القول في نسب أمير المؤمنين ( ع ) و ذكر لمع من فضائله

[ 1 ] هو أبو الحسن عليّ بن أبي طالب ، و اسمه عبد مناف ، بن عبد المطلب ، و اسمه شيبة ، ابن هاشم ، و اسمه عمرو ، ابن عبد مناف بن قصيّ .

الغالب عليه من الكنية عليه السلام أبو الحسن .

و كان ابنه الحسن عليه السلام يدعوه في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم : أبا الحسين ، و يدعوه الحسين عليه السلام : أبا الحسن ، و يدعوان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم أباهما ، فلما توفّي النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم دعواه بأبيهما .

و كنّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أبا التراب ، وجده نائما في تراب ، قد سقط عنه رداؤه ، و أصاب التراب جسده ،

فجاء حتى جلس عند رأسه ، و أيقظه ، و جعل يمسح التراب عن ظهره و يقول له : اجلس ، إنّما أنت أبو تراب . فكانت من أحب كناه إليه صلوات اللّه عليه ، و كان يفرح إذا دعي بها ، و كانت ترغّب بنو أمية خطباءها أن يسبّوه بها على المنابر ، و جعلوها نقيصة له و وصمة عليه ، فكأنما كسوه بها الحليّ و الحلل ، كما قال الحسن البصريّ رحمه اللّه .

و كان اسمه الأول الذي سمتّه به أمه حيدرة ، باسم أبيها أسد بن هاشم ، و الحيدرة : الأسد ، فغيّر أبوه إسمه و سمّاه عليّا .

و قيل : إن حيدرة اسم كانت قريش تسمّيه به .

و القول الأول أصحّ ، يدلّ عليه خبره يوم برز إليه مرحب ، و ارتجز عليه فقال :

أنا الذي سمّتني أمّي مرحبا

فأجابه عليه السلام رجزا :

أنا الذي سمتّني أمي حيدرة

و رجزهما معا مشهور منقول لا حاجة لنا الآن إلى ذكره .

و تزعم الشيعة أنه خوطب في حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم ب « أمير المؤمنين » ، خاطبه بذلك جلّة المهاجرين و الأنصار . و لم يثبت ذلك في أخبار المحدثين ، إلا أنهم قد رووا ما يعطي هذا المعنى ، و إن لم يكن اللفظ بعينه ، و هو قول رسول

[ 1 ] هذا الفصل منقول عن شرح ابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي من دون تدخل . و قد وجدنا بعض الاختلاف بين رواية المحقق أبو الفضل ابراهيم و بين ما ورد في كتاب ينابيع المودة للحافظ القندوزي الحنفي ، فجمعنا بينهما .

[ 34 ]

اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم له : انت يعسوب الدين و المال يعسوب الظلمة .

و في رواية أخرى : هذا يعسوب المؤمنين ، و قائد الغرّ المحجّلين . و اليعسوب : ذكر النّحل و أميرها .

روى هاتين الروايتين أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل الشيباني في « المسند » في كتابه « فضائل الصحابة » ، و رواهما أبو نعيم الحافظ في « حلية الأولياء » .

و دعي بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم بوصيّ رسول اللّه ، لوصايته إليه بما أراده . و أصحابنا لا ينكرون ذلك ،

و لكن يقولون : إنها لم تكن وصية بالخلافة ، بل بكثير من المتجدّدات بعده ، أفضى بها إليه عليه السلام .

و سنذكر طرفا من هذا المعنى فيما بعد .

و أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ ، أوّل هاشمية ولدت لهاشميّ ، كان عليّ عليه السلام أصغر بنيها ،

و جعفر أسنّ منه بعشر سنين ، و عقيل أسنّ من جعفر بعشر سنين ، و طالب أسنّ من عقيل بعشر سنين ، و فاطمة بنت أسد أمّهم جميعا .

و أمّ فاطمة بنت أسد ، فاطمة بنت هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيصة ابن عامر بن لؤيّ . و أمها حديّة بنت وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر و أمّها فاطمة بنت عبيد بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤيّ .

و أمّها سلمى بنت عامر بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبّة بن الحارث بن فهر . و أمّها عاتكة بنت أبي همهمة ، و اسمه عمرو بن عبد العزّى بن عامر بن عميره بن وديعة بن الحارث ابن فهر ، و أمّها تماضر بنت عمرو بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب ابن لؤي ، و أمّها حبيبة ، و هي أمة اللّه بنت عبدياليل بن سالم بن ضبع بن وائلة بن نصر بن صعصعة بن ثعلبة بن كنانة بن عمرو بن قين بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر و أمّها ريطة بنت يسار بن مالك بن جشم بن ثقيف . و أمّها كلّة بنت حصين بن سعد بن بكر بن هوازن و أمّها حبّي بنت الحارث بن النابغة بن عميرة بن عوف بن نصر بن بكر بن هوازن . ذكر هذا النسب أبو الفرج عليّ بن الحسين الأصفهاني في كتاب « مقاتل الطالبيين » .

أسلمت فاطمة بنت أسد بعد عشرة من المسلمين ، و كانت الحادية عشر ، و كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم يكرمها و يعظّمها و يدعوها : أمي .

و أوصت إليه حين حضرتها الوفاة ، فقبل وصيّتها ، و صلّى عليها ، و نزل في لحدها ، و اضطجع معها فيه بعد أن ألبسها قميصه . فقال له أصحابه : إنّا ما رأيناك صنعت يا رسول اللّه بأحد ما صنعت بها . فقال : إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبرّ بي منها ، إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة ، و اضطجعت معها ليهون عليها ضغطة القبر .

و فاطمة أوّل امرأة بايعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم من النساء .

و أمّ أبي طالب بن عبد المطلب ، فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم . و هي أمّ عبد اللّه ، والد سيدنا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم ، و أمّ الزبير بن عبد المطلب ، و سائر ولد عبد المطلب بعد لأمهات شتى .

و اختلف في سنّة حين أظهر النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم الدعوة ، اذ تكامل له صلوات اللّه عليه أربعون سنة ، فالأشهر من الروايات أنه كان ابن عشر .

و كثير من أصحابنا المتكلمين يقولون : إنه كان ابن ثلاث عشرة سنة ، ذكر ذلك شيخنا أبو القاسم البلخيّ و غيره من شيوخنا .

و الأوّلون يقولون : إنه قتل و هو ابن ثلاث و ستين سنة ، و هؤلاء يقولون : ابن ستّ و ستين . و الروايات في ذلك مختلفة .

و من الناس من يزعم أن سنّه كانت دون العشر ، و الأكثر الأظهر خلاف ذلك .

[ 35 ]

و ذكر أحمد بن يحيى البلاذري و علي بن الحسين الإصفهاني أن قريشا أصابتها أزمة و قحط ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم لعمّيه : ألا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل ؟ .

فجاءوا إليه و سألوه أن يدفع إليهم ولده ليكفوه أمرهم فقال : دعوا لي عقيلا و خذوا من شئتم . و كان شديد الحبّ لعقيل .

فأخذ العباس طالبا ، و أخذ حمزة جعفرا ، و أخذ محمد صلى اللّه عليه و آله و سلم عليّا ، و قال لهم : قد اخترت من اختاره اللّه لي عليكم عليّا .

قالوا : فكان عليّ عليه السلام في حجر رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم ، منذ كان عمره ستّ سنين .

و كان ما يسدي إليه صلوات اللّه عليه من إحسانه و شفقته و برّه و حسن تربيته ، كالمكافأة و المعاوضة لصنيع أبي طالب به ،

حيث مات عبد المطلب و جعله في حجره .

و هذا يطابق قوله عليه السلام : لقد عبدت اللّه قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين .

و قوله : كنت أسمع الصوت و أبصر الضوء سنين سبعا ، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم حينئذ صامت ما أذن له في الإنذار و التبليغ .

و ذلك لأنه إذا كان عمره يوم إظهار الدعوة ثلاث عشرة سنة ، و تسليمه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم من أبيه و هو ابن ستّ ، فقد صحّ أنه كان يعبد اللّه قبل الناس بأجمعهم سبع سنين .

و ابن ستّ تصحّ منه العبادة إذا كان ذا تمييز ، على أنّ عبادة مثله هي التعظيم و الإجلال و خشوع القلب ، و استخذاء الجوارح ، إذا شاهد شيئا من جلال اللّه سبحانه و آياته الباهرة . و مثل هذا موجود في الصبيان .

و قتل عليه السلام ليلة الجمعة لثلاث عشرة بقين من شهر رمضان ، سنة أربعين في رواية أبي عبد الرحمن السّلميّ ، و هي الرواية المشهورة .

و في رواية أبي مخنف : أنها كانت لإحدى عشرة ليلة بقين من شهر رمضان ، و عليه الشيعة في زماننا .

و القول الأول أثبت عند المحدثين .

