خطبة له عليه السلام ( 59 ) و قد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد

و قدِم عليه عاملاه على اليمن و هما عُبيد الله بن العباس و سعيد بن نُمران ، لمّا غلب عليها بُسر بن أبي أرطاة .

فقام عليه السلام إلى المنبر ضَجِراً بِتَثاقل أَصحابه عن الجهاد و مخالفتهم له في الرأي ، فقال :

بِسْمِ اللَّهِ‏الرَّحْمنِ الرَّحيِمِ [ 2 ] أَلْحَمْدُ للَّهِ الَّذي لا تُوَاري عَنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً ، وَ لا أَرْضٌ أَرْضاً ، [ 3 ] وَ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً ،

وَ لِكُلِّ قَدْرٍ أَجَلاً ، وَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاباً ، وَ لِكُلِّ عَمَلٍ ثَوَاباً ، وَ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ حِسَاباً [ 1 ] .

وَ هُوَ الَّذي أَسْكَنَ الدُّنْيَا خَلْقَهُ ، وَ بَعَثَ إِلَى الْجِنِّ وَ الإِنْسِ رُسُلَهُ ، لِيَكْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا ،

وَ لِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا ، وَ لِيَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا ، وَ لِيُبَصِّرُوهُمْ عُيُوبَهَا ، وَ لِيَهْجُمُوا عَلَيْهِمْ بِمُعْتَبَرٍ مِنْ تَصَرُّفِ مَصَاحِّهَا وَ أَسْقَامِهَا ، وَ حَلالِهَا وَ حَرَامِهَا ، وَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالى لِلْمُطيعينَ مِنْهُمْ وَ الْعُصَاةِ ، مِنْ جَنَّةٍ وَ نَارٍ ، وَ كَرَامَةٍ وَ هَوَانٍ .

[ وَ ] [ 4 ] هُوَ الَّذِي اشْتَدَّتْ نَقْمَتُهُ عَلى أَعْدَائِهِ في سَعَةِ رَحْمَتِهِ ، وَ اتَّسَعَتْ رَحْمَتُهُ لأَوْلِيَائِهِ في شِدَّةِ نَقْمَتِهِ .

قَاهِرُ مَنْ عَازَّهُ ، وَ مُدَمِّرُ مَنْ شَاقَّهُ ، وَ مُذِلُّ مَنْ نَاوَاهُ ، وَ غَالِبُ مَنْ عَادَاهُ .

مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ ، وَ مَنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ ، وَ مَنْ أَقْرَضَهُ قَضَاهُ ، وَ مَنْ شَكَرَهُ جَزَاهُ .

[ 5 ] لا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ ، وَ لا يُغَيِّرُهُ زَمَانٌ ، وَ لا يَحْويهِ مَكَانٌ ، وَ لا يَصِفُهُ لِسَانٌ ، وَ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ عَدَدُ قَطْرِ الْمَاءِ ، وَ لاَ نُجُومُ السَّمَاءِ ، وَ لاَ سَوَافِي الرّيحِ فِي الْهَوَاءِ ، وَ لاَ دَبيبُ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا ، وَ لا مَقيلُ الذَّرِّ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ .

يَعْلَمُ مَسَاقِطَ الأَوْرَاقِ ، وَ خَفِيَّ طَرْفِ الأَحْدَاقِ .

[ وَ الصَّلاَةُ وَ السَّلامُ عَلى مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ] .

[ 2 ] الحمد للّه الّذي لا تواري عنه سماء سماء ، و لا أرض أرضا ورد في خطب الشريف الرضي تحت الرقم 172 .

[ 3 ] من : و جعل إلى : كتابا . و من : و هو الّذي إلى : هوان ورد في خطب الشريف الرضي تحت الرقم 183 .

[ 4 ] من : هو الّذي إلى : جزاه ورد في خطب الشريف الرضي تحت الرقم 90 .

[ 5 ] من : لا يشغله إلى : الأحداق ورد في خطب الشريف الرضي تحت الرقم 178 .

