فهرس الكتاب

مكتبة الإمام أميرالمؤمنين

 

الفصل الثاني

أعظم ما في خطب الوداع

بشارة النبي صلى الله عليه وآله بالائمة الإثني عشر بعده

في اعتقادنا أن ولاية الأمر بعد النبي صلى الله عليه وآله كانت أمراً مفروغاً عنه عند الرسول صلى الله عليه وآله ، وأن الله تعالى أمره أن يبلغ الأمة ولاية عترته من بعده ، كما هي سنته تعالى في أنبيائه السابقين الذين ورث عترتهم الكتاب والحكم والنبوة ، وجعلهم ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ..

ونبينا صلى الله عليه وآله أفضلهم ، ولا نبوة بعده ، بل إمامة ووراثة الكتاب . . وعترته وذريته صلى الله عليه وآله أفضل من ذريات جميع الأنبياء عليهم السلام ، وقد طهرهم الله تعالى بنص كتابه ، واصطفاهم وأورثهم الحكم والكتاب بنص كتابه (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا.. ) .

وكان النبي صلى الله عليه وآله كان طوال نبوته يبلّغ ولاية عترته بالحكمة والتدريج ، والتلويح والتصريح ، لعلمه بحسد قريش لبني هاشم ، وخططها لإبعادهم عن الحكم بعده .. بل قد لمس صلى الله عليه وآله مرات عديدة عنف قريش ضدهم ، فأجابهم بغضب نبوي !

وكانت حجة الوداع فرصةً مناسبةً للنبي صلى الله عليه وآله لكي يبلغ الأمة ولاية الأمر لعترته رسمياً على أوسع نطاق ، حيث لم يبق بعد تبليغ الفرائض والأحكام ، واتساع الدولة الإسلامية ، والمخاطر المحيطة بها ، وإعلان النبي صلى الله عليه وآله قرب رحيله إلى ربه .. إلا أن يرتب أمر الحكم من بعده .

بل تدل النصوص ومنطق الأمور ، على أن ذلك كان الهم الأكبر للنبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع ، وأن قريشاً كانت تعرف جيداً ماذا يريد صلى الله عليه وآله ، وتعمل لمنعه من إعلان ذلك ! وأنها زادت من فعاليتها في حجة الوداع لمنع تكريس ولاية علي والعترة عليهم السلام .

ولا يتسع هذا البحث للإستدلال على المفردات التي ذكرناها .. وكل مفردة منها عليها عدة أدلة .. فنكتفي هنا باستطلاع خطب النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع .. حيث ذكرت المصادر أنه صلى الله عليه وآله خطب خمس خطب غير خطبة الغدير ، وكان من حق هذه الخطب النبوية أن تنقلها المصادر كاملة غير منقوصة ، لأن المستمعين كانوا عشرات الألوف .. ولكنك تراها مجزأة مقتضبة ، خاصة في الصحاح المعتمدة رسمياً عند الخلافة القرشية . قال في السيرة الحلبية : 3/333 :

( خطب صلى الله عليه وسلم في الحج خمس خطب : الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة ، والثانية يوم عرفة ، والثالثة يوم النحر بمنى ، والرابعة يوم القر بمنى ، والخامسة يوم النفر الأول بمنى أيضاً ) . انتهى .

وقد راجعنا نصوص هذه الخطب من أكثر من مائة مصدر ، فوجدنا فيها الغرائب والعجائب ، من التعارض والتضارب ، والمؤشرات والأدلة على تدخلات قريش ورواتها في نصوصها !! وكل ذنب هذه الخطب أن النبي صلى الله عليه وآله أمر المسلمين فيها بإطاعة أهل بيته من بعده ، وحذرهم من الإختلاف بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ، وأقام عليهم الحجة .. كاملةً غير منقوصة !

لكن رغم التعتيم القرشي ، ما زال منها في المصادر القرشية نفسها ما فيه بلاغٌ لمن أراد معرفة أوامر نبيه ، وتأكيده على الإلتزام بقيادة عترته الطاهرين من بعده.. صلى الله عليه وعليهم .

الأحاديث النبوية في الأئمة الإثني عشر

نذكر فيما يلي نصوص أحاديث الأئمة الإثني عشر ، حيث اتفق الجميع على أن النبي صلى الله عليه وآله طرح قضيتهم في خطبه في حجة الوداع !

