( 29 ) الطاووس

و قال الامام علي ( ع ) عن عجيب خلقة الطاووس :

و من أعجبها خلقا الطّاووس الّذي اقامه في أحكم تعديل ، و نضّد ألوانه في أحسن تنضيد ، بجناح أشرج قصبه ( أي داخل بين آحاده و نظمها على اختلافها في الطول و القصر ) ، و ذنب أطال مسحبه . إذا درج إلى الأنثى نشره من طيّه ، و سما به مطلاّ على رأسه ( أي مشرفا عليه كأنّه يظلله ) كأنّه قلع ( أي شراع السفينة ) داريّ ( الداري :

جالب العطر في البحر من منطقة دارين بالبحرين ) عنجه نوتيّه ( أي عطفه الملاح ) .

يختال بألوانه و يميس بزيفانه ( أي يتبختر بتحريك ذنبه يمينا و شمالا ) . يفضي ( أي يجامع انثاه ) كإفضاء الدّيكة ، و يؤرّ ( أي يأتي انثاه ) بملاقحة أرّ الفحول المغتلمة في الضّراب ( أي التي غلبتها شهوة الملاقحة ) . أحيلك من ذلك على معاينة ، لا كمن يحيل على ضعيف إسناده . و لو كان كزعم من يزعم إنّه يلقح بدمعة تسفحها مدامعه ، فتقف في ضفّتي جفونه ، و إنّ أنثاه تطعم ذلك ، ثمّ تبيض لا من لقاح فحل سوى الدّمع

[ 145 ]

المنبجس ، لما كان ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب ( أي أن هذا الزعم كائن أيضا في الغراب إذ قالوا أن تلقيحه يكون بانتقال جزء من الماء المستقر في قانصة الذكر الى الأنثى فتتناوله من منقاره . و منشأ هذا الزعم في الغراب اخفاؤه تلقيحه ) . تخال قصبه مداري من فضّة ( المدراة أداة لها أسنان كالمشط ) و ما أنبت عليها من عجيب داراته و شموسه خالص العقيان و فلذ الزّبرجد ( يشبّه بياض القصب بالفضة ، و صفرة الريش بالعقيان و هو الذهب ، و خضرته بالزبرجد و هو حجر كريم أخضر ) . فإن شبّهته بما أنبتت الأرض قلت : جنيّ جني من زهرة كلّ ربيع . و إن ضاهيته بالملابس فهو كموشيّ الحلل ، أو كمونق عصب اليمن ( ضرب من البرود المنقوشة ) . و إن شاكلته بالحليّ فهو كفصوص ذات ألوان ، قد نطّقت ( من النطاق و هو الحزام ) باللّجين ( أي الفضة ) المكلّل . يمشي مشي المرح المختال ، و يتصفّح ذنبه و جناحيه ، فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله ( أي ما يلبسه ) ، و أصابيغ و شاحه . فإذا رمى ببصره إلى قوائمه زقا ( أي صاح ) معولا بصوت يكاد يبين عن استغاثته ، و يشهد بصادق توجّعه ، لأنّ قوائمه حمش ( أي دقيقة ) ، كقوائم الدّيكة الخلاسيّة ( الديك الخلاسي هو المتولد بين دجاجتين هندية و فارسية ) . و قد نجمت من ظنبوب ساقه صيصية خفيّة ( و هي شوكة تكون في رجل الديك ) . و له في موضع العرف قنزعة خضراء موشّاة . و مخرج عنقه كالإبريق . و مغرزها ( أي عنقه ) إلى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانيّة ( يقصد اللون النيلي ) ، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال . و كأنّه متلفّع بمعجر ( المعجر : ما تشده المرأة على رأسها كالرداء ) أسحم ( أي أسود ) إلاّ أنّه يخيّل لكثرة مائه و شدّة بريقه ، أنّ الخضرة النّاضرة ممتزجة به . و مع فتق سمعه خطّ كمستدقّ القلم في لون الأقحوان ( أي اللون الأصفر ) ، أبيض يقق ( خالص البياض ) . فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق ( أي يلمع ) . و قلّ صبغ إلاّ و قد أخذ منه بقسط ، و علاه بكثرة صقاله و بريقه و بصيص ديباجه و رونقه ، فهو كالأزاهير المبثوثة ، لم تربّها ( من التربية ) أمطار ربيع و لا شموس قيظ . و قد يتحسّر من ريشه ، و يعرى من لباسه ، فيسقط تترى ، و ينبت تباعا ، فينحت من قصبه انحتات أوراق الأغصان ، ثمّ يتلاحق ناميا حتّى يعود كهيئته

[ 146 ]

قبل سقوطه . لا يخالف سالف ألوانه ، و لا يقع لون في غير مكانه . و إذا تصفّحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة ورديّة ، و تارة خضرة زبرجديّة ، و أحيانا صفرة عسجديّة ( أي ذهبيّة ) . فكيف تصل إلى صفة هذا عمائق الفطن ، أو تبلغه قرائح العقول ، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين .

و أقلّ أجزائه قد أعجز الأوهام أن تدركه ، و الألسنة أن تصفه فسبحان الّذي بهر العقول عن وصف خلق جلاّه للعيون ، فأدركته محدودا مكوّنا ، و مؤلّفا ملوّنا . و أعجز الألسن عن تلخيص صفته ، و قعد بها عن تأدية نعته . ( الخطبة 163 ، 294 )