الحكمة العملية:

هي مجموعة من المسائل والموضوعات المطروحة في متناول واختيار الإنسان، ولولا وجوده لما وجدت هي الاُخرى، أي أن تحقّقها مرتبط بتحقق الإنسانية، وهذه الموضوعات هي كالأخلاق وتهذيب النفس، وتزكيتها، وتدبير المنزل، وتربية العائلة، وادارة شؤون المجتمع، وتأسيس المدينة الفاضلة ونظائرها، وكلّها فروع للحكمة العملية، وسنبحثها من منظار أميرالمؤمنين(عليه السلام)، ذلك لأ نّه مثلما هو فرد في الحكمة النظرية فإنّه فرد أيضاً في ميدان الحكمة العملية، يقول(عليه السلام) واصفاً نفسه: «وَإِنَّا لاَُمَرَاءُ الْكَلاَمِ، وَفِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُهُ، وَعَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصوُنُهُ»(1).

إن لأميرالمؤمنين(عليه السلام) سواء في تهذيب النفس وبنائها، أو في تربية الأبناء وتأسيس المدينة الفاضلة وإدراة شؤون المجتمع على النحو الصائب عدداً من القواعد العامة تتفرع عنها سلسلة من القواعد والخطوط الثانوية، أمّا القواعد العامة فهي قواعد تدعو إلى تعلّم الحكمة والتعرّف عليها وإلى تمهيد السبيل لفهمها، فهي تعتبر الحكمة حياة، وبناءً على ذلك فإن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يرى أن الإنسان غير الحكيم إنساناً ميّتاً، والحكيم هنا ليس المراد منه العالم بموضوعات الحكمة فحسب، بل العالم العامل وقد اتضح ـ فيما سبق ـ أن العلم غير المقرون بالعمل لا يعدو أكثر من كونه جهلا «رُبَّ عَالِم قَدْ قَتَلَهُ جَهْلُهُ، وَعِلْمُهُ مَعَهُ لم يَنْفَعُهُ»(2) وقد تناولنا هذا الموضوع مفصلا.

إن عليّاً(عليه السلام) يرى أن الحكمة حياة القلب وأن الحياة الدنيا كالحكمة فالأُولى حياة ظاهرية والثانية حياة باطنية، يقول(عليه السلام) في ذلك: «وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْء إِلاَّ وَيَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ وَيَمَلُّهُ، إِلاَّ الْحَيَاةَ»(3) أي ما من شيء إلاّ ويملّ نتيجة التكرار والمداومة إلاّ الحياة فإنها لا تملّ، قد يضجر الإنسان ويتعب من المشاكل والمواقف المحرجة التي تواجهه ويحاول التغلّب عليها، إلاّ أ نّه لا يملّ ولا يضجر من الحياة ذاتها ومن كونه حياً.

قال أبو الطيب المتنبي:

ولذيذ الحياة أنفس في النفس *** وأشهى من أن يمل وأحلى

وإذا الشيخ قال اُف فما ملّ *** حياة ولكن الضعف ملاّ(4)

ويقول أميرالمؤمنين(عليه السلام): «فَإِنَّهُ لاَ يَجِدُ لَهُ فِي الْمَوْتِ رَاحَةً»(5) إن الأحداث المفجعة في الحقيقة ليست هي الحياة كي تكون مملّة، ولا هي الباعثة على الملل، وإنّما الباعث هو المؤلم من الأحداث، ولهذا يرى أميرالمؤمنين(عليه السلام) أن الحياة بذاتها والعيش فيها لا يبعث الإنسان على التعب والملل يقول(عليه السلام): «وَإِنَمَا ذلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحِكْمَةِ الَّتي هِيَ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ الْمَيِّتِ»(6).

فالحياة الظاهرية هي بمنزلة الحكمة التي تضخ الحياة في القلب حيث تبقى علب قلب الحكيم حياً، إنّه(عليه السلام) يرى أن قلب الحكيم قلب حي، وما الحياة الظاهرية إلاّ كالحياة المعنوية.

من هذا يتّضح أنّ الحكمة حياة القلب، وأن القلب الخالي منها قلب ميت، لذا يرى أميرالمؤمنين(عليه السلام) أن اُولئك الذين يعنون كثيراً بموت أجسامهم ولا يعنون بموت قلوبهم هم في الحقيقة موتى، ذلك لأن موت القلب أهم من موت الجسد، إذ القلب الميت قلب محروم من السعادة الأبدية، أمّا الجسم فإنّه إن مات وترك هذه الحياة الظاهرية خلفه، فإن تركه هذا لا يعني فقد الشيء لأ نّه إنّما انتقل من عالم إلى عالم آخر، ومثال ذلك هو ما يستشف من قوله(عليه السلام) المشار إليه وهو أن قلوب بعض الناس ميتة، وإن هذا البعض لا يعير أهمية لموت القلب في حين أن ما يميت الإنسان ويسلب حياة القلب منه هو التعلّق بالدنيا، هذا التعلّق الّذي يدفع الإنسان أن يبيع نفسه ويجعلها عبداً يقول(عليه السلام): «وَالنَّاسُ فِيهَا رَجُلاَنِ: رَجُلٌ بَاعَ نَفْسَهُ فَأَوْبَقَهَا، وَرَجُلٌ ابْتَاعَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَهَا»(7) أي أن الناس في الدنيا على نحوين، نحو باع نفسه للدنيا فأصبح عبداً لها، ونحو اشترى الدنيا فتحرر من قيودها وأصبحت تحت سيطرته وإرادته، ثمّ يقول(عليه السلام): «الدُّنْيَا دَارُ مَمَرٍّ لا دَارِ مَقَرٍّ»(8) .

أي ينبغي للإنسان أن يجتاز ممر الطبيعة لا أن يتوقف فيه، فالدنيا محل رحيل لا مكوث ولا بقاء. إنّها عالم المرور لا عالم القرار، كما أ نّه(عليه السلام) يعبر عن عالم الدنيا بأ نّه عالم متحرك: «دَارُ مَمَرٍّ لا دَارِ مَقَرٍّ».

إذن فالدنيا ليست مقراً، ولابدّ من التعامل معها تعامل من يريد المرور على جسر للوصول إلى نقطة ما وإلى هدف ما، حيث ينبغي له تعبيد الطريق، أو نصب الجسر للمرور عليه وتجاوزه لا البقاء فيه، لأ نّه محل مرور لا محل بقاء وإذا ما بقي وحلّ في الطريق وسكن فيه فإنّه سيتخلّف عن الوصول إلى الهدف، يقول(عليه السلام): «وَالنَّاسُ فِيهَا رَجُلاَنِ: رَجُلٌ بَاعَ نَفْسَهُ فَأَوْبَقَهَا، وَرَجُلٌ ابْتَاعَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَهَا».

فالناس من منظار أميرالمؤمنين(عليه السلام) ـ وكما أشرنا ـ على قسمين: قسم باعوا أنفسهم للدنيا فأصبحوا عبيداً لها، يتهالكون على ما فيها ممّا شاهدوه وسمعوه وخطر ببالهم من لذاتها، واتخذوها إلهاً ومولى يفرض عليهم ولايته بمالها من زينة وبهارج وجديد يأخذ بقلوبهم الولهى، فأذلوا أنفسهم إذ: «عبد الشهوة أذل من عبد الرق»(9) أي أ نّه أذل من العبد المشترى، لأن العبد المشترى ليس بذليل في الحقيقة، أمّا عبد الشهوة فإنّه يسقط نفسه في الذل ويخرجها من الكرامة ومن القيم الإنسانية، وهذا هو القسم الّذي باع نفسه للدنيا فملكته.

أمّا القسم الثاني فهو الّذي يعبر عنه أميرالمؤمنين(عليه السلام) بقوله: «وَرَجُلٌ ابْتَاعَ نَفْسَهُ فَأَعْتَقَهَا» وهو بهذا يعين الذين اشتروا أنفسهم من الدنيا، فقايضوها بما يحرّر نفوسهم «فَأَعْتَقَهَا» إنّهم حرّروا أنفسهم فلم يعد هناك شيء يتحكم بهم، لا الأضواء تتحكم بهم ولا البهارج، فلا سلطة لأي شيء خادع عليهم، والسبب هو أ نّهم عرفوا أن بهارج الدنيا ما هي إلاّ زهرة ولا يمكن لهذه الزهرة أن تكون فاكهة أو ثمرة تماماً. وقد جاء هذا الوصف للدنيا في قوله تعالى: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا)(10) أي يا أيها الرسول لا تطمع بما في أيدي أهل الدنيا فهو ليس أكثر من زهرة، بل أن كلّ ما في الدنيا زهرة، وأن هذه الزهرة ما كانت ثمرة ولا زهرة قط إنّها كشجرة يتعهدها الإنسان فتصبح خضراء تينع بالزهور ثمّ تتساقط قبل أن تصير ثماراً، فلا أحد يحصل على ثمر منها، أمّا من يرد قطف ثمارها فإن الأجل سيدركه قبل أن يدرك الثمر، فهو يظن أن أمراً ما أثمره فيتجه صوبه وإذا به زهرة والزهرة ـ بطبيعة الحال ـ لا تروي غليله ولا تشبع طموحه، وعلى أية حال فإنّه من غير الممكن أن يجني إنسان ما ثمرة الدنيا ليتمتع بها.

إن الدنيا وردة وزهرة فاكهة ليست إلاّ، فالحرّ من حرّر نفسه منها وأعتقها وخرج من أسرها يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام): «يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا، إِلَيْكِ عَنِّي، أَبِي تَعَرَّضْتِ؟ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ؟ لاَ حَانَ حِينُكِ! هيْهَات! غُرِّي غَيْرِي، لاَ حاجَةَ لِي فيِكِ، قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلاَثاً لاَ رَجْعَةَ فِيهَا! فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ، وَخَطَرُكِ يَسِيرٌ، وَأَمَلُكِ حَقِيرٌ»

آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ، وَطُولِ الطَّرِيقِ، وَبُعْدِ السَّفَرِ، وَعَظِيمِ الْمَوْرِدِ!»(11) إذن فالحكمة العملية هي نيل الحرية، والإنعتاق من الدنيا، التحرّر من الذلّ ومن شهوة الغضب، وعبودية المال والأولاد والمقام والجاه ومن كلّ شيء غير الله، ذلك لأن كلّ ما هو غير الله هو دنيا، ومنذ تعلق قلبه به فإنّه سيكون عبداً لا حراً.

إن القرآن الكريم يعتبر الناس مكبلين بأعمالهم إلاّ أصحاب اليمين فإنهم أحرار، قال تعالى شأنه: (كُلُّ نَـفْس بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إلاَّ أصْحَابَ اليَمِينِ)(12)فهم أحرار غير مدينين: كما إنّهم لم يقعوا رهن الأعمال السيئة، فهم أحرار، ومن هذا يتضح أن الناس في الدنيا على قسمين، قسم عبدوا الدنيا وقسم عبدوا الله.

ويشرح أميرالمؤمنين(عليه السلام) ـ في بعض خطبه طبيعة الدنيا وكونها لا تمارس عملية الخداع بنفسها، حيث يرى أ نّه ينبغي القول لمن يزعم بأن الدنيا تغرو وتخدع، إنّك أنت الّذي انخدعت لا الدنيا التي خدعتك، ذلك لأ نّها لا تخدع، وإنّما أنت الخادع وأنت المخدوع، ولا دخل للدنيا في مخدوعيتك، فالدنيا كشفت لك عن نفسها وما كانت منافقة يوماً ما. إنّها أرتك حيث الموتى، وتقلب الأحوال، وأرتك النصب والعزل في المناصب والمسؤوليات، إنّها أرتك الحوادث المؤسفة والمفرحة ولم تخف شيئاً، أو تتكتم عليه.

من هذا يتضح أن الإنسان هو الّذي ينغر وينخدع ولا دور للدنيا في ذلك، فالدنيا ـ وطبقاً لما يراه الإمام عليّ(عليه السلام) ـ لا تخدع بل الإنسان هو الّذي ينخدع لأن الدنيا لم تبق على شيء إلاّ وبينته، إنّها لم تتكتم على شيء ولم تتستر عليه إذن إذا كانت الحكمة هي حياة القلب، وكان الإنسان جاداً لنيل الحرية، فأين تكمن حريته هذه؟

يرى أميرالمؤمنين(عليه السلام) أن حرية الإنسان تكمن في نزاهته وتقواه وصونه للنفس عن الذنوب وعن الوقوع فيما يخالف الله تعالى، وأ نّه بهذا يمكنه الإنفلات من كلّ قيد، ومن كلّ ما يحاول امتلاكه واحتواءه فلا المال يملكه ولا المقام ولا الموقع ولا الجاه، ولا مدح الناس ولا ذمهم بغير الحقّ.

يقول(عليه السلام): «أيها الناس اعلموا أ نّه ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه، ولا بحكيم من رضى بثناء الجاهل عليه»(13) أي أن عليّاً(عليه السلام) يرى أن من يفرح بمدح الجهّال لا يكون حكيماً، بل يكون عبد المدح والثناء، كما أن من ينزعج من سماع التهمة والسبّ واللعن اللاذع هو الآخر ليس بعاقل.

ومثال ذلك هو من انزوى لتهمة لا أساس لها، وكذا من فرح وانتعش لسماعه مدحاً من جاهل، فمن يفرح بالمدح وينزوي بالذم ليس بحر ولا حكيم ولا عاقل بل عبد.

ويقول عليّ(عليه السلام) في مجال آخر: «فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ مِفْتَاحُ سَدَاد، وَذَخِيرَةُ مَعَاد»(14) أي أ نّه يرى(عليه السلام) أن مفتاح كلّ عمل صائب وصحيح وكلّ ذخيرة يدخرها الإنسان ليوم القيامة يتجلى فى تقوى الله وفي كف النفس عن الرذائل ومنعها عنها، والاحتراز عن ترك الواجب.

ثمّ يقول(عليه السلام) في التقوى «وَعِتْقٌ منْ كلِّ مَلَكَة، وَنَجَاةٌ مِنْ كلِّ هَلَكَة»(15)فالتقوى كفيلة بتحرير الإنسان من أي شيء يحاول امتلاكه، كما أ نّها كفيلة بتحصينه من أن يكون مملوكاً لشيء، أو يفرح بمقام ومنصب، وتحصّنه من التأسف والضجر لفقده المقام والمنصب، قال تعالى: (لِكَيْلا تَأسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَـفْرَحُوا بِمَا آ تَاكُمْ)(16) فلا يكون المتقي عبداً للقادم ولا ذليلا للفائت، إنّه حرّ من كلّ قيد وناج من كلّ منزلق، ومصون من السقوط والاستعباد يقول(عليه السلام): «وَعِتْقٌ منْ كلِّ مَلَكَة، وَنَجَاةٌ مِنْ كلِّ هَلَكَة، بِهَا يَنْجَحُ الطَّالِبُ، وَيَنْجُوا الْهَارِبُ، وَتُنَالُ الرَّغَائِب»(17).

فالتقوى تنجي الإنسان من السقوط، وتوصله إلى الهدف، وإلى كلّ من يرغب فيه، وإذا ما أراد أن يكون تقياً فعليه أن يزن نفسه، يقول(عليه السلام): «زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا، وَحَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا»(18) أي لابدّ للإنسان من محاسبة نفسه قبل حلول يوم الحساب حيث سيحاسب عما عمل؟ وعما باع واشترى، وسيسأل عما إذا خسر أو ربح. وفي هذا يقول القائل:

اختم وطينك رطب إن قدرت فكم *** قد أمكن الختم أقواماً فما ختموا(19)

ويقول(عليه السلام): «زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا» فعلى الإنسان وزن نفسه، ولكن بأي شيء يزن نفسه؟ يقول القرآن الكريم: (وَالوَزْنُ يَوْمَئِذ الحَقُّ)(20).

أي أن الوزن يوم القيامة هو الحقّ، وهذا لا يعني أن هناك وزناً يسمّى الحقّ، وإن كان هنالك وزن، بل المراد هو أن الوزن حقّ والموزون أنفسكم وأعمالكم التي ستخضع لميزان وتقيّم حيث لابدّ لها من وزن، قال تعالى: (الوَزْنُ يَوْمَئِذ الحَقُّ) أي أننا سنوزنكم يوم القيامة بالحقّ، وستكون أعمالكم ونفوسكم ثقيلة إذا ما كانت ممتزجة به ومنبثقة عنه، أمّا إذا لم تكن كذلك فإنّها ستكون خفيفة الوزن، لذا فمن ثقلت موازينه فإنّه من أهل النجاة، أمّا من خفّت موازينه فهو من أهل العذاب.