ثم نستعرض باختصار أهم ما تضمنته الخطب الشريفة من محاور تتعلق بها ، ومنها حديث الثقلين الكتاب والعترة .. وحديث : حوض النبي صلى الله عليه وآله ، والصحابة الذين يمنعون من الورود عليه ، ويؤمر بهم إلى النار !

روى البخاري في صحيحه : 8/127 :

( جابر بن سمرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : يكون اثنا عشر أميراً ، فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنه قال : كلهم من قريش ) !

وفي صحيح مسلم : 6/3 :

( جابر بن سمرة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لايزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة، ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي: ما قال ؟ فقال : كلهم من قريش ) !

ثم روى مسلم رواية ثانية نحوها ، قال فيها ( ثم تكلم بشيء لم أفهمه ) .

ثم روى ثالثة ، جاء فيها : ( لايزال هذا الدين عزيزاً منيعاً إلى إثني عشر خليفة ، فقال كلمة صَمَّنِيَها الناس ! فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلهم من قريش ) . انتهى .

ولم يصرح البخاري ولم يشر إلى أن هذا الحديث جزء من خطبة حجة الوداع في عرفات ! وقلدته أكثر المصادر في ذلك ! لكن عدداً منها (اشتبه ) ونص عليه ، ففي مسند أحمد : 5/93 و96 و99 : ( عن جابر بن سمرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات ، فقال ... ) وفي ص 87 :
( يقول في حجة الوداع . . . ) . وفي ص 99 منه : ( وقال المقدمي في حديثه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يخطب بمنى ) . انتهى .

وستعرف أنه صلى الله عليه وآله كرر هذا الموضوع المهم في عرفات ، وفي منى عند الجمرة يوم العيد ، وفي اليوم الثاني .. ثم في اليوم الثالث في مسجد الخيف . ثم أعلنه صريحاً قاطعاً إلزامياً .. في غدير خم !

* * *

فما هي قصة الأئمة الإثني عشر ؟ ولماذا طرحها النبي صلى الله عليه وآله على أكبر تجمع للمسلمين ، وهو يودع أمته ؟!

يجيبك البخاري : إن الأئمة بعد النبي أبو بكر وعمر ، وهؤلاء ليسوا أئمة تجب طاعتهم دون سواهم ، بل هم أمراء صالحون سوف يكونون في أمته في زمن ما ، وقد أخبر صلى الله عليه وآله أمته بما أخبره الله تعالى من أمرهم ، وأنهم جميعاً من قريش ، لامن بني هاشم وحدهم ، بل من البضع وعشرين قبيلة التي تتكون منها قريش ، وليس فيهم من الأنصار ، ولا من قبائل العرب الأخرى ، ولا من غير العرب .. وهذا كل ما في الأمر .

وتسأل البخاري : لماذا أخبر النبي صلى الله عليه وآله أمته في حجة الوداع في عرفات بهؤلاء الإثني عشر؟ وما هو الأمر العملي الذي يترتب على ذلك ؟!

يجيبك البخاري : بأن الموضوع مجرد خبر فقط ، فقد أحب النبي صلى الله عليه وآله أن يخبر أمته بذلك ، لكي تأنس به ! فكأن الموضوع مجرد خبر صحفي ليس فيه أي عنصر عملي !!

والنتيجة : أن البخاري لم يروِ في صحيحه في الأئمة الإثني عشر إلا هذه الرواية اليتيمة المجملة المبهمة ، التي لايمكنك أن تفهمها أنت ولا قومك !

بينما روى عن حيض أم المؤمنين عائشة في حجة الوداع روايات عديدة ، واضحة مفهومة ، تبين كيف احترمها النبي صلى الله عليه وآله ، وأرسل معها من يساعدها على إحرامها وعمرتها .. إلخ .

* * *

أما مسلم فكان أكرم من البخاري قليلاً ، لأنه اختار رواية يفهم منها أن هؤلاء الإثني عشر هم خلفاء ، يحكمون بعد النبي صلى الله عليه وآله !

