مكتبة الإمام أميرالمؤمنين (ع)

فهرس الكتاب




( 43 )


    والشواهد لهذا الحديث ولهذا التنزيل في الأحاديث كثيرة، ومن ذلك : حديث سدّ الأبواب، وهذه ألفاظ تتعلّق بهذا الموضوع في السنّة النبويّة الشريفة المتفق عليها بين الفريقين، وأنا أنقل لكم من بعض المصادر المعتبرة عند أهل السنّة :
    أخرج ابن عساكر في تاريخه، وعنه السيوطي في الدرّ المنثور(1): إنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)خطب فقال : « إنّ الله أمر موسى وهارون أن يتبوّءا لقومهما بيوتاً، وأمرهما أنْ لا يبيت في مسجدهما جنب، ولا يقربوا فيه النساء، إلاّ هارون وذريّته، ولا يحلّ لأحد أن يقرب النساء في مسجدي هذا ولا يبيت فيه جنب إلاّ علي وذريّته » .
    وفي مجمع الزوائد عن علي (عليه السلام) قال : أخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)بيدي فقال : « إنّ موسى سأل ربّه أنْ يطهّر مسجده بهارون، وإنّي سألت ربّي أنْ يطهّر مسجدي بك وبذريّتك »، ثمّ أرسل إلى أبي بكر أنْ سدّ بابك، فاسترجع [ أي قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ]ثمّ قال :
____________
    (1) ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق 1/296، الدر المنثور 4/383 .


( 44 )


سمعٌ وطاعة، فسدّ بابه، ثمّ أرسل إلى عمر، ثمّ أرسل إلى العباس بمثل ذلك، ثمّ قال رسول الله : « ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب علي، ولكن الله فتح باب علي وسدّ أبوابكم »(1) .
    وفي مجمع الزوائد وكنز العمال وغيرهما ـ واللفظ للأوّل ـ : لمّا أخرج أهل المسجد وترك عليّاً قال الناس في ذلك [ أي تكلّموا في ذلك واعترضوا ] فبلغ النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال : « ما أنا أخرجتكم من قبل نفسي، ولا أنا تركته، ولكنّ الله أخرجكم وتركه، إنّما أنا عبد مأمور ، ما أُمرت به فعلت، إنّ أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ »(2) .
    وفي كتاب المناقب لأحمد بن حنبل، وكذا في المسند، وفي المستدرك للحاكم، وفي مجمع الزوائد، وتاريخ دمشق، وغيرها(3) عن زيد بن أرقم قال : كانت لنفر من أصحاب رسول الله
____________
    (1) مجمع الزوائد 9/114 .
    (2) مجمع الزوائد 9/115، كنز العمال 11/600 رقم 32887 ـ دار إحياء التراث .
    (3) فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) لأحمد بن حنبل : 72 رقم 109، مسند أحمد 5/496 رقم 18801، مستدرك الحاكم 3/125، مجمع الزوائد 9/114، ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق 1/279 ـ 280 رقم 324، الرياض النضرة 3/158 .



( 45 )


أبواب شارعة في المسجد، فقال يوماً : « سدّوا هذه الأبواب إلاّ باب علي »، قال : فتكلّم في ذلك ناسٌ، فقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : « أمّا بعد، فإنّي أمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب علي، فقال فيه قائلكم، والله ما سددت شيئاً ولا فتحته، ولكن أُمرت بشيء فاتّبعته » .
    وهذا الحديث موجود في صحيح الترمذي، وفي الخصائص للنسائي(1)، وغيرهما من المصادر أيضاً .
    ولذا كانت قضية سدّ الأبواب من جملة موارد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « علي منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي » .
    وإلى الآن ظهرت دلالة حديث المنزلة على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام) :
    من جهة ثبوت العصمة له .
    ومن جهة ثبوت الأفضلية له .
    ومن جهة ثبوت بعض الخصائص الأُخرى الثابثة لهارون .
____________
    (1) خصائص النسائي : 59 رقم 38 .


( 46 )

دلالة حديث المنزلة
على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)


    ننتقل الآن إلى دلالة هذا الحديث على خصوص الخلافة والولاية ، فيكون نصّاً في المدّعى .
    ولا ريب في أنّ من منازل هارون : خلافته عن موسى (عليه السلام)، قال تعالى عن لسان موسى يخاطب هارون : ( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ )(1) .
    فكان هارون خليفة لموسى ، وعلي بحكم حديث المنزلة خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيكون هذا الحديث نصّاً في الخلافة والإمامة والولاية بعد رسول الله .
____________
    (1) سورة الأعراف : 142 .


( 47 )


    ومن جملة آثار هذه الخلافة : وجوب الطاعة المطلقة، ووجوب الإنقياد المطلق، والطاعة المطلقة والإنقياد المطلق يستلزمان الإمامة والولاية العامة .
    ولا يتوهمنّ أحدٌ بأنّ وجوب إطاعة هارون ووجوب الإنقياد المطلق له كان من آثار وأحكام نبوّته، لا من آثار وأحكام خلافته عن موسى، حتّى لا تجب الإطاعة المطلقة لعلي، لأنّه لم يكن نبيّاً .
    هذا التوهم باطل ومردود، وإنْ وقع في بعض الكتب من بعض علمائهم، وذلك لأنّ وجوب الإطاعة المطلقة إنْ كان من آثار النبوّة لا من آثار الخلافة، إذن لم يثبت وجوب الإطاعة للمشايخ الثلاثة، لأنّهم لم يكونوا أنبياء، وأيضاً : لم يثبت وجوب الإطاعة المطلقة لعلي في المرتبة الرابعة التي يقولون بها له (عليه السلام)، إذ ليس حينئذ نبيّاً، بل هو خليفة .
    فإذن، وجوب الإطاعة لهارون كان بحكم خلافته عن موسى لا بحكم نبوّته، وحينئذ تجب الإطاعة المطلقة لعلي (عليه السلام)بحكم خلافته عن رسول الله، وبحكم تنزيله من رسول الله منزلة هارون من موسى . فالمناقشة من هذه الناحية مردودة .
    وإذا ما رجعنا إلى الكتب المعنيّة بمثل هذه البحوث، لرأينا تصريح علمائهم بدلالة حديث المنزلة على خلافة علي (عليه السلام).