[ 1 ] ورد في غرر الحكم للآمدي ج 1 ص 373 .

[ 485 ]

أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي اسْتَنْفَرْتُكُمْ لِجِهَادِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ فَلَمْ تَنْفِرُوا ، وَ أَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ تُجيبُوا ، وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا [ 1 ] .

ثم ضرب عليه السلام بإصبعيه على راحته فقال :

[ 12 ] مَا هِيَ إِلاَّ الْكُوفَةُ أَقْبِضُهَا وَ أَبْسُطُهَا .

إِنْ لَمْ تَكُوني إِلاَّ أَنْتِ تَهُبُّ أَعَاصيرُكِ ، فَقَبَّحَكِ اللَّهُ .

و تمثّل [ بقول الشاعر : ]

لَعَمْرُ أَبيكَ الْخَيْرِ يَا عَمْرُو إِنَّني
عَلى وَ ضَرٍ مِنْ ذَا الإِنَاءِ [ 2 ] قَليلٌ

أَيُّهَا النَّاسُ [ 3 ] ، أُنْبِئْتُ بُسْراً عَدُوَ اللَّهِ [ 4 ] قَدِ اطَّلَعَ [ 5 ] الْيَمَنَ مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ .

وَ قَدْ سَلَكَ طَريقَ الْحِجَازِ في جَمْعٍ عَظيمٍ مِنْ أَهْلِ الظُّلْمِ وَ الْعُدْوَانِ ، وَ هذَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ ،

وَ سَعيدُ بْنُ نِمرَانَ ، قَدِمَا عَلَيَّ هَارِبَيْنِ [ 6 ] .

وَ إِنّي ، وَ اللَّهِ ، لأَظُنُّ [ 7 ] أَنَّ هؤُلاءِ الْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ ، وَ مَا ذَلِكَ بِحَقٍّ في أَيْديهِمْ ، وَ لكِنْ [ 8 ] بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلى بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ ، وَ بِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي الْحَقِّ وَ طَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي الْبَاطِلِ ، وَ بِأَدَائِهِمُ الأَمَانَةَ إِلى صَاحِبِهِمْ وَ خِيَانَتِكُمْ إِيَّايَ ، وَ بِتَنَاصُرِهِمْ وَ تَخَاذُلِكُمْ [ 9 ] ، وَ بِصَلاحِهِمْ في بِلادِهِمْ [ 10 ] وَ إِفَسَادِكُمْ [ 11 ] في أَرْضِكُمْ . حَتَّى يَمْلِكُوا الزَّمَانَ الطَّويلَ فَيَسْتَحِلُّوا الدَّمَ الْحَرَامَ ، وَ الْفَرْجَ الْحَرَامَ ، وَ الْخَمْرَ الْحَرَامَ ، وَ الْمَالَ الْحَرَامَ ، فَلا يَبْقى بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ الْمُسْلِمينَ إِلاَّ دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَظْلِمَتُهُمْ .

[ 12 ] من : ما هي إلى : اليمن . و من : و إنّي إلى : إفسادكم ورد في خطب الشريف الرضي تحت الرقم 25 .

[ 1 ] ورد في الإرشاد للمفيد ص 148 .

[ 2 ] الآلاء . ورد في

[ 3 ] ورد في الغارات للثقفي ص 437 . و نهج السعادة للمحمودي ج 2 ص 605 .

[ 4 ] ورد في كتاب الفتوح لابن أعثم ج 4 ص 236 .

[ 5 ] غلب على . ورد في مروج الذهب للمسعودي ج 3 ص 149 .

[ 6 ] ورد في الغارات ص 437 . و الفتوح ج 4 ص 236 . و كنز العمال ج 13 ص 197 . و نهج السعادة ج 2 ص 596 و 605 . و مصادر نهج البلاغة ج 1 ص 382 . باختلاف بين المصادر .

