فهرس الكتاب

مكتبة الإمام أميرالمؤمنين (ع)

 

 

عليٌّ (عليه السلام) حين إعلان الرسالة :

حديث يوم الإنذار :

وحديث يوم الإنذار هو الحديث الخاص عن اجتماع عشيرة النبيّ  (صلى الله عليه وآله) بدعوة منه لغرض دعوتهم الى بيعته ومؤازرته، وكان أوّل من أعلن استجابته لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك اليوم من عشيرته الأقربين: هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). وقد ذكر المفسّرون والمؤرّخون ومنهم الطبري في تأريخه وتفسيره معاً أنّه لمّا نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين) على رسول الله  (صلى الله عليه وآله) وضاق ذرعاً لما كان يعلم به من معاندة قريش وحسدهم، فدعا عليّاً (عليه السلام) ليعينه على الإنذار والتبليغ.

قال الإمام عليّ (عليه السلام): دعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا عليّ، إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت ذرعاً وعلمت أنّي متى اُبادرهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمتّ عليه حتى جاءني جبرئيل فقال: يا محمّد إلاّ تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك.

فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عُسّاً من لبن، واجمع لي بني عبد المطّلب حتى أُكلّمهم وأُبلّغهم ما اُمرت به.

فصنع عليّ (عليه السلام) ما أمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودعاهم وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، منهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب فأكلوا، قال عليّ (عليه السلام): فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة، وما أرى إلاّ موضع أيديهم، وأيم الذي نفس عليّ بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمتُ لجميعهم.

ثمّ قال (صلى الله عليه وآله): إسقِ القوم، فجئتهم بذلك العسّ فشربوا منه حتى رووا منه جميعاً، وأيم الله إنّه كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله. فلمّا أراد رسول الله  (صلى الله عليه وآله) أن يكلّمهم بادره أبو لهب فقال: لقد سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يكلّمهم الرسول (صلى الله عليه وآله) فأَمَرَ عليّاً في اليوم الثاني أن يفعل كما فعل آنفاً، وبعد أن أكلوا وشربوا قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا بني عبد المطّلب! إنّني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم اليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فأحجم القوم عنه جميعاً إلاّ عليّاً، فقد صاح في حماسة: أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه، فأخذ النبيّ (صلى الله عليه وآله) برقبة عليّ وقال: إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع[1].

إذاً كان يوم الدار يوم الإعلان الصريح عن بداية مرحلة جديدة في حياة النبيّ وحياة الدعوة الإسلامية، وقد اتّسمت بالتحدّي المتبادل ثمّ المواجهة السافرة بين الإسلام والشرك.

ومن تتبّع سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأحاط علماً بجميع شؤونها وتفاصيلها في بدء تشكيل الحكومة الإسلامية وتشريع أحكامها وتنظيم شؤونها ومجرياتها وفق الأوامر الإلهية; يرى أنّ علياً (عليه السلام) وزير النبيّ في كلّ أمره وظهيره على عدوّه، وساعده الّذي يضرب ويبني به وصاحب أمره الى نهاية عمره الشريف. وكان يوم الدار والإنذار يوم المنطلق الذي لم يشهد ناصراً لرسول الله (صلى الله عليه وآله) كعلي بن أبي طالب، شعاراً وشعوراً وجهاداً وفداءً.

عليٌ (عليه السلام) من إعلان الرسالة الى الهجرة النبويّة المباركة :

عجزت قريش عن إيقاف مدّ الدعوة الإسلاميّة ومنع النبيّ (صلى الله عليه وآله) من التبليغ والهداية، فقد خابت مؤامراتهم ودسائسهم، وفشلت تهمهم وتهديداتهم، لأنّ أبا طالب كان الكهف الحصين لرسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي لم يزل يدفع عنه أذى قريش وجبروتها، فلجأت قريش الى طريقة جبانة تنمُّ عن حقدها وضعفها فدفعت بالصبيان والأطفال للتعرّض للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ورميه بالحجارة، وهنا كان الدور الحاسم لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) إذ لا يتسنّى لأبي طالب ـ وهو شيخ الهاشميّين الكبير ـ مطاردة الصبيان، فكان عليّ يطارد الصبيان المترصّدين للنبيّ ويذودهم عنه[2].