( 48 )


    فراجعوا مثلاً كتاب التحفة الإثنا عشرية الذي ألّفه مؤلّفه ردّاً على الشيعة الإمامية الإثنا عشرية، فإنّه يعترف هناك بدلالة حديث المنزلة على الخلافة، بل يضيف أنّ إنكار هذه الدلالة لا يكون إلاّ من ناصبي ولا يرتضي ذلك أهل السنة .
    إنّما الكلام في ثبوت هذه الخلافة بعد رسول الله بلا فصل، أمّا أصل ثبوت الخلافة لأمير المؤمنين بعد رسول الله بحكم هذا الحديث فلا يقبل الإنكار، إلاّ إذا كان من النواصب المعاندين لأمير المؤمنين (عليه السلام)، كما نصّ على ذلك صاحب التحفة الإثنا عشرية .
    يقول صاحب التحفة هذا الكلام ويعترف بهذا المقدار من الدلالة .
    إلاّ أنّك لو راجعت كتب الحديث وشروح الحديث لرأيتهم يناقشون حتّى في أصل دلالة حديث المنزلة على الخلافة والولاية بعد رسول الله، أي ترى في كتبهم ما ينسبه صاحب التحفة إلى النواصب، ويقولون بما يقوله النواصب .
    فراجعوا مثلاً شرح حديث المنزلة في كتاب فتح الباري لابن حجر العسقلاني الحافظ، وشرح صحيح مسلم للحافظ النووي،



( 49 )


والمرقاة في شرح المشكاة، تجدوهم في شرح حديث المنزلة يناقشون في دلالة هذا الحديث على أصل الإمامة والولاية، وهذا ما كان صاحب التحفة ينفيه عن أهل السنّة وينسبه إلى النواصب .
    أقرأ لكم عبارة النووي في شرح صحيح مسلم، ونفس العبارة أو قريب منها موجود في الكتب التي أشرت إليها وغيرها أيضاً من الكتب، يقول النووي(1) : وليس فيه [ أي في هذا الحديث ] دلالة لاستخلافه [ أي استخلاف علي ] بعده [ أي بعد الرسول ]، لأنّ النبي (صلى الله عليه وسلم) إنّما قال لعلي حين استخلفه على المدينة في غزوة تبوك [ أي إنّ هذا الحديث وارد في مورد خاص ] .
    يقول : ويؤيّد هذا أنّ هارون المشبّه به لم يكن خليفة بعد موسى، بل توفي في حياة موسى قبل وفاة موسى بنحو أربعين سنة على ما هو المشهور عند أهل الأخبار والقصص، قالوا : وإنّما استخلفه ـ أي استخلف موسى هارون ـ حين ذهب لميقات ربّه للمناجاة، فكانت الخلافة هذه خلافة موقتة، وكانت في قضية خاصة محدودة، وليس فيها أي دلالة على الخلافة بالمعنى المتنازع فيه أصلاً .
____________
    (1) شرح النووي لصحيح مسلم المجلد الثامن الجزء 15/174 .


( 50 )


    وهل هذا إلاّ كلام النواصب الذي يأبى أن يلتزم به مثل صاحب التحفة، فينسبه إلى النواصب ؟
    وأمّا ما يقوله ابن تيميّة وغير ابن تيميّة من أصحاب الردود على الشيعة الإماميّة، فسنذكر مقاطع من عباراتهم، لتعرفوا من هو الناصبي، وتعرفوا النواصب أكثر وأكثر .
    وإلى هنا بيّنا وجه دلالة حديث المنزلة على الخلافة والإمامة والولاية بعد رسول الله بالنص، وأنّ صاحب التحفة لا ينكر هذه الدلالة، وإنّما يقول بأنّ الدلالة على الإمامة بلا فصل أوّل الكلام، لأن النزاع والكلام في دلالة الحديث على الإمامة بعد رسول الله مباشرة .



( 51 )




( 52 )

محاولات القوم في ردّ حديث المنزلة


    وحينئذ ندخل في الجهة الثالثة من جهات بحثنا عن حديث
    المنزلة، أي في المناقشات العلمية، وفي محاولات القوم في ردّ هذا الحديث وإبطاله .

    أوّلاً : المناقشات العلمية
    ونحن على استعداد تام لقبول أيّ مناقشة إنْ كانت مناقشة
    علمية، وعلى أُسس علمية وقواعد مقرّرة في كيفيّة البحث والمناظرة، ويتلخّص ما ذكروه في مقام المناقشة في دلالة هذا الحديث في المناقشات الثلاثة التالية :

    المناقشة الأُولى :
    إنّ هذا الحديث لا يدلّ على عموم المنزلة، وحينئذ تتمّ
    المشابهة بين علي وهارون بوجه شبه واحد، ويكفي ذلك في صحّة الحديث، أمّا أنْ يكون علي نازلاً من رسول الله منزلة هارون من موسى بجميع منازل هارون فلا نوافق على هذا .



( 53 )


    المناقشة الثانية :
    إنّ هذه الخلافة كانت خلافة موقتةً في ظرف خاص ، وزمان محدود، وفي حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما كانت خلافة هارون عن موسى في حياة موسى عندما ذهب لمناجاة ربّه، وكانت تلك الخلافة أيضاً في حياة موسى، ويؤيّد ذلك موت هارون في حياة موسى، فأين الخلافة بالمعنى المتنازع فيه ؟

    المناقشة الثالثة :
    إنّ حديث المنزلة إنّما ورد في خصوص غزوة تبوك، وإنّ
    رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)قال هذا الكلام عندما خرج في غزوة تبوك وترك عليّاً ليقوم بشؤون أهله وعياله ومن بقي في المدينة المنوّرة، فالقضيّة خاصة وحديث المنزلة إنّما ورد في هذه القضية المعيّنة .
    ولابدّ من الإجابة عن هذه المناقشات واحدة واحدة :

    الجواب عن المناقشة الأُولى :
    والمناقشة الأُولى كانت تتلخّص في نفي عموم المنزلة ، فنقول في الجواب : بأنّ الحديث يشتمل على لفظ وهو اسم جنس مضاف إلى عَلَم قال : « أنت منّي بمنزلة هارون »، فكلمة المنزلة اسم جنس مضاف إلى علم وهو هارون، ثمّ يشتمل الحديث على استثناء « إلاّ أنّه لا نبي بعدي »، فالكلام مشتمل على اسم جنس مضاف إلى علم، ومشتمل على استثناء باللفظ الذي ذكرناه، هذا متن الحديث .



