المعنى

لقد روى الطبرسي ره في الاحتجاج هذه الخطبة بصورة أخرى و هي :

روي انه عليه السلام قال : إن أبغض الخلائق إلى الله رجلان : رجل وكله الله إلى نفسه ، فهو حائر عن قصد السبيل سائر بغير علم و لا دليل ، مشغوف بكلام بدعة و دعاء ضلالة ، فهو فتنة لمن إفتتن به ، ضال عن هدى من كان قبله مضل لمن اقتدى به في حياته و بعد وفاته ، حمّال خطايا غيره رهن بخطيئته و رجل قمش جهلا فوضع في جهلة الامة ، عان ما غبّاش فتنة ، قد لهج منها بالصوم و الصلاة ، عم بما في عقد الهدنة ، قد سماه اللّه عاديا متسلخا ، و قد سماه الناس أشباه الرجال عالما و لما يغن في العلم يوما سالما ، بكر فاستكثر من جمع ما قل منه خير مما كثر ، حتى اذا ارتوى من آجن . و اكثر من غير طائل ، جلس بين الناس مفتيا قاضيا ، ضامنا لتخليص ما التبس على غيره ، إن خالف من سبقه لم يأمن من نقض حكمه من أتى بعده ، كفعله بمن كان قبله ، فان نزلت به إحدى المعضلات ( المبهمات خ ل ) هيأ لها حشوا من رأيه ثم قطع به ، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت ، خباط جهالات ، و ركاب عشوات ، و مفتاح شبهات ، فهو و إن أصاب أخطأ ، و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب ، فهو من رأيه مثل نسج العنكبوت الذي اذا مرت به النار لم يعلم بها ، لم يعض على العلم بضرس قاطع فيغنم ، يذري الروايات اذراه الريح الهشيم ، لا ملى‏ء و الله باصدار ما ورد عليه ، لا يحسب العلم في شي‏ء مما انكره ، و لا أن من وراء ما ذهب فيه مذهب ناطق ، و إن قاس شيئا بشي‏ء لم يكذّب رأيه كيلا يقال له : لا يعلم

[ 27 ]

شيئا . و ان خالف قاضيا سبقه لم يأمن في صحته حين خالفه ، و إن أظلم عليه أمر إكتتم به لما يعلم من معشر يعيشون جهالا و يموتون ضلالا ، لا يتعذر مما لا يعلم فيسلم ، تصرخ منه الدماء ، و تولول منه الفتيا ، و تبكي منه المواريث ، و يحلل بقضائه الفرج الحرام و يحرم بقضائه الفرج الحلال ، و يأخذ المال من أهله و يدفعه إلى غير أهله .

و في رواية المفيد في الارشاد بعد ذكر الكلام نحوا مما تقدم : انه عليه السلام قال بعد ذلك :

ايها الناس : عليكم بالطاعة و المعرفة بمن لا تعذرون بجهالة ، فأن العلم الذي هبط به آدم عليه السلام ، و جميع ما فضلت به النبيّون إلى خاتم النبيين في عترة نبيكم محمد صلى اللّه عليه و آله فأنى يتاه بكم ؟ بل أين تذهبون ؟ يا من نسخ من أصلاب أصحاب السفينة ، هذه مثلها فيكم ، فاركبوها ، نجى في هاتيك من نجى ،

فكذلك ينجو في هذه من دخلها ، انا رهين ، قسما حقا ، و ما انا من المتكلفين ،

و الويل لمن تخلف ، أما بلغكم ما قال نبيكم حيث يقول في حجة الوداع :

إني تارك فيكم الثقلين ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي : كتاب اللّه و عترتي اهل بيتي ، إنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ؟

هذا عذب فرات فاشربوا ، و هذا ملح أجاج فاجتنبوا .

و ذكر شيخنا المجلسي ره في الثامن من البحار هذه الخطبة بصورة اخرى ، مع زيادة و نقيصة نشير اليها في ضمن الشرح فنقول :

قال عليه السلام « ان ابغض الخلائق الى اللّه رجلان » كذا في النهج و بعض

[ 28 ]

الكتب ، و لكن المجلسي ذكر هكذا : « إن ابغض الخلائق الى اللّه رجل » و المقصود أن الامام عليه السلام قسّم علماء السوء و ائمة الضلالة الى قسمين : قسم إقتدي به الناس في اصول العقائد ، فأضلهم عن الحق و الهداية ، فوصفه الامام عليه السلام بأوصاف ثمانية :

الأول : ( وكله اللّه إلى نفسه ) أي تركه اللّه و نفسه ، لا يعصمه عن الذنوب و المعاصي ، لأن الانسان اذا توكل على ربه أحبه اللّه كما قال تعالى :

ان اللّه يحب المتوكلين . و على اللَّه فتوكلوا ان كنتم مؤمنين . و على اللَّه فليتوكل المتوكلون . و من يتوكل على اللَّه فهو حسبه فالمقصود أن اللّه تعالى يكفي عبده المتوكل عليه في كل امر توكل فيه ، و هو تعالى يحب المتوكل ، فاذا أبغض عبدا سلب منه التوكل ، بل وكله الى نفسه ، و فوض أمره الى نفسه فيهلك ، كما قال عليه السلام : « و لا تكلني الى نفسي طرفة عين » فاذا انتفى التوكل من العبد انتقلت الكفاية من اللّه ، فيكون العبد موصوفا بهذه الاوصاف .

الوصف الثاني : « جائر عن قصد السبيل » و في رواية : حائر عن قصد السبيل . و النتيجة واحدة . و هي الضلالة ، و الجائر هو الضال عن الطريق المستقيم .