ويفرح المسلم بحديث مسلم هذا ، لأنه يعني أن الله تعالى قد حل مشكلة الحكم في الأمة بعد نبيه صلى الله عليه وآله ، فهؤلاء أئمة معينون من الله تعالى على لسان نبيه ، ويستمدون شرعيتهم من هذا التعيين ، ولا يحتاج الأمر إلى سقيفة واختلافات ثم إلى صراع دموي على الحكم من صدر الإسلام إلى يومنا هذا .. وملايين الضحايا على مذبح الخلافة .. وانقساماتٍ في الأمة أدت إلى تراكم ضعفها .. حتى انهارت خلافتها وكيانها على يد العثمانيين !

ولكن رواية مسلم تقول : كلا لم تحل المشكلة ، لأن النبي أخبر عنهم إخباراً مجملاً ! ولم يخبر المسلمين عن هويتهم وأسمائهم ؟ ولم يسأله أحد من عشرات الألوف الذين أخبرهم بهذا الموضوع الخطير : من هم يا رسول الله ؟!

ولو أن أحداً سأله عنهم فسماهم أو سمى الأول منهم ، لرضيت بذلك كل قبائل قريش وسلمت إليهم الأمر ولم تنازعهم ، لأنها قبائل مؤمنة مخلصة ، مترفعة عن حطام الدنيا ، مطيعة لله تعالى ولرسوله !!

وكأن مسلماً يقول : مع أن روايتي فيها إضافة على ما رواه البخاري فأنا لاأزيد على ماقال : كلا ، كلا . . إن هؤلاء الأئمة هم أناس ربانيون فقط ، يعز الله بهم الإسلام .. وهم من قريش .. من قريش .. هذا كل مافي الأمر !!

وهكذا لايمكنك أن تصل من البخاري ومسلم إلى نتيجة مقنعة في أمر هؤلاء الأئمة الإثني عشر .. فقد أقفل الشيخان عليك الأبواب ، وقالا لك مقولة قريش : إن نبيك تحدث في حجة الوداع عن رائحة الأئمة الإثني عشر فقط .. فَشُمَّهَا واسكت !

ولكنك لاتعدم الكشف عن عناصر مفيدة من مصادر قرشية أخرى ، أقل مراعاة من البخاري ومسلم للسياسة وأهلها ، أو أن ظروف أصحابها أحسن من ظروفهما ! فقد رووا كلمة ( بعدي ) بصيغ أكثر دلالة على أنهم يكونون مباشرة بعد النبي صلى الله عليه وآله .

فقد روى أحمد في مسنده : 5/92 : عن نفس الراوي جابر السوائي قال : إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يكون ( بعدي ) . . وروى في نفس الصفحة عن نفس الراوي جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش . قال ثم رجع إلى منزلهفأتته قريش فقالوا : ثم يكون ماذا ؟ قال ثم يكون الهرج . انتهى . ففي الروايتين كلمة ( بعدي ) التي يفهم منها أنهم يكونون بعده مباشرة . والرواية الثانية تكشف عن اهتمام قريش بالموضوع ، وسؤالهم عن هؤلاء الأئمة الربانيين ، وأن القصة في المدينة ، لافي حجة الوداع ، فاحفظ ذلك لما يأتي !

وقد وردت كلمة بعدي ، ومن بعدي ، في عدد من روايات الحديث .

منها ما رواه أحمد أيضاً في : 5/94 : عن نفس الرواي ( يكون بعدي اثنا عشر أميراًَ ، ثم لاأدري ما قال بعد ذلك ، فسألت القوم .. ) . وفي : 5/99 و108 : عن السوائي أيضاً ( يكون من بعدي اثنا عشر أميراً ، فتكلم فخفي علي ، فسألت الذي يليني أو إلى جنبي ، فقال : كلهم من قريش ) .

وفي سنن الترمذي : 3/340 :

( يكون من بعدي اثنا عشر أميراً ، قال : ثم تكلم بشيء لم أفهمه ، فسألت الذي يليني ، فقال قال : كلهم من قريش ) .

وفي تاريخ البخاري : 1/446 رقم 1426 :

عن جابر بن سمرة أيضاً أنه سمع النبي قال : يكون بعدي اثنا عشر خليفة .

وفي الصواعق المحرقة لابن حجر /20 :

قال : خرج أبو القاسم البغوي بسند حسن ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يكون خلفي اثنا عشر خليفة . انتهى .