( 54 )


    ولو رجعنا إلى كتب علم أُصول الفقه، ولو رجعنا إلى كتب علم البلاغة وكتب الأدب، لوجدناهم ينصّون على أنّ الإستثناء معيار العموم، وينصّون على أنّ من ألفاظ العموم اسم الجنس المضاف، فأي مجال للمناقشة ؟ اسم الجنس المضاف « بمنزلة هارون » من صيغ العموم، والإستثناء أيضاً معيار العموم ، فيكون الحديث نصّاً في العموم، إذْ ليس في الحديث لفظ آخر، فلفظه : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي »، وحينئذ يسقط الإشكال وتبطل المناقشة .
    وهذه عبارة ابن الحاجب الذي هو من أئمّة علم الأُصول ومن أئمّة علم النحو والصرف وعلوم الأدب، يقول في كتاب مختصر الأُصول ـ وهو المتن الذي كتبوا عليه الشروح والتعاليق الكثيرة، وكان المتن الذي يدرّس في الحوزات العلمية ـ : ثمّ إنّ الصيغة الموضوعة له ـ أي للعموم ـ عند المحققين هي هذه : أسماء الشرط والإستفهام، الموصولات، الجموع المعرفة تعريف جنس لا عهد، واسم الجنس معرفاً تعريف جنس أو مضافاً(1) .
   
____________
    (1) المختصر (بيان المختصر 2) : 111 ـ مركز إحياء التراث الإسلامي ـ مكة المكرمة .


( 55 )


    وإن شئتم أكثر من هذا، فراجعوا كتابه الكافية في علم النحو بشرح المحقق الجامي المسمّى بـ ( الفوائد الضيائيّة )، وهو أيضاً كان من الكتب الدراسيّة إلى هذه الأواخر .
    وراجعوا من كتب الأُصول أيضاً كتاب المنهاج للقاضي البيضاوي وشروحه .
    وأيضاً راجعوا فواتح الرحموت في شرح مسلّم الثبوت، الذي هو من كتب علم أُصول الفقه المعتبرة المشهورة عند القوم
    وراجعوا من الكتب الأدبية كتاب الأشباه والنظائر للسيوطي .
    وراجعوا من كتب علم البلاغة المطوّل في شرح التلخيص ومختصر المعاني في شرح التلخيص للتفتازاني، هذين الكتابين اللذين يدرّسان في الحوزات العلمية .
    وهكذا غير هذه الكتب المعنية بعلم أُصول الفقه وعلم النحو والبلاغة .
    وأمّا الإستثناء، فقد نصّ أئمّة علم أُصول الفقه كذلك كما في كتاب منهاج الوصول إلى علم الأُصول للقاضي البيضاوي، وفي شروحه أيضاً، كشرح ابن إمام الكاملية وغير هذا من الشروح، كلّهم ينصّون على هذه العبارة يقولون : معيار العموم الإستثناء .



( 56 )


    فكلّ ما صحّ الإستثناء منه ممّا لا حصر فيه فهو عام، والحديث يشتمل على الإستثناء .
    وقد يقال : لابدّ من رفع اليد عن العموم، بقرينة اختصاص حديث المنزلة بغزوة تبوك، وإذا قامت القرينة أو قام المخصص سقط اللفظ عن الدلالة على العموم، فيكون الحديث دالاًّ على استخلافه ليكون متولّياً شؤون الصبيان والنساء والعجزة ـ بتعبير ابن تيميّة ـ الباقين في المدينة المنوّرة لا أكثر من هذا .
    لكن يردّ هذا الإشكال وهذه الدعوى، ورود حديث المنزلة في غير تبوك، كما سنقرأ .
    وقد يقال أيضاً : إنّ الإستثناء إنّما يدلّ على العموم إنْ كان استثناء متّصلاً، وهذا الإستثناء منقطع، لأنّ الجملة المستثناة جملة خبرية، ولا يمكن أنْ تكون الجملة الخبرية استثناؤها استثناءً متصلاً .
    وهذه بحوث علمية لابدّ وأنّكم مطّلعون على هذه البحوث، وهذا وجه للإشكال وجيه، ذكره صاحب التحفة الإثنا عشرية(1)، فإنْ تمّ سقط الإستدلال بعموم الإستثناء .
____________
    (1) التحفة الاثنا عشرية : 211 .


( 57 )


    ولكن عندما نراجع ألفاظ الحديث نجد فيها مجيء كلمة « النبوّة » مستثناة بعد « إلاّ »، وليس هناك جملة خبرية، وسند هذا الحديث أو هذه الأحاديث سند معتبر، وممّن نصّ على صحّة سند الحديث بهذا اللفظ : ابن كثير الدمشقي في كتابه في التاريخ البداية والنهاية(1) .
    على أنّ من المقرّر عندهم في علم الأُصول وفي علم البلاغة أيضاً : إنّ الأصل في الإستثناء هو الإتّصال، ولا ترفع اليد عن هذا الأصل إلاّ بدليل، إلاّ بقرينة، وأراد صاحب التحفة أن يجعل الجملة الخبرية المستثناة قرينة، وقد أجبنا عن ذلك بمجيء المستثنى إسماً لا جملة خبريّة .
    ولو أردتم أن تطّلعوا على تعابيرهم وتصريحاتهم بأنّ الأصل في الإستثناء هو الإتّصال لا الانقطاع، فراجعوا كتاب المطوّل، هذا الكتاب الموجود بأيدينا، الذي ندرسه وندرّسه في الحوزة العلميّة(2) .
   
____________
    (1) البداية والنهاية، المجلّد 4 الجزء 7/340 .
    (2) المطوّل : 204 ـ 224 ـ انشارات داوري قم ـ 1416 هـ .



( 58 )


    وأيضاً يمكنكم مراجعة كتاب كشف الأسرار في شرح أُصول البزدوي(1) للشيخ عبد العزيز البخاري الذي هو من مصادرهم الأُصولية .
    كما بإمكانكم مراجعة كتاب مختصر الأُصول لابن الحاجب(2)أيضاً، وهو ينصّ على هذا .
    بل لو راجعتم شروح الحديث، لوجدتم الشرّاح من المحدّثين أيضاً ينصّون على كون الإستثناء هذا متّصلاً لا منقطعاً، فراجعوا عبارة القسطلاني في إرشاد الساري(3)، وراجعوا أيضاً فيض القدير في شرح الجامع الصغير .
    إذن، سقطت المناقشة الأُولى، وتمّت دلالة الحديث على العموم أي عموم المنزلة، وهذه البحوث بحوث تخصصيّة، أرجو الالتفات إليها وتذكّر ما درستموه من القواعد العلمية المفيدة في مثل هذه المسائل .
____________
    (1) كشف الأسرار 3/178 باب بيان التغير ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1418 .
    (2) المختصر (بيان المختصر2) : 246 .
    (3) ارشاد الساري 6/117 ـ 118 ـ دار احياء التراث العربي ـ بيروت .