الوصف الثالث : « مشغوف بكلام بدعة و دعاء ضلالة » قد ذكرنا معنى الشغف و الشغاف في اللغة ، يقول عليه السلام : ان الرجل يحب البدعة حبا شديدا ، و يميل الى كلامه الذى لا أصل له ميلا مفرطا ، و يحب أيضا أن يدعو الناس الى الضلالة و الانحراف عن الحق ، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله « كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار » و قال ايضا : « أبى اللّه لصاحب البدعة التوبة قيل يا رسول اللّه و كيف ذاك ؟ قال : انه اشرب قلبه حبها » و معنى البدعة في اللغة هو الابتداع و الاختراع ، يقال : ابتدع الامر أي أحدثه ، و معناها

[ 29 ]

في العرف . زيادة في الدين او نقصان منه ، أو ادخال ما ليس من الدين في الدين ،

و معناها فى الشرع : كل عبادة لم تكن مشروعة ثم احدثت بغير دليل شرعي ،

أو دل دليل شرعي على نفيها أو كل رأي او دين او حكم او عبادة لم يرد من الشارع حكم بخصوصها ، و لا في ضمن حكم عام .

و هناك تعاريف أخر في معنى البدعة اوسع مما تقدم ، ذكرها فقهاؤنا عليهم الرحمة ، و في هذا المقدار كفاية .

فهذا الرجل المبغوض يحب احداث القوانين في الدين من تلقاء نفسه ، من غير دليل شرعي او قيام دليل شرعي على خلافها ، فالذي يحب البدعة حبا جمّا يحب اضلال الخلق بالنتيجة .

الوصف الرابع : ( فهو فتنة لمن افتتن به ) للفتنة معاني كثيرة وردت في القرآن الكريم ، و لعلها تبلغ عشرة معان ، و لكن الظاهر ان المقصود من الفتنة هنا هو المعنى المتعارف .

الوصف الخامس : ( ضال عن هدي من كان قبله ) الهدى هنا السيرة و الطريقة ، أي ذلك الرجل منحرف عن طريقة من كان قبله من الائمة عليهم السلام و سيرتهم ، و يخالف من كان قبله من الذين اوجب اللّه طاعته ، كما في الكافي عن مولانا الامام الكاظم موسى بن جعفر عليهما السلام أنه قال : ان ابا حنيفة كان يقول : قال علي و قلت و قالت الصحابة و قلت هذا ) و روي ايضا أنه قال :

« خالفت جعفر بن محمد الامام الصادق في جميع ما قاله ، و لم ادر انه يغمض عينيه في السجود او يفتحها ، ففتحت واحدة و غمضت اخرى لتكون مخالفة له على التقديرين » و في بعض النسخ ( ضال عن هدى بضم الهاء و معنى الهدى الرشاد ، و الدلالة .

[ 30 ]

يعني انه يعرف الحق ثم يخالفه ، لأنه يتبع رأيه الفاسد و ذهنه الكاسد ، و هذا شأن المغتر بنفسه ، المعجب بكلامه ، المستبد برأيه ، المستغني بمخترعاته و مبتدعاته عن الرجوع الى أهل الشرع ، و قد حكي الزمخشري في ربيع الأبرار . قال : قال يوسف بن أسباط : « ردّ أبو حنيفة على النبي صلى اللّه عليه و آله أربعمائة حديث أو اكثر ؟

قيل : ما ذا ؟ قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : للفرس سهمان و للراجل سهم واحد ) 1 و قال ابو حنيفة : ( لا أجعل سهم البهيمة اكثر من سهم المؤمن ) ، و أشعر 2 رسول اللّه و اصحابه البدن في الحج و قال أبو حنيفة :

( الاشعار مثلة ) و قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : البيّعان البائع و المشتري بالخيار ما لم يفترقا ) و قال ابو حنيفة : ( اذا وجب البيع لزم ) و كان صلى اللّه عليه و آله يقرع بين نسائه إذا أراد سفرا . و قال ابو حنيفة :

القرعة قمار ) » هذه رواية واحدة من مئات الروايات التى بهذا المضمون ، و قد ذكر بعضها الخطيب البغدادي في تاريخه في حرف النون ، في ترجمة هذا الرجل ، فهذا هو الاجتهاد في مقابل النص ، و مخالفة صريحة للنبي الأقدس ، مع العلم ان اطاعة النبي واجبة على المسلمين عامة بتصريح من القرآن الكريم ، فلعل ابا حنيفة كان مستثنى من هذا الحكم ، فلنقل تنازلا : ان جعفر بن محمد الذي كان اماما وحجة

-----------
( 1 ) في غنيمة الجهاد

-----------
( 2 ) إشعار الهدي هو ان يقلد بنعل و يطعن في شق سنامه الأيمن بحديدة حتى يدميه ليعرف بذلك أنه هدي .

[ 31 ]

على اهل زمانه و فيهم ابو حنيفة لم تكن إطاعته واجبة على ابي حنيفة ، و لكن هل كان يسوغ له أن يخالف أعلم اهل زمانه ؟ و من ورث الحكمة و العلم من اهل بيت النّبوة و الرسالة ؟ أو هل اوحى اليه الشيطان أن الرشد و الفلاح في خلاف اهل البيت ؟ ؟ أو أنه نظر الى كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله حيث قال : اني تارك فيكم الثقلين : كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي ، و إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض .

و انه كان يعلم علم اليقين أنه ما بلغ إلى ما بلغ الا من بركات ما كان يطفح عليه من علوم الامام الصادق عليه السلام ، و هو الذي قال : كنا نكتب في درس جعفر بن محمد في كل يوم سبعمائة مسألة ) . هذا و الكلام طويل ، و لكن رعاية للعواطف نترك بيان الحقائق الوصف السادس : « مضل لمن اقتدى به في حياته و بعد وفاته » و في نسخة أخرى : و بعد موته . اي ذلك الرجل يضل من تبعه و أخذ بقوله في حياته ،

و يضل أيضا من اقتدى به بعد موته ممن اتبعوا كلامه ، و أطاعوه في رأيه ، أ لا ترى الملايين من المسلمين في هذا اليوم من الذين ضلوا و أضلهم كلام بعض الدجالين من المخالفين لأهل بيت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله . و لا نحتاج الى مثال الوصف السابع : « حمّال خطايا غيره » أي كما انه يحمل خطايا نفسه كذلك يحمل خطايا من اتبعه و اقتدى به ، كما قال تعالى : ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيمة و من أوزار الذين يضلونهم بغير علم الا ساء ما يزرون و هناك احاديث واردة من اهل بيت العصمة عليهم السلام في هذا الموضوع منها :

[ 32 ]

قال رسول اللّه صلى اللّه عليه : ( ايها داع دعا الى الهدى فاتبع كان له مثل اجر من اتبعه ، لا ينقص من اجورهم شي‏ء ، و ايها داع دعا الى ضلالة فاتبع كان عليه وزر من اتبعه ، لا ينقص من آثامهم شي‏ء ) و ما روي عنهم عليهم السلام : ( من سنّ سنة حسنة فله اجرها و أجر من عمل بها ، و من سن سنة سيئة فعليه وزرها و وزر من عمل بها ) .

و هذا أمر بديهي لا يحتاج الى دليل و برهان بان من أضل الناس او صار سببا لاضلالهم يعاقب عقابين ، و يعذب عذابين : عقابا لنفس الاضلال ، و عقابا لما صدر من تابعيه لأنه السبب في صدور تلك الاعمال .

الوصف الثامن : « رهن بخطيئته » يعني ان الرجل مرهون أي مأخوذ بخطاياه ، يعاقب و يعذب عليها ، لا يقبل منه التوبة ، و لا ينفعه الاستغفار الا بعد هداية الذين اضلهم ، و اراءة الطريق المستقيم لهم ، و هذا امر قل من ينجح فيه ، و هناك روايات و احاديث تؤيد ما نحن فيه ، و ذلك كما في البحار عن الامام الصادق عليه السلام قال : رجل في الزمن الاول طلب الدنيا من حلال فلم يقدر عليها ، و طلبها من حرام فلم يقدر عليها ، فاتاه الشيطان فقال : يا هذا انك طلبت الدنيا من حلال فلم تقدر عليها ، و طلبتها من حرام فلم تقدر عليها ، ا فلا ادّلك على شي‏ء يكثر به تبعك ؟ قال : بلى . قال : تبتدع دينا جديدا و تدعو اليه الناس . ففعل ، فاستجاب له الناس و اطاعوه ، و أصاب من الدنيا ، ثم انه فكر ،

فقال : ما صنعت ؟ ابتدعت دينا و دعوت اليه الناس ؟ ما أرى لي توبة الا ان آتي من دعوته اليه فأرده عنه .

فجعل يأتي اصحابه الذين اجابوه فيقول لهم : ان الذي دعوتكم اليه

[ 33 ]

باطل ، و انما ابتدعته ، فجعلوا يقولون له : كذبت ، و هو الحق . و لكنك شككت في دينك فرجعت عنه .

فلما رأى ذلك عمد الى سلسلة فوتد لها وتدا ، ثم جعلها في عنقه ، و قال :

لا احلها حتى يتوب اللّه عز و جل علي . فاوحى اللّه عز و جل الى نبي من الانبياء : قل لفلان : و عزتي لو دعوتني حتى تنقطع اوصالك ما استجبت لك حتى ترد من مات على ما دعوته اليه فيرجع عنه قد ذكرنا ان الامام عليه السلام قسم علماء السوء و ائمة الضلالة على قسمين : قسم اقتدى به الناس في أصول العقائد ، و ذكرنا اوصافهم الثمانية ،

و القسم الثاني هم الذين اقتدى بهم الناس في فروع الدين ، و معالم الشرع ، و هم قضاة الجور و فقهاء السوء من اهل الفتاوى ، فوصفهم الامام عليه السلام باحدى و عشرين وصفا ، و قبل الخوض في هذا الموضوع لا بأس بذكر بعض الاخبار و الاحاديث التي تدل على خطر الفتيا ، و الاخطار المتوجهه الى المفتي و القاضي ، او كل من يسئل عن شي‏ء من فروع الدين ، حتى يعرف القارى‏ء الكريم اهمية هذا العمل فيعرف ضمنا ذنوب المفتي بغير علم ، و خطايا القاضي الجاهل الذي يلعب باموال الناس و دمائهم و اعراضهم ، و يجلس في مجلس الحكم و هو ليس بأهل لذلك فنقول :

في البحار : روى الامام الرضا عليه السلام عن آبائه عن امير المؤمنين عليهم السلام انه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : ( من افتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السموات و الارض ) و عن الامام الصادق عليه السلام انه قال : ( اياك و خصلتين مهلكتين :

ان تفتى الناس برأيك و تقول ما لا تعلم )

[ 34 ]

ايضا عن الامام الصادق عليه السلام ان قال : ( من افتى الناس بغير علم و لا هدى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب و لحقه وزر من عمل بفتياه .

