( رجال اللّه و أولياؤه العارفون باللّه السالكون الطريق الى اللّه )
يراجع المبحث ( 360 ) التقوى و الفسوق .
قال الامام علي ( ع ) :
في أصناف المسيئين : و النّاس على أربعة أصناف : منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض إلاّ مهانة نفسه ، و كلالة حدّه ، و نضيض وفره ( أي قلة ماله ) . و منهم المصلت لسيفه ، و المعلن بشرّه ، و المجلب بخيله و رجله . قد أشرط نفسه ، و أوبق دينه ، لحطام ينتهزه ، أو مقنب ( طائفة من الخيل ) يقوده ، أو منبر يفرعه ( أي يعلوه ) . و لبئس المتجر أن ترى الدّنيا لنفسك ثمنا ، و ممّا لك عند اللّه عوضا و منهم من يطلب الدّنيا بعمل الآخرة ، و لا يطلب الآخرة بعمل الدّنيا . قد طامن من شخصه ، و قارب من خطوه ،
و شمّر من ثوبه ، و زخرف من نفسه للأمانة ، و اتّخذ ستر اللّه ذريعة إلى المعصية .
و منهم من أبعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه ، و انقطاع سببه ، فقصرته الحال على
[ 859 ]
حاله ، فتحلّى باسم القناعة ، و تزيّن بلباس أهل الزّهادة ، و ليس من ذلك في مراح و لا مغدى . .
و بقي رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع ، و أراق دموعهم خوف المحشر . فهم بين شريد نادّ ( أي هارب من الجماعة الى الوحدة ) ، و خائف مقموع ، و ساكت مكعوم ،
وداع مخلص ، و ثكلان موجع . قد أخملتهم التّقيّة ، و شملتهم الذّلّة . فهم في بحر أجاج ، أفواههم ضامزة ( أي ساكنة ) ، و قلوبهم قرحة . قد وعظوا حتّى ملّوا ، و قهروا حتّى ذلّوا ، و قتلوا حتّى قلّوا . ( الخطبة 32 ، 86 ) و إنّما سمّيت الشّبهة شبهة لأنّها تشبه الحقّ . فأمّا أولياء اللّه فضياؤهم فيها اليقين ،
و دليلهم سمت الهدى . ( الخطبة 38 ، 97 ) أمّا الإمرة البرّة فيعمل فيها التّقيّ ، و أمّا الإمرة الفاجرة فيتمتّع فيها الشّقيّ ، إلى أن تنقطع مدّته ، و تدركه منيّته . ( الخطبة 40 ، 99 ) رحم اللّه امرءا سمع حكما فوعى ، و دعي إلى رشاد فدنا ، و أخذ بحجزة هاد فنجا .
راقب ربّه ، و خاف ذنبه . قدّم خالصا ، و عمل صالحا . اكتسب مذخورا ، و اجتنب محذورا ، و رمى غرضا ، و أحرز عوضا . كابر هواه ، و كذّب مناه . جعل الصّبر مطيّة نجاته ، و التّقوى عدّة وفاته . ركب الطّريقة الغرّاء ، و لزم المحجّة البيضاء . اغتنم المهل ، و بادر الأجل ، و تزوّد من العمل . ( الخطبة 74 ، 130 ) فاتّقوا اللّه تقيّة من سمع فخشع ، و اقترف فاعترف ، و وجل فعمل ، و حاذر فبادر ، و أيقن فأحسن ، و عبّر فاعتبر ، و حذّر فحذر ، و زجر فازدجر ، و أجاب فأناب ، و راجع فتاب ،
