(ص 133- 146)

  الباب الاول

 شخصية الامام (ع) ومراحل البناء

 

الفصل الاول: الولادة (صفحة 135 _ 146).

الفصل الثاني: أبو طالب والد الامام (ع) (147 _ 160).

الفصل الثالث: فاطمة بنت أسد أم الامام (ع) (161 _ 170).

الفصل الرابع: مع رسول الله (ص) أيام الطفولة والصبا (171 _ 196).

الفصل الخامس: الايمان بالله والتصديق لرسوله (ص) (197 _ 216).

__________________________________________

 

الفصل الاول

 الولادة

 

ولادة علي (ع)، الدلالات العلمية للنصوص: 1- شهرة الواقعة. 2- مغزى الولادة في الكعبة المشرفة. 3- فاطمة بنت أسد: العالمة الموحدة. 4- مزاعم قوى الصراع لتوهين تلك الكرامة. 5- علي (ع) بمنـزلة الكعبة. 6- أول هاشمي من هاشميين. 7- خبر الولادة في الكعبة ليس من أخبار الآحاد.

___________________________________________

 

ولادة علي (ع)

ولد امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) بمكة في بيت الله الحرام ليلة الجمعة لثلاث عشرة خلت من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل، ولم يولد قبله ولا بعده مولود في بيت الله الحرام، اكراماً له بذلك واجلالاً لمحلّه في التعظيم[1]. وكان عمر النبي (ص) عندئذٍ ثلاثين سنة، وذلك بعد تزوّجه (ص) من خديجة بخمس سنين، وقبل المبعث بعشر سنين. وقد قالت الشعراء قولها في تمجيد تلك المناسبة، منها قول الشاعر:

سلامةُ القلبِ نحتني عن الزّللِ         وشُعلةُ العلمِ دلّتني على العملِ

الى ان يقول:

طوبى لهُ كانَ بيتُ اللهِ مولِدَهُ            كمثلِ مولِدِهِ ما كان للرُسُلِ[2]

وروي انه عندما اقبلت فاطمة بنت أسد الى بيت الله الحرام وقد أخذها الطلق قالت: «ربِّ انّي مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب. وانّي مصدقة بكلام جدّي ابراهيم الخليل، وانه بنى البيت العتيق. فبحقّ النبي الذي بنى هذا البيت، وبحق المولود الذي في بطني لما يسّرت عليّ ولادتي»[3]. فاستجاب الله عزّ وجلّ دعائها ويسّر عليها ولادتها، وجعل مولودها خالداً في التأريخ. ولا شك أن ولادة علي (ع) كانت خارجة عن مجاري الطبيعة ومقتضيات الصدف والاتفاقات.

 الدلالات العلمية للنصوص

يلمس المحقق ان هناك دلالات علمية في موضوع ولادة علي (ع) في الكعبة المشرفة لابد من الوقوف عليها. ومن تلك الدلالات: شهرة الواقعة، وانها ليست من اخبار الآحاد، وان لها مغزى معيناً، وان شخصية فاطمة بنت اسد كانت تستحق تلك الميزة رغم مزاعم القوى المناوئة لتوهين تلك الكرامة، وان منـزلة علي (ع) كانت كمنـزلة الكعبة، فأين الغرابة في ان يرى نور الحياة لأول مرة بين جدارنها؟ وسوف نستعرض كلاً من تلك الدلالات.

1- شهرة الواقعة:

لم يتردد الكثير من المحققين بالجزم بأن ولادة امير المؤمنين (ع) في الكعبة من القضايا المشهورة في التأريخ الاسلامي التي اتفق عليها الفريقان. فـ «المنقّب في التأريخ والحديث جدّ عليهم بان هذه الفضيلة من الحقائق التي تطابق على اثباتها الرواة، وتطامنت النفوس على اختلاف نزعاتها على الاخبات بها. حيث لا يجد الباحث قط غُميزة في اسنادها، ولا طعناً في أصلها، ولا منتدحاً للكلام على اعتبارها وتظافر النقل لها وتواتر الاسانيد اليها...»[4]. ويثبت تلك الحقيقة شيخ المؤرخين علي بن الحسين المسعودي (ت 333 او 345 هـ) في «مروج الذهب» عند ذكره خلافة امير المؤمنين (ع)، ويجزم بها من غير تردّد فيقول: «وكان مولده في الكعبة»[5].

