خطبة له عليه السلام ( 9 ) في عظمة اللّه تعالى

و يذكر فيها بديع خلقة الخفّاش و الذرّة و الجرادة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ [ 4 ] اَلْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي انْحَسَرَتِ الأَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ ، وَ رَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ .

هُوَ اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبينُ ، أَحَقُّ وَ أَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ .

لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْديدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً ، وَ لَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الأَوْهَامُ بِتَقْديرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلاً .

خَلَقَ الْخَلْقَ عَلى غَيْرِ تَمْثيلٍ ، وَ لاَ مَشُورَةِ مُشيرٍ ، وَ لاَ مَعُونَةِ مُعينٍ ، فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ ، وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ ، فَأَجَابَ وَ لَمْ يُدَافِعْ ، وَ انْقَادَ وَ لَمْ يُنَازِعْ [ 1 ] .

[ 5 ] وَ أَنْشَأَ السَّحَابَ الثَّقَالَ ، فَأَهْطَلَ دَيْمَهَا ، وَ عَدَّدَ قِسَمَهَا ، فَبَلَّ الأَرْضَ بَعْدَ جُفُوفِهَا ، وَ أَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا .

وَ لَوْ فَكَّرُوا في عَظيمِ الْقُدْرَةِ ، وَ جَسيمِ النِّعْمَةِ ، لَرَجَعُوا إِلَى الطَّريقِ ، وَ خَافُوا عَذَابَ الْحَريقِ ،

وَ لكِنَّ الْقُلُوبَ عَليلَةٌ ، وَ الْبَصَائِرَ [ 2 ] مَدْخُولَةٌ .

فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لأَمْرِهِ ، أَحْصى عَدَدَ الرّيشِ مِنْهَا وَ النَّفَسَ ، وَ أَرْسى قَوَائِمَهَا عَلَى النَّدى وَ الْيَبَسِ ، وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهَا ، وَ أَحْصى أَجْنَاسَهَا .

فَهذَا غُرَابٌ ، وَ هذَا عُقَابٌ ، وَ هذَا حَمَامٌ ، وَ هذَا نَعَامٌ ، دَعَا كُلَّ طَائِرٍ بِاسْمِهِ ، وَ تَكَفَّلَ لَهُ [ 3 ] بِرِزْقِهِ .

أَلاَ يَنْظُرُونَ إِلى صَغيرِ مَا خَلَقَ اللَّهُ كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ ، وَ أَتْقَنَ تَرْكيبَهُ ، وَ فَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ ، وَ سَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَ الْبَشَرَ ؟ .

[ 4 ] من : الحمد إلى : و لم ينازع ورد في خطب الشريف الرضي تحت الرقم 155 .

[ 5 ] من : و أنشأ إلى : جدوبها . و من : و لو فكروا إلى : مستدقّة ورد في خطب الشريف الرضي تحت الرقم 185 .

[ 1 ] لم يمانع . ورد في نسخة الأسترابادي ص 206 .

[ 2 ] الأبصار . ورد في نسخة ابن المؤدب ص 167 . و نسخة العطاردي ص 274 .

[ 3 ] كفل . ورد في نسخة العام 400 ص 239 . و نسخة ابن المؤدب ص 169 . و هامش نسخة نصيري ص 111 . و نسخة الآملي ص 206 . و نسخة ابن أبي المحاسن ص 238 . و نسخة العطاردي ص 276 . و نسخة عبده ص 401 . و نسخة الصالح ص 272 .

[ 127 ]

أُنْظُرُوا إِلَى النَّمْلَةِ في صِغَرِ جُثَّتِهَا ، وَ لَطَافَةِ هَيْئَتِهَا ، لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ [ 1 ] ، وَ لاَ بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلى أَرْضِهَا ، وَ صُبَّتْ [ 2 ] عَلى رِزْقِهَا [ 3 ] .

تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلى حُجْرِهَا ، وَ تُعِدُّهَا في مُسْتَقَرِّهَا .

تَجْمَعُ في حَرِّهَا لِبَرْدِهَا ، وَ في وِرْدِهَا [ 4 ] لِصَدَرِهَا .

مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا ، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا ، لاَ يُغْفِلُهَا [ 5 ] الْمَنَّانُ ، وَ لاَ يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ ، وَ لَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ ، وَ الْحَجَرِ الْجَامِسِ [ 6 ] .