( 59 )


    الجواب عن المناقشة الثانية :
    والمناقشة الثانية كان ملخصها : إنّ الإستخلاف هذا كان
    في قضية معيّنة، وفي حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما أنّ استخلاف هارون كان في حياة موسى، وقد مات هارون قبل موسى، إذن لا دلالة على الإمامة والخلافة بالمعنى المتنازع فيه .
    هذا الإشكال الذي طرحه كثيرون منهم، من ابن حجر العسقلاني، ومن القسطلاني، ومن القاري، ومن غيرهم من كبار المحدّثين، وأيضاً من المتكلّمين، لو راجعتم إلى كتبهم لوجدتم هذا الإشكال وهذه المناقشة .

    مع ابن تيمية :
    بل لو رجعتم إلى منهاج السنّة لوجدتم عبارات ابن تيميّة
    مشحونة بالبغض والعداء والتنقيص والطعن في علي (عليه السلام)، لأقرأ لكم بعض عباراته يقول :
    كان النبي كلّما سافر في غزوة أو عمرة أو حجّ يستخلف على المدينة بعض الصحابة، حتّى أنّهم ذكروا استخلاف رسول الله ابن أُم مكتوم في بعض الموارد، ولا يدّعى لابن أُم مكتوم مقام لاستخلاف النبي إيّاه في تلك الفترة .



( 60 )


    يقول ابن تيميّة : فلمّا كان في غزوة تبوك، لم يأذن في التخلّف عنها وهي آخر مغازيه، ولم يجتمع معه الناس كما اجتمعوا معه فيها ، أي في المغازي الأُخرى، فلم يتخلّف عنه إلاّ النساء والصّبيان أو من هو معذور لعجزه عن الخروج أو من هو منافق، ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم، كما كان يستخلف عليهم في كلّ مرّة، الباقون عجزة وأطفال وصبيان ونسوان، هؤلاء الباقون في المدينة لم يكن حاجة أنْ يستخلف عليهم رسول الله رجلاً مهمّاً وشخصيّةً من شخصيّاته الملتفّين حوله، بل كان هذا الإستخلاف أضعف من الإستخلافات المعتادة منه (صلى الله عليه وسلم)، أي استخلاف علي في تبوك كان أضعف من استخلاف ابن أُم مكتوم في بعض الموارد التي خرج من المدينة المنوّرة فيها .
    يقول : لأنّه لم يبق في المدينة رجال كثيرون من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم، فكان كلّ استخلاف قبل هذه يكون على أفضل ممّن استخلف عليه عليّاً، فلهذا خرج إليه علي يبكي ويقول : أتخلّفني مع النساء والصبيان ؟ فبيّن له النبي أنّي إنّما استخلفتك لأمانتك عندي، وأنّ الإستخلاف ليس بنقص ولا غضّ، فإنّ موسى استخلف هارون على قومه، والملوك وغيرهم إذا خرجوا



( 61 )


في مغازيهم أخذوا معهم من يعظم انتفاعه به ومعاونته له، ويحتاجون إلى مشاورته والإنتفاع برأيه ولسانه ويده وسيفه، فلم يكن رسول الله محتاجاً إلى علي في هذه الغزوة، حتّى يشاوره أو أن يستفيد من يده ولسانه وسيفه، فأخذ معه غيره، لأنّهم كانوا ينفعونه في هذه القضايا .
    يقول : وتشبيه الشيء بالشيء يكون بحسب ما دلّ عليه السياق، ولا يقتضي المساواة في كلّ شيء، ألا ترى إلى ما ثبت بالصحيحين من قول النبي في حديث الأُسارى لمّا استشار أبا بكر فأشار بالفداء، واستشار عمر فأشار بالقتل، قال : سأُخبركم عن صاحبيكم، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، ومثلك يا عمر مثل نوح، فقوله (صلى الله عليه وسلم) لهذا مثلك مثل إبراهيم وعيسى، وقوله لهذا مثلك مثل نوح وموسى أعظم من قوله : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى .
    هذا كلام ابن تيميّة، أي : قطعة من كلامه، وإنّا لنسأل الله سبحانه وتعالى أنْ يعامل هذا الرجل بعدله، وأن يجازيه بكلّ كلمة ما يستحقّه .



( 62 )


    وهنا ملاحظات مختصرة على هذا الكلام :
    أوّلاً : إذا لم يكن لعلي في هذا الإستخلاف فضل ومقام، وكان هذا الإستخلاف أضعف من استخلاف غيره من الإستخلافات السابقة، فلماذا تمنّى عمر أنْ يكون هذا الإستخلاف له ؟ ولماذا تمنّى سعد بن أبي وقّاص أن يكون هذا الإستخلاف له ؟
    ثانياً : قوله : إنّ عليّاً خرج يبكي، هذا كذب، علي خرج يبكي لعدم حضوره في تلك الغزوة، ولما سمعه من المنافقين، لا لأنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خلّفه في النساء والصبيان .
    وبعبارة أُخرى : قول علي لرسول الله : أتخلّفني في النساء والصبيان، كان هذا القول قبل خروج رسول الله في الغزوة، قبل أنْ يخرج، وبكاء علي وخروجه خلف رسول الله والتقاؤه به وهو يبكي، كان بعد خروج رسول الله وإنّما خرج ـ وكان يبكي ـ لما سمعه من المنافقين، لا لأنّ هذا الإستخلاف كان ضعيفاً، فالقول بأنّه لمّا استخلف مع النساء والصبيان جعل يبكي ويعترض على رسول الله هذا الإستخلاف، افتراء عليه .
    وثالثاً : ذكره الحديث الذي شبّه فيه رسول الله أبا بكر بإبراهيم، وشبّه فيه عمر بنوح، وقوله : هذا الحديث في الصحيحين، هذا كذب، فليس هذا الحديث في الصحيحين، ودونكم كتاب البخاري ومسلم، ويشهد بذلك كتاب منهاج السنّة، هذه الطبعة الجديدة المحقّقة التي حقّقها الدكتور محمّد رشاد سالم، المطبوعة