ويؤيده قول الآلوسي المفسر في شرح عينية عبد الباقي العمري عند قول الناظم:

انت العلي الذي فوق العلى رفعا        ببطن مكة عند البيت اذ وضعا

«وفي كون الامير (كرم الله وجهه) ولد في البيت امر مشهور في الدنيا، وذكر في كتب الفريقين السنة والشيعة... ولم يشتهر وضع غيره (كرم الله وجهه) كما اشتهر وضعه، بل لم تتفق الكلمة عليه. وأحرى بامام الائمة ان يكون وضعه فيما هو قبلة للمؤمنين، سبحان من يضع الاشياء في مواضعها وهو أحكم الحاكمين...»[6].

وهذا القول يفرز بعضاً من القضايا العلمية:

أولاً: اشتهار الولادة في الكعبة المشرفة شهرة تتجاوز كل الشكوك التي تثار غالباً حول موضوع من هذا القبيل. والمراد بالشهرة هنا، تواتر الرواية في كتب الفريقين على اقل التقادير.

ثانياً: قوله: «ولم يشتهر وضع غيره كرم الله وجهه كما اشتهر وضعه» يعني تفنيد المزاعم التي زعمت بأن حكيم بن مزاحم، وُلد في الكعبة، كما سنشير اليه لاحقاً.

ثالثاً: وقوله: «وأحرى بامام الائمة ان يكون وضعه فيما هو قبلة للمؤمنين...»، اعتراف بامامة امير المؤمنين (ع) والائمة (ع) من ولده. وهو قول جميل يصدر من مدرسة الصحابة بشأن امير المؤمنين (ع).

وفي «عُدّة الرجال» للمقدس الكاظمي: «وُلد امير المؤمنين (ع) بعد عام الفيل ومولد النبي بثلاثين سنة، في ايام هرقل يوم الجمعة في رجب، وقيل في شعبان في البيت الحرام، ولم يولد في البيت احد قبله ولا بعده...»[7].وقد اشار الاوردبادي (ت 1380 هـ) الى ان مصنف «عمدة الرجال» وجد خلافاً في شهر الولادة فاوعز اليه، لكنه لم يجد في حديث الولادة في البيت الحرام أي تردّد، فلم يعترض عليه ولم يأتِ برأي آخر. وتلك اشارة متينة. فلو وجد المقدس الكاظمي رأياً آخر له قيمة لما آثر تركه. فايراده بهذا الاسلوب يدلّ على انه كان قاطعاً به.

2- مغزى الولادة في الكعبة المشرفة:

وعلى اية حال، فان الولادة في مكان مقدس عند الاديان التوحيدية خصوصاً الاسلام لها أكثر من مغزى يمكن عرضه ضمن النقاط التالية:

أولاً: ان ام طالب لم تضع في الكعبة بحسب الاتفاق، حتى يُزعم بأن الوضع لم تكن فيه ميزة تكريم سماوية. فلم يكن الوضع اتفاقياً، بل «ان الفضيلة والكرامة في ان باب الكعبة كان مقفلاً. ولما ظهرت آثار وضع الحمل على فاطمة بنت أسد (رض) عند الطواف خارج الكعبة انفتح لها الباب باذن الله تعالى وهتف بها هاتف بالدخول...»[8]. ولو كان الامر اتفاقياً، لما كان له اثر عندئذٍ الا تلويث ذلك المكان المقدس بالمخاض. فيجيب عندئذٍ ازالته، لان الكعبة من المحال المحترمة ولا تجوز فيها النجاسة.

ولكن الوضع كان امراً من الله تعالى، وهذا «يزيد بن قعنب» احد الذين عاينوا الواقعة حيث دخلت ام طالب الكعبة يسترسل راوياً: «... فرأينا البيت قد انشق (أي انفتح) عن ظهره ودخلت فاطمة فيه وغابت عن ابصارنا، وعاد الى حاله (والتزق الحائط) فرمنا ان ينفتح قفل الباب فلم ينفتح، فعلمنا ان ذلك امر من الله تعالى. ثم خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها امير المؤمنين (ع)...»[9].

ولا منافاة بين الروايتين من حيث انشقاق الجدار، او فتح الباب بقوة اعجازية بعد ان عجز القوم عن كسر رتاج الباب. اما لجواز اجتماع الامرين، وذهول الراوي عن الجمع بينهما. واما ان حجم المعجزة وضخامتها وجعلت العيون ترى صوراً متوازية وتروي قضايا متباينة. وأقضى ما في الروايتين ان الامر كان غيبياً لم يتسنَ لهم معالجته.

