(ص 40 - 62)

 9 - علي (ع) في المدينة: الاهتمام الاستثنائي بالقرآن المجيد

واهتمّ الامام (ع) في المدينة وبالقرب من رسول الله (ص) بالقرآن الكريم كتابةً وجمعاً وحفظاً. وكان ذلك الاهتمام غير منفك عن اهتمامٍ آخر وهو القتال في سبيل الله في المعارك والغزوات التي ابقت شوكة الدين قوية فعالة. ولكن الاهتمام بالقرآن الكريم كان اهتماماً استثنائياً، فلاعجب ان يقول (ع): «والله ما نزلت آية الاوقد علمتُ فيما أنزلت وأين نزلت، وان ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا سؤولا»[1]. واهتم بالخصوص بـ«جمع القرآن على عهد رسول الله (ص)»[2] حتى يُصان من التحريف بعد رحيل خاتم الانبياء (ص).

فليس عجبا أن نرى النبي (ص) يبذل وقتاً مديداً وجهداً طائلاً من أجل تعليم علي (ع) معاني القرآن الكريم واسراره وخفاياه. وكان (ع) يجهر بذلك مصرّحا: «ما نزلت على رسول الله  (ص) آية من القرآن الا أقرأنيها وأملاها عليّ فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها، وتفسيرها، وناسخها، ومنسوخها، ومحكمها، ومتشابهها، ودعا الله عز وجل ان يعلمني فهمها وحفظها. فما نسيت آية من كتاب الله عز وجل ولا علماً أملاه عليّ فكتبته وما ترك شيئا علمه الله عز وجل من حلال، ولا حرام، ولا أمر، ولا نهي، وما كان أو يكون من طاعة أو معصية الا علمنيه وحفظته، فلم أنس منه حرفاً واحداً. ثم وضع يده على صدري ودعا الله تبارك وتعالى، بان يملأ قلبي علماً وفهماً، وحكمةً ونوراً، ولم أنس من ذلك شيئا ولم يفتني من ذلك شيء لم اكتبه...»[3].

ولم تنحصر الكتابة بعليّ (ع)، ولم يكن الكاتب الوحيد للوحي، بل اشرك رسول الله (ص) افراداً آخرين بجانب علي (ع) منهم: زيد بن ثابت، وابيّ بن كعب الانصاري، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهم. والعلّة في ذلك هو ان تثبت الامة - بكافة مذاهبها وطوائفها ومتبنياتها- بعد وفاة رسول الله (ص) على قرآن واحد متفق على صحته، مصون بين الدفتين. فكتابة القرآن ليست كالولاية الشرعية، فالكتابة تقتضي التعدد بينما تنحصر قضية الولاية الشرعية بشخصية واحدة. وتعدد الكتّاب واختلاف مذاهبهم يثبت صحة القرآن. بينما يؤدي تعدد الطموحات نحو كسب مقعد الولاية الشرعية الى صراع وربما الى تراجع مؤقت في تطبيق الافكار السياسية التي جاء بها الاسلام.

وكان الكتّاب يكتبون القرآن على الجلود «الرقاع»، وجرائد النخل «العسب»، وصفائح الحجارة الرقيقة «اللخاف»، وعظام الجمال الجافة العريضة «الاكتاف»، وصحف الحرير، والاخشاب «الاقتاب» حيث تُنقش عليه الحروف والكلمات. وقد ورد في الروايات ان عليا (ع) جمع القرآن المكتوب على جرائد النخل، واكتاف الابل، والصحف، والحرير، والقراطيس.

وكتابة الوحي مقيّدة تماما بالنقل الامين لالفاظ القرآن الكريم على صحف متداولة في ذلك الزمان، على شكل كلمات وحروف. فهي لا تتضمن ابداعاً للافكار والآراء، أو تبادلاً للقيم بين الكاتب والقارىء، ولا تتضمن احكاماً يصدرها المؤلف للمخاطَبين. فالكتابة هنا مختصة فقط بالامانة القصوى والدقة المتناهية في نقل الخطاب الشفهي الى مادة مكتوبة. فكاتب الوحي يحتاج - ضمن خصائصه- الى ملكة من التقوى والخوف من الله سبحانه ويقين تام بالدرجة الاولى، وقدرة على الكتابة والقراءة بالدرجة الثانية. وقد كان أفضل المرشحين لذلك العمل على الاطلاق: علي بن ابي طالب (ع). وكانت البقية من الافراد من اتجاهات شتى مثل: زيد بن حارثة، وعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله ابن ابي سرح الذي ارتد لاحقاً وغيرهم من الذين كتبوا القرآن. وانما سَمَحَ لهم رسول الله (ص) بالكتابة، من أجل اتمام الحجة على الاعداء. والاّ، فان خط علي (ع) كان كافياً لصيانة القرآن الكريم.

وليس غريباً ان نجرم بان الحفاظ على القرآن المجيد مصوناً بين الدفتين عبر التدوين، ساهم دون شك في حفظ افكار القرآن، ومفاهيمه، وكلماته، ورسالته السماوية في الهداية. وبذلك اصبح الكتاب السماوي المجيد يعيش في وراء حدود الاجيال، والثقافات، والعلوم، والمعرفة الحقة المتجددة مع تغير المجتمعات الانسانية. وهذا يفسّر لنا الاهتمام البالغ الذي اولاه الامام (ع) لكتابة القرآن المجيد في حياة رسول الله (ص)، والاهتمام الشديد بجمعه بعد وفاته (ص) مباشرة.

 

10 - علي (ع): الحياة العائلية

وكان زواج علي (ع) بفاطمة الزهراء (ع) بنت رسول الله (ص) واشرف النساء حسباً وديناً وعفةً في السنة الثانية من الهجرة، يقتضي تنظيماً جديداً للعلاقات الاجتماعية، بما فيها السكن الجديد للزوجين والعلاقات السببية الناتجة من آثار الزواج. 

متاع البيت والعلاقة السببية:

وكان متاع البيت الجديد يشمل أبسط الادوات المستعملة في ذلك الزمان وأقلّها كلفة، كالادوات المنـزلية المصنوعة من الخزف - وهو الطين المفخور- والفراش المصنوع من ليف النخل والكتان الخشن. في حين كانت نساء مكة يفترشن الحرير، ويلبسن ما تنتجه الصين والهند واليمن من ملابس واقمشة تنقلها القوافل العابرة الى الشام، ويستخدمن ما تنتجه بلاد الروم من أواني مصنوعة من الفضة والذهب. ولذلك عندما نظر رسول الله (ص) الى متاع فاطمة الزهراء (ع) بكى (ص) ثم رفع رأسه الى السماء وقال: «اللهم بارك لقومٍ جلّ اوانيهم الخزف»[4]. وكان بكاؤه (ص) ودعاؤه دالاً على امضاء منهج علي (ع) وفاطمة (ع) في اختيار الطريق الصعب في الحياة الاجتماعية؛ وهو طريق الزهد في الدنيا والقبول بشظف العيش من أجل الدين.

اما العلاقات السببية الناتجة من آثار الزواج، فنقول ان ذلك الزواج يُفهم على اساس انه كان تحالفاً بين طرفين ستربطهما رابطة دم جديدة بالاضافة الى رابطة الرحم القديمة. فهذا الاقتران يحمل دلالات دينية واجتماعية ينبغي التأمل فيها. فان من مقتضيات اقترانهما ان بيت النبوة والامامة بات مركزاً لاهتمام المسلمين جنباً الى جنب مع القرآن الكريم، سواءً كان في حياته (ص) أو بعد وفاته. ذلك لان تركيبة أهل بيت النبوة (ع) المكونة من رسول الله (ص) وعلي وفاطمة والحسنين (عليهم السلام جميعاً)، كانت مصدر العطاء الفكري العملي بعد القرآن الكريم. وكانت القدوة الاخلاقية العليا للامة على مر الزمن.

