في رجل الديك .
[ 5 ] القنزعة . . . : الريش المجتمع في رأس الديك . و موشاة :
منقوشة .
[ 47 ]
حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانيّة ، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال [ 1 ] ، و كأنّه ملفّع بمعجر أسحم [ 2 ] إلاّ أنّه يخيل لكثرة مائه و شدّة بريقه أنّ الخضرة النّاضرة ممتزجة به . و مع فتق سمعه خطّ كمستدقّ القلم في لون الأقحوان أبيض يقق [ 3 ] ،
فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق [ 4 ] و قلّ صبغ إلاّ و قد أخذ منه بقسط [ 5 ] و علاه بكثرة صقاله
[ 1 ] مغرزها . . . : موضع عنقه . و الوسمة : شجر العظلم يخضب به . و المراد : وصف عنقه و بطنه بالسواد . و ذات صقال :
مصقولة .
[ 2 ] متلفع . . . : ملتحف . و اعتجر فلان بالعمامة : لفّها على رأسه و ردّ طرفها على رأسه . و اسحم : اسود .
[ 3 ] و مع فتق سمعه . . . : عند أذنه . و الاقحوان : نبت زهرة أصفر أو أبيض ، و ورقه كأسنان المنشار . و يقق : خالص البياض .
[ 4 ] يأتلق : يلمع .
[ 5 ] بقسط : بنصيب .
[ 48 ]
و بريقه ، و بصيص ديباجه و رونقه [ 1 ] فهو كالأزاهير المبثوثة [ 2 ] لم تربّها [ 3 ] أمطار ربيع ، و لا شموس قيظ ، و قد ينحسر [ 4 ] من ريشه و يعرى من لباسه فيسقط تترى ، و ينبت تباعا ، فينحتّ من قصبه [ 5 ] انحتات أوراق الأغصان ثمّ يتلاحق ناميا حتّى يعود كهيئته قبل سقوطه : لا يخالف سالف ألوانه [ 6 ] ، و لا يقع لون في غير مكانه . و إذا تصفّحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة
[ 1 ] صقاله . . . : جلائه . و البصيص : البريق . و الديباج : ثياب من حرير . و رونقه : حسنه .
[ 2 ] كالأزاهير المبثوثة : كالأزهار المنثورة .
[ 3 ] تربّها : تربّيها و تنميها . و المراد : ان الأزهار تنمو بالمطر و الشمس ، بينما الوان الطاووس نمّتها يد القدرة الإلهية .
[ 4 ] يتحسّر : يتعرّى و يتساقط ريشه .
[ 5 ] ينحت . . . : يتساقط . و قصبه : ريشه .
[ 6 ] لا يخالف سالف ألوانه : يعود بمثل ألوانه الأولى .
[ 49 ]
ورديّة ، و تارة خضرة زبرجديّة ، و أحيانا صفرة عسجديّة [ 1 ] فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن ، أو تبلغه قرائح العقول ، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين ، و أقلّ أجزائه قد أعجز الأوهام [ 2 ] أن تدركه ، و الألسنة أن تصفه ؟ فسبحان الّذي بهر العقول [ 3 ] عن وصف خلق جلاّه للعيون فأدركته محدودا مكوّنا ، و مؤلّفا ملوّنا ، و أعجز الألسن عن تلخيص صفته [ 4 ] و قعد بها عن تأدية نعته . و سبحان من أدمج قوائم الذّرّة و الهمجة إلى
[ 1 ] عسجدية : ذهبية .
[ 2 ] الفطن من الناس : الحذق الماهر . و القريحة : ملكة يستطيع بها الانسان ابتداع الكلام ، و ابداء الرأي . و الوهم :
ما يقع في الذهن من الظنون و الخواطر .
[ 3 ] بهر العقول . . . : ادهشها و حيّرها . و جلاه للعيون : أظهره لها . فأدركته محدودا مكوّنا : له حدود و اجزاء .
[ 4 ] نعته : صفته .
[ 50 ]
ما فوقها من خلق الحيتان و الفيلة [ 1 ] ، و وأى [ 2 ] على نفسه أن لا يضطرب شبح ممّا أولج فيه الرّوح إلاّ و جعل الحمام [ 3 ] موعده ، و الفناء غايته .