ومهما كان امر الباب او الجدار، فان وضع ام طالب في ذلك المكان المقدس يعدّ تكريماً لوليدها واشارةً لميزته الرسالية، لان الوضع لم يكن اتفاقياً.

ثانياً: ان ما يصحب الولادة عادةً من خروج كيس المشيمة والدماء قد يؤدي الى نجاسة المكان الذي توضع فيه لامرأة. ولكن طهارة الكعبة تقتضي ان تكون ولادة علي (ع) طاهرة ايضاً من تلك النجاسات. ولم نقرأ في كتب التأريخ ولا حتى اشارة الى ان تلك الولادة قد تركت نجاسة في الكعبة المشرفة. والمتيقن ان الولادة الطاهرة لا تتم الا عن طريق لون من الوان التكريم الالهي للمولود. ويؤيده الرواية المروية في «معاني الاخبار» على لسان فاطمة بنت اسد: «ان مريم بنت عمران اوحي اليها ان اخرجي من بيت المقدس فانه بيت عبادة ولا بيت ولادة، فاني دخلت بيت الله الحرام فأكلت من ثمار الجنة وأرزاقها، فلما اردت ان اخرج هتف بي هاتف: يا فاطمة، سمّيه عليّاً فهو عليٌّ ...»[10]. فهي تعلم ان الكعبة بيت عبادة ايضاً لا بيت ولادة، ولكن طهارة الولادة وشأن المولود كانت مبرراً للوضع في بيت العبادة.

ويؤيد طهارة المولد ما ذكره السيد الحمْيَري (ت 179 هـ) في قصيدته:

ولدته في حرم الاله وامنه          والبيت حيث فناؤه والمسجد

بيضاء طاهرة الثياب كريمة         طابت وطاب وليدها والمولد

في ليلة غابت نحوس نجومها         وبدا مع القمر المنير الاسعد

ما لف في خرق القوابل مثله           الا ابن آمنة النبي محمد[11]

ولا شك ان قرب الشاعر الحميري من عصر النص، وقربه ايضاً من عصر انكار فضائل امير المؤمنين (ع) من قبل بني امية، يعدّ أثبت لمفاده من اخبار كثيرة.والحجة في شعر السيد الحميري ان ولادة علي (ع) كانت طاهرة كطهارة ولادة رسول الله (ص). ولو كان ذلك مخالفاً للمشهور والواقع السائد في ذلك الزمان لما استطاعت تلك القصيدة ان تمر بتلك السهولة في الفترة الدقيقة من تاريخ الاسلام من دون نقد او اعتراض او تعجب. والشاعر يسترسل في ذكر تلك الفضيلة كما لو استرسل في عرض حكم ثابت.

وقد اشار ابن شهر آشوب المازندراني (ت 588 هـ) الى طهارة الولادة، فقال: «فالولد الطاهر من الطاهر ولد في الموضع الطاهر، فاين توجد هذه الكرامة لغيره؟ فاشرف البقاع: الحرم، واشرف الحرم: المسجد، واشرف بقاع المسجد: الكعبة. ولم يولد مولود سواه. فالمولود فيها يكون في غاية الشرف، وليس المولود في سيد الايام: يوم الجمعة، في الشهر الحرام، في البيت الحرام سوى امير المؤمنين (ع)»[12].

وتؤيده ايضاً الرواية التي روتها امرأة من بني ساعدة للامام السجاد (ع) حيث قالت: «ان فاطمة بنت اسد [كانت] في شدة من المخاض، فأخذ [ابو طالب] بيدها وجاء بها الى الكعبة، وقال: اجلسي على اسم الله، فطلقت طلقة واحدة، فولدت غلاماً مسروراً نظيفاً منظفاً لم أرَ كحسن وجهه. وسماه عليّاً، وحمله النبي (ص) حتى اداه الى منـزلها »[13] وعقّب الامام زين العابدين (ع) على ذلك بالقول: فوالله ما سمعت بشيء قط الا وهذا أحسن منه[14].

ثالثاً: ان مقارنة فاطمة بنت اسد نفسها بمريم بنت عمران في الوضع وفي مكان الولادة يكشف في طياته عن منـزلة المولود. والا، فلا يكون للمقارنة وجه اذا لم يكن للمقارَنين خط مشترك، كالنبوة والولاية مثلاً. وما بينهما من الكمال والتسديد وطبيعة الوظيفة السماوية ما يقوي ذلك. وقد كان ذلك واضحاً في نبوة عيسى بن مريم (ع)، وولاية علي بن ابي طالب (ع).