و اقتدى فاحتذى ، و أري فرأى . فأسرع طالبا ، و نجا هاربا ، فأفاد ذخيرة ، و أطاب سريرة ، و عمّر معادا ، و استظهر زادا ، ليوم رحيله و وجه سبيله ، و حال حاجته و موطن فاقته ، و قدّم أمامه لدار مقامه . فاتّقوا اللّه عباد اللّه جهة ما خلقكم له ، و احذروا منه كنه ما حذّركم من نفسه ، و استحقّوا منه ما أعدّ لكم بالتّنجّز لصدق ميعاده ، و الحذر من هول معاده . ( الخطبة 81 ، 2 ، 141 ) فاتّقوا اللّه عباد اللّه ، تقيّة ذي لبّ شغل التّفكّر قلبه ، و أنصب الخوف بدنه ، و أسهر
[ 860 ]
التّهجّد غرار نومه ، و أظمأ الرّجاء هواجر يومه ، و ظلف الزّهد شهواته ، و أوجف الذّكر بلسانه ، و قدّم الخوف لأمانه ، و تنكّب المخالج عن وضح السّبيل ، و سلك أقصد المسالك إلى النّهج المطلوب ، و لم تفتله فاتلات الغرور ، و لم تعم عليه مشتبهات الأمور ، ظافرا بفرحة البشرى ، و راحة النّعمى ، في أنعم نومه ، و آمن يومه . و قد عبر معبر العاجلة حميدا ، و قدّم زاد الآجلة سعيدا ، و بادر من وجل ، و أكمش في مهل ( أي أسرع ) ، و رغب في طلب ، و ذهب عن هرب ( أي انصرف عما يجب الهروب منه ) ، و راقب في يومه غده ، و نظر قدما أمامه . فكفى بالجنّة ثوابا و نوالا ، و كفى بالنّار عقابا و وبالا . و كفى باللّه منتقما و نصيرا ، و كفى بالكتاب حجيجا و خصيما .
( الخطبة 81 ، 2 ، 144 ) و قال ( ع ) في صفة الفاسق المغتر بالدنيا ، و ذلك من خطبته الغراء : أم هذا الّذي أنشأه في ظلمات الأرحام ، و شغف الأستار . نطفة دهاقا ( أي منصبّة بقوة ) ، و علقة محاقا .
و جنينا و راضعا ، و وليدا و يافعا . ثمّ منحه قلبا حافظا ، و لسانا لافظا ، و بصرا لاحظا .
ليفهم معتبرا ، و يقصّر مزدجرا . حتّى إذا قام اعتداله و استوى مثاله ، نفر مستكبرا ،
و خبط سادرا ، ماتحا في غرب هواه ( أي يستسقي بدلو هواه ) ، كادحا سعيا لدنياه .
في لذّات طربه ، و بدوات أربه . لا يحتسب رزيّة ، و لا يخشع تقيّة ( أي خوفا من اللّه تعالى ) . فمات في فتنته غريرا ، و عاش في هفوته يسيرا . لم يفد عوضا ( أي لم يستفد ثوابا ) ، و لم يقض مفترضا . دهمته فجعات المنيّة في غبّر جماحه ، و سنن مراحه . . .
« تراجع تتمة الكلام في المبحث ( 375 ) الحياة و الاحتضار و الموت و القبر » ( الخطبة 81 ، 3 ، 146 ) و من خطبة له ( ع ) يبين فيها صفات المتقين و صفات الفاسقين : عباد اللّه ، إنّ من أحبّ عباد اللّه إليه عبدا أعانه اللّه على نفسه ، فاستشعر الحزن ، و تجلبب الخوف . فزهر مصباح الهدى في قلبه ، و أعدّ القرى ليومه النّازل به . فقرّب على نفسه البعيد ، و هوّن الشّديد . نظر فأبصر ، و ذكر فاستكثر ، و ارتوى من عذب فرات سهّلت له موارده ، فشرب نهلا ، و سلك سبيلا جددا ( أي يسهل السير فيه ) . قد خلع سرابيل الشّهوات ، و تخلّى من
[ 861 ]
الهموم ، إلاّ همّا واحدا انفرد به . فخرج من صفة العمى ، و مشاركة أهل الهوى .
