(ص 235- 250) الفصل السابع مرحلة الفَدى
علي (ع): اول مراحل الفَدى * الدلالات العلمية للنصوص: 1- الفداء: الدليل اللغوي. 2- الاحتجاج على الفقهاء: استدلال مدرسة المأمون. 3- فلسفة الايثار عند علي (ع): أ- مقدمة حول حب الذات والطبيعة الانسانية. أولاً: حب النفس. ثانياً: حب الغير. ثالثاً: حب الله. ب- الايثار: المقتضيات. ج- الايثار: النطاق الفلسفي: أولاً: نكران الرغبة البشرية في البقاء. ثانياً: نكران المصالح الذاتية. ثالثاً: الايثار ودوافعه الاخلاقية.
------------------- علي (ع): أوّل مراحل الفَدى كان علي (ع) مستعداً للذود عن رسول الله (ص) وافتداء نفسه الزكية رخيصةً من اجل المصطفى (ص) في كل وقت، وكان علي (ع) على درجة من التضحية والايثار في جميع مواطن ملازمته لخاتم الانبياء (ص). ولكن المصادر التأريخية تذكر واقعتين لهما خصوصية عظيمة فدى بهما علي (ع) نفسه من أجل رسول الله (ص). الاولى: المبيت في الشعب مكان رسول الله (ص). فقد «كان ابو طالب كثيراً ما يخاف على رسول الله (ص) البيات اذا عرف مضجعه وكان يقيمه ليلاً من منامه ويضجع ابنه علياً مكانه...»[1]. فكان علي (ع) يقدم نفسه للموت، فداءً لرسول الله (ص). الثانية: المبيت ليلة الهجرة. والرواية مشهورة عند الفريقين، فقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى: (وإذ يَمكُرُ بِكَ الذيَنَ كَفَروا لِيُثبِتُوكَ...)[2] قال: «تشاورت قريش ليلاً بمكة فقال بعضهم: اذا اصبح فاثبتوه بالوثاق _ يريدون النبي (ص) _ وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل اخرجوه، فاطلع الله عزّ وجلّ نبيه على ذلك. فبات علي (ع) على فراش النبي (ص) تلك الليلة، وخرج النبي (ص) حتى لحق بالغار. وبات المشركون يحرسون علياً (ع) يحسبونه النبي (ص) فلما اصبحوا ثاروا اليه، فلما رأوا علياً رد الله مكرهم. فقالوا: اين صاحبك هذا؟ قال: لا ادري. فاقتصوا اثره. فلما بلغوا الجبل خُلّط عليهم فصعدوا في الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث (ص) فيه ثلاث ليال»[3]. قال الشبلنجي في «نور الابصار» عارضاً فضائل أمير المؤمنين (ع): «فمن شجاعته نومه على فراش رسول الله (ص) لما أمره بذلك وقد اجتمعت قريش على قتل النبي (ص) ولم يكترث علي (رضي الله عنه) بهم، قال بعض أصحاب الحديث: اوحى الله تعالى الى جبرئيل وميكائيل (عليهما السلام) ان انزلا الى علي واحرساه في هذه الليلة الى الصباح فنـزلا اليه وهما يقولان: بخّ بخّ من مثلك يا علي؟ قد باهى الله بك ملائكته. واورد الغزالي في كتابه (احياء العلوم) ان ليلة [مبيت] علي (رضي الله عنه) على فراش رسول الله (ص) أوحى الله تعالى الى جبرئيل وميكائيل: اني آخيت بينكما وجعلت عمر احدكما اطول من عمر الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة، فاختار كلاهما الحياة وأحباها، فاوحى الله اليهما: أفلا كنتما مثل علي بن ابي طالب آخيت بينه وبين محمد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة. اهبطا الارض فاحفظاه من عدوه فكان جبريل عند رأسه وميكاويل عند رجليه ينادي ويقول: بخّ بخّ من مثلك يا ابن ابي طالب؟ يباهي الله بك الملائكة فانزل الله عزّوجل: (ومِنَ النّاسِ مَن يَشري نَفسَهُ ابتِغاءَ مَرضاةِ اللهِ واللهُ رؤوفٌ بالعِبادِ)[4]. وفي تلك الليلة انشأ علي (رضي الله عنه): وقيتُ نفسي خير من وطأ الحصى واكرم خلق طاف بالبيت والحجر وبتّ اراعي منهم ما يسوءني وقد صبرت نفسي على القتل والاسرِ وبات رسول الله في الغار آمناً وما زال في حفظ الاله وفي الستر[5] وكان مما نزل من القرآن في ذلك اليوم وما كانوا اجمعوا عليه: (وإذ يَمكُرُ بِكَ الذينَ كَفَروا لِيُثبِتُوكَ أو يَقتُلُوكَ أو يُخرِجُوكَ ويَمكُرونَ ويَمكُرُ اللهُ واللهُ خَيرُ الماكِرين)[6]، (أم يَقُولونَ شاعِرٌ نِتربَّصُ بِهِ رَيبَ المَنونِ . قُل تَربَّصوا فإنّي مَعَكُم مِنَ المُتَرَبِّصينَ)[7]، وفي علي (ع) نزل: (ومِنَ النّاسِ مَن يَشري نَفسَهُ ابتِغاءَ مَرضاةِ اللهِ...)[8].
الدلالات العلمية للنصوص لابد هنا من فهم مقتضب لمعاني الفداء والتضحية والايثار، وادراك دلالاتها التأريخية والشرعية والفلسفية. وبدون ذلك، فاننا قد لا نستطيع تقييم حجم تلك الفضيلة التي رافقت علياً (ع) خلال مراحل حياته وحتى استشهاده. 1- الفداء: الدليل اللغوي معنى الفِداء والفَدى. قال الجوهري: «الفِداء اذا كسر اول يمدّ ويقصر، واذا فتح فهو مقصور. يُقال: قُم فدىً لك ابي... وفَدَاهُ بنفسه، وفَدَّاه تَفديَةً اذا قال له: جُعلت فداءك»[9]. فيكون المراد بالفداء: التعظيم والاكبار، لان الانسان لا يفدي الا من يعظمه فيبذل نفسه له[10]. وقال الراغب الاصفهاني: «حفظ الانسان عن النائبة بما يبذله عنه... يقال فديته بمال وفديته بنفسي وفاديته بكذا»[11] وهو اقامة شيء في دفع المكروه[12]. وكان امير المؤمنين (ع) يعرف مقام النبي (ص) فكان يفديه بنفسه في المبيت. وبتعبير آخر، فان فدى علي (ع) نفسه لرسول الله (ص) كان بدافع التعظيم والاكبار الذي كان يكنّه له (ص) ولرسالته السماوية. 2- الاحتجاج على الفقهاء: استدلال مدرسة المأمون استدل علماء السنة على فضل ابي بكر بن ابي قحافة بمصاحبته النبي (ص) في الهجرة ؛ نستفيد ذلك في الاحتجاج الذي جرى بين المأمون العباسي والفقهاء من بقية الذاهب في عصره. ولكن الخليفة العباسي يحاجج هنا احد فقهاء المذاهب بنوم علي (ع) على فراش النبي (ص) ليلة الهجرة كدليل على افضلية الامام (ع) على من سواه. قال اسحاق بن إبراهيم: وان لابي بكر فضلاً. قال الخليفة العباسي: أجل. لولا ان له فضلاً لما قيل: ان علياً افضل منه، فما فضله الذي قصدت اليه الساعة؟ قلت: قول الله عزّ وجلّ: (... ثانيَ اثنينِ إذ هُما في الغارِ إذ يَقوُلُ لِصاحِبهِ لا تَحزَن إنَّ اللهَ مَعَنا...)[13] فَنَسَبتهُ الى صحبته. قال: يا اسحاق، اما اني لا احملك على الوعر من طريقك، اني وجدت الله تعالى نسب الى صحبته من رضيه ورضي عنه كافراً وهو قوله: (قالَ لَهُ صاحبُهُ وهُوَ يُحاورُهُ أكَفَرتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُطفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً . لكنّا هُوَ اللهُ رَبِّي ولا اُشرِكُ بِرَبِّي أحداً)[14]. قلت: ان ذلك صاحبٌ كان كافراً، وابو بكر مؤمن. قال: فاذا جاز ان ينسب الى صحبة من رضيه كافراً جاز ان ينسب الى صحبة نبيه مؤمناً، وليس بأفضل المؤمنين ولا الثاني ولا الثالث. قلت: يا امير المؤمنين ان قدر الآية عظيم ان الله يقول: (ثانيَ اثنينِ إذ هُما في الغارِ إذ يَقُولُ لِصاحبهِ لا تَحزَن إنَّ اللهَ مَعَنا...). قال: يا اسحاق تأبى الآن الا ان اخرجك الى الاستقصاء عليك، اخبرني عن حزن ابي بكر، أكان رضىً ام سخطاً؟ قلت: ان ابا بكر انما حزن من اجل رسول الله (ص) خوفاً عليه، وغمّاً ان يصل الى رسول الله شيء من المكروه. قال: ليس هذا جوابي، انما كان جوابي ان تقول: رضى ام سخط؟ قلت: بل رضى لله. قال: فكأن الله جل ذكره بعث الينا رسولاً ينهى عن رضى الله عزّ وجلّ وعن طاعته. قلت: أعوذ بالله. قال: او ليس قد زعمت ان حزن ابي بكر رضىً لله؟ قلت: بلى. قال: او لم تجد أن القرآن يشهد ان رسول الله (ص) قال له: (... لا تحزَن...) نهياً له عن الحزن. قلت: أعوذ بالله. قال: يا اسحاق، ان مذهبي الرفقُ بك لعلّ الله يردّك الى الحق ويعدل بك عن الباطل، لكثرة ما تستعيذ به. وحدثني عن قول الله: (... فأنزَلَ اللهُ سَكينَتَهُ عليهِ...)[15] من عنى بذلك: رسول الله ام ابا بكر؟ قلت: بل رسول الله. قال: صدَقت. فحدثني عن قول الله عزّ وجلّ: (... ويَومَ حُنينٍ إذ أعجَبَتكُم كَثرَتُكُم...)[16] إلى قوله: (ثُمَّ أنزَلَ اللهُ سَكينَتَهُ على رَسولِهِ وعلى المؤمنينَ...)[17] اتعلم مَن المؤمنون الذين اراد الله في هذا الموضع؟ قلت: لا ادري يا أمير المؤمنين. قال: الناس جميعاً انهزموا يوم حنين، فلم يبق مع رسول الله (ص) الا سبعة نفر من بني هاشم: علي يضرب بسيفه بين يدي رسول الله (ص)، والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله، والخمسة محدقون به خوفاً من ان يناله من جراح القوم شيء، حتى اعطى الله لرسوله الظفر، فالمؤمنون في هذا الموضع علي (ع) خاصّة، ثم من حضره من بني هاشم. قال: فمن افضل: من كان مع رسول الله (ص) في ذلك الوقت، ام من انهزم عنه ولم يره الله موضعاً لينـزلها عليه؟ قلت: بل ما انزلت عليه السكينة؟ قال: يا اسحاق من افضل: من كان معه في الغار، ام من نام على فراشه ووقاه بنفسه حتى تم لرسول الله (ص) ما اراد من الهجرة؟ ان الله تبارك وتعالى امر رسوله ان يأمر علياً بالنوم على فراشه وان يقي رسول الله (ص) بنفسه، فأمره رسول الله (ص) بذلك فبكى علي (رضي الله عنه) فقال له رسول الله (ص): ما يبكيك يا علي، أجزعاً من الموت؟ قال: لا، والذي بعثك بالحق يا رسول الله، ولكن خوفاً عليك. أفتسلم يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: سمعاً وطاعة وطيبة نفسي بالفداء لك يا رسول الله. ثم أتى مضجعه واضطجع وتسجّى بثوبه. وجاء المشركون من قريش فحفّوا به، لا يشكون انه رسول الله (ص). وقد اجمعوا ان يضربه من كل بطن من بطون قريش رجل ضربة بالسيف، لئلا يطلب الهاشميون من البطون بطناً بدمه. وعليٌّ يسمع ما القوم فيه من تلَف نفسه ولم يدعه ذلك الى الجزع كما جزع صاحبه في الغار، ولم يزل عليٌّ صابراً محتسباً فبعث الله ملائكته فمنعته من مشركي قريش حتى أصبح، فلما اصبح قام، فنظر القوم اليه فقالوا: اين محمد؟ قال: وما علمي بمحمد اين هو؟ قالوا: فلا نراك الا كنت مغرّراً بنفسك منذ ليلتنا. فلم يزل على افضل ما بدأ به يزيد ولا ينقص حتى قبضه الله اليه»[18]. الاستنتاج: هذه الرواية التأريخية! ارادت اثبات اربعة امور، كانت مدار حديث الساعة في زمن المأمون، وهي: 1 _ ان الصحبة يمكن ان تُنسب للمؤمن ولغير المؤمن، فلا يمكن الاستدلال بها على الافضلية. 