هذه الخطبة من جلائل خطب الامام أمير المؤمنين عليه السلام و مشاهيرها ،
و قد ذكرها جماعة من العامة و الخاصة باختلاف يسير ، و زيادة و نقصان ،
و لعلنا نشير إلى ذلك في ضمن الشرح ، و قد ذكرنا فيما مضى ما صنعه بسر بن ارطاة عميل معاوية بشيعة أمير المؤمنين عليه السلام في صنعاء و غيرها من القتل و الذبح و الحرق و سبي النساء المسلمات ،
و هذا عميل آخر من عملاء معاوية الشيطان ، و اقصد هنا بالعميل كل من باع شرفه و دينه و ضميره لاحد بازاء مال او جاه و العميل الثاني هو سفيان بن عوف الغامدي عليه لعائن اللّه فلنذهب اليه ليحدثنا بجرائمه التي ارتكبها بأمر معاوية :
قال ابن الكنود : حدثني سفيان بن عوف الغامدي قال : دعاني معاوية فقال : إني باعثك في جيش كثيف ذي اداة و جلادة ، فالزم لي جانب الفرات حتى تمرّ ب ( هيت ) فتقطعها ، فإن وجدت بها جندا فأغير عليهم ، و الا فامض حتى تغير على الأنبار ، فان لم تجد بها جندا فامض حتى توغل المدائن ثم أقبل الي ،
و اتق ان تقرب الكوفة ، و اعلم : انك إن غرت على الأنبار و اهل المدائن فكأنك أغرت على الكوفة ، ان هذه الغارات يا سفيان : على اهل العراق ترعب قلوبهم
[ 162 ]
و تفرّح كل من له فينا هوى منهم ، و تدعو الينا كل من خاف الدوائر ، فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك ، و اخرب كل ما مررت به من القرى ،
و احرب الأموال فان حرب الأموال شبيه بالقتل ، و هو اوجع للقلب .
هذه وصايا معاوية الغدر و الخيانة ، معاوية الظلم و الفساد ، معاوية كل رذيلة و كل صفة قبيحة هكذا يأمر عميله بالقتل و الحرق و الهدم و السلب و النهب بقوم مسلمين مؤمنين ، و مع ذلك هو أمير المؤمنين قال سفيان : فخرجت من عنده فعسكرت ، و قام معاوية في الناس فخطبهم فقال : ايها الناس : انتدبوا مع سفيان بن عوف ، فانه وجه عظيم فيه اجر ،
سريعة فيه اوبتكم ان شاء اللّه . ثم نزل .
فو اللّه الذي لا اله غيره ما مرّت ثالثة حتى خرجت في ستة الاف ، ثم لزمت شاطىء الفرات ، فاغذذت اسرعت السير حتى امرّ بهيت ، فبلغهم اني قذ غشيتهم ، فقطعوا الفرات فمررت بها و ما بها غريب ، كأنها لم تحلل قط ، فوطأتها حتى امرّ بصدوراء ففرّوا ، فلم ألق بها احدا ، فأمضي حتى افتتح الانبار ،
و قد انذروا بي ، فخرج صاحب المسلحة الي فوقف ، فلم أقدم عليه حتى اخذت غلمانا من اهل القرية فقلت لهم : اخبروني كم بالأنبار من اصحاب علي ؟ قالوا :
عدة رجال المسلحة خمسمائة ، و لكنهم تبدّدوا و رجعوا الى الكوفة ، و لا ندري الذي يكون فيها ، قد يكون مائتي رجل .
فنزلت فكتبت اصحابي كتائب ، ثم اخذت ابعثهم اليه كتيبة بعد كتيبة ،
فيقاتلهم و اللّه و يصبر لهم و يطارهم ، و يطاردونه في الأزقة ، فلما رأيت ذلك أنزلت اليهم نحوا من مأتين ، و اتبعتهم الخيل فلما حملت الخيل و امامها الرجال تمشي لم يكن شيء حتى تفرقوا ، و قتل صاحبهم في نحو ثلاثين رجلا . و حملنا ما
[ 163 ]
كان في الانبار من الاموال ، ثم انصرفت ، فو اللّه ما غزوت غزاة كانت أسلم و لا أقر للعيون ، و لا اسر للنفوس منها . و بلغني انها رعّبت الناس ، فلما عدت الى معاوية حدثته الحديث على وجهه ، فقال : كنت عند ظني بك . و لا تنزلن في بلد من الا قضيت فيه مثل ما يقضي فيه اميره ، و ان احببت تولية ولّيتك و ليس لأحد من خلق اللّه عليك امر دوني . . . الخ 1 وصلت هذه الاخبار الى الامام عليه السلام فصعد المنبر فخطب الناس و قال ان اخاكم البكري عامل الانبار قد اصيب . و هو اختار ما عند اللّه على الدنيا . فانتدبوا اليهم حتى تلاقوهم فان اصبتم منهم طرفا انكلتموهم عن العراق ابدا ما بقوا .
ثم سكت عنهم رجاء ان يجيبوه او يتكلم منهم متكلم ، فلم ينبس احد منهم بكلمة . فلما رأى صمتهم نزل و خرج يمشي راجلا حتى اتى النخيلة و الناس يمشون خلفه حتى احاط به قوم من اشرافهم فقالوا : ارجع يا امير المؤمنين : نحن نكفيك فقال . ما تكفونني ؟ و لا تكفون انفسكم . فلم يزالوا به حتى صرفوه الى منزله . فرجع و هو و أجم ساكت كئيب . و دعى سعيد بن قيس الهمداني . فبعثه من النخيلة في ثمانية الاف . و ذلك ان أخبر ان القوم جاؤا في جمع كثيف فخرج سعيد بن قيس على شاطىء الفرات في طلب سفيان بن عوف حتى اذا بلغ عانات سرّح امامه هاني بن الخطاب الهمداني فاتبع آثارهم حتى ادنى قنسرين ، و قد فاتوه فانصرف .
و لبث الامام عليه السلام ترى فيه الكآبة و الحزن حتى قدم سعيد بن قيس ،
و كان عليه السلام تلك الايام عليلا ، فلم يقوي على القيام في الناس بما يريده من ابن ابي الحديد
[ 164 ]
القول ، فجلس بباب السدة التي تصل إلى المسجد ، و معه إبناء الحسن و الحسين عليهما السلام ، و عبد اللّه بن جعفر ، و دعا سعدا مولاه فدفع إليه الكتاب ،
و أمره أن يقرأه على الناس ، فقام سعد بحيث يستمع أمير المؤمنين صوته ، ثم قرأ الخطبة 1 المستفاد : ان هذه الخطبة خطب بها الامام عليه السلام في اواخر عمره الشريف كما يشهد بذلك آخر الخطبة ، و قد احتوت على ارقى مراتب الصفاحة و أعلى درجات البلاغة ، و هل البلاغة إلا إيراد الكلام بمقتضى الحال و بمناسبة المقام ؟ فترى هنا أمير المؤمنين عليه السلام بدأ خطبته بالترغيب في الجهاد الذي هو باب من بواب الجنة ، و طريق يؤدي إلى النعيم المقيم ، و ترك الجهاد يسوق الناس الى العبودية ، ثم أخذ يستنفر قومه إلى الحرب ، فذكر أن عسكر سفيان بن عوف قد دخلت الانبار ، و ارتكبت فيها من الجرائم شيئا كثيرا : قتلت الرجال ،
و حرقت الدور ، و دمرت الأحياء ، ثم وضع عليه السلام يده على اهم ما يثير العربي الغيور ، و هو العرض ، فاخبرهم أن الرجل من هؤلاء الغزاة كان يدخل على المرأة فيسلبها حليتها ، و ينصرف آمنا مطمئنا . . . الخ فلنبدا بالشرح قال عليه السلام : « ا لا : و إن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه اللّه لخاصة اوليائه » ابواب الجنة كثيرة ، و إن كانت ثمانية ، الا أن المقصود هنا السبب و الطريق الذي يؤدي الى الجنة هو الجهاد ، و لكن هذا الباب ليس بمفتوح لكل أحد ، بل لخاصة اولياء اللّه لان الجهاد : بذل المال و النفس لاعلاء كلمة الاسلام و إقامة شعائر الايمان . و الانسان يحب كل شيء لاجل حياته ، لان الحياة أغلى و اثمن من كل ثمين ، فالمجاهد يجعله حياته في معرض الخطر خطر القتل ابن ابي الحديد
[ 165 ]
و الموت ابتغاء مرضات اللّه ، و يوطن نفسه على فراق الاهل و الاولاد و المال مع شدة حبه اليهم ، و فرط علاقته بهم ، و يعرض نفسه في طريق الشهادة و الفناء ،
كما و أن الشهادة في سبيل اللّه فوق كل عبادة ، و ليس فوقها عبادة ، كما في الحديث فوق كل برّ برّ إلا الشهادة .
و يمكن ان يكون المقصود : ما ورد عن الامام الصادق عليه السلام قال :
قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : للجنة باب يقال له : باب المجاهدين ، يمضون اليه فاذا هو مفتوح ، و هم متقلدون بسيوفهم ، و الجمع في الموقف ، و الملائكة ترحّب بهم . . الخ و قد وردت اخبار و احاديث كثيرة في فضل الجهاد منها ما في الوسائل : قال النبي صلى اللّه عليه و آله اخبرني جبرائيل بأمر قرت به عينى و فرح به قلبي : قال يا محمد من غزى من امتك في سبيل الله فاصاب قطرة من السماء او صداع كتب الله شهادة .
و قال صلى اللّه عليه و آله . جاهدوا و اغتنموا .
و قال ابو بصير قلت لابيعبد الله الصادق عليه السلام . اي الجهاد افضل ؟
قال من عقر جواده و أهريق دمه في سبيل اللّه .
و قال الامام الصادق عليه السلام الجهاد افضل الأشياء بعد الفرائض .
و قال النبي صلى اللّه عليه و آله اغزوا تورثوا ابنائكم مجدا .
إلى غير ذلك من الاخبار و الاحاديث المفصلة ، و لعلنا نشير اليها في المستقبل انشاء اللّه .
« و هو لباس التقوى » اشار عليه السلام الى قوله تعالى يا بني آدم قد انزلنا عليكم لباساً يواري سوآتكم و ريشاً ، و لباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات
[ 166 ]
اللّه لعلهم يذكرون فان المقصود من لباس التقوى هنا لباس الحرب اي الدرع و المغفر و الآلات التي يتّقى بها من العدو ، روي ذلك عن زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام 1 « و درع اللّه الحصينة ، و جنّته الوثيقة » اي كما ان الدرع يحصن الانسان و يحفظه من اضرار العدو . و كذلك الجهاد درع من اللّه لدينه و جنة بضم الجيم و هي ما يستتر به من سلاح و نحوه للاسلام و المسلمين . اذ لو لا الجهاد لما كان يبقى من الاسلام اسم و لا رسم . و الجهاد عز للاسلام و حفظ للقرآن يحرس المسلمين من اعدائهم ، و لما ترك المسلمون الجهاد فقدوا كل ما لديهم من مجد و عظمة و شرف . و غير ذلك . و بعد ان كان المسلمون يجاهدون الكفار و يحتلون بلادهم و يحكمون فيهم اصبحوا اليوم لا يملكون لانفسهم نفعا و لا ضرا و هذا معنى كلامه عليه السلام : « فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذل .
و شمله البلاء . و ديث بالصغار و القماء » صدقت يا امير المؤمنين . صلوات اللّه عليك كأنك كنت تنظر الى حال المسلمين اليوم . الذي اصبحوا اذلاء مستضعفين شملهم بلاء الكفار . فلا يستطيعون دفع الضر عن انفسهم و عن بلادهم . فالحكم حكم العدو . و الامر امره . و هو كالراعي يتصرف في اغنامه حسب مصالحه و منافعه .
و قد ذكرنا صدر الحديث في اول الخطبة . و هذا تمامه كما في الوسائل قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله . . . من ترك الجهاد ألبسه اللّه ذلا و فقرا في معيشته . و محقا في دينه ، ان اللّه اغنى ( اعز خ ل ) امتي بسنابك خيلها و مراكز رماحها .
« و ضرب على قلبه بالاسداد . و أديل الحق منه بتضييع الجهاد . و سيم الخسف و منع النصف هذه مفاسد ترك الجهاد و مضاره ، فانه يضرب على قلبه بالأسداد
-----------
( 1 ) مجمع البيان ج 2 اعراف 25
[ 167 ]
جمع سد اي يسد عليه الطريق و تعمى عليه مذاهبه ، فلا يعرف وجه الحيلة للنجاة و التخلص من تلك الاضرار التي نالته بسبب ترك الجهاد ، و في بعض النسخ :
و ضرب على قلبه بالاسهاب . أي بزوال العقل ، و أديل و سلب و نزع منه الحق بسبب تضييعه الجهاد ، « و سيم الخسف » اي كلف و ألزم الذل و حرم من الانصاف و العدالة لأن العدو اذا تمكن و غلب لا يراعي لأحد حرمة و لا كرامة و لا يعامله بالعدل و الانصاف ، و لما ذا يفعل ذلك و قد بلغ الى مراده و مطلوبه ؟
و هذه بعض اضرار ترك الجهاد ، و البعض الآخر هو ما نراه اليوم في جميع البلاد الاسلامية ،
و إن كان الجهاد أصعب من كل شيء عند كل ذي روح ، و يكرهه الانسان كما قال تعالى : كتب عليكم القتال و هو كره لكم و عسى ان تكرهوا شيئاً و هو خير لكم و لكن اذا قايسنا صعوبة الجهاد بأضرار ترك الجهاد لرجحت صعوبة الجهاد هذه المواضيع كمقدمة للكلام الذي يأتي الأن ، حتى يكون الكلام اوقع في النفوس و آثر في القلوب ، قال عليه السلام : « أ لا : و إني دعوتكم الى قتال هؤلاء القوم ليلا و نهارا و سرا و إعلانا » يصرّح عليه السلام انه كان يدعو اصحابه الى قتال معاوية كرارا و مرارا ، لأنه كان يعلم أنه كلما تأخر الجهاد ازداد جيش معاوية ، و كثرت قوته و خيله و رجله ، و كان يعلم ان الحرب ستقع لا محالة ، و ان معاوية هو الذي يبدأ و يؤجج نار الحرب ، و لهذا قال عليه السلام :
« و قلت لكم : أغزوهم قبل ان يغزوكم ، فو اللّه ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا » الانسان مهما كان قويا ، و الجيش مهما كان كثيرا اذا كان غير مستعد للحرب ، و هجم عليه العدو بغتة لا بد و ان العدو يغلبه و يقضي عليه ، و ليس
[ 168 ]
الامر هكذا في جبهة القتال و ساحة الحرب ، و السيب في ذلك هو عدم الاستعداد للمقاومة و ضيق المجال اذا كانت المحاربة في البيوت او الشوارع ، و يظهر ذلك بالدقة و التأمل .
كان هذا ألانذار يقرع اسماعهم ، و لكنهم كما قال عليه السلام : « فتواكلتم و تخاذلتم » كان كل واحد منهم يكل الامر الى غيره ، و بعضهم لا يخضع لبعض ،
و يعتبر لنفسه الأفضلية عليه ، فيخذله و لا ينصره على القيام بالجهاد ضد العدو ،
فصارت النتيجة « حتى شنّت عليكم الغارات ، و ملكت عليكم الاوطان » اي فرّقوا خيولهم عليكم للنهب و القتل ، و احتلّوا بلادكم قهرا و عدوانا ، كما فعله بسر بن أرطاة عليه لعائن اللّه ، و كما صنع سفيان بن عوف « و هذا اخو غامد قد وردت خيله الانبار ، و قد قتل حسان بن حسان البكري » و هو من اصحابه عليه السلام و كان واليا على الانبار يومئذ ، و انما قتل هذا الرجل و استولى جيش معاوية على أعراض المسلمين و دمائهم و اموالهم ، لأن الجيش فاجأهم و هجم عليهم بغتة ، فلو كان الوالي يعلم ذلك لأعدّ و استعد ، كما يحدثنا حبيب بن عفيف قال : كنت مع حسان بالأنبار على مسلحها ، إذ صبّحنا سفيان بن عوف في كتائب تلمع الأبصار منها ، فهالونا و اللّه ، و علمنا اذ رأيناهم أنه ليس لنا طاقة بهم و لا بد ،
فخرج اليهم صاحبنا و قد تفرقنا فلم يلقهم نصفنا ، و ايم اللّه لقد قاتلناهم فأحسنّا قتالهم حتى كرهوا ، ثم نزل صاحبنا و هو يتلو قوله تعالى : فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر ، و ما بدلوا تبديلا . ثم قال لنا : من كان لا يريد لقاء اللّه و لا يطيب نفسا بالموت فليخرج عن القرية ما دمنا نقاتلهم ، فان قتالنا اياهم شاغل لهم عن طلب هارب ، و من اراد ما عند اللّه فما عند اللّه خير للابرار .
ثم نزل في ثلثين رجلا فهممت بالنزول معه ثم ابت نفسي ، فتقدم هو
[ 169 ]
و اصحابه فقاتلوا حتى قتلوا رحمهم اللّه .
« و ازال خيلكم عن مسالحها » لأن الانبار كان في الحدود العراقية الشامية في نواحي الموصل ، و لم يبق من آثارها اليوم شيء ، و كان فيه اصحاب السلاح لوقاية الثغور و الحدود من العدو ، فاذا لم يبق في الحدود احد للحفظ و مدافعة العدو فلا مانع هناك من هجوم العدو ، و لا يبقى حومة للبلاد و لا حافظ و لا حارس .
ثم اخبرهم بخبر فظيع ، لعله يثير فيهم الغيرة و الحمية فقال : « و لقد بلغني ان الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة و الاخرى المعاهدة فينتزع منها حجلها و قلبها و قلائدها و رعاثها » اي وصلني هذا الخبر ان جيش معاوية الكافرة الظالمة حين ما هجمت على المسلمين و قتلت رجالهم و حماتهم مدت يدها الاثيمة الى النساء المسلمات و النساء المشركات اللاتي كن في ذمة الاسلام و معاهدته ، فكانوا ينتزعون من النساء الحلى و آلات الزينة من الخلخال و السوار و القلاذة و القرط من آذانهن ، و المرأة اذا قتل حاميها و هجم عليها العدو القاسي هل تستطيع ان تدافع عن نفسه ؟ و ترد العدو عن بيتها ؟ و هل تتمكن ان تمتنع و تقاوم ؟
« ما تمتنع منه الا بالاسترجاع و الاسترحام » و هل ينفع التذلل و الخضوع ،
و الاستعطاف من العدو الظالم السالب الناهب ؟ « ثم انصرفوا وافرين ، ما نال رجلا منهم كلم و لا اريق لهم دم » رجع الجيش الظالم الجائر بعد ما فعل ما اراد و اخذ ما شاء ، بتلك الأموال المنهوبة المسلوبة ، و لم يقتل منهم احد ، لأنهم كانوا ستة الاف ، و كان والي الانبار مع اصحابه ثلثين فقط .
فلو ان امرأ مسلما مات بعد هذا أسفا ما كان به ملوما بل كان به عندي جديرا » هذا شأن الغيور و صاحب الحمية انه يعتبر اعراض المسلمين كعرضه ،
[ 170 ]
فان اصابهم ما يمس بكرامتهم يحق له ان يموت حزنا و اسفا ، و كذلك هنا امير المؤمنين عليه السلام يقول : لو ان مسلما مات حزنا لهذه الواقعة الفظيعة ما كنت ألومه ، بل هذه الرزية يحق لها و يجدر بها ان يموت المسلم لأجلها ، ذكر عليه السلام هذه الكلمة اسفا لأعراض المسلمين ، و تهيجا للغيرة و الحمية ، ثم انه عليه السلام جعل يعاتبهم على مخالفتهم إياهم ، و يوبّخهم على تثاقلهم و تباطؤهم ، و يظهر التعجب من ذلك فقال : « فيا عجبا عجبا و اللّه يميت القلب و يجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم و تفرّقكم عن حقكم » يتعجب عليه السلام تعجبا يميت القلب ، من معاني الموت هنا : الحزن ، الخوف المكدرة للحياة ، كما قال تعالى : و يأتيه الموت من كل مكان و ما هو بميت . كما و انه يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر و الذل و غيرهما ، فيمكن ان نقول : ان جملة « و يجلب الهم مفسرة لجملة : « يميت القلب » كل هذه الاشياء من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم ، هو معاوية و ولايته ، و سوابقه السيئة و حسبه السافل و نسبه المخزي ،
« و تفرقكم عن حقكم » و هو الامام أمير المؤمنين عليه السلام الذي قال فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : ( علي مع الحق و الحق مع علي . . . ) مع علمهم بذلك ، أضف الى ذلك مواقف الامام في الاسلام ، و جهاده و حقوقه و فضائله و فواضله و سوابقه المحسنة و صفحته المتلألأة ، و غير ذلك من المؤهلات ، مما لا تعد و لا تحصى أ فمن يهدي الى الحق احقّ ان يتبع ؟ امن لا يهدى الا ان يهدى ؟ ،
فعند ذلك جاز له ان يذمهم ، و يواجههم بالكلام الخشن تأديبا ، فقال :
« فقبحا لكم و ترحا ، حين صرتم غرضا يرمى ، يغار عليكم و لا تغيرون ،
و تغزون و لا تغزون ، و يعصى اللّه و ترضون » دعا عليهم بأن ينحيهم اللّه عن الخير و يسؤهم ، لما اصبح أصحابه بسبب مخالفتهم امره ، و تثاقلهم عن الجهاد
[ 171 ]
مطمعا للعدو ، فيوم يهجم عليهم بسر بن ارطاة ، و يوم يغير عليهم سفيان بن عوف فكأنهم هدف للبنال و السهام التي يرميها معاوية ، و مع ذلك لا يخجلون و لا يستحيون من نتائج افعالهم ، و تركهم الجهاد ، فيغير عليهم العدو و لا يغيرون عليه ، و يغزوهم العدو ، و يقتل و يسلب و ينهب و يحرق و يدمر و هم سكوت ،
و الناس يعصون اللّه بتولية معاوية بن آكلة الأكباد على الاسلام و المسلمين ،
و ما هناك من نتائج تلك التولية المشومة ، من المجازر و المآسي و المصائب التي أبكت العيون ، عيون الأرامل و الأيتام ، عيون الآباء و الامهات و غيرهم ، مع ذلك كله انتم راضون بذلك ، فلو كنتم غير راضين لما تمكن العدو من بلادكم و ما صار ما قد صار « فاذا امرتكم بالسير اليهم في ايام الحر قلتم : هذه حمارة القيظ امهلنا يسبخ عنا الحر . و اذا امرتكم بالسير اليهم في الشتاء قلتم : هذه صبّارة القر امهلنا ينسلخ عنا البرد « القر » الجهاد في سبيل اللّه ليس بسفرة تفرّج و إستيناس حتى يختار المجاهد الموسم الملائم المعتدل للجهاد ، و ان المجاهد اذا خرج من بيته ابتغاء رضوان اللّه موطنا نفسه على لقاء اللّه ، فلا يهمه ان يقتل في جبهة القتال او من شدة البرد و الحر ، و خاصة اذا امر الامام بذلك و هو اعلم بمصالح الامور ، فلا ينبغي المماطلة و التعلل بالحر و البرد ، اضف الى ذلك تضاعف ثواب الجهاد بسبب الحر او البرد ، كما قال تعالى : ما كان لأهل المدينة و من حولهم من الاعراب ان يتخلفوا عن رسول اللّه ، و لا يرغبوا بانفسهم عن نفسه ذلك بانهم لا يصيبهم ظمأ و لا نصب و لا مخمصة في سبيل الله ، و لا يطؤن موطئاً يغيظ الكفار و لا ينالون من عدو نيلا الا كتب لهم به عمل صالح ان الله لا يضيع اجر المحسنين و قال تعالى : فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله و كرهوا ان يجاهدوا بأموالهم و انفسهم في سبيل الله ، و قالوا : لا تنفروا في الحر . قل : نار جهنم
[ 172 ]
اشد حراً لو كانوا يفقهون 1 فكانوا يعتذرون في الصيف بشدة الحرارة ، و يستمهلون إلى انقضاء أيام الصيف ، و في الشتاء كانوا يعتذرون بشدة البرد ، و يطلبون تأجيل الجهاد إلى انتهاء البرد « كل هذا فرارا من الحرّ و القرّ ، فاذا كنتم من الحر و القر تفرون فأنتم و اللّه من السيف أفر » أي أشد فرارا ، إذا دخلتم ساحة الحرب ، فان تحمل القتل و مجاهدة الأبطال أشد و أصعب من تحمل البرد و الحر .
« يا أشباه الرجال و لا رجال ، حلوم الأطفال و عقول ربّات الحجال » روحية الرجل تختلف عن روحية المرأة ، و نفسيته تفرق عن نفسيّة المرأة ،
و الرجل انما يكون رجلا اذا كانت فيه صفات الرجال كالشجاعة و البطولة و الغيرة و الحميّة و الاباء و الفتوة ، و سائر صفات الرجولة ، فاذا فقدها فهو شبيه بالاطفال الغير البالغين ، و من مزايا الرجل : العقل الوافر ، و الفكر الوقاد ، فان فقدهما الرجل فهو نظير المرأة ؟ لأن النساء نواقص العقول ، ضعاف النفوس ، و لأن الصفات المتقدمة غير مطلوبة من المرأة ، و فاقد صفات الرجال مثيل المرأة و إن كان من جنس الرجال ، و خلقته و صورته كالرجال ، فهؤلاء القوم رجال صورة و خلقة ، و لا رجال غيرة و حمية و بطولة و فتوة ، و حلومهم أي عقولهم عقول الأطفال الذين لا عقل لهم ، و شبّه عقولهم ايضا بعقول النساء المخدرات او العرائس ،
و وجه الشبه : أن الامرأة اذا كانت محجبة و مخدرة و لا تتداخل في شؤون الحياة فهي ضعيفه عن إدراك وجوه المصالح .
و في نسخة : يا طغام الرجال . و الطغام من لا معرفة عنده ، و المقصود :
-----------
( 1 ) التوبة
[ 173 ]
بيان عدم كفائتهم لتدبير الحرب ، و سائر شؤون البلاد ، ثم إنه عليه السلام أظهر التنفر و الانزعاج من رؤيتهم و ملاقاتهم فقال : « لوددت أني لم أركم . و لم أعرفكم معرفة و اللّه جرّت ندما و اعقبت سدما » معرفة الاشخاص في بعض الاحيان تؤول إلى الخير و المنافع ، و معرفة بعضهم تنتهى إلى الاضرار و الخسائر ، و هنا يتمنى الامام عليه السلام أنه ليته لم ير اولئك القوم ، و لم يعرفهم و لم يطلع عليهم و على أعمالهم ، لأن معرفة هؤلاء جرّت المصائب و الاحزان على قلب الامام عليه السلام ، و لهذا دعا عليهم فقال : « قاتلكم اللّه ، لقد ملئتم قلبي قيحا ، و شحنتم صدري غيظا » المقصود من « قاتلكم اللّه ) هو اللعن و الطرد و البعد من رحمته ، إذ لا يتصور المقاتلة في ذات اللّه عز و جل كما في تفسير هذه الجملة في موضعين من القرآن « و جرّعتموني نغب التهمام أنفاسا » أي سقيتموني جرع الاحزان و المصائب مرة بعد أخرى ، بسيب مخالفتكم أمرى « و أفسدتم عليّ رأيي بالعصيان و الخذلان حتى قالت قريش : إن ابن ابي طالب رجل شجاع و لكن لا علم له بالحرب » لمّا عصوا أمر الامام عليه السلام في حروبه كصفين يوم تحكيم الحكمين ، فكأنهم أفسدوا عليه رأيه و فكره بسبب عصيانهم أمره و خذلانهم إياه ، فكانت النتيجة النفع لمعاوية ، و الخسارة و الندم لاصحاب الامام ، و الانسان اذا رأى سوء التدبير و ضعف السياسة من قوم أو جيش لا بد و أنه ينسب سوء التدبير إلى رئيسهم او قائدهم ، و لا يعلم أن أنه من عدم إطاعة الجند أمر القائد ، و ان الفساد كله من ناحية الجيش العاصي المتمرّد لا من نفس الرئيس ، و لهذا يقول إمامنا عليه السلام : إن قريشا لما رأوا الفشل الذي أصابنا
[ 174 ]
في هذه الحروب قالت : إن علي ابن ابي طالب رجل شجاع ، و لكن لا معرفة له بتدبير الجند و سياسة الحرب .
يتعجب الامام عليه السلام من هذه الكلمة ، و يستعظم كلامهم فقال :
« للّه أبوهم و هل أحد أشد لها مراسا و أقدم فيها مقاما مني ؟ » يقول عليه السلام : هل انا لا اعرف السياسة ؟ او انا لا اعلم فنون الحرب ؟ فهل يوجد في هذا الزمان من دخل ساحة الوغى قبلي ؟ او قضى الكثير من عمره في منازلة الابطال و مقاتلة الشجعان مثلي ؟ و هل يوجد شخص له ممارسة بالحرب اكثر مني ؟ « و لقد نهضت فيها و ما بلغت العشرين ، و ها انا ذا قد ذرّفت على الستين » اي دخلت ساحة الحرب و الجهاد مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله من اول غزواته و هو غزوة البدر و عمري في السابعة عشر او الثامنة عشر ، و الآن قد تجاوز عمري عن الستين ، و لكن السبب الوحيد في فساد الامور و عدم النجاح هو « و لكن لا رأي لمن لا يطاع » يعني الرأي الذي لا يقبله الناس بمنزلة الرأي الفاسد ، أو بمنزلة عدم الرأي و السبب في جميع تلك المواطن و القضايا التي كانت نقع خالف ما يريده الامام عليه السلام هو انه كان يراعي حرمة أصحابه ، و لا يجابهم بالكلام الخشن ، و لا يعاملهم بالقسوة و الضغط ، كيلا يقال في حقه : إنه خالص الشرع ، و غدر بأصحابه و أنصاره ، مثلا : لما رفع أصحاب معاوية المصاحف على الرماح ، و قالوا : ندعوكم الى كتاب اللّه فقال الامام عليه السلام : كلمة حق يراد بها الباطل . فامتنع عن اجابتهم و النزول عند رغبتهم ، فلما سمع أصحابه امتناعه عن تحكيم الحكمين انحاز منهم فرقة و هم عشرون الف ، و قد اسودّت جباههم من كثرة السجود ، و هم حاملو
[ 175 ]
المصاحف على صدورهم ، و هجموا عليه شاهرين سيوفهم قائلين : أجب ، و الا قتلناك كما قتلنا عثمان بالامس فما يصنع أمير المؤمنين عليه السلام بأمثال هؤلاء ؟ فهل يجرد سيفه تلك الصحيفة التي يقطر منها الموت فيطحنهم طحن الرحى ؟ و ان كانوا عشرين الفا ،
لان القاتل : و اللّه لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها . أ يقتلهم ام يجيبهم الى ما ارادت انفسهم و شائت افئدتهم ، و على أي حال يؤول الامر الى ما آل .
و قد روى شيخنا المجلسي قدس سره هذه الخطبة بزيادة و نقصان ، و تغيير نذكرها تتميما للفائدة :
عن ابن عائشة : إن عليا إنتهى إليه أن خيلا لمعاوية ورد الانبار ، فقتلوا عاملا يقال له : حسان بن حسان فخرج مغضبا يجر ثوبه حتى أتى النخيلة ، و اتبعه الناس فرقى رباوة علوة من الارض ، فحمد اللّه و اثنى عليه ، و صلى على نبيه صلى اللّه عليه و آله ثم قال :
أما بعد : فان الجهاد باب من ابواب الجنة فتحه الله لخاصة اوليائه ، و هو لباس التقوى و درع الله الحصينة و جنته الوثيقة ، فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل ، و سيماء الخسف ، و ديث بالصغار ، و قد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم ليلا و نهارا ، و سرا و إعلانا ، و قلت لكم : اغزوهم قبل ان يغزوكم ،
فو الله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا .
فتواكلتم و تخاذلتم ، و ثقل عليكم قولي ، و اتخذتموه ورائكم ظهريا ، حتى شنّت عليكم الغارات ، هذا اخو غامد قد وردت خيله الانبار ، و قتلوا حسان بن حسان ،
و رجالا منهم كثيرا و نساء ، و الذي نفسي بيده لقد بلغني أنه كان يدخل على
[ 176 ]
المرئة المسلمة و المعاهدة فينتزع أحجالها و رعثها ، ثم انصرفوا موفورين ، لم يكلم احد منهم كلما ، فلو أن امرأ مسلما مات من دون هذا اسفا ما كان عندي فيه ملوما ، بل كان عندي به جديرا .
يا عجبا كل العجب : من تظافر هؤلاء القوم على باطلهم ، و فشلكم عن حقكم ،
إذا قلت لكم : اغزوهم في الشتاء . قلتم : هذا اوان قرّ و صرّ . و إن قلت لكم :
اغزوهم في الصيف . قلتم : هذا حمارة القيظ أنظرنا ينصرم الحرّ عنا .
فاذا كنتم من الحر و البرد تفرون فأنتم و الله من السيف أفر ، يا اشباه الرجال و لا رجال و يا طغام الاحلام ، و يا عقول ربات الحجال ، و الله لقد أفسدتم علي رأيي بالعصيان ، و لقد ملأتم جوفي غيظا ، حتى قالت قريش : إن ابن ابيطالب شجاع ، و لكن لا رأي له في الحرب . لله درّهم و من ذا يكون أعلم بها ،
و أشد لها مراسا مني ؟ فو اللّه لقد نهضت فيها ، و ما بلعت العشرين ، و لقد نيفت على الستين ، و لكن لا رأي لمن لا يطاع : يقولها ثلاثا فقام إليه رجل و معه اخوه فقال : يا امير المؤمنين : انا و اخي كما قال الله حكاية عن موسى : رب إني لا املك الا نفسي و اخي . فمرنا بأمرك ، فو الله لننتهين إليه ، و لو حال بيننا و بينه جمر الغضا ، و شوك القتاد . فدعى له بخير ثم قال : و اين تقعان مما اريد ؟ ثم نزل .
قد تمت الخطبة السابعة و العشرون
[ 177 ]