و الليلة السابعة عشرة من شهر رمضان هي ليلة بدر ، و قد كانت الروايات وردت أنه عليه السلام يقتل في ليلة بدر .

و قبره بالغريّ .

فأما فضائله عليه السلام ، فإنها قد بلغت من العظم و الجلالة و الانتشار و الاشتهار مبلغا يسمج معه التعرّض لذكرها ،

و التصدّي لتفصيلها ، فصارت كما قال أبو العيناء لعبيد اللّه بن يحيى بن خاقان وزير المتوكّل و المعتمد : رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك ، كالمخبر عن ضوء النهار الباهر ، و القمر الزاهر ، الذي لا يخفى على الناظر ، فأيقنت أنّي حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز ، مقصّر عن الغاية ، فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك ، و وكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك .

و ما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه و خصومه بالفضل ، و لم يمكنهم جحد مناقبه ، و لا كتمان فضائله . فقد علمت أنّه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض و غربها ، و اجتهدوا حيلة في إطفاء نوره ، و التحريض عليه ، و وضع المعايب و المثالب له ، و لعنوه على جميع المنابر ، و توعّدوا مادحيه ، بل حبسوهم و قتلوهم ، و منعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة ، أو يرفع له ذكرا ، حتى حظروا أن يسمّى أحد باسمه ، فما زاده ذلك إلاّ رفعة و سموّا ، و كان كالمسك كلّما ستر انتشر عرفه ، و كلّما كتم تضوّع نشره ، و كالشمس لا تستر بالرّاح ، و كضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة ، أدركته عيون كثيرة .

و ما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة ، و تنتهي إليه كل فرقة ، و تتجاذبه كل طائفة ، فهو رئيس الفضائل و ينبوعها ، و أبو عذرها ، و سابق مضمارها ، و مجلّى حلبتها ، كل من بزع فيها فمنه أخذ ، و له اقتفى ، و على مثاله احتذى .

[ 36 ]

و قد عرفت أنّ أشرف العلوم ، هو العلم الإلهيّ ، لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم ، و معلومه أشرف الموجودات ، فكان هو أشرف العلوم ، و من كلامه عليه السلام اقتبس ، و عنه نقل ، و إليه انتهى .

فإن المعتزلة ، الذين هم أهل التوحيد و العدل ، و أرباب النظر ، و منهم تعلّم الناس هذا الفن ، تلامذته و أصحابه ، لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم بن محمد بن الحنفية ، و أبو هاشم تلميذ أبيه ، و أبوه تلميذه عليه السلام .

و أما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن عليّ بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري ، و هو تلميذ أبي علي الجبائي ، و أبو علي أحد مشايخ المعتزلة ، فالأشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة و معلّمهم ، و هو عليّ ابن أبي طالب عليه السلام .

و أما الإمامية و الزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر .

و من العلوم علم الفقه ، و هو عليه السلام أصله و أساسه ، و كلّ فقيه في الإسلام فهو عيال عليه ، و مستفيد من فقهه .

أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف و محمد و غيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة .

و أما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن ، فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة .

و أما أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي ، فيرجع فقهه ايضا إلى أبي حنيفة ، و أبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد عليه السلام ، و قرأ جعفر على أبيه عليه السلام ، و ينتهى الأمر إلى عليّ عليه السلام .

و أما مالك بن أنس فقرأ على ربيعة الرأي ، و قرأ عبد اللّه بن عباس على عليّ بن أبي طالب .

و إن شئت فرددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك .

فهؤلاء الفقهاء الأربعة .

و أما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر .

و أيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا : عمر بن الخطاب و عبد اللّه بن عباس ، و كلاهما أخذ عن علي عليه السلام .

أمّا ابن عباس فظاهر .

و أما عمر فقد عرف كلّ أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه و على غيره من الصحابة . و قوله غير مرّة :

« لو لا علي لهلك عمر » ، و قوله : « لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن » ، و قوله : « لا يفتينّ أحد في المسجد و علي حاضر » .

فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه .

و قد روت العامة و الخاصة قوله عليه السلام : أقضاكم علي . و القضاء هو الفقه ، فهو إذا أفقههم .

و روى الكلّ ايضا أنه عليه السلام قال له و قد بعثه إلى اليمن قاضيا : اللهم اهد قلبه و ثبّت لسانه . قال : فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين .

و هو عليه السلام الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة اشهر .

و هو الذي أفتى في الحامل الزانية .

