بسم اللَّه الرحمن الرحيم 338 و قال عليه السلام : العلم علمان :
مطبوع و مسموع ، و لا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع [ 1 ] . 339 و قال عليه السلام : صواب الرّأي بالدّول : يقبل بإقبالها ، و يذهب بذهابها [ 2 ] . 340 و قال عليه السلام : العفاف زينة
[ 1 ] العلم علمان مطبوع : العقل ، و جميع ما أودع اللَّه سبحانه في الإنسان من غرائز و ملكات و استعداد . و مسموع : هو العلم المكتسب بالتعلّم . و لا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع :
لا ينتفع بما تعلمه إذا لم يصاحبه عقل و سداد و استقامة .
[ 2 ] صواب الرأي بالدول ، يقبل بإقبالها ، و يذهب بذهابها : إن من لوازم الدولة سداد الرأي ، و التخطيط السليم ، ففي إقبالها تنفتح لهم آفاق ذلك ، و عند ادبارها تذهب منهم الحنكة و التدبير .
[ 6 ]
الفقر ، و الشّكر زينة الغنى [ 1 ] . 341 و قال عليه السلام : يوم العدل على الظّالم أشدّ من يوم الجور على المظلوم [ 2 ] . 342 [ و قال عليه السلام : الغنى الأكبر اليأس عمّا في أيدي النّاس ] .
343 و قال عليه السلام : الأقاويل
[ 1 ] العفاف زينة الفقر ، و الشكر زينة الغنى : عفّ كفّ عما لا يحل و لا يجمل من قول أو فعل . و المراد : ينبغي للفقراء أن يصونوا أنفسهم ، و لا يبذلوا ماء وجوههم ، و يعلموا أن ما قسم لهم من الرزق يصلهم بلا حاجة الى استعطاف غني ،
و التملق الى ثري كما يجب على الأغنياء شكر النعمة ،
و ذلك برعاية الفقراء ، و إخراج ما وجب عليهم من حقوق ،
و بذلك تدوم النعم ، و يضيفوا إليها النعمة العظمى الجنة .
[ 2 ] يوم العدل على الظالم أشد من يوم الجور على المظلوم : ان الشدائد و الأهوال التي يلقاها الظالم في عوالم الآخرة تفوق بكثير مما عاناه المظلوم في الدنيا .
[ 7 ]
محفوظة ، و السّرائر مبلوّة ، و كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ، و النّاس منقوصون مدخولون إلاّ من عصم اللَّه [ 1 ] : سائلهم متعنّت ، و مجيبهم متكلّف [ 2 ] ، يكاد أفضلهم رأيا يردّه عن فضل رأيه الرّضا و السّخط ، و يكاد أصلبهم عودا تنكؤه
[ 1 ] الأقاويل محفوظة . . . : مَا يَلفِظُ مِن قَول إلاّ لَدَيهِ رَقيبُ عَتَيدُ 50 : 18 . و السرائر مبلوّة : السرائر : أعمال بني آدم ، و ما أوجبه اللَّه عليهم من الفرائض ، و هي سرائر بين اللَّه و العبد . و مبلوّة : مختبرة ، ليظهر خيرها من شرّها ، و مؤدّيها من مضيعها . و في الذكر الحكيم : يَومَ تبلَى السّرائرُ 86 : 9 . و كُلّ نَفس بِمَا كَسَبَتْ رهِينَةُ مرهونة بعملها ،
محبوسة به ، مطالبة بما كسبته . و الناس منقوصون مدخولون : نقص : خسّ و قل . و الدخل : العيب و الفسق و الفساد . إلاّ من عصم اللَّه : منعه من المعصية .
[ 2 ] سائلهم متعنت . . . : مكابر معاند . و مجيبهم متكلف :
متعرّض لما لا يعنيه .
[ 8 ]
اللّحظة ، و تستحيله الكلمة الواحدة [ 1 ] . 344 و قال عليه السلام : معاشر النّاس ،
اتّقوا اللَّه فكم من مؤمّل ما لا يبلغه ، و بان ما لا يسكنه ، و جامع ما سوف يتركه ، و لعلّه من باطل جمعه ، و من حقّ منعه ، أصابه حراما ، و احتمل به آثاما ، فباء بوزره ، و قدم على ربّه آسفا لاهفا [ 2 ] ، قد خَسِرَ الدُّنْيَا و الآخرَةَ ، ذلِكَ هُوَ
[ 1 ] يكاد أفضلهم رأيا يرده عن فضل رأيه الرضا و السخط . . . :
لا يتابع بفعله و قوله منهج الحق و السداد ، و إنما يتأثر بعوامل أخرى . و يكاد أصلبهم عودا : أشدّهم إحتمالا . تنكؤه للحظة : نكأ القرحة قشّرها قبل أن تبرأ فنديت .
و اللحظة : الوقت القصير بمقدار لحظ العين . و تستحيله الكلمة الواحدة : تغيّره و تخرجه عن الوقار و الحلم .
و المراد : وصفهم بعدم الثبات ، و سرعة تزعزهم لأدنى مؤثر .
[ 2 ] إتقوا اللَّه . . . : خافوه و راقبوه . فكم من مؤمل ما لا يبلغه :
فهو يسعى بجد لتحقيق آماله في الدنيا ، مخلاّ بما أمر به من واجب ، ثم يدركه الموت قبل حصول ما تمناه و أمّله . و بان ما لا يسكنه : يتركه لغيره . و جامع ما سوف يتركه :
للوارثين . و لعله من باطل جمعه : من مصادر ملتوية و مشبوهة . و من حق منعه : لم يخرج منه حقوق اللَّه تعالى فيكسب رضاه ، و لم يساعد به الفقراء فيغنم دعاءهم و ودهم فخلفه لمن لا يحمده عليه . أصابه حراما : حصله من طرق غير مشروعة . و احتمل به آثاما : ذنوبا . فباء بوزره :
إنصرف بذنوب كسبه و جمعه و عدم إنفاقه . و قدم على ربه آسفا : متألما . و لاهفا : حزينا متحسرا .
[ 9 ]
الخُسْرَانُ المُبِينُ 345 و قال عليه السلام : من العصمة تعذّر المعاصي [ 1 ] .
[ 1 ] من العصمة تعذر المعاصي : العصمة : منحة إلهيّة تمنع من فعل المعصية و الميل إليها ، مع القدرة على فعلها .
و المراد : ربما لطف اللَّه جلّ جلاله بعبده لإستعداد وجده عنده فلم تتهيأ له المعصية ، ثم يتدرج في الكمال حتى يقوى على تركها مع التمكن منها .
[ 10 ]
346 و قال عليه السلام : ماء وجهك جامد يقطره السّؤال ، فانظر عند من تقطره [ 1 ] . 347 و قال عليه السلام : الثّناء بأكثر من الاستحقاق ملق ، و التّقصير عن الاستحقاق عيّ أو حسد [ 2 ] . 348 و قال عليه السلام : أشدّ الذّنوب ما استهان به صاحبه [ 3 ] .
[ 1 ] ماء وجهك جامد . . . : كرامتك محفوظة . يقطره السؤال :
ذل المسألة . فانظر عند من تقطره : لا تقصد بحاجتك إلاّ أهل الدين و النبل و الكرم .
[ 2 ] الثناء بأكثر من الإستحقاق ملق . . . : تودد و تضرع فوق ما ينبغي . و التقصير عن الإستحقاق عيّ و حسد : عيّ في منطقه عيّا : عجز عنه فلم يستطع بيان مراده .
[ 3 ] أشد الذنوب ما استهان به صاحبه : استهان بالأمر :
إستخف به . و المراد : أن الإستخفاف بالذنب منتهى الجرأة و الوقاحة ، و ينبغي للمسلم أن لا ينظر الى صغر المعصية ،
بل ينظر لمن عصى .
[ 11 ]
349 و قال عليه السلام : من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره [ 1 ] و من رضي برزق اللَّه لم يحزن على ما فاته [ 2 ] و من سلّ سيف البغي قتل به [ 3 ] و من كابد الأمور عطب و من اقتحم اللّجج غرق و من دخل مداخل السّوء
[ 1 ] من نظر في عيب نفسه إشتغل عن عيب غيره : إن نظره في عيوبه توجب له التفكير في إصلاحها ، و سكوته عن الغير موجب لتبادل المودّة و الاخاء . و من رضي برزق اللَّه لم يحزن على ما فاته : من أمر الدنيا .
[ 2 ] و من سلّ سيف البغي قتل به : طالما تكون عاقبة الجبارين ،
و نهاية المجرمين القتل ، و ما أعدّ اللَّه لهم من العذاب و الهوان أعظم بكثير .
[ 3 ] و من كابد الأمور . . . : قاسى شدّتها . عطب : هلك . و من اقتحم اللجج غرق : إقتحم الأمر العظيم : رمى بنفسه فيه بغير روية . و لجج جمع لجّة : معظم البحر و تردد أمواجه .
و المراد : ركوب الأهوال موجب للهلاك .
[ 12 ]
اتّهم [ 1 ] و من كثر كلامه كثر خطؤه و من كثر خطؤه قلّ حياؤه و من قلّ حياؤه قلّ ورعه و من قلّ ورعه مات قلبه و من مات قلبه دخل النّار [ 2 ] . و من نظر في عيوب النّاس فأنكرها ثمّ رضيها لنفسه فذلك الأحمق [ 3 ] بعينه و القناعة مال
[ 1 ] و من دخل مداخل السوء اتهم : السوء : كل قبيح .
و المراد : من صاحب أهله ، و تردد على أماكنهم ، حامت عليه الشبهة .
[ 2 ] من كثر كلامه كثر خطؤه . . . : و هذا أمر طبيعي ، فلو فرضنا نسبة الخطأ 10 فمن تكلم بألف كلمة كان الخطأ في مائة ،
و من تكلم بعشرة آلاف كان الخطأ في ألف . و من كثر خطؤه قلّ حياؤه : الحياء تغيّر و انكسار يعتري الإنسان من تخوّف ما يعاب به و يذم ، و الثرثرة توجب المماراة و الخصام ، و تذهب بالإحتشام . و من قلّ حياؤه قلّ ورعه : الورع : تحرّج و توقي من المحارم . و من قلّ ورعه مات قلبه : تجرأ على المعاصي ، و انهمك في الشهوات . و من مات قلبه دخل النار : بالسبب الأوّل هو كثرة الكلام .
[ 3 ] و من نظر في عيوب الناس فأنكرها ثم رضيها لنفسه ، فذاك الأحمق : قليل العقل . و المراد : كان المفروض أن يتجنب ما كان يعيب به الآخرين ، و بفعله سجل على نفسه خطأ لا يغتفر .
[ 13 ]
لا ينفد [ 1 ] و من أكثر من ذكر الموت رضي من الدّنيا باليسير [ 2 ] و من علم أنّ كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه [ 3 ] . 350 و قال عليه السلام : للظّالم من الرّجال ثلاث علامات : يظلم من فوقه بالمعصية ، و من دونه بالغلبة ، و يظاهر القوم
[ 1 ] القناعة . . . : الرضا باليسير . مال لا ينفذ : لا يفنى .
و المراد : أن الإنفاق منها لا ينقطع ، كلما تعذّر عليه شيء من أمور الدنيا قنع بما دونه و رضي .
[ 2 ] من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير : لانشغاله بما هو أهم من أمر الدنيا .
[ 3 ] من علم أن كلامه من عمله . . . : مؤاخذ به ، و محاسب عليه . قلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه : بما يعود عليه بالنفع .
[ 14 ]
الظّلمة . 351 و قال عليه السلام : عند تناهي الشّدّة تكون الفرجة ، و عند تضايق حلق البلاء يكون الرّخاء [ 2 ] . 352 و قال عليه السلام : لبعض أصحابه : لا
[ 1 ] يظلم من فوقه بالمعصية . . . : لأن معصية من وجبت طاعته ظلم . و من دونه بالغلبة : و هي التعدّي على الناس و أموالهم ، و هضم حقوقهم ، و هو الظلم الذي لا يغفر لإرتباطه بحقوق الآخرين . و يظاهر القوم الظلمة : يعاونهم .
[ 2 ] عند تناهي الشدّة تكون الفرجة . . الخ : يحصل الإنقطاع التام الى اللَّه تعالى ، فعندها يستجاب الدعاء . و يحكى أن بعض الملوك سمع في بعض المشاهد المقدّسة أعمى يدعو في إسترجاع بصره فسأله منذ كم تدعو ؟ قال : كذا سنة .
قال : أنا الملك فلان ، أطوف حول الضريح مرّة واحدة فإن رأيتك أعمى قتلتك فاستغاث الأعمى باللَّه تعالى ، و بعد لحظة عاد بصيرا .
[ 15 ]
تجعلنّ أكثر شغلك بأهلك و ولدك : فإن يكن أهلك و ولدك [ 1 ] أولياء اللَّه فإنّ اللَّه لا يضيع أولياءه ، و إن يكونوا أعداء اللَّه فما همّك و شغلك بأعداء اللَّه ؟ 353 و قال عليه السلام : أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله [ 2 ] . 354 و هنأ بحضرته رجل رجلا بغلام ولد له فقال له : ليهنئك الفارس فقال عليه السلام : لا
[ 1 ] لا تجعل أكثر شغلك بأهلك و ولدك : إن اللَّه سبحانه تعهد لعباده بإيصال أرزاقهم ، و هذا الإهتمام الذي نشاهده من الآباء في الإدخار للأولاد من عمل الشيطان و مسوغاته ،
ليشغله عما أمر به من العمل الصالح .
[ 2 ] أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله :
لا تنه عن خلق و تأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
[ 16 ]
تقل ذلك ، و لكن قل شكرت الواهب ، و بورك لك في الموهوب ، و بلغ أشدّه ، و رزقت برّه [ 1 ] . 355 و بنى رجل من عماله بناء فخما فقال عليه السلام : أطلعت الورق رؤسها ، إنّ البناء يصف لك الغنى [ 2 ] . 356 و قيل له عليه السلام : لو سد على رجل باب بيته و ترك فيه من أين كان يأتيه رزقه ؟
[ 1 ] شكرت الواهب . . . : على مواهبه و إحسانه . و بورك لك في الموهوب : جعله اللَّه تعالى كثير البركة . و بلغ أشدّه : منتهى قوّته . و المراد : مدّ في عمره و لم تخترمه المنيّة . و رزقت برّه : جعله اللَّه سبحانه بارا بك محسنا إليك .
[ 2 ] أطلعت الورق رؤسها . . . : الورق : الفضة . و أطلعت رؤسها : ظهرت . و المراد : كانت مخفيّة عن أعين الناظرين ، فأبرزها البناء . أن البناء يصف الغنى : مظهر من مظاهره .