و عن عبد اللّه بن شبرمه قال : ما اذكر حديثا سمعته من جعفر بن محمد عليهما السلام إلا كاد أن ينصدع قلبي : قال : قال ابي عن جدي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال ابن شبرمه : و أقسم باللّه ما كذب ابوه و لا جده ، و لا كذب جده على رسول اللّه فقال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : ( من عمل بالمقاييس هلك 1 و من أفتى الناس و هو لا يعلم الناسخ من المنسوخ ، و المحكم من المتشابه فقد هلك و أهلك ) .

و قال امير المؤمنين عليه السلام : ( القضاة اربعة ، ثلثة منهم في النار ،

و واحد في الجنة : قاض يقضي بالباطل و هو يعلم أنه باطل فهو في النار ، و قاض يقضي بالباطل و هو لا يعلم أنه باطل فهو في النار ، و قاض يقضي بالحق و هو لا يعلم أنه حق فهو في النار ، و قاض يقضي بالحق و هو يعلم أنه حق فهو في الجنة ) .

هذه أحاديث إقتطفناها من البحار و هي كثيرة جدا ، و لكنا إكتفينا بهذا المقدار ففيه تبصرة لمن تبصر ، و عبرة لمن إعتبر ، فلنشرع في شرح الكلمات :

الوصف الأول : و رجل قمش جهلا » اي جمع من أفواه الناس و من الروايات التي لا أصل لها و لا صحة ، اشياء متفرقة و لقطات مختلفة من هيهنا و هيهنا فهذه الاشياء لا يقال لها علم ، بل هي جهل مركب ، و في نسخة الامالى للمفيد ره ( قد قمش علما من اغمار غشوة و أوباش فتنة ، فهو في عمى من الهدى الذي أتى به من عند ربه ، و ضال عن سنة نبيه صلى اللّه عليه و آله ، يظن ان الحق في صحفه ، كلا و الذي نفس ابن ابي طالب بيده ، قد ضل و اضل من افترى )

-----------
( 1 ) المقاييس :

[ 35 ]

و الأحسن ان نذكر لك مثالا و شاهدا لتعرف كيف أخذ بعض الجهلة السفلة من الناس الأخبار ؟ ممن أخذوها ؟ و كيف جمعوا الروايات المزيفة و آمنوا بها ؟ :

روى المامقاني ره في رجاله في ترجمة سفيان الثوري رواية طويلة نذكرها بتمامها :

عن ميمون بن عبد اللّه : قال : اتى قوم ابا عبد اللّه الصادق عليه السلام يسألونه الحديث من اهل الامصار و انا عنده ، فقال الامام لي : ا تعرف احدا من القوم ؟ قلت : لا . قال . كيف دخلوا علي ؟ قلت . هؤلاء يطلبون الحديث من كل وجه ، لا يبالون ممن اخذوا الحديث . فقال عليه السلام لرجل منهم . هل سمعت من غيري من الحديث ؟

الرجل . نعم .

الامام . فحدثني ببعض ما سمعت .

الرجل . انما جئت لا سمع منك ، و لم اجى‏ء احدثك .

الامام يلتفت الى رجل اخر ذلك ما يمنعه ان يحدثني بما سمع ؟

ثم التفت الى الرجل مستفهما ؟ . تتفضل ان تحدثني بما سمعت ، اجعل الذي حدثك حديثه امانه لا تحدث به أحدا ؟

الرجل : لا الامام . فأسمعنا بعض ما إقتبست من العلم نقتدي بك ان شاء اللّه تعالى الرجل : حدثني سفيان الثوري عن جعفر بن محمد الصادق قال . ( النبيذ كله حلال إلا الخمر ) ثم سكت

[ 36 ]

الامام : زدنا الرجل : حدثني سفيان الثوري عمن حدثه عن محمد بن علي الباقر انه قال : ( من لا يمسح على خفيه في الوضوء فهو صاحب بدعة ، و من لم يشرب النبيذ فهو مبتدع ، و من لم يأكل الحريث و طعام اهل الذمة و ذبائحهم فهو ضال ، اما النبيذ فقد شربه عمر ، نبيذ زبيب فرشحه بالماء ، و اما المسح على الخفين فقد مسح عمر علي الخفين ثلاثا في السفر ، و يوما و ليلة في الحضر ، و اما الذبائح فقد اكلها علي و قال : كلوها ، فان اللّه تعالى يقول : اليوم احل لكم الطيبات ، و طعام الذين اوتوا الكتاب حلّ لكم و طعامكم حل لهم . ثم سكت .

الامام : زدنا الرجل : قد حدثتك بما سمعت .

الامام : ا كل الذي سمعت هذا ؟

الرجل : لا .

الامام : زدنا .

الرجل : حدثنا عمرو بن عبيد عن الحسن لعله البصرى قال : ( اشياء صدقوا الناس بها ، و اخذوا بها ، و ليس في الكتاب لها اصل ، منها :

عذاب القبر ، الميزان ، الحوض ، الشفاعة ، و منها : النية . ينوي الرجل من الخير و الشر فلا يعمله فيثاب عليه و لا يثاب الرجل الا بما عمل ، ان خيرا فخيرا ، و ان شرا فشرا .

قال الراوي : فضحكت من حديثه ، فغمزني ابو عبد اللّه الصادق ان

[ 37 ]

اسكت حتى نسمع . فرفع الرجل رأسه الى و قال : ما يضحكك ؟ أ من الحق أم من الباطل ؟ قلت اصلحك اللّه ، و أبكي ؟ انما يضحكني منك تعجبا كيف حفظت هذه الاحاديث فسكت .

الامام : زدنا .