و هو الذي قال في المنبرية : صار ثمنها تسعا . و هذه المسألة لو فكّر الفرضيّ فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب .

فما ظنّك بمن قاله بديهة ، و اقتضبه ارتجالا .

و من العلوم علم تفسير القرآن ، و عنه أخذ ، و منه فرّع . و إذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحّة ذلك ، لأن أكثره عنه و عن عبد اللّه بن عباس . و قد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له ، و انقطاعه إليه ، و أنه تلميذه و خرّيجه .

[ 37 ]

و قيل له : أين علمك من علم ابن عمّك عليّ ؟ . فقال : كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط .

و من العلوم علم الطريقة و الحقيقة و أحوال التصوّف ، و قد عرفت أن أرباب هذا الفنّ في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون ،

و عنده يقفون ، و قد صرّح بذلك الشبّلي ، و الجنيد ، و سري ، و أبو يزيد البسطامي ، و أبو محفوظ معروف الكرخي ، و غيرهم .

و يكفيك دلالة على ذلك الخرقة التي شعارهم إلى اليوم ، و كونهم يسندونها بإسناد متّصل إليه عليه السلام .

و من العلوم علم النّحو و العربية ، و قد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه و أنشأه ، و أملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه و أصوله . من جملتها : الكلام كلّه ثلاثة أشياء : إسم ، و فعل ، و حرف ، و من جملتها تقسيم الكلمة إلى : معرفة ، و نكرة ، و تقسيم وجوه الإعراب إلى : الرفع ، و النصب ، و الجرّ ، و الجزم .

و هذا يكاد يلحق بالمعجزات ، لأن القوة البشرية لا تفى بهذا الحصر ، و لا تنهض بهذا الاستنباط .

و إن رجعت إلى الخصائص الخلقية و الفضائل النفسانية و الدينية وجدته ابن جلاها و طلاّع ثناياها .

و أما الشجاعة فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله ، و محا اسم من يأتي بعده .

و مقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة ، و هو الشجاع الذي ما فرّقطّ ، و لا ارتاع من كتيبة ، و لا بارز احدا إلاّ قتله ، و لا ضرب ضربة قطّ فاحتاجت الأولى إلى ثانية .

و في الحديث : كانت ضرباته و ترا .

و لمّا دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما ، قال له عمرو : لقد أنصفك . فقال معاوية : ما غششتني منذ نصحتني إلاّ اليوم ، أتأمرني بمبارزة أبي الحسن و أنت تعلم أنه الشجاع المطرق . أراك طمعت في إمارة الشام بعدي .

و كانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته ، فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه عليه السلام قتلهم أظهر و أكثر ، قالت أخت عمرو بن عبدودّ ترثيه :

لو كان قاتل عمرو غير قاتله
بكيته أبدا ما دمت في الأبد

لكن قاتله من لا نظير له
و كان يدعى أبوه بيضة البلد

و انتبه يوما معاوية ، فرأى عبد اللّه بن الزّبير جالسا تحت رجليه على سريره فقعد ، فقال له عبد اللّه يداعبه : يا أمير المؤمنين ، لو شئت أن أفتك بك لفعلت . فقال : لقد شحعت بعدنا يا أبا بكر . قال : و ما الذي تنكره من شجاعتي و قد وقفت في الصفّ إزاء عليّ بن أبي طالب ؟ . قال لا جرم ، إنّه قتل أباك بيسرى يديه ، و بقيت اليمنى فارغة ، يطلب من يقتله بها .

و جملة الأمر أن كلّ شجاع في الدنيا إليه ينتهي ، و باسمه ينادي في مشارق الأرض و مغاربها .

و أما القوة و الأيد فبه يضرب المثل فيهما .

قال ابن قتيبة في « المعارف » : ما صارع أحدا قطّ إلاّ صرعه .

و هو الذي قلع باب خيبر ، و اجتمع عليه عصبة من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه .

و هو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة ، و كان عظيما جدا ، و ألقاه إلى الأرض .

و هو الّذي اقتلع الصخرة العظيمة بيده ، أيام خلافته عليه السلام ، في مسيره إلى صفّين بعد عجز الجيش كلّه عن قلع الصخرة ، و أنبط الماء تحتها .

[ 38 ]

و أما السخاء و الجود فحاله فيه ظاهرة : و كان يصوم و يطوي و يؤثر بزاده ، و فيه أنزل : وَ يُطعِمُونَ الطّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكيناً وَ يتيماً وَ أسيراً إِنّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُريدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَ لا شُكُوراً .