2 _ ان الذي صحب رسول الله (ص) في الغار قد انهزم في حُنين من المعركة. 3 _ ان حُزن ابي بكر لم يكن في محله، لان رسول الله (ص) نهاه عن ذلك. 4 _ ان موقف علي (ع) يوم حُنين دفاعاً عن رسول الله (ص) وحمايته له وللرسالة، حيث انهزم من انهزم، هو الذي يجعله (ع) افضل من بقية المسلمين. وكذلك موقفه (ع) ليلة الهجرة ومبيته في فراش رسول الله (ص)، هو الذي حدد افضليته. ولكن الذي يضعّف هذا العرض من جانب المأمون، هو قضية بكاء علي (ع) ليلة الهجرة خوفاً على رسول الله (ص). وهو لا يختلف كثيراً عن حزن ابي بكر خوفاً عليه (ص) وغمّاً ان يصل اليه (ص) شيءٌ مكروه. فكلاهما يعبران عن عدم يقين بالله سبحانه. وقد لمسنا في البحوث السابقة ان علياً (ع) كان على اعلى درجات اليقين. فكيف نقبل ذلك التناقض؟ وبالاجمال، فان احتجاج المأمون على افضلية علي (ع) ومبيته في فراش رسول الله (ص) احتجاجٌ سليم وقوي، عدا ما اُقحم من قضية بُكاء علي (ع). فاننا، وبلحاظ المنهج العلمي، نرفضها قطعاً. لانها متناقضة مع الخط الفكري والايماني للامام (ع). 3- فلسفة الايثار عند علي (ع): لماذا يحبّ انسانٌ كعلي (ع) ان يقدم مصلحة رسول الله (ص) على مصلحته الشخصية؟ وكيف يستطيع علي (ع) ان يتغلب على عاطفته التي ينبغي ان تأمره بالمحافظة على نفسه اولاً؟ وما هو الخط الفاصل بين الايثار والانانية؟ أو بتعبير ثانٍ: ما هو الخط الفاصل بين حب الغير وحب النفس؟ ان الاجابة على تلك الاسئلة تتطلب دراسة عقلية ودينية ونفسية للطبيعة الانسانية. أ- مقدمة حول حبّ الذات والطبيعة الانسانية: لاشك ان الطبيعة الانسانية تحب الذات حباً مفرطاً، والى ذلك ذهب مذهب «الأنوية» الفلسفي القائل بان مصالح الفرد الذاتية هي اساس الانسان وسلوكه، وحب الذات هو محور اهداف الحياة. ولكن القرآن الكريم حطم تلك النظرية وقال بان للانسان طبيعة ثلاثية تتضمن: حب النفس او الذات، وحب الغير، وحب الله عزّ وجلّ. أولاً - حب النفس: يقول تعالى: (لا تحسبنَّ الذينَ يَفرَحُونَ بِما أتوا ويُحبّونَ أن يُحمَدوا بِما لَم يَفعَلوا فلا تَحسَبَنَّهُم بِمَفازَةٍ مِنَ العَذابِ...)[19]، أي لا تحسبن الذين انعم الله عليهم بالمال والدنيا بالنجاة من العذاب ولازمه حب النفس. ويخاطبهم ايضاً: (بَل تؤثِرونَ الحياةَ الدنيا)[20] وهو خطاب الى عامة الناس، سيق للعتاب، على ما يدعوا اليه طبعهم الانساني من التعلّق التام بالدنيا والانشغال بتعميرها. ويعتب عليهم في مورد ثالث: (وتُحبّونَ المالَ حُبّاً جَمّاً)[21] وفيه تقريع شديد لهم لحبهم المال حبّاً شديداً وعدم اطعامهم للمساكين. وحب المال يعكس مقدار حب النفس. ويشير الى طائفة من الناس يحبون انفسهم حبّاً عظيماً: (... وطائفَةٌ قَد أهمّتهُم أنفُسُهُم يَظنونَ باللهِ غَيرَ الحقِّ ظنَّ الجاهِليَةِ...)[22]، وهؤلاء ليس لهم همٌّ الا حفظ حياتهم الدنيا وحذرهم الشديد في عدم الوقوع في فخ القتل في الحرب. فهم يتظاهرون بالتدين حتى لا تُقطع رقابهم. فالدين عندهم عاملٌ غير مغلوب، ولذلك فانهم لا يريدون التظاهر بالتدين الا من اجل الانتفاع بالملذات التي يجلبها الدين لهم في الحياة الدنيا. وتلك مصاديق من حب الذات حبّاً مفرطاً الى درجة التعلق بالباطل من اجل ارضائها. ثانياً- حب الغير: وهنا ينشطر حبّ الغير الى احد قسمين: اما حب الباطل، واما حب الحق. فمن حب الباطل والشر: (ومِنَ النّاسِ مَن يَتّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أنداداً يُحبُّونَهُم كَحُبِّ اللهِ...)