من خطبة للامام علي ( ع ) و هي المعروفة بالشّقشقية ، و تشمل على الشكوى من أمر الخلافة و الخلفاء ، يقول فيها :
أما و اللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة ، و إنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرّحى . ينحدر عنّي السّيل ، و لا يرقى إليّ الطّير . فسدلت دونها ثوبا ، و طويت عنها كشحا ( كناية عن الجوع ، أي أنه عليه السلام مال عن الخلافة ) . و طفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ( أي مقطوعة و هو كناية عن عدم القدرة ) ، أو أصبر على طخية ( أي ظلمة ) عمياء ، يهرم فيها الكبير ، و يشيب فيها الصّغير ، و يكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه ( يقصد بذلك الفترة ما بين وفاة النبي ( ص ) و تولي الامام ( ع ) الخلافة ، و هي المدة التي تذرع فيها الامام بالصبر . و قد كانت من طولها بحيث يشيب فيها من كان صغيرا . . . ) فرأيت أنّ الصّبر على هاتا أحجى ( أي أقرب الى العقل ) . فصبرت و في العين قذى ،
و في الحلق شجا ، أرى تراثي نهبا .
حتّى مضى الأوّل لسبيله ، فأدلى بها إلى ابن الخطّاب بعده ( ثم تمثل بقول الاعشى ) :
شتّان ما يومي على كورها
و يوم حيّان أخي جابر
[ 435 ]
( أي ما أبعد الشبه بين الحالة التي استلم فيها عمر الخلافة ، و قد كان كل شيء مستتبا على ما يرام ، و بين الحالة التي تسلم فيها الامام علي الخلافة ، و قد انتقض الامر فيها عروة عروة ،
فمسؤوليات الامام علي تجاه الوضع لا تقارن بعمر ) .
فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته ، إذ عقدها لآخر بعد وفاته ( أي أن من كان يطلب الاقالة من الخلافة و هو أبو بكر لقوله : أقيلوني فلست بخيركم ، ليس يجدر به أن يجعل الخلافة لشخص آخر و يلزم الناس بخلافته من بعده ، بل كان الاجدر به أن يترك الامر شورى ) . لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ( أي ان الخليفة الاول و الثاني اجتمعا على امر الخلافة كالمجتمعين على ضرعي ناقة ، ينال كل واحد منهما ضرعا بالتساوي ) .
فصيّرها ( أي أبو بكر ) في حوزة خشناء ( أي عمر بن الخطاب ، و هذا بيان لما كان عليه من القسوة التي تجور على العدل ) يغلظ كلمها ، و يخشن مسّها ( أي اذا مسها شخص تؤذيه و تضره ، و اذا جرحته كان جرحها غليظا أي عميقا ) و يكثر العثار فيها و الإعتذار منها ( هذه حال من تصعب معاملته ، فالمرء يتعثر كثيرا في السير معه ، و هو لشدة جهله كلما أخطأ اعتذر ) فصاحبها ( أي الخلافة ) كراكب الصّعبة ( أي الناقة غير الذلول ) إن أشنق لها خرم ، و إن أسلس لها تقحّم ( أي لا يجد طريقة في تسيير هذه الناقة ، لا بأن يشد لها الزمام و لا بأن يرخيه ) . فمني النّاس لعمر اللّه ( أي أصيبوا ) ، بخبط و شماس ، و تلوّن و اعتراض ( صفات سيئة للناقة الشموس التي لا تسير على طريق مستقيم ) . فصبرت على طول المدّة و شدّة المحنة .
حتّى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم . فيا للّه و للشّورى متى اعترض الرّيب فيّ مع الأوّل منهم ، حتّى صرت أقرن إلى هذه النّظائر لكنّي أسففت إذ أسفّوا ( أسفّ الطائر : دنا من الارض ) ، و طرت إذ طاروا ( يريد بذلك عدم مخالفته لهم ) . فصغى رجل منهم لضغنه ، و مال الآخر لصهره ، مع هن وهن .