[ 7 ] لأحسب . ورد في تاريخ دمشق ( ترجمة الإمام علي بن أبي طالب ) ج 3 ص 322 . و البداية و النهاية ج 7 ص 338 .

[ 8 ] ورد في مروج الذهب ج 3 ص 149 . و نثر الدرّ ج 1 ص 296 . و تاريخ دمشق ( ترجمة الإمام علي ) ج 3 ص 323 . و مصادر نهج البلاغة ج 1 ص 383 . باختلاف يسير .

[ 9 ] ورد في الغارات للثقفي ص 437 . و مروج الذهب للمسعودي ج 3 ص 149 . باختلاف بين المصادر .

[ 10 ] بإصلاحهم بلادهم . ورد في

[ 11 ] فسادكم . ورد في نسخة نصيري ص 11 . و نسخة الآملي ص 23 . و نسخة عبده ص 119 . و نسخة الصالح ص 67 .

[ 486 ]

لَقَدِ اسْتَعْمَلْتُ مِنْكُمْ رِجَالاً فَخَانُوا وَ غَدَرُوا .

إِنِّي وَلَّيْتُ فُلاناً فَغَلَّ وَ غَدَرَ وَ احْتَمَلَ الْمَالَ إِلى مُعَاوِيَةَ .

وَ اسْتَعْمَلْتُ فُلاناً فَخَانَ فَجَمَعَ فَيْ‏ءَ الْمُسْلِمينَ وَ حَمَلَهُ إِلى مَنْزِلِهِ تَهَاوُناً بِالْقُرْآنِ وَ جُرْأَةً عَلَى الرَّحْمنِ [ 1 ] .

[ 11 ] فَصِرْتُ [ 2 ] لَوِ ائْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلى قُعْبٍ [ 3 ] لَخَشيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلاقَتِهِ .

وَ اللَّهِ ، يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ ، لَوَدِدْتُ أَنّي صَرَفْتُكُمْ صَرْفَ الدَّنَانيرِ الْعَشَرَةِ بِوَاحِدٍ [ 4 ] .

أَمَا ، وَ اللَّهِ ، لَوَدِدْتُ أَنَّ لي [ 5 ] بِكُمْ وَ أَنْتُمْ مِائَةَ أَلْفِ [ 6 ] أَلْفَ فَارِسٍ مِنْ بَني فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ [ و تمثل بقول الشاعر : ]

أَلاَ يَا أُمَّ زِبْنَاعٍ أَقيمي
صُدُورَ الْعيسِ نَحْوَ بَني تَميمِ

هُنَالِكَ لَوْ دَعَوْتِ أَتَاكَ مِنْهُمْ
فَوَارِسُ [ 8 ] مِثْلُ أَرْمِيَةِ الْحَميمِ

ثم وضع عليه السلام المصحف على رأسه و رفع يديه فقال :

اَللَّهُمَّ إِنّي سَأَلْتُهُمْ مَا فيهِ فَمَنَعُوني ذَلِكَ ، فَاعْطِني مَا فيهِ [ 9 ] .

اَللَّهُمَّ إِنّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَ مَلُّوني ، وَ سَئِمْتُهُمْ وَ سَئِمُوني ، وَ كَرِهْتُهُمْ وَ كَرِهُوني ، وَ أَبْغَضْتُهُمْ وَ أَبْغَضُوني ، وَ حَمَلُوني عَلى غَيْرِ خُلُقي وَ طَبيعَتي . اَللَّهُمَّ فَأَرِحْني مِنْهُمْ وَ أَرِحْهُمْ مِنّي ، وَ [ 10 ] أَبْدِلْني بِهِمْ

[ 11 ] من : فلو ائتمنت إلى : الحميم . و من : اللّهمّ إنّي إلى : سئموني . و من : فأبدلني إلى : لهم منّي ورد في خطب الرضي تحت الرقم 25 .