[ 17 ]
فقال عليه السلام : من حيث يأتيه أجله . [ 1 ] 357 و عزّى قوما عن ميت مات لهم فقال عليه السلام : إنّ هذا الأمر ليس بكم بدأ ، و لا إليكم انتهى و قد كان صاحبكم هذا يسافر فعدّوه في بعض أسفاره ، فإن قدم عليكم و إلاّ قدمتم عليه [ 2 ] . 358 و قال عليه السلام : أيّها النّاس ،
[ 1 ] من حيث يأتيه أجله : فكما لا يشك أحد بأنه لا بد من موته و لو كان متعلقا بالثريا أينَمَا تَكُونُوا يُدرككُم المَوتُ وَ لَو كُنْتُم فيِ بُرُجٍ مُشَيَّدةٍ 4 : 78 . كذلك ينبغي أن يكون مستيقنا بأن يصله ما قسم له من الرزق ، و إن الإهتمام و التفكير في أمر مفروغ منه معيب .
[ 2 ] إن هذا الأمر ليس بكم بدأ و لا إليكم إنتهى . . . : لكم إسوة بمن سبقكم أو تأخّر عنكم . فإن قدم عليكم و إلاّ قدمتم عليه : تتجلى العظمة في هذه الحكمة ، فهي تعزية ، و هي موعظة و تذكير .
[ 18 ]
ليركم اللَّه من النّعمة وجلين كما يراكم من النّقمة فرقين [ 1 ] إنّه من وسّع عليه في ذات يده فلم ير ذلك استدراجا فقد أمن مخوفا ، و من ضيّق عليه في ذات يده فم ير ذلك اختبارا فقد ضيّع مأمولا [ 2 ] . 359 و قال عليه السلام : يا أسرى الرّغبة أقصروا فإنّ المعرّج على الدّنيا لا يروعه منها إلاّ
[ 1 ] ليركم اللَّه من النعم وجلين . . . : خائفين فزعين خوفا من التقصير في إداء حقوقها ، و التبعات التي تستوجبها ، و شدّة الحساب عليها . كما يراكم من النقمة : العقوبة . فرقين :
جزعين قد إشتد خوفكم .
[ 2 ] إن من وسّع عليه في ذات يده فلم ير ذلك إستدراجا . . . :
إستدرجه : خدعه ، و استدراج اللَّه العبد : أنه كلما جدد خطيئة جدد له نعمة ، و أنساه الإستغفار و التوبة . و من ضيّق عليه في ذات يده : إفتقر . فلم ير ذلك إختبارا :
إمتحانا . فقد ضيع مأمولا : أجرا عظيما أعدّ للصابرين .
[ 19 ]
صريف أنياب الحدثان [ 1 ] . أيّها النّاس ، تولّوا من أنفسكم تأديبها ، و اعدلوا بها عن ضراوة عاداتها [ 2 ] . 360 و قال عليه السلام : لا تظّننّ بكلمة
[ 1 ] يا أسرى الرغبة . . . : أيها الراغبون في الدنيا ، المجدّون في تحصيلها . و قصّر عن الشيء كفّ و نزع عنه و هو يقدر عليه . و المراد : إنظروا لأنفسكم ، و قللوا من سعيكم ،
و احذروا مباغتة الموت لكم . فإن المعرّج على الدنيا :
المعوّل عليها ، المائل إليها . لا يروعه : لا يفزعه .
و الصريف : صوت الإنسان عند شدّة الغضب . و حدثان الدهر : نوائبه . شبّه إقبال الموت بأسد مقبل نحو الإنسان تصطك أسنانه لهيجانه .
[ 2 ] أيها الناس تولوا من أنفسكم تأديبها . . . : و تقويمها ،
و الأخذ بها نحو مدارج الكمال و الإستقامة . و أعدلوا بها عن ضراوة عادتها : عدل : مال . و ضرى بالشيء ضراوة :
إعتاده و جرى عليه . و المراد : عودوها على الخير بدلا مما إعتادت عليه من الشر .
[ 20 ]
خرجت من أحد سوءا و أنت تجد لها في الخير محتملا [ 1 ] . 361 و قال عليه السلام : إذا كانت لك إلى اللَّه ، سبحانه ، حاجة فابدأ بمسألة الصّلاة على رسوله ، صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم ، ثمّ سل حاجتك [ 2 ] فإنّ اللَّه أكرم من أن يسأل حاجتين فيقضي إحداهما و يمنع الأخرى . 362 و قال عليه السلام : من ضنّ بعرضه فليدع المراء [ 3 ] .
[ 1 ] لا تظنن بكلمة خرجت من أحد سوءا و أنت تجد لها في الخير محتملا : تعليم للمسلم على الخلق الرفيع ، و أنه ينبغي له أن يحسن الظن بأخيه المسلم ، و يحمل كلامه على محمل حسن ، إستبقاء للمودة ، و إبعادا للنزاع و الخصومة .
[ 2 ] إذا كانت لك الى اللَّه سبحانه حاجة . . الخ : دلنا على أقصر طريق لحصول الحوائج ، مع ما فيه من أجر و ثواب .
[ 3 ] من ظن . . . : بخل به بخلا شديدا . و العرض : ما يمدح و يذم من الإنسان ، سواء كان في نفسه أو سلفه ، أو من يلزمه أمره . فليدع المراء : ليترك الجدل .
[ 21 ]
363 و قال عليه السلام : من الخرق المعاجلة قبل ، الامكان و الأناة بعد الفرصة [ 1 ] . 364 و قال عليه السلام : لا تسأل عمّا لا يكون ففي الّذي قد كان لك شغل [ 2 ] . 365 و قال عليه السلام : الفكر مرآة صافية ، و الاعتبار منذر ناصح ، و كفى أدبا لنفسك
[ 1 ] من الخرق المعاجلة قبل الإمكان . . . : الخرق : الحمق و قلّة العقل . و المراد : من الحماقة طلب الشيء قبل أوانه . و الإناة : التأنّي . بعد الفرصة : بعد التمكن منه .
[ 2 ] لا تسأل عما لا يكون . . . : لا تطلب المستحيلات : كبقاء الشباب ، و عدم الموت . ففي الذي قد كان لك شغل :
يكفيك ما بين يديك من مواهب اللَّه تعالى و نعمه التي لا يمكنك إحصاءها و شكرها .
[ 22 ]
تجنّبك ما كرهته لغيرك [ 1 ] . 366 و قال عليه السلام : العلم مقرون بالعمل : فمن علم عمل ، و العلم يهتف بالعمل : فإن أجابه و إلاّ ارتحل عنه [ 2 ] . 367 و قال عليه السلام : يا أيّها النّاس ،
[ 1 ] الفكر مرآة صافية . . . حث على التفكر فيما يسعده ،
و الحديث النبوي ( فكرة ساعة خير من عبادة سنة ) و الإعتبار منذر ناصح : الإتعاظ بما تراه و تسمعه أحسن مخوّف لك و زاجر عن القبيح . و كفى أدبا لنفسك تجنبك ما كرهته لغيرك : فكل خلق و عمل رأيته فأبغضته فاحذر من فعله .
[ 2 ] العلم مقرون بالعمل . . . : مرتبط به ، ملازم له ، لا ينفك عنه . فمن علم عمل : أداه علمه للعمل ، لأنه ثمرته و غايته ، و علم بلا عمل كشجر بلا ثمر . و العلم يهتف بالعمل : يناديه : فإن أجابه : بالعمل . و إلاّ إرتحل :
إنمحت من الذاكرة صورته ، و زالت آثاره و عدم ثوابه .
[ 23 ]
متاع الدّنيا حطام موبىء فتجنّبوا مرعاه [ 1 ] قلعتها أحظى من طمأنينتها و بلغتها أزكى من ثروتها [ 2 ] . حكم على مكثر بها بالفاقة ، و أعين من غني عنها بالرّاحة [ 3 ] . و من راقه زبرجها
[ 1 ] متاع الدنيا . . . : أموالها و زينتها و زخارفها . حطام هو من كل شيء : ما تكسّر ، و من النبات ما يبس . موبىء : يؤدي الى الوباء ، و هو كل مرض فاش عام . فتجنبوا مرعاه :
رعت الماشية النبات : أكلته . و المراد : الحذر ثم الحذر من الدنيا ، فأنها تؤدي بكم الى الهلاك .
[ 2 ] قلعتها أحظى من طمأنينتها . . . : القلعة : المال العارية .
و أحظى : أسعد . و اطمأن بالمكان : أقام به و اتخذه وطنا .
و المراد : المفروض بالمسلم أن يعتبر الدنيا دار ممر لا مقر ،
و أن يتصور فراقها و إنقطاعها ، فإن ذلك خير له من السكون إليها . و بلغتها : ما يكفي لسد الحاجة و لا يفضل عنها .
و أزكى من ثروتها : أنمى . و المراد : الإقلال منها أفضل بكثير من التمكن منها .
[ 3 ] حكم على مكثريها بالفاقة . . . : بالفقر ، فهو لحرصه و إنهماكه أسوأ حالا من الفقير ، و أيضا : فوراؤه الفقر الأكبر في القيامة . و أعين من غني عنها بالراحة : له عون إلهي يتجلى في القناعة ، و راحة البال ، و قلّة التفكير .
[ 24 ]
أعقبت ناظريه كمها ، و من استشعر الشّغف بها ملأت ضميره أشجانا . لهنّ رقص على سويداء قلبه همّ يشغله ، و غمّ يحزنه ، كذلك حتّى يؤخذ بكظمه فيلقى بالقضاء منقطعا أبهراه ، هيّنا على اللَّه فناؤه ، و على الإخوان القاؤه [ 1 ] و إنّما
[ 1 ] و من راقه زبرجها أعقبت ناظريه كمها . . . : الزبرج :
الحلية و الزينة . و الكمه : العمى . و المراد : من أعجب بها ، و اشتدّ في طلبها عمي عن طريق الهدى و الصلاح .
و من إستشعر الشغف بها ملأت ضميره أشجانا : الشعار :
الثوب الذي يلي الجسد . و شغف بها : أحبها و أولع بها .
و الشجى : الهم و الحزن : و المراد : ملازمة حبّها يعقب الهم و الحزن على ما لم يصل إليه منها ، كما أن حزنه في الآخرة أشد . لهن رقص على سويداء قلبه : الرقص : الغليان و الإضطراب . و سويداء القلب : حبته . و المراد : صار قلبه مسرحا للهموم و الأحزان . همّ يشغلّه ، و غمّ يحزنه : هموم و أحزان لا ينفك منها . كذلك حتى يؤخذ بكظمه : مخرج نفسه . و المراد : هو هكذا حتى النفس الأخير لا يجد الى الراحة سبيلا . فيلقى بالقضاء : القبر . منقطعا أبهراه :
الشريان الرئيسي الذي يحمل الدم الى القلب ، : و المراد بإنقطاعه موته . هيّنا على اللَّه فناؤه : إبادته ، و إنهاء وجوده .
و على الأخوان إلقاؤه : مواراته في قبره .
[ 25 ]
ينظر المؤمن إلى الدّنيا بعين الاعتبار و يقتات منها ببطن الاضطرار ، و يسمع فيها بأذن المقت و الابغاض [ 1 ] إن قيل أثرى قيل أكدى و إن فرح له بالبقاء حزن له بالفناء هذا و لم يأتهم يوم فيه يبلسون [ 2 ] .
[ 1 ] و إنما ينظر المؤمن الى الدنيا بعين الإعتبار . . . : متعظا بما شاهده من تقلباتها . و يقتات منها ببطن الإضطرار : مكتفيا بالحد الأدنى منها . و يسمع منها بإذن المقت و الإبغاض :
المقت : البغض . و المراد : يسمع المواعظ و الحكم التي تزيده بغضا لها ، و بعدا عنها .
[ 2 ] إن قيل أثرى قيل أكدى . . . : و من مساوئها و ما أكثرها سرعة زوالها و فنائها ، فبينا الحديث عن ثرائه ، إذ ينقلب فجأة الى فقره و حاجته . و إن فرح له بالبقاء ، حزن له بالفناء : كذلك ينقلب الحديث عن حياته ، الى الأخبار عن وفاته . هذا و لم يأتهم يوم فيه يبلسون : آيسون من النجاة و الرحمة حَتَّى إذَا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذنَاهم بَغتَةً فإذَا هُم مُبلِسُونَ 6 : 44 .
[ 26 ]
368 و قال عليه السلام : إنّ اللَّه سبحانه وضع الثّواب على طاعته ، و العقاب على معصيته ذيادة لعباده عن نقمته و حياشة لهم إلى جنّته [ 1 ] . 369 و قال عليه السلام : يأتي على النّاس زمان لا يبقى فيهم من القرآن إلاّ رسمه
[ 1 ] وضع الثواب على طاعته . . . : محفّزا لهم و تشجيعا .
و العقاب على معصيته : ردعا لهم . و ذيادة : دفعا . و نقمته :
عقابه . و حياشة لهم إلى جنته : حشت الصيد : جئته من حواليه لتصرفه الى الحبالة . و المراد : سوقا الى جنته .
[ 27 ]
و من الإسلام إلاّ اسمه [ 1 ] ، و مساجدهم يؤمئذ عامرة من البنى ، خراب من الهدى ، سكّانها و عمّارها شرّ أهل الأرض : منهم تخرج الفتنة ، و إليهم تأوي الخطيئة ، يردّون من شذّ عنها فيها ،
و يسوقون من تأخّر عنها إليها [ 2 ] ، يقول اللَّه سبحانه :
[ 1 ] يأتي على الناس زمان لا يبقى من القرآن إلاّ رسمه . . . :
صورته المرتسمة بالحروف و الكلمات . و المراد : يترك الناس العمل به ، و الأخذ بأحكامه . و من الإسلام إلاّ إسمه :
المسلم يحمل هويّة تشير الى أنه مسلم ، أمّا أعماله فبعيدة كل البعد عن تعاليم الإسلام .
[ 2 ] مساجدهم يومئذ عامرة من البّنى . . . : في غاية الروعة و الجمال . خراب من الهدى : أهلها و روادها في بعد عن الصلاح . سكانها و عمارها شر أهل الأرض : المراد : بهم علماء السوء لأنهم مع علمهم عصاة يرتكبون المحرمات .
منهم تخرج الفتنة : مصدر الضلال . و إليهم تعود الخطيئة :
يحملون أوزارهم و أوزار من يضلونهم . يردّون من شذّ عنها فيها : شذّ إنفرد عن الجماعة . و المراد : فهم من أجل تكثير جماعاتهم يسعون في إضلال الآخرين . و يسوقون من تأخّر عنها إليها : يحثّون الآخرين على أتباعهم .
