مراتب التوحيد

فلنرجع الى شرح الكلمات قال ( ع ) ( و كمال معرفته التصديق به ) الانسان يدرك شيئا تارة و لا تقر نفسه به و تارة يعرف شيئا و تعترف نفسه و تذعن لذلك الشي‏ء فالمعرفة لا تكمل بالمعنى المتقدم إلا بالتصديق بذات اللّه تعالى لأن الادراك إذا قوي و اشتد يصير إذعانا و حكما ، و هذا هو القسم الأول من المعرفة .

( و كمال التصديق به توحيده ) التصديق بوجود اللّه لا يكمل إلا بالتصديق بتوحيده و التوحيد على أربعة مراتب :

توحيد الذات ، و توحيد الصفات ، و توحيد الأفعال ، و توحيد العبادة .

و المقصود من التوحيد هنا هو توحيد الذات ، أي يعتقد العبد ان اللّه وحده لا شريك له ، و توحيد الصفات هو ان صفات اللّه عين ذاته ، و ذاته عين صفاته و سيأتيك

[ 35 ]

التفصيل في المستقبل القريب .

و توحيد الأفعال ان اللّه خلق الموجودات الأولية كالسموات و الأرضين و غيرها بلا معين و لا آلة ، و توحيد العبادة هو أن يعبد العبد ربه خالصا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا ، و القسم الأخير هو التوحيد الكامل ، كما قال ( ع ) : ( و كمال توحيده الاخلاص له ) و قيل : المقصود من الاخلاص هو جعله خالصا من النقائص كالجسم و العرض و ما شاكلهما من النقائص ، فهذه المراتب الأربع كاملة بالنسبة الى ما قبلها ، ناقصة بالنسبة الى ما بعدها .

( و كمال الاخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة انها غير الموصوف و شهادة كل موصوف انه غير الصفة ) أشار ( ع ) الى توحيد الصفات فنقول : كل موجود فى العالم موصوف بصفة من الصفات ، كالعلم ، و الحياة ، و غيرهما من ملايين الصفات ، فهناك فرق بين الصفة و الموصوف ، مثلا : علم الانسان غير الانسان نفسه ،

أو حلاوة التمر غير التمر . فالصفة غير الموصوف ، و الموصوف غير الصفة ، و الفرق بينهما كثير ، لأن الصفة عرض و الموصوف جوهر لكن صفات اللّه تعالى عين ذاته و ذاته عين صفاته ، و بعبارة أخرى ان اللّه و صفاته شي‏ء واحد ، لا فرق بينهما فى الوجود و الحقيقة .

و قد سبق في كلامه ( ع ) انه ليس لصفته حد محدود فاذا كانت الصفة عين الذات فكذلك الذات غير محدودة .

و أدنى مراتب الاخلاص فى العبادة قصد القربة الى اللّه تعالى ، و عدم قصد الرياء و السمعة ، و أعلى مراتب الاخلاص نفي الصفات عن الباري جل و علا ، أي إذا أتى العبد بعمل خالصا للّه ، فكان يعتقد ان ربه شي‏ء و صفته شي‏ء آخر فقد عبد إلهين اثنين ، أحدهما الذات و الآخر الصفة ، و لكنه إذا اعتقد توحيد الذات و الصفات

[ 36 ]

كما تقدم فقد أخلص كمال الاخلاص .

( فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه ) قد ذكر ( ع ) فى أوائل الخطبة :

( ليس لصفته حد محدود ) ثم ذكر ( ع ) ( و كمال الاخلاص له نفي الصفات عنه ) فكيف الجمع بين هاتين العبارتين ؟ فنقول : المقصود من الجملة الأولى ان صفة اللّه عين ذاته ، و ذاته غير محدودة ، فصفته غير محدودة . و المقصود من ( نفي الصفات عنه ) أي الصفات الزائدة على وجود الذات ، و وجود الذات غير وجودها كما تقدم فى المثال بالانسان و العلم . فمن وصف اللّه بتلك الصفات الزائدة على الذات فقد قرنه بغيره أي قرن ذات اللّه بغير ذاته مثلا : إذا اعتقد ان علم اللّه كعلم الناس أي ان اللّه شي‏ء و علمه شي‏ء آخر فقد جعله قرين علمه .

( و من قرنه فقد ثناه ) أي فقد جعل ربه اثنين أحدهما هو اللّه و الثاني صفته .

( و من ثناه فقد جزّأه ) أي و من فعل هكذا فقد جعله مركبا من جزئين الجزء الأول ذاته و الثاني صفاته ( و من جزّأه فقد جهله ) أي و من اعتقد هكذا فقد جهل ربه و لم يعرفه كأنه لم يطلع على وجود ربه ، لأن اللّه ليس مركبا من شي‏ء و من عرف إلها مركبا فقد جهل وجود اللّه تعالى ، لأنه اعتقد خلاف الواقع و معنى الجهل هنا هو الجهل المركب .

( و من جهله فقد أشار اليه ) أي من جعله جزئين فقد جهل ربه فجعله مشارا اليه أي محدودا لأن الشي‏ء ما لم يكن محدودا لا يمكن الاشارة اليه مثلا إذا أشير الى مسجد لا بد و أن يكون ذلك المسجد قد أحاطت به الطرق و الشوارع أو البيوت أو غير ذلك فلا بد أن يكون في جهة من الجهات فتوجه إشاراتك اليه فالمسجد محدود بتلك الحدود و الأقطار و الأطراف . فالمحدودية من لوازم الجسم و اللّه منزه عن ذلك تعالى علوا كبيرا و هذا معنى كلامه ( ع ) :

[ 37 ]

( و من أشار اليه فقد حده و من حدّه فقد عدّه ) لأن الشي‏ء إذا كان محدودا كان معدودا أي من زمرة الأعداد و المعدودات المحدثة و يمكن أن يقال ان الاشارة هنا هي الاشارة العقلية لا الحسية .

( و من قال فيم فقد ضمنه ) أي من اعتقد و زعم ان اللّه فى شي‏ء فقد جعله جسما كائنا فى ظرف و مكان و لأن ( في ) للظرفية فالسؤال بها عن الشى‏ء يقتضى انه حال في ظرف يتضمنه و يحتويه و هو من لوازم الجسمية و قد قال تعالى : و هو اللّه في السموات و فى الأرض . و هو معكم أينما كنتم . لأن اللّه لا يشغله مكان ، و لا يخلو منه مكان .

( و من قال على م فقد أخلى منه ) لعل هذه الجملة إشارة الى دفع التوهم الحاصل من ظاهر الآية الكريمة : الرحمن على العرش استوى إذ كما لا يجوز الاعتقاد ان اللّه على شى‏ء كذلك لا يصح السؤال عنه به ( على م ) إذ كل ذلك مستلزم لاعتقاد التجسم كما في الأحاديث الواردة عن أهل البيت ( ع ) .

في الكافي عن أبي عبد اللّه الصادق ( ع ) قال : من زعم ان اللّه من شى‏ء أو فى شى‏ء أو على شى‏ء فقد كفر .

و لأنه معناه خلو بعض الجهات عنه لانا إذا قلنا : الملك على السرير . فمعناه إثبات كونه على السرير و خلو باقي الجهات الست عنه ، و اللّه عز و جل لا يخلو منه مكان كما ستعرف .