يراجع المبحث ( 134 ) جهاد الامام ( ع ) و شجاعته .
قال الامام علي ( ع ) :
فإنّكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم و وهلتم ، و سمعتم و أطعتم ،
و لكن محجوب عنكم ما قد عاينوا ، و قريب ما يطرح الحجاب . ( الخطبة 20 ، 65 )
[ 920 ]
و قال في الخطبة الغراء يذكر فعل الدنيا : حتّى إذا أنس نافرها ، و اطمأنّ ناكرها ،
قمصت بأرجلها ، و قنصت بأحبلها ، و أقصدت بأسهمها ، و أعلقت المرء أوهاق المنيّة ( أي حبالها ) ، قائدة له إلى ضنك المضجع ، و وحشة المرجع و معاينة المحلّ ( أي مشاهدة مكانه في الجنة أو النار ) ، و ثواب العمل . و كذلك الخلف بعقب السّلف .
لا تقلع المنيّة اختراما ، و لا يرعوي الباقون اجتراما . يحتذون مثالا ، و يمضون أرسالا .
إلى غاية الإنتهاء ، و صيّور الفناء . ( الخطبة 81 ، 1 ، 137 ) فهل ينتظر أهل بضاضة الشّباب إلاّ حواني الهرم ؟ و أهل غضارة الصّحّة إلاّ نوازل السّقم ؟ و أهل مدّة البقاء إلاّ آونة الفناء ؟ مع قرب الزّيال ، و أزوف الإنتقال ، و علز ( أي هلع ) القلق ، و ألم المضض ، و غصص الجرض ( أي الريق ) ، و تلّفّت الإستغاثة ،
بنصرة الحفدة و الأقرباء ، و الأعزّة و القرناء ، فهل دفعت الأقارب ، أو نفعت النّواحب ؟
و قد غودر في محلّة الأموات رهينا ، و في ضيق المضجع وحيدا . قد هتكت الهوامّ جلدته ، و أبلت النّواهك جدّته و عفت العواصف آثاره ، و محا الحدثان معالمه .
و صارت الأجساد شحبة بعد بضّتها ، و العظام نخرة بعد قوّتها ، و الأرواح مرتهنة بثقل أعبائها ، موقنة بغيب أنبائها . لا تستزاد من صالح عملها ، و لا تستعتب من سيّىء زللها . ( الخطبة 81 ، 2 ، 142 ) و قال ( ع ) في الخطبة الغراء عن المغتر بالدنيا : دهمته فجعات المنيّة في غبّر جماحه ،
و سنن مراحه . فظلّ سادرا ، و بات ساهرا . في غمرات الآلام ، و طوارق الأوجاع و الأسقام . بين أخ شقيق ، و والد شفيق . و داعية بالويل جزعا ، و لادمة للصّدر قلقا .
و المرء في سكرة ملهثة ، و غمرة كارثة ، و أنّة موجعة ، و جذبة مكربة ، و سوقة متعبة . ثمّ أدرج في أكفانه مبلسا ، و جذب منقادا سلسا . ثمّ ألقي على الأعواد ، رجيع وصب ( أي تعب ) ، و نضو سقم ( أي هزيلا من الضعف ) . تحمله حفدة الولدان ، و حشدة الإخوان . إلى دار غربته ، و منقطع زورته ، و مفرد وحشته . حتّى إذا انصرف المشيع ،
و رجع المتفجّع ، أقعد في حفرته نجيّا ، لبهتة السّؤال ، و عثرة الإمتحان . و أعظم ما هنالك بليّة نزول الحميم ، و تصلية الجحيم . و فورات السّعير ، و سورات الزّفير . لا فترة
[ 921 ]
مريحة ، و لا دعة مزيحة . و لا قوّة حاجزة ، و لا موتة ناجزة ، و لا سنة مسلّية . بين أطوار الموتات ، و عذاب السّاعات إنّا باللّه عائذون ( الخطبة 81 ، 3 ، 146 ) و من كلام له ( ع ) في عمرو بن العاص : أما و اللّه إنّي ليمنعني من اللّعب ذكر الموت ،
و إنّه ليمنعه من قول الحقّ نسيان الآخرة . ( الخطبة 82 ، 149 ) فكأن قد علقتكم مخالب المنيّة ، و انقطعت منكم علائق الأمنيّة ، و دهمتكم مفظعات الأمور ، و السّياقة إلى الورد المورود . ف كُلُّ نَفسٍ مَعَهَا سَائقٌ وَ شَهِيدٌ : سائق يسوقها إلى محشرها ، و شاهد يشهد عليها بعملها . ( الخطبة 83 ، 150 ) و خلق الآجال فأطالها و قصّرها ، و قدّمها و أخرها ، و وصل بالموت أسبابها ، و جعله خالجا لأشطانها ( أي جاذبا لحبالها الطويلة ) ، و قاطعا لمرائر أقرانها ( أي لحبالها القوية ) . ( الخطبة 89 ، 4 ، 175 ) أو لستم ترون أهل الدّنيا يصبحون و يمسون على أحوال شتّى : فميت يبكى ، و آخر يعزّى ، و صريع مبتلى . و عائد يعود ، و آخر بنفسه يجود . و طالب للدّنيا و الموت يطلبه ،
و غافل و ليس بمغفول عنه . و على أثر الماضي ما يمضي الباقي ألا فاذكروا هادم اللّذّات ، و منغّص الشّهوات ، و قاطع الأمنيات ، عند المساورة للأعمال القبيحة .