عليّ (عليه السلام) في شِعب أبي طالب :

وحين أسرع الإسلام ينتشر في مكّة وأصبح كياناً يقضّ مضاجع المشركين وخطراً كبيراً يهدّد مصالحهم; عمد المشركون الى اُسلوب الغدر والقهر لإسكات صوت الرسالة الإسلاميّة، فشهروا سيوف البغي ولم يتوانَ أبو طالب في إحكام الغطاء الأمين للرسول (صلى الله عليه وآله)، لما له من هيبة ومكانة شريفة في نفوس زعماء قريش الذين لم يجرؤا على النَيْلِ من النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأنّ ذلك يعني مواجهة علنية مع أبي طالب وبني هاشم جميعاً، وقريش في غنىً عن هذه الخطوة الباهضة التكاليف.

فاتّجهوا نحو المستضعفين المسلمين من العبيد والفقراء فأذاقوهم ألوان التعذيب والقهر والمعاناة ليردّوهم عن دينهم وتمسّكهم بالنبيّ  (صلى الله عليه وآله). ولم تلق قريش غير الصمود والإصرار على الإسلام والالتزام بنهج الرسالة الإسلامية، فوجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أفضل حلّ لتخليص المستضعفين من المسلمين هو الخروج من مكّة الى الحبشة[3].

ولمّا لم يبقَ في مكّة من المسلمين إلاّ الوجهاء والشخصيات فقد كانت المواجهة الدموية هي أبعد ما يكون، وعندها سقطت كلّ الخيارات، ولم يبق أمام قريش إلاّ أن تلجأ الى عمل يضعف الرسول (صلى الله عليه وآله) ويجنّبها القتال، فكان قرارهم حصار بني هاشم ومن معهم إجتماعياً واقتصادياً باعتبارهم الحماية التي تقي الرسول من بطش قريش، فبدأت معركتها السلبية مع بني هاشم.

وتجمّع المسلمون وبنو هاشم في شِعب أبي طالب لتوفير سبل الحماية بصورة أفضل، حيث يمكن إيجاد خطوط دفاعية لمواجهة أيِّ محاولة هجومية قد تقوم بها قريش[4].

وللمزيد من الاحتياط والحرص على سلامة حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) كان أبو طالب يطلب من ولده عليّ أن يبيت في مكان الرسول ليلاً حرصاً على سلامته من الاغتيال والمباغتة من قبل الأعداء من خارج الشِعب[5]، وكان عليّ  (عليه السلام) يُسارع إلى الامتثال لأوامر والده ويضطجع في فراش النبيّ (صلى الله عليه وآله) فادياً نفسه من أجل الرسالة وحاملها.

ولم يكتف عليّ (عليه السلام) بهذا القدر من المخاطرة بنفسه، بل كان يخرج من الشِعب الى مكّة سرّاً ليأتي بالطعام الى المحاصرين[6]، إذ اضطرّوا في بعض الأيام أن يقتاتوا على حشائش الأرض.

لم يكن لأحد أن يقوم بمثل هذه الأعمال في تلك الفترة العصيبة إلاّ من ملك جناناً ثابتاً وقلباً شجاعاً ووعياً رسالياً وحبّاً متفانياً للرسول (صلى الله عليه وآله)، ذلك هو عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) الذي قضى في الشِعب جزءً من زهرة شبابه حيث دخله وعمره سبعة عشر عاماً وخرج منه وعمره عشرون عاماً، فكانت تجربة جديدة في حياته عَوَّدته على الاستهانة بالمخاطر، وأهّلته لتلقّي الطوارئ والمهام الجسام، وجعلته أكثر التصاقاً بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) كما عوّدته على الصبر والطاعة والتفاني في ذات الله تعالى وحبّ الرسول(صلى الله عليه وآله).

علي (عليه السلام) والهجرة الى الطائف :

لقد تراكمت الأحداث على الرسول، واشتدّت قريش في تحدّيه وإيذائه بعد وفاة عمّه أبي طالب، ولم يعد في مكّة من تهابه قريش وترعى له حرمة، حتى قال النبيّ (صلى الله عليه وآله): «ما زالت قريش كاعّةً عنّي حتى مات أبو طالب»[7] فكان عليه أن يُغيّر مكانه ويستبدله بمكان أكثر أمناً يستطيع منه الانطلاق لنشر الدعوة الإسلاميّة الى أرجاء الجزيرة العربية والعالم أجمع، فأخذ يعرض نفسه على القبائل وابتدأ أوّلاً بالطائف، وبعد عشرة أيام من مكوثه هناك لم تتجاوب معه ثقيف، بل أغْرت به الصبيان والخدم والعبيد ليرشقوه بالحجارة، فوقف عليّ (عليه السلام) ومعه زيد بن حارثة يتلقّيان الضربات ويمنعان الصبية عن مواصلة الاعتداء حتى اُصيبا بجروح في جسدهما، ومع ذلك تعرّض رسول الله (صلى الله عليه وآله) للإصابة وسالت الدماء من ساقيه[8].

وروي أنّه كان للنبيّ (صلى الله عليه وآله) عدّة هجرات اُخرى تحرّك خلالها لعرض نفسه على القبائل لنشر الدعوة الإسلامية وتحصين دعوته، ولم يكن معه في حركته إلاّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فخرج الى بني عامر بن صعصعة والى ربيعة وبني شيبان[9]. وعليّ يلازمه في كلّ خطواته.

علي (عليه السلام) في بيعة العقبة الثانية :

وحين تمّ الاتّفاق على اللقاء التأريخي بين طلائع المسلمين القادمين من المدينة مع قائدهم الرسول (صلى الله عليه وآله) في بيت عبد المطلب سرّاً وقف الى جانب الرسول عمّه حمزة وعليّ والعباس[10]، وتمّت البيعة على أفضل شكل.

وعلى رغم كلّ التدابير التي اتّخذت لسرّيّة اللقاء وإنجاحه إذ تمّ انعقاده دون علم أحد حتى من المسلمين، إلاّ أنّ أنباءه قد تسرّبت الى المشركين، فتجمّعوا وأقبلوا مع أسلحتهم الى مكان الاجتماع، فخرج اليهم حمزة ومعه عليّ (عليه السلام) بسيفهما، فسألوا حمزة عن الاجتماع فأنكر ذلك فرجعوا خائبين.

إنّ حضور عليّ (عليه السلام) في هذا الحدث الهام والاجتماع التأريخي يكشف عن دور عليّ (عليه السلام) في أهمّ لحظات الدعوة وتأريخ الرسالة، لأنّه كان يعطي الأنصار صورة جيدة عن رسول الإسلام وعن حماية بني هاشم له  (صلى الله عليه وآله) فتزداد ثقتهم واطمئنانهم بالدعوة والرسالة الإسلامية.

وكان تخطيطاً مُوفّقاً وتدبيراً محكماً من النبيّ (صلى الله عليه وآله)، إذ استعان بأشجع رجال بني هاشم حمزة وعليّ (عليهما السلام) فهما اللّذان عُرفا بالبأس والشدّة في توفير القدر الكافي من الحماية للرسول وللرسالة معاً.

عليّ (عليه السلام) ليلة هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) الى المدينة

كان الانفتاح الرسالي العظيم الذي قام به النبيّ (صلى الله عليه وآله) إثر المعاهدة التي أبرمها مع الأوس والخزرج في بيعة العقبة الثانية[11]، والذي كان نقطة انطلاق الدعوة الإسلامية الى العالم الأوسع، والخطوة الكبيرة لبناء المجتمع الرسالي المؤمن، بعد أن انتشر الإسلام في يثرب بجهود الصفوة من الدعاة المخلصين والمضحّين من أجل الله ونشر تعاليم الإسلام، وبذا أصبح للمسلمين بقعة آمنة تمثّل محطة مركزية ومهمة لبلورة العمل الثقافي والتربوي والدعوة الإلهية في مجتمع الجزيرة العربية.

وحين تمادى طغاة قريش في إيذاء المسلمين والضغط عليهم لإرغامهم على ترك الدين الإسلامي وفتّهم عن نصرة النبيّ (صلى الله عليه وآله) وحين كثر عتوّهم واضطهادهم; أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) أصحابه بالهجرة إلى يثرب، فقال  (صلى الله عليه وآله): «إنّ الله قد جعل لكم داراً تأمنون بها وإخواناً»، فخرجوا على شكل مجاميع صغيرة وبدفعات متفرّقة خفيّة عن أنظار قريش[12].

ومع كلّ المعاناة التي لاقاها النبيّ (صلى الله عليه وآله) من القريب والبعيد والضغوط والتكذيب والتهديد حتى قال (صلى الله عليه وآله): «ما اُوذي أحد مثل ما اُوذيت في الله»[13] فإنّ أمله بالنصر على الأعداء والنجاح من تبليغ الدعوة الإسلامية لم يضعف، وثقته المطلقة بالله كانت أقوى من قريش ومؤامراتها، وقد عرفت قريش فيه  (صلى الله عليه وآله) ذلك وتجسّدت لديها الأخطار التي ستكشف عنها السنون المقبلة إذا تسنّى لمحمّد  (صلى الله عليه وآله) أن يلتحق بأصحابه ويتّخذ من يثرب مستقراً ومنطلقاً لنشر دعوته، فأخذوا يعدّون العدّة ويخطّطون للقضاء عليه قبل فوات الأوان على شرط أن لا يتحمّل مسؤولية قتله شخص معيّن أو قبيلة لوحدها، فلا تستطيع بنو هاشم وبنو المطلب مناهضة القبائل جميعاً في دم صاحبهم فيرضون حينئذ بالعَقل منهم.

فكان القرار بعد أن اجتمعوا في دار الندوة وقد كثرت الآراء بينهم أن يندبوا من كلّ قبيلة فتىً شابّاً جلداً معروفاً في قبيلته، ويعطى كلّ منهم سيفاً صارماً ثم يجمعون على النبيّ (صلى الله عليه وآله) في داره، ويضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه، واتّفقوا على ليلة تنفيذ الخطة، فأتى جبرئيل الى النبيّ وأخبره بذلك، وأمره أن لا يبيت في فراشه، وأذن له بالهجرة، فعند ذلك أخبر عليّاً باُمورهم وأمره أن ينام في مضجعه على فراشه الذي كان ينام فيه، ووصاه بحفظ ذمّته وأداء أمانته، وقال له أيضاً: «إذا أبرمت ما أمرتك به; فكن على اُهبة الهجرة الى الله ورسوله، وسر لقدوم كتابي عليك»[14]، وهنا تتجلى صفحة من صفحات عظمة علي (عليه السلام)، إذ استقبل أمر الرسول (صلى الله عليه وآله) بنفس مؤمنة صابرة مطمئنّة، فرسم لنا أكمل صورة للطاعة المطلقة في أداء المهمّات استسلاماً واعياً للقائد وتضحية عظيمة من أجل العقيدة والمبدأ، فما كان جوابه (عليه السلام) إلاّ أن قال للرسول(صلى الله عليه وآله): «أوتسلم يا رسول الله إن فديتك نفسي؟».