الرجل : حدثنا سفيان الثوري عن محمد بن المكندري انه رأى عليا على منبر الكوفة و هو يقول : ( لئن اوتيت برجل يفضلني على ابي بكر و عمر لأجلدنه حدّ المفتري ) الامام : زدنا الرجل : حدثنا سفيان الثوري عن جعفر بن محمد يعني الصادق انه قال : ( حب أبي بكر و عمر ايمان ، و بغضهما كفر ) الامام . زدنا الرجل . حدثني يونس بن عبيد عن الحسن : ان علي بن ابي طالب ابطأ عن بيعة أبي بكر فقال له عتيق . ما خلفك يا علي عن البيعة ؟ و اللّه لقد هممت ان اضرب عنقك فقال علي : يا خليفة رسول اللّه لا تثريب فقال ابو بكر .

ا لا تثريب .

الامام : زدنا الرجل : حدثني سفيان الثوري عن الحسن : ان أبا بكر أمر خالد إبن الوليد أن يضرب عنق علي اذا سلم من صلاة الصبح ، و أن أبا بكر سلم بينه و بين نفسه ثم قال : يا خالد لا تفعل .

الامام . زدنا

[ 38 ]

الرجل : حدثني نعيم بن عبد اللّه عن جعفر بن محمد الصادق انه قال : ودّ علي بن ابي طالب أنه بنخيلات ينبع ، يستظل بظلّهن ، و يأكل من حشفهن ، و لم يشهد يوم الجمل و لا النهروان . و حدثني به سفيان عن الحسن .

الامام : زدنا الرجل : حدثنا عباد عن جعفر بن محمد : انه قال : لما رأى علي بن ابي طالب يوم الجمل كثرة الدماء قال لابنه الحسن : يا بني هلكت . فقال الحسن له :

يا أبة ا ليس قد نهيتك عن هذا الخروج ؟ قال علي : يا بني لم ادر أن الأمر يبلغ هذا المبلغ الامام : زدنا الرجل : حدثنا سفيان الثوري عن جعفر بن محمد : أن عليا لما قتل أهل صفين بكى عليهم ، و قال : جمع اللّه بيني و بينهم في الجنة قال الراوي : فضاق بي البيت ، و عرقت ، و كدت أن أخرج من مسكي ،

فأردت أن اقوم اليه فأتوطأه ، ثم ذكرت غمز أبي عبد اللّه عليه السلام فكففت .

الامام : من أي البلاد أنت ؟

الرجل : من البصرة .

الامام : هذا الذي حدثت عنه و تذكر اسمه جعفر بن محمد هل تعرفه ؟

الرجل : لا .

الامام : فهل سمعت منه شيئا قط ؟

الرجل : لا .

الامام : فهذه الاحاديث عندك حق ؟

[ 39 ]

الرجل . نعم .

الامام . فمتى سمعتها ؟

الرجل . لا احفظه ، الا انها أحاديث اهل مصرنا منذ دهرنا ، لا يمترون فيها الامام . لو رأيت هذا الرجل الذي تحدث عنه يعني نفسه فقال لك :

هذه التي ترويها عني كذب ، و قال : لا اعرفها ، و لم احدث بها . هل كنت تصدقه ؟

الرجل : لا .

الامام : و لم ؟

الرجل : لأنه شهد على قوله رجال لو شهد احدهم على عتق رجل لجاز قوله .

الامام : اكتب : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، حدثني ابي عن جدي . . .

الرجل . ما اسمك ؟

الامام : ما تسأل عن إسمي ؟ إن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله قال : خلق الله الأرواح قبل الاجساد بألفي عام ، ثم أسكنها الهواء ، فما تعارف منها ائتلف هيهنا ، و ما تناكر ثمة اختلف هيهنا ، و من كذب علينا اهل البيت حشره اللّه يوم القيامة اعمى يهوديا ، و إن ادرك الدجال آمن به ، و إن لم يدرك آمن به في قبره .

يا غلام : ضع لي ماء ، و غمزني فقال : لا تبرح : فقام القوم و انصرفوا و قد كتبوا الحديث الذي سمعوه منه ، ثم انه عليه السلام خرج و وجهه منقبض قال : ا ما سمعت ما يحدث به هؤلاء ؟ قلت : اصلحك اللّه ما هؤلاء و ما حديثهم ؟ . . . الخ

[ 40 ]

ايها القارى‏ء قد ظهر لك المقصود من ذلك الوصف السابق ،

و هو الذي يجمع الأشياء المتفرقة من أفواه الناس بلا تحقيق و لا تأمل ، بحيث انه يروي هذه الأحاديث عن سفيان الثوري : الكذاب الوضاع المدلس ، و حينما يسأله الامام الصادق عليه السلام : « لو رأيت هذا الرجل الذي تحدث عنه يعني الامام نفسه فقال : هذه التي ترويها عنى كذب ، و لا أعرفها ، و لم احدث بها هل كنت تصدقه ؟ » فاجاب الرجل الأحمق : لا .

فما قيمة هذا العالم ؟ أ فلا يكون هذا الرجل من ابغض الخلائق الى اللّه تعالى ؟ .

الوصف الثاني : « موضع في جهال الأمة » و في نسخة اخرى : فوضع في جهلة الأمة . الموضع ( بكسر الضاد ) الذي يوضع الأحاديث اي يخترعها و ينسبها إلى النبي او الأئمة عليهم السلام كأبي هريرة و سمرة بن جندب و سفيان الثوري الذي تقدم ذكره و أمثالهم و إليك مثالا : روى ابن ابي الحديد و غيره : ان معاوية بن ابي سفيان بذل لسمرة بن جندب مائة الف درهم ، على أن يروي أن هذه الآية نزلت في علي عليه السلام : و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا و يشهد اللّه على ما قلبه و هو ألد الخصام ، و إذا تولي سعى في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل و اللّه لا يحب الفساد .