و روى المفسرون أنه لم يكن يملك إلاّ أربعة دراهم ، فتصدّق بدرهم ليلا ، و بدرهم نهارا ، و بدرهم سرّا ، و بدرهم علانية ،

فأنزل اللّه فيه : الّذينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ و النّهارِ سِرّاً وَ عَلانِيَةً .

و روي عنه أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة ، حتى مجلت يده ، و يتصدق بالأجرة ، و يشدّ على بطنه حجرا .

و قال الشعبيّ و قد ذكره عليه السلام : كان أسخى الناس ، كان على الخلق الذي يحبّه اللّه : السخاء و الجود ، ما قال : « لا » لسائل قطّ .

و قال عدوّه و مبغضه الذي يجتهد في وصمه و عيبه معاوية بن أبي سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبي لمّا قال له : جئتك من عند أبخل الناس . فقال : و يحك كيف تقول إنه أبخل الناس و لو ملك بيتا من تبر و بيتا من تبن لأنفق تبره قبل تبنه .

و هو الذي كان يكنس بيوت الأموال و يصلّي فيها .

و هو الذي قال : يا صفراء ، و يا بيضاء ، غرّي غيري .

و هو الذي لم يخلف ميراثا ، و كانت الدنيا كلّها بيده إلاّ ما كان من الشام .

و أما الحلم و الصفح ، فكان أحلم الناس عن ذنب ، و أصفحهم عن مسي‏ء .

و قد ظهر صحّة ما قلناه يوم الجمل ، حيث ظفر بمروان بن الحكم ، و كان أعدى الناس له و أشدّهم بغضا ، فصفح عنه .

و كان عبد اللّه بن الزّبير يشتمه على رؤوس الأشهاد ، و خطب يوم البصرة فقال : قد أتاكم الوغد اللئيم عليّ بن أبي طالب .

و كان عليّ عليه السلام يقول : ما زال الزبير رجلا منّا اهل البيت حتى نشأ ولده المشؤوم عبد اللّه .

فظفر به يوم الجمل ، فأخذه أسيرا ، فصفح عنه ، و قال : إذهب فلا أريدك . لم يزده على ذلك .

و ظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة ، و كان له عدوّا ، فأعرض عنه و لم يقل له شيئا .

و قد علمتم ما كان من عائشة أم المؤمنين في أمره ، فلما ظفر بها أكرمها ، و بعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عمّمهنّ بالعمائم و قلّدهن بالسيوف . فلمّا كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به ، و تأفّفت ، و قالت : هتك ستري برجاله و جنده الذين وكلهم بي . فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهنّ ، و قلن لها : إنما نحن نسوة .

و حاربه أهل البصرة ، و ضربوا وجهه و وجوه أولاده بالسيوف ، و شتموه و لعنوه ، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم ، و نادى مناديه في أقطار العسكر : ألا لا يتبع مولّ ، و لا يجهز على جريح ، و لا يقتل مستأسر ، و من ألقى سلاحه فهو آمن ، و من تحيّز إلى عسكر الإمام فهو آمن .

و لم يأخذ أثقالهم ، و لا سبى ذراريّهم ، و لا غنم شيئا من أموالهم ، و لو شاء أن يفعل كلّ ذلك لفعل . و لكنه أبى إلاّ الصفح و العفو ، و تقيّد بسنّة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يوم فتح مكة ، فإنه عفا و الأحقاد لم تبرد ، و الإساءة لم تنس .

و لمّا ملك عسكر معاوية عليه الماء ، و أحاطوا بشريعة الفرات ، و قالت رؤساء الشام له : اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا . سألهم عليّ عليه السلام و أصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء ، فقالوا : لا و اللّه ، و لا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفّان . فلمّا رأى عليه السلام أنه الموت لا محالة تقدّم بأصحابه ، و حمل على عساكر معاوية حملات كثيفة ، حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع سقطت منه الرؤوس و الأيدي ، و ملكوا عليهم الماء ، و صار أصحاب معاوية في الفلاة ، لا ماء لهم . فقال له أصحابه و شيعته : امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك ، و لا تسقهم منه قطرة ، و اقتلهم بسيوف العطش ، و خذهم قبضا

[ 39 ]

بالأيدي ، فلا حاجة لك إلى الحرب . فقال : لا و اللّه لا أكافئهم بمثل فعلهم ، افسحوا لهم عن بعض الشريعة ، ففى حدّ السيف ما يغني عن ذلك .

فهذه إن نسبتها إلى الحلم و الصفح فناهيك بها جمالا و حسنا ، و إن نسبتها إلى الدّين و الورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام .

و أما الجهاد في سبيل اللّه فمعلوم عند صديقه و عدوّه أنه سيّد المجاهدين ، و هل الجهاد لأحد من الناس إلاّ له .

و قد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و أشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى ، قتل فيها سبعون من المشركين ، قتل عليّ ستة و ثلاثين منهم ، و قتل المسلمون و الملائكة أربعة و ثلاثين .

و إذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي ، و تاريخ الأشراف لأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري ، و مغازي محمد ابن إسحاق المطلبي ، و غيرهم ، علمت صحة ذلك .

دع من قتله في غيرها كأحد ، و الخندق ، و حنين ، و خيبر ، و غيرها .

و هذا الفصل لا معنى للإطناب فيه ، لأنه من المعلومات الضرورية ، كالعلم بوجود مكة و مصر و نحوهما .

و أما الفصاحة ، فهو عليه السلام إمام الفصحاء و سيد البلغاء .

و في كلامه قيل : دون كلام الخالق ، و فوق كلام المخلوقين .

و منه تعلّم الناس الخطابة و الكتابة .

قال عبد الحميد بن يحيى : حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع عليّ بن أبي طالب ، ففاضت ثم فاضت .

و قال الأصبغ بن نباته : حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده إلاّ سعة و كثرة ، حفظت مائة فصل من مواعظ عليّ بن أبي طالب .

و لما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية : جئتك من عند أعيا الناس ، قال له : و يحك كيف يكون أعيا الناس فو اللّه ما سنّ الفصاحة لقريش غيره .

و يكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة ، و لا يبارى في البلاغة .

و حسبك أنه لم يدوّن لأحد من فصحاء الصحابة العشر و لا نصف العشر مما دوّن له .

و كفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في مدحه في كتاب البيان و التبيين و في غيره من كتبه .

و أما سماحة الأخلاق ، و بشر الوجه ، و طلاقة المحيّا و التبسّم ، فهو المضروب به المثل فيه ، حتى عابه بذلك أعداؤه .

قال عمرو بن العاص لأهل الشام : إنه ذو دعابة شديدة .

و قال عليّ عليه السلام في ذلك : عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن فيّ دعابة ، و أنيّ امرؤ تلعابة ، أعافس و أمارس .

و عمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه : للّه أبوك لو لا دعابة فيك .

إلا ان عمر اقتصر عليها ، و عمرو زاد فيها و سمّجها .

قال صعصعة بن صوحان و غيره من شيعته و أصحابه : كان فينا كأحدنا ، لين جانب ، و شدّة تواضع ، و سهولة قياد ، و كنّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسيّاف الواقف على رأسه .

[ 40 ]

و قال معاوية لقيس بن سعد : رحم اللّه أبا الحسن ، فلقد كان هشّا بشّا ، ذا فكاهة . فقال قيس : نعم ، كان رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم يمزح و يبتسم إلى أصحابه ، و أراك تسرّ حسوا في ارتغاء ، و تعيبه بذلك أما و اللّه لقد كان مع تلك الفكاهة و الطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسّه الطّوى ، تلك هيبة التقوى ، و ليس كما يهابك طغام أهل الشام .

و قد بقي هذا الخلق متوارثا متناقلا في محبّيه و أوليائه إلى الآن ، كما بقي الجفاء و الخشونة و الوعورة في الجانب الآخر .

و من له أدنى معرفة بأخلاق الناس و عوائدهم يعرف ذلك .

و أما الزهد في الدنيا ، فهو سيّد الزهاد ، و بدل الأبدال ، و إليه تشدّ الرّحال ، و عنده تنفض الأحلاس ، ما شبع من طعام قطّ .

و كان أخشن الناس مأكلا و ملبسا .

قال عبد اللّه بن أبي رافع : دخلت عليه يوم عيد ، فقدّم جرابا مختوما ، فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا ، فقدّم فأكل ،

فقلت يا أمير المؤمنين ، فكيف تختمه ؟ قال : خفت هذين الولدين ( يعني الحسن و الحسين عليهما السلام ) أن يلتّاه بسمن أو زيت .

و كان ثوبه مرقوعا بجلد تارة و ليف أخرى ، و نعلاه من ليف .

و كان يلبس الكرباس الغليظ ، فإذا وجد كمّه طويلا قطعه بشفرة ، و لم يخطه ، فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى سدى لا لحمة له .