( الخطبة 97 ، 192 ) و هو يرى المأخوذين على الغرّة ( أي بغتة ) ، حيث لا إقالة و لا رجعة ، كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون ، و جاءهم من فراق الدّنيا ما كانوا يأمنون ، و قدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون ، فغير موصوف ما نزل بهم . اجتمعت عليهم سكرة الموت و حسرة الفوت . ففترت لها أطرافهم ، و تغيّرت لها ألوانهم . ثمّ ازداد الموت فيهم ولوجا . فحيل بين أحدهم و بين منطقه . و أنّه لبين أهله ينظر ببصره ، و يسمع بأذنه ، على صحّة من عقله ، و بقاء من لبّه . يفكّر فيم أفنى عمره ، و فيم أذهب دهره و يتذكّر أموالا جمعها ، أغمض في مطالبها ، و أخذها من مصرّحاتها و مشتبهاتها . قد لزمته تبعات جمعها ، و أشرف على فراقها . تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ، و يتمتّعون بها . فيكون المهنأ لغيره ، و العبء على ظهره . و المرء قد غلقت رهونه بها ، فهو يعضّ يده ندامة
[ 922 ]
على ما أصحر له ( أي ما ظهر له و أنكشف ) عند الموت من أمره ، و يزهد فيما كان يرغب فيه أيّام عمره ، و يتمنّى أنّ الّذي كان يغبطه بها و يحسده عليها قد حازها دونه فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتّى خالط لسانه سمعه . فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ، و لا يسمع بسمعه . يردّد طرفه بالنّظر في وجوههم . يرى حركات ألسنتهم ،
و لا يسمع رجع كلامهم . ثمّ ازداد الموت التياطا به ، فقبض بصره كما قبض سمعه ،
و خرجت الرّوح من جسده ، فصار جيفة بين أهله . قد أوحشوا من جانبه ، و تباعدوا من قربه . لا يسعد باكيا ، و لا يجيب داعيا . ثمّ حملوه إلى مخطّ في الأرض ، فأسلموه فيه إلى عمله ، و انقطعوا عن زورته . ( الخطبة 107 ، 210 ) و قال ( ع ) عن صفة الموتى : حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا ، و أنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفانا . و جعل لهم من الصّفيح أجنان ، و من التّراب أكفان ، و من الرّفات جيران . فهم جيرة لا يجيبون داعيا ، و لا يمنعون ضيما ، و لا يبالون مندبة . إن جيدوا ( أي أصابهم المطر ) لم يفرحوا ، و إن قحطوا لم يقنطوا . جميع و هم آحاد ، و جيرة و هم أبعاد .
متدانون لا يتزاورون ، و قريبون لا يتقاربون . حلماء قد ذهبت أضغانهم ، و جهلاء قد ماتت أحقادهم . لا يخشى فجعهم ، و لا يرجى دفعهم . استبدلوا بظهر الأرض بطنا ،
و بالسّعة ضيقا . و بالأهل غربة ، و بالنّور ظلمة . فجاؤوها كما فارقوها ، حفاة عراة .
قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدّائمة و الدّار الباقية ، كما قال سبحانه و تعالى كَمَا بَدَأنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ، وَعْداً عَلَيْنَا إنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ . ( الخطبة 109 ، 217 ) و أسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم . ( الخطبة 111 ، 218 ) ثمّ إنّ الدّنيا دار فناء و عناء ، و غير و عبر ، فمن الفناء أنّ الدّهر موتر قوسه ، لا تخطىء سهامه ، و لا تؤسى جراحه . يرمي الحيّ بالموت ، و الصّحيح بالسّقم ، و النّاجي بالعطب . ( الخطبة 112 ، 220 ) فسبحان اللّه ، ما أقرب الحيّ من الميّت للحاقه به ، و أبعد الميّت من الحيّ لانقطاعه عنه . ( الخطبة 112 ، 221 ) إنّ الموت طالب حثيث ، لا يفوته المقيم ، و لا يعجزه الهارب . إنّ أكرم الموت القتل .
[ 923 ]
و الّذي نفس ابن أبي طالب بيده ، لألف ضربة بالسّيف أهون عليّ من ميتة على الفراش ، في غير طاعة اللّه . ( الخطبة 121 ، 232 ) فإنّه و اللّه الجدّ لا اللّعب ، و الحقّ لا الكذب . و ما هو إلاّ الموت ، أسمع داعيه ، و أعجل حاديه . فلا يغرّنّك سواد النّاس من نفسك . فقد رأيت من كان قبلك ممّن جمع المال ،
و حذر الإقلال ، و أمن العواقب طول أمل و استبعاد أجل كيف نزل به الموت فأزعجه عن وطنه ، و أخذه من مأمنه . محمولا على أعواد المنايا . يتعاطى به الرّجال الرّجال ، حملا على المناكب و إمساكا بالأنامل . ( الخطبة 130 ، 243 ) و قال ( ع ) قبيل وفاته يصور حاله بعد وفاته : ليعظكم هدوّي و خفوت إطراقي و سكون أطرافي ، فإنّه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ و القول المسموع . ( الخطبة 147 ، 262 ) و بالإيمان يعمر العلم ، و بالعلم يرهب الموت ، و بالموت تختم الدّنيا ، و بالدّنيا تحرز الآخرة . ( الخطبة 154 ، 274 ) يذهب اليوم بما فيه ، و يجيء الغد لاحقا به . فكأنّ كلّ امرىء منكم قد بلغ من الأرض منزل وحدته ، و مخطّ حفرته : فيا له من بيت وحدة ، و منزل وحشة ، و مفرد غربة . و كأنّ الصّيحة قد أتتكم ، و السّاعة قد غشيتكم . و برزتم لفصل القضاء .
قد زاحت عنكم الأباطيل ، و اضمحلّت عنكم العلل . و استحقّت بكم الحقائق .
و صدرت بكم الأمور مصادرها . فاتّعظوا بالعبر ، و اعتبروا بالغير ، و انتفعوا بالنّذر . ( الخطبة 155 ، 278 ) و أوصيكم بذكر الموت و إقلال الغفلة عنه . و كيف غفلتكم عمّا ليس يغفلكم ،
و طمعكم فيمن ليس يمهلكم . فكفى واعظا بموتى عاينتموهم . حملوا إلى قبورهم غير راكبين ، و أنزلوا فيها غير نازلين . فكأنّهم لم يكونوا للدّنيا عمّارا ، و كأنّ الآخرة لم تزل لهم دارا . أوحشوا ما كانوا يوطنون ، و أوطنوا ما كانوا يوحشون . و اشتغلوا بما فارقوا ،
و أضاعوا ما إليه انتقلوا . لا عن قبيح يستطيعون انتقالا ، و لا في حسن يستطيعون ازديادا .