( 63 )


في السعوديّة في تسعة أجزاء، راجعوا عبارته هنا، واستشهاد ابن تيميّة بهذا الحديث ونسبة الحديث إلى الصحيحين، يقول محقّقه في الهامش : إنّ هذا الحديث إنّما هو في مسند أحمد، ويقول محقّقه ـ أي محقّق المسند الشيخ أحمد شاكر في الطبعة الجديدة ـ : هذا الحديث ضعيف .
    وهو أيضاً في مناقب الصحابة لأحمد بن حنبل، المطبوع في جزئين في السعودية أخيراً، فراجعوا لتروا المحقق يقول في الهامش : إنّ سنده ضعيف .
    فالحديث ليس في الصحيحين، ليعارض به حديث المنزلة الموجود في الصحيحين، وإنّما هو في بعض الكتب، وينصّ المحققون في تعاليقهم على تلك الكتب بضعف هذا الحديث . وكأنّ ابن تيميّة ما كان يظنّ أن ناظراً ينظر في كتابه، وأنّه سيراجع
    الصحيحين، ليظهر كذبه ويتبيّن دجله .
    وأمّا ما في كلامه من الطعن لأمير المؤمنين، فكما ذكرنا، نحيل الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، وهو أحكم الحاكمين .

    مع الأعور الواسطي :
    ومثل كلمات ابن تيميّة كلمات الأعور الواسطي، هناك
    عندهم يوسف الأعور الواسطي، له رسالة في الرد على



( 64 )


الشيعة، يقول هذا الرجل : لو سلّمنا دلالة حديث المنزلة على الخلافة، فقد كان في خلافة هارون عن موسى فتنة وفساد وارتداد المؤمنين وعبادتهم العجل، وكذلك خلافة علي، لم يكن فيها إلاّ الفساد، لم يكن فيها إلاّ الفتنة، ولم يكن فيها إلاّ قتل للمسلمين في وقعة الجمل وصفين .
    وهذا كلام هذا الناصبي الخبيث .
    وبعدُ، إذا لم يكن لاستخلاف أمير المؤمنين (عليه السلام)في تبوك قيمة ، ولم يكن له هذا الإستخلاف مقاماً، بل كان هذا الإستخلاف أضعف من استخلاف مثل ابن أُم مكتوم، فلماذا هذا الإهتمام بهذا الحديث بنقل طرقه وأسانيده، وبالتحقيق في رجاله، وبالبحث في دلالاته ومداليله ؟
    إذا كان شيئاً تافهاً لا يستحق البحث، وكان أضعف من أضعف الإستخلافات، فلماذا هذه الإهتمامات ؟
    ولماذا قول عمر : لو كان لي واحدة منهنّ كان أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس ؟
    وقول سعد : والله لأنْ تكون لي إحدى خلاله الثلاث أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس ؟
    ولماذا استشهاد معاوية بهذا الحديث أمام ذلك الرجل الذي سأله مسألةً، وكان معاوية بصدد بيان مقام علي وفضله ؟



( 65 )


    ولماذا كلّ هذا السعي لإبطال هذا الحديث وردّه ؟
    ألم يقل الفضل ابن روزبهان ـ الذي هو الآخر من الرادّين على الإماميّة واستدلالاتهم بالأحاديث النبويّة ـ ما نصّه : يثبت به ـ أي بحديث المنزلة ـ لأمير المؤمنين فضيلة الأُخوّة والمؤازرة لرسول الله في تبليغ الرسالة وغيرهما من الفضائل .
    وهكذا تسقط المناقشة الثانية .

    الجواب عن المناقشة الثالثة :
    والمناقشة الثالثة كانت دعوى اختصاص حديث المنزلة
    بغزوة تبوك .
    نعم لو كان الحديث مختصّاً بغزوة تبوك، ولو سلّمنا بأنّ سبب الورود وشأن النزول مخصّص، لكان لهذا الإشكال ولهذه المناقشة وجه .
    ولكن حديث المنزلة ـ كحديث الثقلين وكحديث الغدير ـ كرّره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواطن كثيرة، وهذه كتب القوم موجودة بين أيدينا، والباحث الحرّ المنصف يمكنه العثور على تلك الروايات، وتلك المواطن الكثيرة التي ذكر فيها رسول الله هذا الحديث .



( 66 )


    مواطن ورود حديث المنزلة :
    وأنا أذكر لكم بعض تلك المواطن ومصادر ورود حديث
    المنزلة فيها، وأُحاول أن أختصر :
    المورد الأول : قصة المؤاخاة
    قال ابن أبي أوفى : لمّا آخى النبي (صلى الله عليه وسلم) بين أصحابه، وآخى
    بين أبي بكر وعمر، قال علي : يا رسول الله ذهب روحي، وانقطع ظهري، حين رأيتك فعلت ما فعلت بأصحابك غيري، فإن كان هذا من سخط عَلَيّ فلك العتبى والكرامة، فقال رسول الله : « والذي بعثني بالحقّ، ما أخّرتك إلاّ لنفسي، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبي بعدي، وأنت أخي ووارثي »، قال : ما أرث منك يا رسول الله ؟ قال : « ما ورّث الأنبياء من قبلي »، قال : ما ورّث الأنبياء من قبلك ؟ قال : « كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم »، وأنت معي في قصري في الجنّة، مع فاطمة ابنتي، وأنت أخي ورفيقي »، ثمّ تلا رسول الله قوله تعالى : ( إخْوَاناً عَلَى سُرُر مُتَقَابِلِينَ ) .
    ذكر هذا الحديث الحافظ جلال الدين السيوطي في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى : ( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ )(1)، ولاحظوا المناسبة بين هذا الحديث وبين الآية : ( اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ).
____________
    (1) سورة الحج : 75 .


( 67 )


    يروي السيوطي في الدر المنثور هذا الحديث : عن البغوي، والباوردي، وابن قانع، والطبراني، وابن عساكر(1) .
    وهوأيضاً :في مناقب علي لأحمد(2)، وفي الرياض النضرة في مناقب العشرةالمبشرة(3)، وفي كنز العمال أيضاًعن مناقب علي(4) .
    المورد الثاني : في حديث الدار ويوم الإنذار
    ففي رواية أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره الكبير ذكر هذا
    اللفظ : « فأيّكم يقوم فيبايعني على أنّه أخي ووزيري ووصيّي ويكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي ؟ »(5) .
____________
    (1) الدر المنثور 6/76 ـ 77 .
    (2) فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) : 142 رقم 207 .
    (3) الرياض النضرة 3/182، قطعة منه .
    (4) كنز العمال 9/167 رقم 25554 و13/105 رقم 36345 .
    (5) تفسير الثعلبي : مخطوط .