و صار من مفاتيح أبواب الهدى ، و مغاليق أبواب الرّدى . قد أبصر طريقه ، و سلك سبيله ، و عرف مناره ، و قطع غماره . و استمسك من العرى بأوثقها ، و من الحبال بأمتنها . فهو من اليقين على مثل ضوء الشّمس . قد نصب نفسه للّه سبحانه في أرفع الأمور ، من إصدار كلّ وارد عليه ، و تصيير كلّ فرع إلى أصله . مصباح ظلمات ،
كشّاف عشوات ، مفتاح مبهمات ، دفّاع معضلات ، دليل فلوات . يقول فيفهم ،
و يسكت فيسلم . قد أخلص للّه فاستخلصه . فهو من معادن دينه ، و أوتاد أرضه . قد ألزم نفسه العدل ، فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه . يصف الحقّ و يعمل به . لا يدع للخير غاية إلاّ أمّها ، و لا مظنّة إلاّ قصدها . قد أمكن الكتاب من زمامه ، فهو قائده و إمامه . يحلّ حيث حلّ ثقله ، و ينزل حيث كان منزله . ( الخطبة 85 ، 152 ) ( و يتابع عليه السلام خطبته فيقول عن صفات الفاسقين ) : و آخر قد تسمّى عالما و ليس به ، فاقتبس جهائل من جهّال ، و أضاليل من ضلاّل . و نصب للنّاس أشراكا من حبائل غرور ، و قول زور . قد حمل الكتاب على آرائه ، و عطف الحقّ على أهوائه . يؤمن النّاس من العظائم ، و يهوّن كبير الجرائم . يقول : أقف عند الشّبهات ، و فيها وقع .
و يقول : أعتزل البدع ، و بينها اضطجع . فالصّورة صورة إنسان ، و القلب قلب حيوان .
لا يعرف باب الهدى فيتّبعه ، و لا باب العمى فيصدّ عنه . و ذلك ميّت الأحياء .
( الخطبة 85 ، 154 ) و قال ( ع ) عن صفة الفاسقين : آثروا عاجلا و أخّروا آجلا ، و تركوا صافيا و شربوا آجنا .
كأنّي أنظر إلى فاسقهم و قد صحب المنكر فألفه ، و بسيء به ( أي آستأنس ) و وافقه ، حتّى شابت عليه مفارقه ، و صبغت به خلائقة . ثمّ أقبل مزبدا كالتّيّار لا يبالي ما غرّق ، أو كوقع النّار في الهشيم لا يحفل ما حرّق . . . ازدحموا على الحطام ، و تشاحّوا على الحرام ، و رفع لهم علم الجنّة و النّار ، فصرفوا عن الجنّة وجوههم ، و أقبلوا إلى النّار بأعمالهم . و دعاهم ربّهم فنفروا و ولّوا ، و دعاهم الشّيطان فاستجابوا و أقبلوا . ( الخطبة 142 ، 255 )
[ 862 ]
و قال ( ص ) « يا عليّ إنّ القوم سيفتنون بأموالهم ، و يمنّون بدينهم على ربّهم ، و يتمنّون رحمته ، و يأمنون سطوته . و يستحلّون حرامه بالشّبهات الكاذبة و الأهواء السّاهية .
