المعنى

( و استأدى اللّه سبحانه الملائكة وديعته لديهم ) أخبر اللّه تعالى ملائكته قبل أن يخلق آدم و أمرهم بالسجود له ، كما قال سبحانه ، و اذ قال ربك للملائكة أني خالق بشراً من صلصال من حمأ مسنون ، فاذا سوّيته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين 1 .

و إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فاذا سوّيته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين 2 .

فكان هذا الاخبار و الأمر وديعة وصيته و عهد منه الى الملائكة ، فلما خلق اللّه آدم و سوّاه و نفخ فيه من روحه استادى الملائكة اي طلب منهم أداء الوديعة التي اودعها لديهم ( و عهد وصيته اليهم ) و المقصود من الوديعة عهد الوصية اليهم هو السجود لآدم ( في الاذعان بالسجود له و الخنوع لتكرمته فقال اسجدوا لآدم فسجدوا ) ثم ان هنا كلاما طويلا و بحثا مفصلا و لا بأس بذكره اجمالا لكثرة اختلاف المسلمين في ذلك و لا بأس بتمهيد مقدمة فنقول : لا شك أن الشريعة الاسلامية ناسخة لجميع الشرائع المتقدمة ، و معنى النسخ هنا أن بعض القوانين و الأحكام الاسلامية يخالف بعض الأديان السالفة ، و إلا فلا معنى للنسخ ، اذ اثبت هذا فلا مانع أن يكون بعض الأفعال و الأعمال حراما في دين الاسلام مع العلم انها كانت

-----------
( 1 ) سورة الحجر الاية 28 ، 29 .

-----------
( 2 ) سورة ص الآية 72

[ 63 ]

حلالا في الأديان السالفة ، و بالعكس ، و لا بد من القول بالتفصيل : و ذلك لأن الأختلاف في الشرائع و الأديان قد يكون في العبادات و في كيفيتها كالصلاة و الصوم في الأسلام و في شريعة عيسى بن مريم عليهما السلام فهذا الاختلاف لا مانع منه لا شرعا و لا عقلا ، و أمّا الأختلاف في المسلّمات الأولية فهو محال ، فلا يمكن لنا ان نقول : إن الظلم حرام في هذه الشريعة و قد كان حلالا فى الشرائع الماضية ، اذ العقل يحكم بقبح الظلم فى كل امة و كل زمان ، أو نقول : إن اطاعة اللّه تعالى واجبة فى الدين الأسلامي ، و كانت غير واجبة فى الأديان السالفة اذ العقل يحكم بشكر المنعم .

فالسجود لغير اللّه تعالى حرام فى دين الأسلام ، و لكن لا مانع من القول بجوازه فى الأمم السالفة ، و خاصة بعد أمر اللّه تعالى ، و لا نحتاج الى التوسّل بالتأويل ،

إذ ظاهر القرآن يصرّح بأن اللّه تعالى امر الملائكة و فيهم ابليس بالسجود لآدم أى جعله مسجودا لهم و لكن لا بقصد الربوبية و العبودية ، لأن السجود لغير اللّه تعالى على قسمين : بقصد العبودية و الألوهية و هذا حرام قطعا فى كل زمان و كل دين و شريعة ، و الثاني بقصد التعظيم و التكريم و هذا جائز اذ لو كان السجود للّه تعالى لما كان ابليس يمتنع عن السجود للّه و هو الذي عبد اللّه ستة آلاف سنة ، و لما كان يقول ( لم اكن لأسجد لبشر ) و قس على ذلك قصة يوسف ( ع ) : ( و رفع ابويه على العرش و خرّوا لهُ سجّداً ) فان السجود لغير اللّه لا بقصد العبودية و الرقيّة كان جائزا فى تلك الشريعة ، و كان نوعا من أنواع التعظيم ، كتقبيل اليد ،

و لو كان باب التأويل مفتوحا هكذا بحيث يعارض صريح القرآن الكريم لما قام للدين قائمة ، و لجاز تحريم الحلال و تحليل الحرام ، و قد وردت الأحاديث عن اهل البيت عليهم السلام و ان كانت مختلفة الا أن فى بعضها تصريح بأن

[ 64 ]

السجود كان لآدم لا بقصد العبادة .