[ 1 ] ورد في الغارات ص 437 . و مروج الذهب ج 3 ص 149 . و الإمامة و السياسة ج 1 ص 174 . و الإرشاد ص 148 . و كنز العمال ج 13 ص 197 . و منهاج البراعة ج 7 ص 137 . و نهج السعادة ج 2 ص 596 و 605 و 640 . و مصادر نهج البلاغة ج 1 ص 382 .

باختلاف بين المصادر .

[ 2 ] ورد في الغارات للثقفي ص 437 . و نهج السعادة للمحمودي ج 2 ص 606 .

[ 3 ] قدح . ورد في الغارات ص 437 . و الفتوح ج 4 ص 237 . و تاريخ دمشق ( ترجمة الإمام علي ) ج 3 ص 323 . و البداية و النهاية ج 7 ص 338 . و كنز العمال ج 13 ص 197 . و نهج السعادة ج 2 ص 596 .

[ 4 ] ورد في مروج الذهب للمسعودي ج 3 ص 149 .

[ 5 ] بجميعكم . ورد في العقد الفريد لابن عبد ربه ج 1 ص 105 .

[ 6 ] ورد في المصدر السابق .

[ 8 ] رجال . ورد في نسخة العام 400 الموجودة في المكتبة الظاهرية ص 33 . و نسخة ابن المؤدب ص 21 .

[ 9 ] ورد في الغارات ص 317 . و أنساب الأشراف ج 2 ص 383 . و تاريخ دمشق ( ترجمة الإمام علي بن أبي طالب ) ج 3 ص 322 و 323 . و البحار ( مجلد قديم ) ج 8 ص 634 . و نهج السعادة ج 2 ص 533 و 634 . باختلاف يسير .

[ 10 ] ورد في الغارات ص 317 . و الفتوح ج 4 ص 237 . و أنساب الأشراف ج 2 ص 384 و 488 . و الكامل ج 3 ص 254 . و شرح الأخبار ج 2 ص 430 و 450 . و مناقب آل أبي طالب ج 2 ص 315 . و تاريخ دمشق ( ترجمة الإمام علي ابن أبي طالب ) ج 3 ص 322 . و تذكرة الخواص ص 160 . و البداية و النهاية ج 7 ص 338 . و البحار ( مجلد قديم ) ج 8 ص 634 . و كنز العمال ج 13 ص 191 . و نهج السعادة ج 2 ص 533 و 596 و 634 . باختلاف بين المصادر .

[ 487 ]

خَيْراً لي مِنْهُمْ ، وَ أَبْدِلْهُمْ بي شَرّاً لَهُمْ مِنّي .

اَللَّهُمَّ إِنّي سَئِمْتُ الْحَيَاةَ بَيْنَ ظَهْرَانِيِّ هؤُلاَءِ الْقَوْمِ وَ تَبَرَّمْتُ الأَمَلَ ، فَأَتِحْ لي صَاحِبي .

اَللَّهُمَّ إِنِّي ائْتَمَنْتُهُمْ فَخَانُوني ، وَ نَصَحْتُهُمْ فَغَشُّوني ، اَللَّهُمَّ فَسَلِّطْ عَلَيْهِمُ الْغُلامَ الثَّقَفِيَّ الذَّيَّالَ الْمَيَّالَ ، يَأْكُلُ خَضْرَتَهَا ، وَ يَلْبَسُ فَرْوَتَهَا ، وَ يَحْكُمُ فِي دِمَائِهِمْ وَ أَمْوَالِهِمْ بِحُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ ، لا يَقْبَلُ مِنْ مُحْسِنِهَا ، وَ لا يَتَجَاوَزُ عَنْ مُسيئِهَا ، يَشْتَدُّ مِنْهُ الْفَرَقُ ، وَ يَكْثُرُ مِنْهُ الأَرَقُ [ 1 ] .

[ 4 ] اَللَّهُمَّ لا تُرْضِ عَنْهُمْ أَميراً وَ لا تُرْضِهِمْ عَنْ أَميرٍ ، وَ [ 2 ] مِثْ قُلُوبَهُمْ كَمَا يُمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ .

ثم نزل عليه السلام عن المنبر .