وكان من آثار زواجهما تهيئة نسل طاهر معصوم يحفظ رسالة الاسلام الى يوم القيامة، بعد ان كان ذلك الاقتران تحالفاً قدسياً بين النبوة والولاية، أي بين محمد رسول الله (ص) وعلي (ع) وصي رسول الله (ص) من أجل الاسلام واعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى. والخصوصية في ذلك تكمن في ان ذلك الاقتران كان يعني استمرار الفكرة او الرسالة التي يحملانها الى الجيل الجديد عبر ذريتهما. ولذلك فان اقترانهما كان انتصاراً للفكرة التي يحملانها. وبتعبير آخر ان عملية التزاوج تلك عكست مبدأ الحفاظ على الرسالة الدينية اكثر مما عكست مجرد اشباع العواطف والرغبات المشروعة.

وبذلك فقد ضمت أسرة علي وفاطمة (عليهما السلام) خصائص ديمومة، مستقاة من رسول الله (ص) وهي: الارث، والولاية، والنسب. فالارث كان متمثلاً بانتقال ملكية رسول الله (ص) بعد وفاته الى ابنته الوحيدة (ع) من خديجة بنت خويلد. والولاية كانت متمثلة بانتقال المنصب الالهي الى علي (ع) بالامامة بعد التحاقه (ص) بالرفيق الاعلى، لانه لا نبي بعد رسول الله (ص). وهو الذي قال (ص): «... اما ترضى ان تكون مني بمنـزلة هارون من موسى غير انه لا نبي بعدي»[5]. والنسب كان متمثلاً بانتقال العوامل الوراثية النبوية من رسول الله (ص) الى ابنته الطاهرة فاطمة (ع)، ومن فاطمة وعلي (ع) الى ذريتهما الطيبة الطاهرة. فكانت الذرية الطاهرة تحمل صفات جدها (ص) وخصاله الحميدة في الكرم والشجاعة والاخلاص والتضحية والتفاني والعلم والتقوى والتعبد. ولاشك ان انتقال الملكية، والمنصب الالهي، والعوامل الوراثية بشكل متوازٍ في أسرة واحدة، يشكل ظاهرة فريدة في الاسلام. فلم توفق أسرة رسالية الى مثل ذلك التوفيق العظيم. 

الكفؤ والكفاءة:

والقاعدة، ان عملية الزواج العرفية تقوم على اساس انها علاقة بين رجل وامرأة اعترف بها المجتمع وأقرّها. بينما نفهم ان لزواج علي وفاطمة (عليهما السلام) _ اضافة الى الاقرار الاجتماعي به _ اقراراً آخر، وهو اقرار السماء وايمان الملائكة بملاكه ومصلحته. ويؤيده قول رسول الله (ص): «ان الله امرني ان ازوج فاطمة من علي»[6].

ومعناه ان شرعية زواج علي (ع) من فاطمة (ع) لم تكن مؤسسَة حسبما يقتضيه العرف الاجتماعي والديني على الارض فحسب، بل كانت لشرعية ذلك الزواج قدسية معينة في السماء. ذلك لان للزوجين خصائص روحية وعقلية، وطاقات كامنة فريدة لا شبيه لها على الارض. فالمرأة التي لها منـزلة دينية كفاطمة بنت رسول الله (ص) لابد ان تقترن برجل له منـزلة دينية كعلي بن ابي طالب (ع)، حتى يكون الزواج متكافئاً في عالمي الشهادة والغيب. والتكافؤ كان مخصوصاً في العصمة في فهم احكام الدين وادراك معانيه العظيمة.

ومن هنا كثر تناقل قول رسول الله (ص) على ألسن المؤرخين والفقهاء: «لولا علي لم يكن لفاطمة كفؤ». ولذلك فانه (ص) لم يزوج فاطمة (ع) لابي بكر ولا لعمر بن الخطاب، مع انهما كانا يترددان عليه (ص) ويسألانه عن فاطمة (ع). فكان يجيبهم ان أمرها عند الله سبحانه. وهو جواب نبوي في غاية الادب يكشف عن انهما ليسا كفؤاً ولا كفيحاً لسيدة نساء العالمين (ع) في العصمة في الدين، والطهارة في النسب. 

الكفاح [7]:

وكان كفاح افراد الاسرة العلوية في الحياة الاجتماعية، باعتبارهم (ع) القدوة العليا في الدين، غير منفكّ عن مشقة نفسية وجسدية عظيمة. فمشقة فاطمة بنت رسول الله (ص) في انجاز الاعمال المنـزلية، والجمع بينها وبين العبادة المشهودة لهم (ع) مع قلة الطعام والجوع اختياراً كانت حالة سلوكية، فضلاً عن كونها كانت حالة فسلجية. بمعنى ان مشقتها كانت من آثار كمالها وعفتها وزهدها وحبها للمحافظة على حقوق زوجها (ع) وعائلتها كاملة دون افراط او تفريط. ولاشك ان الجمع بين اداء الواجب البيتي وبين الانقطاع التام لله سبحانه، أمرٌ صعب. ولذلك فقد كان اداؤها الشرعي الطاهر في تأدية وظيفتها الشرعية والمنـزلية نابعاً من حالة نفسية قوية هائلة في تحمل المصاعب والشدائد، والرضا بقدر الله عزّ وجل، ومحاولة اداء الواجب كاملاً في احسن الاحوال.

ومن المسلّم به ان الجوع الطبيعي وعدم تناول الطعام فترة طويلة من الزمن قد يؤدي الى حالات مرضية تنتهي الى الموت. ولكن جوع العترة الطاهرة (عليهم السلام) كان من نوع آخر. ولنطلق عليه بـ «الجوع التعبدي». فقد كان جوعاً بالاختيار، أو حرماناً من اكل الطعام بالارادة لانشغالهم بقضية أهمّ وهي العبادة أو الجهاد في سبيل الله أو الشوق للحياة الآخرة. والمتفق عليه ان الجوع عند الفرد العادي يؤدي الى الخمول والضعف والكسل. بينما كان جوع أهل البيت (ع) - الذي كان اثراً من آثار الزهد- باعثاً للعبادة والعمل والنشاط والجهاد في سبيل الله وحمل السلاح ومقاتلة اعداء الدين.

ولابد لنا من فهم حقيقة مهمة تقول بان طريقة استهلاك الطعام ليست طريقة فسلجية، بل هي سلوك ثقافي ديني بالدرجة الاولى، حيث يلتزم الفرد بممارسته على ضوء احكام الرسالة التي يؤمن بها. فليست هناك حدود لتناول العام في مجتمع غير متدين. بينما حدد الدين طبيعة الطعام في الحلية والاستحباب، وحدد المقدار الذي يسمح بتناوله عن طريق الاعتدال، وما يذكر قبل الطعام وبعده من بسملة ودعاء وتمجيد لرازق الطعام عزّ وجلّ.

وبذلك اصبح الطعام - نوعيةً وحجماً- في بيوت الانبياء والاوصياء (ع) وطريقة تناوله، يعبّران عن لونٍ من الوان الزهد والتقوى وقوة الاتصال بالله عزّ وجلّ. ذلك ان السيطرة - بهذا الشكل الصارخ- على شهوة البطن تفتح بوابة القلب على الخالق عزّ وجلّ فتُستثمَر بالعبادة وطاعة الله سبحانه. والاسرة التي تأكل الخبز وتأتدم بالملح والخل، وهي على ما هي عليه من منـزلة سماوية واجتماعية رفيعة، لابد ان تمثل رمزاً دينياً ومثلاً أعلى للمشاعر الانسانية حيث كانت تكتفي غالباً بالغذاء الروحي دون الغذاء الجسدي. 