وبناءً على هذا فإنّه(عليه السلام) يدعو إلى وزن النفس بالحقّ قبل أن توزن، وأن تكون على بينة من أمرنا أنحن ثقيلي الوزن أم خفيفيه؟ هل أن عملنا يسير باتجاه الحقّ أم لا؟ أهو للحق أم لغيره؟ وهل هو منطلق منه أم لا؟

إن الإنسان ـ في الحقيقة ـ إذا أراد تسويغ سيئاته للآخرين فإنّه لا يتمكن من تسويغ ذلك لنفسه قال تعالى: (بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَـفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أ لْقَى مَعَاذِيرَهُ)(21) وكلمة «بصيرة» هنا تدل على المبالغة لا التأنيث، فتاؤها تاء مبالغة لا تاء تأنيث وقول فلان علاّمة يعني كثير العلم، وقوله تعالى: (بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَـفْسِهِ بَصِيرَةٌ) يعني أن الإنسان بصير جداً بما هو عليه وعلى أية حال فإن الإنسان بإمكانه أن يخفي ما هو عليه، ويسدل ستار التسويغ على سيئاته، أمّا فيما بينه وبين نفسه فإنّه مطلّع على أعماله، وعلى ما هو عليه ويعلم ما الّذي عمله وما الذي يعمله، ويعرف نفسه جيداً وإن كان قد اختلق الأعذار وأظهر نفسه بمظهر يخالف الحقيقة.

وهنا يدعو أميرالمؤمنين(عليه السلام) الإنسان إلى محاسبة النفس وإلى وزنها بالحقّ لمعرفة ثقل الوزن من خفته، فإن كان ثقيلا فينبغي له الشكر والإستمرار على الطريق والنهج الّذي عليه وإن كان خفيفاً فعليه بالتوبة وبالاستغفار والتقرب إلى الحقّ. إذ على الإنسان أن يكون ثقيل الوزن، سائراً على درب الحقّ، وبهذا يكون قد اتضح الجانب المهم من التحرر من قيود الدنيا.

إن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يرى أن من حرَّر نفسه من قيود الدنيا وشهواتها هو الحي، وأن من كبّل نفسه بأصفادها هو الميت، فمن باع نفسه للدنيا ميت، ومن اشترى الدنيا وتخلّى عنها فهو حرّ.

يقول(عليه السلام): «كَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِهَا»(22) أي أ نّهم من حيث التعداد والإحصاء السكاني هم من أهل الدنيا، أمّا حقيقة أمرهم فليسوا من أهلها ولم تستطيع شراءهم.

يقول(عليه السلام): «ويَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ وَهُمْ أَشدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ»(23) أي أن الأحرار هم اُولئك الذين طلقوا الدنيا ولم يعبأوا بها، وهذا لا يعني أ نّهم ترهبنوا وقبعوا في ديارهم، وعلى أية حال فإن من لم يتعلّق قلبه بالدنيا وتخفّف للرحيل، وجاهد نفسه، ولم ينخدع بالدنيا، وزهد بها زهداً حقيقياً، انكشف له أن الناس إذا فقدوا الحياة الظاهرة انتابهم الهلع، بينما هو يرى أن موت قلب هؤلاء الأحياء أشد أهمية من موت البدن، فالزهّاد يعتقدون أن من الناس من ماتت قلوبهم مع أن أجسادهم لم تزل حية: «يَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُعَظِّمُونَ مَوْتَ أَجْسَادِهِمْ» أي يعنون بموت الأجساد ولا يعنون بالموت الباطني، أمّا اُولئك المتحرّرون من قيود الدنيا الزاهدين فيها، العقلاء الحكماء فإنهم يرون أن موت قلوب أهل الدنيا أبلغ من موت أجسادهم «وَهُمْ أَشدُّ إِعْظَاماً لِمَوْتِ قُلُوبِ أَحْيَائِهِمْ» .

فمن الناس من هو حي في الظاهر وقلبه ميت، وهذا ما تتقزز منه نفوس الزهاد ويرون أن موت القلب أهم من موت الجسد.

وفي الحقيقة، إن هذا التألق الفكري نابع من فكر حكيم عاقل ذي تقوى، وبعد أن يسلط أميرالمؤمنين(عليه السلام) الأضواء على كلّ هذه الاُمور «بيّنت لكم» أي أوضحت لكم ما يجب قوله من نصيحة وموعظة في مجال الحكمة العملية، ذكرتكم بما جاءكم به الأنبياء السابقون وبما قاله الأئمّة الماضون لاُممهم، وجوهر ما قالوا وما دعوا إليه هو أن لا يبيع الإنسان نفسه، وليعرف أ نّه من أهل الطريق والسير والسلوك أم لا؟ ولكي يكون على بيّنة من ذلك لابدّ له من امتحان زهده، وهل أ نّه مطمئن بما عند الله أكثر من اطمئناه بما في يديه، والسبب هو لأ نّه: «لاَ يَصْدُقُ إِيمَانُ عَبْد، حَتّى يَكُونَ بِمَا فِي يَدِ اللهِ سُبْحَانَهُ أَوْثَقَ مِنهُ بِمَا فِي يَدِهِ»(24). فلا ينبغي أن يسر الإنسان بما عنده لأن سرور الحكيم هو في غير ذلك، كما لا ينبغي أن يسر الإنسان بما عنده لأن سرور الحكيم هو في غير ذلك، كما لا ينبغي له الحزن على ما فقده، لأن حزن الحكيم لشيء آخر، أ نّه لا يحزن ولا يفرح لما هو سريع الزوال، قال تعالى:(ألا إنَّ أوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(25)إنهم لا يخافون من المستقبل ولا يحزنون على ما مضى.

ثمّ يقول(عليه السلام) في اُولئك الغافلين النائمين الذين لم ينم عنهم رقباء الله تعالى: «مَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عنْهُ»(26) أي من أغفل تهذيب نفسه وتربية أبنائه وغفل عن ايجاد المجتمع الفاضل في موقع من مواقع الحكمة العملية والأخلاق فإنّه الحفظة ورقباء الله ليسوا نياماً «مَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عنْهُ» فمن نام وغفل فإن الحفظة الإلهيين المراقبين له والنظام الكوني كلاهما يقظيين غير نائمين ولا غافلين.

إن الإنسان العامي غير المبالي نائم لا يوقظه إلاّ سوط الموت قال(صلى الله عليه وآله وسلم): «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا»(27) ولو نام أو غفل الإنسان فهل سينام عنه الشيطان أو سيغفل؟ وهل ينام اللص؟ أم هل ينام أعداء الدين وأعداء الله؟ هل تنام علل وأسباب الضلال؟ كلا: «مَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عنْهُ» فلا يغفل عنه اُولئك وإن غفل هو.

هذا من جهة، ومن جهة اُخرى فإن الرجال الإلهيين لا يستعينون بأحد في أي أمر ذلك لأنهم أحرار، يقول(عليه السلام): «وَإِنْ صُبَّتْ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ لَجأُوا إِلَى الاِْسْتِجَارَةِ بِكَ، عِلْماً بَأَنَّ أَزِمَّةَ الاُْمُورِ بِيدِكَ، وَمَصَادِرَهَا عَنْ قَضَائِكَ»(28) إنّهم يستعينون بالله فيما يحدث ممّا يؤلم ويفجع، يلجأون إليه لعلمهم أ نّه هو لا غير المسيّر للاُمور، وأن قضاءه هو المبدأ لكلّ أمر، لذا فإنّهم لو أرادوا الإستعانة على مواجهة الأحداث بقدرة ما فإن تلك القدرة ـ في الحقيقة ـ هي قدرة الله تعالى، وهؤلاء الذين يفهمون الاُمور بهذا النحو هم عباد الله، وهم المتحررون من كلّ قيد، والمهم هو أن يكون الإنسان حراً، وما هدف الحكمة العملية إلاّ أن يتحرر الإنسان من كلّ قيد.

يقول(عليه السلام) في مجال السعي والجهد من أجل العمل: «فَاعْمَلُوا وَأَنْتُمْ فِي نَفَسِ الْبَقَاءِ، وَالصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ، وَالتَّوْبَةُ مَبْسُوطَةٌ، وَالْمُدْبِرُ يُدْعَى، وَالْمُسِيءُ يُرْجَى، قَبْلَ أَنْ يَخْمُدَ العَمَلُ، وَيَنَقَطِعَ الْمَهَلُ، وَتَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ، وَتُسَدَّ أبْوابُ التَّوْبَةِ، وَتَصْعَدَ الْمَلاَئِكَةُ»(29).

أي أسع ما دمت حياً، وما دامت صحف العمل مفتوحة ولما تغلق سجلاته بعد، إسع ما دامت أبواب التوبة مفتوحة، إسع ما دامت هناك فرصة العودة إلى الله ففتحت الأبواب أمام المعرضين وما دامت توبتهم مقبولة، إسع ما دام المذنبون والمخطئون يمتلكون فرصة التوبة وهنالك أمل بالرجوع، إسع قبل أن ينتهي العمل وتنقضي المهلة ويأتي الأجل وتغلق أبواب التوبة ويتوقف عمل الحفظة ويرتفعون إلى السماء، ويرتحل الإنسان عن هذا العالم إلى العالم الآخر.

ثمّ يقول(عليه السلام): «فَأخَذَ امْرُؤٌ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَأَخَذَ مِنْ حَيّ لِمَيِّت، وَمِنْ فَان لِبَاق، وَمِنْ ذَاهِب لِدَائِم»(30).

أي إنّهم رجال استثمروا العمر الفان الزائل من أجل حياة دائمة خالدة، إنّهم تزوّدوا من عالم الدنيا العالم البقاء، وأعداوا له عدته، ومن هؤلاء الرجال السالكين: «امْرُءٌ لْجَمَ نَفْسَهُ بِلِجَامِهَا، وَزَمَّهَا بِزِمَامِهَا، فَأَمْسَكَهَا بِلِجَامِهَا عَنْ مَعَاصِي اللهِ، وَقَادَها بِزِمَامِهَا إِلَى طَاعَةِ اللهِ»(31).

أي أمسكو بلجام النفس الجموح الأمارة، ولم يسمحوا لها بالنطق، إذ المؤمن ملجم، لا ينطق بكل ما تهوى النفس، ولا يأكل كلّ ما تشتهي، يقول عليّ(عليه السلام): «طهّروا أفواهكم فإنّها طرق القرآن» أي طهّروا أفواهكم باعتبار أن الفم هي القناة التي يجري عبرها القرآن، فلا ينبغي للإنسان أن ينطق بالبذيء من الكلام، كما لا ينبغي له السماح للأكل الحرام من أن يدخل جوفه، فأميرالمؤمنين(عليه السلام) يدعوا إلى تطهير الشفاه والأسنان واللسان والفم، لأن القرآن يمرّ عبرها والقرآن مجلّى لحديث الله تعالى مع الإنسان يقول عليّ(عليه السلام): «تجلّى لعباده في كلامه ولكنهم لا يبصرون» أي أن الله ظهر لعباده بكلامه المحفوظ بين دفتي القرآن الكريم إلاّ أ نّهم لا يرون، يقول(عليه السلام): «طهّروا أفواهكم فإنّها طرق القرآن» إذ لا سبيل لخروج آيات القرآن الكريم إلاّ من هذا الفم وإذا ما خرج كلام بذيء منه فإن ذلك سيؤدي إلى تلوث المجري، آنذاك لابدّ من تطهيره ولا يتطهر إلاّ بتلاوة القرآن، فالفم الملوث بالغذاء الحرام لا يدع القلب أن يتذوق حلاوته، لهذا نجد أميرالمؤمنين(عليه السلام) يدعو إلى تطهير مجراه وقناته التي هي الفم، إنّه(عليه السلام) يدعو إلى عدم تلويث الفم باعتباره مجرى كمجري النهر حيث يجري منه الماء الزلال للقرآن: «طهّروا أفواهكم فإنّها طرق القرآن».

إذن فالمؤمن العاقل الحرّ الحكيم هو في الحقيقة الإنسان الّذي تمكن بالحكمة العملية وبالعقل العملي من تحرير نفسه من قيود الدنيا، وأقفل فمه باللجام أي: «ألْجَمَ نَفْسَهُ بِلِجَامِهَا، وَزَمَّهَا بِزِمَامِهَا» فاتخذ لنفسه لجاماً فلجمها، وبهذا يكون قد أمسك بزمان لسانه بيده، وأمسك بزمان حبّه وبغضه وإرادته بيده، بل أمسك بزمام موالاته وبراءته بيده، وإذا ما أمسك المرء بزمام موالاته وبراءته بيده فإنّه سيكون قد حفظ نفسه من السقوط في الهلكة وحررها من أي مالك: «وَعِتْقٌ منْ كلِّ مَلَكَة، وَنَجَاةٌ مِنْ كلِّ هَلَكَة»(32).

ثمّ يقول(عليه السلام): «فَأَمْسَكَهَا بِلِجَامِهَا عَنْ مَعَاصِي اللهِ، وَقَادَها بِزِمَامِهَا إِلَى طَاعَةِ اللهِ» أي أ نّه ما دام له لجام فإنّه لا يقع في المعصية، بل ويساق إلى الطاعة سوقاً، أي بالإضافة إلى أن زمام النفس بيده فإن نفسه تكون طيّعة ومنقادة له، لهذا لا يقدم على السيئات والمعاصي، ولا يطغى لأن الزمام بيده، إنّه يتحرك نحو الطاعة بهذا الزمام وبهذا اللجام وبهذا الحبل الّذي هو حبل الله ودينه.

نسأل الله أن يحي قلوب الجميع بالحكمة، وأن يشملهم برحمته، ويوفقهم لنيل الحرية والتزوّد بالتقوى والطاعة لأوامره سبحانه.

إن ما نريد تناوله هنا هو البحث في مجال تهذيب النفس وتربية الروح، وتزكيتها والإدارة السليمة للمنزل وتأسيس الدولة والمجتمع الإسلامي الأصيل، وهذه بمجملها تؤلف موضوعات الحكمة العملية، وبديهي أن لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) وجهات نظر وآراء راقية في كلّ واحد من هذه الأبحاث سنأتي عليها، كما أن لهذه الموضوعات بُعد جامع وقدر مشترك بينها يعمل فيها عمل قاطع طريق ويقف أمام سير الأخلاق وتربية النفس وتهذيبها وأمام حركة تربية الأبناء وإدارة المنزل والمجتمع، وقاطع الطريق هذا هو حب الدنيا الّذي يحول أمام عملية النمو والتكامل، وقد اتضح سابقاً أن كلّ غير الله وكلّ ما يحول بين الإنسان وبين الله هو دنيا، فسواء أكان ذلك الغير مالا أو ولداً أو زوجة أو مقاماً أو غير ذلك فهو دنيا، بل إن كلّ ما يصدّ عن الله ويفصل الإرتباط به ويسلب الضمير الغيبي والخلوص له تعالى هو دنياً. إن القلب الدنيوي قلب ميّت لا يحيا إلاّ بالحكمة العملية، وإلى هذا أشرنا ـ فيما سبق ـ واستشهدنا بنصوص من نهج البلاغة وقلنا أن الحكمة حياة القلب، وأن الحكيم هو الإنسان الحي ليس غير.

إن الإنسان الحكيم إنسان يقظ الروح متفتّح النفس، وإذا أصبحت الروح حية يقظة فإنّها سوف لا تقع في أسر الدنيا، بل تعمل على تأسيرها. أمّا إذا كانت ميتة ومتفسخة فإنّها ستقع في قبضة الدنيا، وستخضع لإغرائها، ذلك لأن كلّ ما هو غير الله يجعل القلب دنيوياً ويخضعه لسيطرته، ويصده عن الله تعالى.

إنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) عرف الدنيا وبيّن قيمتها وأشار إلى أن التعلّق بها واتخاذها إلهاً لا يؤدي إلاّ إلى انجرار الإنسان إلى المتاهات، يقول(عليه السلام) في وصيته لولده الحسن(عليه السلام): «وَجَدْتُكَ بَعْضِي، بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي، حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً أَصَابَكَ أَصَابَنِي، وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي، فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِيني مِنْ أَمْرِ نَفْسِي، فَكَتَبْتُ إِليْكَ كِتَابِي هَذا، مُسْتظْهِراً بِهِ إِنْ أَنا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ.. أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْر نَخِيلَتَهُ،تَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ .. ثُمَّ أَشْفَقْتُ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ مِثْلَ الَّذِي الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ إِحْكَامُ ذلِكَ عَلَى مَا كَرِهْتُ مِنْ تَنْبِيهِكَ لَهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلاَمِكَ إِلَى أَمْر لاَ آمَنُ عَلَيْكَ بِهِ الْهَلَكَةَ، وَرَجَوْتُ أَنْ يُوَفِّقَكَ اللهُ فِيهِ لِرُشْدِكَ، وَأَنْ يَهْدِيَكَ لِقَصْدِكَ، فَعَهِدْتُ إِلَيْكَ وَصِيَّتِي هذِهِ»(33).

