و من خطبة له عليه السلام :
أمّا بعد : فإنّ الدّنيا قد أدبرت و آذنت بوداع ، و إنّ الآخرة قد أقبلت و أشرفت باطّلاع ، أ لا : و إنّ اليوم المضمار ، و غدا السّباق ، و السّبقة الجنّة ، و الغاية النّار ، أ فلا تائب من خطيئته قبل منيّته ؟ أ لا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه ؟ أ لا ، و إنّكم في أيّام أمل من ورآئه أجل ، فمن عمل في أيّام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله و لم يضرّه أجله ، و من قصّر في أيّام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله ، و ضرّه أجله .
أ لا فاعملوا في الرّغبة كما تعملون في الرّهبة ، أ لا : و إنّي لم أر كالجنّة نام طالبها ، و لا كالنّار نام هاربها أ لا و إنّه من لا ينفعه الحقّ يضرّه الباطل ، و من لا يستقيم به الهدى يجرّ به الضّلال إلى الرّدى ، أ لا و إنّكم قد أمرتم بالظعن و دللتم على الزّاد ، و إنّ أخوف ما أخاف عليكم إتّباع الهوى ، و طول الأمل فتزوّدوا في الدّنيا ما تحرزون به أنفسكم غدا .
[ 178 ]
قال سيدنا الرضي قدس الله سره : اقول : لو كان كلام يأخذ بالاعناق الى الزهد في الدنيا ، و يضطر الى عمل الآخرة لكان هذا الكلام ، و كفى به قاطعا لعلائق الآمال ، و قادحا بزناد الاتعاظ و الازدجار و من اعجبه قوله عليه السلام : « ا لا : و ان اليوم المضمار ، و غدا السباق ، و السبقة الجنّة و الغاية النار » فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين المفسّرين ، و لم يقل : السبقة النار .
كما قال : السبقة الجنة . لأن الاستباق إنما يكون الى امر محبوب و غرض مطلوب و هذه صفة الجنة ، و ليس هذا المعنى موجودا في النار نعوذ بالله منها فلم يجز ان يقول : و السبقة النار . بل قال : و الغاية النار . لأن الغاية قد ينتهي اليها من لا يسره الانتهاء اليها و من يسره ذلك ، فصلح أن يعبّر بها عن الامرين معا ، فهي في هذا الموضع كالمصير و المآل ، قال الله تعالى : قل تمتّعوا فانّ مصيركم النار و لا يجوز في هذا الموضع ان يقال : فان سبقتكم بسكون الباء الى النار .
فتامل ذلك ، فباطنه عجيب ، و غوره بعيد لطيف ، و كذلك اكثر كلامه عليه السلام ، و في بعض النسخ : و قد جاء في رواية أخرى و السبقة الجنة بضم السين ، و السبقة عندهم إسم للسابق اذا سبق من مال او عرض ، و المعنيان متقاربان الان ذلك لا يكون جزاء على فعل الامر المذموم ، و انما يكون جزاء على فعل لامر المحمود .