[ 28 ]
فبي حلفت لأبعثنّ على أولئك فتنة تترك الحليم فيها حيران [ 1 ] و قد فعل ، و نحن نستقيل اللَّه عثرة الغفلة [ 2 ] . 370 و روي أنه عليه السلام قلما اعتدل به المنبر إلا قال أمام الخطبة : أيّها النّاس ، اتّقوا اللَّه فما خلق امرؤ عبثا فيلهو و لا ترك سدى فيلغو [ 3 ]
[ 1 ] لأبعثن على أولئك فتنة . . . : بلاء و عذابا . أترك الحليم :
العاقل . حيران : مترددا مضطربا ، فهو لهول المصيبة ،
و شدّة النازلة لا يهتدي للخروج منها .
[ 2 ] و نحن نستقيل اللَّه . . . : تطلب منه أن يصفح عنا و يتجاوز .
و العثرة : الخطيئة . و غفل الشيء : تركه إهمالا من غير نسيان .
[ 3 ] أيها الناس إتقوا اللَّه . . . : إن هذه اللفظة وردت في القرآن الكريم ، و أحاديث الرسول الأعظم صلى اللَّه عليه و آله ،
و أهل بيته عليهم السلام آلاف المرات ، إهتماما بشأنها ،
و تعظيما لأمرها ، و أنها الباب المفضي الى السعادة الأبدية ،
فما خلق إمرؤ عبثا فيلهوا : العبث : العمل لا حكمة فيه و لا فائدة أَفَحَسبتُم أَنَّمَا خَلَقنَاكُم عَبَثاً وَ أَنَّكُم إِلَينَا لاَ تُرجَعُونَ 23 : 115 . و لا ترك سدى : مهملا ، يقال : ذهب جهده سدى : ضاع . و اللغو : ما لا يعتد به من كلام و غيره ، و لا يحصل منه على فائدة و لا نفع .
[ 29 ]
و ما دنياه الّتي تحسّنت له بخلف من الآخرة الّتي قبّحها سوء النّظر عنده و ما المغرور الّذي ظفر من الدّنيا بأعلى همّته كالآخر الّذي ظفر من الآخرة بأدنى سهمته [ 1 ] .
[ 1 ] و ما دنياه التي تحسنت له بخلف من الآخرة . . . : الخلف :
العوض و البدل . و المراد : ليست الدنيا بعوض عن الآخرة ،
و لو لم يكن من الفوارق إلاّ أنها فانية ، و الآخرة باقية لكفى .
التي قبحها سوء النظر عنده : القبح : ضد الحسن .
و المراد : نظر إليها بعين مريضة . و ما المغرور الذي ظفر من الدنيا بأعلى همته : ما المخدوع الذي حصّل على الدنيا بأقصى أمانيه . كالآخر الذي ظفر من الآخرة بأدنى سهمته :
نصيبه . و المراد : لا تساوي بين الأمرين ، فمن ملك الدنيا بحذافيرها لا يساوي من حصّل على الآخرة على اليسير الذي ينجيه من شدائدها .
[ 30 ]
371 و قال عليه السلام : لا شرف أعلى من الإسلام و لا عزّ أعزّ من التّقوى و لا معقل أحسن من الورع و لا شفيع أنجح من التّوبة و لا كنز أغنى من القناعة و لا مال أذهب للفاقة من الرّضا بالقوت [ 1 ] و من اقتصر على بلغة الكفاف
[ 1 ] لا شرف أعلى من الإسلام . . . : لأن به ينال المسلم العلو و المجد في الدنيا و الآخرة . و لا عزّ أعز من التقوى : عزّ :
قوي و سلم . و التقوى : مراقبة اللَّه تعالى عند كل عمل .
و المراد أن المسلم ينال بتقوى اللَّه سبحانه عزّ الدارين . و لا معقل أحصن من الورع : المعقل : الحصن . و الورع :
التحرج و التوقي عن المحارم . و المراد : الورع أفضل شيء يحتمي به المسلم . و لا شفيع أنجح من التوبة : الشفاعة : هي السؤال في التجاوز عن الذنوب و الجرائم . و المراد : أن التوبة أحسن سبب و وسيلة للفوز بمرضاة اللَّه تعالى . و لا كنز أغنى من القناعة : الكنز : المال المدخر . و القناعة : الرضا بالمقسوم و المراد : ان صاحب الكنز في نصب و جهد ليزيد في كنزه ، و صاحب القناعة مسرور فرح بما وصل إليه من الرزق . و لا مال أذهب للفاقة من الرضا بالقوت : الفاقة : الفقر . و المراد : ان الشعور بالرضا باليسير ، و عدم مد العين الى ما عند الآخرين ثراء عريض لا يعرف حقيقته إلاّ من جرّبه .
[ 31 ]
فقد انتظم الرّاحة و تبوّأ خفض الدّعة [ 1 ] . و الرّغبة مفتاح النّصب و مطيّة التّعب [ 2 ] و الحرص و الكبر و الحسد دواع إلى التّقحّم في الذّنوب و الشّرّ
[ 1 ] و من إقتصر على بلغة الكفاف فقد إنتظم الراحة . . . :
البلغة : ما يكفي لسد الحاجة و لا يفضل عنها . و الكفاف من الرزق : ما كان مقدار الحاجة من غير زيادة و لا نقصان .
و تبوأ خفض الدعة : تبوأ المكان : نزله و أقام به . و خفض الدعة : سعة العيش و تيّسره .
[ 2 ] الرغبة مفتاح النصب . . . : النصب : التعب . و الرغبة في الشيء موجبة للتعب لحصوله ، و السعي لنيله . و مطية التعب : المطية : الدابة التي تمتطى . و وصفها بالتعب لأن صاحبها قد أجهدها ، و أجهد نفسه معها .
[ 32 ]
جامع مساوي العيوب [ 1 ] . 372 و قال عليه السلام : لجابر بن عبد اللَّه الأنصاري [ 2 ] : يا جابر ، قوام الدّين و الدنيا بأربعة : عالم مستعمل علمه ، و جاهل لا يستنكف أن يتعلّم ، و جواد لا يبخل بمعروفه ،
و فقير لا يبيع آخرته بدنياه [ 3 ] فإذا ضيّع العالم علمه
[ 1 ] الحرص و الكبر و الحسد دواع الى التقحم في الذنوب . . . :
إقتحم الأمر : رمى بنفسه فيه بغير رويّة . و المراد : ان هذه الصفات الرذيلة أبواب و منافذ تفضي بالإنسان الى الجرائم .
و الشر جامع مساوىء العيوب : الشر : السوء و الفساد و الظلم . و المساوىء : المعائب و النقائص . و العيوب جمع عيب : الوصمة .
[ 2 ] جابر : من أجلاء الصحابة و علمائهم ، و من المنقطعين الى أهل البيت عليهم السلام .
[ 3 ] قوام الدنيا بأربعة . . . : هم عمادها ، و بهم تنتظم أمورها .
عالم مستعمل علمه : عامل به . و جاهل لا يستنكف أن يتعلم : لا يأنف ، و لا يمتنع من التعلم . و جواد لا يبخل بمعروفه : يساعد إخوانه الضعفاء . و فقير لا يبيع آخرته بدنياه : يصبر و لا يطلب المال من وجوه مشبوهة رغبة في الدنيا ، فيخسر الآخرة .
[ 33 ]
استنكف الجاهل أن يتعلّم [ 1 ] و إذا بخل الغنيّ بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه .
يا جابر ، من كثرت نعم اللَّه عليه كثرت حوائج النّاس إليه فمن قام للَّه فيها بما يجب فيها عرّضها للدّوام و البقاء ، و من لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزّوال و الفناء [ 2 ] .
[ 1 ] فإذا ضيّع العالم علمه . . . : ترك نهج الإستقامة ، و انهمك في طلب الدنيا ، أو سالم الظالمين طمعا في دنياهم .
إستنكف الجاهل أن يتعلم : لأنه يرى من يقتدي بقوله و فعله مضيّعا ، فيزهده ذلك في التعلّم ، و يستهين بالعلم و أهله .
[ 2 ] من كثرت نعم اللَّه عليه كثرت حوائج الناس إليه . . . :
إفتقارهم لبرّه و معروفه . فمن قام فيها بما يجب عرّضها :
صارت عرضة و خليقة بأن تدوم . للدوام و البقاء : لأنه بالشكر تدوم النعم . و من لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزوال و الفناء : معرّضة للذهاب .
[ 34 ]
373 و روى ابن جرير الطبري في تاريخه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه و كان ممن خرج لقتال الحجاج مع ابن الأشعث أنه قال فيما كان يحض [ 1 ] به الناس على الجهاد : إني سمعت عليا عليه السلام يقول يوم لقينا أهل الشام :
أيّها المؤمنون إنّه من رأى عدوانا يعمل به و منكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم و برىء و من أنكره بلسانه فقد أجر و هو أفضل من صاحبه و من أنكره بالسّيف لتكون كلمة اللَّه هي العليا و كلمة الظّالمين هي السّفلى فذلك الّذي أصاب سبيل الهدى ، و قام على الطّريق ، و نوّر في قلبه
[ 1 ] يحض : يحث عليه بقوّة .
[ 35 ]
اليقين [ 1 ] . 374 و في كلام آخر له يجري هذا المجرى : فمنهم المنكر للمنكر بيده و لسانه و قلبه
[ 1 ] عدوانا يعمل به . . . : ظلما و تجاوزا للحد . و منكرا : كل ما قبّحه الشرع و حرّمه : فأنكره بقلبه : ساءه ذلك و تألم منه .
فقد سلم و برىء : من المؤاخذة يوم القيامة . و هو أقل ما يجب على المسلم ، و فائدة ذلك : أن يكون في عداد عمال الخير ، علما ان الإنكار القلبي حصانة له تمنعه من معاونة الظالمين . و من أنكره بلسانه : ردعهم و نهاهم . فقد أجر :
حصّل الثواب . و من أنكره بالسيف : جاهد الظالمين .
لتكون كلمة اللَّه هي العليا : أرادته . و كلمة الظالمين هي السفلى : نازلة دنيّة وَ جَعَلَ كَلمةَ الَّذِينَ كَفروا السُّفلى وَ كَلمةُ اللَّهِ هِيَ العُليَا 9 : 40 . فذلك الذي أصاب الهدى : مشى في نهج الإستقامة . و قام على الطريق :
الموصل الى مرضاة اللَّه تعالى . و نوّر في قلبه : أشرقت عليه أنوار الهداية و القبول . و اليقين : العلم و زوال الشك .
[ 36 ]
فذلك المستكمل لخصال الخير ، و منهم المنكر بلسانه و قلبه و التّارك بيده فذلك متمسّك بخصلتين من خصال الخير و مضيّع خصلة و منهم المنكر بقلبه و التّارك بيده و لسانه فذلك الّذي ضيّع أشرف الخصلتين من الثّلاث و تمسّك بواحدة ، و منهم تارك لانكار المنكر بلسانه و قلبه و يده فذلك ميّت الأحياء [ 1 ] . و ما أعمال البرّ كلّها و الجهاد في سبيل اللَّه عند الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر إلاّ كنفثة في بحر لجّيّ [ 2 ] و أنّ الأمر بالمعروف
[ 1 ] فذلك ميّت الأحياء : فهو بعد أن تجرّد عن الفضائل صار بمنزلة الموتى في عدم النفع ، و دفع الضر .
[ 2 ] و ما أعمال البر كلها . . الخ : نفث الشيء من فيه : رمى به . و بحر لجى : متلاطم الموج . و المراد : إن جميع أعمال البر بالقياس إلى الأمر بالمعروف ، و النهي عن المنكر كقطرات ماء قليلة الى البحر المحيط . و هذا التفضيل العظيم للأمر بالمعروف ، و النهي عن المنكر ، و التشريف لأهله لكونه الوسيلة للإصلاح . و تهذيب النفوس ، و سعادة المجتمع .
[ 37 ]
و النّهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل ، و لا ينقصان من رزق ، و أفضل من ذلك كلّه كلمة عدل عند إمام جائر [ 1 ] . 375 و عن أبي جحيفة قال : سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول : أوّل ما تغلبون عليه من
[ 1 ] و أن الأمر بالمعروف . . . : بجميع ما أمر به اللَّه تعالى .
و النهي عن المنكر : عن كل ما نهى اللَّه تعالى عنه . لا يقرّبان من أجل : وفاة . و لا ينقصان من رزق : مقسوم للإنسان . و المراد : نقض ما يتصوره البعض من أن الأمر بالمعروف ، و النهي عن المنكر يسببان له موتا أو فقرا ،
و التاريخ أكبر شاهد ، فكم من مسلم جريء كلّم العتاة الظالمين بشدّة فنجا من شرّهم ، و كم من قابع في بيته أخذته سيوفهم . كلمة عدل : دعوة الى الخير و الإستقامة . عند إمام جائر : حاكم ظالم .
[ 38 ]
الجهاد الجهاد بأيديكم ثمّ بألسنتكم ثمّ بقلوبكم [ 1 ] ،
فمن لم يعرف بقلبه معروفا و لم ينكر منكرا قلب فجعل أعلاه أسفله و أسفله أعلاه [ 2 ] . 376 و قال عليه السلام : إنّ الحقّ ثقيل مريء ، و إنّ الباطل خفيف وبيء [ 3 ] .
[ 1 ] أوّل ما تغلبون عليه من الجهاد بأيديكم . . . : تتركون فريضة جهاد الكافرين التي كان يتسابق إليها السلف الصالح . ثم بألسنتكم : و ذلك بترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر .
ثم بقلوبكم : فبعد أن قعدتم عن الجهاد ، و تركتم الأمر بالمعروف ، و النهي عن المنكر ، وعّم الظلم و الفساد ،
و تدرجتم مع المجتمع في ذلك ، فلم يبق مجال للإنكار القلبي .
[ 2 ] فمن لم يعرف بقلبه معروفا ، و لم ينكر منكرا . . . : إذا تجرّد المسلم عن الإنكار القلبي غير متألم و لا متأثر من إستعلاء قوى الشر و الفساد ، فمعناه التحوّل الجذري في حياته . قلب فجعله أعلاه أسفله ، و أسفله أعلاه : إنعكست المفاهيم عنده بعد أن بلغ الغاية في الضلال .
[ 3 ] أن الحق ثقيل مريء . . . : ثقل الأمر : شق . و طعام مريء : هنيء حميد العاقبة خفيف و بيء : خفّ : قلّ ثقله .