إن هذا النص هو جزء من مقدمة وصيته(عليه السلام) وقد تعرض فيما تلاها الموضوع إحياء القلب بالحكمة وهو موضوع سنشير إليه فيما بعد. أمّا فيما يتعلق بصدر هذه الوصية فقوله(عليه السلام): «فإنّي اُوصيك بتقوى الله» يعني إنّي أدعوك إلى أن تتّقي الله تعالى، وقد تحدثنا عن التقوى وأوضحناها من منظار أميرالمؤمنين(عليه السلام) حيث يعتبرها: «عتق من كلّ ملكة ونجاة من كلّ هلكة».

إن نور التقوى هو ما يحرّر الإنسان من عبودية الرذائل، وهو نفسه الّذي بحفظ الإنسان من كلّ هلكة ولهذا يوصي عليّ(عليه السلام)ولده(عليه السلام): «بتقوى الله ولزوم أمره وعمارة قلبك بذكره» أي اجعل قلبك عامراً بذكر الحقّ، فذكره بالشفاء وبالقلب يبعث على حياة القلب، إنّه يوصي(عليه السلام) بعدم حرمان القلب منه لأ نّه ماء الحياة. فالروح الحية بذكر الحقّ هي روح مترعة بماء الحياة وهي روح مثمرة: (تُؤْتِي اُكُلَهَا كُلَّ حِين) أمّا الروح الغافلة عن ذكر الله فهي روح خاوية خربة، لا تثمر مطلقاً. وبناءً على هذا يرى أميرالمؤمنين(عليه السلام) أن ذكر الحث يبعث على إعمار القلب ويبقي على حياة الروح.

إن من يغفل عن ذكر الله تعالى سيؤول أمره إلى أن يكون إنساناً غافلا عابداً للشهوة، سواء أكانت هذه الشهوة هي شهوة الغضب أو الإنتقام أو الحقد وسيسقط في مهوى الحيوانية ثمّ يوصي(عليه السلام) بـ «الاعتصام بحبله» أي تمسك بالحبل الّذي تعلّقت به فإنّه يوصلك إلى العلو.

إن الحبل هنا لا يعني الحبل المشدود المرمي في زاوية البيت، فهذا لا يسمّى حبلا، بل الحبل هو ما كان أحد طرفيه مربوطاً في مكان وطرفه الآخر بيد الشخص المحتاج إليه يمسك به ليتسلق إلى العلو. إن القرآن هو حبل الله له درجات ومنازل وينطوي على علم بإمكان الإنسان أن ينهل منه كما أن له طرقاً عملية تمهّد للإنسان سيره وسلوكه، وهذا هو الحبل، حيث نجد أن أحد طرفيه بيد الله وطرفه الآخر بيد الناس، وإذا ما استأنس الإنسان بدرجة من درجات القرآن وفهمها وعمل بها فإنّه يكون قد تمسك بالحبل وارتقى درجة من درجاته، ذلك لأن العلم والعمل هما أليافه وخيوطه.

كما أن الإنسان إذا ما تعلّم وعمل بعمله يكون قد استمسك بتلك الألياف وارتقي وتسلق، يقول أميرالمؤمنين لولده الحسن(عليه السلام) بعد توصيته له بعدم التخلي عن حبل الله: «وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به» أي وهل هناك ارتباط أقوى من الارتباط بالله؟ وإذا رغبت عنه فيمن تريد أن تستعين؟ أتستعين بنفسك وأنت معرض للفناء؟ أم تريد الإستعانة بغيرك وهو مثلك معرض للفناء؟ إنك بأيّ استعنت فهو مرشح للموت وللفناء، وبأي تعلقت فإنّه معرّض للتبدّل وللتقلّب والتغيّر من حال إلى حال، وسائر في درب الفناء ، لذا فلا وثاق أوثق من الرابط بينك وبين الله، لأ نّه لا قدرة كقدرة الله، إنّه يمنح القوة للإرتباط به، وما دمت قد استعنت بهذا الوثاق فإنّك ستستمد القوة منه: «وأي سبب أوثق من سبب بينك وبين الله إن أنت أخذت به». إنّك إن تمسكت بهذا الحبل وبهذه العروة فـ «أحي قلبك بالموعظة» ولا تدع الغفلة تميت قلبك، أمّا الموعظة فهي «جذب الخلق إلى الحقّ» وأمّا الواعظ فهو حالة الإنجذاب في الإنسان نحو الفضائل الإلهية، وهو العامل المسبّب لهذا الإنجذاب، أمّا المتّعظ فهو الشخص المجذوب.

إن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يقول أحي قلبك بالإنجذاب إلى الله، ولا تمت نفسك بالإنشغال بالماديات فقط، إذ الروح المادية روح ميتة، الروح التي تجهد نفسها من أجل المادة والدنيا روح ميتة، إذ الطبيعة الخالية من الروح لا يمكنها أن تكون هدفاً، فالإنسان وهو يتخلّى عن هذه الطبيعة المادية وهذه الدنيا، بل وقبل أن يتخلّى عنها تكون الروح هي التي تخلّت عنه، لذا فليس من الحكمة أن يتعلّق قلب الإنسان بالطبيعة وبالدنيا.

يقول(عليه السلام): «وأمته بالزهادة» أي أمت حالة الإنحراف والإنجذاب نحو الدنيا من خلال الإعراض عن عالم الطبيعة، والقضاء على العدو الباطني. إن الإنجذاب نحو الطبيعة قيد وغل لقدميك ولرقبتك ولرجلك فأمته وأحي الدافع الذي يدفعك نحو الخلود.

يقول(عليه السلام): «وقوّه باليقين» أي قوِّ قلبك باليقين، ولا ترتب بما جاءك من معارف وتعاليم الدين واعلم أ نّك مسافر، وأ نّك لم تكن فكنت، وأ نّك راحل، ولم تأت إلى هذا العالم برغبة منك، كما أ نّك سوف لن ترحل عنه برغبة منك أيضاً.

لقد جيء بك إلى هذا العالم سواء كنت راغباً أم رافضاً، وسيخرجوك منه سواء رغبت أم أبيت، وبين لك فيما بين مجيئك وارتحالك الطريق والدرب لتختار الصحيح، فإنك مختار وحرّ، مختار في انتخاب الطريق، فقو يقين نفسك بهذه المعارف، إذ الإنسان الشاكّ المرتاب إنسان ضعيف، ومن لا يقين له لا يكون قوياً.

يقول(عليه السلام): «ونورّه بالحكمة» أي أنر باطن روحك بمصباح الحكمة، والحكمة هي أن تعرف مبدأ العالم، ونهايته ورسله والتكليف والكمال الإنساني والعمل بهذه المعرفة هو الآخر كلمة، لذا فأميرالمؤمنين(عليه السلام) يوصي بإنارة القلب بها فيقول: «ونورّه بالحكمة وذلّله بذكر الموت» أي اكسر شوكة الطغيان والتكبّر والغرور وحبّ الذات بذكر الموت، وليكن هذا منطلقك إلى التواضع، والدافع لك للترجّل عن صهوة الغرور، فبالتواضع يبلغ السالكون الكمال، ومثلما يترجّل الراكب عند بلوغ الهدف، فإن الإنسان الواصل إلى الهدف يكون مترجّلا، أمّا الإنسان الراكب فهو إنسان لم يبلغ الهدف بعد، إن الإنسان الواصل إنسان سهل العريكة متواضع، وكذا فإنّه إنسان ليّن معتدل.

وعلى أية حال فإن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يدعو إلى تذليل وكبح جماح التكبّر والغرور وحب الذات بذكر الموت، يقول(عليه السلام): «وذلله بذكر الموت وقرّره بالفناء» أي اجعل قلبك مذعناً مصغياً، ولقّنه الموت ليفهم أ نّه فان، والمقصود من الفناء هنا، فناء الطبيعة والمادة وإلاّ فالإنسان باق إلى الأبد، «ويصرّه فجائع الدنيا» أي بيّن ووضّح لنفسك قبائح الدنيا، وسيئاتها التي ترتكب فيها، والرذائل الأخلاقية النابعة منها كي تراها، بصّرها لترى بعمق هذه الفجائع والسيئات والقبائح.

«واعرض عليه أخبار الماضين» أي أعرض على نفسك ما خلا من الأحداث ومن التحولات التاريخية ذات العبرة، وهنا لا بأس بالإشارة إلى أن التاريخ بحدّ ذاته ليس علماً أصلياً، وإنّما هو جزء من العلوم الآلية التي تكتسب لغيرها لا لذاتها، فهو ليس كالفلسفة المطلوب معرفتها لذاتها، بل الغرض من معرفة التاريخ هو فهم الأحداث والنقاط الحساسة، لذا فاستعرض لقلبك الحوادث الحساسة المهذبة والقيمة التاريخية لتستفيد من تجارب الماضين وتعتبر بعبرهم.

«وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأولين»(34) أي أوقظ قلبك بتذكر ما جرى على السالفين ليفهم أ نّه قد يبتلى بما ابتلي به الألون، ثمّ يقول(عليه السلام): «وسر في ديارهم وآثارهم»(35) أي أمعن النظر في أطلال الماضين، أنظر إلى بيوتهم التي امتلكوها، ومن ثمّ استورثها غيرهم، أنظر من قرب ليكن هذا السير في آثار الماضين عظة وراشداً ونوراً.

يقول(عليه السلام): «فانظر فيه ما فعلوا وعمّا انتقلوا»(36) أي اُنظر إلى ما شاده السابقون وإلى ما تركوا، وماذا فعلوا فيما أشادوا، وما الّذي بقي لهم من الاسم الآن، استعرضهم في خاطرك ولا تنساهم.

ثمّ يقول(عليه السلام): «وأين حلّوا ونزلوا»(37) وتأمل فيما أشادوا وفيما تركوا وعملوا، وأين هم الآن وفي أي حال.

يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام) في احدى خطبه وهو يتعرض لمراحل عمر الإنسان وما يصير إليه بعد موته: «فصار جيفة بين أهله»(38) فيبذلون جهدهم من أجل نقل هذه الجيفة، بعد ذلك يقول: «فأسلموه فيه إلى عمله» أي يحملونه إلى غرفة عمله وهي القبر، يحملونه إلى الغرفة التي اختزنت كلّ ما عمله طيلة عمره وجمعته له.

فعليّ(عليه السلام) يرى أن الإنسان في نهاية المطاف جيفة يحملها ذووه إلى غرفة يجد فيها ما عمله محضراً جاهزاً.

إن قوله(عليه السلام): «فصار جيفة بين أهله» يصوّر لنا مدى انزعاج أهله من رائحته، ولهذا نجدهم يسارعون إلى نقله إلى القبر، إلى غرفة العمل، هذه الغرفة التي أشادها الميت بشكل صارت فيه «روضة من رياض الجنة»(39) أو «حفرة من حفر النار»(40) فهي إمّا متنزه أو بستان من بساتين الجنة، وإما حفرة من حفر جهنم، حيث يحمله أهله إليها «فأسلموه فيه إلى عمله».

وخلاصة القول أ نّه(عليه السلام) يوصي ولده الحسن(عليه السلام) بالنظر إلى ما شاده السابقون، وما عملوا فيما أشادوا وإلى أين رحلوا، وما هم عليه الآن «وأين حلّوا ونزلوا» إنّك إن تأملت ذلك جيداً ستجدهم قد ارتحلوا عن الأحبة وحلوا دار الغربة، حيث لا شغل في القبر لأحد بأحد، ولا يحل الإنسان إلاّ ضيفاً على أعماله، لانقطاعه عن الجميع ولانقطاع الجميع عنه، فهو وما تكن نفسه، وهو وعقائده وأخلاقه وأعماله، قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أوَّلَ مَرَّة)(41) فالميت يعيش لوحده لا أنس له بأحد غير أ نّه يعيش مع أعماله، فهو لا يتمكن من استمداد العون من الآخرين والآخرون أيضاً لن يستطيعوا انقاذه.

يقول(عليه السلام): «وكأ نّك عن قليل قد صرت كأحدهم»(42) أي فكر وتأمل بنحو كأ نّك في القريب العاجل ستكون كواحد من هؤلاء، وستترك أحبتك وتسافر إلى دار الغربة، فتأمل ما الّذي ينبغي عمله؟

سل عن الماضين إن نطقت *** عنهم الأجداث والترك

أي دار للبلى نزلوا *** وسبيل للردى سلكوا(43)

وبديهي أن هذا لا يعني التقاعس عن أداء الوظائف والتكاليف والترهين والإنزواء، فليس الأمر كذلك. حيث جاء في هذه الوصية الدعوة إلى قضاء حوائج الناس من أجل كسب مرضاة الله سبحانه، كما جاء في مكان آخر من نهج البلاغة أن من قضى حاجة إنسان ما فإن الله يخلق له من ذلك السرور الذي أوجده، في قلب ذلك الإنسان المستحق للإحسان موجوداً لطيفاً يسر لرؤيته فيتساءل من أنت؟ فيقول أنا ذلك السرور الّذي أدخلته على ذلك الإنسان(44).

يقول(عليه السلام): «وكأ نّك عن قليل قد صرت كأحدهم فأصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك»(45) أي أصلح محل استقرارك، وليكن هذا المحل الّذي لابدّ لك من السفر إليه والنوم فيه أبداً صالحاً ولا تبع آخرتك بدنياك مطلقاً، ولا تعط الآخرة لتأخذ الدنيا، كما لا ينبغي لك أن تبيع فضيلة العدالة التي هي قيمة معنوية بشهوة دنيوية. ثمّ يقول(عليه السلام): «ولا تبع آخرتك بدنياك، ودع القول فيما لم تطلع عليه، وهذا هو ما يدعو إليه القرآن الكريم، قال تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(46) لأن الإنسان مسؤول عن كلّ ما تفعله جوارحه وأعضاؤه.

إن الإنسان وكما مرّ في بحوث التفسير مكلّف برفض أي أمر لم يقم الدليل والبرهان عليه، كما أ نّه في المقابل مكلّف بعدم نفي أو تكذيب أي أمر لم يقم الدليل عليه، فلتكذيب أمر ما لابدّ من دليل، وقد بيّن القرآن الكريم هذين الأصلين على أ نّهما أساسان من الاُسس الإسلامية والإنسانية الهامة. فإذا أردت أن تصدّق شيئاً فليكن تصديقك هذا بعد الإطلاع، وإذا أردت تكذيب شيء فعليك أن تكذّبه بعد الاطلاع أيضاً، ولهذا يوصي أميرالمؤمنين(عليه السلام) ولده «ودع القول فيما لا تعرف»، كما يوصيه بعدم وضع نفسه في مأزق بسبب الإنسياق وراء شهوة الكلام ما دام لم يسأل، فما لم يكن القول الكلام ضرورياً فلا داعي للتكلف وإجبار النفس على القول.

يقول(عليه السلام): «وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته»(47) أي لا تسلك طريقاً تخاف التيه فيه لأن «اليمين والشمال مضلّة والطريق الوسطى هي الجادة»(48) أي أن طريقي اليمين والشمال تيه وضلال، أمّا الصراط المستقيم فهو الطريق الوحيد المنتهي إلى الحقّ، لذا فلا ينبغي السير لا يميناً ولا شمالا لأ نّهما كلاهما تيه وضلال «اليمن والشمال مضلّة» وهذه الضلالة هي التيه «والطريق الوسطى هي الجادة».

وهنا ينصح(عليه السلام) بعدم وضع القدم على طريق ما لم يثبت أن هذا الطريق هو الطريق المستقيم، كما ينصح بعدم الإقدام على عمل يحتمل أن تكون فيه ضلالة وخطر.

يقول(عليه السلام): «وأمسك عن طريق إذا أخفت ضلالته فإن الكفّ عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال»(49) أي على الإنسان أن يكون محتاطاً ومتريثاً فيما يحتمل فيه الضلال والتيه والإنحراف، فذلك أفضل من سلوك طريق غير معرفة قد تؤدي بالإنسان إلى الوقوع في مطّبات مفجعة، إذن فالاحتياط والتأمل أوّلا، ثمّ قطع الأشواط ثانياً: «فإن الكفّ عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال».

إن هذا هو الجانب المتعلق ببناء الشخصية من خلال تنفيذ التكاليف المناطة بها، وللإنسان أيضاً وظائف ومسؤوليات اجتماعية، تارة تكون صغيرة ويطلق عليها اسم مسؤولية العائلة وتارة تكون كبيرة وتسمى بمسؤولية المجتمع.