وَ لَوْ فَكَّرْتَ في مَجَاري أَكْلِهَا ، وَ في عُلْوِهَا وَ سُفْلِهَا ، وَ مَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسيفِ بَطْنِهَا ،

وَ مَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَ أُذُنِهَا ، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً ، وَ لَقيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً .

فَتَعَالَى اللَّهُ الَّذي أَقَامَهَا عَلى قَوَائِمِهَا ، وَ بَنَاهَا عَلى دَعَائِمِهَا ، لَمْ يَشْرَكْهُ في فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ ،

وَ لَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ . لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ ، لاَ مَعْبُودَ سِوَاهُ [ 7 ] .

وَ لَوْ ضَرَبْتَ في مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ [ 8 ] ، مَا دَلَّتْكَ الدَّلاَلَةُ إِلاَّ عَلى أَنَّ فَاطِرَ النَّمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ [ 9 ] ، لِدَقيقِ تَفْصيلِ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ، وَ غَامِضِ اخْتِلاَفِ كُلِّ حَيٍّ .

وَ مَا الْجَليلُ وَ اللَّطيفُ ، وَ الثَّقيلُ وَ الْخَفيفُ ، وَ الْقَوِيُّ وَ الضَّعيفُ ، في خَلْقِهِ ، إِلاَّ سَوَاءٌ .

وَ كَذَلِكَ السَّمَاءُ وَ الْهَوَاءُ وَ الرِّيَاحُ وَ الْمَاءُ .

فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَ الْقَمَرِ ، وَ النَّبَاتِ وَ الشَّجَرِ ، وَ الْمَاءِ وَ الْحَجَرِ ، وَ اخْتِلاَفِ هذَا اللَّيْلِ

[ 1 ] النّظر . ورد في

[ 2 ] ضنّت . ورد في نسخة الجيلاني . و هامش نسخة الأسترابادي ص 270 . و نسخة العطاردي ص 274 عن نسخة نصيري و نسخة موجودة في مكتبة مدرسة نواب في مدينة مشهد .

[ 3 ] وسعت في مناكبها ، و طلبت رزقها . ورد في

[ 4 ] ورودها . ورد في نسخة العام 400 ص 237 . و نسخة ابن المؤدب ص 167 . و نسخة نصيري ص 110 . و نسخة الآملي ص 204 . و نسخة ابن أبي المحاسن ص 236 . و نسخة الجيلاني . و نسخة العطاردي ص 274 . و نسخة عبده ص 399 .

[ 5 ] لا يغفل عنها . ورد في

[ 6 ] الخامس . ورد في

[ 7 ] ورد في

[ 8 ] غاياتك . ورد في نسخة العطاردي ص 274 .

[ 9 ] النّحلة . ورد في نسخة الآملي ص 205 عن نسخة بخط الشريف الرضي . و نسخة الجيلاني . و هامش نسخة الأسترابادي ص 271 .

[ 128 ]

وَ النَّهَارِ ، وَ تَفَجُّرِ هذِهِ الْبِحَارِ [ 1 ] ، وَ كَثْرَةِ هذِهِ الْجِبَالِ ، وَ طُولِ هذِهِ الْقِلاَلِ ، وَ تَفَرُّقِ هذِهِ اللُّغَاتِ ،

وَ الأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ .

فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ ، وَ جَحَدَ الْمُدَبِّرَ [ 2 ] .

زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ ، وَ لاَ لاخْتِلاَفِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ .

وَ لَمْ يَلْجَؤُوا إِلى حُجَّةٍ فيمَا ادَّعَوْا ، وَ لاَ تَحْقيقٍ لِمَا أَوْعَوْا [ 3 ] .

وَ هَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَانٍ ، أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ جَانٍ ؟ .

وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ ، إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ ، وَ أَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ ،

وَ جَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ ، وَ فَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ ، وَ جَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ ، وَ نَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ ،

وَ مِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ ، يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ في زَرْعِهِمْ ، وَ لاَ يَسْتَطيعُونَ ذَبَّهَا [ 4 ] ، وَ لَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ ،

حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ في نَزَوَاتِهَا ، وَ تَقْضِيَ مِنْهُ شَهَوَاتِهَا ، وَ خَلْقُهَا كُلُّهُ لاَ يَكُونُ إِلاَّ إِصْبِعاً مُسْتَدِقَّةً .

[ 7 ] وَ مِنْ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ ، وَ عَجَائِبِ خِلْقَتِهِ ، مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ الْحِكْمَةِ في هذِهِ الْخَفَافيشِ الَّتي يَقْبِضُهَا الضِّيَاءُ الْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ، وَ يَبْسُطُهَا الظَّلاَمُ الْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ ، وَ كَيْفَ عَشِيَتْ أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ مِنَ الشَّمْسِ الْمُضيئَةِ نُوراً تَهْتَدي بِهِ في مَذَاهِبِهَا ، وَ تَتَّصِلَ بِعَلاَنِيَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلى مَعَارِفِهَا ، وَ رَدَعَهَا بِتَلأْلُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ الْمُضِيَّ في سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا ، وَ أَكَنَّهَا في مَكَامِنِهَا عَنِ الذِّهَابِ في بُلَجِ ائْتِلاَقِهَا ، فَهِيَ مُسْدَلَةُ الْجُفُونِ بِالنَّهَارِ عَلى أَحْدَاقِهَا [ 5 ] ، وَ جَاعِلةُ اللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ فِي الْتِمَاسِ أَرْزَاقِهَا ، فَلاَ يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلْمَتِهِ ، وَ لاَ تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِيِّ فيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ . فَإِذَا أَلْقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا ، وَ بَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا ، وَ دَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى الضِّبَابِ [ 6 ] في وِجَارِهَا ، أَطْبَقَتِ الأَجْفَانَ عَلى مَآقيهَا ، وَ تَبَلَّغَتْ بِمَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ

[ 7 ] من : و من لطائف إلى : خلا من غيره ورد في خطب الشريف الرضي تحت الرقم 155 .

[ 1 ] الأنهار . ورد في الإحتجاج للطبرسي ص 205 . و البحار للمجلسي ج 3 ص 26 .

[ 2 ] لمن جحد المقدّر ، و أنكر المدبّر . ورد في نسخة الجيلاني . و نسخة العطاردي ص 275 عن نسخة موجودة في مكتبة جامعة عليكره الهند . و نسخة عبده ص 400 . و متن بهج الصباغة ج 12 ص 359 .

[ 3 ] وعوا . ورد في نسخة العام 400 ص 238 . و نسخة نصيري ص 110 . و نسخة ابن أبي المحاسن ص 237 . و نسخة العطاردي ص 275 . و ورد دعوا في نسخة ابن أبي الحديد ج 13 ص 56 .

[ 4 ] ردّها . ورد في

[ 5 ] حداقها . ورد في نسخة العام 400 ص 183 . و نسخة ابن المؤدب ص 130 . و نسخة نصيري ص 84 . و نسخة الآملي ص 126 . و نسخة ابن أبي المحاسن ص 182 . و نسخة الأسترابادي ص 207 . و نسخة الصالح ص 217 .

[ 6 ] الضّباع . ورد في نسخة العطاردي ص 178 عن هامش نسخة موجودة في مكتبة مدرسة نواب في مدينة مشهد .

[ 129 ]

الْمَعَاشِ في [ 1 ] ظُلَمِ لَيَالِيهَا .

فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً وَ مَعَاشاً ، وَ النَّهَارَ سَكَناً وَ قَرَاراً ، وَ جَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّيَرَانِ كَأَنَّهَا شَظَايَا الآذَانِ ، غَيْرَ ذَوَاتِ ريشٍ وَ لاَ قَصَبٍ ، إِلاَّ أَنَّكَ تَرى مَوَاضِعَ الْعُرُوقِ بَيِّنَةً أَعْلاَماً .

لَهَا جَنَاحَانِ لَمَّا [ 2 ] يَرِقَّا فَيَنْشَقَّا ، وَ لَمْ يَغْلُظَا فَيَثْقُلاَ .

تَطيرُ وَ وَلَدُهَا لاَ صِقٌ بِهَا ، لاَجِئٌ إِلَيْهَا ، يَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ ، وَ يَرْتَفِعُ إِذَا ارْتَفَعَتْ ، لاَ يُفَارِقُهَا حَتَّى تَشْتَدَّ أَرْكَانُهُ ، وَ يَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ جَنَاحُهُ ، وَ يَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَيْشِهِ ، وَ مَصَالِحَ نَفْسِهِ .

فَسُبْحَانَ الْبَارِئِ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ، عَلى غَيْرِ مِثَالٍ خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ .

[ وَ ] [ 5 ] تَبَارَكَ الَّذي يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَ الأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً ، وَ يُعَفِّرُ [ 3 ] لَهُ خَدّاً وَ وَجْهاً ، وَ يُلْقي إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ سِلْماً وَ ضَعْفاً ، وَ يُعْطِي لَهُ الْقِيَادَ رَهْبَةً وَ خَوْفاً .