و أن هذه الآية نزلت في ابن ملجم : و من الناس من يشري نفسه إبتغاء مرضات اللّه و اللّه رؤف بالعباد . فلم يقبل ، فبذل مأتي الف درهم فلم يقبل ،

فبذل ثلثمائة الف درهم فلم يقبل ، فبذل أربعمائة الف درهم فقبل .

و لأن يوضع في جهال الناس ، لأن العلماء لا يوافقون على كلامه ، و الموضع

[ 41 ]

( بفتح الضاد ) هو الوضيع الذي لا شرف له عند الناس فهو ذليل ، و لعل الامام عليه السلام كان يقصد بهذا الوصف شخصا معينا ، و في نسخة اخرى . قمش جهلا فوضعه في جهال الأمة . فعلى هذا يكون الوصفان وصفا واحدا الوصف الثالث . « عاد في أغباش الفتنة » عاد إسم فاعل من العدو ، اي السعي ، و أغباش الفتنة . ظلماتها . و في نسخة . غار في اغباش الفتنة . اي الغافل في ظلمات الخصومات ، لا يهتدي الى الحق سبيلا ، لانه غفل و اغتر بسبب ظلمة الفتن و الجهالات ، و في نسخة الكافي . عان ( بالعين و النون ) تقول . اسير عاني أي مقيم على الاسر و محبوس ، و العاني ايضا . من اتعب نفسه ، و اشتغل بالأمر و اهتم به .

و في نسخة اخرى مكان غباش اغطاش . و الغطش ايضا . الفتنة ، و على جميع التقادير فالنتيجة واحدة ، و هي كونه جاهلا ، لا يدري الحكم القطعي .

الوصف الرابع . « عم بما في عقد الهدنة » بضم الهاء . السكون و المعاقدة على ترك الحرب مدة معلومة ، و الصلح بين كل متجادلين ، اي ذلك الرجل لا يبصر شيئا من منافع المعاقدة على اصلاح المتجادلين ، و بعبارة اخرى . لا يعرف ما في الفتنة من الشر ، و لا ما في السكون و المصالحة من الخير ، و في نسخة اخرى . ( عم بما في غيب الهدنة ) اي في ضمنها و طيها ، فاذا جاءه المترافعان فالأصلح ان يصلح بينهما ، لأن الصلح خير ، و لا ينبغي ان يحكم بحكم يؤول الى الفساد و العداوة و البغضاء .

الوصف الخامس . « قد سماه اشباه الناس عالما و ليس به » المقصود من اشباه الناس هم الهمج الرعاع ، و العوام من الجهال ، فهؤلاء ينخدعون بكل من تزيا

[ 42 ]

بزي العلماء و تكلم بكلام الفقهاء ، فيزعمون انه عالم ، و ليس بعالم ، و هؤلاء الناس لا قيمة لكلامهم ، و لا أساس لقولهم .

و في نسخة اخرى : سمّاه رعاع الناس عالما و لم يكن في العلم يوما سالما .

و في نسخة اخرى . قد سماه اشباه الناس عالما و لم يغن فيه يوما سالما . و في نسخة : يوما تاما : و لم يغن فيه : أي لم يقم بالعلم يوما سالما من النقص .

الوصف السادس : « بكر و استكثر من جمع ما قل منه خير مما كثر » اي اسرع و بادر في صباح كل يوم ، و لعل المقصود من اول العمر ، و خرج الى جمع شي‏ء ، و استكثر من ذلك الشي‏ء الذي قليله خير من كثيره ، و في نسخة :

فكر و استكثر . . .

الوصف السابع : « حتى إذا ارتوى من آجن ، و اكتنز من غير طائل جلس بين الناس قاضيا » يعني لم يزل ذلك الرجل الموصوف بتلك الأوصاف المذكورة يسعى في طلب ما لا ينفع ، حتى اذا إرتوى امتلأ من شرب الماء الآجن ، و هو الماء الفاسد المتعفن ، المتغير لونه و طعمه ، و في نسخة : ارتوى من غير حاصل .

و اكتنز اي اتخذ له العلوم الفاسدة المفسدة كنزا من غير طائل ، اي بلا نفع و فائدة و مزية ، و المقصود من الماء الآجن استعارة بالكناية هي الآراء الباطلة ،

و النظريات الفاسدة ، و العلوم الحاصلة من القياس و الاستحسان ، كما ذكر عليه السلام في آخر هذه الخطبة المروية من الطبرسي و المفيد : « هذا عذب فرات فاشربوه ، و هذا ملح اجاج فاجتنبوه » فاستعار عليه السلام لعلوم آل محمد عليهم السلام و هي العلوم التي تلقوها عن جدهم عن جبرئيل عن الباري بالعذب الفرات ، و استعار لعلوم غيرهم بالملح الاجاج ،

[ 43 ]

و حاصل الكلام أن ذلك الرجل لما حصلت له هذه الاشياء جلس بين الناس قاضيا ، اي بينهم ، و يحكم فيهم فيما اختلفوا فيه . و في نسخة . جلس بين الناس مفتيا .

الوصف الثامن : « ضامنا لتخليص ما إلتبس على غيره » يعني ان ذلك القاضي الذي عرفت أوصافه ، و ظهر لك مقدار معرفته ، و مدارك علومه جلس للفتيا ،

و هو يضمن و يتكفل بيان ما اشتبه على غيره من المترافعين او المتخاصمين ، لوثوقه و أطمينانه بعلومه الحاصلة له ، فيزعم أن تلك الآراء و المقائيس كاملة كافية لقطع النزاع و حل المشاكل مع انه ليس كذلك .