و مرعى و بيء : يأتي بالوباء . و المراد : ان الحق و ان ثقل على الإنسان في الدنيا إلاّ أنه محمود العاقبة في الآخرة ، و ان الباطل و ان ارتاحت له النفوس في الدنيا إلاّ انه يعقب الندم في الآخرة .
[ 39 ]
377 و قال عليه السلام : لا تأمننّ على خير هذه الأمّة عذاب اللَّه لقوله تعالى : فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ و لا تيأسنّ لشرّ هذه الأمّة من روح اللَّه [ 1 ] لقوله تعالى : إنّه
[ 1 ] و لا تأمنن على خير هذه الأمة عذاب اللَّه . . . : لا تجزم بالنجاة و إن أتيت بالصالحات جميعها . فلا يأمن مكر اللَّه إلاّ لقوم الخاسرون : لا يأمن عقابه إلاّ الهالكون .
و المراد : الخوف دائما من عقابه ، و السعي إلى مرضاته .
و لا تيأسن لشر هذه الأمة من روح اللَّه : لا تقنط و إن أتيت بجميع الذنوب من رحمة اللَّه و غفرانه ، لأن اليأس أعظم من الذنوب قُل يَا عِبَادِي الَّذينَ أسْرَفُوا عَلَى أنفُسهِم لاَ تَقنَطُوا مِن رَحمةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ 39 : 53 . و المراد : المفروض بالمسلم أن يكون دائما بين اليأس و الرجاء .
[ 40 ]
لاَ يَيْأَسُ مِنْ رُوح اللَّهِ إلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ . 378 و قال عليه السلام : البخل جامع لمساوي العيوب ، و هو زمام يقاد به إلى كلّ سوء [ 1 ] . 379 و قال عليه السلام : الرّزق رزقان :
رزق تطلبه ، و رزق يطلبك فإن لم تأته أتاك [ 2 ] ،
فلا تحمل همّ سنتك على همّ يومك كفاك كلّ يوم ما فيه [ 3 ] ، فإن تكن السّنة من عمرك فإنّ
[ 1 ] البخل . . . : الشح بالشيء . جامع لمساوى العيوب :
تندرج تحته النقائص : كقطع الرحم ، و عدم إخراج الحقوق الشرعية ، و التقتير على العيال الخ . و هو زمام يقاد به الى كل سوء : الباب المفضي الى جميع الرذائل .
[ 2 ] رزق تطلبه . . . : تسعى و تجد في طلبه . و رزق يطلبك ،
فإن لم تأته أتاك : من دون جد و جهد ، و قد لا يخطر ببالك أن تناله .
فلا تحمل هم سنتك على همّ يومك . . . : لا تقلق و تحزن و تفكّر لما يلزمك لنفقة سنتك . كفاك كل يوم ما فيه : مما قسم لك .
[ 41 ]
اللَّه تعالى سيؤتيك في كلّ غد جديد ما قسم لك ،
و إن لم تكن السّنة من عمرك فما تصنع بالهمّ لما ليس لك [ 1 ] ، و لن يسبقك إلى رزقك طالب ، و لن يغلبك عليه غالب ، و لن يبطىء عنك ما قد قدّر لك [ 2 ] .
[ 1 ] فإن تكن السنة من عمرك فإن اللَّه تعالى سيؤتيك في كل غد جديد ما قسم لك : ما قسم لك من الرزق . و إن لم تكن من عمرك فما تصنع بالهم لما ليس لك : و لا يلزمك . و المراد :
أن التفكير و الإنشغال بهذا و نحوه من سبل الشيطان و مكائده ،
ليصرفه عما يلزم و يجب عليه من تفكير و عمل يسعد به في الآخرة .
[ 2 ] و لن يسبقك الى رزقك طالب . . . : لا يستطيع أن يأخذ مما هو مقسوم لك من الرزق . و لن يغلبك عليه غالب : و لا تتمكن قوّة مهما عظمت أن تقهرك و تغلبك عليه . و لن يبطىء عنك ما قدّر لك : يصلك في الوقت الذي قدّر فيه و صوله إليك دون تأخير .
[ 42 ]
قال الرضي : و قد مضى هذا الكلام فيما تقدم من هذا الباب ، إلاّ أنه ههنا أوضح و أشرح ،
فلذلك كررناه على القاعدة المقررة في أول الكتاب . 380 و قال عليه السلام : ربّ مستقبل يوما ليس بمستدبره ، و مغبوط في أوّل ليله قامت بواكيه في آخره [ 1 ] . 381 و قال عليه السلام : الكلام في وثاقك ما لم تتكلّم به فإذا تكلّمت به صرت في وثاقه ،
[ 1 ] ربّ مستقبل يوما ليس بمستدبره . . . : إستدبره : جعله خلفه و المراد : لا يستقبل يوما جديدا ، بل توافيه المنية في يومه . و مغبوط في أوّل ليلة : يتمنى الناس مثل نعمته .
قامت بواكيه في آخره : مات قبل أن يصبح .
[ 43 ]
فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك و ورقك ، فربّ كلمة سلبت نعمة [ 1 ] و جلبت نقمة . 382 و قال عليه السلام : لا تقل ما لا تعلم بل لا تقل كلّ ما تعلم فإنّ اللَّه فرض على جوارحك كلّها فرائض يحتج بها عليك يوم القيامة [ 2 ] .
[ 1 ] الكلام في وثاقك ما لم يتكلم به : فإذا تكلمت به صرت في وثاقه . . . : الوثاق : ما يشد به كالحبل و غيره . و المراد :
إنك قبل الكلام المسيطر ، إن شئت تكلمت ، و إن شئت أمسكت ، أمّا بعد الكلام فقد ذهبت منك السيطرة ، و صرت مأخوذا بما تكلمت به . فاخزن لسانك كما تخزن ذهبك :
حفاظا على دينك و دنياك . فرب كلمة سلبت نعمة :
أذهبتها . و جلبت نقمة : عقوبة .
[ 2 ] لا تقل ما لا تعلم . . . : لأنه كذب ، و إن كان في فقه فهو كذب على اللَّه تعالى . بل لا تقل كل ما تعلم : لأنه يستوجب الهوان ، و ربما جلب للإنسان المضرّة ، أو يحصل به ضرر للآخرين . فإن اللَّه فرض على جوارحك فرائض يحتج بها عليك يوم القيامة : و أعظم ما فرضه على اللسان السكوت ، و حجبه بالأسنان و الشفتين ليقل كلامه .
[ 44 ]
383 و قال عليه السلام : احذر أن يراك اللَّه عند معصيته و يفقدك عند طاعته فتكون من الخاسرين [ 1 ] ، و إذا قويت فاقو على طاعة اللَّه ،
و إذا ضعفت فاضعف عن معصية اللَّه [ 2 ] .
[ 1 ] إحذر أن يراك اللَّه عند معصيته . . . : لأنك ربما استوجبت بذلك غضبه عليك و قوله كما في الحديث : ( و عزتي و جلالي لا أغفر لك بعد ذلك أبدا ) و يفقدك عند طاعته : ربما كانت نجاتك بها ، و أيضا : المفروض بالمسلم أن يحرص على الاتيان بجميع الطاعات لأن الدنيا مزرعة الآخرة .
فتكون من الخاسرين : المغبونين ، الذين لم يستغلوا الدنيا كما يجب أن تستغل .
[ 2 ] فإذا قويت فاقو على طاعة اللَّه . . . : يجب أن تصرف الطاقات ، و تكرّس الجهود للعمل الصالح لأنه الذخيرة النافعة : فإذا ضعفت فاضعف عن معصية اللَّه : الضعف خلاف القوّة ، و المفروض بالمسلم أن يبدو أمام المعاصي ضعيفا ، فاقدا للقدرة ، فيكون ذلك من أسباب الترك لها .
ورد في سيرة بلال رضوان اللَّه عليه : كان بلال اذا إشتد عليه العذاب قال : أحد أحد ، فيقولون له : قل كما نقول .
فيقول : إن لساني لا ينطق به و لا يحسنه .
[ 45 ]
384 و قال عليه السلام : الرّكون إلى الدّنيا مع ما تعاين منها جهل ، و التّقصير في حسن العمل إذا وثقت بالثّواب عليه غبن [ 1 ] ، و الطّمأنينة إلى كلّ أحد قبل الاختبار عجز [ 2 ] .
[ 1 ] الركون الى الدنيا . . . : الإعتماد عليها . مع ما تعاين منها جهل : جفاء و سفه . و التقصير في حسن العمل إذا وثقت بالثواب عليه غبن : غبنه في البيع غبنا : غلبه و نقصه .
و المراد : التسامح في العمل الصالح مع ما ورد في القرآن الكريم ، و حديث الرسول الأعظم صلى اللَّه عليه و آله ، و أهل بيته عليهم السلام من الثواب العظيم على العمل القليل ،
مما يأسف عليه الإنسان يوم القيامة .
[ 2 ] الطمأنينة الى كل أحد قبل الإختبار عجز : يجب على الإنسان أن يلتزم في علاقاته و معاملاته جانب الحذر و اليقظة ،
و لا يسارع بالثقة إحتياطا لأمره .
[ 46 ]
385 و قال عليه السلام : من هوان الدّنيا على اللَّه أنّه لا يعصى إلاّ فيها ، و لا ينال ما عنده إلاّ بتركها [ 1 ] . 386 و قال عليه السلام : من طلب شيئا ناله أو بعضه [ 2 ] . 387 و قال عليه السلام : ما خير بخير بعده النّار ، و ما شرّ بشرّ بعده الجنّة ، و كلّ نعيم دون
[ 1 ] من هوان الدنيا على اللَّه أن لا يعصى إلاّ فيها . . . : هوان الدنيا : ذلها و حقارتها ، و في الحديث : ( لو كانت الدنيا تعدل عند اللَّه جناح بعوضة لما سقى منها كافرا شربة ماء ) و لا ينال ما عنده : من الجنان . إلاّ بتركها : بالاعراض عنها .
[ 2 ] من طلب شيئا ناله أو بعضه : هذا حثّ على السعي ، و بذل المجهود في حصول الهدف ، فكل من سار على الدرب وصل .
[ 47 ]
الجنّة فهو محقور ، و كلّ بلاء دون النّار عافية [ 1 ] . 388 و قال عليه السلام : ألا و إنّ من البلاء الفاقة و أشدّ من مرض البدن مرض القلب [ 2 ] ألا و إنّ من النّعم سعة المال .
[ 1 ] ما خير بخير بعده النار . . . : الخير : المال الكثير و ما يحققه الإنسان من لذة أو نفع أو سعادة . و المراد : ان هذه الأشياء و غيرها من وسائل السعادة إذا أدّت بالإنسان الى النار كانت عليه أعظم بلاء . و ما شرّ بشرّ بعده الجنة : الشر : نقيض الخير و المراد : كل شيء سبب للإنسان تعبا و أذى ، و كانت عاقبته الجنة ، فهو أعظم سعادة . و كل نعيم دون الجنة محقور : الحقير : الصغير الذليل . و المراد : أعظم نعيم و سعادة في الدنيا لا شيء بالنسبة الى الجنة ، و كل بلاء دون النار عافية : و مهما يصيب الإنسان من مكروه و شدّة و خوف و أذى بالنسبة الى النار فهو لا شيء و بنسبة قطرة ماء الى البحر المحيط .
[ 2 ] ألا و أن من البلاء الفاقة . . . : الفقر . و أشد من الفاقة مرض البدن : فهو يفوق الفقر بمراتب . و أشد من مرض البدن مرض القلب : المراد به الشك و النفاق ، و إليه تشير الآية : في قُلُوبِهِم مَرضُ فَزَادَهُمُ اللَّه مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذَابُ أَليمُ بِما كَانُوا يَكذِبُونَ 2 : 10 .
[ 48 ]
و أفضل من سعة المال صحّة البدن و أفضل من صحّة البدن تقوى القلب [ 1 ] . 389 و قال عليه السلام : من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه . و في رواية أخرى : من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب آبائه . 390 و قال عليه السلام : للمؤمن ثلاث ساعات : فساعة يناجي فيها ربّه و ساعة يرمّ معاشه و ساعة يخلّي بين نفسه و بين لذّتها فيما
[ 1 ] ألا و أن من النعيم سعة المال . . . : فهو زينة الحياة الدنيا .
و أفضل من سعة المال صحة البدن : لأنها من أعظم مواهب اللَّه تعالى على عباده و ان جهلت . و أفضل من صحة البدن تقوى القلب : لأن بها تنال الجنة .
[ 49 ]
يحلّ و يجمل [ 1 ] و ليس للعاقل أن يكون شاخصا إلاّ في ثلاث : مرمّة لمعاش ، أو خطوة في معاد أو لذّة في غير محرّم [ 2 ] . 391 و قال عليه السلام : ازهد في الدّنيا يبصّرك اللَّه عوراتها ، و لا تغفل فلست بمغفول عنك [ 3 ]
[ 1 ] يناجي فيها ربّه . . . : يتوجه إليه بالعبادة و الدعاء و تلاوة القرآن الكريم . يرّم معاشه : رممت الشيء : أصلحته .
و المراد : العمل لكسب القوت . يخلّي بين نفسه و بين لذاتها فيما يحل و يجمل : من مأكول و مشروب ، و الأظهر أن المراد : اللقاء مع الزوجة .
[ 2 ] و ليس لعاقل أن يكون شاخصا إلاّ في ثلاث : شخص :
خرج . و خطوة في معاد : بما يعود عليه بالنفع في معاده يوم القيامة . أو لذّة في غير محرم : مع أهله .
[ 3 ] أزهد في الدنيا . . . : الزهد : الرضا باليسير مما يتيقن حله ، و ترك الزائد على ذلك للَّه . يبصرك اللَّه عوراتها :
عيوبها . و المراد : انك في حال التعلق بها ، و الرغبة فيها ،
و الاقبال عليها ، لا تبصر شيئا من عيوبها .
و عين الرضا عن كلّ عيب كليلة
و لكن عين السخط تبدي المساويا
و بعد التخلّي عنها تنظر إليها بعين الحقيقة . و لا تغفل : تسهو و تترك التحفظ و اليقظة ، و تتسامح في العمل بما يسعدك .
فلست بمغفول عنك : أن حركاتك و سكناتك مسجّلة عليك .
و أيضا : الموت يمشي نحوك بسرعة .
[ 50 ]
392 و قال عليه السلام : تكلّموا تعرفوا فإنّ المرء مخبوء تحت لسانه [ 1 ] . 393 و قال عليه السلام : خذ من الدّنيا ما أتاك ، و تولّ عمّا تولّى عنك فإن أنت لم تفعل فأجمل في الطّلب [ 2 ] .
[ 1 ] تكلموا تعرفوا . . . : تظهر مقدرتكم و قابليتكم العلمية . فإن المرء مخبوء تحت لسانه : مستور يكشفه الكلام .
[ 2 ] خذ من الدنيا ما أتاك . . . : ما وصلك من دون معاناة و بذل مجهود . و تول عما تولّى عنك : أعرض عما تباعد منها عنك ، و عسر عليك حصوله . فإن أنت لم تفعل فاجمل في الطلب : لا تتوجّه بكلك الى الدنيا .
[ 51 ]
394 و قال عليه السلام : ربّ قول أنفذ من صول [ 1 ] . 395 و قال عليه السلام : كلّ مقتصر عليه كاف [ 2 ] . 396 و قال عليه السلام : المنيّة و لا الدّنيّة و التّقلّل و لا التّوسل و من لم يعط قاعدا لم يعط
[ 1 ] ربّ قول أنفذ من صول : نفذ الأمر منه : خرج الى الجهة الأخرى . و الصولة : السطوة في الحرب . و المراد : ربما حقق الإنسان بكلامه أهدافه و مقاصده بأكثر مما يبلغها بسيفه ، و ليت الرؤساء و الملوك أخذوا هذه الحكمة فجنبوا شعوبهم سفك الدماء .
[ 2 ] كل مقتصر عليه كاف : حثّ على الإقتصار بما يلزم الإنسان و يكفيه ، لأن التوسّع طريق لا نهاية له ، يفتح على الإنسان باب الحرص و الشره ، و ترك القناعة .
[ 52 ]
قائما [ 1 ] ، و الدّهر يومان : يوم لك ، و يوم عليك فإذا كان لك فلا تبطر ، و إذا كان عليك فاصبر [ 2 ] 397 [ و قال عليه السلام : نعم الطّيب
[ 1 ] المنيّة و لا الدنية . . . : المنيّة : الموت . و الدنيّة : الخسيس من أمر الدنيا . و المراد : الموت أولى من أن يؤول الأمر بالإنسان الى ذلك ، و من هذا الباب فضّل البعض القتل في الحروب على الأسر ، و تحكّم الأعداء فيهم . و التقلل و لا التوسل :
القليل من الدنيا افضل من طلبها من الآخرين . و من لم يعط قاعدا لم يعط قائما : من لم يصله رزقه من طريق سهل لم يحصّله من طريق صعب . و المراد : لا حاجة إلى ركوب الأهوال و المخاطر في طلب الرزق ، و قد لا يعود بعد المعاناة بطائل ، و يحسن منه القناعة بالميسور .
[ 2 ] يوم لك . . . : تنقاد فيه إليك الأمور . و يوم عليك : تعاني فيه الشدّة و الفقر . فإن كان لك فلا تبطر : تستخف بالنعمة و تكفرها . و إن كان عليك فاصبر : تنال راحة الدنيا و أجر الآخرة .
[ 53 ]
المسك خفيف محمله ، عطر ريحه ] .
398 [ و قال عليه السلام : ضع فخرك ،
و احطط كبرك ، و اذكر قبرك ] .
399 [ و قال عليه السلام : إنّ للولد على الوالد حقّا ، و إنّ للوالد على الولد حقّا ، فحقّ الوالد على الولد أن يطيعه في كلّ شيء ، إلاّ في معصية اللَّه سبحانه ، و حقّ الولد على الوالد أن يحسّن اسمه ، و يحسّن أدبه ، و يعلّمه القرآن ] .
400 [ و قال عليه السلام : العين حقّ ،
و الرّقى حقّ ، و السّحر حقّ و الفأل حقّ ، و الطّيرة ليست بحقّ ، و العدوى ليست بحقّ ، و الطّيب نشرة ، و العسل نشرة ، و الرّكوب نشرة ، و النّظر إلى الخضرة نشرة . 401 و قال عليه السلام : مقاربة النّاس في
[ 54 ]
أخلاقهم أمن من غوائلهم [ 1 ] . 402 و قال عليه السلام : لبعض مخاطبيه و قد تكلم بكلمة يستصغر مثله عن قول مثلها [ 2 ] لقد طرت شكيرا ، و هدرت سقبا . قال الرضي : و الشكير ههنا : أول ما ينبت من ريش الطائر قبل أن يقوى و يستحصف و السقب : الصغير من الإبل ، و لا يهدر إلا بعد أن يستفحل [ 3 ] . 403 و قال عليه السلام : من أومأ إلى
[ 1 ] مقاربة الناس في أخلاقهم . . . : مجاراتهم في الأمور المشروعة . أمن من غوائلهم : من دواهيهم و مكرهم .
[ 2 ] يستصغر مثله عن قول مثلها : لا يقوى عليها ، و لا يستطيعها من هو في سنّه .
[ 3 ] و المراد : فيك نبوغ ، و تتجلى فيك مواهب و قابليات .
[ 55 ]
متفاوت خذلته الحيل [ 1 ] . 404 و قال عليه السلام : و قد سئل عن معنى قولهم « لا حول و لا قوّة إلاّ باللَّه » ، إنّا لا نملك مع اللَّه شيئا ، و لا نملك إلاّ ما ملّكنا فمتى ملكنا ما هو أملك به منّا كلّفنا و متى أخذه منّا وضع تكليفه عنّا [ 2 ] .
[ 1 ] من أومأ الى متفاوت خذلته الحيل : أومأ : أشار . و تفاوت الشيئان : إختلفا في التقدير . و خذل : بان و انقطع . و حيل جمع حيلة : وسيلة بارعة تحيل الشيء عن ظاهره ابتغاء الوصول الى المقصود . و المراد : السعي لجميع متضادين عسير جدا ، و يكاد لا تنجح فيه المساعي ، و ربما يكون المراد : الجمع بين الدنيا و الآخرة .
[ 2 ] لا نملك مع اللَّه شيئا . . . : ليس لنا إلاّ ما وهبه لنا و مكّننا منه .
و لا نملك إلاّ ما ملّكنا : أعطانا إياه ،
كالعقل ، و المال الخ . فمتى ملكنا ما هو أملك به منا كلفنا :
فمتى أعطانا القدرة على العمل كلّفنا به . و متى أخذه منا وضع تكليفه عنا : فمتى سلب موهبة العقل أسقط الفرائض ، و متى أخذ الأموال أعفى من الزكاة .
[ 56 ]
405 و قال عليه السلام لعمار بن ياسر ، و قد سمعه يراجع المغيرة بن شعبة [ 1 ] كلاما : دعه يا عمّار ، فإنّه لم يأخذ من الدّين إلاّ ما قاربه من الدّنيا ، و على عمد لبّس على نفسه ليجعل الشّبهات عاذرا لسقطاته [ 2 ] . 406 و قال عليه السلام : ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء طلبا لما عند اللَّه و أحسن منه تيه
[ 1 ] يراجع . . . : يرادده الكلام . و المغيرة : مطعون في دينه ،
معروف بالزنا ، مات بالكوفة سنة خمسين و هو الوالي فيها من قبل معاوية .
[ 2 ] لم يأخذ من الدين إلاّ ما قاربه من الدنيا . . . : إستفاد منه دنيا ، و كسب به مالا . و على عمد لبّس على نفسه : شبّه عليها وَ لاَ تَلبِسُوا الحَقَّ بالبَاطِل وَ تَكتُمُوا الحَقَّ وَ أَنتُم تَعمَلُون 2 : 42 . ليجعل الشبهات عاذرا لسقطاته : تجاوز خط الشريعة بشبه يخادع بها نفسه أو من يلومه .
[ 57 ]
الفقراء على الأغنياء اتّكالا على اللَّه [ 1 ] . 407 و قال عليه السلام : ما استودع اللَّه امرأ عقلا إلاّ استنقذه به يوما مّا [ 2 ] 408 و قال عليه السلام : من صارع الحقّ صرعه [ 3 ] .
[ 1 ] ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء . . . : الحديث القدسي :
( أحب المتواضع و الغني المتواضع أكثر ) طلبا لما عند اللَّه :
من الأجر و الثواب . و أحسن منه تيه الفقراء : تاه : تكبّر :
و ليس المراد به التكبّر المعهود ، فإنه مذموم من الفقير و الغني ، بل المراد : عدم التنازل لهم ، و التعرّض لمعروفهم ، و قطع الأمل عنهم . إتكالا على اللَّه : إنقطاعا إليه ، و استغناء عن المخلوقين .
[ 2 ] ما استودع اللَّه أمرأ عقلا إلاّ إستنقذه به يوما ما : الغرض الشكر على نعمة العقل ، و انها أعظم النعم ، تنقذ الإنسان من محن الدنيا فيهتدى بها للمخرج ، و من بلاء الآخرة فيتقدّم بالطاعة فيسلم و يغنم .
[ 3 ] من صارع الحق صرعه : من قاوم الحق و أهله هلك ، فإنه إن سلم في الدنيا فما أعدّ اللَّه من النكال و العقاب أعظم .
[ 58 ]
409 و قال عليه السلام : القلب مصحف البصر [ 1 ] . 410 و قال عليه السلام : التّقى رئيس الأخلاق [ 2 ] . 411 و قال عليه السلام : لا تجعلنّ ذرب لسانك على من أنطقك و بلاغة قولك على من سدّدك [ 3 ] .
[ 1 ] القلب مصحف البصر : القلب مستودع و حافظ لما يراه البصر .
[ 2 ] التقى رئيس الأخلاق : إن الخوف من اللَّه تعالى ، و مراقبته عند كل عمل أفضل ما تخلّق به المسلمون ، و به يصلون الى شاطىء السلامة و جنات الخلود .
[ 3 ] لا تجعلن ذرب لسانك على من أنطقك ، و بلاغة قولك على من سددك : ذرب لسانك يفحشه . و سدّد السهم الى الصيد : وجهه . و المراد : إلتزم بالأدب مع اللَّه تعالى ، و لا تبدر منك كلمة يكرهها ، فنعمة اللسان يجب شكرها بالإستمرار على الذكر ، و القول بما أمر اللَّه تعالى .
[ 59 ]
412 و قال عليه السلام : كفاك أدبا لنفسك اجتناب ما تكرهه من غيرك [ 1 ] . 413 و قال عليه السلام : من صبر صبر الأحرار ، و إلاّ سلا سلوّ الأغمار [ 2 ] .
[ 1 ] كفاك أدبا لنفسك ما تكرهه من غيرك : هذا درس عظيم يأخذ الإنسان الى مصاف الأولياء و العظماء ، بل الى مرضاة اللَّه تعالى ، و ذلك بترك الأخلاق و السجايا التي لا يرتضيها من الآخرين فيتجنبها .
[ 2 ] من صبر صبر الأحرار . . . : من تجلّد للمصيبة مستعينا عليها بالصبر ، فقد فعل فعل الكرام . و إلاّ سلا سلو الأغمار :
سلاه سلوا و سلوانا : طابت نفسه بعد فراقه . و الأغمار جمع غمر : لم يجرّب الأمور . و المراد : أن اللَّه سبحانه أنعم على الناس بنعمة النسيان ، و لو لا ذلك لهلكوا ، و ان الجازع مهما عظم جزعه ينسى المصيبة ، و قد ضيّع الصبر و فوائده ، و خسر أجره و ثوابه .
[ 60 ]
414 و في خبر آخر أنه عليه السلام قال للأشعث بن قيس معزيا :
إن صبرت صبر الأكارم ، و إلاّ سلوت سلوّ البهائم . 415 و قال عليه السلام : في صفة الدنيا : تغرّ و تضرّ و تمرّ إنّ اللَّه تعالى لم يرضها ثوابا لأوليائه ، و لا عقابا لأعدائه [ 1 ] و إنّ أهل الدّنيا
[ 1 ] تغر . . . : تخدع . و تضر : من إطمئن بها ، و ركن إليها .
و تمر : يجد أهلها مرارة فراقها ، المحسن يأسف لانه لم يستكثر من عمل الخير فيها ، و المسيء لا ساءته فيها . لم يرضها ثوابا لأوليائه : إن مباهجها و زخارفها و إن عظمت أقل من أن تكون ثوابا لأهل الإيمان ، و ما أعدّ اللَّه لهم من نعيم في داره مما لم تره عين ، و لم تسمع به أذن . و لا عقابا لأعدائه :
فكر باتها و ان كثرت فهي أقل من أن تكون عقابا للعصاة ،
و قد هيأ لهم سبحانه من العذاب و الهوان ما لم يخطر ببالهم .
[ 61 ]
كركب بيناهم حلّوا إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا [ 1 ] . 416 و قال لابنه الحسن عليه السلام : لا تخلّفنّ و راءك شيئا من الدّنيا فإنّك تخلّفه لأحد رجلين : إمّا رجل عمل فيه بطاعة اللَّه فسعد بما شقيت به ، و إمّا رجل عمل فيه بمعصية اللَّه فشقي بما جمعت له ، فكنت عونا له على معصيته و ليس أحد هذين حقيقا أن تؤثره على نفسك [ 2 ] . قال الرضي : و يروى هذا الكلام على وجه
[ 1 ] و إن أهل الدنيا كركب بينما حلّوا ، إذا صاح بهم سائقهم فارتحلوا : الركب : الراكبون : العشرة فما فوق . و حلّوا :
نزلوا . و ارتحلوا : ساروا و مضوا . و المراد : قلة مكثهم فيها ، و تركهم لها .
[ 2 ] تؤثره على نفسك : تفضله و تقدمه عليها .
[ 62 ]
آخر و هو :
أمّا بعد ، فإنّ الّذي في يدك من الدّنيا قد كان له أهل قبلك ، و هو صائر إلى أهل بعدك و إنّما أنت جامع لأحد رجلين : رجل عمل فيما جمعته بطاعة اللَّه فسعد بما شقيت به أو رجل عمل فيه بمعصية اللَّه فشقيت بما جمعت له ، و ليس أحد هذين أهلا أن تؤثره على نفسك و لا أن تحمل له على ظهرك ، فارج لمن مضى رحمة اللَّه ، و لمن بقي رزق اللَّه . 417 و قال عليه السلام لقائل قال بحضرته « أستغفر اللَّه » ثكلتك أمّك أتدري ما الاستغفار ؟
الاستغفار درجة العلّيّين [ 1 ] ، و هو اسم واقع على
[ 1 ] ثكلتك أمك . . . : فقدتك . و المراد : الدعاء عليه بالهلاك . درجة العليين : مراتب عالية ، محفوفة بالجلالة إِنَّ كِتَابَ الأَبرارِ لَفِيِ عليّين 83 : 18 . و المراد : ان التائب المستغفر معهم في درجاتهم و مصافهم .