فيستحلّون الخمر بالنّبيذ ، و السّحت بالهديّة ، و الرّبا بالبيع » . قلت : يا رسول اللّه فبأيّ المنازل أنزلهم عند ذلك ؟ أبمنزلة ردّة أم بمنزلة فتنة ؟ فقال : « بمنزلة فتنة » . ( الخطبة 154 ، 276 ) و قال ( ع ) بعد فتنة عثمان ، في أن شرط النجاة الاستقامة حتى النهاية : ألا و إنّ القدر السّابق قد وقع ، و القضاء الماضي قد تورّد . و إنّي متكلّم بعدة اللّه و حجّته . قال اللّه تعالى إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلاَئكَةُ أَلاَ تَخَافُوا وَ لاَ تَحْزَنُوا ،
وَ أَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوْعَدُونَ . و قد قلتم ( ربّنا اللّه ) فاستقيموا على كتابه ، و على منهاج أمره ، و على الطّريقة الصّالحة من عبادته ، ثمّ لا تمرقوا منها ، و لا تبتدعوا فيها ،
و لا تخالفوا عنها . فإنّ أهل المروق منقطع بهم عند اللّه يوم القيامة . ثمّ إيّاكم و تهزيع الأخلاق و تصريفها . و اجعلوا اللّسان واحدا . و ليخزن الرّجل لسانه . فإنّ هذا اللّسان جموح بصاحبه . و اللّه ما أرى عبدا يتّقي تقوى تنفعه حتّى يخزن لسانه . و إنّ لسان المؤمن من وراء قلبه ، و إنّ قلب المنافق من وراء لسانه . لأنّ المؤمن إذا أراد أن يتكلّم بكلام تدبّره في نفسه ، فإن كان خيرا أبداه ، و إن كان شرّا واراه . و إنّ المنافق يتكلّم بما أتى على لسانه لا يدري ماذا له و ماذا عليه . و لقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : « لا يستقيم إيمان عبد حتّى يستقيم قلبه . و لا يستقيم قلبه حتّى يستقيم لسانه » فمن استطاع منكم أن يلقى اللّه تعالى و هو نقيّ الرّاحة من دماء المسلمين و أموالهم ، سليم اللّسان من أعراضهم ، فليفعل . ( الخطبة 174 ، 314 ) قال ( ع ) في صفة العارف باللّه : قد لبس للحكمة جنّتها ، و أخذها بجميع أدبها . من الإقبال عليها و المعرفة بها و التّفرّغ لها . فهي عند نفسه ضالّته الّتي يطلبها ، و حاجته الّتي يسأل عنها . فهو مغترب إذا اغترب الإسلام ، و ضرب بعسيب ( أي أصل ) ذنبه ،
و الصق الأرض بجرانه ( الجران : عنق البعير يضعه على الارض ، و هو كناية عن الضعف ) . بقيّة من بقايا حجّته ، خليفة من خلائف أنبيائه . ( الخطبة 180 ، 327 )
[ 863 ]
وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إلَى الْجَنَّةِ زُمَراً . قد أمن العذاب ، و انقطع العتاب ، و زحزحوا عن النّار ، و اطمأنّت بهم الدّار ، و رضوا المثوى و القرار . الّذين كانت أعمالهم في الدّنيا زاكية ، و أعينهم باكية ، و كان ليلهم في دنياهم نهارا ، تخشّعا و استغفارا ، و كان نهارهم ليلا ، توحشا و انقطاعا . فجعل اللّه لهم الجنّة مآبا ، و الجزاء ثوابا ، ( و كانوا أحقّ بها و أهلها ) ، في ملك دائم ، و نعيم قائم . ( الخطبة 188 ، 352 ) . . . و إنّي لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم . سيماهم سيما الصّدّيقين ، و كلامهم كلام الأبرار . عمّار اللّيل و منار النّهار . متمسّكون بحبل القرآن . يحيون سنن اللّه و سنن رسوله . لا يستكبرون و لا يعلون ، و لا يغلّون و لا يفسدون . قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل . ( الخطبة 190 ، 4 ، 375 ) روي أن صاحبا لأمير المؤمنين عليه السلام يقال له همام بن شريح كان رجلا عابدا .
فقال له : يا أمير المؤمنين صف لي المتّقين حتى كأنّي أنظر إليهم . فتثاقل عليه السلام عن جوابه ، ثم قال : يا همام اتّق اللّه و أحسن ، ف إنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ .
فلم يقنع همام بهذا القول حتى عزم عليه . فحمد اللّه و أثنى عليه ، و صلى على النبي ( ص ) ثم قال ( ع ) :
أمّا بعد فإنّ اللّه سبحانه و تعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيّا عن طاعتهم ، آمنا من معصيتهم ، لأنّه لا تضرّه معصية من عصاه ، و لا تنفعه طاعة من أطاعه . فقسم بينهم معايشهم و وضعهم من الدّنيا مواضعهم . فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل . منطقهم الصّواب ، و ملبسهم الاقتصاد ، و مشيهم التّواضع ، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم ،
و وقفوا أسماعهم على العلم النّافع لهم . نزّلت أنفسهم منهم في البلاء كالّتي نزّلت في الرّخاء . و لو لا الأجل الّذي كتب اللّه عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين ، شوقا إلى الثّواب ، و خوفا من العقاب . عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم ، فهم و الجنّة كمن قد رآها ، فهم فيها منعّمون ، و هم و النّار كمن قد رآها ،
فهم فيها معذّبون . قلوبهم محزونة ، و شرورهم مأمونة . و أجسادهم نحيفة ، و حاجاتهم خفيفة ، و أنفسهم عفيفة . صبروا أيّاما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة . تجارة مربحة
[ 864 ]
يسّرها لهم ربّهم . أرادتهم الدّنيا فلم يريدوها ، و أسرتهم ففدوا أنفسهم منها . أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونها ترتيلا . يحزّنون به أنفسهم ،
و يستثيرون به دواء دائهم . فإذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا ، و تطلّعت نفوسهم إليها شوقا ، و ظنّوا أنّها نصب أعينهم . و إذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم ، و ظنّوا أنّ زفير جهنّم و شهيقها في أصول آذانهم . فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون لجباههم و أكفّهم و ركبهم ، و أطراف أقدامهم ، يطلبون إلى اللّه تعالى في فكاك رقابهم . و أمّا النّهار فحلماء علماء أبرار أتقياء . قد براهم الخوف بري القداح ( أي السهام ) . ينظر إليهم النّاظر فيحسبهم مرضى ، و ما بالقوم من مرض ،
و يقول : لقد خولطوا ( أي اختل عقلهم من خوف اللّه ) . و لقد خالطهم أمر عظيم .
لا يرضون من أعمالهم القليل ، و لا يستكثرون الكثير . فهم لأنفسهم متّهمون ، و من أعمالهم مشفقون . إذا زكّي أحد منهم خاف ممّا يقال له ، فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري ، و ربّي أعلم بي منّي بنفسي اللّهمّ لا تؤاخذني بما يقولون ، و اجعلني أفضل ممّا يظنّون ، و اغفر لي ما لا يعلمون فمن علامة أحدهم أنّك ترى له قوّة في دين ، و حزما في لين ، و إيمانا في يقين .
و حرصا في علم ، و علما في حلم . و قصدا في غنى ، و خشوعا في عبادة . و تجمّلا في فاقة ، و صبرا في شدّة . و طلبا في حلال ، و نشاطا في هدى ، و تحرّجا عن طمع . يعمل الأعمال الصّالحة و هو على وجل . يمسي و همّه الشّكر ، و يصبح و همّه الذّكر . يبيت حذرا و يصبح فرحا ، حذرا لمّا حذّر من الغفلة ، و فرحا بما أصاب من الفضل و الرّحمة .
إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحبّ . قرّة عينه فيما لا يزول ،
و زهادته فيما لا يبقى . يمزج الحلم بالعلم ، و القول بالعمل . تراه قريبا أمله ، قليلا زلله .
خاشعا قلبه ، قانعة نفسه . منزورا ( أي قليلا ) أكله ، سهلا أمره . حريزا دينه ، ميّتة شهوته ، مكظوما غيظه . الخير منه مأمول ، و الشّرّ منه مأمون . إن كان في الغافلين كتب في الذّاكرين ، و إن كان في الذّاكرين لم يكتب من الغافلين . يعفو عمّن ظلمه ، و يعطي من حرمه ، و يصل من قطعه . بعيدا فحشه ( الفحش : القبيح من
[ 865 ]
القول ) ، ليّنا قوله . غائبا منكره ، حاضرا معروفه . مقبلا خيره ، مدبرا شرّه . في الزّلازل وقور ، و في المكاره صبور ، و في الرّخاء شكور . لا يحيف على من يبغض ، و لا يأثم فيمن يحبّ . يعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه . لا يضيع ما استحفظ و لا ينسى ما ذكّر .