* * *

إذن ، فقد طرح النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع أمر الحكم
من بعده ، وأخبر عن ربه عز وجل بأن حكم الأمة الشرعي يكون لاثني
عشر ! ولكن ذلك لايحل مشكلة الباحث، بل يفتح باب الأسئلة على قريش ورواتها :

السؤال الأول : لماذا نرى أن روايات هذه القضية الضخمة تكاد تكون محصورة عندهم براوٍ واحد ، هو جابر السوائي ، الذي كان صغيراً في حجة الوداع ، ولعله كان صبياً ابن عشر سنوات ! ألم يسمعها غيره ؟

ألم يروها غيره من كل الصحابة الذين كانوا حاضرين ؟!

أم أن غيره رواها .. ولكن رواية جابر فازت بالجائزة لأنها أحسن رواية ملائمة للخلافة القرشية ، فاعتمدتها وسمحت بتدوينها !

السؤال الثاني : كان المسلمون يسألون النبي صلى الله عليه وآله عن صغير الأمور وكبيرها ، حتى في أثناء خطبه ، وهذه الروايات تقول إنه أخبرهم بأمر كبير خطير ، عقائدي ، عملي ، مصيري ، مستقبلي .. وتدعي أنه أجمله إجمالاً ، وأبهمه إبهاماً .. ثم لاتذكر أن أحداً من المسلمين سأله عن هؤلاء الأئمة الربانيين ، وما هو واجب الأمة تجاههم ؟!

وإذا كانت ( قريش) قد ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وآله في بيته في المدينة، كما يقول نفس الراوي ، وطرقت عليه بابه لتسأله عما يكون بعد مضي هؤلاء الإثني عشر وانتهاء عهودهم .. فهل يعقل أنها لم تسأله عنهم ، وعما يكون في زمانهم ؟ ( وقريش في المدينة تعني عند الرواة عمر وأبا بكر فقط ؟! ) إذن .. قريش سألته عنهم في المدينة .. فأين جوابه ؟!

وهل يعقل أن أحداً من المسلمين في حجة الوداع من قريش وغير قريش ، لم يسأل النبي صلى الله عليه وآله عنهم ، ولا عما يكون قبلهم ، وبعدهم ، وعن واجب الأمة تجاههم .. فأين جواب النبي صلى الله عليه وآله ؟! !

السؤال الثالث : لماذا خفيت على الراوي الكلمة الحساسة ، التي تحدد هوية الأئمة الإثني عشر ، حتى سأل عنها الراوي القريبين منه ؟!

ثم رووها عن النبي صلى الله عليه وآله في المدينة أيضاً ، فخفيت نفس الكلمة ! ياسبحان الله !!

ثم .. لماذا تؤكد مصادر الخلافة القرشية على نقل الكلمة المفقودة عن سمرة وأبيه وعمر بن الخطاب فقط ؟! ...

إلى آخر الأسئلة التي تزدحم على نص هذا الحديث ، وتلح على الباحث أن يبحث عنها في أسواق الحديث والتاريخ ؟!

سنحاول في الملاحظات والمسائل التالية، أن نسلط الضوء على كلمة السر المفقودة!!

المسألة الأولى : أن أصل : كلهم من قريش .. كلهم من أهل بيتي

ما هو السبب في غياب الكلمة على الراوي ؟

ومن الذي سأله عنها فشهد له بها ؟ جاء في مسند أحمد: 5/100 و107:

أن الراوي نفسه لم يفهم الكلمة ، وخفيت عليه ، قال ( ثم قال كلمة لم أفهمها قلت لأبي : ما قال ؟ قال : قال كلهم من قريش ) .

وفي مستدرك الحاكم : 3/617 :

( وقال كلمة خفيت علي ، وكان أبي أدنى إليه مجلساً مني فقلت :

ما قال ؟ فقال كلهم من قريش ) .

وفي مسند أحمد : 5/90 و98 :

( أن النبي صلى الله عليه وآله نفسه أخفاها وخفض بها صوته ، وهمس بها همساً ! ( قال كلمة خفية لم أفهمها ، قال : قلت لأبي ما قال ؟ قال : قال كلهم من قريش ) .

وفي مستدرك الحاكم : 3/618 :

( ثم قال كلمة وخفض بها صوته ، فقلت لعمي وكان أمامي : ما قال يا عم ؟ قال : قال يا بني : كلهم من قريش ) .