[ 63 ]
ستّة معان : أوّلها النّدم على ما مضى ، و الثّاني :
العزم على ترك العود إليه أبدا ، و الثّالث : أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى اللَّه أملس ليس عليك تبعة ، و الرّابع : أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها ،
و الخامس : أن تعمد إلى اللّحم الّذي نبت على السّحت فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم و ينشأ بينهما لحم جديد ، و السّادس : أن تذيق الجسم ألم الطّاعة كما أذقته حلاوة المعصية [ 1 ] ، فعند ذلك تقول : « أستغفر اللَّه » .
[ 1 ] الندم على ما مضى . . . : الأسف على المعاصي . و العزم على ترك العود إليه أبدا : العزم : إرادة الشيء و عقد النيّة عليه . و المراد : التصميم على عدم العودة . و ان تؤدّي الى المخلوقين حقوقهم : ترجع إليهم أموالهم ، و تطلب منهم أن يسامحوك عن حقوقهم المعنوية التي لهم قبلك ، كما لو كنت إعتديت على أحد أو أهنته . حتى تلقى اللَّه أملس : بصحيفة بيضاء . ليس عليك تبعة : مظلمة ( حقوق الآخرين التي عندك ) و ان تعمد الى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها : تؤدّي ما فاتك من صلاة و صوم و غير ذلك . و ان تعمد الى اللحم الذي نبت على السحت : الحرام . فتذيبه :
ذاب الجسم : هزل . و المراد : الإتجاه نحو الطاعة و الزهد . و ان تذيق الجسم ألم الطاعة : كالمداومة على الصلاة و الصيام و غيرهما من العبادات . كما أذقته حلاوة المعصية : كما متعته بالشهوات .
[ 64 ]
418 و قال عليه السلام : الحلم عشيرة [ 1 ] . 419 و قال عليه السلام : مسكين ابن آدم :
مكتوم الأجل ، مكنون العلل ، محفوظ
[ 1 ] الحلم عشيرة : الحلم : الأناة ، و ضبط النفس ، و المراد :
كما أن العشيرة تحامي و تدافع عن الإنسان كذلك الحلم ،
فهو يكسب الإنسان منعة و حماية .
[ 65 ]
العمل [ 1 ] ، تؤلمه البقّة ، و تقتله الشّرقة ، و تنتنه العرقة [ 2 ] . 420 و روي أنه عليه السلام كان جالسا في أصحابه ، فمرت بهم امرأة جميلة فرمقها القوم بأبصارهم فقال عليه السلام : إنّ أبصار هذه الفحول طوامح ، و إنّ ذلك سبب هبابها [ 3 ] ، فإذا
[ 1 ] مسكين إبن آدم . . . : ضعيف ذليل . مكتوم الأجل : كتم الأمر كتما : ستره . و الأجل : الموت . و المراد : لا يعرف الوقت الذي يموت فيه . مكنون العلل : كن الشيء كنونا :
إستتر . و المراد : ان أمراضه كامنة ، لا يعلم متى تهيج .
محفوظ العمل : مَا يَلفِظُ مِن قَولٍ إلاّ لَدَيهِ رَقيبُ عَتِيدُ 50 : 18 .
[ 2 ] تؤلمه البقّة . . . : فهو لضعفه و عجزه يسبب له هذا الحيوان الصغير ألما و إزعاجا ، و حتى يسلبه نومه و راحته . و تقتله الشرقة : الغصّة بالماء ، فقد تسبب الوفاة . و تنتنه العرقة :
نتن : خبثت رائحته . و عرق : رشح جلده بالعرق .
[ 3 ] طمح . . . : تطلع و استشرف . و إن ذلك سبب هبابها : هب الفحل : هاج للسفاد .
[ 66 ]
نظر أحدكم إلى امرأة تعجبه فليلامس أهله [ 1 ] ،
فإنّما هي امرأة كامرأة ، فقال رجل من الخوارج « قاتله اللَّه كافرا ما أفقهه » فوثب القوم ليقتلوه ،
فقال عليه السلام : رويدا إنّما هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب 421 و قال عليه السلام : كفاك من عقلك ما أوضح لك سبيل غيّك من رشدك [ 2 ] . 422 و قال عليه السلام : افعلوا الخير و لا
[ 1 ] فليلامس أهله : يجامعها ، فتنطفي حدّة الشهوة ، و يبعد عن الحرام .
[ 2 ] كفاك من عقلك ما أوضح لك سبيل غيّك من رشدك :
الغي : الضلال . و الرشد : خلاف العمى و الضلال ،
و فسّر : بإصابة الحق . و المراد : ان العقل السليم ، هو الذي يبصر به الإنسان طريق الهدى من طريق الضلال .
[ 67 ]
تحقروا منه شيئا فإنّ صغيره كبير و قليله كثير ،
و لا يقولنّ أحدكم إنّ أحدا أولى بفعل الخير منّي فيكون و اللَّه كذلك . إنّ للخير و الشّرّ أهلا فمهما تركتموه منهما كفاكموه أهله [ 1 ] . 423 و قال عليه السلام : من أصلح سريرته أصلح اللَّه علانيته ، و من عمل لدينه كفاه اللَّه أمر دنياه ، و من أحسن فيما بينه و بين اللَّه أحسن
[ 1 ] إفعلوا الخير و لا تحقّروا منه شيئا . . . : لأن اللَّه سبحانه أخفى رضاه في طاعته ، فلا يعلم الإنسان أي طاعة هي أكثر قبولا و ثوابا فيحرص على جميعها . فإن صغيره كبير عند اللَّه ، و قليله كثير : مَثَلُ الَّذِينَ يُنفقُونَ أَموالَهُم فيِ سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أنْبَتت سَبعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مائةُ حبّة وَ اللَّهُ يُضَاعِف لِمن يشاءُ و اللَّهُ وَاسِع عَليمُ 2 : 261 . و لا يقولن أحدكم أن أحدا أولى بفعل الخير منّي فيكون و اللَّه كذلك .
و من الغريب أن نتسابق و نتنافس في أمور الدنيا ، بينما يصوّر لنا الشيطان إن عمل الخير الفلاني ينبغي أن يفعله من هو أفضل منا .
إن للخير و الشر أهلا فما تركتموه منهما كفاكموه أهله : إن المؤمن أشد حرصا على عمل الخير من أهل الدنيا على دنياهم ، فما تركه إمرؤ من عمل مقرّب الى اللَّه تعالى بادر إليه غيره ، و انحرم الأول من ثوابه ، و كذلك فعل الشر ، فما تركته منه بادره من لم يخش العواقب .
[ 68 ]
اللَّه ما بينه و بين النّاس [ 1 ] . 424 و قال عليه السلام : الحلم غطاء ساتر ، و العقل حسام قاطع ، فاستر خلل خلقك
[ 1 ] من أصلح سريرته . . . : السريرة ما يكنّه المرء في نفسه .
و المراد : إستقامة في العقائد ، و نوايا حسنة ، و حبّ للخير .
أصلح علانيته : جنّبه الدنس و الخطايا ، و عصمه من الرذائل .
و من عمل لدينه : أدّى ما افترض عليه . كفاه أمر دنياه : أقبل بقلوب الناس إليه ، و ميلهم له . و من أحسن فيما بينه و بين اللَّه :
اهتم بما يقرّبه الى اللَّه تعالى . كفاه اللَّه ما بينه و بين الناس : تولّى حمايته منهم ، و آمنه من شرورهم .
[ 69 ]
بحلمك ، و قاتل هواك بعقلك [ 1 ] . 425 و قال عليه السلام : إنّ للَّه عبادا يختصّهم اللَّه بالنّعم لمنافع العباد فيقرّها في أيديهم ما بذلوها ، فإذا منعوها نزعها منهم ثمّ حوّلها إلى غيرهم [ 2 ] . 426 و قال عليه السلام : لا ينبغي للعبد أن
[ 1 ] الحلم . . . : الإناة و ضبط النفس . غطاء ساتر : يحتمي به الإنسان و يستر ما عنده من قبيح . و العقل حسام قاطع : سيف ماض : فاستر خلل خلقك بحلمك : الخلل : الفساد و الضعف . و المراد : بالحلم يسيطر على هفوات نفسه و أخلاقه الرذيلة ، كالغضب و شبهه . و قاتل . هواك بعقلك : الهوى :
ميل النفس الى الشيء . و المراد : لا عذر لمسلم في إتباع هواه ،
فقد وهبه اللَّه تعالى العقل يتغلّب به عليه ، فإن هو قصّر في ذلك فما اللوم إلاّ عليه .
[ 2 ] إن للَّه عبادا يختصهم اللَّه بالنعم . . الخ : يعطيهم المال و الجاه و الشرف لأجل أن يحسنوا للآخرين ، و يساعدوا المعوزين ، فإن فعلوا ذلك دامت بإيديهم ، و إن إمتنعوا إنتقلت الى غيرهم .
[ 70 ]
يثق بخصلتين : العافية ، و الغنى ، بينا تراه معافى إذ سقم ، و بينا تراه غنيّا إذ افتقر [ 1 ] . 427 و قال عليه السلام : من شكا الحاجة إلى مؤمن فكأنّه شكاها إلى اللَّه ، و من شكاها إلى كافر فكأنّما شكا اللَّه [ 2 ] . 428 و قال عليه السلام في بعض الأعياد :
[ 1 ] لا ينبغي للعبد أن يثق بخصلتين . . الخ : ربما إنتزعت منه النعمة في ليلة و ضحاها يمسي غنيّا و يصبح فقيرا ، و يمسي معافى ،
و يصبح عليلا .
و ربّ غنيّ عظيم الثراء
أمسى مقلاّ عديما فقيرا
و كم بات من مترف في القصور
فعوّض في الصبح عنها القبورا
[ 2 ] من شكا الحاجة الى مؤمن . . . الخ : لما يتوخاه من مساعدته و إرشاده ، و دعائه له بالفرج ، و أمره له بالصبر . و من شكاها الى كافر . . الخ : لأنه لا يسعفه بشيء من الخير ، بل ينفخ فيه روح الشر و اليأس ، و يزهده بما لديه من نعم .
[ 71 ]
إنّما هو عيد لمن قبل اللَّه صيامه و شكر قيامه ،
و كلّ يوم لا يعصى اللَّه فيه فهو عيد [ 1 ] . 429 و قال عليه السلام : إنّ أعظم الحسرات يوم القيامة حسرة رجل كسب ما لا في غير طاعة اللَّه فورثه رجل فأنفقه في طاعة اللَّه سبحانه فدخل به الجنّة و دخل الأوّل به النّار [ 2 ] . 430 و قال عليه السلام : إنّ أخسر النّاس صفقة و أخيبهم سعيا رجل أخلق بدنه في طلب ماله ، و لم تساعده المقادير على إرادته ، فخرج
[ 1 ] كل يوم لا يعصى اللَّه فيه فهو عيد : لأنه يسربه يوم القيامة .
[ 2 ] إن أعظم الحسرات يوم القيامة . . . : أعظم المتأسفين في ذلك اليوم ، رجل كسب ما لا في غير طاعة اللَّه : جمعه من وجوه لا تحل ، و مكاسب محرّمة ، فاستوجب بذلك النار . و ورثه رجل . . . الخ : بادر به الوارث مرضاة اللَّه تعالى فدخل الجنة .
[ 72 ]
من الدّنيا بحسرته ، و قدم على الآخرة بتبعته [ 1 ] . 431 و قال عليه السلام : الرّزق رزقان :
طالب ، و مطلوب فمن طلب الدّنيا طلبه الموت حتّى يخرجه عنها ، و من طلب الآخرة طلبته الدّنيا حتّى يستوفي رزقه منها [ 2 ] .
[ 1 ] إن أخسر الناس صفقة . . الخ : الصفقة : ضرب اليد عند البيع علامة إنفاذه ، و كانت العرب إذا وجب البيع ضرب أحدهما يده على يد صاحبه ، ثم إستعملت الصفقة في العقد فقيل : بارك اللَّه في صفقة يدك . و الخيبة : الحرمان و الخسران . و سعى سعيا :
تصرّف في أي عمل كان . و أخلق شباب فلان : ولّى .
و التبعة : المظلمة . و المراد : رجل توجّه بكله الى جمع المال ليحقق به آمالا دنيوية ، فمات قبل تحققها ، و قد لزمته تبعة المال .
[ 2 ] الرزق رزقان طالب و مطلوب . . . : الغرض : الحث على التوجّه للآخرة بيقين أن يأتيه ما قسم له من رزق ، و عبّر عنه بطالب لأنه بمثابة من يسعى نحوك يطلبك . و المراد : لا بد من وصوله إليك . فمن طلب الدنيا طلبه الموت حتى يخرجه عنها : شاء أم أبى ، تاركا ما جمعه . و من طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي رزقه منها : إتجاهه للَّه تعالى ، و طلب ما عنده لا يحرمه مما قسم له من الرزق ، و ربما نال منها أكثر من طالبها المجد في طلبها .
[ 73 ]
432 و قال عليه السلام : إنّ أولياء اللَّه هم الّذين نظروا إلى باطن الدّنيا إذا نظر النّاس إلى ظاهرها ، و اشتغلوا بآجلها إذا اشتغل النّاس بعاجلها ، فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم و تركوا منها ما علموا أنّه سيتركهم و رأوا استكثار غيرهم منها استقلالا و دركهم لها فوتا [ 1 ] ، أعداء ما
[ 1 ] ان أولياء اللَّه هم الذين نظروا الى باطن الدنيا . . . : كونها خدّاعة ، سريعة الزوال ، لا تدوم لأحد . إذا نظر الناس الى ظاهرها : زينتها و مباهجها . و اشتغلوا بآجالها : بما ينتفعون به في الآخرة . إذا إشتغل الناس بعاجلها : بما يتعجلون منفعته ، كتثمير المال ، و تكثير العقار . فأماتوا منها :
رغباتهم و شهواتهم . ما خشوا أن يميتهم : يهلكهم . و تركوا منها ما علموا أنه سيتركهم : من أموالها و زخارفها . و رأوا استكثار غيرهم : من الدنيا ، و إنهماكهم في طلبها .
إستقلالا : من العمل الصالح . و دركهم لها فوتا : حصولهم عليها فوّت عليهم الآخرة . و المراد : ان طلبهم الشديد للدنيا ، و إستكثارهم من قيناتها صار سببا لتضييع الآخرة و نعيمها .
[ 74 ]
سالم النّاس و سلم ما عادى النّاس [ 1 ] بهم علم الكتاب و به علموا و بهم قام الكتاب و به قاموا [ 2 ] لا يرون مرجّوا فوق ما يرجون ، و لا مخوفا فوق ما يخافون [ 3 ] .