( 68 )


    المورد الثالث : في خطبة غدير خم وقد تقدم في بحث حديث الغدير .
    المورد الرابع : في قضية سد الأبواب
    وقد أشرنا إليه، وفي رواية هناك يقول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «
    وإنّ عليّاً منّي بمنزلة هارون من موسى »، هذه الرواية رواها الفقيه ابن المغازلي في مناقب أمير المؤمنين(1) .
    المورد الخامس :
    هو المورد الذي قرأناه عن عمر بن الخطّاب عن مصادر كثيرة قال عمر : كفّوا عن ذكر علي ... إلى آخره .
    المورد السادس : في قضية ابنة حمزة سيّد الشهداء
    وذلك لمّا أتت من مكة، وقدمت المدينة المنورة، تخاصم فيها علي وجعفر وزيد، في هذه القضية تحاكموا إلى رسول الله
____________
    (1) مناقب الإمام علي (عليه السلام) للمغازلي : 255 ـ 257 .


( 69 )


، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي : « أمّا أنت يا علي، فأنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوّة » .
    روى هذا الخبر ابن عساكر في تاريخ دمشق(1)، والخبر موجود : في مسند أحمد(2)، وفي سنن البيهقي(3)، وغيرهما من المصادر، لكن بدل حديث المنزلة : « أنت منّي وأنا منك » .
    المورد السابع : في حديث عن جابر
    قال : جاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونحن مضطجعون في المسجد قال
    رسول الله : « أترقدون بالمسجد ! إنّه لا يرقد فيه »، فحينئذ خاطب عليّاً وكان علي فيهم قال : « تعال يا علي، إنّه يحلّ لك في المسجد ما يحلّ لي، أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوّة » .
    وهذا أيضاً في تاريخ دمشق(4) .
   
____________
    (1) ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق 1/368 رقم 409 .
    (2) مسند أحمد 1/185 رقم 933 .
    (3) سنن البيهقي 8/6 .
    (4) ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق 1/290 رقم 329 .



( 70 )


    المورد الثامن :
    « يا أُم سلمة، إنّ عليّاً لحمه من لحمي ودمه من دمي، وهو
    منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي » وهذا الحديث أيضاً في تاريخ دمشق(1) .
    وهناك موارد أكثر، وأنا تتبعت تلك الموارد وسجّلتها، ولكن أكتفي بهذا المقدار لغرض الإختصار .
    فاندفعت المناقشات كلّها، وتمّت دلالة حديث المنزلة على خلافة أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام .

    خلاصة دلالة حديث المنزلة على الخلافة
    وتتلخص وجوه الدلالة على الخلافة، أي على كون
    الحديث نصّاً في الإمامة، تتلخص في :
    أوّلاً : تمنّيات بعض أكابر الأصحاب .
    ثانياً : تكرار النبي هذا الحديث .
    ثالثاً : القرائن الداخلية في هذا الحديث وفي ألفاظه المختلفة ، وأقرأ لكم عدّةً من تلك القرائن :
   
____________
    (1) ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق 1/365 رقم 406 .


( 71 )


منها قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الحديث في حديث المنزلة : « لابدّ أنْ أُقيم أو تقيم »، ممّا يدلّ على أنّه لا يمكن أن ينوب أحد مناب رسول الله في أمر من الأُمور غير علي، ولهذا نظائر كثيرة، منها إبلاغ سورة براءة إلى أهل مكة .
    ومن القرائن الداخلية أيضاً : قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « خلّفتك أنْ تكون خليفتي » .
    وهذا أيضاً قد تقدّم .
    ومنها : قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنت منّي بمنزلةهارون من موسى ـ إلىآخره ـ فإنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك»
    أخرجه الحاكم في المستدرك قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
    ومن القرائن أيضاً : قوله لعلي : « لك من الأجر مثل مالي ومالك من المغنم مثلما لي » .
    رواه صاحب الرياض النضرة في مناقب العشرة المبشّرة(1).
    وفي حديث أيضاً من أحاديث المنزلة يقول رسول الله : « إنّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي » .
____________
    (1) الرياض النضرة 3/119 .


( 72 )


    وهذا الحديث صحيح قطعاً، وهو موجود : في مسند أحمد(1)، وفي مسند أبي يعلى، وفي المستدرك(2)، وفي تاريخ دمشق(3)، وفي تاريخ ابن كثير(4)، وفي الإصابة لابن حجر(5)، وغيرها من المصادر .
    ومن القرائن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : « أنت خليفتي في كلّ مؤمن بعدي أنت منّي بمنزلة هارون من موسى وأنت خليفتي في كلّ مؤمن بعدي » .
    وهو أيضاً بسند صحيح في خصائص علي للنسائي(6) وأمّا القرائن الخارجية فما أكثرها .
____________
    (1) مسند أحمد 1/545 رقم 3052 .
    (2) مستدرك الحاكم 3/133 ـ 134 .
    (3) ترجمة الإمام علي (عليه السلام) من تاريخ دمشق 1/209 رقم 251 .
    (4) البداية والنهاية المجلد 4 الجزء 7/338 .
    (5) الإصابة لابن حجر 4/270 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت .
    (6) خصائص النسائي : 49 ـ 50 .



( 73 )


    وإلى الآن انتهينا من البحث عن حديث المنزلة سنداً ودلالة، وظهر : إنّ حديث المنزلة نصّ في خلافة رسول الله .
    ومن يسعى وراء حمل الإمامة والخلافة بعد رسول الله على أن يكون في المرتبة الرابعة، عليه أنْ يثبت حقيّة خلافة المشايخ بالأدلة القطعية، حتّى يحمل الحديث على المرتبة الرابعة المتأخّرة عن عثمان، وإلاّ فلا يتمّ هذا الحمل .
    وإنّه يدلّ هذا الحديث أيضاً على عصمة أمير المؤمنين .
    ويدلّ أيضاً على أفضليّة أمير المؤمنين من جهة الأعلميّة وغيرها .

