كتبها إليه بحاضرين [ 2 ] « منصرفا » من صفين من الوالد الفان ، المقرّ للزّمان المدبر
[ 1 ] إعلم رعاك اللَّه أن الإمام الحسن عليه السلام الإمام الثاني من أئمة أهل البيت عليهم السلام قد أفيض عليه العلم الإلهي ، و هو كما وصفه محمد أبن الحنفية : خلف أهل التقوى ، و خامس أصحاب الكساء غذتك بالتقوى أكف الحق ، و أرضعتك ثدي الإيمان ، و ربيت في حجر الإسلام . و الغاية من هذه الوصية فيما أحسب إنها وسيلة تهذيب للمسلمين ، و أن يهتم المسلم بتربية أبنائه و تدريبهم على مكارم الأخلاق ، و إيصائهم بما يسعدوا به غدا فالأب كما هو مسؤول عن إطعام أبنائه و إكسائهم كذلك مسؤول عن تربيتهم و تهذيبهم و إن اللَّه سبحانه يسأله و يحاسبه على ذلك ،
و يجزيه على تعليمهم خيرا ، و على إهمالهم عذابا ، أضف الى ذلك أن الولد الصالح يستفيد منه الوالد حيّا و ميّتا ،
و يصله خيره و هو في قبره .
[ 2 ] حاضرين : أسم موضع بالشام .
[ 11 ]
العمر ، المستسلم للدّهر ، الذّامّ للدّنيا ، السّاكن مساكن الموتى ، و الظّاعن [ 1 ] عنها غدا ، إلى المولود المؤمّل ما لا يدرك ، السّالك سبيل من قد هلك [ 2 ] ، غرض [ 3 ] الأسقام ، و رهينة
[ 1 ] فنى فلان : هرم و أشرف على الموت . و المقر للزمان :
بالغلبة . و أدبر : ذهب . و المستسلم للدهر : المنقاد له .
و الذام للدنيا : الذاكر لعيوبها ، الداعي الى تركها . و الساكن مساكن الموتى : على وشك اللحوق بهم . و ظعن : سار و ارتحل .
[ 2 ] الى المولود المؤمل ما لا يدرك . . . : من البقاء فيها ،
و التمتع بخيراتها و السلامة من آفاتها . السالك سبيل من قد هلك :
كل أبن أنثى و إن طالت سلامته
يوما على آلة الحدباء محمول
[ 3 ] الغرض : الهدف الذي يرمى اليه . و المراد : أنه معرّض للعلل و الأسقام .
[ 12 ]
الأيّام ، و رميّة المصائب ، و عبد الدّنيا ، و تاجر الغرور ، و غريم المنايا ، و أسير الموت ، و حليف الهموم ، و قرين الأحزان ، و نصب الآفات ،
و صريح الشّهوات ، و خليفة الأموات [ 1 ] .
[ 1 ] رهينة الأيام . . . : رهن الشيء عنده حبسه بدين .
و المراد : أنه في قبضتها و حكمها . و رمية المصائب :
مستهدف لها . و عبد الدنيا : فهو لشدّة طلبه لها إستوجب خضوعه لها و لأهلها ، فكأن حاله معها كالعبد الخاضع لسيده . و تاجر الغرور : و الغرور : كل ما غرّ الإنسان من مال أو جاه و نحوه . و المراد : أنه تاجر مخدوع و مغلوب في تجارته . و الغريم : الذي عليه دين . و المنيّة : الموت .
و المراد : تشبيه الموت بصاحب الحق المطالب غريمه بالتسديد . و الأسير : المحبوس و المراد : أنه غير متمكن من التخلص من قبضته . و حليف الهموم : و الحليف :
المتعاهد على التناصر . و المراد : ملازمته للهموم . و قرين الأحزان : المصاحب لها ، غير المنفك عنها . و نصب الآفات : معرّض لفتكها . و صريح الشهوات : مغلوبها و خليفة الأموات : المنتظر اللحوق بهم .
[ 13 ]
أمّا بعد فإنّ فيما تبيّنت من إدبار الدّنيا عنّي ، و جموح الدّهر عليّ [ 1 ] ، و إقبال الآخرة إليّ ، ما يزعني عن ذكر من سواي ، و الاهتمام بما ورائي [ 2 ] غير أنّي حيث تفرّد بي دون هموم النّاس همّ نفسي ، فصدقني رأيي ، و صرفني عن هواي ، و صرّح لي محض أمري ، فأفضى بي إلى جدّ لا يكون فيه لعب ، و صدق لا يشوبه كذب [ 3 ] ، و وجدتك بعضي ، بل وجدتك كلّي ،
[ 1 ] و جموح الدهر عليّ : جمح الفرس جمحا : عصا أمر صاحبه حتى غلبه .
[ 2 ] ما يزعني عن ذكر من سواي ، و الإهتمام بما ورائي :
يزعني : يكفني . و المراد : إنصب إهتمامي بنفسي و خلاصها ، و صار هذا الأمر شاغلا لي عن التفكير في غيري و هذا مما يجب أن يلاحظه كل مسلم فيقصر إهتمامه على ما ينجيه غدا .
[ 3 ] تفردّ بي دون هموم الناس همّ نفسي . . . : و هي قريبة من الجملة السابقة . و المراد : لم أعد أحمل هموم الآخرين ، بل أنا أحمل همّي . فصدقني رأيي : كشف لي عما ينبغي أن يكون فيه إهتمامي و إشتغالي . و صرفني عن هواي : ميولي . و صرّح لي : إنكشف . و المحض : كل شيء خلص حتى لا يشوبه شيء يخالطه . و صدق لا يشوبه كذب : يشوبه : يخلطه .
و المراد بالصدق و الكذب الجد ، كقولهم : صدقونا اللقاء
[ 14 ]
حتّى كأنّ شيئا لو أصابك أصابني [ 1 ] ، و كأنّ الموت لو أتاك أتاني فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي ، فكتبت إليك [ كتابي ] مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت [ 2 ] .
[ 1 ] و وجدتك بعضي . . . : نظير قول الشاعر :
و إنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
بل وجدتك كلي : لأنك خليفتي ، و القائم مقامي ، و وارث علومي . حتى كان شيئا لو أصابك أصابني : لما يتداخلني من ألم . و كأن الموت لو أتاك أتاني : لأننا كشيء واحد
[ 2 ] فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي . . . : صار إهتمامي بك كإهتمامي بنفسي . فكتبت إليك مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت . مستظهرا : مستعينا . و المراد : أن هذه الوصية عون لك للزوم نهج الإستقامة و السداد .
[ 15 ]
فإنّي أوصيك بتقوى اللَّه و لزوم أمره ،
و عمارة قلبك بذكره ، و الاعتصام بحبله ، و أيّ سبب أوثق من سبب بينك و بين اللَّه إن أنت أخذت به [ 1 ] ؟ ؟
أحي قلبك بالموعظة ، و أمته بالزّهادة ، و قوّه
[ 1 ] فإني أوصيك بتقوى اللَّه . . . : العمل بطاعته ، و تجنب معصيته . و لزوم أمره : الإلتزام بما أمر به . و عمارة قلبك بذكره : تكون دائما في ذكر اللَّه تعالى ، و أفضل الذكر هو كلمة ( لا إله إلاّ اللَّه ) قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم : ( ثمن الجنة لا اله إلاّ اللَّه ) و الإعتصام بحبله :
التمسك بدينه وَ اعتَصِمُوا بِحَبل اللَّهِ جمِيعاً وَ لاَ تَفرّقُوا 3 : 103 . و أي سبب أوثق من سبب بينك و بين اللَّه أن أنت أخذت به : السبب : الحبل ، لأن التمسك به سبب للنجاة .
و المراد : إن التمسّك بالاسلام محقق النجاة ، بل لا نجاة بغيره .
[ 16 ]
باليقين ، و نوره بالحكمة ، و ذلّله بذكر الموت ،
و قرّره بالفناء ، و بصّره فجائع الدّنيا ، و حذّره صولة الدّهر ، و فحش تقلّب اللّيالي و الأيّام [ 1 ] ،
و أعرض عليه أخبار الماضين ، و ذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأوّلين [ 2 ] ، و سر في ديارهم
[ 1 ] أحي قلبك بالموعظة . . . : كأن مغريات الحياة ، و النفس الامارة ، و الشيطان و وساوسه ، كل ذلك له تمام المدخلية في التخلف عن طريق الحق و الصلاح ، و العلاج هو إستماع المواعظ ، و المراد بها القرآن الكريم ، و أحاديث الرسول الأعظم صلى اللَّه عليه و آله ، و أهل بيته عليهم السلام و كل ما يتعظ به الإنسان من أخبار الأمم ، و مشاهد القيامة .
و أمته بالزهادة : الزهد في الشيء : تركه ، و الأعراض عنه ،
و الغرض من الحث عليه لأنه يكسر قوى النفس الشريرة و يأخذ بها الى معارج الفضيلة و الكمال . و قوّه باليقين : إجعل يقينك باللَّه تعالى راسخا ، و إيمانك به ثابتا غير متزعزع . و نوّره بالحكمة : إجعل الحكم الإلهية ، و حكم الرسول الأعظم صلى اللَّه عليه و آله سراجا تشق به ظلمات الجهل . و ذلله بذكر الموت : و هذا المخلوق الضعيف حينما تتكامل صحته و قوته يبدو عليه الغرور ، و علاج ذلك هو تذكر الموت و أهواله ، ليحدّ من غلوائه . و قرره بالفناء : و هو الموت .
و كأنه يقول : إجعل قلبك يعترف و يقر بالموت و ما بعده من أهوال ، و لا يحصل ذلك إلاّ بالتذكر و كثرة التفكير في ذلك و بصّره فجائع الدنيا : ذكره مصائب الدنيا و تقلباتها . و حذره صولة الدهر ، و فحش تقلب الليالي و الأيام : الصولة :
السطوة في الحرب و نحوها . و فحش الأمر : إشتد قبحه .
و المراد : في الحالة التي تكون فيها معافى آمنا ، تعيش في رخاء تذكر تغيرات الحياة ، فقد تنقلب الصحة الى مرض ، و الأمن الى خوف ، و الرخاء الى شدّة و تذكر الملوك و الرؤساء الذين عاصرتهم و ما نزل ببعضهم من بلاء ،
فبينا هو و الدنيا في قبضته و إذا هو أسير بيد غيره ، إن شاء قتله ، و إن شاء سجنه بذل و هوان .
[ 2 ] و أعرض عليه أخبار الماضين . . . : من الأمم البائدة . و ذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين : من فناء و غيره .
و المراد : أخذ العبر بما حدث للأمم الماضية و القرون الغابرة و الى هذا تشير الآية : أفَلم يَسِيرُوا في الأرض فَيَنْظُرُوا كَيفَ كَانَ عاقِبةُ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم 40 : 82 .
[ 17 ]
[ 18 ]
و آثارهم ، فانظر فيما فعلوا ، و عمّا انتقلوا ، و أين حلّوا و نزلوا [ 1 ] ، فإنّك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبّة و حلّوا ديار الغربة ، و كأنّك عن قليل قد صرت كأحدهم ، فأصلح مثواك ، و لا تبع آخرتك بدنياك [ 2 ] ، و دع القول فيما لا تعرف ، و الخطاب
[ 1 ] و سر في ديارهم و آثارهم . . . : ما تركوه من الآثار كالأهرام و غيرها ، مستدلا على ما كانوا فيه من ملك عظيم . فانظر فيما فعلوا ، و عما انتقلوا : المفروض بالمسلم أن ينظر الى آثار الأمم التي عاقبها اللَّه سبحانه كقوم هود و صالح و لوط و غيرهم من الأمم التي عاشت في الجزيرة العربية ، و أعمالهم التي إستوجبوا بها العقوبة و النكال فيحذرها . و أين حلوا و نزلوا :
و إستنزلوا بعد عز من معاقلهم
فأودعوا حفرا يا بئس ما نزلوا
[ 2 ] فأصلح مثواك . . . : المثوى : محل الإقامة ، و المراد به القبر ، و إصلاحه بتقديم الصالحات التي تنفع لا ببناء مقبرة فخمة . و لا تبع آخرتك بدنياك : و هذا أمر مهم جدا ، فطالما يعرف الإنسان إن هذا العمل يدخله النار ، لكنه لأجل مغنم دنيوي يفعله ، فيكون قد باع الآخرة و ما أعدّ اللَّه تعالى فيها للمؤمنين بهذا القليل الفاني .