[ 1 ] أعداء ما سالم الناس . . . : من أمر الدنيا . و سلم من عادى الناس : من أمر الآخرة و نعيمها .
[ 2 ] بهم علم الكتاب . . . : أحكامه . و به علموا : دلّ على فضلهم ، و عظيم منزلتهم . و بهم قام الكتاب : بينّوا للأمّة فضله . و به قاموا : إعتمدوه و ساروا على نهجه .
[ 3 ] لا يرون مرجّوا فوق ما يرجون . . . : لا يرون شيئا أعظم من رضوان اللَّه تعالى ، و ما أعد لأوليائه من نعيم . و لا مخوفا فوق ما يخافون : من سخطه و عذابه . قال إبن أبي الحديد : هذا يصلح أن تجعله الإمامية شرح حال الأئمة المعصومين على مذهبهم ، لقوله : فوق ما يرجون ، بهم علم الكتاب و به علموا .
[ 75 ]
433 و قال عليه السلام : اذكروا انقطاع اللّذّات ، و بقاء التّبعات [ 1 ] . 434 و قال عليه السلام : أخبر تقله [ 2 ] . قال الرضي : و من الناس من يروي هذا للرسول صلى اللَّه عليه و آله و سلم و مما يقوي أنه من كلام أمير المؤمنين عليه السلام ما حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي ، قال المأمون : لو لا أن عليا
[ 1 ] إذكروا إنقطاع اللذات . . . : بالموت . و بقاء التبعات جمع تبعة : ما فيه أثم يتبع به . و الحكمة لمن تأملها تكفيه موعظة و إرشادا ، و تزهده في لذّة تفنى ، يعقبها عذاب دائم .
[ 2 ] أخبر تقله : تقله : تكرهه . و المراد : بالإختبار ، و الإطلاع على خفايا الناس يوجب بغضهم .
[ 76 ]
قال « اخبر تقله » لقلت : اقله تخبر . 435 و قال عليه السلام : ما كان اللَّه ليفتح على عبد باب الشّكر و يغلق عنه باب الزّيادة ، و لا ليفتح على عبد باب الدّعاء و يغلق عنه باب الإجابة و لا ليفتح لعبد باب التّوبة و يغلق عنه باب المغفرة [ 1 ] . 436 و قال عليه السلام : أولى النّاس بالكرم من عرفت به الكرام .
[ 1 ] ما كان اللَّه ليفتح على عبد باب الشكر ، و يغلق عنه باب الزيادة : و تصديق ذلك في كتاب اللَّه : لَئن شَكَرتُم لَأزِيدنَّكُم 14 : 7 . و لا ليفتح على عبد باب الدعاء و يغلق عنه باب الإجابة وَ قَالَ رَبُكُم ادعُونِي أَستَجِب لَكُم 40 :
60 . و لا ليفتح لعبد باب التوبة و يغلق عنه باب المغفرة وَ مَن يَعمل سُوءًا أو يَظلِم نَفسَهُ ثُمّ يَستَغفِر اللَّه يَجِدِ اللَّه غَفُوراً رحيماً 4 : 110 .
[ 77 ]
437 و سئل عليه السلام : أيما أفضل :
العدل ، أو الجود ؟ فقال عليه السلام : العدل يضع الأمور مواضعها ، و الجود يخرجها من جهتها ، و العدل سائس عامّ ، و الجود عارض خاصّ ، فالعدل أشرفهما و أفضلهما [ 1 ] . 438 و قال عليه السلام : النّاس أعداء ما جهلوا [ 2 ] .
[ 1 ] العدل . . . : الأنصاف . يضع الأمور مواضعها : ينظّمها على وجه الإستقامة . و الجود : السخاء . يخرجها من جهتها : يميل بها عن جهة العدل ، لأنه طبع لا ارادي ، و قد يشبّه بالجنون ، و مثاله : أن الجواد قد يهب ما عنده ، و لا يبقي له و لعياله شيئا ، و هذا خلاف لمنهج العدل . و العدل سائس عام : نظام للأمّة ، و قيام لهم بما يصلحهم . و الجود عارض خاص : صفة خاصة لبعض الذوات و لا مجال لتشبيهها بالعدل .
[ 2 ] الناس أعداء ما جهلوا : فكل من جهل شيئا نأى عنه و تركه .
و الجهل هو السبب الرئيسي لتباعد الناس عن خط الشريعة .
[ 78 ]
439 و قال عليه السلام : الزّهد كلّه بين كلمتين من القرآن : قال اللَّه سبحانه : لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ، وَ لاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ و من لم يأس على الماضي [ 1 ] و لم يفرح بالآتي [ 2 ] فقد أخذ الزّهد بطرفيه . 440 و قال عليه السلام : ما أنقض النّوم لعزائم اليوم [ 3 ] . 441 و قال عليه السلام : الولايات مضامير
[ 1 ] الزهد : الرضا باليسير مما يتيقن حلّه ، و ترك الزائد على ذلك للَّه تعالى .
[ 2 ] لم يأس على الماضي : لم يأسف على ما فاته . و لم يفرح بالآتي : لعلمه بفنائه . فقد أخذ الزهد بطرفيه : بأجمعه .
[ 3 ] ما أنقض النوم لعزائم اليوم : عزم على الأمر : أراد فعله ، و عقد عليه نيّته . و المراد : قد يصمم الإنسان على أمر فينام و ينصرف عن تحقيقه ، و المضي فيه .
[ 79 ]
الرّجال [ 1 ] . 442 و قال عليه السلام : ليس بلد بأحقّ بك من بلد ، خير البلاد ما حملك [ 2 ] . 443 و قال عليه السلام ، و قد جاءه نعي الأشتر رحمه اللَّه : مالك و ما مالك و اللَّه لو كان جبلا لكان فندا و لو كان حجرا لكان صلدا : لا يرتقيه الحافر ، و لا يوفي عليه الطّائر [ 3 ] .
[ 1 ] الولايات . . . : جمع ولاية : البلاد التي يتسلّط عليها الوالي .
مضامير الرجال جمع مضمار : المكان الذي تضمّر فيه الخيل أو تتسابق . و المراد : تكشف عن قابليات الولاة ، و مدى لياقتهم لها ، و من هو جدير بها ، و من يضعف عن تحملها .
[ 2 ] ليس بلد بأحق بك من بلد . . . : فجميعها بالنسبة لك على حدّ سواء ، بلا تفضيل لبعضها على بعض . خير البلاد ما حملك :
وافقك ، و سهل فيه معاشك ، و توفّرت به راحتك ، و بالأحرى لم تجد به المضايقة لدينك .
[ 3 ] لا يرتقيه الحافر . . . : لا سبيل لصعوده . و لا يوفي عليه الطائر :
أوفى على المكان : أشرف عليه . و المراد : منقطع النظير .
[ 80 ]
قال الرضي : و الفند : المنفرد من الجبال . 444 و قال عليه السلام : قليل مدوم عليه خير من كثير مملول منه [ 1 ] . 445 و قال عليه السلام : إذا كان في رجل خلّة رائقة فانتظروا أخواتها [ 2 ] . 446 و قال عليه السلام لغالب بن صعصعة أبي الفرزدق ، في كلام دار بينهما : ما فعلت إبلك الكثيرة ؟ قال : ذعذعتها الحقوق يا أمير المؤمنين
[ 1 ] قليل مدوم عليه خير من كثير مملول منه : المراد بالحكمة الأعمال الصالحة ، و القليل الدائم منه يستفيد منه الإنسان بمرور الزمن أكثر من الكثير الذي يسرع الى تركه ، مضافا الى أن عدم الرغبة و الضجر من العمل له مضاعفات سيئة .
[ 2 ] إذا كان في رجل خلة . . . : خصلة . رائقة : معجبة . فانتظروا أخواتها : نظائرها . و المراد : الأعمال تستلزم بما يماثلها ، فمن رأيته مصليا توقّع منه الصوم .
[ 81 ]
فقال عليه السلام : ذلك أحمد سبلها [ 1 ] . 447 و قال عليه السلام : من اتّجر بغير فقه فقد ارتطم في الرّبا [ 2 ] . 448 و قال عليه السلام : من عظّم صغار المصائب ابتلاه اللَّه بكبارها [ 3 ] .
[ 1 ] ذعذعتها . . . : فرّقّتها و الحقوق جمع حق : النصيب الواجب للفرد و الجماعة . و حقوق اللَّه : ما وجب له علينا . و المراد :
نفدت في إداء حقوق اللَّه تعالى و حقوق الأخوان . ذلك أحمد سبلها : أفضل طريق لصرفها .
[ 2 ] من إتجر بغير فقه فقد ارتطم في الربا : ارتطم في الشيء : وقع و ارتبك . و الربا : المبلغ الذي يؤدّيه المقترض زيادة على ما أقترض . و في الحديث : ( التاجر ما لم يتفقّه كافر )
[ 3 ] من عظّم صغار المصائب إبتلاه اللَّه بكبارها : المفروض بالمسلم أن يستعين بالصبر على مصائبه ، فيكسب الأجر ، و ينتظر من اللَّه الفرج ، فإذا خالف و شكا و زاد في حجم المصيبة ، فقد تعرّض للمقت ، و استوجب المضاعفة .
[ 82 ]
449 و قال عليه السلام : من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته [ 1 ] . 450 و قال عليه السلام : ما مزح امرؤ مزحة إلاّ مجّ من عقله مجّة [ 2 ] . 451 و قال عليه السلام : زهدك في راغب فيك نقصان حظّ ، و رغبتك في زاهد فيك ذلّ نفس [ 3 ] . 452 و قال عليه السلام : الغنى و الفقر بعد
[ 1 ] من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته : لا يستجيب لدواعي الشهوة و إن قويت كرامة لنفسه ، و حفاظا على شرفه .
[ 2 ] ما مزح إمرؤ مزحة إلاّ مجّ من عقله مجّة : مزح : داعب . و مجّ الماء من فيه : لفظه . و المراد : المزاح مستلزم للكذب و مساوىء أخرى توجب إنحطاط العقل .
[ 3 ] زهدك في راغب فيك . . . : عدم رغبتك في من يرغب فيك .
نقصان حظ : لأنك ربما إستفدت منه للدنيا أو الآخرة . و رغبتك في زاهد فيك ذل نفس : إقبالك على معرض عنك مذلّة و هوان .
[ 83 ]
العرض على اللَّه [ 1 ] . 453 [ و قال عليه السلام : ما زال الزّبير رجلا منّا أهل البيت حتّى نشأ ابنه المشؤوم عبد اللَّه ] .
454 و قال عليه السلام : ما لابن آدم و الفخر : أوّله نطفة ، و آخره جيفة ، و لا يرزق نفسه ، و لا يدفع حتفه [ 2 ] .
[ 1 ] ما لإبن آدم و الفخر . . . : إستفهام على سبيل التعجّب . لا يرزق نفسه : فضلا من أن يرزق غيره ، بل هو عبد ضعيف مرزوق . و لا يدفع حتفه : لا يستطيع تأخير أجله فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُم لاَ يَستَأخِرُونَ سَاعَةً وَ لاَ يَستَقدِمُونَ 7 : 34 .
[ 2 ] لم يجروا في حلبة تعرف الغاية عند قصبتها : الحلبة : ميدان سباق الخيل . و الغاية : النهاية و الآخر . و القصبة : ما ينصبه المتسابقون في حلبة السباق ، فمن سبق إقتلعها و أخذها ليعلم أنه السابق . و المراد : لم يكن اتجاههم واحدا ليميّز الأشعر منهم ،
بل بعضهم كان يبدع في الرثاء ، و آخر في الهجاء ، و ثالث في المدح ، و رابع : في الفخر ، و هكذا ، و أيضا : فقد إختلفت دوافعهم كما اختلقت مقاصدهم ، حتى قالوا : أشعر العرب إمرؤ القيس إذا ركب ، و لأعشى إذا رغب ، و النابغة إذا رهب من أجل ذلك تعسّر الحكم و التفضيل : فإن كان و لا بد : من إعطاء الحكم . فالملك الضليل : إمرؤ القيس الكندي ، فهو المقدّم عليهم .
[ 84 ]
455 و سئل من أشعر الشعراء ؟ فقال عليه السلام : إنّ القوم لم يجروا في حلبة تعرف الغاية عند قصبتها فإن كان و لا بدّ فالملك الضّلّيل ( يريد امرأ القيس ) . 456 و قال عليه السلام : ألا حرّ يدع هذه اللّماظة لأهلها ؟ إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة ، فلا تبيعوها إلاّ بها [ 1 ] .
[ 1 ] ألا حر يدع هذه اللماظة لأهلها . . . : لمظ لمظا : تتبع بلسانه بقية الطعام في فمه . و الحر : الكريم . و المراد : ترك الدنيا لأهلها المتنافسين عليها . أنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة ، فلا تبيعوها إلاّ بها إنّ اللَّه اشتَرى مِنَ المُؤمِنينَ أَنفُسَهُم وَ أَمَوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّة 9 : 111 . و المراد : التحذير من أن يخدعهم الشيطان فيبيعوا ما أعدّ لهم من جنان و نعيم بدنيا فانية و نعيم زائل .
[ 85 ]
457 و قال عليه السلام : منهومان لا يشبعان : طالب علم ، و طالب دنيا [ 1 ] . 458 و قال عليه السلام : الإيمان أن تؤثر الصّدق حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك ،
و أن لا يكون في حديثك فضل عن عملك و أن تتّقي اللَّه في حديث غيرك [ 2 ] .
[ 1 ] منهومان لا يشبعان . . . : نهم في الشيء نهما : أفرط الشهوة أو الرغبة فيه . طالب علم و طالب دنيا : كل منهما مقبل على ما أحبّه و رغب فيه ، لا ينفك عنه حتى الموت .
[ 2 ] الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك . . . : تلتزم بالصدق و أن جلب لك مكروها و أذى ، و تترك الكذب و أن سبب لك ريحا و مغنما . و أن لا يكون في حديثك فضل عن عملك : لا يزيد قولك على فعلك ، كمن يتصدق بدرهم و يدعي بعشرة . و أن تتقي اللَّه في حديث غيرك : تتجنب من الكلام ما يسيء للآخرين كالغيبة و البهتان .
[ 86 ]
459 و قال عليه السلام : يغلب المقدار على التّقدير حتّى تكون الآفة في التّدبير [ 1 ] . قال الرضي : و قد مضى هذا المعنى فيما تقدم برواية تخالف هذه الألفاظ . 460 و قال عليه السلام : الحلم و الأناة توءمان ينتجهما علوّ الهمّة [ 2 ] .