    قصة أروى مع معاوية
    والآن يعجبني أنْ أقرأ عليكم هذا الخبر، وإن طال بنا
    المجلس :
    دخلت أروى بنت الحارث بن عبد المطّلب بن هاشم على معاوية، وهي عجوز كبيرة، فقال لها معاوية : مرحباً بك يا خالة، كيف أنت ؟



( 74 )


فقالت : بخير يابن أُختي، لقد كفرت النعمة، وأسأت لابن عمّك الصحبة، وتسمّيت بغير اسمك، وأخذت غير حقّك، وكنّا أهل البيت أعظم الناس في هذا الدين بلاءاً، حتّى قبض الله نبيّه مشكوراً سعيه، مرفوعاً منزلته، فوثبت علينا بعده بنو تيم وعدي وأُميّة، فابتزّونا حقّنا، ولّيتم علينا تحتجّون بقرابتكم من رسول الله، ونحن أقرب إليه منكم وأولى بهذا الأمر، وكنّا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب بعد نبيّنا بمنزلة هارون من موسى .
    فقال لها عمرو بن العاص : كفّي أيّتها العجوز الضالّة، وقصّري عن قولك مع ذهاب عقلك .
    فقالت : وأنت يابن النابغة، تتكلّم وأُمّك كانت أشهر بغيّة بمكّة ، وأرخصهنّ أُجرة، وادّعاك خمسة من قريش، فسألتْ أُمّك عنهم فقالت : كلّهم أتاني، فانظروا أشبههم به فألحقوه به، فغلب عليك شبه العاص بن وائل، فألحقوك به .
    فقال مروان : كفّي أيّتها العجوز، واقصري لما جئتي له .
    قالت : وأنت أيضاً يابن الزرقاء تتكلّم .
    ثمّ التفتت إلى معاوية فقالت : والله ما جرّأهم عَلَيّ هؤلاء غيرك ، فإنّ أُمّك القائلة في قتل حمزة :



( 75 )

نحـن جـزيناكُم بيـومِ بدرِ

والحربُ بعد الحربِ ذات سعرِ

ما كان لي في عُتبة من صبرِ

وشـكرُ وحـشي عَلَيّ دهري

حتّى ترمّ أعظمي في قبري


    فأجابتها بنت عمّي وهي تقول :

خزيتِ فـي بـدر وبعدَ بدرِ

يـابنة جـبّار عظيمِ اـلكفرِ


    فقال معاوية : عفى الله عمّا سلف يا خالة، هات حاجتك .
    فقالت : مالي إليك حاجة، وخرجت عنه .
    وفي رواية : قالت : أُريد ألفي دينار لأشتري بها عيناً
    فوّارة في أرض خرّارة، تكون لفقراء بني الحارث بن عبد المطّلب، وألفي دينار أُخرى أُزوّج بها فقراء بني الحارث، وألفي دينار أُخرى أستعين بها على شدّة الزمان . فأمر لها معاوية بذلك .



( 76 )


    فأروى هذه ابنة عمّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، استشهدت بحديث المنزلة، واستدلّت على إمامة أمير المؤمنين بهذا الحديث، وشبّهت عليّاً بهارون، وأيضاً : شبّهت أهل البيت ببني إسرائيل في آل فرعون .
    وهذا الخبر تجدونه مع اختلاف في بعض الألفاظ : في العقد الفريد، وفي تاريخ أبي الفداء، وفي روضة المناظر لابن الشحنة الحنفي، الذي هو أيضاً من التواريخ المعتبرة(1) .
    وهكذا، فقد تمّت الدلالة وسقطت المناقشات كلّها، والحمد لله .

    ثانياً : المناقشات غير العلميّة
    وتصل النوبة الآن إلى الطرق الأُخرى والأساليب غير
    العلمية في ردّ حديث المنزلة، أذكرها باختصار وإنْ طال بنا المجلس، لئلاّ يبقى شيء من البحث إلى الليلة القادمة .
   
____________
    (1) العقد الفريد 2/119 ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت ـ 1403 هـ .
    تاريخ أبي الفداء 1/188 ـ مكتبة المتنبي ـ القاهرة .
    روضة المناظر ـ هامش ابن كثير ـ حوادث سنة : 60 .



( 77 )


    الطريق الأول :
    الطريق الذي مشوا عليه بعد المناقشات الفاشلة، وهو :
    تحريف الحديث، وبعد أنْ عرفوا أن لا جدوى في المكابرة في أسانيد الحديث ودلالاته رأى بعض النواصب أنْ لا مناص من تحريف الحديث، ولكنْ ما أشنع تحريفه وما أقبح صنيعه، إنّه حرّف الحديث تحريفاً لا يصدر من الكفّار .
    لاحظوا : في ترجمة حريز بن عثمان من تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وأيضاً في كتاب تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني، يروون عن حريز قوله :
    هذا الذي يرويه الناس عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنّه قال لعلي : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى »، هذا حق، ولكنْ أخطأ السامع، يقول الراوي : قلت : ما هو ؟ قال : إنّما هو : أنت منّي بمنزلة قارون من موسى، قلت : عمّن ترويه ؟ قال : سمعت الوليد بن عبد الملك يقوله وهو على المنبر(1) .
    فماذا تقولون لهذا الرجل ولرواة هذا الخبر، ولكنّ الأسف كلّ
____________
    (1) تاريخ بغداد 8/268 رقم 4365 ـ دار الكتاب العربي، تهذيب التهذيب 2/209 ـ دارالفكر ـ 1404 هـ .


( 78 )


الأسف أن يكون حَريز هذا من رجال البخاري، أن يكون من رجال الصحاح سوى مسلم، كلّهم يعتمدون عليه وينقلون عنه ويصحّحون خبره، وعن أحمد بن حنبل أنّه عندما سئل عن هذا الرجل قال : ثقة ثقة ثقة .
    والحال أنّهم يذكرون بترجمة هذا الرجل : إنّه كان يشتم عليّاً، ويتحامل عليه بشدّة، نصّوا على أنّه كان ناصبيّاً، وأنّه كان يقول : لا أُحبّ عليّاً قَتَل آبائي، كان يقول : لنا إمامنا ـ يعني معاوية ـ ولكم إمامكم ـ يعني عليّاً، وكان يلعن عليّاً بالغداة سبعين مرّة وبالعشيّ سبعين مرّة، وقد نقلوا عنه أشياء أُخرى غير هذه الأشياء .
    مع ذلك يصحّحون خبره، وأحمد بن حنبل يكرّر توثيقه : ثقة ثقة ثقة ! ويروي عنه البخاري وأصحاب الصحاح عدا مسلم .
    ومن هنا يمكن للباحث الحر أنْ يعرف موازين هؤلاء ومعاييرهم في تصحيح الحديث وتوثيق الراوي، وأنّهم كيف يتعاملون مع علي وأهل البيت .