وفي معجم الطبراني الكبير : 2/213و214 ح 1794 :

( عن جابر بن سمرة عن النبي قال : يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً ، لايضرهم من خذلهم، ثم همس رسول الله صلى الله عليه وآله بكلمة لم أسمعها، فقلت لأبي ما الكلمة التي همس بها النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال أبي : كلهم من قريش ) .

بينما تقول روايات أخرى إن الذي ضيع الكلمة هم الناس ! وليس الراوي أو النبي .. فالناس - المحرمون لربهم في عرفات ، المودعون لنبيهم صلى الله عليه وآله ، المنتظرون لكل كلمة تصدر منه - صاروا كأنهم في سوق حراج ، وصار فيهم مشاغبون يلغطون عند الكلمة الحساسة ليضيعوها على المؤمنين ، فيضجون ، ويكبرون ، ويتكلمون ، ويلغطون ، ويقومون ، ويقعدون !!

ففي سنن أبي داود : 2/309 :

( قال : فكبر الناس ، وضجوا ، ثم قال كلمة خفية ، قلت لأبي : يا أبة ما قال ؟ قال :كلهم من قريش ) . ومثله في مسند أحمد : 5/98 .

وفي مسند أحمد : 5/98 :

( ثم قال كلمة أصمنيها الناس ، فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلهم من قريش ) . وفي رواية مسلم المتقدمة ( صمنيها الناس ) .

وفي ص 93 :

( وضج الناس .. ثم لغط القوم وتكلموا ، فلم أفهم قوله بعد كلهم ) .

وفي نفس الصفحة : ( لايزال هذا الدين عزيزاً منيعاً ، ينصرون على من ناواهم عليه إلى اثني عشر خليفة . قال فجعل الناس يقومون ويقعدون ... ) !

هذا عن سبب ضياع الكلمة ! فهل فهمت ؟!!

أما الذين سألهم جابر بن سمرة عن الكلمة ، فتقول أكثر الروايات إنه سأل أباه سمرة ، فتكون الشهادة بتوسيع دائرة الأئمة من هاشم إلى قريش ، متوقفة على وثاقة سمرة الذي لم يثبت أنه دخل في الإسلام ! كما رأيت في روايتي البخاري ومسلم ، وغيرهما . ولكن في رواية أحمد : 5/92 :

( فسألت القوم كلهم فقالوا : قال كلهم من قريش ) .

ونحوه في ص 90 ، وفي ص 108 :

( فسألت بعض القوم ، أو الذي يلي : ما قال ؟ قال كلهم من قريش ) .

وفي : 5/99 : ( فخفي علي فسألت الذي يليني ) ، ونحوه في : 5/108 .

وفي معجم الطبراني الكبير : 2/249 ح 2044 :

أن ابن سمرة قال : إن القوم زعموا زعماً أن النبي صلى الله عليه وآله قال إنهم من قريش ! قال : ثم تكلم بشيء لم أسمعه ، فزعم القوم أنه قال : كلهم من قريش ) !!

فهل يمكن للإنسان أن يقبل خفاء أهم كلمة عن الأئمة الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وآله ، وفي مثل ذلك الجو الهادئ المنصت في عرفات ! وأن أحداً من الئة وعشرين ألف مسلم الذين كانوا يستمعون الى نبيهم وهو يودعهم .. لم يسأل النبي عن الكلمة الخفية التي هي لب الموضوع ؟!

ومما يكشف لك الحقيقة أن جابر بن سمرة نفسه روى أن النبي صلى الله عليه وآله كان يخطب وهو راكبٌ على ناقته ، وهذا يعني أنه كان حريصاً على أن يوصل صوته إلى الجميع ! ففي مسند أحمد : 5/87 :

( ثم خفي من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وكان أبي أقرب إلى راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم مني ! انتهى .!

بل رووا أنه النبي صلى الله عليه وآله أمر شخصاً جَهْوَرِيّ الصوت فكان يلقي خطبته جملة جملةً ، وكان يأمره أن ( يصرخ ) بها ليسمعها الناس !

ففي مجمع الزوائد : 3/270 :

عن عبد الله بن الزبير قال : كان ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي وهو الذي كان يصرخ يوم عرفة تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصرخ - وكان صيِّتاً - أيها الناس أتدرون أي شهر هذا ؟ فصرخ ، فقالوا : نعم ، الشهر الحرام . قال فإن الله عز وجل قد حرم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا . ثم قال : أصرخ : هل تدرون أي بلد هذا ... إلخ .

وعن ابن عباس ... فلما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة أمر ربيعة بن أمية بن خلف فقام تحت ثدي ناقته ، وكان رجلاً صيتاً ، فقال : أصرخ أيها الناس أتدرون أي شهر هذا ... إلخ . رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات . انتهى .

* * *

والذي يزيد في ترجيح أن النبي قال ( من عترتي ) أو ( من أهل بيتي ) ، ولم يقل ( من قريش ) أنهم رووا الحديث عن نفس هذا الراوي بعدة صيغ مختلفة ، ولكن الكلمة المفقودة في الجميع تبقى واحدة لاتتغير . .

بل رووا عن نفس الراوي أن الحديث صدر من النبي صلى الله عليه وآله في المدينة ، وليس في حجة الوداع في عرفات .. ولكن الكلمة المفقودة تبقى نفسها ، وهي هوية الأئمة الإثني عشر !! ففي مسند أحمد : 5/97 و107 :

عن جابر بن سمرة قال : جئت أنا وأبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : لايزال هذا الأمر صالحاً حتى يكون اثنا عشر أميراً ، ثم قال كلمة لم أفهمها ، فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : كلهم من قريش . انتهى .

ثم رووه عن جابر هذا ، وأن النبي صلى الله عليه وآله بشر بهؤلاء الأئمة الربانيين وهو يخطب في مسجده بالمدينة ، وهو مسجد صغير محدود ، ولكن الكلمة نفسها بقيت خفية على جابر بن سمرة .. حتى سأل عنها الخليفة القرشي عمر بن الخطاب .. فأخبره بها !

ففي معجم الطبراني الكبير : 2/256 ح 2073 :

عن جابر بن سمرة : ( قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يخطب على المنبر ويقول : اثنا عشر قيماًَ من قريش ، لايضرهم عداوة من عاداهم ، قال : فالتفت خلفي ، فإذا أنا بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبي في ناس ، فأثبتوا لي الحديث كما سمعت ) . انتهى .

وقال عنه في مجمع الزوائد : 5/191 : رواه البزار عن جابر بن سمرة وحده ، وزاد فيه : ثم رجع ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، إلى بيته ، فأتيته فقلت : ثم يكون ماذا ؟ قال : ثم يكون الهرج . ورجاله ثقات . انتهى.

وعلى هذا صار الحديث : اثني عشر قيماً والناس يعادونهم !! وصار الذي أثبت له هوية هؤلاء القيمين على الأمة جماعة فيهم عمر وأبوه !

فقد تغيرت صيغة الحديث ، وصفات الأئمة فيه ، ومكانه ، والشخص الذي سأله عن الكلمة المفقودة ، لكنها ما زالت .. نفسها نفسها !!

والأعجب من الجميع أنهم رووا الحديث عن راوٍ آخر ، هو أبو جحيفة ، فخفيت عليه نفس الكلمة أيضاً !! ولكنه سأل عنها عمه ، وليس أباه !

ففي مستدرك الحاكم : 3/618 :

عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال : كنت مع عمي عند النبي صلى الله عليه وآله فقال : لايزال أمر أمتي صالحاً حتى يمضي اثنا عشر خليفة ، ثم قال كلمة وخفض بها صوته ، فقلت لعمي وكان أمامي : ما قال يا عم ؟ قال : قال يا بني : كلهم من قريش . انتهى .

وقال عنه في مجمع الزوائد : 5/190 : رواه الطبراني في الأوسط والكبير ، والبزار ، ورجال الطبراني رجال الصحيح . انتهى .

نجد أنفسنا هنا أمام ظاهرة لامثيل لها في جميع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله !! وهي تدل بشكل قاطع على أن أمر هذا الحديث مهم جداً جداً ، وأن في الأمر سراً يكمن في كلمة : كلهم من قريش !!

ويتبادر إلى الذهن هنا افتراض أن يكون الراوي الأصلي للحديث هو عمر وهو الذي صححه لهذا الصبي جابر بن سمرة وأثبته له وأمره أن يرويه هكذا !