الوصف التاسع : « فان نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشوا رثا من رأيه ثم قطع به » . و في نسخة : احدى المهمات اي ذلك القاضي اذا اتفقت له قضية مبهمة تحتاج الى تفكر و تروي ، و لا يعلم وجه فصلها ، و طريق قطعها لابهامها و التباسها ، هيأ لحل تلك المسألة حشوا اي فضل الكلام رثا اي خلقا عتيقا ، اي وجها ضعيفا ، ثم قطع بذلك الرأي و حكم به ، و هذا شأن أكثر القضاة .

الوصف العاشر : فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت » هذا مثل ذكره القرآن الكريم بقوله تعالى : و ان اوهن البيوت لبيت العنكبوت للأمور الواهية الضعيفة التي لا قوام لها و لا دوام ، يعني : أن ذلك القاضي اذا فكر و راجع ذهنه لتحصيل حل تلك القضية المعروضة عليه لا يحصل له الحق و الصواب ، و ذلك من ضعف ذهنه و قلة علمه ، و لعل وجه الشبه هنا شي‏ء آخر : و هو كما ان الذباب اذا جلس على نسج العنكبوت لا يتمكن من الخلاص من شباك العنكبوت لضعفه ، كذلك ذهن ذلك الرجل القاضي لا يمكن له الخلاص و النجاة من الشبهات الفاسدة .

[ 44 ]

و هنا وجه آخر ذكره المجلسي ره قال : و يحتمل ايضا ان يكون المراد تشبيه ما تلبس على الناس من الشبهات بنسج العنكبوت لضعفها ، و ظهور بطلانها فاذا وقع فيها ضعفاء العقول لا يقدرون على التخلص منها لجهلهم و ضعف نفوسهم .

الوصف الحادي عشر : « لا يدري اصاب أم أخطأ ، فان اصاب خاف ان يكون قد اخطأ ، و ان اخطأ رجا ان يكون قد أصاب » هذا شأن من جهل حكما و افتى به مع جهله ، فهو و ان اصاب الحقيقة كان على شك من ذلك لعدم الدراية و ان أفتى بخلاف ما انزل الله كان يرجو انه اصاب الواقع ، و هذا وصف كل حاكم جاهل شاك .

و في نسخة الارشاد هكذا . فهو من لبس الشبهات في مثل غزل العنكبوت لا يدري اصاب الواقع ام اخطأ ، و لا يرى ان من وراء ما بلغ مذهبا ، ان قاس شيئا بشي‏ء لم يكذب رأيه ، و ان اظلم عليه امر اكتتم به لما يعلم من نفسه من الجهل و النقص و الضرورة ، كيلا يقال : انه لا يعلم ثم اقدم بغير علم فهو خائض عشوات ، ركاب شبهات ، خباط جهالات .

الوصف الثاني عشر . « جاهل خباط جهالات » الخبط هنا . الحركة على غير الطبيعة ، و على غير اتساق ، او المشي على غير الطريق ، و خبط الناقة هو الضرب بيديها في المشي . يقول عليه السلام : ( ان ذلك الرجل جاهل و يسير في الجهالة و خباط للمبالغة ، أي كثير الخبط ، و هذا مثل يضرب لمن لا بصيرة له في الامور .

الوصف الثالث عشر . « عاش ركاب عشوات » عاش : الذي في بصره ضعف ، فلا يبصر جيدا ، بل الظلمة مستولية على عينه ، و العشوات : جمع عشوة و هي الامر الملتبس الذي لا يعرف وجهه ، من عشوة الليل اي ظلمته ، و هذا

[ 45 ]

مبالغة في الوقوع في الاشتباه . يقول عليه السلام . ان ذلك القاضي اعشى لا يبصر الأشياء كما هي ، فهو يرتكب الامور المشتبة و يحكم بما يريد .

الوصف الرابع عشر : « لم يعض على العلم بضرس قاطع » يقال : عض عليه بالنواجذ . يضرب مثلا لشدة الاستمساك : فالمقصود أن الرجل لم يتمسك بعلم من العلوم ، أو بقاعدة من القواعد ، أو رواية أو حديث ، بل يفتي بما تميل نفسه ،

و يأمره هواه ، و يقال : فلان لم يعض على العلم بضرس قاطع . اذ لم يحكمه و لم يتقنه ، و هو ماخوذ من عدم جودة المضغ ، فلا ينتفع البدن بذلك انتفاعا تاما ،

بل ربما يضر . و في نسخة : لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم ، و لا يعض في العلم بضرس قاطع فيغنم الوصف الخامس عشر . « يذري الروايات إذراء الريح الهشيم » الهشيم : كل نبت يابس متكسر ، و كل كلاء و كل شجر ، فكلما ان الريح تمر على الهشيم و تذهب به ، و لا يعود لها نفع و لا فائدة من ذلك الهشيم ، كذلك المفتي المذكور يمر بالروايات اي يتصفحها ، و ليس له بصيرة و لا شعور بوجه العمل بها ، و الاستفادة منها و في نسخة . « يذرو الريح » و المعنى متحد .

الوصف السادس عشر و السابع عشر . « لا ملئي و اللّه باصدار ما ورد عليه ،

و لا هو اهل لما فوض اليه » الملي . هو الثقة ، الغني ، يقول عليه السلام . انه لا يثق بنفسه باصدار أجوبة ما يرد عليه من الفتاوى و المسائل الشرعية ، و قيل : معناه :

غير موثوق بين الملا ، قال ابن ابي الحديد . « و في كتاب ابن قتيبة تتمة هذا الكلام : و لا اهل لما فرط به . و قال : اي ليس بمستحق للمدح الذي مدح به .