أنسوا بالدّنيا فغرّتهم ، و وثقوا بها فصرعتهم . ( الخطبة 186 ، 348 ) و بادروا الموت و غمراته . و امهدوا له قبل حلوله ، و أعدّوا له قبل نزوله . فإنّ الغاية
[ 924 ]
القيامة . و كفى بذلك واعظا لمن عقل ، و معتبرا لمن جهل . و قبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الأرماس ، و شدّة الإبلاس . و هول المطّلع ، و روعات الفزع . و اختلاف الأضلاع ، و إستكاك الأسماع . و ظلمة اللّحد ، و خيفة الوعد . و غمّ الضّريح ، و ردم الصّفيح . ( الخطبة 188 ، 351 ) و اعلموا أنّ ملاحظ المنيّة نحوكم دانية ، و كأنّكم بمخالبها و قد نشبت فيكم ،
و قد دهمتكم فيها مفظعات الأمور ، و معضلات المحذور . فقطّعوا علائق الدّنيا و استظهروا بزاد التّقوى . ( الخطبة 202 ، 397 ) أولئكم سلف غايتكم و فرّاط مناهلكم . الّذين كانت لهم مقاوم العزّ و حلبات الفخر ،
ملوكا و سوقا . سلكوا في بطون البرزخ سبيلا . سلّطت الأرض عليهم فيه ، فأكلت من لحومهم ، و شربت من دمائهم . فأصبحوا في فجوات قبورهم جمادا لا ينمون ، و ضمارا لا يوجدون . لا يفزعهم ورود الأهوال ، و لا يحزنهم تنكّر الأحوال . و لا يحفلون بالرّواجف و لا يأذنون ( أي يستمعون ) للقواصف . غيّبا لا ينتظرون ، و شهودا لا يحضرون . و إنّما كانوا جميعا فتشتّتوا ، و آلافا فافترقوا . و ما عن طول عهدهم و لا بعد محلّهم عميت أخبارهم ، و صمّت ديارهم ، و لكنّهم سقوا كأسا بدّلتهم بالنّطق خرسا ، و بالسّمع صمما ، و بالحركات سكونا . فكأنّهم في ارتجال الصّفة صرعى سبات . جيران لا يتأنّسون ، و أحبّاء لا يتزاورون . بليت بينهم عرى التّعارف . و انقطعت منهم أسباب الإخاء . فكلّهم وحيد و هم جميع . و بجانب الهجر و هم أخلاّء . لا يتعارفون لليل صباحا ، و لا لنهار مساء .
أيّ الجديدين ظعنوا فيه كان عليهم سرمدا . شاهدوا من أخطار دارهم أفظع ممّا خافوا ، و رأوا من آياتها أعظم ممّا قدّروا ، فكلتا الغايتين مدّت لهم إلى مباءة ، فأتت مبالغ الخوف و الرّجاء . فلو كانوا ينطقون بها لعيّوا بصفة ما شاهدوا و ما عاينوا . و لئن عميت آثارهم ، و انقطعت أخبارهم . لقد رجعت فيهم أبصار العبر ، و سمعت عنهم آذان العقول . و تكلّموا من غير جهات النّطق . فقالوا : كلحت الوجوه النّواضر ، و خوت الأجسام النّواعم . و لبسنا أهدام البلى ، و تكاءدنا ( أي شقّ علينا ) ضيق المضجع ،
[ 925 ]
و توارثنا الوحشة ، و تهكّمت علينا الرّبوع الصّموت . فانمحت محاسن أجسادنا ،
و تنكّرت معارف صورنا ، و طالت في مساكن الوحشة إقامتنا . ( الخطبة 219 ، 416 ) فكم أكلت الأرض من عزيز جسد ، و أنيق لون . كان في الدّنيا غذيّ ترف ، و ربيب شرف . يتعلّل بالسّرور في ساعة حزنه ، و يفزع إلى السّلوة إن مصيبة نزلت به . ضنّا بغضارة عيشه ( أي بخلا بطيب عيشه ) ، و شحاحة بلهوه و لعبه ؟ فبينا هو يضحك إلى الدّنيا و تضحك إليه ، في ظلّ عيش غفول ، إذ وطىء الدّهر به حسكه ، و نقضت الأيّام قواه ، و نظرت إليه الحتوف من كثب . فخالطه بثّ لا يعرفه ، و نجيّ همّ ما كان يجده .