و لا ينابز بالألقاب ، و لا يضارّ بالجار ، و لا يشمت بالمصائب . و لا يدخل في الباطل ،
و لا يخرج من الحقّ . إن صمت لم يغمّه صمته ، و إن ضحك لم يعل صوته . و إن بغي عليه صبر حتّى يكون اللّه هو الّذي ينتقم له . نفسه منه في عناء ، و النّاس منه في راحة . أتعب نفسه لآخرته ، و أراح النّاس من نفسه . بعده عمّن تباعد عنه زهد و نزاهة .
و دنّوه ممّن دنا منه لين و رحمة . ليس تباعده بكبر و عظمة ، و لا دنوّه بمكر و خديعة .
قال : فصعق همّام صعقة كانت نفسه فيها ( أي مات ) . فقال أمير المؤمنين عليه السّلام : أما و اللّه لقد كنت أخافها عليه . ثمّ قال : هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها ؟ ( الخطبة 191 ، 376 ) و قال ( ع ) في صفة السالك الطريق الى اللّه سبحانه : قد أحيا عقله ، و أمات نفسه . حتّى دقّ جليله ، و لطف غليظه . و برق له لامع كثير البرق ، فأبان له الطّريق ، و سلك به السّبيل . و تدافعته الأبواب إلى باب السّلامة ، و دار الإقامة . و ثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن و الرّاحة . بما استعمل قلبه ، و أرضى ربّه . ( الخطبة 218 ، 415 ) و قال ( ع ) عند تلاوته يُسَبِّحُ لَهُ فِيْهَا بِالغُدُوِّ وَ الآصَالِ رِجَالٌ ، لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ : إنّ اللّه سبحانه و تعالى جعل الذّكر جلاء للقلوب ، تسمع به بعد الوقرة ، و تبصر به بعد العشوة ، و تنقاد به بعد المعاندة . و ما برح للّه عزّت آلاؤه في البرهة بعد البرهة ،
و في ازمان الفترات ، عباد ناجاهم في فكرهم ، و كلّمهم في ذات عقولهم .
فاستصبحوا بنور يقظة في الأبصار و الأسماع و الأفئدة ، يذكّرون بأيّام اللّه ، و يخوّفون مقامه ، بمنزلة الأدلّة في الفلوات . من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه ، و بشّروه بالنّجاة ،
و من أخذ يمينا و شمالا ذمّوا إليه الطّريق ، و حذّروه من الهلكة . و كانوا كذلك مصابيح تلك الظّلمات ، و ادلّة تلك الشّبهات . و إنّ للذّكر لأهلا أخذوه من الدّنيا بدلا ، فلم تشغلهم تجارة و لا بيع عنه ، يقطعون به أيّام الحياة ، و يهتفون بالزّواجر عن محارم اللّه في اسماع الغافلين ، و يأمرون بالقسط و يأتمرون به ، و ينهون عن المنكر و يتناهون عنه ، فكأنّما
[ 866 ]
قطعوا الدّنيا إلى الآخرة و هم فيها ، فشاهدوا ما وراء ذلك ، فكأنّما اطّلعوا غيوب اهل البرزخ في طول الإقامة فيه ، و حقّقت القيامة عليهم عداتها ، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدّنيا حتّى كأنّهم يرون ما لا يرى النّاس ، و يسمعون ما لا يسمعون . فلو مثّلتهم لعقلك في مقاومهم ( جمع مقام ) المحمودة ، و مجالسهم المشهودة ، و قد نشروا دواوين أعمالهم ، و فرغوا لمحاسبة أنفسهم ، عن كلّ صغيرة و كبيرة أمروا بها فقصّروا عنها ،
أو نهوا عنها ففرّطوا فيها ، و حمّلوا ثقل أوزارهم ظهورهم ، فضعفوا عن الإستقلال بها ،
فنشجوا نشيجا ، و تجاوبوا نحيبا ، يعجّون إلى ربّهم من مقام ندم و اعتراف لرأيت أعلام هدى ، و مصابيح دجى ، قد حفّت بهم الملائكة ، و تنزّلت عليهم السّكينة ،
و فتحت لهم أبواب السّماء ، و أعدّت لهم مقاعد الكرامات ، في مقعد اطّلع اللّه عليهم فيه ، فرضي سعيهم ، و حمد مقامهم . يتنسّمون بدعائه روح التّجاوز ( أي يتوقعون التجاوز بدعائهم له ) ، رهائن فاقة إلى فضله ، و اسارى ذلّة لعظمته . جرح طول الأسى قلوبهم ، و طول البكاء عيونهم . لكلّ باب رغبة إلى اللّه منهم يد قارعة ، يسألون من لا تضيق لديه المنادح ( جمع مندوحة و هي المتسع من الأرض ) ، و لا يخيب عليه الرّاغبون .