[23] وهو حب الاصنام من دون الله سبحانه. (وإنَّهُ لحبِّ الخَيرِ لَشَديدٌ)[24]، قيل ان الخير هنا معناه المال. ولكن لا يبعد ان يكون المراد بالخير مطلقهُ، فحب الخير فطري عند الانسان. فيرى عرض الحياة الدنيا وزينتها خيراً فينجذب اليها وينسيه ذلك ذكر ربه. ومن حب الخير والحق: (... ويُؤثِرونَ على أنفُسِهم ولَو كانَ بهم خَصاصَةٌ...)[25]. وهؤلاء هم الانصار الذين وصفهم الله بأحسن وصف، لانهم كانوا يقدمون غيرهم على انفسهم حتى لو كان بهم فقر وحاجة. وهو وصف رائع لحب الخير. ثالثاً- حب الله: يقول تعالى: (... يُحبُّونَهُم كَحُبِّ اللهِ والذينَ آمَنوا أشدُّ حُبّاً للهِ...)[26]، وهذه الآية ادانت بعضاً من الناس من الذين يحبون آلهتهم من الاوثان ويعبدونها. وأشارت الى ان المؤمنين اشدّ حبّاً لله. ذلك: انهم يحبونه عن علمٍ ودرايةٍ بانه المنعم ابتداءً، وانهم يخلصون العبادة والتسبيح له، وانهم يعلمون ان له الصفات العليا والاسماء الحسنى وانه الحكيم الخبير. وفي آية اُخرى: (ويُطعِمونَ الطعامَ على حُبِّهِ مِسكيناً ويَتيماً وأسيراً)[27]، فالمراد بحبه في هذه الآية، اشتياق النفس للطعام لشدة حاجتها اليه. وهنا حدد الاسلام مقدار ما يُدين به الفرد لنفسه ومقدار ما يُدين به للآخرين ولخالقه عزّ وجلّ. وشدد على الايثار كقيمة اخلاقية ينبغي ان يكتسبها المؤمن في حياته العامة والخاصة. لقد كانت الرسالة السماوية في البداية بحاجة الى جهد جماعي متضافر من اجل تبليغ فحواها واهدافها الى البشرية كي تؤمن بها وتدافع عنها. وتركيبة دينية تضمُّ افراداً على رأسهم رسول الله (ص) وعلي بن ابي طالب (ع) ونخبة طيبة من الموالين لرسول الله (ص) واهل البيت (ع) لابد ان تنتصر على اعدائها. ذلك لان التضافر والتآزر الذي كان يشدّ تلك التركيبة اوصلها الى درجات عليا من الايثار وتفضيل الغير على الذات. فقد كان علي (ع) مثال الفداء والتضحية والايثار من اجل رسول الله (ص). والى ذلك يفسر مكوثه في مكة ليلة هجرة رسول الله (ص) ومبيته في فراشه، وهو يعلم تماماً المخاطر التي كانت تنتظره تلك الليلة والليالي القادمة التي سبقت هجرته (ع) مع الفواطم الى المدينة. ب - الايثار: المقتضيات ان فداء علي (ع) بنفسه لرسول الله (ص) كان يكشف عن انه (ع) قد وهب نفسه للدعوة الاسلامية وقائدها (ص). فقد كان (ع) لا يكترث لذاته أوقعت على الموت أو وقع الموت عليها. وهنا اظهر الامام (ع) بايثاره ذلك ثلاث خصال على درجة كبيرة من الاهمية، وهي: الاولى: الاقرار بنبوة محمد (ص) والتضحية من اجلها من اجل الحفاظ على قائدها (ص). الثانية: انه كان الدافع الحقيقي عن رسول الله (ص)، وأقصى ما يفعله المُؤْثِر ان يقدم للمؤْثَر له نفسه وجسده. الثالثة: ان طبيعة علي (ع) كانت ترى الموت والحياة في الله على وتيرة واحدة وحد سواء. فاذا كان في الموت رضىً لله سبحانه فمرحباً بالموت. واذا كان في الحياة _ بخشونتها وآلامها _ رضىً لله عزّ وجلّ فمرحباً بها وسيلة من وسائل نشر الدين. والى ذلك يشير (ع) ضمن كلام له لما قبض رسول الله (ص): «... واللهِ لابن ابي طالب انسُ بالموتِ من الطفل بثدي امه...»