توضيح قصة الشورى :
( فأما الذي صغى لضغنه فهو طلحة ، و انما مال الى عثمان لعداوته لعلي « ع » ، باعتبار أنه تيمي و ابن عم أبي بكر ، فتحرك في نفسه الضغن الذي بين تيم و هاشم لأجل الخلافة .
[ 436 ]
و أما الذي مال الى صهره فهو عبد الرحمن بن عوف كان صهرا لعثمان . و مجمل قصة الشورى أنه بعد وفاة عمر اجتمع الصحابة الستة الذين عينهم عمر و هم : علي بن أبي طالب « ع » و عثمان بن عفان ، و طلحة ، و الزبير ، و سعد بن أبي وقاص ، و عبد الرحمن بن عوف . و تشاوروا في امر الخلافة فاختلفوا ، فوهب طلحة حقه في الشورى لعثمان ، حيث تحرك ضغنه على بني هاشم ، و أعطى الزبير حقه لعلي ( ع ) لقرابته من علي ( ع ) فهو ابن عمته صفية ، و أعطى سعد حقه لابن عمه عبد الرحمن لأنهما من قبيلة زهرة . لكن عبد الرحمن ما لبث أن أخرج نفسه من الخلافة لعلمه بأن قبيلته زهرة لا ترقى الى الخلافة .
فبقى في الحلبة علي ( ع ) و عثمان . و لما كان عمر قد أعطى عبد الرحمن حق الفصل في حال تعادل الاصوات ، توجه عبد الرحمن بن عوف الى الامام علي ( ع ) و قال له : أمدد يدك أبايعك على كتاب اللّه و سنة رسوله و سيرة الشيخين ، فقال ( ع ) : بل أبايع على كتاب اللّه و سنة رسوله و مبلغ علمي و اجتهادي . فتحول عبد الرحمن الى صهره عثمان ، فبايعه عثمان على ما يريد ، و انتهت قصة الشورى ، بين فلان يميل لبغضه من فلان ، و فلان يميل الى قرابته من فلان . ثم يطلقون عليها اسم الشورى ، و الشورى منها براء ، و انما هي شورى الهنات و الخصومات و المصالح و الغايات ) .
إلى أن قام ثالث القوم نافجا حصنيئه بين نثيله و معتلفه ( النثيل : الروث ، و المعنى أن همه الأكل ) . و قام معه بنو أبيه ( أي بني أمية ) يخضمون مال اللّه خضم الإبل نبتة الرّبيع .
إلى أن انتكث عليه فتله ، و أجهز عليه عمله ، و كبت به بطنته ( أي أهلكه جشعه و اسرافه في الشبع ) .
فما راعني إلاّ و النّاس كعرف الضّبع إليّ ، ينثالون عليّ من كلّ جانب ، حتّى لقد وطيء الحسنان ( أي الحسن و الحسين عليهما السلام ) ، و شقّ عطفاي . مجتمعين حولي كربيضة الغنم ( كناية عن ازدحام الناس الذين تواردوا لمبايعة الامام علي عليه السلام ) . فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة ( أي أصحاب الجمل و على رأسهم طلحة و الزبير و عائشة ) و مرقت أخرى ( أي أصحاب النهروان و هم الخوارج ) و قسط آخرون ( أي اصحاب صفين و هم أهل الشام و على رأسهم معاوية و عمرو بن العاص ، و القسط هو الفسوق و الخروج عن الطاعة ) . كأنّهم لم يسمعوا اللّه سبحانه يقول تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُريدُونَ عُلُوُّّاً فِي الأَرْضِ وَ لاَ فَسَاداً وَ العَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بلى و اللّه ، لقد سمعوها و وعوها ، و لكنّهم حليت الدّنيا في أعينهم ، و راقهم زبرجها ( أي زينتها ) . أما و الّذي فلق الحبّة ، و برأ النّسمة ، لو لا حضور الحاضر ، و قيام الحجّة بوجود النّاصر ( أي ان اجتماع الانصار حول الامام
[ 437 ]
عليه السلام هو حجة عليه في أن يقوم بالامر ، مما لم يحصل له عند وفاة النبي « ص » ) ،
و ما أخذ اللّه على العلماء ، أن لا يقارّوا ( أي لا يوافقوا مقرّين ) على كظّة ظالم ( الكظة : الثقل الناتج عن تخمة الطعام ) و لا سغب مظلوم ( السغب : شدة الجوع ) ،
لألقيت حبلها ( أي حبل الخلافة ) على غاربها ، و لسقيت آخرها بكأس أوّلها ،
و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ( أي عطسة عنزة و هي ليست بذات قيمة ) .