فقال (صلى الله عليه وآله): «نعم بذلك وعدني ربّي»; فتبسّم علي (عليه السلام) ضاحكاً، وأهوى إلى الأرض ساجداً ، شكراً لما أنبأه به رسول الله (صلى الله عليه وآله) من سلامته[15].

ثمّ ضمّه النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى صدره وبكى وَجْداً به، فبكى عليّ (عليه السلام) لفراق رسول الله (صلى الله عليه وآله)[16].

وعندما جاء الليل; اتّشح عليّ (عليه السلام) ببرد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي اعتاد أن يتّشح به، واضطجع في فراش النبيّ مطمئن النفس رابط الجأش ثابت الجنان مبتهجاً بما أوكل اليه فرحاً بنجاة النبيّ، وجاء فتيان قريش والشرّ يملأ نفوسهم ويعلو سيوفهم، وأحاطوا بالبيت وجعلوا ينظرون من فرجة الباب الى حيث اعتاد النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن ينام فيه فرأوا رجلاً ينام على فراشه، فأيقنوا بوجود النبيّ، واطمأنت قلوبهم على سلامة خطّتهم، فلمّا كان الثلث الأخير من الليل خرج النبيّ  (صلى الله عليه وآله) من الدار وقد كان مختبئاً في مكان منها، وانطلق الى غار «ثور» وكَمَنَ فيه ليواصل بعد ذلك هجرته المباركة.

ولمّا حانت ساعة تنفيذ خطّتهم; هجموا على الدار، وكان في مقدّمتهم خالد ابن الوليد، فوثب عليّ (عليه السلام) من فراشه فأخذ منه السيف وشدّ عليهم فأجفلوا أمامه وفرّوا الى الخارج، وسألوه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): فقال: لا أدري إلى أين ذهب.

وبذلك كتب الله السلامة لنبيّه (صلى الله عليه وآله) والانتشار لدعوته.

بهذا الموقف الرائع والإقدام الشجاع والمنهج الفريد سنّ عليّ (عليه السلام) سنّة التضحية والفداء لكلّ الثائرين من أجل التغيير والإصلاح والسائرين في دروب العقيدة والجهاد. لم يكن همّ عليّ (عليه السلام) إلاّ رضا الله وسلامة نبيّه  (صلى الله عليه وآله) وانتشار دعوته المباركة، فنزلت في حقّه الآية المباركة: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد)[17].

مباهاة الله ملائكته بموقف عليّ (عليه السلام):

كان مبيت عليّ (عليه السلام) على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) خذلاناً سافراً لقريش المعتدية، فقد خابت آمالهم وفشلت خططهم في قتل الرسول، وكان فيها إرغام الشيطان وعلو شأن الإيمان، ولم يكن أيّ عمل نظيراً للمبيت في الثواب والقيمة، كيف وقد باهى الله بهذه التضحية ملائكته، كما روي:

أ نّه ليلةَ بات عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله); أوحى الله تعالى الى جبرئيل وميكائيل: إنّي قد آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟

فاختار كلاهما الحياة وأحبّاها، فأوحى الله تعالى اليهما: أفلا كنتما مثل عليّ ابن أبي طالب حين آخيت بينه وبين محمّد، فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، اهبطا الى الأرض فاحفظاه من عدوّه، فهبط جبرئيل فجلس عند رأسه وميكائيل عند رجليه، وجعل جبرئيل يقول: بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة فوق سبع سماوات[18]؟

مهامّ ما بعد ليلة المبيت :

مع إطلالة فجر اليوم الأوّل للهجرة المباركة وظِلال السلام والأمان الإلهي تحوط رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كلّ خطوة يخطوها نحو يثرب مقرّ الرسالة الإسلامية الجديد، انفرجت أسارير قلب عليّ (عليه السلام)، فقد انصرم الليل الرهيب باحتمالاته العديدة ومكارهه الكثيرة دون أن يقع شيء يمس حياته (عليه السلام) بخطر أو مكروه، واستطاع أن يؤدّي المهمّة على أكمل وجه، فقد كان على قدر عال من الانضباط والدقّة والوعي في التنفيذ.