3- فاطمة بنت اسد: العالمة الموحّدة

ان دعاء فاطمة بنت اسد يكشف عن علمها بالعقيدة التوحيدية الابراهيمية وايمانها بها. فدعاؤها يدل على انها كانت مؤمنة بما اُنزل من رسل وكتب سماوية، ومصدّقة بكلام جدّها ابراهيم الخليل (ع)، ومؤمنة بالله الواحد في حين كان السواد الاعظم من اهالي مكة يؤمنون بالوثنية ويتعبدون بالاصنام.

وفي رواية اُخرى انه عندما اخذها الطلق رمت بطرفها نحو السماء وقالت: «أي رب اني مؤمنة بك وبما جاء به من عندك [الرسل] وبكل نبي من أنبيائك، وبكل كتاب أنزلت... فأسلك بحق هذا البيت ومَن بناه وبهذا المولود الذي في أحشائي الذي يكلّمني ويؤنسني بحديثه. وانا موقنة أنه احدى آياتك ودلايلك، لما يسّرت عليَّ ولادتي»[15]. 

4- مزاعم قوى الصراع لتوهين تلك الكرامة:

لا شك ان شخصية مهمة في الاسلام كشخصية علي بن ابي طالب (ع) استقطبت الكثير من اهتمام الاعداء الذين تضررت مصالحهم الاجتماعية والسياسية من حزمه (ع) وشجاعته في الحروب والمعارك التي خاضها جنباً الى جنب مع رسول الله (ص). فكان الصراع الاجتماعي بين الاسلام وقادته من طرف وبين فحول الجاهلية الذين التحفوا بلحاف الدين لاحقاً من أجل مصالحهم الدنيوية من طرف آخر صراعاً فيه الكثير من الادوات لتزوير التأريخ، وقلب الروايات رأساً على عقب، وتبديل عناوين الكرامات والمعاجز، وتغيير الصفات ونحوها على ما نراه في ثنايا هذا البحث. فكان من لوازم الصراع الاجتماعي ان يُزعم ولادة شخص مزيّف في الكعبة ايضاً حتى يُستهان بأهمية تلك الكرامة التي خصّها الباري عزّ وجل لعليّ بن ابي طالب (ع). فاختلقوا ولادة «حكيم بن حزام بن خويلد» في الكعبة المشرفة[16]، توهيناً لولادة علي (ع). ولكن ذلك الاختلاق المزعوم لم يقدّر له الصمود فترة طويلة. فقد اجمعت الامة على اختلاف مذاهبها باختصاص تلك الكرامة بعليّ (ع).

فقد روى الحاكم النيسابوري (ت 405 هـ) عن مصعب بن عبد الله حول ولادة حكيم بن حزام المزعومة: «ان ام حكيم ولدته في الكعبة، ضربها المخاض وهو في جوفها، ولم يولد قبله ولا بعده في الكعبة أحد»[17]. وعلّق الحاكم النيسابوري على كلام مصعب بن عبد الله فقال: «وهمّ مصعب في الحرف الأخير[18]. وقد تواترت الاخبار ان فاطمة بنت اسد ولدت امير المؤمنين علي بن ابي طالب كرم الله وجهه في جوف الكعبة»[19]. وهذا التشكيك بولادة حكيم من الحاكم النيسابوري، المعروف بضبطه وتقدمه في العلم والحديث والرجال عند علماء السنّة، يحطّم ذلك الاختلاق المزعوم ويكشف انه انما اُفتعل من اجل التوهين بكرامة امير المؤمنين (ع). 

5- علي (ع) بمنـزلة الكعبة:

وقد توارترت الاخبار عن ذكر عظمة المؤمن وانه افضل من المسجد، بل انه اعظم من الكعبة ذاتها. فحرمة المؤمن عند الله اعظم من حرمة أشياء مقدسة جاءت قدسيتها بالجعل الالهي. ومن هنا ندرك ابعاد الروايات التي ذكرت ان عليّاً (ع) بمنـزلة الكعبة أو اعظم منها. وقد تناقل الرواة حديثاً عن علي (ع) يروي فيه خطاب رسول الله (ص) اليه (ع): «انت بمنـزلة الكعبة تؤتى ولا تأتي فان أتاك هؤلاء القوم فسلّموها اليك _ يعني الخلافة _ فاقبل منهم، وان لم يأتوك فلا تأتهم حتى يأتوك»[20]. وهذا يعني ان جلوسه في بيته خمسة وعشرين سنة كان باشارة من رسول الله (ص) والتزاماً بأوامره، ولم يكن خوفاً على نفسه أو عجزاً في وسائله. ويعني ايضاً انه (ع) بمنـزلة الكعبة من حيث القدسية والكرامة.