في الخامس من البحار : في جواب مسائل الزنديق عن ابيعبد اللّه عليه السلام إنه سأل : أ يصلح السجود لغير اللّه ؟ . قال : لا قال : فكيف امر اللّه الملائكة بالسجود لآدم ؟ فقال : إن من سجد بأمر اللّه فقد سجد للّه ، فكان سجوده للّه إذ كان عن أمر اللّه ، ثم قال عليه السلام : فأما ابليس فعبد خلقه ليعبده و يوحّده ،

و قد علم حين خلقه ما هو و الى ما يصير ، فلم يزل يعبده مع ملائكته حتى امتحنه لسجود آدم . . . الخ .

و فيه : عن ابي بصير قال قلت لأبي عبد اللّه ( ع ) : سجدت الملائكة لآدم ( ع ) و وضعوا جباههم على الأرض ؟ قال : نعم تكرمة من اللّه تعالى .

و فيه أيضا عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام أن يهوديا سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن معجزات النبي في مقابلة معجزة الأنبياء فقال : هذا آدم عليه السلام أسجد اللّه له ملائكته ، فهل فعل بمحمد شيئا من هذا فقال علي عليه السلام : لقد كان ذلك ، و لكن أسجد اللّه لآدم ملائكته فان سجودهم لم يكن طاعة انهم عبدوا آدم من دون اللّه عز و جل ، و لكن إعترافا لآدم بالفضيلة و رحمة من اللّه له . . . الخبر .

الى غير ذلك من الأخبار و الأحاديث الواردة في هذا المقام ، و لشيخنا المجلسي طيب اللّه تربته تحقيق رشيق لطيف في هذا الموضوع نذكره تتميما و تعميما للفائدة قال ره ، إعلم ان المسلمين قد اجمعوا على ان ذلك السجود لم يكن سجود عبادة ، لأنها لغير اللّه تعالى توجب الشرك ، ثم اختلفوا على ثلاثة أقوال :

الأول أن ذلك السجود كان للّه تعالى و آدم عليه السلام كان قبلة ، و هو قول ابي علي الجبائي و ابي القاسم البلخي و جماعة . و الثاني ان السجود فى اصل اللغة هو الأنقياد و الخضوع قال الشاعر :

( ترى الأكم فيها سجّدا للحوافر )

اي الجبال

[ 65 ]

الصغار و التلال كانت مذللة لحوافر الخيول ، و منه قوله تعالى : و النجم و الشجر يسجدان . و أورد عليه أن المتبادر من السجود وضع الجبهة على الأرض فيجب الحمل عليه ما لم يدل دليل على خلافه و يؤيده قوله تعالى : فقعوا له ساجدين و يدل عليه صريحا بعض الأخبار المتقدمة . و الثالث ان السجود كان تعظيما لآدم عليه السلام و تكرمة له و هو في الحقيقة عبادة للّه تعالى لكونه بأمره ، و هو مختار جماعة من المفسرين ، و هو الأظهر من مجموع الأخبار التي أوردناها ، و إن كان الخبر الأول يؤيد الوجه الأول . ثم اعلم أنه قد ظهر مما أوردنا من الأخبار ان السجود لا يجوز لغير اللّه ما لم يكن عن أمره و ان المسجود له لا يكون معبودا مطلقا ،

بل قد يكون السجود تحية لا عبادة . . . الخ ( فسجدوا إلا ابليس اعترته الحمية ، و غلبت عليه الشقوة ) و في بعض النسخ :

إلا ابليس و قبيله أو جنوده اعترتهم الحمية و غلبت عليهم الشقوة و تعززوا و استوهنوا . و هذا الكلام لا ذكر له في القرآن إذ لم نجد أو لم نعثر على ما يدل على وجود جنود للملائكة أو قبيل له و قد ذكر الشارحون تأويلات لهذا الموضوع مستغربين متعجبين من ذكر القبيل أو الجنود هناك و اللّه العالم .