الزي:

وعندما نتأمل في زي فاطمة الزهراء (ع) الذي تُشير اليه الروايات العديدة، فاننا نخلص الى ان رداءها الشرعي كان مبنيّاً على أصلين: الحياء التام بكل ما تعنيه الكلمة، والحجاب الشرعي الكامل بما فيه المندوب فضلاً عن الواجب. وهذا التأمل يدعونا للايمان بان الزي المقبول شرعاً وعقلاً للمرأة المسلمة هو الزي الذي يكسبها احتراماً اجتماعياً، ويحفظ لها جمالها وجلالها وعفتها. فاللباس الديني للمرأة اذن هو الحياء التام، مضافاً اليه غطاء الرأس والجسد باستثناء الوجه والكفين. وكل قطعة تضاف الى ذلك الزي او تحذف منه ترتبط بالذوق العام والثقافة الاجتماعية التي تقترب من الدين أو تبتعد عنه بمقدار. وقد اشار عزّ وجلّ الى قاعدة الحجاب، فقال عزّ من قائل: (قُل للمؤمنينَ يغضُّوا مِن أبصارِهم ويَحفظُوا فُروجَهُم ذلِكَ أزكى َهُم إنَّ اللهَ خَبيرٌ بِما يَصنَعونَ. وقُل للمؤمِناتِ يَغضُضنَ مِن أبصارِهِنَّ ويحفظنَ فُروجَهُنَّ ولا يُبدينَ زينَتَهُنَّ إلاّ ما ظَهَرَ منها وليضرِبنَ بِخُمُرِهنَّ[8] على جُيوبِهنَّ[9] ولا يُبدينَ زينَتَهُنَّ إلاّ لبُعولَتِهنَّ أو آبائهنَّ أو آباءِ بُعولتِهنَّ...)[10]. فغضّ الابصار والعفة متلازمان مع تغطية الصدور والرؤوس. وهذا المقدار الكامل من الحجاب والحياء كان متمثلاً في البتول (ع). فقد كان حجابها الشرعي متناسباً مع حياتها وعفتها. ولا عجب فهي من سلالة بيت النبوة والوحي والتنـزيل والقرآن المجيد. ومع ان القاعدة جواز اظهار الوجه والكفين، الا انه لم يروَ ان احداً رأى وجهها (ع) فضلاً عن كفيها وقدميها. ولا عجب فأهل بيت النبوة (ع) لا يتركون المندوب، بل يعملون به ويزيدون عليه. 

مِلك اليمين بعد فاطمة (ع):

وبعد استشهاد فاطمة الزهراء (ع) في تلك السن المبكرة «وهي الثامنة عشرة، أي بعد تسع سنوات من اقترانهما»، تزوج امير المؤمنين (ع) بعدد من مِلك اليمين. ومجرد ذكر مِلك اليمين يدعونا للحديث عن الرِقّ والرقيق. فالرِقّ وصفٌ لوضع يكون فيه الانسان تحت سلطة ونظر انسان آخر اقوى، خلافا لطبيعة الاشياء القاضية بحرية كل فرد. فيسمى الاول بـ«العبد» أو «الاَمة»، ويسمى الثاني بـ«السيد» أو «المولى». ويكون السيد مالكا للعبد أو الاَمة فهي «مِلك يمين». ذلك لان عملية الرق في الاسلام تُبطل حقوق الانسان القانونية أو التشريعية في الحرية والاختيار، ولكنها تُبقي الحياة الروحية منفتحة للتأثر والتغيير من اجل تحقيق الهدف الذي شُرعت فيه حلية الرِقّ.

فالرقيق كانوا محاربين منهزمين يؤتى بهم وبمتعلقيهم من خارج دار الاسلام؛ والاسترقاق كان محاولة جادة لقطع جذور الثقافة الوثنية التي يحملها المحارب ضد الاسلام، رجلا كان أو امرأة. ولذلك فان الغاء الشخصية الحقوقية للعبد أو الاَمة هو الغاء للشخصية الوثنية التي يحملها. ومن هذا المنظار فان تزويج الاَمة عبر التملك هو افضل الطرق وانسبها لقطع جذور الالحاد والكفر والوثنية. بينما لا يمكن سلب الشخصية الحقوقية بالاسترقاق للمنحرف داخل دار الاسلام لان هناك طرقا اخرى للتعامل مع المنحرفين لا تقلّ جدية وحسماً مثل القصاص والقتل والقطع والتعزير.

ولا شك ان معاناة انقطاع المرأة الكافرة خلال عملية الاسترقاق عن اقاربها وعشيرتها ينجبر بالعلاقة الاسرية الجديدة التي يحاول ان ينشأها سيدها واسرته. وقد كان أمير المؤمنين (ع) مثالاً رائعاً لمدى احترام المرأة التي كانت تمر بتلك العملية الانتقالية الشاقة حتى تنال الحرية الحقيقية بقبولها الاسلام.

ولذلك فقد جعل (ع) بيته مدرسة لتربية الاماء على الاخلاق الرفيعة. وهنا لا ينبغي ملاحظة عدد الاماء بدون ملاحظة وظيفة الامام علي (ع) في تربيتهن، خصوصاً وان بلاد الاسلام كانت تتسع في تلك الفترة ويدخل في الدين الحنيف افواج من مختلف الشعوب. ومن هذا اللحاظ، يمكن اعتبار بيت الامام (ع) مدرسة للتقوى والزهد والتعبد لا مجتمعاً للعبيد والاماء والشهوات. 

تعدد الزوجات بعد فاطمة (ع):

وبعد استشهادها (ع) تزوج ايضاً بعددٍ من النساء استئناساً بقوله تعالى: (... فانكِحُوا ما طابَ لكُم من النساءِ مَثنى وثُلاثَ ورُباع...)[11]. وحكم تعدد الزوجات في الاسلام يصبّ لصالح المرأة لانه ينظر الى القضية الحقوقية التي حُرمت منها. خصوصاً وان التعدد ينشأ غالباً من التزوج بالارامل أو المطلقات أو الثيبات أو اللآتي لم يحالفهن التوفيق في زواج واحد ناجح. فالتعدد اذن أمر اُريد منه معالجة مشكلة اجتماعية تخص المرأة بالذات.

فالحروب التي كانت تستعر في الماضي، وتستعر في الحاضر، ومن المرجح انها ستستعر في المستقبل تستدعي ان تزيد نسبة الرجال على النساء، بسبب مقتل العديد من الرجال في كل معركة من تلك المعارك. وهذا يقتضي حكم التعدد. ذلك ان وجود الارامل واللآتي يخونهن الحظ في الزواج من رجل اعزب، مشكلة اجتماعية تسبب قهراً واحباطاً نفسياً للمرأة. مع ان هناك حاجات حياتية لا يقضيها الا الزواج.

ولا شك ان شروط الحياة الاجتماعية والصحية والنفسية ستكون افضل للمرأة في اسرة كبيرة تجمع عددا أكبر من الزوجات مع ذريتهن، خصوصاً اذا كان على رأسها وليّ مدبّر حكيم كالامام (ع). فاليتيم يشعر بان له من يقوم مقام أبيه، والارملة تشعر ان لديها زوجاً، والمطلقة تشعر ان حقوقها قد أرجعت اليها. فلابد أن يُنظر الى تعدد الزوجات، على اساس انه حلّ لمشكلة اجتماعية معقدة لا يمكن ان تُحل الا عن هذا الطريق. ولذلك اختار الامام (ع) ذلك الطريق في بناء الاسرة بعد استشهاد فاطمة الزهراء (ع).