ومساواة علي (ع) بالكعبة منـزلة ليس غريباً، بل تؤيده مطلق الروايات التي تقول بعظمة المؤمن عند الله تعالى.

(منها): «ان المؤمن اعلى عند الله من ملك مقرّب»[21].

و(منها): «المؤمن اعظم من الكعبة».

و(منها): قوله (ع): «نحن مثل بيت الله الحرام يؤتى ولا يأتي»[22].

واذا كان هذا شأن المؤمن الذي ليست له خصوصية غير الايمان بالله عزّ وجلّ وأداء التكاليف، فما بالك بالمعصوم (ع) الذي سُدد بالعلم والالهام والكمال. فلا شك ان ولادته (ع) في ذلك المقام المنيف كانت شرفاً لمكة المكرمة. فلم يسبقه احد ولن يلحقه احد بتلك الكرامة. ولم يشرّف الله سبحانه احداً من الانبياء والاوصياء بهذا الشرف، فكان مخصوصاً به (ع).

وقد رفع الله تعالى منـزلة البيت الحرام بالقول: (... وعهدنا الى إبراهيمَ وإسماعيلَ أن طهّرا بَيتيَ ...)[23]. (وإذ جَعلنا البَيتَ مَثابَةً للنّاسِ...)[24] والمثابة هو المكان _ المقدس _ الذي يثوب اليه المكلّف كل عام، (... ولِيَطَّوّفوا بالبَيتِ العَتيقِ)[25]. وهذا كله لا ينافي ان يكون المؤمن _ فضلاً عن المعصوم (ع) _ اعظم من الكعبة. 

6- أوّل هاشمي من هاشميَين:

وتذكر المصادر التأريخية ولادة أمير المؤمنين (ع) وتقول: كان امير المؤمنين (ع) هاشميّاً من هاشميَين، واول من ولده هاشم مرتين[26]. ومعنى ذلك التقاء نسب أمه وأبيه في هاشم. فأمّه: فاطمة بنت اسد بن هاشم بن عبد مناف. وأبوه أبو طالب (عبد مناف) ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. فالقول هنا أن هاشم ولده مرتين، يعني ان اباه وامه يرجعان الى هاشم بالنسب. وكان ذلك اول قران بين هاشميَينَ. وذلك لان بني هاشم كانوا قد اعتادوا ان يصهروا الى اسر اخرى من قريش، قبل ان يتزوج ابو طالب من ابنة عمّه فاطمة بنت اسد. 

7- خبر الولادة في الكعبة ليس من اخبار الآحاد:

ان فقهاء الشيعة كانوا ولا يزالون يدققون عموماً في الروايات قبل ان يأخذوا بها. فقد رفضوا أخباراً كثيرة لانها لم تخرج مخرج التواتر، وعمل بعضهم بالخبر الواحد ورفض آخرون العمل بالخبر الواحد. وكلٌ له دليله الشرعي في ذلك. ومن الذين رفضوا الاخذ بالخبر الواحد: الشريف الرضي (ت 406 هـ)، والشيخ المفيد (ت 413 هـ)، والشريف المرتضى (ت 436 هـ)، والفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548 هـ). ولكنهم (رضوان الله عليهم جميعاً) ذكروا ولادة علي (ع) في الكعبة، مما يدلّ على ان خبر ولادته (ع) في ذلك المكان المقدس لم يكن من اخبار الآحاد.

فقد ذكر الشريف الرضي (ت 406 هـ) ولادة علي في الكعبة وقال: «... ولا نعلم مولوداً في الكعبة غيره»[27]. وذكر الشيخ المفيد (ت 413 هـ) ولادة علي (ع) في الكعبة وقال: بأن تلك كانت اكراماً من الله سبحانه له واجلالاً لمحلّه في التعظيم[28]. وذكر الشريف المرتضى (ت 436 هـ) ولادته (ع) في الكعبة واضاف: «... ولا نظير له في هذه الفضيلة»[29]. وذكر الطبرسي (ت 548 هـ) ولادة علي (ع) في الكعبة، وقال: «وهذه فضيلة خصّه الله تعالى بها اجلالاً لمحلّه ومنـزلته وإعلاءً لقدره»[30].