و الذي رواه ابن قتيبة من تمام كلام امير المؤمنين عليه السلام هو الصحيح الجيد ،

لأنه يستقبح في العربية ان تقول : لا زيد قائم . حتى تقول : و لا عمرو . او تقول : و لا قاعد : فقوله عليه السلام : لا مليئي . اي لا هو مليئي و هذا يستدعي

[ 46 ]

( لا ) ثانية ، و لا يحسن الاقتصار على الأولى .

و في نسخة اخرى : لا يسلم بإصدار ما عليه ورد ، و لا يندم على ما منه فرط . اي لا يسلم من الخطأ في إرجاع ما عليه ورد من المسائل ، اي في جوابها و قيل معناه : لا يستحق ذلك و لا يقوى عليه ، و معنى ما منه فرط . اي لما قصر فيه .

و في الكافي : و لا هو أهل لما منه فرط ، اي ليس هو اهلا للسبق على الناس و التقدم عليهم بسبب ما ادعاه من العلم .

الوصف الثامن عشر . « لا يحسب العلم في شي‏ء مما انكره » اي لا يحسب جهله علما ، كأنه يعتقد ان ما له من العلم هو العلم كله ، فهو يعلم كل شي‏ء ،

و اما ما جهله فليس بشي‏ء يعتني به ، و لا يدخله تحت الحساب .

الوصف التاسع عشر . « و لا يرى ان من وراء ما بلغ منه مذهبا لغيره » اي يعتقد انه ليس هناك من يخالفه في رأيه و حكمه و فتواه ، و في نسخة الاحتجاج و لا يرى ان من وراء ما ذهب فيه مذهب ناطق ، و ان قاس شيئا بشي‏ء لم يكذب رأيه كيلا يقال له : لا يعلم شيئا ، و إن خالف قاضيا سبقه لم يأمن في صحته حين خالفه .

و حاصل الكلام : ان ذلك الشخص يظن أنه بلغ غاية العلم بكماله ، و لم يبق مجال لغيره ، و ليس لأحد مذهب صحيح و رأي حق غيره .

الوصف العشرون : « و إن أظلم عليه أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه » أي إذا جهل حكما من الاحكام ، و لم يعرفه كتم جهله ، و لم يسأل غيره ليتعلم مخافة أن يظهر جهله عند الناس ، و قد صرح أمير المؤمنين عليه السلام في بعض كلماته : . . . و لا يستحينّ احدكم اذا سئل عما لا يعلم أن يقول : لا اعلم .

الوصف الحادي و العشرون : « تصرخ من جور قضائه الدماء ، و تعج منه

[ 47 ]

المواريث » يشين الى القضاة و أصحاب الفتاوي من الحكام الذين وضعوا القوانين ،

و حكموا بالشنق و القتل على من لا يستحق ذلك فكم من رجل عالم قتل في العهد الأموي و العباسي ظلما و جورا ؟ و كم من علماء سوء ، أفتوا بهدر دماء الشيعة و نهب أموالهم و اباحة أعراضهم ، و ان أردت زيادة الايضاح فراجع كتاب : اجوبة موسى جار اللّه . و الى الآن فان علماء بعض البلاد الاسلامية يحكمون بالكفر و الشرك على الشيعة ، فكم رقى خطيبهم على المنبر و سب الشيعة سبا شنيعا و نسب اليهم الكفر و الشرك ، و أباح دمائهم و أموالهم ، و الحكم للّه ، و اللّه المستعان و هو حسبنا .

و اما ما يتعلق بالمواريث : فان اللّه تعالى قد ذكر نصيب كل من الورثة على قدر سهامهم من الارث ، كما ذكر القرآن الكريم ، ثم مات رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فتبدلت احكام القرآن ، و تلاعبت بها الأيدي الخائنة الجانية ، فتارة قالوا : « ان رسول اللّه لا يورث » فغصبوا الأراضي و المقاطعات التي وهبها رسول اللّه لابنته فاطمة عليها السلام ايفاء لمهر خديجة الى ابنتها ، فاختلوا تلك الاراضي و قطعوا منها يد بنت رسول اللّه و زوجها و اولادها ، و لم تزل ولائد تلك الايدي الجانية تلعب بأحكام القرآن و تبدل و تغيّر و تحرف و تأول كما شائت الأهواء و الأنفس ، كأنهم لم يسمعوا كلام اللّه تعالى حيث يقول : و من لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الفاسقون ، و من لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الظالمون ، و من لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون .

اضف الى الآيات الشريفة ، كيف يسمح الايمان بالله للمسلم ان يغير و يبدّل حكم الله فهل يعتقد أنه أعرف بمصالح العباد من الله الذي خلقهم ؟ ام يظن ان الدين الاسلامي ناقص معيب فاراد اصلاحه و اكماله برأيه ؟ ، ام هل يعتبر نفسه

[ 48 ]

أعقل من رسول الله صلى اللّه عليه و آله و هل و هل ؟ ؟ علاوة على ذلك : قد ثبت بالتجربة ان تغيير احكام الله في عباده فيما يتعلق بالاحوال الشخصية كالنكاح و الطلاق و المواريث و الديات و غيرها لا يزيد في الناس الا مشاكل و عراقيل ، فاذا صلح من جانب فسد من جانب آخر ،

و لسنا الآن في صدد بيان هذا الموضوع ،

و قد فرغنا من شرح الخطبة السابعة عشر

[ 49 ]