فحاسب نفسك لنفسك ، فإنّ غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك . ( الخطبة 220 ، 420 ) و اعلموا عباد اللّه إنّ المتّقين ذهبوا بعاجل الدّنيا و آجل الآخرة . فشاركوا أهل الدّنيا في دنياهم ، و لم يشاركهم أهل الدّنيا في آخرتهم . سكنوا الدّنيا بأفضل ما سكنت .
و اكلوها بأفضل ما أكلت . فحظوا من الدّنيا بما حظي به المترفون ، و أخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبّرون . ثمّ انقلبوا عنها بالزّاد المبلّغ ، و المتجر الرّابح . أصابوا لذّة زهد الدّنيا في دنياهم ، و تيقّنوا أنّهم جيران اللّه غدا في آخرتهم . لا تردّ لهم دعوة ،
و لا ينقص لهم نصيب من لذّة . ( الخطبة 266 ، 465 ) و قال ( ع ) عن أناس من أهل الشام اتّبعوا معاوية : و يشترون عاجلها بآجل الأبرار المتّقين . و لن يفوز بالخير إلاّ عامله ، و لا يجزى جزاء الشّرّ إلاّ فاعله . ( الخطبة 272 ، 491 ) و إنّما هي نفسي أروضها بالتّقوى ، لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر ، و تثبت على جوانب
[ 867 ]
المزلق . ( الخطبة 284 ، 506 ) . . . في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم ، و تجافت عن مضاجعهم جنوبهم ،
و همهمت بذكر ربّهم شفاههم ، و تقشّعت ( أي انجلت ) بطول استغفارهم ذنوبهم أُولئِكَ حِزْبُ اللّهِ ، أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ . ( الخطبة 284 ، 510 ) طوبى لمن ذلّ في نفسه ، و طاب كسبه ، و صلحت سريرته ، و حسنت خليقته ، و أنفق الفضل من ماله ، و أمسك الفضل من لسانه ، و عزل عن النّاس شرّه . و وسعته السّنّة ،
و لم ينسب إلى البدعة . ( 123 ح 588 ) الصّلاة قربان كلّ تقيّ . ( 136 ح 592 ) و قال ( ع ) لرجل سأله أن يعظه : لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل . و يرجّي التّوبة ( أي يؤخّرها ) بطول الأمل ، يقول في الدّنيا بقول الزّاهدين . و يعمل فيها بعمل الرّاغبين . إن اعطي منها لم يشبع ، و إن منع منها لم يقنع . يعجز عن شكر ما اوتي ،
و يبتغي الزّيادة فيما بقي . ينهى و لا ينتهي ، و يأمر بما لا يأتي . يحبّ الصّالحين و لا يعمل عملهم ، و يبغض المذنبين و هو أحدهم . يكره الموت لكثرة ذنوبه ، و يقيم على ما يكره الموت له . إن سقم ظلّ نادما ، و إن صحّ أمن لاهيا . يعجب بنفسه إذا عوفي ، و يقنط إذا ابتلي . إن أصابه بلاء دعا مضطرّا ، و إن ناله رخاء أعرض مغترّا . تغلبه نفسه على ما يظنّ ، و لا يغلبها على ما يستيقن . يخاف على غيره بأدنى من ذنبه ، و يرجو لنفسه بأكثر من عمله . إن استغنى بطر و فتن و إن افتقر قنط و وهن . يقصّر إذا عمل ، و يبالغ إذا سأل . إن عرضت له شهوة أسلف المعصية ، و سوّف التّوبة . و إن عرته محنة انفرج عن شرائط الملّة ( يقصد بذلك الثبات و الصبر و استعانة اللّه على الخلاص من المحن ) .