[ 1 ] يغلب المقدار . . . : ما قدّره اللَّه تعالى لكل من عباده . على التقدير : تدبير الإنسان الشيء . حتى تكون الآفة في التدبير :
الآفة : كل ما يصيب شيئا فيفسده . و المراد : أن تدبيره يعود عليه دائما بالمضار .
[ 2 ] الحلم و الإناة توأمان ينتجهما علو الهمة . الحلم : الإناة ، و ضبط النفس . و الإناة : الحلم و الوقار . و التوأم : المولود مع غيره في بطن . و أنتج فلان الشيء : تولاه حتى أتى نتاجه . و الهمّة :
العزم القوي . و المراد : صاحب الهمّة العالية يترفع عن السفه و الطيش ، و الكلام بما يحط من قدره و يضع من مرتبته .
[ 87 ]
461 و قال عليه السلام : الغيبة جهد العاجز [ 1 ] . 462 و قال عليه السلام : ربّ مفتون بحسن القول فيه [ 2 ] . 463 و قال عليه السلام : الدّنيا خلقت لغيرها ، و لم تخلق لنفسها [ 3 ] .
[ 1 ] الغيبة جهد العاجر : الغيبة : ذكر أخيك بما يكره . و الجهد :
الوسع و الطاقة . و العاجز : الضعيف . و المراد : الغيبة بضاعة العاجزين عن نيل المكارم و المعالي ، و هم مع عجزهم من الإستزادة من الحسنات يدفعون ما عندهم منها لمن إستغابوه .
[ 2 ] ربّ مفتون بحسن القول فيه : الفتنة : البلاء . و المراد : ربما يكون إبتلاء شخص بثناء الآخرين و مديحهم له ، فيحجبه ذلك عن نيل المعالي ، و يدعوه للزهو و الكبرياء ، و لا يتمكن حينئذ من تلافي عيوبه .
[ 3 ] الدنيا خلقت لغيرها و لم تخلق لنفسها : ليست بحد ذاتها غاية ، بل هي وسيلة تنال بها الآخرة ، و هي أشبه بالنار التي توقدها لأجل نضج الطعام ، فهي ليست بذاتها غايتنا ، و إنما نبلغ بها هدفنا .
[ 88 ]
464 و قال عليه السلام : إنّ لبني أميّة مرودا يجرون فيه ، و لو قد اختلفوا فيما بينهم ثمّ كادتهم الضّباع لغلبتهم [ 1 ] . قال الرضي : و المرود هنا مفعل من الإرواد ،
و هو الإمهال و الإنظار ، و هذا من أفصح الكلام و أغربه ، فكأنه عليه السلام شبه المهلة التي هم فيها بالمضمار الذي يجرون فيه إلى الغاية ، فإذا بلغوا منقطعها انتقض نظامهم بعدها . 465 و قال عليه السلام في مدح الأنصار :
هم و اللَّه ربّوا الإسلام كما يربّى الفلو مع غنائهم بأيديهم السّباط و ألسنتهم السّلاط [ 2 ] .
[ 1 ] ثم كادتهم الضباع لغلبتهم : كادتهم : مكرت بهم . و المراد :
عند إنتهاء مدتهم يكون إنقراضهم بأهون الأمور و أخسّها .
[ 2 ] الأنصار . . . : أهل المدينة من الأوس و الخزرج ، سمّوا بالأنصار لنصرتهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله . ربّوا الإسلام :
ربا الشيء : نما و زاد . كما يربى الفلو : المهر يفطم أو يبلغ السنة . بأيديهم السباط : السماح ، و يوصف بها أيضا الحاذق بالطعن . و السنتهم السلاط : سلط : طال لسانه . و المراد : بيان جهودهم في إنتشار الإسلام ، و دفاعهم عنه بأيديهم و ألسنتهم ،
و بذلهم للنفوس و الأموال .
[ 89 ]
466 و قال عليه السلام : العين وكاء السه [ 1 ] .
[ 1 ] العين وكاء السّه : قال الشيخ محمد عبده : السه بفتح السين و تخفيف الهاء العجز و مؤخّر الإنسان . و العين : الباصرة .
و إنما جعل العجز و عاء لأن الشخص إذا حفظ من خلفه لم يصب من أمامه في الأغلب ، فكأنه وعاء الحياة و السلامة ، إذا حفظ حفظتا ، و الباصرة وكاء ذلك الوعاء ، أي رباطه ، لأنها تلحظ ما عساه يصل إليه فتنبه العزيمة لدفعه ، و التوقي منه ، فإذا أهمل الإنسان النظر الى مؤخرات أحواله أدركه العطب . و الكلام تمثيل لفائدة العين في حفظ الشخص مما قد يعرض عليه من خلفه ،
و أنها لا تختلف عن فائدتها في حفظ مما يستقبله من أمامه ،
و إرشاد وجوب التبصّر في مظنات الغفلة و هذا هو المحمل اللائق بمقام النبي صلى اللَّه عليه و آله و سلم أو مقام أمير المؤمنين عليه السلام .
[ 90 ]
قال الرضي : و هذه من الاستعارات العجيبة ، كأنه يشبه السه بالوعاء ، و العين بالوكاء ، فإذا أطلق الوكاء لم ينضبط الوعاء ،
و هذا القول في الأشهر الأظهر من كلام النبي صلى اللَّه عليه و آله و سلم ، و قد رواه قوم لأمير المؤمنين عليه السلام ، و ذكر ذلك المبرد في كتاب « المقتصب » في باب « اللفظ بالحروف » و قد تكلمنا على هذه الاستعارة في كتابنا الموسوم ب « مجازات الآثار النبوية » . 467 و قال عليه السلام : في كلام له :
و وليهم وال فأقام و استقام ، حتّى ضرب الدّين بجرانه [ 1 ] .
[ 1 ] و وليهم وال فأقام و استقام . . . : قال الشيخ محمد عبده : يريد به النبي صلى اللَّه عليه و آله و سلم ، و وليهم : أي تولّى أمورهم ، و سياسة الشريعة فيهم . حتى ضرب الدين يجرانه : جران البعير : من مقدّم عنقه الى منحره ، فإذا برك مدّ عنقه على الأرض . و المراد :
ثبت و استقر .
[ 91 ]
468 و قال عليه السلام : يأتي على النّاس زمان عضوض [ 1 ] يعضّ الموسر فيه على ما في يديه و لم يؤمر بذلك ، قال اللَّه سبحانه : وَ لاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ تنهد فيه الأشرار [ 2 ] و تستذلّ الأخيار ، و يبايع المضطرّون و قد نهى رسول اللَّه
[ 1 ] يأتي على الناس زمان عضوض . . . : عضّه : أمسكه بأسنانه .
و المراد : وصف شدة الزمان . يعض الموسر : الغني . على ما في يديه : يمسك عن الإنفاق . و لم يؤمر بذلك : بل أمروا بالإنفاق لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحبُّونَ 3 : 92 . و لا تنسوا الفضل بينكم : لا تتركوا الأخذ بالفضل و الإحسان بينكم .
[ 2 ] تنهد فيه الأشرار . . . : نهد فلان الى عدوه نهدا : قصد له ،
و شرع في قتاله . و تستذل الأخيار : يصيبهم ذل و هوان . و يبايع المضطرون : لشدّة ما ينالهم من جيرانهم الأقوياء و تعسّفهم ،
فيبيعون بيوتهم و بساتينهم إضطرارا . و قد نهى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله عن بيع المضطرين : لما يلحقهم من أجحاف و ضرر .
[ 92 ]
صلى اللَّه عليه و آله و سلم عن بيع المضطرّين . 469 و قال عليه السلام : يهلك فيّ رجلان : محبّ مفرط ، و باهت مفتر [ 1 ] . قال الرضي : و هذا مثل قوله عليه السلام : هلك فيّ رجلان : محبّ غال ، و مبغض قال [ 2 ] . 470 و سئل عن التوحيد و العدل فقال عليه السلام : التّوحيد أن لا تتوهّمه ، و العدل أن لا تتّهمه [ 3 ] .
[ 1 ] يهلك فيّ رجلان . . . : هلك : عطب . محب مفرط : الإفراط مجاوزة الحد و المراد : الذين أدعوا له الربوبية . و باهت مفتر :
بهته : قذفه بالباطل . و المفتري : مختلق القول . و المراد بهم الخوارج .
[ 2 ] محب غال . . . : متجاوز الحد يَا أَهلَ الكِتَاب لاَ تغلُو فيِ دِينكُم وَ لاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّه إلاّ الحَقَّ 4 : 171 . و قال : مبغض .
[ 3 ] التوحيد ان لا تتوهمه . . . : فكما أن الأبصار لا تدركه ، كذلك الأوهام لا تحيط به ، و إنما الادراك لبدائع صنعه ، و عجائب مخلوقاته ، التي لا تعد و لا تحصى . . و العدل أن لا تتهمه : لا تحمله ذنبك ، تتصوّر بنظرك القاصر أنّ ما ألمّ بك من شدّة و سوء خلافا للحكمة ، و بعيدا عن المصلحة . قال الشارح البحراني : و هاتان الكلمتان على وجازتهما في غاية الشرف ،
و عليهما مدار العلم الأول .
[ 93 ]
471 و قال عليه السلام : لا خير في الصّمت عن الحكم ، كما أنّه لا خير في القول بالجهل [ 1 ] . 472 و قال عليه السلام في دعاء استسقى به : اللّهم اسقنا ذلل السّحاب دون صعابها . قال الرضي : و هذا من الكلام العجيب
[ 1 ] لا خير في الصمت عن الحكم . . . : لأن الغاية من طلب العلم هو نشره و تعليمه من لا يعلمه ، فالسكوت فيما يجب فيه الكلام مذموم . كما أنه لا خير في القول بالجهل : لما يستوجب من الكذب و السفه ، و البعد عن الحق
[ 94 ]
الفصاحة ، و ذلك أنه عليه السلام شبه السحاب ذوات الرعود و البوارق و الرياح و الصواعق بالإبل الصعاب التي تقمص برجالها و تقص بركبانها ،
و شبه السحاب خالية من تلك الروائع بالإبل الذلل التي تحتلب طيعة و تقتعد مسمحة . 473 و قيل له عليه السلام : لو غيرت شيبك يا أمير المؤمنين ، فقال عليه السلام : الخضاب زينة و نحن قوم في مصيبة ( يريد وفاة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله و سلم ) . 474 [ و قال عليه السلام : ما المجاهد الشّهيد في سبيل اللَّه بأعظم أجرا ممّن قدر فعفّ : لكاد العفيف أن يكون ملكا من الملائكة ] .
475 و قال عليه السلام : القناعة مال لا
[ 95 ]
ينفد [ 1 ] . قال الرضي : و قد روى بعضهم هذا الكلام لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله . 476 و قال عليه السلام لزياد بن أبيه و قد استخلفه لعبد اللَّه بن العباس على فارس و أعمالها ، في كلام طويل كان بينهما نهاه فيه عن تقدم الخراج [ 2 ] : استعمل العدل ، و احذر العسف و الحيف فإنّ العسف يعود بالجلاء و الحيف يدعو إلى السّيف [ 3 ] .
[ 1 ] القناعة . . . : الرضا بالقسم . مال لا ينفد : لا يفنى . شبّه القناعة بالمال الكثير الذي لا يؤثر فيه الأنفاق .
[ 2 ] تقدّم الخراج : أخذه قبل الوقت المحدد له .
[ 3 ] إستعمل العدل . . . : الأنصاف . و احذر العسف : توقّ الظلم . و الحيف : الجور . فإن العسف يعود بالجلاء : الخروج عن الوطن . و المراد : ظلم الحاكمين يضطر الرعيّة الى ترك أوطانهم ، و ثمّ خراب بلادهم ، لعدم وجود من يزرع و يعمل .
و الحيف يدعو الى السيف : إستعمال الجور يدفع الشعب بالثورة على الطغاة الظالمين .
[ 96 ]
477 و قال عليه السلام : أشدّ الذّنوب ما استخفّ به صاحبه [ 1 ] . 478 و قال عليه السلام : ما أخذ اللَّه على أهل الجهل أن يتعلّموا حتّى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا [ 2 ] . 479 و قال عليه السلام : شرّ الإخوان من تكلّف له [ 3 ] .
[ 1 ] أشد الذنوب ما إستخفّ به صاحبه : الذنب بحد ذاته قبيح ، و لا يليق بالعبد ، فإن زاده بالإستهانة و اللامبالاة فقد عظم قبحا ،
و إزداد جرما .
[ 2 ] ما أخذ اللَّه على أهل الجهل أن يتعلموا . . . : أوجب عليهم طلب العلم ، و الحديث النبوي : ( طلب العلم فريضة على كل مسلم ) حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا : أوجب عليهم بذله و تعليمه .
[ 3 ] شر الأخوان من تكلّف له : الإمام عليه السلام يدعو الى المعاشرة بترك التكلّف ، و الإكتفاء بالبساطة ، إستدامة للمودّة ، و أخذ بجانب من الزهد .
[ 97 ]
قال الرضي : لأن التكليف مستلزم للمشقة ،
و هو شر لازم عن الأخ المتكلف له فهو شر الإخوان . 480 و قال عليه السلام : إذا احتشم المؤمن أخاه فقد فارقه [ 1 ] . قال الرضي : يقال : حشمه و أحشمه إذا أغضبه ، و قيل : أخجله ، « و احتشمه » طلب ذلك له ، و هو مظنة مفارقته .
و هذا حين انتهاء الغاية بنا إلى قطع المختار
[ 1 ] إذا إحتشم المؤمن أخاه فقد فارقه : ينسى البعض ما يجب عليه من إحترام الصديق و توقيره و إجلاله ، و تجنب كل ما يغضبه و يؤذيه ، فهو يستعمل الأدب مع الآخرين ، و يتركه مع الأقربين ،
فيؤدي ذلك الى الفراق و المقاطعة .
[ 98 ]
من كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، حامدين للَّه سبحانه على ما من به من توفيقنا لضم ما انتشر من أطرافه ، و تقريب ما بعد من أقطاره ، و تقرر العزم كما شرطنا أولا على تفضيل أوراق من البياض في آخر كل باب من الأبواب ليكون لاقتناص الشارد ،
و استلحاق الوارد ، و ما عسى أن يظهر لنا بعد الغموض ، و يقع إلينا بعد الشذوذ ، و ما توفيقنا إلا باللَّه : عليه توكلنا ، و هو حسبنا و نعم الوكيل .
و ذلك في رجب سنة أربعمائة من الهجرة ،
و صلى اللَّه على سيدنا محمد خاتم الرسل ،
و الهادي إلى خير السبيل ، و آله الطاهرين ،
و أصحابه نجوم اليقين .
[ 99 ]