وفي هذا المجال يدعو أميرالمؤمنين(عليه السلام) إلى احياء وبعث روح المسؤولية والرقابة الإلهية والشعبية المعروفة باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويخاطب ولده الحسن(عليه السلام) بقوله: «إنّك إن أنت أنرت قلبك بالحكمة وقوّيته باليقين، وتواضعت بذكر الموت واستعرضت مصائب الدنيا لنفسك ولم تسمح لها بالإندكاك بالدنيا، وصرت حراً طليق التفكير متخلصاً من قيد كلّ شهوة وناجياً من كلّ قيد وحقد، فخذ عندئذ بيد غيرك ولا تطوِ الطريق لوحدك، بل ابحث عن رفيق لك لتقطعا السفر معاً.

يقول(عليه السلام): «وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك، وباين من فعله بجهدك، وجاهد في الله حق جهاده، ولا تأخذه في الله لومة لائم»(50)أي كن من أهل المعروف المرضي من قبل الله تعالى، وشجّع الآخرين عليه ليكونوا من أهله وليعملوا به، أمّا السيئات والرذائل التي لا يرضاها الله ولا الأنبياء ولا المرسلون ولا النفس الطيبة ولا العقل الناضج فهي منكر وأمر مرفوض وغير مقبول.

فعليّ(عليه السلام) يوصي ولده الحسن(عليه السلام) بعدم التعرف على المنكر وعدم الاعتراف به، بل أن لا يتعرف على القبائح، وأن لا يكون من أهلها، وأن يترك المنكر، وأن لا يرتبط به لكيلا يكون صاحبه ورفيقه، وذلك لاستنكار الدين له، لذا فإننا نجد أميرالمؤمنين(عليه السلام) ينصح ولده بالتصدي للرذائل والوقوف بوجهها، ويقول له تصدّى لها «بيدك ولسانك» أي قل بلسانك واكتب بقلمك من أجل احياء الناس، واقطع الطريق على الرذائل، وابذل الجهد لتقف أمام أية رذيلة من النفوذ إلى المجتمع أو إلى بيتك، فإذا كان هناك كذب أو تهمة أو افتراء أو اخلال بنظم أو ظلم أو خيانة أو تآمر أو ترك لواجب أو أداء لمحرمات اُخرى فإنّه ينبغي لك أن تقف وتتصدى لبروز هذه الرذائل في المجتمع، وتمنع من وقوعها بلسانك وبيدك.

فإذا كنت قادراً على القول فقل، وإذا كنت قادراً على الكتابة فاكتب، وإذا كان بإمكانك أن تقف أمام القبائح والرذائل بالقول وبالكتابة فافعل، وإذا لم ينفع فانهض وانتفض وقف أمامها بقوة سواعدك، فإنّه لا يجوز لمسلم الوقوف مكتوف الأيدي أمام الخطأ وأمام الحرام، كما لا يجوز له الاكتفاء بالقول وبالكتابة وبالاعتراض باللسان وبالإدانة بالقلم فحسب، بل يجب عليه أن يتصدى للفساد بكل الطرق المتاحة والمشروعة.

ثمّ يقول(عليه السلام): «وباين من فعله بجهدك» فأهل المنكر هم الذين يفعلون السيئات وإذا تمكنت من الوقوف بوجههم فقف وإلاّ فاطردهم وفارقهم ولا تصاحبهم ولا تستقبلهم في بيتك ولا تزرهم في بيوتهم لأ نّهم يقترفون المنكرات والمحرمات والرذائل ويحطمون نفسك ويلوثونها، ولهذا يقول(عليه السلام): «وجاهد في الله حق جهاده» أي أعط الجهاد في سبيل الله حقه، سواء كان هذا الجهاد هو الجهاد الأصغر أو الجهاد الأكبر، أي قاتل العدو الظاهري وعدو الهوى الباطني.

يقول أبو عبدالله الصادق(عليه السلام): «جاهد هواك كما تجاهد عدوك»(51) أي كونوا مجاهدين للأهواء وللنزوات كما تجاهدون وتكافحون العدو الظاهري، جاهدوا العدو الظاهري في الخارج، والعدو الباطني الكامن في النفس معاً، ولا ترخوا العنان لهذه النفس الطائشة فترغب فيما لا ينبغي، وعلى سبيل المثال لا تدع الغضب الأهوج أن يسلك بك طريقاً لا تحمده عقباه.

إنّك إن سحقت هوى النفس وسحقت العدو الخارجي تكون قد حققت النصر في الجهادين الأكبر والأصغر، لهذا يجب أن لا تتوانى عن الجهاد مطلقاً، ولا تدع الضعف واللاأبالية أن تنقذ إليك وأنت في الحرب.

يقول(عليه السلام): «ولعمري ما عليَّ من قتال من خالف الحقّ، وخابط الغي من ادهان ولا إيهان»(52) أي إنّي لا أتهاون ولا أضعف عند قتال المخالفين المانعين للحقّ والمخالفين له، فهو(عليه السلام) لا يتساهل معهم ولا يلين لهم، لأن الجدّ والحزم والصرامة عامل من عوامل الانتصار، إنكه(عليه السلام) يدعو ولده الحسن(عليه السلام) إلى أن يعطي الجهاد في سبيل الله حقه فيرى(عليه السلام) كما ينقل لنا نهج البلاغة، أن من ينهض لله ينتصر لا محالة يقول(عليه السلام): «من أحدّ سنان الغضب لله قوي على قتل أشداء الباطل»(53).

كما إنّه أوصى المقاتلين والجند الرابضين على الثغور بعدم الغفلة في ساحة الحرب والإنصراف عن النوم وقال: «ولا تذوقوا النوم إلاّ غراراً أو مضمضة»(54)أي لا تركنوا إلى النوم، وإن نمتم فليكن نومكم كالصائم المتمضمض بالماء ليطرد عنه العطش من غير أن يشرب من الماء شيئاً، والجندي كذلك لو أراد طرد النعاس من عينيه فعليه أن يتمضمض بالنوم لكيلا يجد النوم إلى عينيه سبيلا.

إن للجندي أن يتمضمض بالنوم في ساحة المعركة لا أكثر، ذلك لأ نّه لو نام فإن العدو يقض وسيغتنم الفرصة ليقوم بالهجوم عليه، إن تمضمض الجندي بالنوم هو في الحقيقة أحد الواجبات العسكرية التي تؤكدها الحكمة العملية في نهج البلاغة حيث يقول الإمام عليّ(عليه السلام): «لا تذوقوا النوم إلاّ غراراً أو مضمضة» فالجندي بالإضافة إلى أ نّه مكلف بعدم الغفلة في جهاده الأصغر مكلّف أيضاً بعدم الغفلة في جهاده الأكبر، إذ ينبغي لسالك طريق التربية والتعلم أن لا يغفل وأن يكون يقظاً، فليس صحيحاً أن ينام الجندي في ساحة المعركة، كما أ نّه ليس من الصحيح أن ينام أو يغفل الشخص السالك لطريق التعلم على سبيل النجاة والعاكف على تهذيب نفسه وتربية روحه، إذ غفلته تمهّد للعدو الباطني سبيل الهجوم.

إن الشيطان عدو للنفس وذو روح انتقامية، فهو يبدأ بالهجوم على الإنسان من داخل النفس ليجعله عبداً للشهوة أو للغضب، لذلك يحسن بالإنسان وهو في حربه الظاهرية أم الباطنية، في جهاده للأهواء أن لا يغفل لحظة واحدة، وأن يدفع سلطان النوم بالمضمضة لا بالشرب «لا تذوقوا النوم إلاّ غراراً أو مضمضة»، ولأميرالمؤمنين(عليه السلام) ارشاد آخر في مجال الحكمة العملية بخصوص الحرب يقول فيه: «وإن أخا الحرب الأرق، ومن نام لم ينم عنه»(55) أي إن رجل الحرب رجل يقظ إذ لا يتلاءم القتال مع النوم ولا يجتمع، ولو نام المقاتل فإن نومه سيؤدي به إلى الهزيمة، وذلك لأن غريمه يقظ «من نام لم ينم عنه» إن العدو لا ينام لحظة نوم، خاصة إذا كان العدو داهية ومن أهل الخدعة والمكر، إنّه يتحين الفرصة ليهجم من كلّ جانب.

لقد جاء في احدى رسائل الإمام عليّ(عليه السلام) التي أرسلها إلى أحد ولاته وهو يصف فعل معاوية بفعل الشيطان الّذي أشار الله سبحانه في القرآن الكريم إلى كيفية ونمط ودائرة نفوذه، وأ نّه يقوم بهجومه من الجهات الأربع قال تعالى حكاية عنه: (ثُمَّ لاَتِيَـنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ)(56)أي أن الشيطان يأتي من الأمام ومن الخلف ومن اليمين ومن اليسار، فهو يهجم من الجهات الأربع وفي هذا كتب أميرالمؤمنين(عليه السلام) إلى زياد ابن أبيه حينما بلغه أن معاوية كتب إليه يريد استلحاقه به وخديعته: «وقد عرفت أن معاوية كتب إليك يستنزل لبّك، ويستغل غربك، فاحذره فإنّما هو الشيطان يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله ليقتحم غفلته، ويستلب عزّته»(57).

إذن فالعدو المتحامل غيظاً يحاول الهجوم من جوانب عدة، أمّا النائم الغافل فإنّه يؤتي ويتضرر من محل غفلته.

ويقال أن الطائر حينما يصاب بالرمية لا يصاب إلاّ حين غفلته عن ذكر الله، وهكذا الإنسان حيث لا يصاب بسوء إلاّ حين غفلته، ولهذا يقول عليّ(عليه السلام): «إن أخا الحرب الأرق، ومن نام لم ينم عنه» فالمقاتل هو من كان أخاً للحرب ومعايشاً لملابساتها وتفاصيلها، وأن يكون أرقاً يقظاً، إذ من يرد الهجوم على الأهواء في حربه الباطنية وهو غافل فإن العدو يقظّ وسيهجم قبل أن يقوم بهجومه وهذا هو الّذي حدا بأميرالمؤمنين(عليه السلام) إلى أن يوصي ولده الحسن(عليه السلام)بقوله: «وقوّه باليقين ونورّه بالحكمة» أي لا تسمح لقلبك بالنوم وبالغفلة، ولا يخفى أن لهذه الاُمور دور مؤثر في وضع الخطوط العامة للجهاد الباطني والظاهري.

لقد أوصى أميرالمؤمنين(عليه السلام) ولده الحسن(عليه السلام) في أن يعطي الجهاد حقه وأن لا يقصر في قباله، سواء كان جهاده مع العدو الظاهري أو كان مع العدو الباطني «ولا تأخذك في الله لومة لائم» أي لا تدع أن يترك لوم الناس أثراً على الخطوة التي تريد أن تخطوها على طريق مرضاة الله أو العمل الّذي تريد كتابته، ذلك لأن اللوم سهم يريد ايقاف حركتك ومسيرك، فكن يقظاً لكيلا ينال ذلك، ولتعلم أن سهم اللوم لا يصيب قلب العاقل قوله(عليه السلام): «أيّها الناس اعلموا أ نّه ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه، ولا بحكيم من رضى بثناء الجاهل عليه»(58).

أي لا يكون حكيماً من يفرح بمدح الجاهلين اثر تلقيبه بلقب ما أو مدحهم إيّاه أو تكريمهم أو تعظيمهم أو ثنائهم له، كما لا يكون حكيماً من يترك ساحة الحرب لتهمة أو لافتراء افتري عليه، فيتنصل من التكليف والواجب بسبب سماعه لكلام باطل صدر من ظالم أو من جاهل.

إن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يوصي ولده الحسن(عليه السلام) بأن طريق الله الّذي تسير عليه محفوف بلوم الناس يقول(عليه السلام): «ولاتأخذك في الله لومة لائم وخض الغمرات للحقّ حيث كان» أي إذا كان سعيك من أجل الحقّ فسر إلى نهاية المطاف وسترى أن هذا السير لا ينقص منك شيئاً، إذ الروح التي تريد السمو والتألق لابدّ لها من أن تتخلّى عن الجسد الترابي، فليس للإنسان التفريط بروحه، وله التفريط بالجسم، حيث باستطاعته التضحية به، وبالتضحية به تزهر الروح «وخض الغمرات للحقّ حيث كان وتفقّه في الدين» أي تفاعل مع الدين تفاعلا صحيحاً، والفقه كما هو معلوم هو الفهم الدقيق، والدين هو اُصول الدين وفروعه، وهو أيضاً الحكمة النظرية والحكمة العملية.

نأمل أن تكون هذه المواعظ الحكمية لأميرالمؤمنين(عليه السلام) عامل نصح وإرشاد للجميع وأن تبعث في قلوبنا قوة اليقين ونور الحكمة.

لقد تشعبت موضوعات الحكمة النظرية والحكمة العملية في نهج البلاغة إلى شعب عديدة، حيث تناولنا ـ سابقاً ـ عدداً منها، واشتمل القسم المهم من الحكمة النظرية على اثبات ذات الحقّ تعالى، وعلى اثبات صفاته الذاتية وأسمائه الحسنى، كما اشتمل القسم المهم الآخر من الحكمة العملية على تهذيب النفس وتزكيتها وتربيتها.

أمّا فيما يتعلق بالحكمة النظرية فإن استدلال أميرالمؤمنين(عليه السلام) في مجال الواجب وصفاته تعالى يبدأ من وجود الحقّ لينتهي بوجود الخالق، فأينما كان هناك وجود ولم يكن عين ذلك الشيء فإنّه سيكون وجوداً محتاجاً إلى مبدأ بمنحه الوجود، وأينما وجد موجود أو حادث فإنّه سيكون محتاجاً إلى مبدأ قديم وأزلي، وهكذا كلما وجدنا وجوداً محدوداً فإن ذلك سيكون دليلا على الوجود المحض غير المحدود.

إن صفة اللامحدودية هذه هي من صفات الواجب التي اعتمد عليها أميرالمؤمنين(عليه السلام) في نهج البلاغة، وهذا يعني أن كتاب نهج البلاغة أكد على عدم محدودية الله أكثر من أي شيء آخر، حيث جعل اللامحدودية حداً وسطاً وقاسماً مشتركاً للكثير من البراهين التي تثبت صفات الله لله، وقد سلّطنا الضوء على هذا الموضوع ـ إلى حد ما ـ فيما سبق، كما ثبت بالمنطق الرياضي وبالقوانين والاُصول الديالكتيكية أيضاً أن لا سبيل للحركة إلى إله يكون وجوده محضاً ويكون فوق الحركة والسكون ومنزهاً عن التحول والتغيّر، كما لا سبيل لها إلى وجوده وإلى الصفات الذاتية لذلك الوجود، فالموجود الّذي يكون حائزاً لهذه الخصائص لا يمكن اثباته باُصول الديالكتيك ولا بالمنطق الرياضي الّذي تمّ شرحه ـ إلى حد ما ـ قليلا. واستمراراً لذلك التقصي والبحث نتناول هنا بعض الأوصاف التي وصف الإمام عليّ(عليه السلام) بها الله تبارك وتعالى في النهج حيث قال: «وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له»(59).

وقد مرّ تناول هذا الموضوع لدى شرح «لا إله إلاّ الله» وأ نّها أي «لا إله إلاّ الله» ليست عبارة مركبة من قضيتين من نفي واثبات، ومستثنى منه ينفي الآلهة الاُخرى ليثبت وجود الله سبحانه، إن الأمر ليس كذلك فليس معنى «لا إله إلاّ الله» أ نّه لا إله موجود إلاّ الله، بل إن «لا» بمعنى غير، أي لا وجود للآلهة الاُخرى غير الله الّذي تقبله الفطرة، فالعبارة إذن لا تعني أن ننفي الآلهة أوّلا ثمّ نثبت الله، أن «لا إله إلاّ الله» لا تعني أن ينفي الإنسان الآلهة الموهومة، ثمّ يثبت الله الحقيقة، بل معناها هو أن لا وجود للآلهة غير الله الّذي تقبله الفطرة، ففي البدء يتم اثبات التوحيد ثمّ يعقبه نفي الشريك، لا أن ننفي الطاغوت ثمّ نثبت التوحيد، كما لا تعني أن ننفي الآلهة الموهومة ثمّ نثبت الله الحقيقة، ذلك لأ نّه إذا لم يكن هناك أصل توحيدي فإنّه سوف يكون هناك سبيل نفي الآلهة الموضوعة.

يقول(عليه السلام): «وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له» أي لا يوجد أي مبدأ غير الله، وأ نّه سبحانه لا يقبل المشاركة أي أن فرض الشريك عليه هو فرض المحال لا أ نّه فرض محال لأ نّه إذا كان الله حقيقة غير محدودة فلا محل لفرض إله آخر، إذ فرض الآخر يكون في حالة كون الأوّل محدوداً، وإذا كان الأوّل محدوداً فإنّه يمكن للإنسان أن يملِ هذا الفراغ بفرض الثاني، أمّا حينما لا يكون محدوداً فإنّه سوف لن يكون هناك فراغاً كما إنّه سوف لن يكون درجة من درجات الوجود هذا إلاّ أن تكون للأوّل إحاطة به، إذن لا مكان للغير وأن فرض الشريك لإله ليس بمحدود هو فرض المحال لا إنّه فرض محال.

