الأستاذ الشيخ محمد عبده :

قد أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب « نهج البلاغة » مصادفة بلا تعمّل ، فتصفّحت بعض صفحاته ، و تأملت جملا من عباراته ، فكان يخيّل لي في كل مقام أن حروبا شبّت ، و غارات شنّت ، و أن للبلاغة دولة ، و للفصاحة صولة ، و أن للأوهام عرامة ، و للريب دعارة ، و أن جحافل الخطابة ، و كتائب الدرابة ، في عقود النظام ، و صفوف الانتظام ، تنافح بالصفيح الأبلج ، و القويم الأملج ، و تمتلج المهج بروّاضع الحجج ، فتقلّ من دعارة الوساوس و تصيب مقاتل الخوانس فما أنا إلاّ و الحق منتصر ، و الباطل منكسر ، و مرج الشكّ في خمود ، و هرج الريب في ركود ، و أن مدبر تلك الدولة ، و باسل تلك الصّولة ، هو حامل لوائها الغالب ، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب .

بل كنت كلّما انتقلت من موضع إلى موضع أحسّ بتغير المشاهد ، و تحوّل المعاهد : فتارة كنت أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية ، في حلل من العبارات الزاهية ، تطوف على النفوس الزاكية ، و تدنو من القلوب الصافية ، توحي إليها

[ 32 ]

رشادها ، و تقوّم منها مرادها ، و تنفّر بها عن مداحض المزالق ، إلى جوادّ الفضل و الكمال .

و طورا كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة ، و أنياب كاشرة ، و أرواح النمور ، و مخالب النسور ، قد تحفّزت للوثاب ،

ثم انقضّت للاختلاب ، فخلبت القلوب عن هواها و أخذت الخواطر دون مرماها ، و اختالت فاسد الأهواء ، و باطل الآراء .

و أحيانا كنت أشهد أن عقلا نورانيا ، لا يشبه خلقا جسدانيا ، فصل عن الموكب الإلهي ، و اتّصل بالروح الإنساني ، فخلع عن غاشيات الطبيعة و سما به إلى الملكوت الأعلى ، و نما به إلى مشهد النور الأجلى ، و سكن به إلى عمار جانب التقديس ، بعد استخلاصه من شوائب التلبيس .

و آنات كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بأعياء الكلمة ، و أولياء أمر الأمة ، يعرّفهم مواقع الصواب ، و يبصّرهم مواضع الارتياب ، و يحذّرهم مزالق الأضراب ، و يرشدهم إلى دقائق السياسة ، و يهديهم طرق الكياسة ، و يرتفع بهم إلى منصّات الرئاسة ، و يصعّدهم شرف التدبير ، و يشرف بهم على حسن المصير .

ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي رحمه اللّه من كلام سيدنا و مولانا أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب كرم اللّه وجهه ، جمع متفرّقه و سمّاه « نهج البلاغة » ، و لا أعلم اسما أليق بالدلالة على معناه منه ، و ليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دلّ عليه اسمه ، و لا أن آتي بشي‏ء في بيان مزيّته فوق ما أتي به صاحب الاختيار » و لو أردنا أن نأتي بكل ما قيل في نهج البلاغة لطال بنا المقام ، و حسبك يا قارئ الكتاب ما ذكرنا شهادة و برهانا .

[ 33 ]