فقال ضرار : اعفني من ذلك .
فقال معاوية : أقسمت عليك لتفعلن .
فقال ضرار : إذن فاسمع .
إنه كان و اللّه أول من لبّى و كبّر ، و أفضل من تقمّص و اعتجر ، و أكرم من ناجى ربه و سهر ، و أعلم من قرّب و نحر ، و أجود من تصدّق بأبيض و أصفر ، و خير من أقبل و أدبر بعد محمد سيد البشر .
قال معاوية : زدني يا ضرار .
فقال ضرار :
كان و اللّه بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فصلاً ، و يحكم عدلاً ، يتفجر العلم من جوانبه ، و تنطلق الحكمة من نواحيه .
و كان و اللّه معنا كأحدنا ، يُدنينا إذا أتيناه ، و يجيبنا إذا سألناه ، و ينبئنا إذا استنبأناه ، و يلبّينا إذا دعوناه .
و كنا و اللّه مع تقريبه لنا و قربه منا لا نكاد نبتدؤه لعظمته ، و لا نكلمه لهيبته .
فإن تبسم فعن غير أشر و لا اختيال [ 2 ] ، و إن نطق فعن الحكمة و فصل الخطاب [ كان ] يقسم بالسويّة ، و يعدل في الرعية ، و لا يُطمع القوي في باطله ، و لا ييأس الضعيف من عدله .
كان يعظّم أهل الدين ، و يفضّل المساكين ، و يُطعم في المَسغَبة يتيماً ذا مقربة ، أو مسكيناً ذا متربة ، و يكسو العريان ، و ينصر اللهفان ، و يستوحش من الدنيا و زهرتها ، و يأنس إلى الليل و ظلمته .
كان و اللّه غزير العبرة ، طويل الفكرة ، يقلّب كفّه ، و يعاتب نفسه . يعجبه من اللباس ما خشن ، و من الطعام ما جشب .
فأشهد باللّه لقد رأيته في بعض مواقفه و قد أرخى الليل سدوله ، و غارت نجومه ، و هو قائم في محرابه ،
قابض على لحيته ، يتململ تململ السليم ، و يبكي بكاء الحزين ، يناجي ربه .
[ 1 ] الكناني . ورد في المستطرف ج 1 ص 137 . و فضائل الخمسة ج 3 ص 37 . و ورد الصدائي في ينابيع المودة ص 216 .
[ 2 ] فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم . ورد في شرح الأخبار ج 2 ص 392 . و تذكرة الخواص ص 113 . و البحار ( مجلد قديم ) ج 8 ص 538 . و نهج السعادة ج 3 ص 200 . باختلاف يسير . و ورد يبسم عن ثغر كاللؤلو المنظوم في مروج الذهب ج 2 ص 432 .
[ 562 ]
فكأني أسمعه الآن و هو يقول : يا ربنا ، يا ربنا ، يتضرع إليه ، و يخاطب الدنيا فيقول : [ 1 ] [ 11 ] يَا دُنْيَا ، يَا دُنْيَا ، إِلَيْكِ عَنّي .
أَبي تَعَرَّضْتِ ، أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ ؟ .
لاَ حَانَ حَيْنُكِ .
غُرّي ، يَا دُنْيَا ، مَنْ جَهِلَ حِيَلَكِ ، وَ خَفِيَ عَلَيْهِ حَبَائِلُ كَيْدِكِ [ 2 ] .
هَيْهَاتَ ، هَيْهَاتَ [ 3 ] ، غُرّي غَيْري ، لاَ حَاجَةَ لي فيكِ .
لَقَدْ طَلَّقْتُكِ [ 4 ] ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ فيهَا ، فَعَيْشُكِ قَصيرٌ ، وَ خَطَرُكِ يَسيرٌ ، وَ أَمَلُكِ حَقيرٌ ، وَ خُسْرَانُكَ كَبيرٌ ، وَ حَظُّكِ قَليلٌ ، وَ أَهْلُكِ ذَليلٌ ، وَ بَهْجَتُكِ زُورٌ ، وَ مَوَاهِبُكِ غُرُورٌ [ 5 ] .