ثمّ يقول(عليه السلام): «الأوّل لا شيء قبله»(60) فالأول اسم من الأسماء الذاتية لله وأ نّه سبحانه هو الأوّل يقطع النظر عن كلّ الأشياء، إذ أن الأولية هي صفة ذاتية لله، وإذا كانت كذلك فسوف لن يوجد شيء ليكون أوّلا غير الله، لماذا؟ لأ نّه لو كانت الأولية عين ذات الله ووجدت هذه الأولية في غيره فإن ذلك سوف يعني سلب الشيء عن نفسه، ولهذا يقول(عليه السلام): «لا شيء قبله» إذ لا يمكن لشيء أن يكون قبل الأوّل بالذات، ومن هذا نستنتج أن الله هو المبدأ الأوّل، وأ نّه وحده صاحب الدرجة الوجودية الاُولى، وهنا تجدر الإشارة إلى أن عدد الأوّل لا يجري عليه ولو جرى عليه وكان قابلا للثاني لما كان أوّلا.

إذ الأوّل القابل للثاني هو الأوّل الرياضي العددي، أمّا المنزه عن الكمية فأوليته سوف لن تكون عددية رياضية، وبناءً على هذا فإن الله ليس أوّلا بنحو يكون له آخر غيره، وإنّه ليس أوّلا ليكون له ثان «والآخر لا غاية له»(61) أي إذا كانت الآخرية ذاتية للحقّ فإنّه لا شيء غير الله لا بعده ولا وراءه.

إذن لا نهاية له لأ نّه إذا كان كمالا غير محدود، فلا مسوغ لفرض وجود لما وراء الكمال اللامحدود، إذ الفرض يعني أن الله كامل إلى حد معين، ويتلو هذا الحد كمال آخر، أو أن يكون له وجود إلى حد معين ثمّ يكون بعده، وجود آخر، إن فرضاً كهذا هو فرض المحال أيضاً، ولهذا نجده(عليه السلام) يصف الله سبحانه بأ نّه الآخر لا غاية ولا نهاية له، كما لا مقصود ولا مراد سواه.

إن ذاتاً كهذه هي ذات غير محدودة، ولما كانت غير محدودة فإنّها لا تتأطر في اطار شهود العارف ولا في اطار الفيلسوف، لمكان محدوديتهما، فلا سبيل لبلوغ كنه الحقّ بالأفكار الدقيقة المعمّقة، ولا بالمشاهدات العرفانية، كما لا يمكن الحصول على أي طريق آخر يؤدي إلى هذا الكنه، يقول(عليه السلام): «لا تقع الأوهام على صفة»(62) فلا حركة العقل قادرة على أن تصف الله بما هو عليه ولا أن تدركه: «ولا تعقد القلوب منه على كيفية»(63) أي ولا القلوب هي الاُخرى قادرة على إدراكه ضمن كيفية معينة، لأن القلب نفسه والشهود والكيفية كلها جميعاً خاضعة لهيمنته وإحاطته.

وإذا كان الله غير محدود فيعني أ نّه محيط بفكر المفكر وبذاته وفكرته، بالضبط مثلما هو محيط بشهود العارف وبذاته وعرفانه، لذلك لا العارف ميسّر له أن يسلك طريق الشهود إلى كنه ذات الحقّ، ولا الفيلسوف متاح له ذلك.

وقد ذكر في أحد المجامع الروائية ما يوافق ما نقله المحقق الداماد رضوان الله عليه، أ نّه سئل الإمام المعصوم سلام الله عليه «كيف هو» أو «حيث هو» أي ما هي كيفيته سبحانه، وما هي حيثيته؟ فأجاب(عليه السلام) بأن الله خالق الكيف والحيثية، ولهذا فلا سبيل للكيف ولا للحيث إليه سبحانه، إنّه حيث الحيث بلا حيث له، وعندما نتساءل كيف الله وما هو؟ فإن نفس ما هو وكيف هو مخلوقة لله تعالى، فنفس التساؤل مخلوق له عزّ وجلّ، وكلّ الأسئلة ومعها فكر السائلين هي الاُخرى مخلوقة لله، وبديهي أن ما يكون مخلوقاً له سبحانه لا يكون محيطاً به، ولا مهيمناً عليه، إذن فلا الحسابات العقلية ولا المشاهدات القلبية يمكنها أن تجد لنفسها سبيلا إلى كنه ذات الله.

ثمّ يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام): «ولا تناله التجزئة والتبعيض»(64) أي لا جزء له ولا بعض لأ نّه بسيط، فلا يمكن لأحد أن يزعم بأ نّه عرف بعض الله، كما لا يمكن فرض البعض عليه، ذلك لأن الشيء المشتمل على التبعيض يكون مركباً من أبعاض ومحتاجاً لأن تكون له أبعاد، فلابدّ لتلك الأجزاء من أن تكون متناسقة متجانسة ليتشكل الشيء المركب بكامله، وبديهي أن الشيء المحتاج إلى غيره لا يكون إلهاً. إذن فلابدّ من أن يكون الله وجوداً مجرداً غير محدود: «لا تناله التجزئة والتبعيض، ولا تحيط به الأبصار والقلوب» فلا العين ولا القلب ولا البصر ولا البصيرة ولا العقل ولا الشهود ولا الفيلسوف ولا العارف يمكنهم الإحاطة بالله. والسبب هو لأن الله غير محدود ولو أراد محدود الإحاطة بما ليس بمحدود للزمه أن يكون غير محدود، وأن يكون غير المحدود محدوداً، في حين أن غير المحدود لا يمكن أن يخضع لإحاطة أحد: «ولا تحيط به الأبصار والقلوب» باعتبار عدم محدوديته، أمّا علامة لا محدوديته فليست أ نّه موجود مع الإنسان في كلّ الحالات، وأ نّه موجود مع الجميع في كلّ الأوضاع وأ نّه (وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَ مَا كُـنْتُمْ)(65) فحسب بل لأ نّه موجود مع كلّ فرد في كافة حالاته السابقة واللاحقة وبمستوى واحد.

جاء في دعاء السفر ـ وهو دعاء تستحب قراءته عند السفر ـ حيث أورده أميرالمؤمنين(عليه السلام) في احدى خطبه منسوباً إلى الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم): «اللّهمّ أنت الصاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل»(66) أي إلهي إننا إذ نستودعك الأهل والولد عند السفر ونأتمنك عليهم فإنّك معنا في نفس الوقت الّذي أنت فيه معهم، فأنت الرفيق للمسافر وال خليفة في أهله.

وقال(عليه السلام) في ذيل هذه العبارة التي ينقلها عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) «ولا يجمعهما غيرك» أي لا تجتمع هاتان الصفتان إلاّ في الله سبحانه، فممن الممكن أن يكون غير الله رفيقاً في السفر إلاّ أ نّه لا يمكن أن يكون نفسه أيضاً خليفة في الأهل، فليس لرفيق المسافر أن يكون هو نفسه الخليفة في الأهل والرفيق للمسافر في آن واحد، إذن من يكون رفيقاً في السفر لا يكون خليفة، ومن يكون خليفة لا يكون رفيقاً.

إن أميرالمومنين(عليه السلام) يقول إلهي ليس لغيرك أن تجتمع هاتان الصفتان في وقت واحد فقد يكون شخص ما رفيقاً في السفر ويكون شخص آخر خليفة، أمّا أن يكون نفس الشخص رفيقاً في السفر وخليفة في الأهل في وقت واحد فغير ممكن بل محال.

إنّ عليّاً(عليه السلام) يرى أن هاتين الصفتين لا تجتمعان إلاّ في الله تعالى: «ولا يجمعهما غيرك» والسبب هو: «لأن المستخلف لا يكون مستصحباً، والمستصحب لا يكون مستخلفاً»(67) فمن كان صاحباً لمسافر ما لا يكون مستخلفاً، ومن كان خليفة عند أهله لا يكون رفيقاً له في السفر، ولكونه محدوداً، فإذا كان المحدود معنا لا يمكنه أن يكون خليفة، وكذا إذا كان خليفة لا يمكنه أن يكون معنا، إنّه لا يمكن أن يكون موجوداً في الأمام وفي الخلف في وقت واحد، وما ذلك إلاّ لله تعالى، حيث من الممكن أن يكون مرافقاً للإنسان في السفر وخليفة له عند الأهل، والسرّ في ذلك هو عدم محدودية وجوده سبحانه، وأ نّه محيط بالأهل وبالمسافر معاً لعدم محدودية وجوده، فهو سبحانه يقضي حوائج أهل المسافر المتروكين في المنزل، مثلما يقضي احتياجات المسافر التي تعترضه في الطريق.

إذن «ولا يجمعهما غيرك» لأن غير الله لو كان مرافقاً لم يكن خليفة، كما أ نّه إذا كان خليفة لا يكون مرافقظ اً، وهذا هو معنى كونه تعالى الأوّل والآخر، والظاهر والباطن، إن عليّاً(عليه السلام) يؤكد حقيقة أن الله أوّل في عين الحال الّذي هو فيه آخر ولا يمكن أن يكون هناك موجود غير الله يكون أو لا يكون آخراً في وقت واحد، كما لا يمكن أن يكون هناك موجود غير الله ظاهراً وباطناً في وقت واحد، إذ أن الشيء إذا ما صار أوّلا فإنّه لا يكون آخراً، وإذا كان ظاهراً فإنّه لا يكون باطناً لمكان محدوديته، وكذا إذا كان باطناً فإنّه لا يكون ظاهراً لمحدوديته أيضاً، أمّا إذا كانت هناك حقيقة غير محدودة فإنّها سوف لن تدع مكاناً للغير ليملِ ذلك المكان أو تكون لها واحدة من تلك الصفات، لذا فهو الأوّل باعتبار أن كلّ الفيوضات صادرة عنه، وأ نّه نفسه الآخر باعتبار أن كلّ الموجودات تتحرك باتجاهه.

إن صدر المتألهين يثبت في كتابه المبدأ والمعاد نحواً من الحركة الدقيقة والرشيقة لاُولئك الذين يتحركون باتجاه الله سبحانه وهم في قالب الطبيعة والمادة، وكذا لاُولئك الذين يتحركون باتجاهه وهو في عالم ما فوق الطبيعة، وعلى أية حال فإن كلّ ما هو موجود مضطر ومحتاج لله، لأ نّه كمال غير محدود، إذ ما من شيء إلاّ هو نازل منه سبحانه، باعتباره المبدأ الأوّل لجميع الفيوضات، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذين الموضوعين في قوله تعالى: (يَسْأ لُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلَّ يَوْم هُوَ فِي شَأن)(68) فكافة الموجودات سواء التي في السماء، أم التي في الأرض تستمد العون والحاجة منه، وله في كلّ يوم فيض وشأن جديد فمثلما أن كلّ الإحتياجات والطلبات جديدة فإن لله سبحانه في لحظة فيض جديد يلبي به كافة الطلبقات ويجيب عليها، فمن جانب حاجة ومسألة ومن الجانب الآخر عطاء ومنح للوجود، وبناءً على هذا التحليل يرى أميرالمؤمنين(عليه السلام) أ نّه لما كانت الأولية ذاتية له فإنّه لم يبق مكان للغير ليكون أوّلا، ولما كانت الآخرية ذاتية له لم يبق مكان للغير أيضاً ليكون آخراً.

يقول(عليه السلام): «الأوّل قبل كلّ أوّل»(69) وقبليته هذه هي الاُخرى ذاتية أي أن الله أوّل قبل أن تتصف بقية الموجودات بصفة الأوّل، وهذا يعني أو أولية الموجودات أولية نسبية محدودة غير مطلقة، ثمّ يقول(عليه السلام): «والآخر بعد كلّ آخر» أن الله موجود بعد كلّ نهاية.

من هذا نفهم أن الجميع يتحركون باتجاهه سبحانه وتعالى، فواحد يثبت المبدأ والتوحيد والآخر يثبت المعاد والقيامة، ذلك لأن وجودهم ليس عين ذاتهم، فالجميع محتاج إلى المبدأ المانح للوجود، ولما كان الجميع متحرك نحو الكمال، فإن الجميع متجه نحو القيامة، ونحو اليوم الآخر. ولابدّ لعالم الطبيعة المتلاطم الأمواج والمتحرك من يوم ترسو سفينته فيه.

وهنا للقرآن الكريم تعبير دقيق عن يوم القيامة حيث يسأل الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) عنه: (يَسْأ لُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أيَّانَ مُرْسَاهَا)(70) فالسؤال هو متى سترسو سفينة الطبيعة؟ وأين سيكون وقوف الدنيا؟ ومتى سيهدأ بحر الطبيعة والمادة؟ هذا البحر الهائج المائج المتحرك؟ متى ستسقر هذه السفينة وهي بهذا الإنهماك والسير؟ وبالتالي متى ستنتهي الحركة إلى الهدف؟ حيث لا حركة من غير هدف، وإذا ما كانت هناك حركة ولم تبلغ مكاناً ما فإنّها حركة غير هادفة، أمّا عالم المادة والطبيعة المتحرك فإنّه متّجه صوب هدف، وما أن سيبلغ الهدف والغاية فإنّه سيهدأ ويستقر.

لأميرالمؤمنين(عليه السلام) قول آخر في مجال توضيح معنى الآية الشريفة الآنفة الذكر هو : «وإن اليوم عمل ولا حساب»(71) والمعنى هنا باليوم هو الدنيا التي هي يوم عمل لا يوم حساب، «وغداً حساب ولا عمل»(72) أي أن غداً هو يوم القيامة يوم حساب لا يوم عمل، وسيكون يوم القيامة محلا لمحاسبة نتائج الأعمال التي تحصل عليها في الحياة الدنيا.

إن عليّاً(عليه السلام) يوضح أن الدنيا دار عمل لا دار حساب، أمّا القيامة فدار حساب لا عمل، إذن فالسفينة الممتلئة بالعمل الهائل ستصل إلى عالم الحساب وسترسو على ساحله حيث سيكون هناك استقرارها، أمّا الحركة يوم القيامة فهي ليست بالمعنى الّذي عليه في الدنيا، وكذا التبدّل والتغيّر والعمل، وقد كان استدلال أميرالمؤمنين(عليه السلام) في أصل البحث على النحو التالي: «وبأوليته وجب أن لا أوّل له»(73) أي أ نّه لما كان أوّلا ذاتاً فلا يمكن أن يكون هناك أوّل غيره أو قبله وإلاّ لاستلزم سلب الذات منه «وبأخريته وجب أن لا آخر له»(74) أي لما كان آخراً ذاتاً فليس من الممكن أن يكون له آخر، وإذا ما وجد شيء غيره وكانت له نهاية فإنّه سوف لن يكون هو، لأن سلب الآخرية من الله سبحانه تعني سلب الذات منه،وسلب الشيء من نفسه محال، وما دامت الآخرية ذاته فإنّه لا آخر له، وهكذا أوليته.

ثمّ يقول(عليه السلام): «وأشهد أن لا إله إلاّ الله شهادة يوافق فيها السرّ الإعلان، والقلب اللسان»(75) أي إنّني أشهد بهذا التوحيد شهادة يوافق فيه سري وباطني وضميري الإعلان ويوافق فيه قلبي اللسان، فإذا ما وحّدت الله تعالى بلساني فإنّي قلباً موحد أيضاً، إن التوحيد ـ في الحقيقة ـ راسخ في قلب أميرالمؤمنين(عليه السلام)وإنّه من الراسخين في العلم، حيث أحاط علم التوحيد به إحاطة كاملة، فلا يفكر إلاّ في الله ولا يسعى إلاّ لمرضاته، ولا يعمل إلاّ بتعاليمه وإرشاداته.