و تولّدت فيه فترات علل ، آنس ما كان بصحّته ( أي أصابته العلل حال كونه أشد أنسا بصحته ) ففزع إلى ما كان عوّده الأطبّاء ، من تسكين الحارّ بالقارّ ، و تحريك البارد بالحارّ . فلم يطفىء ببارد إلاّ ثوّر حرارة . و لا حرّك بحارّ إلاّ هيّج برودة . و لا اعتدل بممازج لتلك الطّبائع إلاّ أمدّ منها كلّ ذات داء . حتّى فتر معلّله ، و ذهل ممرّضه .
و تعايا أهله بصفة دائه ، و خرسوا عن جواب السّائلين عنه . و تنازعوا دونه شجيّ خبر يكتمونه ، فقائل يقول هو لما به ( أي هو هالك مما به ) ، و ممّن لهم إياب عافيته ،
و مصبّر لهم على فقده . يذكّرهم أسى ( جمع أسوة ) الماضين من قبله . فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدّنيا ، و ترك الأحبّة ، إذ عرض له عارض من غصصه . فتحيّرت نوافذ فطنته ، و يبست رطوبة لسانه . فكم من مهمّ من جوابه عرفه فعيّ عن ردّه ، و دعاء مؤلم بقلبه سمعه فتصامّ عنه من كبير كان يعظّمه ، أو صغير كان يرحمه . و إنّ للموت لغمرات هي أفظع من أن تستغرق بصفة ، أو تعتدل على عقول أهل الدّنيا . ( الخطبة 219 ، 419 ) . . . أصبحت أصواتهم هامدة ، و رياحهم راكدة ، و أجسادهم بالية ، و ديارهم خالية ،
و آثارهم عافية ( أي مندرسة ) . فاستبدلوا بالقصور المشيّدة ، و النّمارق ( الوسائد ) الممهّدة ، الصّخور و الأحجار المسنّدة ، و القبور اللاّطئة الملحدة . الّتي قد بني على الخراب فناؤها ، و شيّد بالتّراب بناؤها . فمحلّها مقترب ، و ساكنها مغترب . بين أهل محلّة موحشين ، و أهل فراغ متشاغلين . لا يستأنسون بالأوطان ، و لا يتواصلون تواصل
[ 926 ]
الجيران ، على ما بينهم من قرب الجوار و دنوّ الدّار . و كيف يكون بينهم تزاور ،
و قد طحنهم بكلكله البلى ، و أكلتهم الجنادل و الثّرى و كأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه ، و ارتهنكم ذلك المضجع ، و ضمّكم ذلك المستودع . فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور ، و بعثرت القبور هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ ، وَ رُدُّوا إلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الحَقِّ ، وَ ضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ . ( الخطبة 224 ، 428 ) . . . فإنّ الموت هادم لذّاتكم ، و مكدّر شهواتكم ، و مباعد طيّاتكم . زائر غير محبوب و قرن غير مغلوب ، و واتر غير مطلوب . قد أعلقتكم حبائله ، و تكنّفتكم غوائله ،
و أقصدتكم معابله ( جمع معبلة و هي النصل الطويل العريض . و أقصده : رماه بسهم فقتله ) . و عظمت فيكم سطوته . و تتابعت عليكم عدوته ، و قلّت عنكم نبوته ( هو الخطأ في الرمي ) . فيوشك أن تغشاكم دواجي ظلله ، و احتدام علله . و حنادس غمراته ،
و غواشي سكراته . و أليم إزهاقه ، و دجوّ إطباقه ، و جشوبة مذاقه . فكأن قد أتاكم بغتة فأسكت نجيّكم ، و فرّق نديّكم ( أي جماعتكم ) . و عفّى آثاركم ، و عطّل دياركم .