آهِ آهِ [ 6 ] مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ ، وَ طُولِ [ 7 ] الطَّريقِ [ 8 ] ، وَ بُعْدِ السَّفَرِ [ 9 ] ، وَ عَظيمِ الْمَوْرِدِ ، وَ خُشُونَةِ الْمَضْجَعِ [ 10 ] .
[ 11 ] من : يا دنيا إلى : المورد ورد في حكم الشريف الرضي تحت الرقم 77 .
[ 1 ] ورد في شرح الأخبار ج 2 ص 392 . و مروج الذهب ج 2 ص 432 . و خصائص الأئمة ص 70 . و الجوهرة ص 75 . و تذكرة الخواص ص 113 . و ينابيع المودة ص 144 و 216 . و مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 119 . و إرشاد القلوب ج 1 ص 218 .
و المستطرف ج 1 ص 137 . و البحار ( مجلد قديم ) ج 8 ص 538 . و نهج السعادة ج 3 ص 87 و 200 و 327 . و فضائل الخمسة ج 3 ص 37 عن حلية الأولياء لأبي نعيم ج 1 ص 84 . باختلاف بين المصادر .
[ 2 ] ورد في غرر الحكم للآمدي ج 2 ص 508 .
[ 3 ] ورد في مروج الذهب ج 2 ص 433 . و شرح الأخبار ج 2 ص 392 . و إرشاد القلوب ج 1 ص 218 . و تذكرة الخواص ص 113 .
و المستطرف ج 1 ص 137 . و الجوهرة ص 75 . و نهج السعادة ج 3 ص 201 . و فضائل الخمسة ج 3 ص 37 عن حلية الأولياء لأبي نعيم ج 1 ص 84 .
[ 4 ] أبّنتك . ورد في مروج الذهب ج 2 ص 433 . و شرح الأخبار ج 2 ص 392 . و إرشاد القلوب ج 1 ص 218 . و المستطرف ج 1 ص 137 . و الجوهرة ص 75 . و نهج السعادة ج 3 ص 201 . و فضائل الخمسة ج 3 ص 37 عن حلية الأولياء لأبي نعيم ج 1 ص 84 .
[ 5 ] ورد في مروج الذهب ج 2 ص 433 . و شرح الأخبار ج 2 ص 392 . و إرشاد القلوب ج 1 ص 218 . و تذكرة الخواص ص 113 .
و المستطرف ج 1 ص 137 . و الجوهرة ص 75 . و نهج السعادة ج 3 ص 201 . باختلاف بين المصادر .
[ 6 ] ورد في شرح الأخبار ج 2 ص 392 . و ينابيع المودة ص 217 . و إرشاد القلوب ج 1 ص 218 . و البحار ( مجلد قديم ) ج 8 ص 538 . و فضائل الخمسة ج 3 ص 38 . و نهج السعادة ج 3 ص 201 .
[ 7 ] وحشة . ورد في مروج الذهب ج 2 ص 433 . و شرح الأخبار ج 2 ص 392 . و مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 119 . و إرشاد القلوب ج 1 ص 218 . و تذكرة الخواص ص 113 . و ينابيع المودة ص 217 . و البحار ( مجلد قديم ) ج 8 ص 538 . و نهج السعادة ج 3 ص 201 و 328 .
[ 8 ] المجاز . ورد في خصائص الأئمة للشريف الرضي ص 17 .
[ 9 ] الدّار . ورد في نهج السعادة للمحمودي ج 3 ص 328 .
[ 10 ] ورد في ينابيع المودة للقندوزي ص 144 .
[ 563 ]
فوكفت دموع معاوية ما يملكها و هو يقول : رحم اللّه أبا حسن ، فقد كان و الله كذلك . و اختنق القوم من حوله بالبكاء .
ثم قال معاوية : زدني يا ضرار شيئاً من كلامه .
فقال ضرار : لقد كان يقول [ أمير المؤمنين عليه السلام ] :
[ 7 ] لَقَدْ عُلِّقَ بِنِيَاطِ الإِنْسَانِ بَضْعَةٌ هِيَ أَعْجَبُ مَا فيهِ ، وَ ذَلِكَ الْقَلْبُ وَ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ مَوَادَّ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ أَضْدَاداً مِنْ خِلاَفِهَا .
فَإِنْ سَنَحَ لَهُ الرَّجَاءُ أَذَلَّهُ الطَّمَعُ .
وَ إِنْ هَاجَ بِهِ الطَّمَعُ أَهْلَكَهُ الْحِرْصُ .
وَ إِنْ مَلَكَهُ الْيَأْسُ قَتَلَهُ الأَسَفُ .
وَ إِنْ عَرَضَ لَهُ الْغَضَبُ اشْتَدَّ [ 1 ] بِهِ الْغَيْظُ .
وَ إِنْ أَسْعَدَهُ الرِّضَا نَسِيَ التَّحَفُّظَ .
وَ إِنْ غَالَهُ [ 2 ] الْخَوْفُ شَغَلَهُ الْحَذَرُ [ 3 ] .
وَ إِنِ اتَّسَعَ لَهُ الأَمْرُ [ 4 ] اسْتَلَبَتْهُ الْغِرَّةُ .
وَ إِنْ جُدِّدَتْ لَهُ نِعْمَةٌ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ [ 5 ] .
وَ إِنْ أَفَادَ مَالاً أَطْغَاهُ الْغِنى .
وَ إِنْ عَضَّتْهُ الْفَاقَةُ شَغَلَهُ الْبَلاَءُ [ وَ ] جَهَدَهُ الْبُكَاءُ [ 6 ] .
وَ إِنْ أَصَابَتْهُ مُصيبَةٌ فَضَحَهُ الْجَزَعُ .
[ 7 ] من : لقد إلى : مفسد ورد في حكم الشريف الرضي تحت الرقم 108 .
[ 1 ] استبدّ . ورد في نثر الدرّ للآبي ج 1 ص 276 .
[ 2 ] عاله . ورد في نسخة الأسترابادي ص 539 . و ورد ناله في متن شرح ابن ميثم ج 5 ص 295 . و متن منهاج البراعة ج 21 ص 162 . و نسخة عبده ص 681 . و متن مصادر نهج البلاغة ج 4 ص 100 .
[ 3 ] الحزن . ورد في نثر الدرّ ج 1 ص 276 . و البحار ج 5 ص 57 . و نهج السعادة ج 1 ص 497 .
[ 4 ] الأمن . ورد في نسخة العام 400 ص 449 . و نسخة ابن أبي المحاسن ص 387 . و نسخة الأسترابادي ص 539 . و متن شرح ابن ميثم ج 5 ص 295 . و متن منهاج البراعة ج 21 ص 162 . و متن مصادر نهج البلاغة ج 4 ص 100 . و نسخة العطاردي ص 425 .
[ 5 ] ورد في الكافي ج 8 ص 19 . و نثر الدرّ ج 1 ص 276 . و تحف العقول ص 69 . و نهج السعادة ج 1 ص 60 . باختلاف .
[ 6 ] ورد في الكافي للكليني ج 8 ص 19 .
[ 564 ]
وَ إِنْ جَهَدَهُ [ 1 ] الْجُوعُ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ [ 2 ] .
وَ إِنْ أَفْرَطَ بِهِ [ 3 ] الشَّبَعُ كَظَّتْهُ الْبِطْنَةُ .
فَكُلُّ تَقْصيرٍ بِهِ مُضِرٌّ ، وَ كُلُّ إِفْرَاطٍ لَهُ مُفْسِدٌ .
فقال معاوية : زدني كل ما وعيته من كلامه .
فقال ضرار : هيهات أن آتي على جميع ما سمعته منه .
ثم قال : سمعته ذات يوم يقول :
[ 7 ] إِذَا أَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلى قَوْمٍ أَعَارَتْهُمْ مَحَاسِنَ غَيْرِهِمْ [ 4 ] ، وَ إِذَا أَدْبَرَتْ عَنْهُمْ سَلَبَتْهُمْ مَحَاسِنَ أَنْفُسِهِمْ [ 5 ] .
فقال معاوية : فكيف كان حبك له ؟ .
قال ضرار : كحب أم موسى له ، و أعتذر إلى اللّه من التقصير .
فقال معاوية : و كيف حزنك عليه ؟ .
قال ضرار : حزني و اللّه حزن من ذُبح واحدها في حجرها فلا ترقأ دمعتها ، و لا تسكن حرارتها إلى يوم القيامة .
فقال معاوية : لكن أصحابي لو سئلوا عني بعد موتي ما أخبروا بشيء مثل هذا [ 6 ] .