إن التوحيد إذا رسخ في قلب موحّد فإنّه سوف لن يدفعه يفكّر بغير ما يحبّه الله، بل ولا يساوره ذلك، فهو لا يصطبغ بصبغة لا يرتضيها الله، ولا يعمل ما لا يحبه، وعليّ(عليه السلام) حينما يقول إنّي أشهد بالتوحيد شهادة يطابق ف يها الباطن الظاهر ويتطابق اللسان فيها مع القلب فإنّه يعني أن التوحيد لم يكن لينطق به اللسان فحسب، بل استوعب روحي وملء قلبي، وإنّه لم يكن ليملك ظاهري فقط، بل أحاط بباطني أيضاً، إنّه(عليه السلام) يقول إذا كان الله ذاتاً ظاهراً أو ذاتاً باطناً فإنّي موحّد في الظاهر وموحد في الباطن أيضاً، وإذا كان الله أوّلا وآخراً، فإنّي معترف بلساني بهذه الوحدانية لله ومقرّ بها مثلما أ نّي مقرّ بلسان قلبي، فكما أن شيئاً لو حل في مكان وانتشر فيه فإنّه سوف لن يبقى محل لغيره، وهكذا هو الوجود اللامحدود لله لم يبق محلا لغيره، فلا شريك له، لأن التوحيد إذا غمر قلب موحّد فإنّه سوف لن يدع مجالا لغيره سواء كان هذا الغير باطنياً أم ظاهرياً، وسواء كان هوى للنفس أم غير ذلك، أي سواء كان رغبة باطنية أو رغبة ظاهرية، إنّه يحول دون انخداع الإنسان بخدع الباطن، كما أ نّه يحول دون تأثير للمكر الظاهري في النفس، والسبب في كلّ ذلك هو عدم وجود محل للغير، إن رسوخ التوحيد في نفس الإنسان لن يبقي محلا للمكر، ولا يسمح له بالتحرك من الداخل أو بالهجوم من الخارج، وبهذا لا يتعرض الإنسان لاعتداءات العدو الظاهري ولا لاعتداءات العدو الباطني، ذلك لأن التوحيد قد غمر ساحة الوجود كلها.

يقول الصادق(عليه السلام): «جاهد هواك كما تجاهد عدوك»(76) أي قاتلوا أهواءكم وميولكم الباطنية مثلما تقاتلون الأعداء الظاهرين، ولو هجمت نزوة أو هوى من الداخل ووفقت في هجومها فإنّها تكون قد وجدت لها محلا خالياً في القلب، وهذا المحل هو من نوع ذلك الهوى وذلك المكان الّذي جاءت وانطلقت منه، ولكن إذا غمر الاعتقاد بوحدانية الله كلّ ساحة النفس، وغطّى التوحيد صفحة القلب ونوّره فإنّه سوف لن يكون هناك محل للهوى.

إن عليّاً(عليه السلام) يستدل على ما تقدم حيناً بقوله: «والله إنّي ليمنعني من اللعب ذكر الموت، وإنّه ليمنعه من قول الحقّ نسيان الآخرة»(77) أي أن الفرق بيني وبين معاوية هو أن ذكر الحقّ يمنعني عن قول الباطل، أمّا ما يمنع معاوية عن ذلك فهو نسيان الآخرة، إن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يقول إن اشتغالي بذكر الموت الّذي هو حدّ للآخرة وبوابة ومدخل لعالمها حيث يرسو عالم الطبيعة فيها ويستقر في شواطئها، لم يدع لي فرصة الإشتغال باللعب، إذ التوحيد الغامر لساحة النفس لن يدع للنزوة وللهوى محلا ولا مكاناً، وبالإضافة إلى ذلك فإنّه يحول بين الإنسان وبين الخوف من العدو الداخلي والخارجي، وإذا حاول العدو البحث عن ثغرة للنفوذ فإنّه سوف لن يفلح حتى لو مارس النفوذ من خلال القيام بعملية هجومية، إذ أن العدو تارة يكون قد احتل موقعاً على الأرض وتارة يحاول التوغل في الأراضي وفتح ثغرة فيها بهجوم يقوم به.

إنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) يقول إن ساحة نفسه مغمورة بالتوحيد لا يوجد فيها أي محل خال لينفذ إليه العدو، أو ليكون مستقراً فيه، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن أهل الثغور يكونون يقظين ولا ثغرة ـ في أوساطهم ـ مفتوحة للعدو كي ينفذ منها أو يخترقها، والسبب ـ كما قلنا ـ هو أن التوحيد إذا غمر ساحة النفس فإنّها ستكون يقظة في كلّ جوانبها، وهل لروح الإنسان من نوم؟ إنّها في حالة يقظة سواء كان الإنسان يقظ أو نائم، ذلك لأن الروح لا تنام، ولو نام الإنسان فإن مقداراً جزئياً من الروح هو الّذي ينفصل عنه على شكل نوم، وإلاّ فإن الارتباط بين الروح والبدن لو انقطع بنحو كامل فإن ذلك يعني الموت.

إن الموت هو خروج الروح من البدن، وانعتاقها من سجنه، هذا السجن الّذي يخرج منه قدر من الروح عند النوم، أمّا عند الموت فإن الروح تخرج بأكملها، إذن فلا تنام الروح مطلقاً، كما أن الروح إذا لم تكن موحدة فإنّها ستكون عرضة للأخطار، فمثلما أن كثيراً من الكمالات ينالها الإنسان غير عالم النوم فإنّه في نفس الوقت يكتسب عبر هذا العالم الكثير من الموبقات التي يبتلى الإنسان بها إثر وساوس الشيطان التي يوسوس بها في النفس.

والنفس الملوثة السيئة لو استيقظت فإنّها ستلوث البدن الملوث أكثر.

إن أميرالمؤمنين(عليه السلام) ولكي يثبت أن لا سبيل للعدو إلى الأشخاص اليقظين: «وإن أخا الحرب الأرق، من نام لم ينم عنه» فرجل الحرب المقاتل يقظ عادة وذلك لتلازم الحرب واليقظة تلازماً لا ينفك، فمن نام لم ينم العدو عنه، بل ويحاول استغفاله إذ من عادة الشيطان استغفال الإنسان من النافذة والطريق الذي لم يبصره، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الخطر في قوله تعالى: (إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ)(78) أي أن الشيطان وأعوانه يرونكم من المكان الّذي يشكل عليكم رؤيتهم منه، إنّهم يستغفلون ويوسوسون ثمّ يهجمون عليكم، أمّا إذا عرف الإنسان الطريق الّذي يسلكونه، وأحكم سيطرته على كافة منافذه ومساراته فإنّه سوف لن يستغفل، وسيرى الشيطان ببصيرته لا ببصره، ولهذا يرى عليّ(عليه السلام)، أن الإنسان المقاتل يقظ لا ينام، ويدقق النظر في خاطرة تخطر بباله، وهو بهذا مصداق لقوله تعالى: (إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ)(79).

أي أن الإنسان المتّقي يتمتع برؤية توحيدية قادرة على إيقاظه فور تعرض نفسه لأدنى مواجهة شيطانية تريد مسها بسوء فيتنبه ويقوم بطردها.

إن عليّاً(عليه السلام) يشبه روح المؤمن بالكعبة ويرى أن الشيطان لو أراد الطواف حول كعبة القلب ودخلها بلباس الإحرام، وأراد فتح طريق الوسوسة إلى القلب، استيقظ المؤمن وتنبه قلبه (إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا) أي اُولئك المتحلّون بالتقوى (إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ) أي إذا أراد طائف شيطاني أن يقوم بمواجهة ما، ويطوف حول كعبة القلب (تَذَكَّرُوا) أي أ نّهم فهموا واستيقظوا أ نّه الشيطان جاء بهيئة طائف يدور حول كعبة القلب ليجد له طريقاً إليه(فَإذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) أي متذكرون مستيقظون وناظرون إليه ومستعدون لدفعه ومواجهته، وما دعوة القرآن الكريم إلى الاستعاذة بالله من الشيطان إلاّ كالدعوة إلى الاحتماء بالملاجىء عند اعلان الخطر، ولا يكفي أن يقول الإنسان عند حدوث خطر ما «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» فحسب، بل لابدّ له من الاحتماء بملجأ والملجأ من هذا الخطر هو التوحيد.

إن رسوخ التوحيد في قلب الإنسان يعني أ نّه توفر على الملجأ المطلوب ممّا سيحميه من نفوذ الآخرين إليه، لقد سلط أميرالمؤمنين(عليه السلام) الضوء على هذا الأمر ورسم هذه الصورة بعبارات مختلفة بليغة وقيمة، ففي خطبه له يصف بها المؤمن والعبد المخلص لله، المغمور بالعنايات الإلهية ويقول: «فزهر مصباح الهدى في قلبه»(80) أي أن مصباح الهداية أضاء قلبه فلم يعد مظلما، وبديهي أن الظلمة تمهد السبيل أمام العدو حيث يتّخذها ستاراً لمروره وهجومه، أمّا إذا كان الإنسان يقظاً فإنّه سوف لن يتمكن العدو من النفوذ إلى القلب، سواء أكان العدو باطنياً أو خارجياً.

ثمّ يواصل أميرالمؤمنين وصف هذا الشخص ويقول: «فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس» أي أن هذا الإنسان الموحّد له من اليقين بالتوحيد ما يؤهله لرؤية وحدانية الله كنور الشمس بلا وهم أو تردد «فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه» أي إن أوّل خطوة كان قد خطاها على طريق العدل، وفي مسار الخط الوسط هي طرد الهوى من ساحة النفس، وبديهي أ نّه بعد أن تمكّن من طرد العدو الباطني سيكون قادراً على طرد العدو الخارجي من غير عناء.

إن سحق الإنسان للعدو الباطني يؤهله لأن لا يخاف العدو الخارجي، حيث أن الخوف من العدو الخارجي ما هو إلاّ وسوسة يوجدها العدو الباطني في داخل النفس، لذا فإن الإنسان ما أن يدرك ويثق بأن التضحية بالنفس ستؤدي به إلى الحياة الأبدية فإنّه عندئذ سوف لن يخاف من شيء، لأن الوسوسة الباطنية هي التي تظهر العدو الخارجي عظيماً بالخوف.

ويواصل أميرالمؤمنين(عليه السلام) حديثه بالقول: «يصف الحقّ ويعمل به، لا يدع للخير غاية إلاّ أمها»، أي أ نّه لا يدخر وسعاً من أجل الخير إلاّ وبذله، ولا هدفاً إلاّ وسار إليه، وقد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه فكان قد رسخ القرآن الكريم ـ هذا الكتاب السماوي ـ في نفسه رسوخاً بحيث أصبح قائده ورائده وإمامه، كما أصبح هو الآخر جزء لا يتجزأ من أمه القرآن وتابع من تابعيه، فأخذ القرآن بيده «فهو قائده وإمامه»، وإذا صار القرآن إماماً للإنسان وقائداً وزعيماً فإنّه «يحلّ حيث حلّ ثقله» ويضع رحله حيثما يضع الحمل الثقيل للقرآن رحله، هذا الرحل ذو الثقل والوزن النفيس الغالي «وينزل حيث كان منزله» أي ويقف في كلّ موقف أراده القرآن، لماذا؟ لأن القرآن قد غمر روحه، فلم يبق محل خال للهوى لتكون أزمة الاُمور بيده، وإذا أمسك القرآن بأزمة اُموره وأصبح إمامه فإن الحكمة النظرية أي التوحيد، والحكمة العملية أي تهذيب وتزكية النفس وذكر الموت والمعاد ستسيران معاً خلف قيادة القرآن الكريم.

نأمل أن يجعل الله تعالى شأنه القرآن إمامنا والممسك بأزمتنا وقائدنا، نسأله ذلك بأهل بيت العصمة والطهارة(عليهم السلام)، وأن يمنّ ذلك بنحو خاص على المدافعين عن دولتنا الإسلامية في الداخل وفي الخارج بأحسن وجه، ويجعله من نصيب الجميع.

إن النتيجة المتمخّضة عن الحكمة والتي اعتمدها الكتاب والسنّة كثيراً فهي تهذيب النفس وتربيتها، فقد روي عن الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «رأس الحكمة مخافة الله» ذلك أن الخوف من الله هو أساس الحكمة وأبرز معالمها، والمقصود من الخوف هنا هو الخوف العقلي لا النفسي، أي ليس المقصود من الخوف الخوف من عذاب الله وجهنّمه المنبعث من حب الذات، بل المقصود منه الخوف العقلي الذي هو عبارة عن الخشية والتقديس للمقام اللامحدود.

قال تعالى: (ولمن خاف مقام ربّه جنّتان)(81) ولكي يكون الإنسان حكيماً ينبغي له أن يتعفّف عن السفاهة لعدم إمكان اجتماعهما مع الحكمة، كما أن السفيه لا يمكن له أن يكون حكيماً، ذلك لأن الحكمة هي أن يعرف الإنسان نفسه ويعرف بداية ونهاية الوجود، وأن يدرك أ نّه محتاج وأن لا يستعين إلاّ بذلك الخالق العالم بحاجته والقادر على قضائها، أمّا السفيه فهو الشخص الّذي لم يعرف نفسه ولم يدرك أ نّه محتاج، ولم يعرف من الخالق القادر على قضاء حاجته لعدم رجوعه إلى ربّه أو أ نّه إذا رجع إلى أحد فإنّه يرجع إلى من هو مثله.

وقد جاء في الصحيفة السجادية عن السجاد(عليه السلام): «ورأيت أن طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه وصلة من عقله»(82) أي أن المستعين بغيره ما هو إلاّ مستعين بمحتاج مثله، وما طلبه للشيء من غيره إلاّ لسفاهة فكره وقلة عقله، إذ السفيه الضال هو المحتاج لغير الله تعالى، والسبب في ذلك هو أن المستعان به محتاج كالمستعين غير قادر على قضاء حاجة محتاج آخر، وبما أن مصدر كلّ هذه السفاهات والمتاهات هو مكر الدنيا والتعلق بها فقد قال الأنبياء: «حب الدنيا رأس كلّ خطيئة»(83).

إن بحث هذا الموضوع ينبغي أن يتناول من منظار نهج البلاغة، فمع أن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يحذر في العديد من خطبه من خطر الدنيا إلاّ أ نّه يحلل الموضوع في خطب اُخرى ويبين فيها عدم قيام الدنيا بالخداع دائماً، وأن الإنسان ـ غير العاقل ـ هو الّذي ينخدع أمّا الدنيا فليست بخادعة، لأ نّها لا تعدو أن تكون وسيلة لا غير، وأ نّها لو كانت خادعة لتكتمت على الحقيقة وعلى الواقع ولأسدلت الستار بمكرها على مرارتها، إذ أن الخداع والمكر هو أن يكون هناك تصنّع وتظاهر بالجمال في نفس الوقت الّذي يكون فيه الشيء مراً ومفجعاً في باطنه وفي داخله، أمّا إذا كان هناك موجود يعلن عن الظاهر الجميل وعن الباطن القبيح معاً ويسلّط الضوء على عاملي الجذب والدفع، الفرح والغم في الأشياء فإنّه سوف لن يكون خادعاً.

إن الدنيا ـ في الحقيقة ـ وسيلة الخداع لا سببه، ولهذا ينبغي البحث عن المسبب الحقيقي وعن علته ومنع هذه العلة من الاستفادة من هذه الوسيلة، بل وسلبها منها، ومع أ نّه جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّ نْيَا)(84) وجاء في أقوال المعصومين(عليهم السلام) ما يتطابق معه، خاصة ما حذّر به أميرالمؤمنين(عليه السلام) من الدنيا ومن خداعها إلاّ أن عليّاً(عليه السلام) كان قد بحث هذا الموضوع بدقة وأكد على أن الدنيا لا تخدع مطلقاً وأن الإنسان هو الّذي ينخدع، وهو الّذي يجعل الدنيا وسيلة بيد الخداع والمكر من غير أن يلتفت، ومن هنا يكون عرضة للصدمات وللأضرار.

لقد تناول أميرالمؤمنين(عليه السلام) هذه المسألة في عدد من المواطن إجمالا واعتبر أن أصل الخداع ينبع من الدنيا، إلاّ أ نّه عند تحليله للموضوع يقول إن الأمر ليس كذلك.

يقول(عليه السلام) في خطبة له: «فعليكم بالجدّ والاجتهاد»(85) أي عليكم بالسعي وبذل الوسع، ثمّ يوصي(عليه السلام) ويقول: «والتأهب والإستعداد»، «والتزوّد في منزل الزاد»(86) أي عليكم بتهيئة الزاد وإعداده في عالم العمل الّذي نعيش فيه اليوم حيث لا فرصة بعد الموت.

قال تعالى: (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّ نْيَا) أي لا تخدعكم هذه الحياة الحقيرة الدانية السريعة الزوال بالرغم من أ نّها خدعت السالفين «كما غرت من كان قبلكم من الاُمم الماضية»(87) ثمّ يتابع كلامه(عليه السلام) ويقول: «فاحذروا الدنيا»(88).