[28]. فالايثار عند علي (ع) لم يكن حباً للذات، بل كان حباً لله سبحانه وذوباناً في القيم العليا والصفات الاسمى. ان تضحية علي (ع) في المبيت ليلة الهجرة انقذت النبي (ص) من موت محقق على يدي ازلام قريش. فقد قرأنا قبل لحظات ان رسول الله (ص) عندما أمره بالمبيت، قال (ع): سمعاً وطاعة وطيبة نفسي بالفداء لك يا رسول الله[29]. وهذا يعني ان الفداء كان من اجل سلامة النبي (ص) وحفظ حياته الشريفة. وتلك اللغة المملؤة حباً وأدباً وتضحيةً وايثاراً تعكس طبيعة علي (ع) الانسانية الدينية التي لا تمتلك الا دوافع الايثار والتضحية، والفهم الكامل للدين، والادراك الشامل لمعاني الحياة والموت والبعث. فلا ريب ان يكون تخلي الانسان عن غريزته في البقاء وحب الحياة من اجل عقيدته، ممثلاً لاقصى درجات الايثار. ومن هنا نفهم ان الايثار عند المعصوم (ع) قاعدة أخلاقية من قواعد شخصيته الرسالية. فالمعصوم (ع) لا يصنع الايثار من اجل قناعة ذاتية او مصلحة شخصية. بل انه صمّم شخصيته الدينية على اساس ان تكون المثل الاعلى في الدين. ولذلك وصف الله سبحانه وتعالى المعصومين (ع) في محكم كتابه بصفات كمالية مثل: (... ويُؤثِرونَ على أنفُسهم ولَو كانَ بِهم خَصاصَةٌ)[30]، (ويُطعِمُونَ الطعامَ على حُبِّهِ مِسكيناً ويَتيماً وأسيراً. إنَّما نُطعِمُكُم لِوَجهِ اللهِ لا نُريدُ مِنكُم جزاءً ولا شُكُوراً)[31]، (ومِنَ النّاسِ مَن يَشري نَفسَهُ ابتِغاءَ مَرضاةِ اللهِ واللهُ رَؤوفٌ بالعِبادِ)[32] وغيرها من الصفات الكمالية المحمودة. والطبيعة الانسانية لانسان مثل علي بن ابي طالب (ع) تكشف عن ان دوافعه جميعاً تخضع لطاعة الله سبحانه واحكامه الدينية التي هي احكام اخلاقية بالدرجة الاولى. فهو (ع) لا يرى لنفسه مصلحة ذاتية غير مصلحة الدين والحفاظ على افكاره وشخصياته من الدرجة الاولى كشخصية رسول الله (ص). وبمعنى آخر ان مصلحة علي (ع) الذاتية ذابت تماماً في مصلحة الدين وملاكاته واهدافه العليا في الحياة الانسانية. والفرق هنا بين علي (ع) وغيره من الذين دخلوا الاسلام ظاهراً هو ان اولئك كانوا يرون ان مصلحتهم الذاتية ينبغي ان تتقدم في اغلب الاحيان على الآخرين، ولذلك تراهم يؤخرون الاجابة الى الاسلام تارةً، ويفرون من المعارك تارةً اُخرى، ولا يتقدمون عندما يناديهم رسول الله (ص) ثالثة، ويشبعون ويتركون الفقراء يئنون من الجوع رابعة. وهنا انكسرت عندهم قواعد الايثار، بشعور او دون شعور. فالفرد _ في الحالات الغالبة _ ينظر لمصلحته الذاتية اولاً قبل ان يتقدّم الآخرين. والايثار حالة استثنائية عند الناس. ولكننا لو تأملنا في حياة علي (ع) لرأينا ان الايثار هي الحالة الغالبة في حياته التي ختمها بالشهادة في سبيل الله تعالى. فنظرة معمّقة لفلسفته في التضحية ترى ان عملية الايثار بالنسبة له (ع) لا تعني خسارة للنفس والمال، او فقدان للملكية بعنوانها العام. بل ان كل ما يملكه (ع) هو ملك لله سبحانه وادوات للدين وللرسالة السماوية، فايثاره يعني انه امين على نفسه يحاول ارجاع الامانة الى صاحبها عزّ وجلّ وارجاع ما