يصف العبرة و لا يعتبر ، و يبالغ في الموعظة و لا يتّعظ . فهو بالقول مدلّ ( أي مستعلي ) ،
و من العمل مقلّ . ينافس فيما يفنى ، و يسامح فيما يبقى . يرى الغنم مغرما ( أي خسارة ) ، و الغرم مغنما ( أي ربحا ) . يخشى الموت ، و لا يبادر الفوت ( أي فوات الفرصة و انقضاؤها ) . يستعظم من معصية غيره ما يستقلّ أكثر منه من نفسه ، و يستكثر من طاعته ما يحقره من طاعة غيره . فهو على النّاس طاعن ، و لنفسه مداهن . اللّهو مع
[ 868 ]
الأغنياء أحبّ إليه من الذّكر مع الفقراء . يحكم على غيره لنفسه ، و لا يحكم عليها لغيره . و يرشد غيره و يغوي نفسه . فهو يطاع و يعصي ، و يستوفي و لا يوفي . و يخشى الخلق في غير ربّه ، و لا يخشى ربّه في خلقه .
يقول الشريف الرضي : و لو لم يكن في هذا الكتاب ( أي نهج البلاغة ) الاّ هذا الكلام لكفى به موعظة ناجعة ، و حكمة بالغة و بصيرة لمبصر ، و عبرة لناظر مفكر . ( 150 ح 596 ) و قال ( ع ) في صفة المتّقين : كان لي فيما مضى أخ في اللّه ، و كان يعظمه في عيني صغر الدّنيا في عينه . و كان خارجا من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد و لا يكثر إذا وجد . و كان أكثر دهره صامتا ، فإن قال بدّ ( أي منع ) القائلين ، و نقع غليل السّائلين .
و كان ضعيفا مستضعفا فإن جاء الجدّ فهو ليث غاب ، و صلّ ( أي حيّة ) واد . لا يدلي بحجّة حتّى يأتي قاضيا . و كان لا يلوم أحدا على ما يجد العذر في مثله ، حتّى يسمع اعتذاره . و كان لا يشكو وجعا إلاّ عند برئه . و كان يقول ما يفعل و لا يقول ما لا يفعل .
و كان إذا غلب على الكلام لم يغلب على السّكوت . و كان على ما يسمع أحرص منه على أن يتكلّم . و كان إذا بدهه أمران ، ينظر أيّهما أقرب إلى الهوى فيخالفه . فعليكم بهذه الخلائق فالزموها و تنافسوا فيها . فإن لم تستطيعوها فاعلموا أنّ أخذ القليل خير من ترك الكثير . ( 289 ح 624 ) إنّ أولياء اللّه هم الّذين نظروا إلى باطن الدّنيا إذا نظر النّاس إلى ظاهرها . و اشتغلوا بآجلها إذا اشتغل النّاس بعاجلها . فأماتوا منها ما خشوا أن يميتهم ، و تركوا منها ما علموا أنّه سيتركهم ، و رأوا استكثار غيرهم منها استقلالا ، و دركهم لها فونا . أعداء ما سالم النّاس ، و سلم ما عادى النّاس . بهم علم الكتاب و به علموا . و بهم قام الكتاب و به قاموا . لا يرون مرجوّا فوق ما يرجون ، و لا مخوفا فوق ما يخافون . ( 432 ح 653 )
[ 869 ]