وعلى أية حال فقد اتضح ـ فيما سبق ـ أن كلّ ما يصدّ عن الله هو دنيا، سواء كان ذلك مالا أو ولداً أو مقاماً أو تدريساً أو تأليفاً أو تدويناً لكتاب، فكلّ ما يحول بيننا وبين الله هو دنيا، وقد يبدو للإنسان في بعض الأحيان وهو متقمص لباس التأليف والتدريس أ نّه سائر في طريق الله، وإذا به يكتشف أ نّه كان يسير في طريق الشيطان ويخضع لولايته لأ نّه يلتذّ لإقبال الناس عليه، ويضطرب لإعراضهم عنه، إنّه يلتذ حينما يصغي المستمعون لكلامه، كما يلتذ لاحترامهم له، ويفرح لذكر اسمه بين الناس، ويحزن ويتألم عندما يغفل الناس ذكر اسمه ويعرضون عن ذلك، إنّه يلتذ حينما يصغي المستمعون لكلامه، كما يلتذ لاحترامهم له، ويفرح لذكر اسمه بين الناس، ويحزن ويتألم عندما يغفل الناس ذكر اسمه ويعرضون عن ذلك، إنّه يرغب في أن يشغل حيزاً في قلوب الناس قبل أن ينفذ قوله في قلوبهم، إن همّاً كهذا هو دنيا، وكلّ ما يصد عن الله فهو دنيا. وإذا ما كان الصادّ عن الله هو العلم فإنّه دنيا، ودنياً كهذه وحجاباً كهذا يكون أغلظ وأحلك وأمنع، يقول(عليه السلام): «فاحذورا الدنيا فإنها غدّارة غرّارة خدوع، معطية منوع ملبسة نزوع»(89)، انّها مكّارة خادعة تعطي حيناً وتمنع آخر، تلبس الشخص لباس المقام والسلطة تارة، وتسلبه تارة اُخرى.

ثمّ يصفها أميرالمؤمنين(عليه السلام) فيقول: «لا يدوم رخاؤها، ولا ينقضي عناؤها، ولا يركد بلاؤها»(90) أي أن الدنيا هي العالم الّذي لا استمرار ولا بقاء للراحة فيها، ولا انتهاء لمشقّتها ولا توقف لامتحانها ولبلائها، وتعبير الإمام(عليه السلام) هذا يتطابق مع بقية تعابيره التي يصف بها الدنيا على أ نّها عالم غرور، بل وانّها تغرّ الإنسان، إلاّ أ نّه(عليه السلام) مع هذا يقوم بتحليل هذا المعنى في الخطبة التي يستشهد فيها بقوله تعالى: (يَا أ يُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ)(91) ويرى أن الإنسان يغترّ بربّه تارة فينخدع بقوله إن الله غفور وأ نّه رحيم وأ نّه يعفو، في حين أن الأثر المرّ للذنب فوق طاقة البشر، يقول(عليه السلام) في هذه الخطبة العميقة الغور، إنّك إن أمعنت النظر جيداً فسترى أن الدنيا لم تخدعك «ما الدنيا غرّتك»(92) لعدم خداعها «ولكن بها اغتررت»(93) أي أ نّك أنت الّذي انخدعت، ولم تقم هي بعملية الخداع، فالسراب ـ في الحقيقة ـ لا يخدع ومن ينخدع به فهو غير عارف بالطريق ولا هو من أهله وأ نّه ممن يرى الشحم فيمن شحمه ورم «استسمن ذا ورم»، يقول المتنبي:

اُعيذها نظرات منك صادقة *** أن ترى الشحم فيمن شحمه ورم(94)

فورم اليد وانتفاخها لا يعني أ نّها معافاة، وأ نّها تتمتع بشحم ولحم، بل هو الورم أو الانتفاخ غير الطبيعي ليس إلاّ، ومثلها مثل السراب المشابه للماء، فإنّه لا يقوم ـ في الحقيقة ـ بالخداع. وعلى هذا فالدنيا وسيلة للعمل، فهي أعلنت بكلّ صراحة عن وجهيها، أعلنت عن الجانب الظاهر وعن الجانب الباطن معاً، ولم تخفِ واحداً منهما إذ بدايتها ونهايتها معروفة لا غبار عليها، إنها أعلنت عن الوجه الظاهر والباطن معاً، أعلنت عن ظهر وبطن ما ينضوي تحت لوائها، عن مبادرتها وفعلها، عن موفقيتها وانتكاستها، إذن فهي موجود لا يخدع، وإلاّ فإنها لو كانت خادعة لأظهرت باطلها بمظهر الحقّ لأبرزت القمة وتخفت على الحضيض والإنحدار، انّها لو كانت كذلك لأخفت المصائب والغموم ولو أ نّها عملت ذلك لكان هو الخداع بعينه. لكنها كشفت عن الوجهين، فهي بهذا ليست خادعة ولا ماكرة، وكذا الإنسان إذا ما كانت له خصلتان وكشف عنهما فإنّه لا يكون ماكراً، لهذا يرى أميرالمؤمنين(عليه السلام) بأنّ الدنيا لا تخدع، بل الإنسان هو الّذي انخدع وما هي إلاّ وسيلة للمكر لا أكثر وقد جعل الإنسان هذه الوسيلة في متناول العدو، كما إنّه يرى(عليه السلام) أن الإنسان وباختياره أغمض عينيه فاستغل العدو عماه فتسبب ذلك في حصول الخداع، أي أ نّه نفسه كان يمتلك الأرضية المناسبة لذلك، يقول(عليه السلام): «وحقاً أقول، ما الدنيا غرتك، ولكن بها اغتررت»(95) أي أن الدنيا لم تقم بعملية الخداع بل أنت انخدعت، انّها مثلما كشفت عن حلاوتها كشفت لك عن مرارتها «ولقد كاشفتك العظات»(96) أي أن الدنيا أرتك البساتين والقصور مثلما أرتك القبور والموت والمستشفيات، وأرتك الشباب والعافية والسرور مثلما أرتك الهرم والشيخوخة والمرض والقلق، لقد كشفت عن كلا وجهيها «وآذنتك على سواء»(97) أي كشفت عن علائم السرور والغم معاً، «ولهي بما تعدك من نزول البلاء بجسمك، والنقض في قوتك، أصدق وأوفى من أن تكذبك أو تغرك»(98) أي أن الدنيا أوعدت فأوفت، وقرعت ناقوس الخطر فأنذرت بتجاوز العمر عند بلوغ الأربعين عاماً، إنّها نذرت بأن اللذات قد انتهت وأ نّك قد استهلكت كلّ ما هو كائن وموجود، ولو كان هناك مستقبل زاهر فإنّه سوف لن يكون أكثر حظّاً ممّا مضى، ولهذا ينبّه أميرالمؤمنين(عليه السلام) إلى أن الدنيا حذرت الإنسان وأفهمته بأ نّها ستسلب منه كافة النعم الإلهية عند انقضاء قدر من العمر، وقد رأيت كيف سلبت، إنّها حذرت من أن كلّ قدرة ستستبدل بالعجز، وقد شاهدت ذلك، ولكنك مع كلّ هذا تنسب كلّ تحذير وتتغافل عنه.

إن الفناء يطال كلّ الألقاب والسمات، وقد رأيت كيف فنيت، ورأيت كيف ينتهي الجاه، إذن فالدنيا لم تخطىء بحقك، إنّها وعدت وأوفت بوعدها «ولربّ ناصح لها عندك متّهم»(99) أي أ نّك تتهم توجيهاتها ونصائحها وعبرها ولا تتعظ فأنت الّذي انخدعت ـ في الحقيقة ـ لا الدنيا خدعتك، إذ أ نّها لو أرتك السلامة والعافية وأخفت عنك المستشفى والمقبرة لكانت بذلك خدعتك وغشتك، ويكون مثلها مثل من يخلط الحليب بالماء ويقدمه للمشتري من غير أن يعلم، وهذا هو الخداع والغش، إلاّ أن الدنيا لم تفعل ذلك بل دلّت على السرور والغم معاً، فهي ما دامت قد كشفت عن الرقي والإنحطاط، عن السمو والسقوط، وكشفت عن وجهيها فإنّها لا تكون خادعة «وصادق من خبرها مكذب»(100) أي أن كثيرين اُولئك الذين يتحدثون لك عن حوادث الدنيا وأ نّها لغز لكنك تكذبهم وتقول لهم ليس الأمر كذلك «ولئن تعرفتها» أي لو أردت معرفة واقع الدنيا وحقيقتها وماهيتها فلابدّ لك من قلب صفحتها لترى وجهها الثاني، إذن أنت لم تقلب الصفحة لا أ نّها هي التي لم تبديها ولم تظهرها، إنّها جاءت بالصفحتين معاً لكنك أنت الّذي لم تر إلاّ صفحة واحدة، لقد قالت إنّي جئتكم بالصفحتين، بصفحة السرور وبصفحة الغم.

ثمّ قال(عليه السلام): «ولئن تعرفتها في الديار الخاوية، والربوع الخالية، لتجدنها من حسن تذكيرك وبلاغ موعظتك، بمحلة الشفيق عليك، والشحيح بك!»(101) أي لو زرت المقابر وتفقدت ديار من رحل من الظالمين بعد تمتعه بها وتركها للآخرين وللمستضعفين لتجدن أن الماضيين والراحلين لا خلود لهم، كما أن القاطنين أيضاً لا بقاء لهم، وستدرك أيضاً أن الدنيا صديق مشفق كاشفك الحقيقة وأظهر لك كلّ ما عنده، فالقصر الّذي كان بالأمس بيد طاغوت واليوم بيد مستضعف دليل على نصح الدنيا وإرشادها لك. إنّها بكشفها عن الوجهين تدلل بوضوح على أ نّها غير راغبة في خداع الإنسان إذ أ نّها خلق الله وقد أحسن خلقها، وجمال خلقها. هذا هو الجانب المنسوب إلى الله سبحانه، إن وجهها الحسن يتجلّى في كشفها عن الأحداث المؤلمة وهي بهذا تؤكد كونها صديقاً حميماً ومشفقاً على الإنسان، هذا فضلا عن رغبتها في هدايته واستقامته، إذن فالدنيا دار جميلة وعالم جميل لمن نظر وتفحّص في وجهيها «ولنعم دار من لم يرض بها داراً»(102) إنّها محل جيد لمن يفهمها على أ نّها ممر لا مقر، وهو خلاف التعامل الّذي يتعامل به الماركسي إذ يرى أن حياة الإنسان لا تعدو أكثر من كونها الحياة الدنيا لا غير وأ نّه سيفنى بعد الموت ويكون كالشجرة اليابسة، أمّا الإنسان الإلهي فيرى أن الموت لا يعدو أكثر من خروج الروح من قفص البدن، وأن الإنسان في اطار جسمه وفي اطار الطبيعة والدنيا حاله كحال أسير يبحث عن الحرية وعن التحليق في عالم الأبد.

إن الإنسان ـ في الحقيقة ـ لو يدرك أن الدنيا طريق ووسيلة لا هدف وأن الهدف هو أمر آخر أسمى منها لبذل الجهد من أجل الوصول إليه ولما فرط به ولأعدّ له الزاد والراحلة.

إن جمال الدنيا يكمن في كونها طريقاً، ومن أراد بلوغ الهدف فلابدّ له من سلوك الطريق ولابدّ له من وضع القدم عليه «ولنعم دار من لم يرض بها داراً».

فمن لم يتّخذ الدنيا مقراً واتخذها ممراً فإنها ستكون محلا ومقاماً جميلا جداً وطريقاً سهلا «ومحل من لم يوطنها محلا!»(103) أي من لم يتّخذها موطناً ومقاماً ولم يسمح لنفسه أن تتعامل معها على أ نّها دار استيطان، ولم ير أ نّه من أهلها، بل يتعامل معها على أ نّه عابر وسائر لا بنحو المتوطن والمستقر ذلك لأ نّه ليس هو من أهلها، كما أن من يتعامل مع الدنيا على أ نّها طريق فلابدّ له من أن يكون متحركاً.

أمّا من اعتبرها وطناً ومقراً فإنّه سيتوقف عنها وسيكون راكداً وهذا هو شأن من يصل الوطن عادة ولهذا نجد الإنسان المادي محباً للمال أو للجاه ومتوقفاً عندهما من غير سعي إلى الآخرة ومن غير أن يضع قدماً واحداً على طريقها، إنّه صدق واعتقد بأن الدنيا وطن ولهذا وقف عندها، أمّا الإنسان الإلهي فإنّه أدرك أن الدنيا وأن الهدف هو أمر آخر ولابدّ من اتخاذ هذا الممر وهذا الطريق مساراً لا هدفاً، وإذا كانت كذلك كانت محلا خصباً لمن عرفها وتعامل معها على أ نّها طريق لا وطن «ومحل من لم يوطنها محلا! وإن السعداء بالدنيا غداً هم الهارون منها اليوم»(104) .

إن السعداء غداً هم الفارّون من الدنيا، المانعون لغير الله من النفوذ إليهم أو الإنتصار عليهم، إنهم فرّوا منها ولم تتعلق قلوبهم بها، فعمروا الدنيا بمقدار ما هي عليه كطريق لا منزل، ولم يفدوها بالروح.

وخلاصة التحليل المتقدم للدنيا يشير بوضوح إلى عدم قيامها بعملية الخداع مطلقاً، وأن الإنسان في الحقيقة ينخدع إلاّ أن انخداعه لا يمتّ إلى الدنيا بصلة، فمن هو مسبب الخداع وفاعله إذن وماهي ماهيته؟

لقد اتضح ممّا تقدم أن الدنيا وسيلة للخداع وليست سبباً له، وأن الإنسان صريع هذا الخداع، إلاّ أننا لو توخّينا الدقة لوجدنا أن الإنسان نفسه هو الفاعل والمسبب القريب للمكر وللخدعة، أمّا دور الشيطان فإنّه الفاعل البعيد، وإن الوساوس الشيطانية ومن خلال النفس المنحرفة المدنسة بالإنحراف تقوم بتحريك الإنسان، إنّها تبدأ بافتتان القلب وخداعه من خلال إراءة الإنسان الجانب الجميل والحسن للفعل وإسدال الستار على الجانب القبيح والمفجع ليقع الإنسان في شرك المكر.

إن عليّاً(عليه السلام) شرح هذا الأمر مفصلا وبيّن كيفية علاجه وأكد على أن الإنسان لو اتخذ الدنيا طريقاً فإنّه سوف لن يخدع، أمّا من يراها على أ نّها هدف فإنّه لا محالة سيسقط في فخ المكر.

يقول(عليه السلام): «ومن أبصر بها بصّرته، ومن أبصر إليها أعمته»(105) أي أن من نظر إلى الدنيا على أ نّها آلة ووسيلة لا هدف «بصّرته» وأيقظته «ومن أبصر إليها» ونظر إليها على أ نّها هدف لا وسيلة فإنها ستعميه. ولكي يثبت أن الدنيا بريئة من خداع الإنسان وأن الإنسان هو الّذي ينخدع لابدّ من معرفة الجهة التي تقوم بعملية الخداع هذه.

وللجواب على هذا التساؤل نقول إن لهذه النفس في باطن الإنسان درجات وقوى ومراتب، والتسويل هو واحد منها حيث يقوم بإظهار القبيح جميلا أو أ نّه يكشف عن الوجه الجميل ويسدل الستار على الوجه القبيح للشيء ذي الوجهين القبيح والجميل، وهذا هو التسويل، ومثله مثل اللوحة اللطيفة التي يكون أحد وجهيها جميل والثاني قبيح.

إن عمل النفس المسوّلة يبدأ أوّلا من تشخيص ميول صاحبها وما يتعلق به قلبه ثمّ تقوم بتزيين ذلك الشيء عبر طريق الباطل وتظهره على أ نّه جميل أو أ نّها تظهر الباطل حقاً، أو أ نّها تظهر جانب الباطل على أ نّه حق ولا تكشف عن الحقّ في الشيء الّذي يكون له جانب حق وجانب باطل. إن هذا الفعل هو فعل النفس المسوّلة، وفعلها هذا هو الّذي نسميه التسويل.

لقد نبّه القرآن الكريم إلى خطر النفس المسوّلة وأشار إلى أ نّها تظهر حتى قتل أو القاء الأخ في البئر على أ نّه فعل جميل ولهذا حكى القرآن الكريم على لسان يعقوب(عليه السلام) قوله لأبنائه: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أنفُسُكُمْ)(106) أي أن أنفسكم المسوّلة هي التي زيّنت لكم فعل القاء أخيكم في البئر وأظهرته على أنّه عمل جميل فأقدمتم عليه، كما نبّه القرآن الكريم في أكثر من آية إلى أن استبدال الشرك بالتوحيد هو من خداع النفس المسوّلة، ونبّه أميرالمؤمنين(عليه السلام) أيضاً إلى أن الإنسان إذا كان يقظاً فإن يقظته هذه ستهديه إلى معرفة القبيح والحسن وتشخيصهما، وإذا عرف ذلك فإنّه سوف لن يسمح ببروز مؤثر من الباطن يقوم بإظهار القبائح بمظهر جميل ويزاول نشاطه ويحبك المؤمرات ويمّهد السبل لإظهار القبائح بمظهر جميل.

إن النفس والروح اليقظة لن تسمح مطلقاً بحبك هذه المؤامرة في داخلها، كما إنّها لن تسمح بوقوع فعل كهذا، وبناءً على ذلك نجد أن أميرالمؤمنين(عليه السلام) يحذّر الإنسان من تسويل النفس النفس ويدعوه إلى أن يكون ابن الآخرة لا أبناء للدنيا، حيث فصّل الحديث في ذلك في احدى خطبه قائلا: «ألا وإن الدنيا قد ولّت...، ألا وإن الآخرة قد أقبلت»(107) أي أن الدنيا تدبر من جانب والآخرة تقبل من جانب آخر.