بيده الى الناس. فكانت مشاعر علي (ع) تجاه رسول الله (ص) في التضحية والايثار تشبه مشاعر «الاندماج» بين التلميذ المخلص واستاذه، فهو (ع) خليفته (ص) ووزيره وحامل لوائه الا انه لا نبي بعده. فتلك المشاعر تعكس حجم الانعكاس الانسجام الفكري والروحي بين النبوة والامامة. فليس هناك مسائل فردية في حب الذات، أو الخوف من الموت، او الحفاظ على المصالح الشخصية بقدر ما هو اندماج واندكاك في الرسالة وقائدها واهدافها. وذلك الاندماج يفرز شعوراً بالسعادة في التضحية من اجل رسول الله (ص). والرغبة في التضحية تنبع من الرغبة المطلقة في التعلق بالله تعالى وبالوجود الكامن وراء الغيب. ج - الايثار: النطاق الفلسفي وهنا يمكن بحث ثلاث نقاط فلسفة في فلسفة الايثار عند علي (ع) تكشف عن: عمق شخصية الامام، وطبيعة ارتباطه بالدين، وخطورة الظرف الذي كان يتم فيه الايثار، وعمق الانسجام الفكري والعقائدي بينه (ع) وبين خاتم الانبياء (ص). أولاً: نكران الرغبة البشرية في البقاء: عندما يريد الانسان شيئاً، كالبقاء على قيد الحياة مثلاً، فان مجرد البقاء قد لا يمنحه لذة ولا يقدم له سعادة مرجوّة. ولكن تحقيق ما يريده من البقاء على قيد الحياة قد يُشبع عنده رغبة من رغباته النفسية والجسدية. وعندما لا يُشبع الانسان رغباته في الحياة والوجود، فانه سيبقى باحثاً عن اشباعها. فليس من الضروري ان يرتبط التشبث بالبقاء على قيد الحياة باللذة الجسدية. فقد يفضل الانسان الفقير او المعذّب الحياة مع الفاقة والحاجة، على الموت. وبذلك فان الرغبة في البقاء على قيد الحياة ليست مرتبطة بمقدار اللذة التي يجنيها من بقائه حياً. بل ان تلك الرغبة شعور غريزي لا يمكن الا للقلّة او النخبة الافلات منه. وهذا الشعور الغريزي في التشبث بالحياة الدنيا له منشأ مرتبط برغبة الانسان الغريزية نحو البقاء على قيد الحياة. الا ان ذلك لم نلحظه في حياة امير المؤمنين (ع)، فقد كانت رغبته في الحياة الدنيا صفراً. ذلك ان حياته كانت وقفاً للدين، لا رغبة في الحياة والتمتع بلذائذها ومتعها. ويتجلى هذا المعنى عند التأمل في تضحياته (ع) واستعداده الكامل نحو حماية النبي (ص) على فراشه، او في القتال في ساحات الوغى، او الاقتحام الجريء في المعارك الطاحنة. فرغباته الشخصية (ع) كانت متطابقة مع آمال الدين في التضحية والشهادة من اجل نشر العدالة السماوية على الارض. ثانياً: نكران المصالح الذاتية: لو تسائل متسائل: هل ان تحقيق العدالة مع المحكومين انفع للحاكم من ظلمه لهم؟ لكان جوابنا هو: ان الجواب يعتمد على طبيعة الحاكم الذي يُوجّه اليه السؤال، فلو كان عادلاً لآمن بان تحقيق العدالة بين الناس انفع له كحاكم. ولو كان ظالماً لآمن بان ظلم الآخرين انفع له كحاكم. فهنا اختلف الجواب لان المصالح الذاتية اختلفت من حاكم اآخر. ولا شك ان المصلحة الذاتية تحدد الدافع نحو العمل في ظروف معينة. فعندما يأكل الانسان طعاماً طيباً في بلد يفيض بالخيرات والطيبات، فانه يتصرف بوحي مصلحته التكوينية، ولا ضير في ذلك ما دام الخير كثيراً. ولكنه لو أكل نفس نوعية ذلك الطعام في وقت مجاعة يتضور فيها ارحامه وجيرانه جوعاً وألماً، لعُدَّ ذلك اهتماماً بمصلحته الذاتية وتكريساً لفكرة الانانية. ولو كان رسول الله (ص) أمر