قالوا : و قام الى الامام ( ع ) رجل من أهل السواد عند بلوغه الى هذا الموضع من خطبته ، فناوله كتابا ( قيل أن فيه مسائل كان يريد الاجابة عنها ) ، فأقبل ( ع ) ينظر فيه ( فلما فرغ من قراءته ) قال له ابن عباس : يا أمير المؤمنين ، لو اطّردت خطبتك من حيث افضيت .
فقال : هيهات يا ابن عبّاس تلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت ( الشّقشقة ما يخرجه البعير من فمه اذا هاج ، و لذلك سميت هذه الخطبة بالشقشقية ) . ( الخطبة 3 ، 39 ) من خطبة له ( ع ) لما قبض الرسول ( ص ) و خاطبه العباس و أبو سفيان في أن يبايعا له بالخلافة ( و ذلك بعد أن تمت البيعة لأبي بكر في السقيفة ) ، يقول « ع » : أيّها النّاس :
شقّوا أمواج الفتن بسفن النّجاة ، و عرّجوا عن طريق المنافرة ، و ضعوا تيجان المفاخرة .
أفلح من نهض بجناح ( أي بناصر ) ، أو استسلم فأراح . هذا ( أي الخلافة ) ماء آجن ،
و لقمة يغصّ بها آكلها . و مجتني الثّمرة لغير وقت ايناعها كالزّارع بغير أرضه .
فإن أقل يقولوا : حرص على الملك . و إن أسكت يقولوا : جزع من الموت . هيهات بعد اللّتيّا و الّتي ، و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطّفل بثدي أمّه . بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية ( أي الحبال ) في الطّويّ البعيدة ( أي الآبار العميقة ) . ( الخطبة 5 ، 47 ) لما انتهت الى أمير المؤمنين ( ع ) انباء سقيفة بني ساعدة ، بعد وفاة رسول اللّه ( ص ) .
قال ( ع ) : ما قالت الانصار ؟ قالوا : قالت : منا أمير و منكم أمير . قال ( ع ) : فهلاّ احتججتم عليهم بأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وصّى بأن يحسن إلى محسنهم ، و يتجاوز عن مسيئهم ؟ قالوا : و ما في هذا من الحجة عليهم ؟
فقال ( ع ) : لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصيّة بهم . ثم قال ( ع ) : فماذا قالت
[ 438 ]
قريش ؟ قالوا : احتجت بأنها شجرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم . فقال عليه السلام : احتجّوا بالشّجرة ، و أضاعوا الثّمرة « يريد بالثمرة آل بيت النبي ( ص ) » .
( الخطبة 65 ، 122 ) من كلام له ( ع ) لما عزموا على بيعة عثمان :
لقد علمتم أنّي أحقّ النّاس بها من غيري ، و و اللّه لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ، و لم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة ، التماسا لأجر ذلك و فضله ، و زهدا فيما تنافستموه من زخرفه و زبرجه . ( الخطبة 72 ، 129 ) و قال ( ع ) لبعض أصحابه و قد سأله : كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و انتم أحق به .
فقال : يا أخا بني أسد ، إنّك لقلق الوضين ( الوضين : الحبل الذي يشد به الرحل على ظهر الدابة الى تحت بطنها ، و هو كناية عن الاضطراب في الكلام ) . ترسل في غير سدد ، و لك بعد ذمامة الصّهر و حقّ المسألة ، و قد استعلمت فاعلم : أمّا الاستبداد علينا بهذا المقام و نحن الأعلون نسبا ، و الأشدّون برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نوطا ( أي تعلقا ) ، فإنّها كانت أثرة شحّت عليها نفوس قوم ، و سخت عنها نفوس آخرين .
و الحكم اللّه ، و المعود إليه القيامة .
و دع عنك نهبا صيح في حجراته
و هلمّ ( أي اذكر ) الخطب في ابن أبي سفيان . فلقد أضحكني الدّهر بعد إبكائه .
و لا غرو و اللّه ، فيا له خطبا يستفرغ العجب ، و يكثر الأود حاول القوم إطفاء نور اللّه من مصباحه ، و سدّ فوّاره من ينبوعه ، و جدحوا ( أي خلطوا ) بيني و بينهم شربا وبيئا .
فإن ترتفع عنّا و عنهم محن البلوى ، أحملهم من الحقّ على محضه . و إن تكن الأخرى فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ ، إنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ . ( الخطبة 160 ، 287 ) و قد قال قائل : إنّك على هذا الأمر يا بن أبي طالب لحريص . فقلت : بل أنتم و اللّه لأحرص و أبعد ، و أنّا أخصّ و أقرب . و إنّما طلبت حقّا لي و أنتم تحولون بيني و بينه ،
و تضربون وجهي دونه . فلمّا قرّعته بالحجّة في الملأ الحاضرين هبّ ( أي صاح كالتيس ) كأنّه بهت لا يدري ما يجيبني به
[ 439 ]
اللّهمّ إنّي أستعديك على قريش و من أعانهم . فإنّهم قطعوا رحمي ، و صغّروا عظيم منزلتي ، و أجمعوا على منازعتي أمرا هو لي . ثمّ قالوا : ألا إنّ في الحقّ أن تأخذه ، و في الحقّ أن تتركه . ( الخطبة 170 ، 306 ) قال ( ع ) لمعاوية : و زعمت أنّي لكلّ الخلفاء حسدت و على كلّهم بغيت . فإن يكن ذلك كذلك ، فليست الجناية عليك ، فيكون العذر إليك .
و تلك شكاة ظاهر عنك عارها
و قلت : إنّي كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش ( أي في أنفه خشبة يقاد منها ) حتّى أبايع . و لعمر اللّه لقد أردت أن تذمّ فمدحت ، و أن تفضح فافتضحت و ما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ، ما لم يكن شاكّا في دينه ، و لا مرتابا بيقينه و هذه حجّتي إلى غيرك قصدها ( أي أن معاوية ليس له حق في الخلافة أصلا ، فاحتجاج الامام ليس موجه له ) و لكنّي أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها .
ثمّ ذكرت ما كان من أمري و أمر عثمان . . . و ما كنت لأعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا ( أي بدعا ) فإن كان الذّنب إليه إرشادي و هدايتي له ، فربّ ملوم لا ذنب له .
و قد يستفيد الظّنّة المتنصّح
و ما أردت إلاّ الإصلاح ما استطعت . و ما توفيقي إلاّ باللّه ، عليه توكّلت و إليه أنيب .
( الخطبة 267 ، 470 ) من كتاب له ( ع ) الى أهل مصر ، مع مالك الاشتر لما ولاه امارتها : أمّا بعد ، فإنّ اللّه سبحانه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نذيرا للعالمين ، و مهيمنا على المرسلين . فلمّا مضى عليه السّلام تنازع المسلمون الأمر من بعده . فو اللّه ما كان يلقى في روعي ( أي قلبي ) و لا يخطر ببالي ، أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن أهل بيته ، و لا أنّهم منحّوه عنّي من بعده فما راعني إلاّ انثيال النّاس على فلان ( أي انصبابهم على ابي بكر ) يبايعونه . فأمسكت يدي ، حتّى رأيت راجعة النّاس قد رجعت عن الإسلام ( يقصد بهم أهل الردة كمسيلمة الكذاب
[ 440 ]
و سجاح و طليحة بن خويلد ) ، يدعون إلى محق دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله أن أرى فيه ثلما أو هدما ، تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم الّتي إنّما هي متاع أيّام قلائل ، يزول منها ما كان ،
كما يزول السّراب ، أو كما يتقشّع السّحاب . فنهضت في تلك الأحداث ، حتّى زاح الباطل و زهق ، و اطمأنّ الدّين و تنهنه . ( الخطبة 301 ، 547 )