  

11- معركة بدر الكبرى

وكانت بدر اول معركة يشارك فيها الامام (ع) مع رسول الله (ص)؛ وكان (ع) صاحب راية النبي (ص). وهي اول الحروب الرئيسية التي خاضها خاتم الانبياء (ص) ايضاً. وكان عمر علي (ع) يومذاك خمساً وعشرين سنة. والظاهر ان المعركة وقعت بعد عقد علي (ع) بفاطمة (ع) وقبل البناء بها. 

المسلمون ووسائل التسديد:

وكان المسلمون قلّة مستضعفة يوم بدر بحيث وصفهم الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم: (ولقد نَصَركُم اللهُ ببدرٍ وأنتُم اذلَّةٌ ...)[12]. ووصفهم المشركون على لسان أبي جهل: ما هم الا أكلة رأسٍ، لو بعثنا اليهم عبيدنا لأخذوهم أخذاً باليد. وبالرغم من اختلاف الروايات في عدد الذين قتلهم علي (ع)، الا أن المرجَّح تأريخياً انه قتل النصف ممن قُتل في بدر. وكانوا من نخبة قريش وأكابرها وقادتها، خصوصاً من بني أمية وبني العاص وآل المغيرة. بينما قتل بقية المسلمين النصف الآخر.

وكان للملائكة دور الحرب النفسية وتكثير سواد المسلمين بهدف ادخال الرعب في قلوب المشركين، فقال تعالى: (ولَقد نصَركُم اللهُ ببدرٍ وأنتم أذلّةٌ فاتقوا اللهَ لعلّكم تشكُرُون. إذ تقولُ للمؤمنينَ ألن يكفِيَكم أن يمدّكم ربُّكم بثلاثةِ الافٍ من الملآئكةِ مُنـزَلين. بلى إن تصبِرُوا وتتقوا ويأتوكُم من فورِهم هذا يُمددِكم ربُّكم بخمسةِ الافٍ من الملائكةِ مُسومِين. وما جعَلَهُ اللهُ الا بُشرى لكم ولتطمئنَّ قلَوبُكم بهِ وما النصرُ الا من عندِ اللهِ العزيزِ الحكيمِ)[13].

ولا شك ان فكرة التوازن التسليحي بين جيشي المشركين والمسلمين _ على قلّة عدد المسلمين وضعف عدّتهم وشحة حديدهم _ يدعونا الى التأمل في أهمية الشجاعة الفردية ودورها الحاسم في نتيجة المعركة. فقد كان الفرس والسيف والدرع والرمح ادوات المعركة واسلحتها. وتلك الاسلحة كانت تعطي المعركة نوعاً من الثبات الاستراتيجي، وتكشف عن شجاعة المقاتلين وبراعتهم في خوض القتال ببسالة. وهنا كان دور علي (ع) في المعركة حاسماً، لان بطولته الفريدة كانت ركناً اساسياً في انتصار المسلمين.

استهداف النخبة من المشركين:

ومن الطبيعي فان قتله ذلك العدد الكبير من ابطال المشركين لابد ان يقلب التوازن العسكري المتعارف بين الفريقين. فكان سيف علي (ع) يستهدف رؤوس النخبة من المشركين امثال: الوليد بن عتبة الذي كان شجاعاً جريّاً وقاحاً فتاكاً تهابه الرجال، والعاص بن سعيد الذي كان هولاً عظيماً تهابه الابطال، وطعيمة بن عدي الذي كان من رؤوس أهل الضلال، ونوفل بن خويلد الذي كان من أشد المشركين عداوة للنبي (ص) ولما عرف (ص) بحضوره بدراً سأل الله ان يكفيه أمره فقال (ص): اللهم اكفني نوفل بن خويلد، فقتله أمير المؤمنين (ع). وقتل (ع) ايضا ما ذكرناه من أسماء هؤلاء المشركين وأوصافهم. وتلك البطولة الفريدة ادخلت عاملاً جديداً على ساحة المعركة، وهو العامل النفسي. فالرعب النفسي الذي أصاب المشركين يوم بدر جعلهم يفرّون من ساحة المعركة مذعورين. وكان الامام (ع) أحد جنود الله سبحانه في بثّ الرعب في صفوف المشركين.

والاصل في الحرب النفسية التي استخدمها الاسلام ضد المشركين هو التأثير على رأي العدو وسلوكه في المعركة دون استنـزاف موارد المسلمين العسكرية والسياسية والاقتصادية. أي اشعار العدو بان الجيش المقابل يمتلك اسلحة مادية وغير مادية تستطيع ان تحقق نصراً حاسماً في تلك المعركة. 

الحرب النفسية ضد المشركين:

فكيف يستطيع المسلمون في تلك اللحظات الحاسمة اشعار العدو بانهم يمتلكون سلاحاً خارقاً يستطيع ان يحقق نصراً حاسماً عليه؟ لا شك ان ذلك كان يتطلب أمرين:

الاول: سلاح غير منظور قادر على محاربة العدو حرباً نفسية شرسة، وذلك بتكثير عدد المقاتلين المسلمين في اعين الاعداء المحاربين. فكانت ملائكة الرحمن التي أرسلها الله سبحانه واشار اليها الذكر الحكيم بالقول: ذ تستغيثونَ ربَّكم فاستجابَ لكُم أنّي ممدّكم بألفٍ من الملائكةِ مُردِفين)[14].

الثاني: سلاحٌ منظور يراه العدو ويلمسه ويحسّ بعمق آثاره ومقتضياته، وهو علي بن أبي طالب (ع) البطل الذي ليس له مثيل. فالبطولة تحت هذا العنوان، كانت عملاً رمزياً خارقاً قام به علي (ع) من أجل إقناع الطرف المقابل بالفرار من ساحة المعركة. وقد وقع ذلك فعلاً، فبدأت فرسان العرب من المشركين تسابق الريح حتى لا يمسها حسام علي بن أبي طالب (ع). وبذلك فقد قامت المعركة النفسية في بدر الكبرى، بنجاح، بافساد علل المشركين الذين خرجوا الى تلك الآبار وفي قناعاتهم هزيمة الاسلام والمسلمين هزيمة قاسية سوف تتحدث عنها العرب مئات السنين.

ولكن الله عزّ وجلّ وعد رسوله (ص) والمؤمنين وعداً جميلاً بانهم سينصرون بالرعب، وهو سلاحٌ فتّاكٌ رهيب. فعندما يدبُّ الرعب في طرفٍ منكسرٍ حربياً، فان الدافع نحو القتال سينكسر ويتشتت الجمع وتنحلّ فلوله. واول ما يفكر به الجندي عند شعوره بالهزيمة النفسية، هو الفرار من ساحة المعركة. والفرار من الساحة يعني التخلي عن كل مستلزمات المقاتلة، وعندها تفتح ابواب الانتصار للطرف المقابل. وما حصل في معركة بدر هو صورة حقيقية لهذا المنظر النادر. فبعد مقتل سادة قريش وابطالهم من قبل الامام (ع) وبقية المسلمين ومشاركة الملائكة في الحرب النفسية، تشتت جمع المشركين وانكسرت شوكتهم. 

مقتضيات الصارم المسلول:

وبكلمة، لقد ساعد سيف ذي الفقار وفتوّة علي (ع) في استحداث حالتين مهمتين:

الاولى: ان الخوف الشديد الذي سببه سيف ذي الفقار والملائكة المسوّمين كانت له آثار في تغيير الدوافع الثانوية الباطنية لشريحة من المغرر بهم من المشركين. فقد كان ذلك الخوف سبباً للبعض من الاقتراب لسماع صوت الحق. فالخائف هو اقرب الى سماع صوت الحق من الانسان الذي لا يعرف الا التحدي والطغيان والغطرسة.