و بعث ورّاثكم يقتسمون تراثكم ( أي ميراثكم ) بين حميم خاصّ لم ينفع ، و قريب محزون لم يمنع ، و آخر شامت لم يجزع . ( الخطبة 228 ، 431 ) . . . فاحذروا عباد اللّه الموت و قربه ، و أعدّوا له عدّته . فإنّه يأتي بأمر عظيم و خطب جليل . بخير لا يكون معه شرّ أبدا ، أو شرّ لا يكون معه خير أبدا . فمن أقرب إلى الجنّة من عاملها و من أقرب إلى النّار من عاملها . و أنتم طرداء الموت . إن أقمتم له أخذكم ، و إن فررتم منه أدرككم ، و هو ألزم لكم من ظلّكم . الموت معقود بنواصيكم ،
و الدّنيا تطوى من خلفكم . فاحذروا نارا . . . ( الخطبة 266 ، 465 ) و قال ( ع ) في وصيته لابنه الحسن ( ع ) : فتفهّم يا بنيّ وصيّتي ، و اعلم أنّ مالك الموت هو مالك الحياة ، و أنّ الخالق هو المميت ، و أنّ المفني هو المعيد ، و أنّ المبتلي هو المعافي . ( الخطبة 270 ، 2 ، 478 ) و قال ( ع ) : و اعلم يا بنيّ . . . أنّك طريد الموت الّذي لا ينجو منه هاربه ، و لا يفوته طالبه ،
و لا بدّ أنّه مدركه . فكن منه على حذر أن يدركك و أنت على حال سيّئة ، قد كنت
[ 927 ]
تحدّث نفسك منها بالتّوبة ، فيحول بينك و بين ذلك ، فإذا أنت قد أهلكت نفسك .
( الخطبة 270 ، 3 ، 483 ) ثم قال ( ع ) : يا بنيّ أكثر من ذكر الموت ، و ذكر ما تهجم عليه ، و تفضي بعد الموت إليه .
حتّى يأتيك و قد أخذت منه حذرك ، و شدّدت له أزرك ، و لا يأتيك بغتة فيبهرك .
( الخطبة 270 ، 3 ، 483 ) فكأنّك قد بلغت المدى ، و دفنت تحت الثّرى ، و عرضت عليك أعمالك بالمحلّ الّذي ينادي الظّالم فيه بالحسرة ، و يتمنّى المضيّع فيه الرّجعة ، و لات حين مناص . ( الخطبة 280 ، 499 ) و قال ( ع ) في كتابه لعثمان بن حنيف الأنصاري : و ما أصنع بفدك و غير فدك ، و النّفس مظانّها في غد جدث ، تنقطع في ظلمته آثارها و تغيب أخبارها . و حفرة لو زيد في فسحتها ، و أوسعت يدا حافرها ، لأضغطها الحجر و المدر ، و سدّ فرجها التّراب المتراكم . ( الخطبة 284 ، 506 ) و من كتاب له ( ع ) الى الحارث الهمذاني : . . . و أكثر ذكر الموت و ما بعد الموت ،
و لا تتمنّ الموت إلاّ بشرط وثيق ( أي لا تخاطر بنفسك إلاّ اذا علمت أن الغاية أشرف من بذل الروح ) . ( الخطبة 308 ، 556 ) نفس المرء خطاه إلى أجله . ( 74 ح ، 577 ) و تبع ( ع ) جنازة فسمع رجلا يضحك ، فقال : كأنّ الموت فيها على غيرنا كتب . و كأنّ الحقّ فيها على غيرنا وجب . و كأنّ الّذي نرى من الأموات سفر عمّا قليل إلينا راجعون نبوّئهم أجداثهم ، و نأكل تراثهم . كأنّا مخلّدون بعدهم . ثمّ قد نسينا كلّ واعظ و واعظة ، و رمينا بكلّ جائحة ( أي آفة ) . ( 122 ح ، 587 ) . . . و عجبت لمن نسي الموت و هو يرى الموتى . ( 216 ح ، 589 ) و قال ( ع ) و قد رجع من صفين ، فأشرف على القبور بظاهر الكوفة : يا أهل الدّيار الموحشة ،
و المحالّ المقفرة ، و القبور المظلمة . يا أهل التّربة ، يا أهل الغربة . يا أهل الوحدة ،
يا أهل الوحشة . أنتم لنا فرط ( أي متقدّمون ) سابق ، و نحن لكم تبع لاحق . أمّا الدّور
[ 928 ]
فقد سكنت ، و أمّا الأزواج فقد نكحت ، و أمّا الأموال فقد قسمت . هذا خبر ما عندنا ،
فما خبر ما عندكم ؟
ثم التفت الى أصحابه ( ع ) فقال : أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم : أنّ خير الزّاد التّقوى . ( 130 ح ، 589 ) لو رأى العبد الأجل و مصيره ، لأبغض الأمل و غروره . ( 334 ح ، 633 ) و من أكثر من ذكر الموت رضي من الدّنيا باليسير . ( 349 ح ، 636 )