و كان يأتدم إذا ائتدم بخلّ أو بملح ، فإن ترقّى عن ذلك فببعض نبات الأرض ، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل . و لا يأكل اللحم إلاّ قليلا ، و يقول : لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان .

و كان مع ذلك أشدّ الناس قوة و أعظمهم أيدا ، لا ينقض الجوع قوّته ، و لا يخوّن الإقلال منّته .

و هو الذي طلّق الدنيا ، و كانت الأموال تحبى إليه من جميع بلاد الإسلام إلاّ من الشام ، فكان يفرّقها و يمزّقها ، ثم يقول :

هذا جناي و خياره فيه
إذ كل جان يده إلى فيه

و أما العبادة ، فكان أعبد الناس و أكثرهم صلاة و صوما ، و منه تعلّم الناس صلاة الليل ، و ملازمة الأوراد ، و قيام النافلة .

و ما ظنّك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفّين ليلة الهرير ، فيصلّى عليه ورده ، و السّهام تقع بين يديه و تمرّ على صماخيه يمينا و شمالا ، فلا يرتاع لذلك ، و لا يقوم حتى يفرغ من وظيفته .

و ما ظنّك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده .

و أنت إذا تأمّلت دعواته و مناجاته ، و وقفت على ما فيها من تعظيم اللّه سبحانه و إجلاله ، و ما يتضمّنه من الخضوع لهيبته ،

و الخشوع لعزّته و الاستخذاء له سبحانه و تعالى ، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص ، و فهمت من أيّ قلب خرجت ، و على ايّ لسان جرت و قيل لعليّ بن الحسين عليه السلام ، و كان الغاية في العبادة : أين عبادتك من عبادة جدّك ؟ . قال : عبادتي عند عبادة جدّي كعبادة جدّي عند عبادة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم .

و أما قراءته القرآن و اشتغاله به ، فهو المنظور إليه في هذا الباب ، اتّفق الكلّ على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول اللّه

[ 41 ]

صلى اللّه عليه و آله و سلم ، و لم يكن غيره يحفظه . ثم هو اوّل من جمعه ، نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبي بكر ، فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفة للبيعة ، بل يقولون : تشاغل بجمع القرآن ، فهذا يدلّ على أنه اوّل من جمع القرآن ، لأنه لو كان مجموعا في حياة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لما احتاج إلى أن يتشاغل بجمعه بعد وفاته صلى اللّه عليه و آله .

و إذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القرّاء كلهم يرجعون إليه ، كأيي عمرو بن العلاء و عاصم بن أبي النجود ،

و غيرهما ، لأنهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السّلميّ القارئ ، و أبو عبد الرحمن كان تلميذه ، و عنه أخذ القرآن ، فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضا ، مثل ما سبق .

و أما الرأي و التدبير ، فكان من أسدّ الناس رأيا ، و أصحّهم تدبيرا .

و هو الذي أشار على عمر بن الخطاب لمّا عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الرّوم و الفرس بما أشار .

و هو الذي أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها ، و لو قبلها لم يحدث عليه ما حدث .

و انما قال أعداؤه : لا رأي له ، لأنه كان متقيّدا بالشريعة لا يرى خلافها ، و لا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه .

و قد قال عليه السلام : لو لا الدين و التّقى لكنت أدهى العرب ، و لكن كل غدرة فجرة ، و كل فجرة كفرة . و لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة .

و غيره من الخلفاء كان يعمل ما يستصلحه و يستوقفه ، أكان مطابقا للشرع أم لم يكن .

و لا ريب من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده ، و لا يقف مع ضوابط و قيود يمتنع لأجلها مما يرى الصلاح فيه ، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب ، و من كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب .

و أما السياسة ، فإنه كان شديد السياسة ، خشنا في ذات اللّه ، لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاّه إياه ، و لا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به و أحرق قوما بالنار ، و نقض دار مصقلة بن هبيرة و دار جرير بن عبد اللّه البجليّ ، و قطع جماعة و صلب آخرين .

و من جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل و صفّين و النهروان ، و في أقل القليل منها مقنع ، فإن كلّ سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه و بطشه و انتقامه مبلغ العشر ممّا فعل عليه السلام في هذه الحروب بيده و أعوانه .

فهذه هي خصائص البشر و مزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الإمام المتّبع فعله ، و الرئيس المقتفى أثره .

و ما أقول في رجل تحبّه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوّة ، و تعظّمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملّة .

و تصوّر ملوك الإفرنج و الروم صورته في بيعها و بيوت عباداتها ، حاملا سيفه ، مشمّرا لحربه .