وبقيت أمام عليّ (عليه السلام) مهمات اُخرى لم يكن بمقدور أحد أن يقوم بها، منها: أداء الأمانات التي كانت مودعة عند النبيّ (صلى الله عليه وآله) الى أصحابها ـ وهم من المشركين ـ الذين وثقوا بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) لأمانته وإخلاصه، فقد اشتهر بين قريش بالصادق الأمين، وكذلك من يقدم من العرب في الموسم فأودعوا عنده الحلي والأموال، ولم يكن الرسول ممّن يخل بتعهداته أو يخون أماناته حتى ولو كانت الظروف المحيطة صعبة والخطورة تهدّد حياته الشريفة في تلك اللحظات المتسارعة التي يطير لبّ العاقل فيها، لم ينس النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يوكل هذه المهمّة الى رجل يقوم بها خير قيام، ولم يكن إلاّ عليّ (عليه السلام) لأنّه الأعرف بشؤون رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبالمودعين وأموالهم وهو القويّ الأمين.

فأوصل (عليه السلام) الأمانات الى مَن كان من أصحابها، ثم قام على الكعبة منادياً بصوت رفيع: يا أيّها الناس هل من صاحب أمانة؟ هل من صاحب وصيّة؟ هل من صاحب عدة له قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فلمّا لم يأت أحد لحق بالنبيّ (صلى الله عليه وآله)، وكان مقام عليّ بن أبي طالب بعد النبي بمكّة ثلاثة أيام[19].

هجرة الإمام عليّ (عليه السلام) :

وصل رسول الله (صلى الله عليه وآله) الى (قُبا) بسلام، واستقبلته جموع الأنصار، ومن هناك بعث بكتابه إلى عليّ (عليه السلام) يأمره فيه بالمسير إليه والإسراع في اللحاق به، وكان قد أرسل إليه أبا واقد الليثي، وحين وصل اليه كتاب رسول الله  (صلى الله عليه وآله) اشترى عليّ (عليه السلام) الركائب وأعدّ العدّة للخروج، وأمر من بقي معه من ضعفاء المسلمين أن يتسلّلوا ويتخفّفوا[20] إذا ملأ الليل بطن كلّ واد إلى ذي طوى[21]، وبدأت المهمّة الشاقّة الثالثة أمام عليّ (عليه السلام) وهي الرحيل برفقة النساء نحو يثرب، وخرج هو ومعه الفواطم: فاطمة بنت رسول الله، واُمّه فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الزبير بن عبدالمطلب، وفاطمة بنت حمزة، وتبعهم أيمن مولى رسول الله وأبو واقد الليثي[22].

وتولّى أبو واقد الليثي سوق النياق، ولشدّة خشيته كان يحثّ الخطى سريعاً حتى لا يلحق بهم الأعداء.

وعزّ على عليّ (عليه السلام) أن يرى نساء بني هاشم على تلك الحالة من الجهد والعناء من سرعة الحركة، فقال (عليه السلام): ارفق بالنسوة أبا واقد، إنّهن من الضعائف.

وأخذ (عليه السلام) بنفسه يسوق الرواحل سوقاً رقيقاً، وهو ينشد ليبعث الطمأنينة في نفوس من معه:

ثمّ شدّ على بقية الفرسان وهو راجل، ففرّوا من بين يديه فزعين خائفين[23].

وقالوا: احبس نفسك عنّا يا ابن أبي طالب، فقال لهم: فإنّي منطلق الى أخي وابن عمّي رسول الله، فمن سرّه أن أفري لحمه وأُريق دمه فليدنُ منّي، فهرب الفرسان على أدبارهم خائبين.