علياً (ع) بالمبيت على فراشه وهو بالمدينة وقت سلم وامان لما انطوى ذلك العمل على شيء مهم، لانه لا يبرز انكاراً لمصلحة ذاتية. ولكن الامر حصل في ظرف خطير، حيث تجمع ممثلو بطون العرب ليقتلوا رسول الله (ص). فنام علي (ع) في فراش النبي (ص) تحت ظل السيوف، لا يدري أيسفكُ دمه وهو على فراش النبي (ص). هنا تجلى عند علي (ع) انكار الذات والترفع عن المصالح الذاتية بأجلى صورها. فنفهم من تلك الافكار ان المصلحة الذاتية مرتبطة بالظروف اكثر مما هي مرتبطة بمقدار العمل الذي يقوم به المضحّي. بمعنى ان ما ميز ايثار علي (ع) ليلة الهجرة هو ان الظرف الذي كان يمرُّ به رسول الله (ص) والرسالة التي كان يحملها كان صعباً للغاية، وكانت التضحية جسيمة جداً، ولذلك كان انكار الذات او الترفع عن المصلحة الذاتية عند علي (ع) في ذلك الموقف ضخماً وعملاقاً. ثالثاً: الايثار ودوافعه الاخلاقية: ان الايثار _ بمعناه الحقيق _ لا يتم ما لم يكن هناك انسجام فكري وعقائدي وروحي بين المُؤثِر والمُؤثَر له. ولو لم يكن هناك انسجام فكري لبرزت المصلحة الذاتية في المقدمة، وانتفى الايثار. ولا شك ان الانسجام الفكري والعقائدي والروحي بين رسول الله (ص) وعلي (ع) كان تاماً. فاليقين بالرسالة، والقطع بالنبوة، والثقة بنصر الله سبحانه، جعلت من قضية ذلك الايثار امراً حتمياً. ودوافع محمد (ص) وعلي (ع) في نشر الاسلام مندمجة ومندكة، لا يفصلها شيء. وما كان يميزها ان علياً (ع) كان ينقاد لرسول الله (ص) وينفذ اوامره. فكان ايثار علي (ع) في المواقف الصعبة تلك منحصراً في انقاذ حياة رسول الله (ص). وفي ضوء هذا المعنى نفسر رواية الشبلنجي في «نور الابصار»[33] في قصة المؤاخاة بين جبرئيل وميكائيل ومباهاة الله سبحانه الملائكة بتضحية علي (ع) من اجل رسول الله (ص). فذلك اليثار ودوافعه دلّ عى انسجام فكري تام بين المُؤثِر والمُؤثَر له. (تليها ص 251 - 268)
السابق اللاحق صفحة التحميل الصفحة الرئيسية [1] «شرح نهج البلاغة» ج 14 ص 64. [2] سورة الانفال: آية 30. [3] «مسند احمد» باسناده عن ابن عباس ج 1 348. و«اُسد الغابة» ابن الاثير ج 4 ص 25. و«الفصول المهمة» - ابن الصباغ ص 33. [4] سورة البقرة: آية 207. [5] «نور الابصار» - الشبلنجي ص 100. [6] سورة الانفال: آية 30. [7] سورة الطور: آية 30 – 31. [8] سورة البقرة: آية 207. [9] «الصحاح» ج 4 ص 2453. [10] «النهاية» - ابن الاثير ج 3 ص 422. [11] «المفردات في غريب القرآن» - الراغب الاصفهاني ص 374. [12] «تاج العروس» ج 1 ص 278. [13] سورة التوبة: آية 40. [14] سورة الكهف: آية 37 – 38. [15] سورة التوبة: آية 40. [16] سورة التوبة: آية 25. [17] سورة التوبة: آية 26. [18] «العقد الفريد» ج 5 ص 97. [19] سورة آل عمران: آية 188. [20] سورة الاعلى: آية 16. [21] سورة الفجر: آية 20. [22] سورة آل عمران: آية 154. [23] سورة البقرة: آية 165. [24] سورة العاديات: آية 8. [25] سورة الحشر: آية 9. [26] سورة البقرة: آية 165. [27] سورة الانسان (الدهر): آية 8. [28] «نهج البلاغة» - طبعة حجرية. ص 28. [29] «العقد الفريد» ج 5 ص 97. [30] سورة الحشر: آية 9. [31] سورة الانسان: آية 8 – 9. [32] سورة البقرة: آية 207. [33] «نور الابصار» ص 100.
|