و كيف كان فقد سجد الملائكة كلهم اجمعون ، إلا ابليس فانه كان مع الملائكة و ما كان منهم بل من الجن كما قال تعالى : إلا ابليس كان من الجن فانه اعترته الحمية أي حلّت به العصبية و الأنفة و التكبر و غلبت عليه الشقوة و سوء الحظ فامتنع عن السجود لأنه ( تعزز بخلقة النار ، و استوهن خلق الصلصال ) أي تكبّر و تجبّر و استنكف أن يسجد زعما منه انه أفضل و أشرف من آدم لأنه خلق من النار و خلق آدم من الطين ، و النار أشرف من الطين فاستوهن و حقّر المخلوق من الطين و استصغره و استهان به ، فقال : انا خير منه ، شرّف نفسه لأنّه مخلوق من النار ، فقال خلقتني

[ 66 ]

من نار و خلقته من طين ، لانه زعم ان النار أشرف العناصر ، و التراب شي‏ء حقير و هذا قياس باطل و لهذا أول قاس ابليس ، كما قال ابو عبد اللّه الصادق عليه السلام لأبي حنيفة : لا تقس فأن أول من قاس ابليس حين قال : خلقتني من نار و خلقته من طين . فقاس ما بين النار و الطين ، و لو قاس نورية آدم بنوريه النار عرف فضل ما بين النورين و صفاء احدهما على الآخر .

و لما امتنع عن السجود طرده من الجنة و لعنه أي أبعده من رحمته و ذلك قوله تعالى : فأخرج منها فانك رجيم ، و انك عليك لعنتي الى يوم الدين . فلما رأى ابليس انه كانت عاقبة أمره الطرد و اللعن ، و علم ان ذلك كله كان بسبب آدم ،

صار في مقام الانتقام من آدم و من ذريته ، فطلب من اللّه ان يمهله حتى يعيش الى يوم القيامة فقال : انظرني أي امهلني الى يوم يبعثون ( فأعطاه اللّه النظرة ، استحقاقا للسخطة ، و استتماما للبلية و إنجازا للعدة فقال : انك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم أمهله اللّه تعالى ليزداد إثما و ذنبا فيزداد استحقاقا لسخط اللّه تعالى و غضبه عليه : كما أمهل الكافرين في قوله : و لا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خير لأنفسهم انما لهم ليزدادوا إثما و لهم عذاب مهين .

و استتماما للبلية و الامتحان لأن أسباب الفتنة و الابتلاء للناس كثيرة فمنها الأموال و الاولاد لقوله تعالى : انما أموالكم و أولادكم فتنة . و غيرهما و منها ابليس لعنه اللّه مع ما أن اللّه يعلم المصلح من المفسد و لكن ليظهر للناس مدى إيمانهم باللّه و خوفهم منه و حذّر اللّه عباده عن ابليس و اخبرهم انه عدوهم و نهاهم عن عبادته و إطاعته لقوله سبحانه : أ لم أعهد اليكم يا بني آدم : ان لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين و إنجازا للعدة لقد سبق أن ابليس عبد اللّه في السماء ستة آلاف سنة فاستحق بذلك الأجر و الثواب ، و حيث أن اللّه لا يضيع أجر من أحسن

[ 67 ]

عملا ، و أنه لا يخلف الميعاد ، لهذا جعل اللّه تعالى أجر تلك العبادة بقائه فى الحياة الى يوم الوقت المعلوم ، لأنه استحق العقاب و العذاب في الآخرة .

و في البحار عن زرارة عن ابي عبد اللّه الصادق عليه السلام قال قلت :

جعلت فداك ، بما ذا استوجب ابليس من اللّه ان اعطاه اللّه ما أعطاه ؟ قال : بشي‏ء كان منه ، شكره اللّه عليه ، قلت و ما كان منه ؟ جعلت فداك ، قال ركعتين ركعهما في السماء في أربعة آلاف سنة . الى غير ذلك من الأحاديث في هذا المقام .

فأجابه اللّه الى ما أراد فقال : إنك من المنظرين الى يوم الوقت المعلوم ، و اختلف في اليوم المعلوم فقيل : هو يوم القيامة ، لأنه طلب المهلة الى يوم يبعثون ، و قيل : قبل يوم القيامة ، و هو يوم معلوم عند اللّه تعالى .