ثمّ أقبل (عليه السلام) على أيمن وأبي واقد وقال لهما: أطلقا مطاياكما، فواصل الركب المسير حتّى وصلوا «ضجنان» فلبث فيها يوماً وليلة حتى لحق به نفر من المستضعفين، وبات فيها ليلته تلك هو والفواطم يصلّون ويذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم حتى طلع الفجر، فصلّى بهم عليّ (عليه السلام) صلاة الفجر، ثمّ سار لوجهه يجوب منزلاً بعد منزل لا يفتر عن ذكر الله حتى قدموا المدينة.

وقد نزل الوحي قبل قدومهم بما كان من شأنهم وما أعدّه الله لهم من الثواب والأجر العظيم بقوله تعالى: (الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكّرون في خلق السماوات... فاستجاب لهم ربّهم... فالذين هاجروا واُخرجوا من ديارهم وأُوذوا في سبيلي وقاتلوا... ولأدخلنّهم جنات... والله عنده حسن الثواب)[24].

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في «قباء» نازلاً على عمرو بن عوف، فأقام عندهم بضعة عشر يوماً يصلّي الخمس قصراً، يقولون له: أتقيم عندنا فنتّخذ لك منزلاً ومسجداً؟ فيقول (صلى الله عليه وآله): لا، إنّي أنتظر عليّ بن أبي طالب، وقد أمرته أن يلحقني، ولست مستوطناً منزلاً حتى يقدم عليٌّ، وما أسرعه إن شاء  الله[25]!

وحين وصل عليّ (عليه السلام); كانت قدماه قد تفطّرتا من فرط المشي وشدّة الحرّ، وما أن رآه النبيّ (صلى الله عليه وآله) على تلك الحالة; حتى بكى عليه إشفاقاً له، ثمّ مسح يديه على قدميه فلم يشكهما بعد ذلك[26].

ثمّ إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا قدم عليه عليّ (عليه السلام); تحوّل من قباء الى بني سالم ابن عوف وعلي معه، فخطّ لهم مسجداً، ونصب قبلته، فصلّى بهم فيه ركعتين، وخطب خطبتين، ثمّ راح من يومه إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها وعليّ لا يفارقه، يمشي بمشيه، وأخيراً نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند أبي أيوب الأنصاري وعليّ معه حتى بنى له مسجده وبنيت له مساكنه، ومنزل عليّ (عليه السلام) فتحوَّلا إلى منازلهما[27].

من معاني مبيت الإمام (عليه السلام) في فراش النبيّ (صلى الله عليه وآله) :

1 ـ إنّ مبيت الإمام (عليه السلام) ليلة الهجرة في فراش النبيّ (صلى الله عليه وآله) بمثابة إعلان عن نضج شخصية الإمام علي الرسالية، وأهليّته في أن يمثّل شخصيّة الرسول الّذي يعهد اليه في كلّ أمر مستصعب وخطب جليل ودعوة مهمّة.

2 ـ كانت عملية التمويه على قريش بارتداء الإمام (عليه السلام) رداء رسول الله  (صلى الله عليه وآله) ومبيته في فراشه ربطاً لصلة القرابة بالعلاقة المبدئية، وتأكيداً لمبدأ أنّ نفس علي هي نفس الرسول(صلى الله عليه وآله)، وخصوصاً حين أتمّ مهامّه الاُخرى التي تصرّف فيها الإمام بالاُمور المالية والاجتماعية الخاصة بالرسول(صلى الله عليه وآله).

3 ـ إنّ ثبات الإمام (عليه السلام) ثلاثة أيام في مكّة كان تأكيداً لشجاعته حين أعلن الإمام بكلّ جرأة وثقة موقفه المبدئي بأنّه ثابت على خطى الرسول، وقد نفّذ أوامره وأنجز مهامه بهدوء ودقة تامّة، ثمّ هجرته العلنية أمام أنظار قريش.