كما إن له(عليه السلام) قولا جميلا آخر في مجال الموت يقول فيه: «إذا كنت في إدبار والموت في اقبال، فما أسرع الملتقى»(108) أي إنّك إذا سرت من هنا والموت قدم من هناك فإن اللقاء يوشك أن يقع، وما الدنيا إلاّ ما خلفته وراءك والآخرة هي ما أنت ذاهب لاستقبالها، إذن فما أسرع الملتقى «ولكي منهما بنون»(109) أي أن للدنيا أبناء وللآخرة أبناء، فبعض أبناء الدنيا وبعض أبناء للآخرة: بعض يخضع لسيطرة الدنيا وبعض يخضع لسيطرة الآخرة، بعض تتحكم بهم الماديات وبعض تتحكم بهم المعنويات، ولهذا يقول(عليه السلام): «ولا تكونوا من أبناء الدنيا»(110) لكيلا تفرض سيطرتها عليكم «فإن كلّ ولد سيلحق باُمه يوم القيامة»(111) أي أن كلّ انسان يلتحق بمن ترعرع في أحضاته وكانت له حكومة عليه، فأبناء للدنيا ـ يوم القيامة ـ يلحقون بالدنيا المشعلة لنار جهنم الملتهبة، فكل سيلحق باُمه، أي بمن هو حاكم عليه، ثمّ يقول(عليه السلام) عبارته المعروفة «وإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل»(112) أي أن الدنيا عالم للحركة وللتكامل وللمثابرة والعمل، أمّا الآخرة فهي عالم النتيجة والهدف والتحقيق والمدقة والحساب «وإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل» .

ثمّ يقول(عليه السلام) عن نفسه: «وإن أحب ما أنا لاق إلى الموت»(113) لماذا؟ لأ نّه سيلتحق بعالم لا شيء فيه إلاّ الحقّ، ولا مكان أو محل للباطل بل المحل للصدق بدلا من الكذب، هذا هو عالم ما بعد الدنيا، أمّا الدنيا فباطلها مختلط بحقها، وصدقها ممتزج بكذبها، ولهذا فلا شيء أحب إلى عليّ من الموت.

وقد أشرنا ـ فيما سبق ـ إلى قوله في هذا المجال وهو: «فوالله لولا طمعي عند لقائي عدوي في الشهادة، وتطيني نفسي على المنية، لأحببت ألا أبقى مع هؤلاء يوماً واحداً، ولا ألتقي بهم أبداً»(114) أي لولا الشوق للشهادة ولولا اشتياقي للقاء الله لما التقيت بالكافرين في ميدان الحرب ولو لحظة واحدة، فإنّي أبغض النظر اليهم، وأنزعج منهم وإن ما يحدوني للقائهم في الحرب، ويحفّزني على انتظار قتالهم هو شوق الشهادة الّذي أعيشه حياً داخل نفسي، إن هذا الشوق هو الدافع الوحيد الّذي يسوغ لي لقاء الكفّار وجهاً لوجه.

وإلاّ فإنّي راغب عن لقائهم «وإن أحب ما أنا لاق إلى الموت» ثمّ يقول في مكان آخر: «والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي اُمه»(115) أي إن تعلّقي بالموت أشد من تعلق الرضيع بثدي اُمه، باعتبار أن ثدي الاُم هو أحب شيء للطفل، وشوقه للثدي شوق طفولي وليس بحكمي أو عقلاني، كما إنّه يتعرض للنقصان كلما امتد العمر بالطفل، أمّا شوق عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)إلى الشهادة وإلى الموت فهو شوق حكمي وعقلاني ويشتدّ ويكمل كلما امتد العمر. ولهذا كان شوق عليّ وشوق أبناء مدرسته للموت أكثر وأعظم من شوق الطفل إلى ثدي اُمه، وعلى أية حال فهل يكون آمناً من الموت من يخاف الموت؟ وهل سيخلد وينجو من الموت من أحب البقاء؟ يجيب عليّ(عليه السلام) على ذلك ويقول: «فما ينجو من الموت من خافه، ولا يعطى البقاء من أحبه»(116) أي أن يبقى في الدنيا الخائف من الموت ولا المحب للبقاء، كما لا تنخدع نفس الإنسان بهذا الخوف وبهذا الحب إلاّ إذا عزف الإنسان عن البحث عن مسبب الخدعة، أمّا لو تشخص فاعل الخدعة وعرفت ماهيته فإن السبب سينتفي وبانتفائه ستكون الدنيا وسيلة ليس إلاّ، وبديهي أن لا دور فاعليّ للوسيلة، كما لا دور لها في ترك أثر على الإنسان والدور في الحقيقة للشيطان حيث يقوم بواسطة فاعل ومسبب الخدعة أي وسوسة النفس ليخدع الإنسان، ثمّ يقوم هذا الإنسان المخدوع بارتكاب أي ذنب وأية جريمة تحلو له لأ نّه يرى أن كلّ ما يقوم به جميل وحق، أمّا من لم تخدعه نفسه فإنّه يكون قادراً على تحمل المشاق من أجل الدفاع عن الهدف المقدس وعن الدين والقيم الإلهية.

ولأميرالمؤمنين(عليه السلام) كلام آخر في هذا الصدد يقول فيه: «فإن الناس قد تغير كثير منهم عن كثير من حظهم، فمالوا مع الدنيا، ونطقوا بالهوى، وإنّي نزلت من هذا الأمر منزلا معجباً، اجتمع به أقوام أعجبتهم أنفسهم وأنا اُداوي منهم قرحاً أخاف أن يعود علقاً يعود...»(117).

إنّه يرى(عليه السلام) أن اُولئك المذبذبين هم ممن خدعتهم الدنيا، أمّا أنا فلم تستطع الدنيا من اغوائي أو احتوائي، كما إن المخادعين والأعداء الداخليين والخارجيين قد فشلوا في مسعاهم وهم يحاولون ترك أثر في شخصيتي. ثمّ يواصل(عليه السلام) حديثه ويقول: «وليس رجل ـ فاعلم ـ أحرص الناس على جماعة اُمة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وألفتها منّي»(118) أي لم يدعو الآخرون الناس إلى الوحدة كما دعوت، وإن دعوا إلى ذلك فإن دعوتهم لم تتجاوز الحد الّذي تتهدد فيه دنياهم أمّا أنا فأعرّض نفسي للظلم بدلا عن الآخرين من أجل الحفاظ على الهدف «وليس رجل ـ فاعلم ـ أحرص الناس على جماعة اُمة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وألفتها منّي»(119) فلا أحد كعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) دعا الناس إلى الوحدة أو سبقه في حبه لها، وهذه الوحدة هي ـ في الواقع ـ من أهم عوامل النجاح في سياسة المدينة وفي تأسيس الحكومة الإسلامية وتأسيس مؤسسات النظام الإسلامي، وهذه الاُمور أيضاً من أهم أقسام الحكمة العملية.

إذن فأميرالمؤمنين(عليه السلام) يقول إنّه لم يكن له نظير في دعوة الاُمة إلى الوحدة والتآلف وفي دفعها إلى الميدان، كما لم يكن هناك شخص سعى كسعيه(عليه السلام)للحيلولة بين تمزق صف الاُمة واختلافها، حيث وظّف كلّ جهد من أجل ذلك بالرغم من الظلم الّذي لحقه.

«وليس رجل ـ فاعلم ـ أحرص الناس على جماعة اُمّة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)وألفتها مني أبتغي بذلك حسن الثواب، وكرم المآب»(120) ان الهدف الّذي يسعى إليه عليّ(عليه السلام) من وراء جهوده المتواصلة لتأسيس المدينة الفاضلة هو الحصول على الثواب الإلهي، والتنعم في نهاية المطاف بالكرامة الإلهية وبلوغ درجتها.

إن عبارة عليّ(عليه السلام) السابقة توضح بلا أدنى شك أن لا دور لفاعل الخداع في أميرالمؤمنين(عليه السلام)، كيف وهو القائل للدنيا «غرّي غيري»(121) أي أ نّه(عليه السلام) يقول لها إنك غير قادرة على أن تكوني وسيلة خداع ضدّي. في حين نجد طلحة والزبير ما أن احتلا البصرة ودخلا بيت المال وقبضا على الذهب والفضة حتى قالا إننا بلغنا الهدف الّذي خرجنا من أجله، إننا قاتلنا من أجل الذهب والفضة، أمّا عليّ(عليه السلام)فإنّه ما أن طرد جيشهما وطهّر البصرة من رجسهما ودخل بيت المال وشاهد تلاّ من الذهب والفضة حتى خاطبه بقوله «غرّي غيري» أي لا تغرّ عليّاً أ نّه(عليه السلام)يخاطب الذهب والفضة بقوله: «ياصفراء، يا بيضاء غرّي غيري»(122)، أمّا طلحة والزبير فإنهما بلغا الهدف عند رؤيتهما للذهب وللفضة.

وينقل عنه(عليه السلام) أن محتاجاً شكا له حاجته ودينه فأمر عليّ(عليه السلام) المسؤول عن بيت المال قائلا: «أعطه ألفاً»(123) فاستوضحه المسؤول عن بيت المال قائلا: «أعطه ألف مثقال ذهب أم ألف مثقال فضة؟» فأجابه(عليه السلام) «كلاهما عندي حجر» أي أن الذهب ليس أكثر من حجر أصفر، وإن الفضة لا تعدو أن تكون هي الاُخرى حجراً أبيض، فكلاهما عنده حجر «أعطه أنفعهما بحاله» ، وهذا الفهم في الحقيقة هو واقع الذهب والفضة، وهو كونهما حجراً لا أكثر.

وبإمكان الإنسان السالك أن يعدّ نفسه للسير على هذا الخط، ولم لا يعد نفسه وهو السائر إلى الله؟ أو ليس الإنسان قادراً على طي السموات والأرض؟ أو ليس «قلب المؤمن عرض الرحمن»(124)؟ أو ليس الإنسان مخاطب الله سبحانه؟ أو ليس هو عصارة العالم؟ أو ليس هو القادر على أن يكون من المصاحبين لعليّ بن أبي طالب(عليه السلام)؟ وأن يبلغ المحل والمقام الّذي تقف الملائكة فيه لاستقباله ولإكرامه؟ أو ليس ذلك هو بلوغ درجة الإنسانية ومقامها؟ وبالتالي أو ليس هذا كله هو معطي الحكمة العملية؟

إن الملائكة تستقبل الإنسان الكريم والحكيم عند الموت، فهي القائلة: (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)(125) وهل هناك تعاسة أبلغ من أن يستبدل الإنسان هذا المقام الرفيع بحجر أصفر أو أبيض؟

هذا هو كلام عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) النوراني الهادي بشعاعه إلى تربية النفوس وتهذيبها والرافع لدرجات النفوس إلى أسمى ممّا عليه الملائكة.

نأمل أن تترك أقوال أميرالمؤمنين(عليه السلام) فينا وفي جميع القلوب الأثر الحسن، وأن يستفيد منها الناس عامة والمجاهدون والمقاتلون خاصة، وأن يهتدي بها كافة أبناء الاُمة الإسلامية والمجاهدون في سبيل اعلاء كلمة الحقّ، وأن تتنور القلوب كافة بالنور الإلهي.

 

***

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13/12.

(2) المصدر السابق: 18/269.

(3) المصدر السابق: 8/287.

(4) المصدر السابق: 8/287.

(5) المصدر السابق: 8/287.

(6) المصدر السابق: 8/288.

(7) المصدر السابق: 18/329.

(8) المصدر السابق: 18/329.

(9) نهج الفصاحة.

(10) طه: 131.

(11) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 18/224.

(12) المدثر: 38 و39.

(13) الكافي الاُصول والروضة: 2/246 من منشورات المكتبة الإسلامية طهران 1382 هـ.

(14) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13/5.

(15) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13/5.

(16) الحديد: 23.

(17) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13/5.

(18) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6/395.

(19) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 6/396.

(20) الأعراف: 8.

(21) القيامة: 14 و15.

(22 و 23) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13/7 و8.

(24) المصدر السابق: 19/216.

(25) يونس: 62.

(26) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 17/225.

(27) تفسير القرآن الكريم لصدر المتألهين: 2/5، نشر بيدار قم، الطبعة الاُولى 1985م.

(28) المصدر السابق: 11/267.

(29) المصدر السابق: 13/357.

(30) المصدر السابق: 13/357.

(31) المصدر السابق: 13/5.

(32) المصدر السابق: 13/5.

(33) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 16/57 ـ 68.

(34 و 35) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 10/203.

(36 و 37) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 16/62.

(38) المصدر السابق: 7/201.

(39 و 40 و 41) سفينة البحار 2/395 باب القاف نشر مكتبة سنائى طهران 1976 واُنظر أيضاً الترمذي: 4/640 الباب 26 ـ كتاب صفة القيامة ـ.

(42) الأنعام: 94.

(43) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 16/62.

(44) المصدر السابق: 16/63.

(45) المصدر السابق: 19/99، جاء فيه قول أميرالمؤمنين(عليه السلام) : «يا كميل ، مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم، ويدلجوا في حاجة من هو نائم، فو الّذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحد أودع قلباً سروراً إلاّ خلق الله له من ذلك السرور لطفاً، فإذا نزلت به نائبة جرى إليها كالماء في انحداره حتى يطردها عنه كما تطرد غريبة الابل»، واُنظر الكافي الاُصول والروضة: 9/70 من منشورات المكتبة الإسلامية طهران.

(46) المصدر السابق: 16/62 ـ 63.

(47) الإسراء: 36.

(48) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 16/63.

(49) المصدر السابق: 1/273.

(50) المصدر السابق: 16/63.

(51) المصدر السابق: 16/64.

(52) وسائل الشيعة: 11/222 دار احياء التراث العربي بيروت الطبعة الخامسة 1989م.

(53) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1/331.

(54) المصدر السابق: 18/405.

(55) المصدر السابق: 15/89.

(56) المصدر السابق: 17/225.

(57) الأعراف: 17.

(58) نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 16/177.

(59) الكافي الاُصول والروضة لمؤلفه الكليني: 2/246.

(60) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 6/345.

(61) المصدر السابق: 6/345.

(62 و 63) المصدر السابق: 6/345.

(64) المصدر السابق: 6/345.

(65) المصدر السابق: 6/345.

(66) الحديد: 4.

(67) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 3/165.

(68) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 3/165.

(69) الرحمن: 29.

(70) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 7/96.

(71) النازعات: 42.

(72 و 73) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2/318.

(74 و 75 و 76) المصدر السابق: 7/96 و97.

(77) وسائل الشيعة: 11/222.

(78) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 6/280.

(79) الأعراف: 27.

(80) الأعراف: 201.

(81) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 6/363.

(82) الرحمن: 46.

(83) الصحيفة السجادية.

(84) الكافي الاُصول والروضة: 8/363.

(85) لقمان: 33.

(86 و 87) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 13/5 ـ 6.

(88) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 13/ 5 ـ 6.

(89) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 13/6.

(90) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 13/6.

(91) الأنفطار: 6.

(92 و 93) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 12/239.

(94) ديوان أبو الطيب المتنبي: 270 ط دار الزهراء بيروت لبنان 1978.

(95) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 11/239.

(96 و 97 و 98) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 11/239.

(99 و 100) المصدر السابق: 11/239.

(101) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 11/239.

(102) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 11/239.

(103) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 11/239.

(104) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 11/239.

(105) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 6/238.

(106) يوسف: 83.

(107) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 2/318.

(108) نفس المصدر: 18/140، يقول ابن أبي الحديد شارحاً هذه الكلمة الغراء: «ومثال ذلك سفينتان بدجلة أو غيرها، تصعد احداهما، والاُخرى تنحدر نحوها، فلا ريب أن الإلتقاء يكون وشيكاً» المترجم.

(109 و 110) المصدر السابق: 2/18.

(111) المصدر السابق: 2/318.

(112) المصدر السابق: 10/67.

(113) المصدر السابق: 16/145.

(114) المصدر السابق: 1/213.

(115) المصدر السابق: 2/298.

(116 و 117 و 118) المصدر السابق: 18/74.

(119) المصدر السابق: 18/74.

(120) المصدر السابق: 18/224.

(121) بحار الأنوار: 41/103، مؤسسة الوفاء بيروت ط الثانية 1403 هـ .

(122) بحار الأنوار: 41/103، مؤسسة الوفاء بيروت ط الثانية 1403 هـ .

(123) سفينة البحار: 2/441.

(124) الزمر: 73.

(125) الأعراف: 17.