و تصوّر ملوك الترك و الديلم صورته على أسيافها إذ كان على سيف عضد الدولة بن بويه و سيف أبيه ركن الدولة صورته ،

و كان على سيف إلب أرسلان و ابنه ملكشاه صورته ، كأنهم يتبركون بها و يتفاءلون بها النصر و الظفر .

و ما أقول في رجل أحبّ كل واحد أن يتكثّر به ، و ودّ كل أحد أن يتجمل و يتحسّن بالانتساب إليه .

حتى الفتوّة التي أحسن ما قيل في حدهها : أن لا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك ، فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه ،

[ 42 ]

و صنّفوا في ذلك كتبا ، و جعلوا لذلك إسنادا أنهوه إليه ، و قصروه عليه ، و سمّوه سيّد الفتيان ، و عضدوا مذهبهم إليه بالبيت المشهور المرويّ ، أنه سمع من السماء يوم أحد : لا سيف إلاّ ذو الفقار و لا فتى إلاّ علي و ما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيّد البطحاء ، و شيخ قريش ، و رئيس مكة . قالوا : قلّ أن يسود فقير ، و ساد أبو طالب و هو فقير لا مال له ، و كانت قريش تسمّيه الشيخ .

و في حديث عفيف الكندي ، لمّا رأى النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلم يصلّي في مبدأ الدعوة ، و معه غلام و امرأة ، قال : فقلت للعباس : ايّ شي‏ء هذا ؟ . قال : هذا ابن أخي محمد يدّعي أنه رسول من اللّه إلى الناس ، و لم يتبعه على قوله إلاّ هذا الغلام عليّ ،

و هو ابن أخي أيضا ، و هذه الإمرأة و هي زوجته خديجة .

قال : فقلت : ما الذي تقولونه أنتم ؟ .

قال : ننتظر ما يفعل الشيخ ، يعني أبا طالب .

و أبو طالب هو الذي كفل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم صغيرا ، و حماه و حاطه كبيرا ، و منعه من مشركي قريش ،

و لقى لأجله عنتا عظيما ، و قاسى بلاء شديدا ، و صبر على نصره و القيام بأمره .

و جاء في الخبر : أنه لمّا توفّي أبو طالب أوحي إليه صلى اللّه عليه و آله و سلم و قيل له : أخرج من مكة ، فقد مات ناصرك .

و له مع شرف أبيه أن ابن عمه محمدا سيّد الأولين و الآخرين ، و أن أخاه جعفر ذو الجناحين ، الذي قال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : أشبهت خلقى و خلقى ، فمرّ يحجل فرحا ، و أن زوجته سيّدة نساء العالمين ، و أن ابنيه سيّد اشباب أهل الجنة .

فآباؤه آباء رسول اللّه ، و أمهاته أمهات رسول اللّه ، و هو متّحد برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم ، و في الأولاد أيضا متحد .

و كانا متحدين في الأصول و الفروع ، منوط لحمه بلحمه و دمه بدمه ، لم يفارق نورهما منذ خلق ، إلى أن افترق بين الأخوين عبد اللّه و أبي طالب و أمّهما واحدة ، فكان من عبد اللّه سيد الأنبياء و من أبي طالب سيد الأوصياء ، و كان ، هذا الأول و هذا التالي ،

و هذا المنذر و هذا الهادي .

و ما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى ، و آمن باللّه و عبده و كلّ من في الأرض يعبد الحجر ، و يجحد الخالق .

لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلاّ السابق إلى كلّ خير محمد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم .

و ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه عليه السلام أول الناس اتّباعا لرسول صلى اللّه عليه و آله و سلم إيمانا به ، و لم يخالف في ذلك إلاّ الأقلّون .

و قد قال هو عليه السلام : أنا الصدّيق الأكبر ، و أنا الفاروق الأول ، أسلمت قبل إسلام الناس ، و صلّيت قبل صلاتهم .

و من وقف على كتب اصحاب الحديث تحقق ذلك و علمه واضحا .

و إليه ذهب الواقديّ و ابن جرير الطبريّ ، و هو القول الذي رجحه و نصره صاحب كتاب « الاستيعاب » .

و لأنّا إنما نذكر في مقدمة الكتاب جملة من فضائله عنّت بالعرض لا بالقصد ، وجب أن نختصر و نقتصر ، فلو أردنا شرح مناقبه و خصائصه لاحتجنا إلى كتاب مفرد يماثل حجم هذا بل يزيد عليه .

[ 43 ]