وهؤلاء الاعلام من الفقهاء والمدققين الذين يردون الاحاديث الى مخارجها الصحيحة، ولا يذكرونها في كتبهم الا بعد ان يقطعوا باسانيدها، وليس من مذهبهم الرجوع الى روايات مجهولة وآحادية. وبذلك نقطع بان ولادته (ع) في الكعبة كانت من الاخبار القطعية المتواترة.

ويؤيد ذلك ما ورد في الفاظ زيارة امير المؤمنين (ع): «السلام عليك يا من ولد في الكعبة، وزوّج في السماء بسيّدة النساء...»[31]. والمغزى منها ومن بقية زيارات الائمة (ع) ذكر مناقب اهل البيت (ع) ومزاياهم واحياء امرهم وذكرهم في المناسبات الدينية كالوفيات والولادات والمبعث الشريف حيث تحتشد الامة، فتقف على مقامهم الرفيع وتركن الى دورهم في الارشاد والهداية.

وبكلمة، فان الاجماع الذي حصل في صفحة رواية ولادة امير المؤمنين (ع) في الكعبة، قد وصل الى «حد التواتر»[32].

 (تليها ص 147- 160)

 

  اللاحق        صفحة التحميل           الصفحة الرئيسية


 

1 «نور الابصار في مناقب آل بيت النبي المختار» - الشبلنجي ص 156. و«المستدرك على الصحيحين» - الحاكم النيسابوري ج 3 ص 483. و«الفصول المهمة» - لابن الصباغ المكي المالكي ص 30. و«نهج الحق وكشف الصدق» - العلامة الحلي ص 232.

2 «الغدير» ج 11 ص 32 والقصيدة للشيخ محمد طاهر القمي (ت 1098 هـ).

3 «امالي الشيخ الصدوق» ص 114 ح 9. ايضاً: «معاني الاخبار» ص 62 ح 10.

4 «علي وليد الكعبة» - محمد علي الغروي الاوردبادي ص 1.

5«مروج الذهب» - المسعودي ج 2 ص 2.

6 «شرح عينية عبد الباقي العمري» - محمود الآلوسي ص 15.

7 «عُدّة الرجال» – المقدس الكاظمي ج 1 ص 54.

8 «احقاق الحق» - نور الله التستري – مخطوطة.

9«كشف الغمة» الاربلي ص 19 عن كتاب «بشائر المصطفى» مرفوعاً الى يزيد بن قعنب.

10 «معاني الاخبار» ص 62 ح 10.

11«المناقب» - ابن شهر آشوب ج 1 ص 360. نقلاً عن القاضي التستري في كتابه «مجالس المؤمنين».

12 «المصدر السابق» ج 1 ص 359.

13«الفصول المهمة» ص 14، رواها عن ابن المغازلي مرفوعاً الى علي بن الحسين (ع).

14 «المصدر السابق» ص 14.

15 في «امالي الشيخ الطوسي» باختلاف يسير.

16«شرح نهج البلاغة» ج 1 ص 14.

17 «المستدرك» - للحاكم ج 3 ص 483 – باب مناقب حكيم بن حزام.

18 همّ: من الهَمهَمَة وهو ترديد الصوت في الصدر.

19 «المستدرك» ج 3 ص 483.

20 «اُسد الغابة في معرفة الصحابة» - ابن الاثير ج 4 ص 31.

21 «سفينة البحار» - المحدث القمي ج 1 ص 35.

22 «بحار الانوار» - المجلسي. الطبعة القديمة ج 8 ص 84.

23 سورة البقرة: آية 125.

24 سورة البقرة: آية 125.

25 سورة الحج: آية 29.

26 «اُسد الغابة» ج 5 ص 517. و«التهذيب» للطوسي ج 6 ص 19. و«المستدرك» للحاكم ج 3 ص 180.

27 «خصائص الائمة» - الشريف الرضي. مخطوط.

28 «الارشاد» - الشيخ المفيد ص 3.

29 «شرح القصيدة المذهبة للسيد الحميري» - الشريف المرتضى ص 51. طبعة مصر.

30«اعلام الورى» - الطبرسي ص 93.

31 رواه السيد ابن طاووس (ت 664 هـ) في «مصباح الزائر» في زيارة امير المؤمنين (ع) يوم مولد النبي (ص) 17 ربيع الاول. تلك الزيارة التي علمها الامام الصادق (ع) للثقة الجليل محمد بن مسلم.

32 «غاية المرام» - التوبلي البحراني ص 13.