4 ـ تجلّت في عملية المبيت بعض الجوانب العظيمة من شخصيّة الإمام  (عليه السلام) والتي أوجزت حقيقة شجاعة الإمام وقوّته النفسية والبدنية ونضوجه الذهني ووعيه الرسالي واستيعابه للأوامر الآلهية.

 

[1] تأريخ الطبري: 2 / 63 ط مؤسسة الأعلمي، والكامل في التأريخ: 2 / 62، ومثله في الإرشاد للمفيد: 42 الباب 2 الفصل 7، وأيضاً في تفسير مجمع البيان: 7 / 206 وتأريخ دمشق لابن عساكر: 1 / 86 .

[2] الاختصاص للمفيد :  146.

[3] سيرة ابن هشام: 1 / 321.

[4] سيرة ابن هشام: 1 / 350، واعلام الورى: 1 / 125.

[5] البداية والنهاية لابن كثير: 3 / 84 .

[6] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 13 / 256.

[7] أعيان الشيعة: 1 / 235، وسيرة ابن هشام : 2 / 57، 58.

[8] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1 / 127.

[9] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 4 / 125.

[10] السيرة الحلبية: 2 / 174.

[11] السيرة النبوية لابن هشام: 1 / 440، وموسوعة التاريخ الإسلامي: 1/700.

[12] السيرة النبوية لابن هشام: 1 / 480، والمناقب لابن شهرآشوب: 1 / 182، وموسوعة التاريخ الإسلامي: 1/717.

[13] كنز العمال : 3/130 ، ح 5818، حلية الأولياء: 6/333.

[14] الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 45، وبحار الأنوار: 19 / 59 ـ 60.

[15] ذكر قصّة مبيت الإمام عليّ (عليه السلام) في فراش النبي (صلى الله عليه وآله) عدد كبير من العلماء والمؤرّخين منهم: الطبري: 2 / 99، وأحمد بن حنبل في مسنده: 1 / 331، واُسد الغابة: 4 / 45، وابن عساكر في تأريخ دمشق: 1 / 137، والحاكم في المستدرك: 3 / 4 ، وبحار الأنوار : 19 / 60 .

[16] أعيان الشيعة: 1 / 275.

[17] البقرة (2) : 207. راجع في شأن نزول الآية شرح النهج لابن أبي الحديد: 13 / 262، وإحياء العلوم للغزالي: 3 / 238، والكفاية للكنجي: 114، والتذكرة لسبط ابن الجوزي: 41، ونور الابصار للشبلنجي: 86، والطبقات لابن سعد: 1 / 212، وتأريخ اليعقوبي: 2 / 29، وسيرة ابن هشام: 2 / 291، والعقد الفريد لابن عبد ربّه: 3 / 290، وتفسير الرازي: 5 / 223، وشواهد التنزيل للحسكاني: 1 / 96.

[18] تذكرة الخواص: 41، والسيرة الحلبية بهامشه السيرة النبوية: 2 / 27، والفصول المهمّة لابن الصبّاغ: 48، والمناقب لابن شهراشوب: 2 / 65، وبحار الأنوار: 19 / 39، واُسد الغابة لابن الأثير: 4 / 25.

[19] المناقب لابن شهرآشوب: 2 / 58، ومروج الذهب للمسعودي: 2 / 285.

[20] يتخفّفوا: لا يحملوا معهم شيئاً يثقل عليهم.

[21] ذي طوى: موضع قرب مكة .

[22] أمالي الطوسي : 2 / 84 ، وعنه بحار الأنوار : 19 / 64 .

[23] بحار الأنوار : 19 / 65 .

[24] آل عمران (3) : 191 ـ 195 ، راجع بحار الأنوار : 19 / 66 ـ 67 .

[25] روضة الكافي: 339.

[26] بحار الأنوار: 19 / 64، والمناقب لابن شهرآشوب: 1 / 182، والكامل لابن الأثير: 2 / 106.

[27] روضة الكافي: 339 ـ 340.