[ 19 ]
فيما لم تكلّف [ 1 ] و أمسك عن طريق إذا خفت ضلالته فإنّ الكفّ عند حيرة الضّلال خير من ركوب الأهوال [ 2 ] ، و أمر بالمعروف تكن من أهله ، و أنكر المنكر بيدك و لسانك ، و باين من
[ 1 ] و دع القول فيما لا تعرف . . . : تسلم لك آخرتك و دنياك .
و الخطاب فيما لم تكلّف : لان ذلك يكسبك وقارا و هيبة و سلامة من أمور كثيرة و الحديث : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )
[ 2 ] و أمسك عن طريق إذا خفت ضلالته . . . : يجب على المسلم أن لا يضع قدمه إلاّ بعد التأكد من سلامة الطريق ،
و الى هذا يشير الحديث : ( إذا رابك أمر فدعه ) فإن الكف عند حيرة الضلالة خير من ركوب الأهوال : جمع هول :
الأمر الشديد . و المراد : عند ما يكون الطريق شائكا فينبغي للمسلم تجنبه حفاظا على نفسه و دينه .
[ 20 ]
فعله بجهدك [ 1 ] ، و جاهد في اللَّه حقّ جهاده ، و لا تأخذك في اللَّه لومة لائم [ 2 ] ، و خض الغمرات للحقّ حيث كان [ 3 ] ، و تفقّه في الدّين [ 4 ] ، و عوّد
[ 1 ] و أمر بالمعروف . . . : المعروف : أسم جامع لكل ما عرف من طاعة اللَّه تعالى ، و التقرب اليه ، و الإحسان الى الناس ،
و كل ما ندب اليه الشرع من المحسنات . تكن من أهله :
من أهل المعروف ، و هم صفوة البشرية الذين نذروا أنفسهم لخدمة الناس و إرشادهم . و أنكر المنكر : و هو كلّ ما قبّحه الشرع و حرّمه . بيدك : و هي أسمى مراتبه ، و أرفع درجاته ،
و الذي كان يفعله الأنبياء و الأولياء . و لسانك : و لا عذر لمسلم في تركها . و باين من فعله بجهدك : باين : باعد .
و المراد : مقاطعة العصاة كوسيلة لإستصلاحهم .
[ 2 ] و جاهد في اللَّه حق جهاده . . . : بما يلزم من الإخلاص ،
و بذل الطاقة و لا تأخذك في اللَّه لومة لائم : أبذل مجهودك حتى لا يلحقك لوم أو عتاب في تقصير .
[ 3 ] و خض الغمرات : جمع غمرة : الشدة . للحق حيث كان : في سبيل الحق و من أجل إحقاقه .
[ 4 ] و تفقه في الدين : و هو أمر مفروض على كل مسلم و مسلمة ،
أن يتعلم ما يلزمه من أحكام الشريعة ، كمسائل الصلاة و غيرها من العبادات ، و ما يخصّه من المعاملات .
[ 21 ]
نفسك التّصبّر على المكروه ، و نعم الخلق التّصبّر [ 1 ] في الحقّ ، و ألجىء نفسك في الأمور كلّها إلى إلهك فإنّك تلجئها إلى كهف حريز ، و مانع عزيز [ 2 ] ، و أخلص في المسألة
[ 1 ] و عوّد نفسك التصبّر على المكروه . . . : الفضائل و الرذائل كلها عادات ، فينبغي للمسلم أن يتعوّد على الأخلاق الرفيعة ، و يمرّن عليها نفسه ، و في طليعتها الصبر ، لأنّ به تحصل الطاعات ، و يتوقى من السيئات . و نعم الخلق التصبّر : نعم : فعل يستعمل للمدح على سبيل المبالغة فَنِعْمَ أجرُ العامِلِين 39 : 74 . و التصبّر : حمل النفس على الصبر .
[ 2 ] و ألجىء نفسك في الأمور كلها إلى اللَّه . . . : توكل عليه في أمورك ، و أقصده لقضاء حوائجك . فإنك تلجئها الى كهف : ملجأ ، يقال : هو كهف قومه . و حريز : حافظ .
و مانع عزيز : قوي . و المراد : تحتمي به من كل سوء .
[ 22 ]
لربّك فإنّ بيده العطاء و الحرمان [ 1 ] ، و أكثر الاستخارة [ 2 ] ، و تفهّم وصيّتي ، و لا تذهبنّ عنها صفحا فإنّ خير القول ما نفع [ 3 ] ، و اعلم أنّه لا خير في علم لا ينفع ، و لا ينتفع بعلم لا يحقّ تعلّمه [ 4 ] .
[ 1 ] و أخلص في المسألة لربك . . . : إجعل تعلقك به وحده .
فإن بيده العطاء و الحرمان بِيدِكَ الخَير إنَّكَ عَلَى كُلّ شَيءِ قَدِير 3 : 26 .
[ 2 ] و أكثر الإستخارة : أطلب منه تعالى أن يختار لك و يسددك
[ 3 ] و تفّهم وصيتي . . . : و ينبغي للمسلم أن يتخذ هذه الوصية نهجا . و لا تذهبن عنها صفحا : لا تتركها أعراضا و تسامحا .
فإن خير القول ما نفع : خير الكلام ما إنتفع به السامع .
و المراد : إن هذه الوصية من خير ما ينتفع به .
[ 4 ] و اعلم أنه لا خير في علم لا ينفع . . . : متعلمه .
و المراد : يجب على المسلم أن يصرف وقته بتعلم ما يفوز به غدا . و لا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه : فهناك علوم حذرت الشريعة من تعلمها ، كعلم النجوم ، و السحر ، و ما شابه ذلك . و المراد : إن المسلم لو تعلّم هذه العلوم لم ينتفع بتعلمها ، بل يكون لتعلمها خلفيات رديئة عليه
[ 23 ]
أي بنيّ إنّي لمّا رأيتني قد بلغت سنّا ،
و رأيتني أزداد وهنا [ 1 ] بادرت [ 2 ] بوصيّتي إليك ،
و أوردت خصالا منها قبل أن يعجل بي أجلي دون أن أفضي إليك بما في نفسي ، أو أن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي ، أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى ، أو فتن الدّنيا ، فتكون كالصّعب النّفور [ 3 ] ، و إنّما قلب الحدث كالأرض
[ 1 ] و هنا : ضعفا .
[ 2 ] بادرت : أسرعت .
[ 3 ] أفضي إليك بما في نفسي . . . : أوصل إليك تجاربي و علومي . أو إن أنقص في رأيي كما نقصت في جسمي :
يشير الى عوارض الشيخوخة ، فهي كما تحط من الجسم تحط من الفكر ، فالعقل السليم في الجسم السليم ، و قد تنزّه الإمام عليه السلام من ذلك فهو معصوم ، و لكن كقاعدة علمية . أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى : ما تميل إليه النفس . و المراد : أسرعت بوصيتي إليك من قبل أن تميل بك بعض دواعي الهوى الى منحدر صعب . و هذا من باب إياك أعني و إسمعي يا جارة . و فتن الدنيا : أسم يقع على كل شرّ و فساد . فتكون كالصعب النفور : الناقة الصعبة : خلاف الذلول . و نفرت الدابة : فزعت و تباعدت .
[ 24 ]
الخالية : ما ألقي فيها من شيء قبلته [ 1 ] ، فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك و يشتغل لبّك [ 2 ] لتستقبل بجدّ رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التّجارب بغيته و تجربته فتكون قد كفيت مؤونة
[ 1 ] و إنما قلب الحدث كالأرض الخالية . . الخ : القابلة لزراعة أي شيء ، و كذلك الولد في بداية نضوجه يمكن أن يتوجه بأيسر الأمور الى الخير أو الشر و هذا حثّ للآباء و المربين أن يسرعوا في تقويم أولادهم و تهذيبهم من عهد الطفولة .
[ 2 ] يقسو قلبك . . . : يشتد و يصلب ، فتذهب منه الرحمة و اللين و الخشوع . و يشتغل لبّك : عقلك .
[ 25 ]
الطّلب ، و عوفيت من علاج التّجربة [ 1 ] ، فأتاك من ذلك ما قد كنّا نأتيه ، و استبان لك ما ربّما أظلم علينا منه [ 2 ] .
أي بنيّ إنّي و إن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم ، و فكّرت في أخبارهم ، و سرت في آثارهم ، حتّى عدت كأحدهم [ 3 ] بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم
[ 1 ] لتستقبل بحد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته و تجربته . . . : بغيته : طلبه . و المراد : و صل إليك بدون معاناة . فتكون قد كفيت مؤونة الطلب : الجهد في التحصيل . و عوفيت من علاج التجربة : لم تعان فيه جهد التجارب .
[ 2 ] فأتاك من ذلك ما قد كنا نأتيه . . . : نطلبه ، و نبذل الجهد في تحصيله . و إستبان لك ما ربما أظلم علينا منه : إستبان :
ظهر . و المراد : وضح لك بيسر ما أشكل علينا أمره ، و عانينا في حل رموزه .
[ 3 ] نظرت في أعمالهم . . . : فتشت صحائف أعمالهم .
و فكرت في كل شاردة و واردة عنهم . حتى عدت كواحد منهم
[ 26 ]
قد عمّرت مع أوّلهم إلى آخرهم ، فعرفت صفو ذلك من كدره [ 1 ] ، و نفعه من ضرره ،
فاستخلصت لك من كلّ أمر نخيله و توخّيت لك جميله ، و صرفت عنك مجهوله [ 2 ] ، و رأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشّفيق ،
و أجمعت [ 3 ] عليه من أدبك أن يكون ذلك و أنت مقبل العمر ، و مقتبل الدّهر ، ذو نيّة سليمة و نفس
[ 1 ] بل كأنّي بما انتهى إليّ من أمورهم قد عمرت مع أولهم الى آخرهم : لما علمت من أخبارهم ، و فهمت دقائق حياتهم .
فعرفت صفو ذلك من كدره : صفا الشيء : خلص من الكدر . و المراد : علمت ما كانوا فيه من خير و شرّ . و نفعه من ضرره : ما عاد عليهم بالنفع أو الضرر .
[ 2 ] فأستخلصت لك . . . : إخترت . و نخل الشيء : إختار أجوده . و توخيت : تحريت . و صرفت عنك مجهوله : ما إلتبس منه ، و ما لم تعرف موارده و مصادره .
[ 3 ] أجمعت : عزمت .
[ 27 ]
صافية ، و أن أبتدئك بتعليم كتاب اللَّه و تأويله ،
و شرائع الاسلام و أحكامه ، و حلاله و حرامه ،
لا أجاوز بك [ 1 ] إلى غيره ، ثمّ أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف النّاس فيه من أهوائهم و آرائهم مثل الّذي التبس عليهم [ 2 ] ، فكان إحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحبّ إليّ من إسلامك [ 3 ] إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة ،
[ 1 ] لا أجاوز ذلك : لا أتعداه .
[ 2 ] أشفقت . . . : خفت . أن يلتبس : يشكل و يختلط .
و أهواؤهم : ميولهم و رغباتهم . مثل الذي إلتبس عليهم :
تقع بما وقعوا فيه من محذور .
[ 3 ] فكان إحكام ذلك . . . : إتقانه . أحب إلي من إسلامك الى أمر لا آمن عليك به الهلكة : إسلامك : إهمالك . و المراد :
إن إستعراض هذه العلوم جاء خلافا لرغبتي ، و لكني فضلت مدارستك بها خوفا عليك من أن يداهمك من شبهها ما تهلك به .
[ 28 ]
و رجوت أن يوفّقك اللَّه لرشدك ، و أن يهديك لقصدك [ 1 ] ، فعهدت إليك وصيّتي هذه .
و اعلم ، يا بنيّ ، أنّ أحبّ ما أنت آخذ به إليّ من وصيّتي ، تقوى اللَّه و الإقتصار على ما فرضه اللَّه عليك ، و الأخذ بما مضى عليه الأوّلون من آبائك و الصّالحون من أهل بيتك [ 2 ] فإنّهم
[ 1 ] يوفقك اللَّه لرشدك . . . : يسددك لطريق الرشاد . و أن يهديك لقصدك : يقال : هو على قصد السبيل : إذا كان راشدا وَ عَلَى اللَّه قَصدُ السَّبيل 16 : 9 .
[ 2 ] إن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى اللَّه . . . :
العمل بأوامره ، و الإنتهاء عما نهى عنه ، و مراقبته عند كل صغيرة و كبيرة . و الإقتصار على ما فرضه اللَّه عليك : من الإكتفاء بالأدلة العقلية على معالم التوحيد و العدل ، و بقية العقائد ، دون التعمقّ بأدلتها الفلسفية . و الأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك ، و الصالحون من أهل بيتك : و هذا يدعم ما نذهب إليه من أن آباء النبي صلى اللَّه عليه و آله كانوا جميعا موحدين مؤمنين .
[ 29 ]
لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر ،
و فكّروا [ 1 ] كما أنت مفكّر ، ثمّ ردّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا و الامساك عمّا لم يكلّفوا [ 2 ] ، فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا فليكن طلبك ذلك بتفهّم و تعلّم ، لا بتورّط الشّبهات ، و علوّ الخصومات [ 3 ] و ابدأ قبل
[ 1 ] فأنهم لم يدعوا ان نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر . . . :
في أدلة أصول الدين . و فكروا : فيما يسعدهم و ينجيهم .
[ 2 ] ثم ردّهم آخر ذلك الى الأخذ بما عرفوا . . . : من تلك الحقائق التي لا عذر لمسلم بإهمالها . و الإمساك عمّا لم يكلّفوا : من التوغل في الأبحاث الفلسفية .
[ 3 ] فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا : فإن أبت همتك القناعة بهذا القدر ، و أردت التوغل و إستقصاء لأدلة العلمية . فليكن طلبك ذلك بتفهّم و تعلم : للمسائل العلمية ، و تدبر لمقاصد الشريعة . لا بتورط الشبهات دون الخوض في شبه لا تزيد طالب العلم إلاّ بعدا عن الحقيقة . و علو الخصومات : التي يسلكها بعض المتعلمين في نصرة رأي ،
و تفنيد آخر .
[ 30 ]
نظرك في ذلك بالاستعانة بالهك ، و الرّغبة إليه في توفيقك ، و ترك كلّ شائبة أولجتك في شبهة أو أسلمتك إلى ضلالة [ 1 ] فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشع ، و تمّ رأيك فاجتمع ، و كان همّك في ذلك همّا واحدا فانظر فيما فسّرت لك [ 2 ] و إن أنت لم يجتمع لك ما تحبّ من
[ 1 ] و ابدأ قبل نظرك في ذلك بالإستعانة بإلهك . . . : و هذا أهم ما يلزم طالب العلم و غيره أن يطلب من المولى جلّ شأنه أن يعينه و يسدده ، و يجعل علمه و عمله خالصا لوجهه الكريم .
و الرغبة إليه في توفيقك : لحصول ما تسعد به غدا . و ترك كل شائبة : الشيء الغريب يختلط بغيره . و أولجتك : أدخلتك .
أو أسلمتك الى ضلالة : أبعدتك عن طريق الهدى و الإستقامة .
[ 2 ] فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك . . . : خلص من علائق الدنيا .
و خشع : خضع و ذل . و تمّ رأيك فاجتمع : على الطلب و الإستقصاء . كان همّك من ذلك همّا واحدا : توجهت بكلك إليه . فانظر فيما فسّرت لك : و شرحته .
[ 31 ]
نفسك و فراغ نظرك و فكرك ، فاعلم أنّك إنّما تخبط العشواء ، و تتورّط الظّلماء [ 1 ] و ليس طالب الدّين من خبط أو خلط و الإمساك عن ذلك أمثل [ 2 ] .
فتفهّم ، يا بنيّ ، وصيّتي و اعلم أنّ مالك
[ 1 ] و إن لم يجتمع لك ما تحب من نفسك . . . : من العزم و التوجه ، ترك كل ما يباعد من طلب العلم . و فراغ نظرك و فكرك : عما يشغلك و يباعدك . فاعلم أنك إنّما تخبط العشواء هي الناقة التي في بصرها ضعف تخبط بيديها إذا مشت لا تتوقى شيئا . و المراد : تأتي ما تأتي بجهالة و بغير تبصّر . و الورطة : كل أمر تعسر النجاة منه .
[ 2 ] و ليس طالب الدين من خبط أو خلط . . . : خلط في أمره :
أفسد فيه . و الإمساك عن ذلك أفضل : من طلبه في مثل هذه الحال ، لأن طلب العلم مع مرض النفس سبب للهلاك .
[ 32 ]
الموت هو مالك الحياة [ 1 ] ، و أنّ الخالق هو المميت ، و أنّ المفني هو المعيد ، و أنّ المبتلي هو المعافي ، و أنّ الدّنيا لم تكن لتستقرّ إلاّ على ما جعلها اللَّه عليه من النّعماء و الابتلاء و الجزاء في المعاد ، أو ما شاء ممّا لا نعلم [ 2 ] . فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك به ،
فإنّك أوّل ما خلقت به جاهلا ثمّ علّمت ، و ما أكثر ما تجهل من الأمر ، و يتحيّر فيه رأيك ، و يضلّ فيه
[ 1 ] و اعلم أن مالك الموت هو مالك الحياة . . الخ : المراد من الفصل التوجه التام للَّه سبحانه ، و عدم الإستعانة بغيره ، لأنه الذي يملك الأمرين معا .
[ 2 ] و إن الدنيا لم تكن لتستقر إلاّ على ما جعلها اللَّه عليه من النعماء و الإبتلاء . . . : لا بديل لما جعله اللَّه سبحانه من نظام الحياة و إن إستغلقت علينا أحيانا وجوه المصالح فيه . و الجزاء في المعاد : على الإحسان و الإساءة و العوض على البلاء . أو ما شاء مما لا نعلم : من الجزاء في غير المعاد .
[ 33 ]
بصرك ، ثمّ تبصره بعد ذلك [ 1 ] ، فاعتصم بالّذي خلقك و رزقك و سوّاك ، و ليكن له تعبّدك ، و إليه رغبتك ، و منه شفقتك [ 2 ] .
و اعلم ، يا بنيّ ، أنّ أحدا لم ينبىء عن اللَّه
[ 1 ] فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك به :
مكتفيا بأن اللَّه سبحانه حكيم يضع الأمور في مواضعها و هو ناظر لما يسعد به خلقه جميعا ، حسب ما تقتضيه حكمته . فإنك أول ما خلقت به جاهلا ثم علمت :
إنكشفت لك أمور كنت تجهل وجه الحكمة فيها ، و المصلحة فيها . و ما أكثر ما تجهل من الأمر وَ مَا أُوتِيتُم مِنَ العِلمِ إلاّ قَليلاً 17 : 85 . و يتحيّر فيه رأيك : لا يهتدي الى وجه المصالح فيه . و يضل فيه بصرك : يتحيّر فيه عقلك . ثم تبصره بعد ذلك : ثم تهتدي بعد ذلك الى الغاية منه ،
و الحكمة فيه .
[ 2 ] فاعتصم بالذي خلقك و رزقك و سوّاك . . . : إلجأ الى اللَّه تعالى متوسلا اليه بأوليائه ، و إداء طاعته . و ليكن له تعبدك إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعينُ 2 : 5 . و اليه رغبتك :
إبتهل و تضرّع له . و منه شفقتك : خوفك .
[ 34 ]
كما أنبأ عنه الرّسول ، صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم ،
فارض به رائدا و إلى النّجاة قائدا [ 1 ] ، فإنّي لم آلك نصيحة و إنّك لن تبلغ في النّظر لنفسك و إن اجتهدت مبلغ نظري لك [ 2 ] .
[ 1 ] و اعلم يا بني إن أحدا لم ينبىء عن اللَّه كما أنبأ عنه الرسول صلى اللَّه عليه و آله : لم يخبر أحد بأخبار السماء ، و أمر المعاد و الآخرة بمثل ما أخبر به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله ، و القرآن الكريم . قال ابن أبي الحديد : فان التوراة و الانجيل و غيرهما من كتب بني إسرائيل لم تتضمن من الأمور الإلهية ما تضمنه القرآن و خصوصا في أمر المعاد ، فإنه أحد الكتابين مسكوت عنه ، و في الآخر مذكور ذكرا مضطربا ، و الذي كشف القناع في هذا المعنى ، و صرّح بالأمر هو القرآن . فارض به رائدا : الرائد الذي يرسله أهله يفتش لهم عن الكلأ . و المراد :
إجعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله رائدا لك تنهج نهجه ، و تقتفي أثره . و الى النجاة قائدا : تتبعه .
[ 2 ] فإني لم آلك نصيحة . . . : لم أقصّر في نصحك . و إنّك لم تبلغ في النظر لنفسك و إن إجتهدت مبلغ نظري لك : إنك و إن تحريت في البحث ، و بالغت في الإجتهاد ، لا يمكن أن يكون نظرك و إختيارك أصوب من نظري و اختياري لك .
[ 35 ]
و اعلم ، يا بنيّ ، أنّه لو كان لربّك شريك لأتتك رسله ، و لرأيت آثار ملكه و سلطانه ،
و لعرفت أفعاله و صفاته [ 1 ] ، و لكنّه إله واحد كما وصف نفسه [ 2 ] ، لا يضادّه في ملكه أحد ، و لا يزول أبدا ، و لم يزل [ 3 ] ، أوّل قبل الأشياء بلا
[ 1 ] و اعلم يا بني أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله . . . : و لما لم يكن من هذا شيء ، و جميع الرسل دعوا الى التوحيد فانتفى بذلك وجود الشريك فسبحان الواحد الأحد .
و لرأيت آثار ملكه و سلطانه : فما تراه من إبداع و عوالم هي لصانع واحد ، لم نخبر إن فيها شركة ، أو لصانع آخر نظيرها أو ما يضاهيها . و لعرفت أفعاله و صفاته : على ألسن رسله .
[ 2 ] و لكنه كما وصف نفسه : قُل هُوَ اللَّهُ أحَدُ . اللَّهُ الصَّمدُ . لَم يَلد وَ لَم يُولَد وَ لَم يَكُن لهُ كفُواً أحَدُ 112 : 4 .
[ 3 ] لا يضاده في ملكه أحد . . . : لا ينازعه . و لا يزول أبدا و لم يزل : سبحانه الدائم الباقي ، يفني الأشياء و يبقى وحده .
[ 36 ]
أوّليّة و آخر بعد الأشياء بلا نهاية [ 1 ] . عظم عن أن تثبت ربوبيّته بإحاطة قلب أو بصر [ 2 ] ، فإذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعله في صغر خطره و قلّة مقدرته ، و كثرة عجزه ، و عظيم حاجته إلى ربّه ، في طلب طاعته ، و الخشية من عقوبته [ 3 ] ، و الشّفقة من سخطه فإنّه لم يأمرك
[ 1 ] أوّل قبل الأشياء بلا أولية . . . : لا أوّل له مطلقا . و المراد :
لم يسبقه عدم فكان بعده . و آخر بعد الأشياء بلا نهاية :
بلا آخرية و لا غاية ، جلّ أن يعتريه عدم .
[ 2 ] عظم إن تثبت ربوبيته بإحاطة قلب أو بصر : هو أعظم من أن يتصوره عقل ، أو يحيط به بصر ، أو يتوهمه خيال و ليس على العبد إلاّ التأمل في عظيم قدرته ، و بدائع مخلوقاته
[ 3 ] إذا عرفت ذلك فافعل كما ينبغي لمثلك أن يفعل في صغر خطره . . . : قدر منزلته . و قلّة مقدرته : طاقته . و كثرة عجزه : حتى عن أضعف المخلوقات و أهونها كالبقة و شبهها و ما يتداخله من أذاها . و عظيم حاجته الى ربه :
في صغير الأشياء و عظيمها . في طلب طاعته : إن هذا الحال يستلزم من العبد الحرص على الطاعة ، و البعد عن المعصية . و الرهبة من عقوبته : الخوف .
[ 37 ]
إلاّ بحسن ، و لم ينهك إلاّ عن قبيح [ 1 ] .
يا بنيّ إنّي قد أنبأتك عن الدّنيا و حالها ،
و زوالها و انتقالها ، و أنبأتك عن الآخرة و ما أعدّ لأهلها فيها ، و ضربت لك فيهما الأمثال لتعتبر بها ، و تحذو عليها [ 2 ] إنّما مثل من خبر الدّنيا كمثل قوم سفر نبا بهم منزل جديب فأمّوا منزلا خصيبا ، و جنابا مريعا ، فاحتملوا و عثاء الطّريق ،
و فراق الصّديق ، و خشونة السّفر ، و جشوبة المطعم ، ليأتوا سعة دارهم و منزل قرارهم ،
[ 1 ] فإنه لم يأمرك إلاّ بحسن ، و لم ينهك إلاّ عن قبيح : فجميع الواجبات المفروضة عليك جاءت لمصلحتك ، و لكي تستقم أخلاقك ، و يصح بدنك ، كذلك جميع ما نهاك عنه هو لأجل الحفاظ على صحتك ، و تهذيب نفسك .
[ 2 ] لتعتبر بها . . . : لتتعظ . و تحذو عليها : تسير على هداها .
[ 38 ]
فليس يجدون لشيء من ذلك ألما ، و لا يرون نفقة فيه مغرما ، و لا شيء أحبّ إليهم ممّا قرّبهم [ 1 ] من منزلهم ، و أدناهم من محلّهم . و مثل من اغترّ بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب فنبا بهم إلى منزل جديب فليس شيء أكره إليهم و لا أفظع
[ 1 ] إنما مثل من خبر الدنيا كمثل قوم سفر . . . : مسافرين .
نبا بهم منزل : لم يوافقهم المقام فيه . و جدب المكان :
يبس لإحتباس الماء عنه . فأمّوا منزلا خصيبا : قصدوا مكانا يتواجد فيه الماء و الكلأ . و جنابا : فناء . و مريعا :
معجبا . فاحتملوا و عثاء الطريق : مشقتها و جشوبة المطعم : خشونته . ليأتوا سعة دارهم : دارا واسعة يتنعمون فيها . و منزل قرارهم : محل إقامتهم فليس يجدون لشيء من ذلك ألما : مشقّة . و لا يرون نفقة فيه مغرما : خسارة .
و المراد : أنهم لا يبالون بأتعابهم و خسائرهم لما ينالونه من خصوبة المكان ، و توفر الماء و الكلأ . و لا شيء أحب إليهم مما قرّبهم من منزلهم : لما نالوا فيه من سعادة و رخاء
[ 39 ]
عندهم من مفارقة ما كانوا فيه إلى ما يهجمون عليه [ 2 ] و يصيرون إليه يا بنيّ ، اجعل نفسك ميزانا فيما بينك و بين غيرك ، فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك ، و اكره له ما تكره لها [ 2 ] ، و لا تظلم كما لا تحبّ أن تظلم ،
[ 1 ] و مثل من أغتّر بها كمثل قوم كانوا بمنزل خصيب : كثير الماء و الكلاء . فنبا بهم الى منزل جديب : تحولوا عنه الى منزل مجدب لا تتوفر فيه مقومات الحياة . فليس شيء أكره إليهم ،
و لا أفظع عندهم : أشد شناعة . من مفارقة ما كانوا فيه الى ما يهجمون عليه : يدخلونه بغتة و المراد من الفصل : إن المؤمنين و إن أصابهم في مسيرتهم نحو اللَّه تعالى شيء من التعب و النصب ، و لكنهم وصلوا الى منزل رحب ، و عيش رغيد ، بجوار الأنبياء و الصدّيقين ، و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا و إن العصاة انتقلوا من هذه الدنيا الى أشدّ ما يكون من النكال و الهوان .
[ 2 ] إجعل نفسك ميزانا فيما بينك و بين غيرك . . . : هي أحسن كلمة قيلت في إستصلاح المرء نفسه و مساواتها مع نفوس الآخرين . فاحبب لغيرك ما تحب لنفسك : من الخير و النجاح . و اكره له ما تكره لها : من الشر .
[ 40 ]
و أحسن كما تحبّ أن يحسن إليك [ 1 ] ، و استقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك ، و ارض من النّاس بما ترضاه لهم من نفسك [ 2 ] ، و لا تقل ما لا تعلم ، و إن قلّ ما تعلم و لا تقل ما لا تحبّ أن يقال
[ 1 ] و لا تظلم كما لا تحب أن تظلم . . . : لو أخذ كل امرىء بهذه الكلمة ، لا نحلّ القسم الأكبر من مشاكلنا الإجتماعية ،
و أغلقت المحاكم أبوابها ، و كسدت تجارة تجار الحروب .
و أحسن كما تحب أن يحسن إليك : تقدّم بمعروفك و إحسانك الى الناس تعرّضا لإحسان اللَّه و معروفه وَ أحسِن كَمَا أحسَنَ اللَّهُ إليكَ 28 : 77 .
[ 2 ] و استقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك . . . : القبح : ضد الحسن ، و يكون في القول و الفعل ، و كل ما نفر منه الذوق السوي ، و ما كرهه الشرع و أباه الذوق العام و كلام الإمام عليه السلام أحسن علاج لتنزيه النفس و ردعها عن المنكر . و أرض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك : و هي مقاربة للسابقة . و المراد : أقبل منهم بمقدار ما تنيلهم .
[ 41 ]
لك [ 1 ] .
و اعلم أنّ الاعجاب ضدّ الصّواب ، و آفة الألباب [ 2 ] فاسع في كدحك و لا تكن خازنا
[ 1 ] و لا تقل ما لا تعلم . . . : لما في ذلك من الكذب ، و الجرأة على الباطل . و إن قلّ ما تعلم : و إن قلّت بضاعتك العلمية فلا تنجر الى القول بغير الحق و في الحديث :
( إذا سئلت عما لا تعلم فقل : لا أعلم ) و لا تقل ما لا تحب أن يقال لك : و هذه أحسن كلمة في الأدب . و المراد :
فكما تحب أن لا تشتم لا تشتم أحدا ، و هكذا في جميع آفات اللسان .
[ 2 ] و اعلم أن الإعجاب ضد الصواب . . . : و هو من أعظم الأمراض النفسية ، و قد حذرت منه الشريعة الإسلامية كثيرا ،
و هو أيضا مانع من الإزدياد ، فالمعجب بعلمه أو عمله لا يستطيع المزيد من الخير . و آفة الألباب : الآفة : كل ما يصيب شيئا فيفسده ، من عاهة أو مرض : و الألباب العقول . و المراد : أنه يصرف الانسان عن التقدم و الرقي العلمي .
[ 42 ]
لغيرك [ 1 ] ، و إذا أنت هديت لقصدك فكن أخشع ما تكون لربّك [ 2 ] .
و اعلم أنّ أمامك طريقا ذا مسافة بعيدة و مشقّة شديدة . و أنّه لا غنى لك فيه عن حسن الارتياد ،
[ 1 ] فاسع في كدحك . . . : سعى فلان سعيا : تصرّف في أي عمل كان ، و إليه قصد و مشى . و كدح في العمل و لنفسه و لعياله : سعى و كدّ و كسب يَا أيُّهَا الانسَانُ إنَّكَ كَادِحُ إلَى ربّكَ كَدحاً فُملاَقِيهِ 84 : 6 . و المراد : أنفق في سبيل اللَّه مما كسبته و حصلت عليه . و لا تكن خازنا لغيرك :
و هي مشكلتنا الكبرى ، فأهل الثراء بمنزلة صندوق معد لتكديس النقود ، ثم يأتي خلفهم فيفتحه من بعدهم و يصرفه في المعصية .
[ 2 ] و إذا أنت هديت لقصدك . . . : الهدى : الرشاد . و القصد :
يقال : هو على قصد الطريق : إذا كان راشدا . فكن أخشع ما تكون لربك : خشع : إستكان و خضع . و المراد : أن التوفيق لسلوك طريق الرشاد نعمة عظمى تستلزم الشكر و التذلل للوهاب ، ليكون العبد قابلا للمزيد لَئِن شَكَرتُم لازِيدنكُم 14 : 7 .
[ 43 ]
و قدّر بلاغك من الزّاد مع خفّة الظّهر [ 1 ] فلا تحملنّ على ظهرك فوق طاقتك فيكون ثقل ذلك وبالا عليك [ 2 ] . و إذا وجدت من أهل الفافة من يحمل لك زادك إلى يوم القيامة فيوافيك به غدا حيث تحتاج إليه فاغتنمه و حمّله إيّاه و أكثر من تزويده
[ 1 ] و اعلم أنّ أمامك طريقا ذا مسافة بعيدة . . . : هو الطريق الذي يؤدّي بالإنسان الى الجنة أو النار . و مشقّة شديدة : تبدأ بالموت و ما بعده أشد . و أنه لا غنى لك فيه عن حسن الإرتياد : الطلب . و المراد : أنت بحاجة الى أن تتبين الطريق الذي يوصلك الى دار السلام . و قدر بلاغك من الزاد : ما يكفيك حتى تبلغ المنزل وَ تَزَوّدُوا فَانَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوى 2 : 197 . مع خفة الظهر : التخفيف و قلّة الحمولة . و المراد : التقليل من أمر الدنيا ، و التكالب عليها ، و مرّ عليك قوله عليه السلام : ( تخففوا تلحقوا ) .
[ 2 ] فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك . . . : من الدنيا و حطامها فيكون ثقل ذلك وبالا عليك : هلاكا .
[ 44 ]
و أنت قادر عليه ، فلعلّك تطلبه فلا تجده [ 1 ] ،
و اغتنم من استقرضك في حال غناك ليجعل قضاءه لك في يوم عسرتك [ 2 ] .
و اعلم أنّ أمامك عقبة كئودا المخفّ فيها أحسن حالا من المثقل و المبطىء عليها أقبح حالا
[ 1 ] و إذا وجدت من أهل الفاقة . . . : الفقر و الحاجة . من يحمل زادك الى يوم القيامة فيوافيك به غدا حيث تحتاج إليه :
يعطيك ما زودته به تاما . فاغتنمه : إنتهز الفرصة . و حمله إياه : كلفه حمله . و أكثر من تزويده و أنت قادر عليه : أكثر من إعطائه . فلعلك تطلبه فلا تجده : أو تجده و ليس عندك ما تحمله . و المراد : ما تقدمه مدخر لك لوقت أحوج ما تكون إليه ، فعليك بإستغلال الفرصة .
[ 2 ] و اغتنم من استقرضك في حال غناك . . . : طلب منك القرض مع تمكنك منه . ليجعل قضاءه في يوم عسرك :
ليرده إليك في يوم فقرك و حاجتك . و المراد بالقرض هنا الصدقة و الإنفاق في سبيل اللَّه تعالى من ذَا الَّذِي يُقرِضُ اللَّه قَرضاً حَسَناً فيُضاعِفه له أضعَافاً كَثِيرةً 2 : 245 .
[ 45 ]
من المسرع ، و أنّ مهبطك بها لا محالة على جنّة أو على نار [ 1 ] ، فارتد لنفسك قبل نزولك ،
و وطّىء المنزل قبل حلولك ، فليس بعد الموت مستعتب ، و لا إلى الدّنيا منصرف [ 2 ] .
[ 1 ] و اعلم ان أمامك عقبة كؤودا . . . : العقبة : المرتقى الصعب من الجبال ، و ما يعترض المرء من صعوبة . و كؤود : شاقة المصعد . و المراد بها الآخرة و الصراط . المخف فيها أحسن حالا من المثقل : لتمكنه من اجتيازها . و المبطىء : المتأخر في اجتيازها . اقبح حالا : ضد الحسن . و المراد : ما يعانيه من مصاعب في قطعها . من المسرع : المتخلص منها بسرعة . و ان مهبطك بها لا محالة على جنّة أو نار : نزولك و انحدارك منها اما الى الجنّة أو الى النار .
[ 2 ] فارتد لنفسك قبل نزولك . . . : أطلب المنزل و هيئه قبل قدومك . و وطىء المنزل قبل حلولك : وطأ الموضع :
صيّره وطيئا . و المراد : أعدّ فيه ما يصلحه من فراش و غيره .
فليس بعد الموت مستعتب : إسترضاء و إِن يستَعتبُوا فَما هُم من المُعتَبِينَ 41 : 24 . و المراد : ان يستقيلوا ربهم لم يقلهم ، و لا سبيل لهم الى حصول رضاه . و لا الى الدنيا منصرف حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الموَتُ قالَ ربّ أرجِعُونِ لِعلّي أعملُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكتُ كلاّ إِنَّهَا كَلِمَةُ هُوَ قَائلُهَا وَ مِن وَرَائهم بَرزخُ إِلى يَومِ يُبعثُونَ 23 : 100 .
[ 46 ]
و اعلم أنّ الّذي بيده خزائن السّموات و الأرض قد أذن لك في الدّعاء ، و تكفّل لك بالإجابة ،
و أمرك أن تسأله ليعطيك ، و تسترحمه ليرحمك ،
و لم يجعل بينك و بينه من يحجبك عنه ، و لم يلجئك إلى من يشفع لك إليه ، و لم يمنعك إن أسأت من التّوبة ، و لم يعاجلك و لم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى ، و لم يشدّد عليك في قبول الانابة ،
و لم يناقشك بالجريمة ، و لم يؤيسك من الرّحمة [ 1 ] ، بل جعل نزوعك عن الذّنب حسنة ،
[ 1 ] و اعلم أن الذي بيده خزائن السماوات و الأرض قد أذن لك بالدعاء وَ ادْعُوهُ مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ 7 : 29 . و تكفّل بالإجابة وَ قَالَ رَبُّكُمْ ادعُونِي أَستَجِب لَكُم 40 : 60 .
و أمرك أن تسأله فيعطيك و اسْئَلُوا اللَّه مِن فَضِلهِ 4 : 32 .
و تسترحمه ليرحمك وَ ما كَانَ اللَّهُ مُعَذّبَهُم وَ هُم يَستَغفِرُون 8 : 33 . و لم يجعل بينك و بينه من يحجبه عنك : كما تفعل الملوك و الرؤساء ، بل بابه مفتوح للسائلين . و لم يلجئك الى من يشفع لك إليه : كما هي عادة العظماء ، بل جعل توبتك شفيعا لك ، و الحديث : ( لا شفيع أنجح من التوبة ) و لم يمنعك ان أسأت من التوبة : بل هو الذي أمر بها ، و وعد التائبين أن يبدّل سيئاتهم حسنات . و لم يعاجلك بالنقمة : بالعقوبة . و لم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى : فضحه كشف معايبه . و المراد : بيان ألطافه ، و ستره على عباده .
و لم يشدد عليك في قبول الانابة : التوبة : و المراد : لم يفرض عليك ما فرضه على بني إسرائيل من القتل قبولا لتوبتهم بعد عبادتهم العجل فَتُوبُوا الى بَارِئكُم فاقتُلوا أنفُسَكُم 2 : 54 . و لم يناقشك بالجريمة : لم يستقص في حسابه . و لم يؤيسك من الرحمة : ففي الحديث القدسي :
( جعلت لهم التوبة حتى تبلغ النفس هذه ) و في القرآن الكريم : قُلْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّه يَغفرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ 39 : 53 . و لكن المفروض بالمسلم أن يسرع الى التوبة فقد لا يتمكن منها ، أو لا يوفّق إليها .
[ 47 ]
و حسب سيّئتك واحدة و حسب حسنتك عشرا ،
[ 48 ]
و فتح لك باب المتاب [ 1 ] و باب الإستعتاب فإذا ناديته سمع نداك ، و إذا ناجيته علم نجواك فأفضيت إليه بحاجتك ، و أبثثته ذات نفسك ،
و شكوت إليه همومك ، و استكشفته كروبك ،
و استعنته على أمورك ، و سألته من خزائن رحمته
[ 1 ] بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة . . . : نزع : كفّ و إنتهى . و المراد : ترك الذنب حسنة يستوجب بها العبد المثوبة . و حسب سيئتك واحدة : لطفا منه و كرما . و حسب حسنتك عشرا مَن جاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشرُ أَمثَالَها وَ من جَاءَ بِالسَّيّئةِ فَلاَ يُجْزَى إلاَّ مِثلَها وَ هُم لا يُظْلَمُون 6 : 160 . و فتح لك باب المتاب : باب التوبة وَ هُوَ الَّذِي يَقبَلُ التَّوبَةَ عَن عِبادِهِ وَ يعفو عن السَّيئَاتِ 42 : 25 .
[ 49 ]
ما لا يقدر على إعطائه غيره [ 1 ] : من زيادة الأعمار ، و صحّة الأبدان . و سعة الأرزاق . ثمّ جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته ، فمتى شئت استفتحت بالدّعاء أبواب نعمته ، و استمطرت شآبيب رحمته [ 2 ] ، فلا
[ 1 ] فإذا ناديته سمع نداك إِنَّ رَبِّي لَسَميعُ الدُّعَاء 14 :
39 . و إذا ناجيته علم نجواك : النجوى : أسرار الحديث يَعَلمُ السّرَّ وَ أَخفَى 20 : 7 . فأفضيت إليه بحاجتك :
أعلمته بها . و أبثثته ذات نفسك : البث : أشد الحزن الذي لا يصبر عليه صاحبه حتى يبثه أو يشكوه إِنَّمَا أَشكُوا بَثِّي وَ حُزنِي إلَى اللَّه 12 : 86 . و شكوت إليه همومك : التي لا يقدر على كشفها سواه . و أستكشفته : أفضيت بها إليه .
و كروبك : أحزانك . و إستعنته على أمورك : طلبت منه المعونة لأمور دنياك و آخرتك . و سألته من خزائن رحمته ما لا يقدر على إعطائه غيره : كالمعافاة في الأديان و الأبدان ،
و توسعة الأرزاق ، إلى غير ذلك .
[ 2 ] ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه . . . : المراد بذلك الأدعية ، فهي الطريق الرحب لقضاء الحوائج . بما أذن لك من مسألته : أباح لك ذلك و سمح به . فمتى شئت إستفتحت بالدعاء أبواب نعمته : إستفتح : طلب الفتح . و المراد :
تعرّض بالدعاء لكي تفتح له أبواب الرحمة ، و يحصل على السعادة . و إستمطرت شآبيب رحمته : جمع الشؤوب :
الدفعة من المطر .
[ 50 ]
يُقنطنّك إبطاء إجابته ، فإنّ العطيّة على قدر النّيّة ،
و ربّما أخّرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السّائل ، و أجزل لعطاء الآمل [ 1 ] ، و ربّما
[ 1 ] فلا يقنطك إبطاء إجابته . . . : فلا تيأس لتأخر الإجابة وَ مَن يَقنَطُ مِن رحمَةِ ربِّهِ إلاّ الضَّالُّون 15 : 56 . فإن العطية على قدر النية : النية : هي القصد و العزم على الفعل و في الحديث : ( إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل إمرىء ما نوى ) و المراد : للنية الأثر الأكبر في تحصل المراد ، فطلب العبد من اللَّه تعالى في وقت إنقطاعه إليه غير طلبه و هو مؤمل لغيره أيضا . و ربما أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل : قال الإمام الصادق عليه السلام : إن المؤمن ليدعو اللَّه تعالى في حاجة ، فيقول اللَّه : أخرت حاجته شوقا إلى دعائه ، فإذا كان يوم القيامة يقول اللَّه تعالى : عبدي دعوتني في كذا فأخرت إجابتك ، و ثوابك كذا ، قال : فيتمنى المؤمن أنه لم يستجب له دعوة في الدنيا لما يرى من حسن ثوابه . و أجزل لعطاء آمل : أعظم عطاء مما كنت ترجوه .
[ 51 ]
سألت الشّيء فلا تؤتاه ، و اوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا ، أو صرف عنك لما هو خير لك [ 1 ] ، فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته [ 2 ] . فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله ، و ينفى عنك وباله ، فالمال لا يبقى لك ، و لا تبقى له [ 3 ] .
[ 1 ] و ربما سألت الشيء فلا تؤتاه . . . : لعلمه بما يصلحك .
و أوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا : عوضك عنه خيرا منه لدنياك و آخرتك . أو صرف عنك لما هو خير لك : كن متيقنا إن اللَّه سبحانه قد إختار لك الأحسن في عدم إستجابته لدعائك .
[ 2 ] فلرب أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيه : كمن سأل زعامة أو رئاسة .
[ 3 ] فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله . . . : من أمر الآخر و ما أعدّ اللَّه سبحانه فيها لأوليائه . و ينفى عنك وباله : فساده .
و المراد : الحث على الطلب و العمل للآخرة ، لأن متطلّبات الدنيا عرضة للتنغيص و الفساد . فالمال لا يبقى لك و لا تبقى له :
و هذه حقيقة مع الأسف نتغافل عنها .
[ 52 ]
و اعلم يا بنيّ أنّك إنّما خلقت للآخرة لا للدّنيا ،
و للفناء لا للبقاء ، و للموت لا للحياة [ 1 ] ، و أنّك في منزل قلعة ، و دار بلغة ، و طريق إلى الآخرة [ 2 ] ، و أنّك طريد الموت الّذي لا ينجو منه هاربه ، و لا يفوته طالبه ، و لا بدّ أنّه مدركه [ 3 ] فكن منه على حذر أن يدركك و أنت على حال سيّئة قد
[ 1 ] و اعلم انك خلقت للآخرة : المقر الأخير . لا للدنيا . . . :
فهي ممر موصل إليها . و للفناء لا للبقاء ، و للموت لا للحياة :
النتيجة الحتمية للبشرية شاءوا أم أبوا .
[ 2 ] و انّك في منزل قلعة : لا يصلح للسكن : و المراد : اجعل الدنيا جسرا تعبره و لا تعمره . و دار بلغة : ما يتبلّغ به من العيش .
و المراد : تحصيل ما يلزم من الطعام و الشراب . و طريق الى الآخرة : لتنال بها سعادة الآخرة .
[ 3 ] و انّك طريد الموت الذي لا ينجو منه هاربه . . . : طرد الصيد طردا : عالجه يحاول صيده . و لا بد أنه مدركه : لا يمكنه النجاة منه .
[ 53 ]
كنت تحدّث نفسك منها بالتّوبة فيحول بينك و بين ذلك ، فإذا أنت قد أهلكت نفسك [ 1 ] .
يا بنيّ أكثر من ذكر الموت ، و ذكر ما تهجم عليه ، و تفضي بعد الموت إليه ، حتّى يأتيك و قد أخذت منه حذرك و شددت له أزرك ،
و لا يأتيك بغتة فيبهرك [ 2 ] و إيّاك أن تغترّ بما ترى
[ 1 ] فكن منه على حذر . . . : كن يقظا مستعدا . ان يدركك و أنت على حال سيئة : فيختم لك بالشقاء الدائم . و قد كنت تحدّث نفسك منها بالتوبة : و هذا أعظم ما يرتكبه العصاة ،
فهو يريد التخلّي عن أعماله السيئة ، و عازم على التوبة ، و لكنه يسوّف الأمر حتى يدركه الأجل . فيحول بينك و بين ذلك :
الشيطان . فاذا أنت قد أهلكت نفسك : هلاكا أبديا .
[ 2 ] يا بني أكثر من ذكر الموت . . . : لتسارع الى التوبة ، و تستقيم سيرتك . و ذكر ما تهجم عليه : من هول المطلع ، و المصاعب التي تنتظرك . و تفضي : تنتهي . بعد الموت إليه : من نعيم أو شقاء . حتى يأتيك و قد أخذت منه حذرك : قد احترست و تأهّبت . و شدد له أزرك : الأزر : القوة . و المراد : يأتيك و أنت على قوّة و استعداد لملاقاته ، قد هيأت له عملا صالحا منجيا . و لا يأتيك بغتة فيبهرك : يدهشك و يحيرك .
[ 54 ]
من إخلاد أهل الدّنيا إليها و تكالبهم عليها فقد نبّأك اللَّه عنها ، و نعتت هي لك نفسها و تكشّفت لك عن مساويها [ 1 ] فإنّما أهلها كلاب عاوية ، و سباع ضارية ، يهرّ بعضها بعضا [ 2 ] و يأكل عزيزها
[ 1 ] و اياك أن تغتر . . . : تغفل و تنخدع من اخلاد أهل الدنيا اليها :
اطمئنانهم و سكونهم إليها . و المراد : اهتم بما يسعدك غدا و ينجيك ، و ليكن نظرك الى الاتقياء المعرضين عنها ، لا الى الاشقياء المنهمكين في طلبها . و تكالبهم : حرصهم . فقد نبأك اللَّه عنها : أخبرك وَ ذَرِ الَّذِينَ اتخذُوا دينَهم لعباً وَ لَهواً وَ غَرّتهم الحَياةُ الدُّنيَا 6 : 70 . و نعتت لك نفسها : بيّنت حالها .
و تكشّفت لك عن مساويها : بدت لك عيوبها .
[ 2 ] فانما أهلها كلاب عاوية . . . : عوى الكلب : صاح صياحا ممدودا و ليس بنباح . و سباع ضارية : مولعة بالافتراس . يهر بعضها بعضا : هرّ الكلب : نبح و كشّر عن أنيابه . و المراد من التشبيه بالكلاب هو شدة تنازعهم و تغالبهم عليها ، و تشبيهها بالجيفة التي تتقاتل عليها الكلاب .
[ 55 ]
ذليلها ، و يقهر كبيرها صغيرها ، نعم معقّلة و أخرى مهملة قد أضلّت عقولها و ركبت مجهولها [ 1 ] ،
سروح عاهة بواد وعث ليس لها راع يقيمها ،
و لا مسيم يسيمها [ 2 ] سلكت بهم الدّنيا طريق
[ 1 ] نعم معقلة . . . : النعم : الابل خاصة ، أو الابل و البقر و الغنم . و عقل البعير : ضم رسخ يده الى عضده و ربطهما معا ليبقى باركا . و اخرى مهملة : متروكة بلا رعاية و لا عناية . قد اضلت عقولها : لم تنتفع بهذه الموهبة العظيمة . و ركبت مجهولها : سارت بجهالة
[ 2 ] سروح عاهة . . . : جمع سرح : الماشية السائمة . و العاهة :
عرض مفسد لما أصابه من الانسان و الزرع و الماشية . بواد وعث : الوادي : كل منفرج بين الجبال و التلال و الآكام .
و وعث الطريق : تعسّر سلوكه . ليس لها راع يقيمها :
يرعاها و يأخذ بها الى المرعى . و لا مقيم يسيمها : اسام الابل و نحوها في المرعى : خلاّها ترعى . و المراد : وصف أهل الدنيا ، المتكالبين عليها بحيوانات مهملة بدون راع و مدبّر .
[ 56 ]
العمى ، و أخذت بأبصارهم عن منار الهدى ،
فتاهوا في حيرتها ، و غرقوا في نعمتها ، و اتّخذوها ربّا فلعبت بهم و لعبوا بها و نسوا ما وراءها [ 1 ] .
رويدا يسفر الظّلام كأن قد وردت الأظعان يوشك من أسرع أن يلحق [ 2 ] .
[ 1 ] سلكت بهم الدنيا طريق العمى . . . : الجهل . و أخذت بأبصارهم عن منار الهدى : المنار : العلم الذي يهتدى به في البر و البحر . و المراد : جعلتهم الدنيا لا يبصرون طريق النجاة . فتاهوا : ضلوا و ذهبوا متحيرين . و الحيرة : التردد و الاضطراب . و غرقوا في نعمتها : في رفاهيتها . فلعبت بهم : خدعتهم و غرتهم . و لعبوا بها : عثوا بها . و نسوا ما وراءها : من حساب و عقاب ، و خلود في الجحيم .
[ 2 ] رويدا . . . : مهلا . يسفر الظلام : ينكشف . كأن قد وردت الأظعان : ظعن : سار و ارتحل تَستَخفُّونَهَا يَومَ ظَعنكم 16 : 80 . و المراد : تمهل في سيرك نحو الضلال فقريبا تلتحق بمواكب الآخرة . يوشك من أسرع أن يلحق : بمن تقدمه من الأموات .
[ 57 ]
و اعلم يا بنيّ أنّ من كانت مطيّته اللّيل و النّهار فإنّه يسار به و إن كان واقفا ، و يقطع المسافة و إن كان مقيما وادعا [ 1 ] .
و اعلم يقينا أنّك لن تبلغ أملك ، و لن تعدو أجلك ، و أنّك في سبيل [ 2 ] من كان قبلك ،
[ 1 ] و اعلم أن من كانت مطيته الليل و النهار فانه يسار به . و ان كان واقفا : المطية من الدواب : ما يمتطى و يقطع به المسافة .
و المراد : ان تعاقب الليل و النهار يستوجبان طي العمر . و يقطع المسافة و ان كان مقيما وادعا : ساكنا مستقرا . و هي نظير كلمته عليه السلام : أهل الدنيا كركب يسار بهم و هم نيام .
[ 2 ] و اعلم يقينا انك لن تبلغ أملك . . . : ما تأمله ، لأنه لا يحصل على مطلوب و تحقيق أمل إلاّ و يتجدّد له آخر ، و هكذا حتى يرد الموت . و لن تعدو أجلك : لا تتجاوز العمر الذي كتب لك .
و انك في سبيل من كان قبلك : السبيل : الطريق . و المراد :
أنت ماض في الطريق الذي سلكه من تقدمك و هو الموت .
[ 58 ]
فخفّض في الطّلب و أجمل في المكتسب فإنّه ربّ طلب قد جرّ إلى حرب [ 1 ] ، فليس كلّ طالب بمرزوق ، و لا كلّ مجمل بمحروم [ 2 ] ، و أكرم نفسك عن كلّ دنيّة و إن ساقتك إلى الرّغائب فإنّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا و لا تكن عبد غيرك و قد جعلك اللَّه حرّا [ 3 ] ، و ما خير
[ 1 ] فخفض في الطلب . . . : نقص من السعي و الجهد . و اجمل في المكتسب : تأدّ و اعتدل . و المراد : النهي عن التكالب على الدنيا ، و كثرة السعي في طلبها . فانه ربّ طلب قد جرّ الى حرب : أدّى الى سلب المال و ذهابه .
[ 2 ] فليس كل طالب بمرزوق ، و لا كل مجمل بمحروم : ان الرزق قسّمه علاّم الغيوب ، فلا يصل الى المجهد نفسه في الطلب ،
و المجمل فيه إلاّ ما قسم له .
[ 3 ] و اكرم نفسك عن كل دنيّة . . . : نقيصة . و ساقه : حثّه من خلفه على السير . و الرغائب : ما ترغب فيه و تطلبه ، فانك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضا : لم تأخذ بما بذلته بدلا .
و المراد : صن نفسك عما يشينها ، و ازهد في المطلوب مهما يكن اذا استوجب هدر كرامتك . و لا تكن عبد غيرك و قد جعلك اللَّه حرّا : لا تتنازل و تخضع للآخرين فتكون بمنزلة العبد الذليل و أنت حرّ . و هذه الكلمة أخذها أحرار العالم و اتخذوها شعارا .
[ 59 ]
خير لا ينال إلاّ بشرّ و يسر لا ينال إلاّ بعسر ؟ [ 1 ] .
و إيّاك أن توجف بك مطايا الطّمع فتوردك مناهل الهلكة [ 2 ] ، و إن استطعت أن لا يكون بينك و بين
[ 1 ] و ما خير خير لا ينال إلاّ بشر . . . : الخير : المال الكثير .
و المراد : تعسا لمال لا ينال إلاّ بالحرام . و يسر لا ينال إلاّ بعسر : اليسر : السهولة . و العسر : الصعوبة و شدة الحال .
و المراد : لا خير في يسر يؤدي بصاحبه الى مذلة في الدنيا أو الآخرة .
[ 2 ] و إياك أن توجف بك مطايا الطمع . . . : أوجف دابته : حثّها على السير . و الطمع : الرغبة في الشيء و اشتهاؤه . فتوردك مناهل الهلكة : ورد المكان : أشرف عليه . و مناهل جمع منهل : الموضع الذي فيه الشرب . و الهلكة : الموت . و المراد :
الحذر من الطمع فانه يقود صاحبه الى الهلاك .
[ 60 ]
اللَّه ذو نعمة فافعل ، فإنّك مدرك قسمك ، و آخذ سهمك و إنّ اليسير من اللَّه سبحانه أعظم و أكرم من الكثير من خلقه و إن كان كلّ منه [ 1 ] .
[ 1 ] و ان استطعت ان لا يكون بينك و بين اللَّه ذو نعمة فافعل . . . :
نهى عليه السلام عن سؤال الآخرين ، و طلب معروفهم .
فانك مدرك قسمك : ما قسم لك من رزق . و آخذ سهمك :
نصيبك منه . و ان اليسير من اللَّه سبحانه أعظم و أكرم من الكثير من خلقه : ان القليل الذي تحصله عوضا عن جهدك ،
و بدون منّة من مخلوق خير و أفضل من كثير يتصدّق به عليك الناس . و ان كان كل منه : و ان كانت عطاياهم منه أيضا ،
و لكن ينبغي للمسلم أن لا يسأل أحدا من الناس و يتوجّه بحوائجه الى اللَّه تعالى . قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله :
من يضمن خصلة اضمن له الجنة . فقال ثوبان : أنا يا رسول اللَّه . فقال : لا تسأل الناس شيئا فكان ثوبان يقع سوطه من يده فلا يقول لأحد ناولنيه ، حتى ينزل فيأخذه ،
فكانت عائشة تقول : تعاهدوا ثوبان فإنه لا يسأل الناس شيئا .
[ 61 ]
و تلافيك ما فرط من صمتك أيسر من إدراكك ما فات من منطقك و حفظ ما في الوعاء بشدّ الوكاء [ 1 ] ، و حفظ ما في يديك أحبّ إليّ من طلب ما في يد غيرك [ 2 ] . و مرارة اليأس خير من الطّلب إلى النّاس [ 3 ] ، و الحرفة مع العفّة خير من
[ 1 ] و تلافيك . . . : تداركك . ما فرط من صمتك : قصرت فيه وضيعته . أيسر من ادراكك ما فات من منطقك : ان سكوتك عما يلزم فيه الكلام يمكنك تداركه ، و لكنك لا تستطيع أن تتدارك ما تكلمت به خطأ . و حفظ ما في الوعاء : الظرف يوعى فيه الشيء بشدّ الوكاء : الخيط تشدّ به القربة أو الكيس و غيرها . و المراد : التحذير من كثرة الكلام .
[ 2 ] و حفظ ما في يديك . . . : بالاقتصاد بالانفاق و التدبير أحب إليّ من طلب ما في يد غيرك : راجيا احسانهم . و المراد : لا تنفق اموالك و تستجدي بعد ذلك الناس .
[ 3 ] و مرارة اليأس . . . : انقطاع الأمل و الرجاء . خير من الطلب الى الناس : أفضل من مدّ اليد إليهم . و المراد : معاناتك في اليأس لا سيما في المجالات التي يستفيد منها غيرك أولى و أجمل بك من الطلب الى الناس .
[ 62 ]
الغنى مع الفجور [ 1 ] ، و المرء أحفظ لسرّه [ 2 ] .
و ربّ ساع فيما يضرّه [ 3 ] من أكثر أهجر ، و من تفكّر أبصر [ 4 ] قارن أهل الخير تكن منهم ،
[ 1 ] و الحرفة . . . : وسيلة الكسب من زراعة و صناعة و تجارة و غيرها . مع العفّة : هي ترك الشهوات من كل شيء . خير من الغنى مع الفجور : المضي في المعاصي بلا مبالاة . و المراد :
مرارة العمل و صعوبته أفضل للانسان من غنى مصحوب بالمحرمات .
[ 2 ] و المرء أحفظ لسرّه : فمن العبث أن تبوح لشخص بسرّك و تطلب منه حفظه .
إذا ضاق صدر المرء من سرّ نفسه
فصدر الذي يستودع السر أضيق
[ 3 ] و رب ساع فيما يضرّه : يكون سعيه و عمله و بالا عليه .
[ 4 ] من أكثر أهجر . . . : الهجر : الهذيان و القبيح من القول .
و المراد : كثرة الكلام تؤدي بالمتكلم الى ذلك ، شاء أو أبى .
و من تفكر أبصر : طريق النجاة . و الحديث : ( تفكّر ساعة خير من عبادة سنة ) .
[ 63 ]
و باين أهل الشّر تبن عنهم [ 1 ] بئس الطّعام الحرام [ 2 ] ، و ظلم الضّعيف أفحش الظّلم [ 3 ] . إذا كان الرّفق خرقا كان الخرق رفقا [ 4 ] . ربّما كان الدّواء داء و الدّاء دواء [ 5 ] ، و ربّما نصح غير
[ 1 ] قارن أهل الخير تكن منهم . . . : قارنه : صاحبه و اقترن به .
و المراد : انك متأثر حتما و مقتبس منهم
صاحب أخا ثقة تحظى بصحبته
فالطبع مكتسب من كل مصحوب
و باين أهل الشّر تبن عنهم : باينه : فارقه و هجره .
[ 2 ] بئس الطعام الحرام : بئس فعل جامد للندم ، ضد نعم في المدح لَبِئسَ مَا كَانُوا يَصْنعُونَ 5 : 63 و المراد : التحذير الشديد من تناول الحرام .
[ 3 ] ظلم الضعيف أفحش الظلم : أشده قبحا : و الحديث : ( إياك و ظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا اللَّه ) .
[ 4 ] إذا كان الرفق خرقا ، كان الخرق رفقا : خرقا : جهلا و حمقا .
و المراد : هناك حالات يكون الرفق فيها مذموما ، و يلزم فيها الشدّة ، كما في التأديب و شبهه .
[ 5 ] ربما كان الدواء داء . . . : مرضا . و المراد : سببا لحصول المرض أو زيادته . و الداء : المرض . دواء : سبب للشفاء من مرض مزمن يعانيه .
[ 64 ]
النّاصح و غشّ المستنصح [ 1 ] . و إيّاك و اتّكالك على المنى فإنّها بضائع النّوكى [ 2 ] و العقل حفظ التّجارب . و خير ما جرّبت ما وعظك [ 3 ] بادر الفرصة قبل أن تكون غصّة [ 4 ] . ليس كلّ طالب
[ 1 ] ربما نصح غير الناصح . . . : ممن لا تأمل نصيحته لبعده عنك . و غشّ المستنصح : ممن أملت نصيحته لقرابته أو صداقته فيغشّك حسدا .
[ 2 ] و إياك و اتكالك على المنى . . . : ما يتمناه الانسان ، و يحب أن يصير إليه ، و يحلم به . فانها بضائع النوكى : الحمقى . و المراد الجد و السعي لتحقيق الأمل إذا كان مشروعا .
[ 3 ] العقل حفظ التجارب . . . : العاقل يستفيد مما يمر به من تجارب ، و يأخذ منها دروسا نافعة لحياته العملية . و خير ما جربت ما وعظك : ما يعود على الانسان بالاعتبار و الموعظة ،
و الانتفاع بما يسعده في الآخرة .
[ 4 ] بادر الفرصة . . . : الشيء المرغوب فيه ، يسنح و يتسابق إليه الناس . قبل أن تكون غصّة : ما اعترض في الحلق من طعام و شراب . و المراد : اضاعة الفرص التي تمرّ بالانسان مستوجبة لتألمه و حزنه .
[ 65 ]
يصيب ، و لا كلّ غائب يؤوب [ 1 ] ، و من الفساد إضاعة الزّاد و مفسدة المعاد [ 2 ] ، و لكل أمر عاقبة [ 3 ] ، سوف يأتيك ما قدّر لك [ 4 ] ، التّاجر
[ 1 ] ليس كل طالب يصيب . . . : مطلوبه . و لا كل غائب يؤوب : يرجع . و الغرض : تمرين النفس في مثل هذا و شبهه على الصبر .
[ 2 ] من الفساد اضاعة الزاد . . . : الذي أشارت إليه الآية : وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقوَى 2 : 197 . و المراد : انّ المضيّع عرّض نفسه للعطب و التلف . و مفسدة : ضرر . للمعاد : عند بعث الأجسام البشرية ، و تعلّق أنفسها بها للنفع أو الانتصاف و الجزاء . و المراد : ينبغي للانسان أن يستغل دنياه لتحصيل ما يلزمه في آخرته .
[ 3 ] و لكل أمر عاقبة : عاقبة كل شيء آخره . و المراد : التفكير في كل عمل قبل الاقدام عليه ، و ما تؤول عاقبته من خير أو شرّ .
[ 4 ] سوف يأتيك ما قدّر لك : لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها ،
فلا موجب للجهد و كثرة السعي .
[ 66 ]
مخاطر [ 1 ] ، و ربّ يسير أنمى من كثير [ 2 ] ، و لا خير في معين مهين ، و لا في صديق ظنين [ 3 ] ، ساهل الدّهر ما ذلّ لك قعوده [ 4 ] ، و لا تخاطر بشيء رجاء
[ 1 ] التاجر مخاطر : فكما هو معرّض لخطر الخسارة معرّض لخطر النار ، لا سيّما اذا لم يتفقّه و الخطر الأكبر بالنسبة له موقف الحساب حيث يسئل عن حقوق الفقراء التي جعلها اللَّه سبحانه في أمواله .
[ 2 ] و ربّ يسير . . . : من الحلال . أنمى من كثير : من الحرام ،
و أزكى و أفضل له في الدنيا و الآخرة .
[ 3 ] لا خير في معين مهين . . . : ضعيف حقير . و لا في صديق ظنين : متّهم . و المراد : أن ضرهما يكون أكثر من نفعهما .
[ 4 ] ساهل الدهر ما ذلّ لك قعوده : ساهله : لاينه ، سامحه .
و القعود من الأبل : ما إتخذ للركوب و حمل الزاد .
و المراد : إذا أقبلت عليك الدنيا بعض الأقبال فارض بذلك مكتفيا ، فربما إستزدتها فذهبت عنك .
[ 67 ]
أكثر منه [ 1 ] ، و إيّاك أن تجمح بك مطيّة اللّجاج [ 2 ] احمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصّلة ، و عند صدوده على اللّطف و المقاربة ،
و عند جموده على البذل ، و عند تباعده على الدّنوّ ،
و عند شدّته على اللّين و عند جرمه على العذر حتّى كأنّك له عبد ، و كأنّه ذو نعمة عليك [ 3 ] ،
[ 1 ] و لا تخاطر بشيء رجاء أكثر منه : أساس إقتصادي عظيم . لا تجازف بمال و تعرّضه للتلف بأمل أن يحصل لك أكثر منه .
[ 2 ] و إياك أن تجمح بك مطية اللجاج : جمح الفرس جموحا :
عصا أمر صاحبه . و لجّ في الأمر لجاجا : تمادى .
و المراد : التحذير من الخصومات لما يتسبب منها من مصاعب ، و الأخذ بفن التسامح .
[ 3 ] إحمل نفسك من أخيك عند صرمه . . . : هجره . على الصلة : العطية . و عند صدوده : أعراضه . على اللطف :
البر . و المقاربة : الدنو . و عند جموده : بخله . على البذل : العطاء . و المراد من الفصل : الإحتفاظ بالأخوة ،
و إحتمال المكروه من الصديق ، و مقابلة هجرانه بالصلة ،
و أعراضه بالبر ، و هكذا ، تأدّبا بآداب الإسلام ، و حثّا على مكارم الأخلاق . حتى كأنك له عبد و كأنه ذو نعمة عليك :
أسلك معه هذا المسلك من الأدب طلبا لمرضاة اللَّه تعالى
[ 68 ]
و إيّاك أن تضع ذلك في غير موضعه [ 1 ] ، أو أن تفعله بغير أهله لا تتّخذنّ عدوّ صديقك صديقا فتعادي صديقك [ 2 ] ، و امحض أخاك النّصيحة حسنة كانت أو قبيحة [ 3 ] ، و تجرّع الغيظ فإنّي لم
[ 1 ] و إياك أن تصنع ذلك في غير موضعه : الحذر أن يكون معروفك مع أناس ليس عندهم رابطة دين فيستغلك و إحسانك .
[ 2 ] لا تتخذن عدوّ صديقك صديقا فتعادي صديقك : من آداب الصداقة عدم الصلات بأعداء الصديق حفاظا على الصداقة ،
و لأجل أن لا تحوم شكوكه حولك .
[ 3 ] و امحض أخاك النصيحة . . . : محض فلان النصح محضا : أخلصه إياه . حسنة كانت أو قبيحة : محببة له أو مبغضة .
[ 69 ]
أر جرعة أحلى منها عاقبة و لا ألذّ مغبّة [ 1 ] ، و لن لمن غالظك فإنّه يوشك أن يلين لك [ 2 ] ، و خذ على عدوّك بالفضل فإنّه أحد الظّفرين [ 3 ] و إن
[ 1 ] و تجرّع الغيظ . . . : أكظمه ( أكتمه ) و الغيظ . أشد الغضب . قال الإمام الباقر عليه السلام : ما من جرعة يتجرعها عبد أحب الى اللَّه عز و جل من جرعة غيظ يردّها في قلبه ، و ردّها بصبر أوردها بحلم . فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة ، و لا ألذ مغبّة : المغبة من كل شيء آخره .
و المراد : أن ذلك يكسبك خيرا كثيرا في دنياك و آخرتك .
[ 2 ] و لن لمن غالظك . . . : لان : سهل و إنقاد . و غلظ الطبع : خشن و صعب . فأنه يوشك أن يلين لك : يقرب .
و المراد : استعمل الخلق الرفيع حتى مع أهل الطباع السيئة ادفَعْ بِالَّتي هي أَحسَنُ فإِذَا الذي بَينَكَ و بَينَهُ عدَاوةٌ كَأنَّهُ وَلِيُّ حَمِيمُ 41 : 34 .
[ 3 ] و خذ على عدوك بالفضل فأنه أحلى الظفرين : المراد بالظفرين : العنف أو الإحسان ، و الإمام عليه السلام يوصيه بالثاني فهو أحمد عاقبة في الدنيا و الآخرة .
[ 70 ]
أردت قطيعة أخيك [ 1 ] فاستبق له من نفسك بقيّة يرجع إليها إن بدا له ذلك يوما مّا ، و من ظنّ بك خيرا فصدّق ظنّه [ 2 ] ، و لا تضيعنّ حقّ أخيك [ 3 ] اتّكالا على ما بينك و بينه فإنّه ليس لك بأخ من أضعت حقّه ، و لا يكن أهلك أشقى الخلق بك [ 4 ] ، و لا ترغبنّ فيمن زهد عنك ، و لا
[ 1 ] و إذا أردت قطيعة أخيك . . الخ : في حال تصميمك على مقاطعة الصديق لا تندفع بكلك مستعملا كل وسائل المقاطعة ، بل إجعل مجالا للرجوع و المقاربة في يوم ما .
[ 2 ] و من ظنّ بك خيرا فحقق ظنه : مثل يظن بك العلم فحقق ظنه بطلبه ، و يظن بك الكرم فحقق ظنه بذلك ، و اجعل ظنهم الحسن من نعم اللَّه تعالى عليك تدفع بك لتحقيقه .
[ 3 ] و لا تضيعن حق أخيك . . الخ : للأخوة حقوق كالتهنئة بالأفراح ، و المواساة بالأحزان ، و الوقوف بجانبهم عند الملمّات ، و إن التفريط بهذه الحقوق يفصم عرى الأخوّة .
[ 4 ] و لا يكن أهلك أشقى الخلق بك : و هذا ما يعانيه المجتمع ،
فالشخص يكون سلوكه مع الناس جيدا ، و أخلاقه رفيعة ،
و لكنه في بيته طاغية .
[ 71 ]
يكوننّ أخوك على مقاطعتك أقوى منك على صلته و لا يكوننّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان [ 1 ] ، و لا يكثرنّ عليك ظلم من ظلمك فإنّه يسعى في مضرّته و نفعك ، و ليس جزاء من سرّك أن تسوءه [ 2 ] .
[ 1 ] و لا ترغبن فيمن زهد فيك : أعرض عنك . و المراد : من وجدته معرضا متباعدا عن مصاحبتك ، لا يرغب في أخوتك ، لا تفرض عليه صداقتك ، لأن ذلك مستوجب لهوانك .
[ 2 ] و لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته . . . : أن حصل بينك و بين أخيك أو قريبك أو صديقك نفور فقاطعك فاحرص على صلته ، و الإحسان اليه ، و إزالة ما بنفسه .
و لا يكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان : سارع الى صلته و برّه و هذا نهج إجتماعي رفيع يدعو الى التآلف و الأخاء .
[ 3 ] و لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك . . . : فما أُعدّ لك من الأجر على الظلامة أكثر مما تتصوّر ، و ما هيّأ له من العذاب و الخزى أضعاف ما كان يحتمل . فأنه يسعى في مضرته و نفعك : و الحديث : ( إن يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم ) و ليس جزاء من سرّك أن تسوءه :
و هذا معنى رفيع لا يقوى عليه إلاّ الأماثل ، و الأولياء الخلّص .
[ 72 ]
و اعلم ، يا بنيّ ، أنّ الرّزق رزقان : رزق تطلبه ، و رزق يطلبك ، فإن أنت لم تأته أتاك [ 1 ] .
ما أقبح الخضوع عند الحاجة و الجفاء عند الغنى [ 2 ] . إنّ لك من دنياك ما أصلحت به
[ 1 ] و اعلم يا بني أن الرزق رزقان : رزق تطلبه : تسعى في الحصول عليه . و رزق يطلبك : يأتيك من دون تعب و لا جهد ، بل لم يكن في الحسبان . فإن أنت لم تأته أتاك : لو لم تطلبه و تسعى اليه لطلبك و وافاك في بيتك ، لأنه مقدّر مكتوب لك .
[ 2 ] ما أقبح الخضوع عند الحاجة . . . : التذلل للغني لنيل معروفه . و الجفاء عند الغنى : جفاه : اعرض عنه بقطعه .
و المراد : كما يقبح بالفقير أن يخضع و يتذلل للغني لا سيما و الرزق مكفول له و في السَّماءِ رِزقُكُم وَ مَا تُوعَدُونَ 51 :
22 . كذلك يقبح بالغني أن يجفو أخاه الفقير و يقطعه .
[ 73 ]
مثواك [ 1 ] و إن جزعت على ما تفلّت [ 2 ] من يديك فاجزع على كلّ ما لم يصل إليك . استدلّ على ما لم يكن بما قد كان فإنّ الأمور أشباه [ 3 ] ، و لا تكوننّ ممّن لا تنفعه العظة إلاّ إذا بالغت في إيلامه فإنّ العاقل يتّعظ بالآداب [ 4 ] ،
[ 1 ] ان لك من دنياك ما أصلحت به مثواك : مقامك ، و المراد به القبر و ما بعده . و المعنى : لو ملكت الدنيا بأسرها فلست بمنتفع بشيء منها إلاّ ما قدمته لآخرتك .
[ 2 ] و ان جزعت على ما تفلت . . . الخ : تخلص و ذهب .
و المراد : لا تأسف على ما ذهب من مالك كمن يبكي اذا خسر أو اصابت ماله آفة ، فان المال الذاهب مما لم يقسم لك الانتفاع به ، و هو بمنزلة ما لم يصلك من أموال الدنيا ،
فكما انك لا تحزن له كذلك لا تحزن على المتفلت من مالك .
[ 3 ] استدل على ما لم يكن . . . : من أمر الدنيا . بما قد كان :
و حصل منها . و مثال ذلك : استدل على فراقك الدنيا بمن فارقها قبلك . فان الأمور اشباه : نظائر .
[ 4 ] و لا تكونن ممن لا تنفعه العظة . . . : ما يوعظ به من قول و فعل . و المراد : التحذير من غلظة الطبع و عدم الاتعاظ بما يمر به من مواعظ . ، إلا اذا بالغت في إيلامه : و اشتدت عليه ، فهو حينئذ يرعوي ، و يرجع الى الاستقامة . فان العاقل يتّعظ بالآداب : بأدنى شيء من المعرفة و التذكير .
[ 74 ]
و البهائم لا تتّعظ إلاّ بالضّرب . اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصّبر و حسن اليقين [ 1 ] من ترك القصد جار [ 2 ] و الصّاحب مناسب [ 3 ] و الصّديق من صدق غيبه [ 4 ] و الهوى شريك
[ 1 ] اطرح عنك واردات الهموم . . . : لا تلتفت إليها . بعزائم الصبر . العزم : إرادة الشيء ، و عقد النية عليه . و المراد :
وطّن نفسك على الصبر . و حسن اليقين : باختيار اللَّه تعالى ، و ان ما أصابك هو لمصلحتك ، ان لم يكن للدنيا و إلاّ فهو للآخرة .
[ 2 ] من ترك القصد . . . : الاستقامة . جار : مال و عدل .
[ 3 ] الصاحب مناسب : الصاحب : الصديق . و المراد : له حقوق القرابة من الرعاية و الود و الاخلاص .
[ 4 ] و الصديق من صدق غيبه : يراعي حقوقه في غيابه عنه .
[ 75 ]
العناء [ 1 ] ، ربّ قريب أبعد من بعيد ، و ربّ بعيد أقرب من قريب [ 2 ] و الغريب من لم يكن له حبيب [ 3 ] . من تعدّى الحقّ ضاق مذهبه ، و من اقتصر على قدره كان أبقى له [ 4 ] . و أوثق سبب
[ 1 ] و الهوى شريك العمى : الهوى : ميل النفس الى الشيء .
و المراد : كما ان الأعمى لا يبصر طريقه كذلك صاحب الهوى لا يبصر طريق السلامة .
[ 2 ] و ربّ قريب أبعد من بعيد . . . : لمشاكسته و عداوته . و ربّ بعيد أقرب من قريب : في حبه و اخلاصه .
[ 3 ] و الغريب من لم يكن له حبيب : محب . و المراد : من كان في وطنه و ليس له فيه أحباء فهو غريب ، و من كان غريبا و له من يحبه فليس بغريب .
[ 4 ] من تعدّى الحق ضاق مذهبه . . . : طريقه . و المراد : من جاوز الحق و انحرف عنه ضاق عليه المسلك و المخرج . و من اقتصر على قدره كان أبقى له : و الحديث : ( ما هلك امرؤ عرف قدره ) و المراد : على المسلم أن لا يتعدى طوره ، و لا يتجاوز حدوده .
[ 76 ]
أخذت به سبب بينك و بين اللَّه [ 1 ] ، و من لم يبالك فهو عدوّك [ 2 ] قد يكون اليأس إدراكا إذا كان الطّمع هلاكا [ 3 ] . ليس كلّ عورة تظهر ، و لا كلّ فرصة تصاب ، و ربّما أخطأ البصير قصده ،
و أصاب الأعمى رشده [ 4 ] . أخّر الشّرّ فإنّك إذا
[ 1 ] و أوثق سبب أخذت به سبب بينك و بين اللَّه : و ثق وثاقة :
صار وثيقا . و السبب : الحبل . و المراد : ان الاعتصام بأوامر اللَّه تعالى ، و الأخذ بمنهجه الطريق المسلّم النجاح ،
و المفضي الى السعادة فَمَنْ يَكْفُر بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَها 2 : 256 .
[ 2 ] و من لم يبالك فهو عدوّك : لم يكترث بك ، و لم يراع حقوقك فهو بمنزلة العدو .
[ 3 ] قد يكون اليأس ادراكا . . . : حصولا . اذا كان الطمع هلاكا : مؤديا الى الهلاك . و المراد : ربّ أمر لا يحصل إلاّ بالهلاك ، فيكون اليأس منه أفضل من الظفر به .
[ 4 ] ليس كل عورة تظهر . . . : العورة : كل ما يُستحى منه ،
و يسوء صاحبه ان يرى ذلك منه . و المراد : هناك عيوب تكون مستورة على أصحابها . قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله :
كان بالمدينة أقوام لهم عيوب ، فسكتوا عن عيوب الناس ،
فاسكت اللَّه عن عيوبهم الناس ، فماتوا و لا عيوب لهم عند الناس ، و كان في المدينة أقوام لا عيوب لهم ، فتكلّموا في عيوب الناس فأظهر اللَّه لهم عيوبا ، لم يزالوا يعرفون بها الى أن ماتوا . و لا كل فرصة تصاب : تدرك ، و ربما أخطأ البصير قصده : البصير : من له علم و خبرة . و يقال : هو على قصد السبيل : إذا كان راشدا . و أصاب الأعمى رشده : رشد رشدا : اهتدى فهو راشد . و المراد : ربما كبا الذكي الخبير ، و سلم من الزلّة الانسان البسيط .
[ 77 ]
شئت تعجّلته [ 1 ] و قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل [ 2 ] . من أمن الزّمان خانه ، و من أعظمه
[ 1 ] آخر الشرّ فانّك اذا شئت تعجلته : و لم تفتك فرصته . و هذا أحسن ما يمكن ان يقال في المقام ، لأن حرارة الشر تنطفي بالتأخير ، و يترك الشر .
[ 2 ] و قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل : بقدر ما ينتفع الانسان من صلته بالعاقل يكسب مضرّة من صحبته للجاهل ، لذا لزم مقاطعته و الابتعاد عنه .
[ 78 ]
أهانه [ 1 ] ليس كلّ من رمى أصاب [ 2 ] ، إذا تغيّر السّلطان تغيّر الزّمان [ 3 ] ، سل عن الرّفيق قبل الطّريق ، و عن الجار قبل الدّار [ 4 ] . إيّاك أن تذكر من الكلام ما كان مضحكا [ 5 ] ، و إن حكيت ذلك
[ 1 ] من أمن الزمان خانه . . . : من اطمأن الى الدنيا ساهيا عن تقلباتها غدرت به . و من أعظمه أهانه : من أكرم الدنيا و أعطاها الأهمية هجمت به على الذل و الخزي .
[ 2 ] ليس كل من رمى أصاب : الهدف . و المراد : بعض المساعي تذهب ضياعا .
[ 3 ] اذا تغيّر السلطان . . . : انحرف عن الاستقامة . تغيّر الزمان :
انحرفت الرعية و التوت في سلوكها ، فالناس على دين ملوكهم ، فحينئذ يفسد الزمان و أهله .
[ 4 ] سل عن الرفيق قبل الطريق . . . : لما له من أثر كبير في نجاح السفرة و فشلها ، و الأهم من ذلك أثر الصحبة ، و التأثر بأخلاق الصاحب . و عن الجار قبل الدار : فقد تزهد بالقصر اذا كان بجوارك من يؤذيك ، و تسعد بالكوخ اذا كنت بجوار من تحب قربه و جواره .
[ 5 ] و إياك أن تذكر من الكلام ما كان مضحكا : لأنه يسقط الهيبة و ثم شيء آخر : الاسلام يريد للمسلم كرامة و وقارا ،
و حالا أسمى من الضحك ، و ان يكون في جميع أوقاته في جدّ و اشتغال بما يسعده غدا .
[ 79 ]
عن غيرك ، و إيّاك و مشاورة النّساء فإنّ رأيهنّ إلى أفن و عزمهنّ إلى وهن [ 1 ] و اكفف عليهنّ من أبصارهنّ بحجابك إيّاهنّ فإنّ شدّة الحجاب أبقى عليهنّ ، و ليس خروجهنّ بأشدّ من إدخالك من لا يوثق به عليهنّ و إن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل [ 2 ] ، و لا تملّك المرأة من أمرها ما
[ 1 ] إياك و مشاورة النساء . . . : طلب رأيهن في الأمر . فان رأيهن الى أفن : أفن أفنا : نقص عقله . و عزمهن الى وهن : عزم على الأمر : أراد فعله ، و عقد عليه نيّته . و وهن وهنا :
ضعف في الأمر و العمل و البدن .
[ 2 ] و اكفف عليهن من أبصارهن بحجابك اياهن : اكفف : امنع .
و هنا أمر يجب الانتباه له : فكما يحرم على الرجل النظر الى المرأة كذلك يحرم نظرها الى الرجل و ورد أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله كان مع اثنين من أزواجه فدخل عليه ابن أم مكتوم الأعمى فتساهلنا في الحجاب ، فنظر إليهما مغضبا فقالتا : انه ابن ام مكتوم ، أي أنه أعمى ، فقال ، أفأنتما عمياوان ؟ فان شدة الحجاب أبقى عليهن : أبقى على فلان : رحمه و أشفق عليه . و ليس خروجهن بأشدّ من إدخالك من لا يوثق به عليهن : المشكلة هي الاختلاط ،
فسواء خرجن أو دخل عليهن الأجانب ، فالكل واحد . و ان استطعت ان لا يعرفن غيرك فافعل : و هذا تأكيد على الحجاب ، و ترك الاختلاط .
[ 80 ]
جاوز نفسها ، فإنّ المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة [ 1 ] و لا تعد بكرامتها نفسها ، و لا تطمعها في أن تشفع لغيرها [ 2 ] ، و إيّاك و التّغاير في غير
[ 1 ] و لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها . . . : من تدبير المنزل . فان المرأة ريحانة : يتمتع بها . و ليست بقهرمانة :
القهرمان : لقب كان يلقب به أمين الملك و وكيله الخاص بتدبير دخله و خرجه .
[ 2 ] و لا تعد بكرامتها نفسها . . . : لا يتجاوز اكرامك لها بما يتعدى الى غيرها . و المراد : لا تجعلها وكيلا أو نائبا أو وصيّا عنك . و لا تطمعها في أن تشفع لغيرها : لما يترتب على ذلك من مفاسد كالاتصال بالآخرين ، و التدخّل في ما لا ينبغي لها .
[ 81 ]
موضع غيرة فإنّ ذلك يدعو الصّحيحة إلى السّقم ، و البريئة إلى الرّيب [ 1 ] ، و اجعل لكلّ إنسان من خدمك عملا تأخذه به ، فإنّه أحرى أن لا يتواكلوا في خدمتك [ 2 ] و أكرم عشيرتك فإنّهم جناحك الّذي به تطير ، و أصلك الّذي إليه تصير ،
و يدك الّتي بها تصول [ 3 ] .
[ 1 ] و إياك و التغاير في غير موضع غيرة . . . : المراد بالتغاير هنا سوء الظن بالمرأة بلا موجب . فان ذلك يدعو الصحيحة الى السقم : يدفعها للفجور . و البريئة الى الريب : الظن و الشك و التهمة .
[ 2 ] و اجعل لكل إنسان من خدمك عملا تأخذه به . . . : يكون مسؤولا عنه ، و محاسبا عليه . فانه أحرى : أجدر : أن لا يتواكلوا : يتكل بعضهم على بعض .
[ 3 ] و أكرم عشيرتك فأنهم جناحك الذي به تطير . . . : بهم تنهض . و يدك التي بها تصول : الصولة : السطوة في الحرب و نحوها و الإمام عليه السلام سبق أبن خلدون في مقدمته من الإعتماد على العشيرة في الإستيلاء على الحكم .
[ 82 ]
استودع اللَّه دينك و دنياك ، و أسأله خير القضاء لك في العاجلة و الآجلة [ 1 ] ، و الدّنيا و الآخرة و السّلام .