    الطريق الثاني :
    إنّه عَمَدَ بعضهم إلى وضع حديث المنزلة للشيخين، فروى
    عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّه قال : أبو بكر وعمر منّي بمنزلة هارون من موسى .



( 79 )


    هذا الحديث يرويه الخطيب البغدادي، وعنه المنّاوي في كتاب كنوز الحقائق من حديث خير الخلائق، وهو كتاب للمنّاوي مطبوع يروي فيه هذا الحديث عن الخطيب البغدادي، والخطيب يرويه بسنده(1) .
    إلاّ أن من حسن الحظ أنّ ابن الجوزي يورد هذا الحديث الموضوع لكن لا في الموضوعات، بل في العلل المتناهية في الأحاديث الواهية ويقول : حديث لا يصح(2) .
    وأيضاً : يقول الذهبي في كتابه ميزان الإعتدال : هذا حديث منكر(3) .
    ويعيد ذكره أيضاً مرّتين ويقول : خبر كذب(4) .
   
____________
    (1) تاريخ بغداد 11/385 رقم 6257، كنوز الحقائق من حديث خير الخلائق ـ ط هامش الجامع الصغير ـ حرف الألف .
    (2) العلل المتناهية 1/199 رقم 312 .
    (3) ميزان الإعتدال 5/473 رقم 6900 ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1416 هـ .
    (4) ميزان الإعتدال 5/207 رقم 6015 .



( 80 )


    وابن حجر العسقلاني أيضاً يكذّب هذا الحديث في لسان الميزان(1) .
    وحينئذ لا يبقى مجال لاستناد أحد إلى هذا الحديث الموضوع الذي ينصّون على ضعفه أو وضعه وكذبه، مع عدم وجوده في شيء من الصحاح والمسانيد والسنن .

    الطريق الثالث :
    وتبقى الطريقة الأخيرة، وهي ردّ حديث المنزلة وعدم
    قبول صحّة هذا الحديث، مع كونه في الصحيحين وغيرهما كما عرفتم .
    وهذا الطريق مشى عليه كثير من علمائهم، ممّا يدلّ على فشلهم في الطرق الأُخرى بعد عدم تمكّنهم من إبطال هذا الحديث بمناقشات علمية .
    يقول الآمدي ـ وهو أبو الحسن سيف الدين الآمدي ـ : إنّ هذا الحديث غير صحيح .
   
____________
    (1) لسان الميزان 5/9 رقم 5828 ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ 1416 هـ، وفيه أبوبكر فقط .


( 81 )


    وابن حجر المكي ينقل كلامه في الصواعق المحرقة(1).
    وتجدون الإعتماد أيضاً على رأي الآمدي هذا في شرح المواقف(2) للشريف الجرجاني .
    ويقول القاضي الايجي في الجواب عن حديث المنزلة : إنّه لا يصحّ الاستدلال به من جهة السند(3) .
    وهكذا غير هؤلاء الذين ذكرتهم، يردّون هذا الحديث بعدم صحّة سنده، وغير واحد منهم يعتمد على كلام الآمدي .
    لكن الآمدي يذكره الذهبي في ميزان الإعتدال ونصّ عبارته : قد نفي من دمشق لسوء اعتقاده، وصحّ عنه أنّه كان يترك الصلاة(4).
   
____________
    (1) الصواعق المحرقة : 73 .
    (2) شرح المواقف للجرجاني 8/362 ـ الشريف الرضي ـ قم ـ 1412 هـ .
    (3) المصدر نفسه .
    (4) ميزان الإعتدال 3/358 رقم 3652 .



( 82 )


وأقول : إنْ كان ترك الصلاة عيباً مسقطاً للعدالة، وموجباً لسقوط الشخص وكلامه ورأيه في القضايا العلمية، فلماذا يعتمدون عليه وينقلون كلامه ؟
    ولكنْ عندي كثيرون من حفّاظ الحديث وكبار أئمّتهم المحدّثين الرواة للسنّة النبويّة، الأُمناء على الدين، يذكرون بتراجمهم أنّهم كانوا يتركون الصلاة، ولو اتّسع الوقت لذكرت لكم بعضهم، وذكرت بعض عباراتهم في الثناء عليهم وتبجيلهم وتوثيقهم وتعظيمهم، ممّا يدلّ على أنّ ترك الصلاة التي هي عمود الدين عند المسلمين ليس بطعن في شخص من هؤلاء .



( 83 )

خاتمة المطاف


   
    فهذه مناقشاتهم، وهذه محاولاتهم، وهؤلاء علماؤهم
    وحفّاظهم، والذين يعتمدون عليهم في عقائدهم، وفي أحكامهم وفروعهم الفقهيّة، ولو أنّ الله سبحانه وتعالى لم يقدّر لهذه الأُمّة خيرة علمائها ـ من هذه الطائفة المظلومة التي أصبح حالها كما قالت أروى بنت الحارث حال بني إسرائيل في آل فرعون ـ لولا هؤلاء، لاندرس الدين وضاعت آثار سيّد المرسلين، ولكن الله سبحانه وتعالى أتمّ الحجة بهؤلاء على غيرهم، وعلى الباحثين المنصفين الذين يريدون أنْ يعرفوا الحق فيتّبعونه أين ما كان، أنْ يتوصّلوا إلى واقعيات القضايا والأحوال .
    وإنّنا نسأل الله تعالى أن يثبّتنا على هذه العقيدة المستندة إلى الكتاب والسنّة المعتبرة المقبولة عند الكل، وأنْ يوفّقنا لأنْ نؤدّي واجباتنا وتكاليفنا في تبيين الحقائق وتوضيح الأُمور على ما هي عليه، ونتمكّن من مساعدة أُولئك الذين يريدون الحق، يريدون



( 84 )


الوصول إلى الواقع، يريدون الحصول على حقيقة الأمر، وما فيه رضى الله ورسوله .
    وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين .