( 429 ) الخطبة الخالية من الألف

بين أيدينا مصادر كثيرة لهذه الخطبة التي لم ترد في نهج البلاغة ، فقد ذكرها ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 19 ، 140 ، و المجلسي في بحار الأنوار 17 ، 124 ، و الكفعمي في المصباح 744 ، و الكنجي الشافعي في كفاية الطالب 248 ، و الفيروزآبادي في فضائل الخمسة 2 ، 256 ، و كاشف الغطاء في مستدرك نهج البلاغة 44 ، و المستنبط في القطرة 2 ، 176 ،

و التستري في قضاء أمير المؤمنين عليه السلام 61 ، و المازندراني في الكوكب الدري 2 ، 211 ، و الدلفي في فضائل آل الرسول 4 ، و ذكر بعضها ابن شهرآشوب في المناقب

[ 996 ]

1 ، 271 ، و نحن ننقلها عن شرح نهج البلاغة .

قال ابن أبي الحديد : روى كثير من الناس قالوا : تذاكر أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أيّ حروف الهجاء أدخل في الكلام ؟ فأجمعوا على الألف ، فارتجل الامام علي ( ع ) الخطبة المونقة و هي :

حمدت من عظمت منّته ، و سبغت نعمته ، و سبقت غضبه رحمته و تمّت كلمته ،

و نفذت مشيئته ، و بلغت قضيّته . حمدته حمد مقرّ بربوبيّته ، متخضّع لعبوديّته ،

متنصّل من خطيئته ، متفرّد بتوحيده ، مستعيذ من وعيده ، مؤمّل منه مغفرة تنجيه ، يوم يشغل عن فصيلته و بنيه .

و نستعينه و نسترشده و نستهديه ، و نؤمن به و نتوكّل عليه . و شهدت له شهود مخلص موقن ، و فرّدته تفريد مؤمن متيقّن ، و وحّدته توحيد عبد مذعن ، ليس له شريك في ملكه ، و لم يكن له وليّ في صنعه ، جلّ عن مشير و وزير ، و تنزّه عن معين و نظير .

علم فستر ، و بطن فخبر ، و ملك فقهر ، و عصي فغفر ، و حكم فعدل . لم يزل و لن يزول ،

( ليس كمثله شي‏ء ) ، و هو قبل كلّ شي‏ء ، و بعد كلّ شي‏ء . ربّ متعزّر بعزّته ،

متمكّن بقوّته ، متقدّس بعلوّه ، متكبّر بسموّه ، ليس يدركه بصر ، و لم يحط به نظر . قويّ منيع ، بصير سميع ، رؤوف رحيم .

عجز عن وصفه من يصفه ، و ضلّ عن نعته من يعرفه . قرب فبعد و بعد فقرب . يجيب دعوة من يدعوه ، و يرزقه و يحبوه . ذو لطف خفيّ ، و بطش قويّ ، و رحمة موسعة ،

و عقوبة موجعة . رحمته جنّة عريضة مونقة ، و عقوبته جحيم ممدودة موبقة .

و شهدت ببعث محمد رسوله ، و عبده و صفيّه و نبيّه و نجيّه و حبيبه و خليله . بعثه في خير عصر ، و حين فترة و كفر ، رحمة لعبيده ، و منّة لمزيده . ختم به نبوّته ، و شيّد به حجّته ،

فوعظ و نصح ، و بلّغ و كدح . رؤوف بكلّ مؤمن ، رحيم سخيّ ، رضيّ وليّ زكيّ ، عليه رحمة و تسليم ، و بركة و تكريم ، من ربّ غفور رحيم ، قريب مجيب .

وصّيتكم معشر من حضرني ، بوصيّة ربّكم ، و ذكّرتكم بسنّة نبيّكم ، فعليكم برهبة تسكن قلوبكم ، و خشية تذري دموعكم ، و تقيّة تنجيكم ، قبل يوم يبليكم و يذهلكم .

[ 997 ]

يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته ، و خفّ وزن سيّئته . و لتكن مسألتكم و تملّقكم ،

مسألة ذلّ و خضوع ، و شكر و خشوع ، بتوبة و نزوع ، و ندم و رجوع . و ليغتنم كلّ مغتنم منكم ، صحّته قبل سقمه ، و شبيبته قبل هرمه ، و سعته قبل فقره ، و فرغته قبل شغله ،

و حضره قبل سفره ، قبل تكبّر و تهرّم و تسقّم ، يملّه طبيبه ، و يعرض عنه حبيبه ، و ينقطع عمره ، و يتغيّر عقله . ثمّ قيل هو موعوك ، و جسمه منهوك . ثمّ جدّ في نزع شديد ،

و حضره كلّ قريب و بعيد . فشخص بصره ، و طمح نظره ، و رشح جبينه ، و عطف عرينه ، و سكن حنينه و حزنته نفسه ، و بكته عرسه ، و حفر رمسه . و يتّم منه ولده ،

و تفرّق منه عدده ، و قسّم جمعه ، و ذهب بصره و سمعه ، و مدّد و جرّد ، و عرّي و غسّل ،

و نشّف و سجّي ، و بسط له وهيّي‏ء ، و نشر عليه كفنه ، و شدّ منه ذقنه ، و قمّص و عمّم ،

و ودّع و سلّم ، و حمل فوق سرير ، و صلّي عليه بتكبير ، و نقل من دور مزخرفة و قصور مشيّدة و حجر منجّدة ، و جعل في ضريح ملحود ، و ضيق مرصود ، بلبن منضود ، مسقّف بجلمود . و هيل عليه حفره ، و حثي عليه مدره ، و تحقّق حذره ، و نسي خبره . و رجع عنه وليّه و صفيّه ، و نديمه و نسيبه ، و تبدّل به قرينه و حبيبه . فهو حشو قبر ، و رهين قفر ، يسعى بجسمه دود قبره ، و يسيل صديده من منخره . يسحق تربه لحمه ، و ينشّف دمه ، و يرمّ عظمه . حتّى يوم حشره ، فنشر من قبره ، حين ينفخ في صور ، و يدعى بحشر و نشور .

فثمّ بعثرت قبور ، و حصّلت سريرة صدور ، و جي‏ء بكلّ نبيّ و صدّيق و شهيد ، و توحّد للفصل ربّ قدير ، بعبده خبير بصير . فكم من زفرة تضنيه ، و حسرة تنضيه . في موقف مهول ، و مشهد جليل ، بين يدي ملك عظيم ، و بكلّ صغير و كبير عليم . فحينئذ يلجمه عرقه ، و يحصره قلقه . عبرته غير مرحومة ، و صرخته غير مسموعة ، و حجّته غير مقبولة ،

زالت جريدته ، و نشرت صحيفته ، و تبيّنت جريرته . نظر في سوء عمله ، و شهدت عليه عينه بنظره ، و يده ببطشه ، و رجله بخطوه ، و فرجه بلمسه ، و جلده بمسّه . فسلسل جيده ،

و غلّت يده ، و سيق فسحب وحده ، فورد جهنّم بكرب و شدّة ، فظلّ يعذّب في جحيم ،

و يسقى شربة من حميم . تشوي وجهه ، و تسلخ جلده ، و تضربه زبنية بمقمع من حديد ، و يعود جلده بعد نضجه كجلد جديد . يستغيث فتعرض عنه خزنة جهنّم ،

[ 998 ]

و يستصرخ فيلبث حقبة يندم .

نعوذ بربّ قدير ، من شرّ كلّ مصير ، و نسأله عفو من رضي عنه ، و مغفرة من قبل منه .

فهو وليّ مسألتي ، و منجح طلبتي . فمن زحزح عن تعذيب ربّه ، جعل في جنّته بقربه .

و خلّد في قصور مشيّدة ، و ملك بحور عين و حفدة ، و طيف عليه بكؤوس ، و سكّن حظيرة قدّوس ، و تقلّب في نعيم ، و سقي من تسنيم ، و شرب من عين سلسبيل ، و مزج له بزنجبيل ، مختّم بمسك و عبير . مستديم للملك ، مستشعر للسّرور ، يشرب من خمور في روض مغدق ، ليس يصدّع من شربه و ليس ينزف .

هذه منزلة من خشي ربّه ، و حذّر نفسه معصيته ، و تلك عقوبة من جحد مشيئته ،

و سوّلت له نفسه معصيته . فهو قول فصل ، و حكم عدل ، و خبر قصص قصّ ، و وعظ نصّ ، ( تنزيل من حكيم حميد ) ، نزل به روح قدس مبين ، على قلب نبيّ مهتد رشيد ، صلّت عليه رسل سفرة ، مكرّمون بررة . عذت بربّ عليم رحيم كريم ، من شرّ كلّ عدوّ لعين رجيم . فليتضرّع متضرّعكم ، و ليبتهل مبتهلكم ، و ليستغفر كلّ مربوب منكم ، لي و لكم ، و حسبي ربّي وحده .