الثانية: ان الخوف المشروط بشروط الظرف الخارجي، يغيّر سلوك الانسان الخائف وطبيعته عندما يكون الشرط قائماً. فاذا كان خوف المشركين هو أحد آثار بطولة علي (ع) الخارقة، فان خوفهم أو رعبهم لا يزول الا بزوال ذلك الظرف الخارجي. وبتعبير آخر ان الرعب اذا ساور الانسان مرة، فانه يبقى معه يتجدد كلما تجددت الظروف الخارجية التي انشأته. وبتعبير ثالث ان الذي خاف سيف علي (ع) وبطولته الخارقة في معركة بدر، فانه سيخافه في كل معركة لاحقة يلتحم فيها الطرفان. والرعب الذي اصاب المشركين المقاتلين في بدر،  ترك آثاره على معركة اُحد والخندق وخيبر وحُنين ايضاً. وجعل المعركة بالنسبة إليهم قضية لا يمكن ادارتها لصالحهم. فكانت النتيجة هروب المشركين وتوليهم عن الزحف وهزيمتهم القاسية، عدا الاستثناء الذي حصل في اُحد بسبب عصيان الرماة لأوامر رسول الله (ص).

ولم يكن الرعب الذي نزل بعبدة الاوثان في بدر، مجرداً عن ظروفه القانونية والاخلاقية. بل كانت بدر تحملُ ظروفاً قانونية وشرعية تسمح للصراع المسلح بين قوى الشرك وقوى الايمان. لانها كانت كفاحاً من أجل البقاء، وبوجه أخصّ كانت كفاحاً من أجل بقاء الايمان على وجه الارض. والحرب في الاسلام كانت ولا تزال وسيلة من وسائل استقرار العالم دينياً وفكرياً وسياسياً. فالتسامح والاخلاق السامية التي ابدتها تعاليم الاسلام في الحروب من عدم التعرض للنساء والصبيان وحُرمة المُثلة وعدم التعرض للجرحى، ورفع السيف عن المدبِر، كلّها تدل على ان الدين السماوي يطمح بانشاء ظروف اجتماعية ملائمة لطاعة الخالق عزّ وجلّ وإقامة العدل واحقاق الحقوق. فالحرب الدينية التي كان يخوضها علي (ع) لم يكن هدفها سفك الدماء، بقدر ما كان هدفها تثبيت اسس الامن والسلام الديني في العالم. وعندما تقتضي الحرب لا يبقى الا مسلم أو مسالم. ولذلك قال الشاعر:

وأعددت للحرب اوزارها                رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا

 

12 - معركة اُحد

وكانت الشجاعة الفردية في «احد» عاملاً من عوامل قلب التوازن العسكري مرتين.

الاولى: عندما قتل علي (ع) اصحاب الرايات من بني عبد الدار من قريش. فانهزم جيش قريش من المشركين المقدّر بثلاثة آلاف رجل ومائتي فرس، يولون الدبر مع ظعائنهم. فحولّت بطولة علي (ع) القلّة والضعف الظاهري في جيش المسلمين المقدّر بسبعمائة رجل وفرسين، الى نصر مؤزر.

الثانية: عندما عصى الرُماة أوامر رسول الله (ص)، وانقضّ خالد بن الوليد على عبد الله بن جُبير وجماعته القليلة، فاتى على المسلمين من ادبارهم. هنا بالذات، قامت شجاعة علي (ع) الفردية البطولية بايقاف تداعيات تلك الهزيمة من تحقيق اهدافها، وهو المنع من قتل رسول الله (ص) من قبل المشركين على أقل التقادير. فكلما كان (ص) يشير على علي (ع): اكفني هؤلاء الذين قصدوا قصدي. كان علي (ع) يحمل عليهم ويكشفهم[15]. وبذلك حفظ الامام (ع) الرسالة الالهية عن طريق حفظ قائدها (ص) من الاذى الذي كان يطمح ان ينـزله المشركون به.

ولذلك خاطبه نبي الرحمة (ص): «يا ابا الحسن، لو وضع ايمان الخلائق واعمالهم في كفة ميزان ووضع عملك يوم اُحد على كفة اخرى لرجح عملك على جميع ما عمل الخلائق وان الله باهى بك يوم اُحد ملائكته المقرّبين...»[16]. 

معركة اُحد والظواهر الجديدة:

وشخصت معركة اُحد ظواهر جديدة في المعارك وهي:

1 _ اخراج النساء مع المشركين على الهوادج «الظعن» التماس الحفيظة وعدم الفرار، وكن خمس عشرة امرأة منهن «هند» آكلة الاكباد. وتلك الظاهرة تدلّ على ان هزيمة المشركين كانت قضية محتملة جداً في تفكيرهم، خصوصاً وانهم كانوا يحتملون بصورة قوية تواجد علي (ع) على ساحة المعركة مقاتلاً عملاقاً.

2 _ أهم ظاهرة في معركة اُحد كانت معصية الرُماة لأوامر رسول الله (ص)، في وقت كان المفترض بهم طاعة قائدهم (ص)، خصوصاً وانهم كانوا موظفين لحماية ثغر جيش المسلمين على جبل اُحد. وكانت تلك ظاهرة فريدة في ابعادها. لأن معصية بذاك الحجم لم تحصل في أي معركة من معارك الاسلام، اذا استثنينا الفرار من المعركة في حنين. وهذا دليل على سطحية ايمان بعض الناس بالقتال فضلاً عن عدم ادراكهم لمعاني التضحية ودورها الحاسم في نصرة الدين.

3 _ اذا كان خللاً من هذا الحجم قد أوقع تلك الخسارة بالمسلمين، فما بالك لو كانت شخصية فريدة كشخصية علي (ع) غائبة عن الساحة العسكرية، فكيف كان حجم الخسارة؟ لا شك ان وجود بطل الابطال (ع) في الميدان منافحاً عن رسول الله (ص) ومدافعاً عن الدين الحنيف ومقاتلاً المشركين كان قد جنّب الاسلام حجماً عظيماً من الخسارة في وقت انهزم فيه المقاتلون عن ساحة المعركة.

وقد أمر الله تعالى بحرمة الفرار وقت الزحف، فقال: (يا أيُّها الذينَ آمَنوا إذا لقيتُمُ الذينَ كَفَرُوا زَحفاً فلا تُولُّوهُمُ الأدبارَ...)[17].ولكنّهم فروا على أية حال، ولم يثبت مع رسول الله (ص) الا علي (ع) والقلة القليلة من المؤمنين. 

الخطأ البشري والثمن الباهض في المعركة:

فالخطأ البشري في ساحة المعركة مهما كان صغيراً، يكلّف الجيش المقاتل خسارة عظيمة. وقد كان خطأ أولئك المسلمين ممن عصوا رسول الله (ص) مدمراً وقاتلاً بحيث كان الخطر مهيمناً على وجود الدين كله.

فللمعركة شروطها ومقتضياتها، فالقضية الشرطية هنا منحصرة بطاعة الجنود المقاتلين لقائدهم. وأي اخلال لمفهوم هذا الشرط يؤدي الى حرمان الدين من تحقيق اهدافه العليا في بناء النظام السياسي العالمي. واذا فشل الدين في تحقيق انتصار حاسم على الشرك، فان قضية الحرب والسلام تبقى معلّقة بيد الذين لا يرجون الا استعباد الناس والسيطرة على مقدراتهم.

وبهذا اللحاظ نلمس أهمية طاعة الامام (ع) لرسول الله (ص) وشجاعته الفائقة بكونها عاملاً من عوامل تقريب الدين من تحقيق اهدافه عبر الانتصار على الشرك، وبناء دولة دينية مستقرة تستطيع تحقيق العدالة الحقوقية بين الناس وتثبيت الامن الاجتماعي والمعاشي لهم.

ولما يئس المشركون من قتل النبي (ص) فترت همتهم وعادوا القهقرى. وهكذا حفظت بطولة الامام (ع)، الرسالة السماوية وقائدها (ص). وكان علي (ع) مصداقاً لقوله تعالى: (وكأيِّن مِن نبيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبيُّونَ كَثيرٌ فما وَهنوا لِما أصابَهُم في سَبيلِ اللهِ وما ضَعُفُوا وما استَكانُوا واللهُ يُحِبُّ الصابِرينَ)[18].

 13 _ غزوة الخندق

اثبتت حادثة مقتل عمرو بن عبد ود قائد المشركين وأشرسهم في القتال والمبارزة، من قبل علي (ع)، ان شجاعة الامام (ع) كانت حالة عقلية اكثر منها حالة جسدية. بمعنى ان شجاعته الفائقة وبطولته الخارقة كانت حالة عقلية امتزج فيها اليقين بالله وحب لقائه اكثر منها حالة جسدية او فسلجية. وبتعبير آخر ان المعصوم (ع) في الفكر والادراك يكون دائماً على درجة قصوى في الاقدام والثبات واليقين في كل الحالات والمواقف الحياتية. لانه وصل الغاية في اليقين بالله، فهو يسعى الى الموت من اجل لقائه سبحانه.

والسعي نحوه عزّ وجلّ في كل وقت يزيل كل حالة من حالات الخوف والتردد والانزعاج والغضب لغير الله. فلا عجب اذن ان نرى شجاعة امير المؤمنين (ع) الفائقة باعيننا ونربطها بعصمته. ذلك ان الشجاعة الفائقة التي نتحدث عنها هي حالة عقلية مرتبطة بمقدار كمالية ادراك الانسان. فالمعصوم (ع) اذن، يمتلك درجة تامة من الكمال في الدين والفكر والسلوك توجِّه شجاعته تلك نحو وجوه الخير وتثبيت العدل ومحق الشر وتدمير الباطل في كل لحظة.

حاجة الدين الى بطل فريد:

والدين الجديد الذي كان يتحدى العالم بكل ما فيه من أوثان وقوى شرك وشراسة وشر، كان بأمسّ الحاجة الى ابطال لا يهابون الموت، ولا يكترثون للنوازل، ولا يعتريهم الخوف والتردد أو الانهيار. بل كان الدين بحاجة الى ابطال تكون شجاعتهم فائقة واستثنائية لا شجاعة عادية مجردة من مضامينها الرسالية. ولذلك كان دور الامام (ع) حاسماً في معارك الاسلام، لانه كان يمتلك قدراً فائقاً من الشجاعة واليقين والاقدام والثبات. فقد كان (ع) بطلاً استثنائياً وشجاعاً لا مثيل له.

فلا يستقيم أمر الدين في المجتمع الانساني ما لم يدعمه بطل في غاية الشجاعة والاقدام، لان الدين - باعتباره خيراً يدعوا الى الخير- في صراع دائم مستمر مع الشر. واذا كان الصراع مستمراً، فان الشجاعة والبطولة الفائقتين ينبغي ان تستمرا ايضاً. لان الخوف الذي تصاحبه عوارض جسدية مثل خفقان القلب، وتيبس البلعوم، وآلام المعدة، يجعل الخائف غير قادر على التفكير فضلاً عن التركيز على عمله الحربي المكلّف به. وحالة عاطفية كتلك، لا يستقيم معها الدين.

ولا شك ان الشجاعة الفائقة - ارادية كانت او غير ارادية- متداخلة مع عوامل اخرى كالادراك والدافع والتعبير. فالبطل الشجاع ينظر الى العدو المقابل على اساس انه أمر يستطيع معالجته فيقترب منه ويعالجه بالضرب أو الطعن أو القتل. ولا ينظر اليه على اساس انها قضية مرعبة خطيرة ينبغي ان يتجنبها أو يهرب منها. وهكذا كان الامام (ع)، فانه كان يقدم على منازلة فرسان القوم لان يقينه بالله وقدرته الفائقة على مواجهتهم كانت تدفعه نحو الاقتحام وانزال الهزيمة المنكرة بالعدو. فكان (ع) مصداقاً لقوله تعالى: ( فإذا لَقيتُمُ الذينَ كَفَرُوا فَضربَ الرِقابِ حتّى إذا أثخَنتُمُوهُم فَشُدُّوا الوثَاقَ...)[19]

مناظر الحرب واليقين بالله:

والذي يخاف من القتل لا يلجُ الحرب. لان في ساحة المعركة مناظر مرعبة تتضمن دماً مسفوكاً او عضواً مبتوراً او رأساً مقطوعاً. وكل تلك المناظر تذكّر الانسان بأن احتمالية القتل او الموت قائمة تصيب أي فرد وفي أي لحظة. هنا لو افترضنا ان شخصية الامام (ع) كانت غائبة عن الساحة، فماذا كان مصير الدين الجديد؟ وبتعبير آخر لو كان القلق والخوف يساور أشجع شجعان المسلمين، فهل نتوقع انتصار الدين على الشرك؟ والجواب على ذلك يستدعي نفياً قاطعاً. لان الدعوة الى الخير والفضيلة تحتاج الى جرأة وشجاعة وتضحية منقطعة النظير.

ولذلك ندرك أهمية هتاف رسول الله (ص): «لمبارزة علي يوم الخندق أعظم من عمل الثقلين»[20]. أي ان بطولة علي (ع) الفائقة في ذلك الموقف انقذت المسلمين من هزيمة محققة، وثبتت دور الدين في المجتمع الانساني. ولذلك فان الذين يعبدون الله بعد رحيل علي (ع) يدينون له بالفضل لبطولته المتميزة التي حفظت دينهم حيّاً الى يوم القيامة.

ولا شك ان يقين الامام (ع) بالله عزّ وجلّ هو الذي دفعه لوضع جسده في مشتبك الاسنّة ومخالب السيوف. فكان يقينه بالله تامّاً في وقت كان البعض من المسلمين قد أخذ منه الخوف كل مأخذ، بحيث وصف القرآن الكريم حالهم بالقول: (...وإذ زاغَتِِ الأبصارُ وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ وتَظُنُّونَ باللهِ الظُّنونا)[21]. والظن بالله هنا يعني التوقف في منتصف الطريق، بين الحقيقة ونقيضها. فهو غير مطمئن بالحقيقة كاملة ولا يصدّقها تماماً، وفي نفس الوقت غير مطمئن بنقيض الحقيقة ولا يكذّبها تماماً.

وهذا الشك بالله تعالى كان مصحوباً بمشاعر الخوف والتردد والقلق، وهو أسوأ انواع الظنون. لان تلك الظنون كانت تهدم اركان الايمان بمبدأ القضية التي تم القتال من اجلها.

 

14- غزوة خيبر

وكان دور علي (ع) فيها حاسماً، لانه وضع دويلة اليهود المصغّرة «خيبر» على حافة الانهيار والضمور ككيان مستقل على ارض الحجاز. وقد بدا واضحاً لرسول الله (ص) حجم الضرر الذي اصاب المسلمين من تحالف اليهود مع المشركين، فكان لابد من ضربهم.

فكانت واقعة خيبر بالنسبة لليهود حرباً مدمّرة ومربِكة في الوقت ذاته. كانت حرباً مدمّرة لأنها كانت آخر ضربة قاتلة وجّهت اليهم من قبل المسلمين، بسبب خيانتهم وغدرهم وتحالفهم مع المشركين والمنافقين. وكانت حرباً مربِكة، لان شجاعة علي (ع) واستدراجه لابطالهم قد اربكتهم واخرجتهم عن طورهم في التحصن بالقلاع المنيعة وعدم منازلة العدو.

البطولة الفريدة والطاقة التدميرية:

وبدأت الحرب الابتدائية الاسلامية _ بفضل بطولته الفريدة (ع) _ تظهر وكأنها وصلت الى مرحلة عالية من الطاقة التدميرية التي تهدد القوى العظمى في عالم ذلك الزمان وهي بلاد فارس ودولة الروم بالاضافة الى قريش. وانتصارٌ من قبيل «غزوة خيبر» خلق الاجواء الذهنية لتقبل بروز ادارة دينية واجتماعية جديدة للعالم في ذلك الوقت. وكان ذلك، يساعد الدين الجديد _ بقوّة _ على احتلال موقعه الطبيعي في قلوب الناس.

لقد كان جيش المسلمين بقيادة رسول الله (ص) يحاول كسب نصر حسم في كل معركة رئيسية مع طرف من اطراف العداء الديني ضد الاسلام. ذلك لان النصر العسكري الحاسم يُقنع الناس من اصحاب القلوب الضعيفة المترددة، بأحقية الدين في الوجود. والاصل في ذلك، ان الفرد اذا لم يقتنع بالطريق الذهني والدليل العقلي، فلابد من قوّة مادية - حربية على الاغلب ومنتصرة- تقنعه بصحة متبنيات الرسالة السماوية الجديدة.

وهذا لا يقتصر على قوة دون اخرى بل يشمل كل القوى التي كانت تحارب الاسلام كقوى المشركين، والمنافقين، واليهود، والروم، والفرس. وكان على الاسلام، من أجل ان يبقى، أن يحقق نصراً حاسماً على كل طرف من تلك الاطراف المناوئة للدين. ولذلك لمسنا - بشكل جليّ- حثّ القرآن الكريم على القتال والموت وافضلية الجهاد والمرابطة في سبيل الله.

فالمشكلة التي كانت تواجه الدين الجديد لا تكمن فقط في الاقناع القلبي والذهني عبر اعجاز القرآن الكريم، وهو لاشك إقناع اعجازي هائل. بل كان لابد من معارك طاحنة ضد الذين اغلقوا قلوبهم واذهانهم للدليل الشرعي القرآني. فكانت الشجاعة الخارقة والبطولة الفريدة المتميزة مطلوبة وحاسمة في تقرير مصير تلك المعارك.

وعندها كانت تلك الشجاعة وتلك البطولة من العوامل الحاسمة في تقرير مصير الدين ايضاً. ومن هذا المنظار ندرك أهمية شخصية علي (ع) القتالية في الميدان. فلولا تلك الشخصية الفريدة في البطولة والإقدام والتضحية والاقتداء برسول الله (ص) لكان الدين في وضع آخر يختلف عما نراه اليوم. فكان (ع) أداة قدسية من أدوات حفظ الدين والذكر السماوي، وكان مصداقاً لقوله تعالى: (إنّا نحنُ نزّلنا الذِّكرَ وإنّا لَهُ لَحافِظونَ)[22].

ردع العدو:

وبطبيعة الحال، فقد كان التواجد الفعّال للامام علي (ع) في ساحات المعارك يصول ويجول في سبيل الله تعالى، عاملاً من عوامل الردع العملي ضد المشركين. فقلع الباب العظيمة ومبارزة ابطال المشركين كمرحب وغيره وصرعهم في خيبر، وقتل النصف ممن قُتل في بدر، وقتل المشركين في اُحد، ومبارزة عمرو بن عبد ود وصرعه في واقعة الاحزاب يجعل نظرية الردع صالحة. ويجعل التوازن الاستراتيجي بعيد المدى يميل رويداً رويداً لصالح الاسلام.

والردع يعني محاولة خلق تصور لدى العدو بأنه لا يستطيع الانتصار على المسلمين بأي طريقة من الطرق. فيقوم عندها بمصالحة المسلمين على الجزية، أو اعلان معاهدة سلام بين الطرفين، أو الاستسلام دون قتال، أو الدخول في الاسلام. ولذلك قيل ان الاسلام - كما أشرنا الى ذلك سابقاً- يريد من الاعداء المحارِبين ان ينتهوا الى: اما مسلمين أو مسالمين.

لقد كان المشركون يعتبرون الحرب من أفضل الوسائل لردع المؤمنين وحسر رسالتهم من الانتشار بين أمم الارض. فاذا بهم الآن، وبفضل البطولة الفائقة لداحي الباب (ع)، يواجهون ردعاً من قبل المسلمين انفسهم. وعندما نتحدث عن الردع الذي انزله علي (ع) بالمشركين، فاننا لا نقصد به ردع جنودهم فقط، بل نقصد به ردع القادة من اتخاذ قرار الحرب.

وقد ظهر واضحاً بعد خيبر وذات السلاسل ان قادة المشركين في مكة كانوا قد قرروا اعادة تنظيم بدائلهم، فاختاروا عدم محاربة المسلمين في قضية فتح مكة، وهم على ما هم عليه من قوّة وعُدّة وعدد. لان الحرب كانت تعني تحطيم مفاتيح قيادتهم وشركهم، بل ازهاق نفوسهم الشريرة. فاختاروا البديل الاضعف وهو طلب الامان من رسول الله (ص). ولو كانوا يعلمون ان في المسلمين ضعفاً وجبناً لاختاروا بديل الحرب والاستهتار بقيم الدين دون ادنى شك. وبذلك نفهم ان بطولة علي (ع) كانت رادعاً عظيماً ضد المشركين بعدم اختيار الحرب كبديل ضد المسلمين.

وبالاجمال، فقد كان اسلوب المبارزة الشخصية التي استخدمها الامام (ع) في قتل ابطال الشرك، من افضل اساليب الردع في الحروب الاسلامية ضد المشركين. قفد ارغب ذلك الاسلوب «النُخبة» القيادية في الطرف المشرك، وجعلها تفقد توازنها الاستراتيجي بعيد المدى. ذلك لان جحيم الموت أصبح يصل أيّاً من المحاربين الذين يكنّون العداء للاسلام، قائداً كان أحدهم أو بطلاً مقداماً أو فارساً من الطراز الاول.

 15- غزوة ذات السلاسل

كانت غزوة ذات السلاسل معركة غير عادية، وحادثة استثنائية حذفتها كتب التأريخ لاهداف سياسية. فقد فشل ابو بكر وعمر على انفراد في الإيقاع بالمشركين، بينما نجح علي (ع) في مقاتلتهم وانزال الهزيمة النكراء بهم، والرجوع الى المدينة مع الغنائم بما فيها اسرى الحرب مكتّفين بالحبال، كأنّهم في سلاسل.

ميزات المعركة:

وتتميز هذه المعركة بأمرين. الاول: الرغبة التي أظهرها علي (ع) في القتال. والثاني: تنكّر التأريخ لهذه المعركة وحذفها من صحائفه. 

الاول: الرغبة في القتال:

عندما نتناول موضوع: الرغبة في القتال، لابد ان نعرض ايضاً فكرة فرصة الحرب. ولابد ان نبين ما بينهما من اختلاف. فـ«الرغبة في القتال» تتعلق بارادة الانسان المحارِب بوضع نفسه في خدمة اهداف الحرب، فلا يكترث حينئذٍ بالقتل أو الجرح أو تكبد الخسارة. اما فرصة الحرب فهي تعني امكانية تحقيق التحام عسكري بين الطرفين المتحاربين. فهناك فرق بين هذين الاصطلاحين: أي «الرغبة في القتال» و«فرصة الحرب». فقد يذهب الفرد الى المعركة ولكن ليست لديه الرغبة في القتال. لانه قد يؤمِّل نفسه بضعف احتمالية تحقيق الالتحام العسكري بين الطرفين.

ولذلك، فأي موقف سلبي يلمسه من قبل العدو - كشراسة الاعداء وحسن عدّتهم وكثرتهم- يجعله يتلمّس الاعذار للهروب من ساحة المعركة والفرار صوب الامان والحفاظ على النفس. وهذا ما حصل للذين ذهبوا الى المعركة قبل علي (ع). اما البطل المقدام الذي كان يحارب في سبيل الله، فانه ما ان لبسَ لامة الحرب، حتى بنى في نفسه وعقله رغبة جامحة في الاقتحام والمقاومة والموت من أجله تعالى. وهذا ما قام به علي (ع) في تلك المعركة.

فالرغبة في القتال، اذن، لها علاقة بالدوافع والاهداف التي يمتلكها المحارِب حيث يختار الحرب كبديل رئيسي لتحقيق الهدف. ومن هنا نرى ان اقتحام الامام (ع) لتحصينات العدو في ذات السلاسل كان اقتحاماً سريعاً كلمح البصر تموّنه شعلة الرغبة للقتال والتحرق لمواجهة اعداء الله. بحيث ان عَدْوه السريع أعنف بجنوده. فخافوا ان ينقطعوا من التعب وخافوا ان تحفى دوابهم قبل ان يصلوا الى عدوهم. ولكن الرغبة الجامحة في قتال المشركين، والموت في سبيل الله كان يقوي فرص الحرب عند علي (ع) من أجل الالتحام بين جيشي المسلمين والمشركين.

ولا شك ان امكانية تأثر جنود علي (ع) الاربعة آلاف في ذات السلاسل ببطولته والاقتداء بشخصيته كان أمراً واقعياً. فلولا بطولة علي (ع) لم يستطع الجيش تحقيق شيء على مستوى المعركة بمنظورها الجزئي والاسلام بمنظوره الكلّي.

وفي ضوء ذلك نستطيع ان نقرر بان الرغبة في القتال عند المؤمنين الموقنين كانت تحددها عوامل وصفات ايمانية مثل: نكران الذات، واليقين، والبطولة، والاقتحام. بينما تحدد الرغبة عند عموم الناس عوامل اخرى مثل: التريث في القتال، والتردد، والفرار من الزحف، وحب الدنيا، والخوف من الموت، ونحوها. ومن هنا نلمس ان المؤمنين الموقنين بالله حقاً اقتحاميون في ساحة المعركة، لان دوافعهم لا تقبل تغييراً بعد ان تيقنوا بان الله معهم، وانهم يحاربون من أجل الآخرة، وان الله سيرزقهم قطعاً احدى الحسنيين: اما النصر واما الشهادة.

وفرصة الحرب للقائد البطل تعني انه سوف يستثمر طاقاته البطولية في سحق العدو وتدمير قدراته العسكرية. بينما يرى الخائف من الحرب ان فرص الحرب فرص للهلاك الذي ينبغي الفرار منه إن امكن، أو عدم التقدم في الخطوط الامامية وترك القيادة العسكرية لآخرين، أو الحصول على غنائم عندما تحين الفرصة لذلك.

ففرصة الحرب، اذن، تعبّر عن مقاربة عسكرية دامية بين عدوين متحاربين يحاول كل منهما افناء الآخر وافناء معتقداته معه. ومن هنا حاول الامام (ع) جاهداً خلق فرصاً للحرب من خلال تصميمه شكل الالتحام بين المعسكرين. فكان (ع) يسرع في السير نحو العدو، وكان (ع) يقف في المقدمة في المعركة التي خاضها، وكان (ع) ينتخِب من مقاتلي المشركين: النخبة، فيبارزها ويفنيها عن بكرة ابيها. ثم يبدأ جيشه - وبعد ان رأى قائده (ع) في المقدمة وقد ارتدى رداء الموت- بالتحرك لمنازلة العدو. 

الثاني: تنكّر التأريخ:

كيف استطاعت الماكنة الاعلامية تزوير التأريخ وحذف تلك الواقعة العظيمة، التي كانت اشهر مواقفه (ع) مع النبي (ص)، من صحائف التأريخ؟ وما هي اهداف ذلك التزوير؟

لاشك ان الارضية التي تفسر بها احداث التأريخ لها أهداف سياسية. فالتحريف الذي يحصل في الاحداث التأريخية يرجع الى فكرة تغير العلّية التأريخية. وبمعنى اوضح ان الاحداث تؤخذ بلحاظ الظروف التأريخية التي مرت بالحادثة ذاتها، ولا تؤخذ بالظروف التي يعيشها الناس بعد مئات من السنين. ذلك ان قراءة التأريخ يعني قراءة لعلل تلك الفترة الزمنية التي نقرأ احداثها. وبالنتيجة فان حذف حدث تأريخي من كتب التأريخ، سيولدُ شكوكاً في مصداقية ذلك الحدث بعد مئاتٍ من السنين. وكان هذا هو الهدف الذي سعى من أجله السلاطين والخلفاء، وهو حذف فضائل أمير المؤمنين (ع) من كتب التأريخ حتى لا يتسنى للذين يأتون من بعده من الاجيال المتلاحقة تصديق تلك الاحداث المتصلة بفضائله ومعجزاته (ع).

(نهاية ص 62)

السابق          صفحة التحميل          الصفحة الرئيسية


 

1 «المناقب» - الخوارزمي. الفصل السابع ص 46.

2 «توضيح الدلائل على تصحيح الفضائل» - شهاب الدين الايجي. ص 418.

3 «بحار الانوار» - رواه المجلسي باسناده عن سليم بن قيس الهلالي. ج 19 ص 26 الطبعة القديمة.

4 «المناقب» - الخوارزمي. الفصل العشرون ص 247.

5 الخصائص – النسائي ص 14. رواها النسائي باسناده هن سعد بن أبي وقاص.

6 «مجمع الزوائد» - الهيثمي. ج 9 ص 204.

7 كفح: من كَفَحتُهُ كَفحاً، اذا استقبلته كَفّة كَفّة. قال الاصمعي: كافَحُوهُم، اذا استقبلوهم في الحرب بوجوههم ليس دونها ترسُ ولا غيره. ويقال: فلان يُكافِحُ الامور، أي يباشرها بنفسه. والكَفيحُ: الكُفء. «الصحاح» ج 1 ص 399.

8 الخُمُر: القناع.

9 الجيب: الصدر.

10 سورة النور: آية 30 – 31.

11 سورة النساء: آية  3.

12 سورة آل عمران: آية  123.

13 سورة آل عمران: آية  123 – 126.

14 سورة الانفال: آية 9.

15 «تأريخ الطبري» ج 2 ص 501 - 514.

16 «ينابيع المودة» - القندوزي باسناده عن علي بن الحسين. الباب الثالث عشر ص 64.

17 سورة الانفال: آية 15.

18 سورة آل عمران: آية 146.

19 سورة محمد: آية 4.

20 «المواقف» - الايجي ج 8 ص 371. ط سنة 1907. وعمل الثقلين هو: عمل الجن والانس.

21 سورة الاحزاب: آية 10.

22 سورة الحجر: آية 9.