فقد روى الخزاز القمي الرازي في كتابه كفاية الأثر/90 عن عمر وحده ، بدون ابن سمرة وأبيه ، وبدون أبي جحيفة وعمه ، قال الخزاز :

حدثنا أبو المفضل محمد بن عبد الله قال : حدثنا الحسن بن علي زكريا العدوي ، عن شيث بن غرقدة العدوي قال : حدثنا أبو بكر محمد بن العلا قال : حدثنا إسماعيل بن صبيح اليشكري ، عن شريك بن عبد الله ، عن المفضل بن حصين ، عن عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : الأئمة بعدي اثنا عشر ، ثم أخفى صوته فسمعته يقول : كلهم من قريش .

قال أبو المفضل : هذا غريب لاأعرفه إلا عن الحسن بن علي بن زكريا البصري بهذا الإسناد ، وكتبت عنه ببخارا يوم الأربعاء ، وكان يوم العاشور ، وكان من أصحاب الحديث إلا أنه كان ثقة في الحديث . انتهى .

وبناءاً على هذه الرواية المرجحة عندنا فإن توسيع هوية هؤلاء الأئمة الإثني عشر الى جميع قريش ، بدل عترة النبي فقط ، أصله رواية عمر !

وهو منسجم مع ما كان يقوله لبني هاشم في حياة النبي وعند وفاته : إن قريشاً تأبى أن تجمع لكم ، يا بني هاشم ، بين النبوة والخلافة !!

المسألة الثانية : لايصح الوعد الإلهي بقيادة مجهولة !

إن الوعد النبوي بالإثني عشر إماماً من بعده.. وعدٌ إلهيٌّ من لدن حكيم خبير.. وهو وعد منه سبحانه بأئمة بعد رسوله ، كما هي سنته تعالى في الأمم السابقة ، ورحمةٌ منه لهذه الأمة بحل أصعب مشكلة تواجهها الأمم بعد أنبيائها على الإطلاق !

فهل تقبل عقولنا أن الله تعالى قد أمر رسوله صلى الله عليه وآله بأن يدل أمته على قادة مجهولين ؟!

نحن نرى أن الله تعالى وعد الأمم السابقة على لسان عيسى عليه السلام برسول يأتي من بعده بخمس مئة سنة ، ومع ذلك سماه باسمه فقال : ( ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد . سورة الصف - 6 )، صلى الله عليه وآله.

فكيف يعقل أنه تعالى وعد الأمة الخاتمة على لسان نبيها بقادتها الربانيين (القيمين على الأمة ) بعد نبيها ثم لايسمي أولهم على الأقل ، ولا يسمي أسرتهم ، بل يكتفي بالقول إنهم من بضع وعشرين قبيلة تنتمي الى قريش !! إن التصديق بذلك يعني نسبة عدم الحكمة إلى الله عز وجل ، ورسوله صلى الله عليه وآله ! لأن من شأنه أن يشعل الصراع بين هذه القبائل التي تتنازع على الأمور الصغيرة ، الأقل من السلطة ورئاسة الدولة بآلاف المرات كسرقة جمل في مكة ؟!

فهل يجرؤ عاقل يعرف صفات ربه ، على نسبة ذلك الى الله تعالى !

نعم قد يكون من المصلحة في بعض الإخبارات النبوية أن يبدأ النبي صلى الله عليه وآله بإلقائها عامة تثير السؤال ، حتى إذا سأله الناس عنها بينها لهم ، ليكون بيانها بعد سؤالهم أوقع لثبوتها في نفوسهم .. لكن أين أسئلة المسلمين عن هؤلاء الأئمة ، وأجوبة نبيهم صلى الله عليه وآله ؟

إنك لاتجدها إلا في مصادر أحاديث الشيعة فقط !

المسألة الثالثة : من قريش ، لكن من عترة النبي صلى الله عليه وآاله

لو غضضنا النظر عن كل الإشكالات على الحديث ، وقبلنا أنه صدر عن النبي صلى الله عليه وآله بصيغته التي صححوها في مصادرهم .. فهو إذن يقول: إن قادة الأمة الخاتمة اثنا عشر ربانياً قيماً على الأمة ، وإنهم من قريش .

ويأتي هنا السؤال : من أي قريش اختارهم الله تعالى ؟

إن بطون قريش أو قبائلها أكثر من عشرين قبيلة .. وقد ثبت في صحاحهم أن الله تعالى اختار قريشاً من العرب ، واختار هاشماً من قريش .. فهل يعقل من الحكيم الذي اختار الله تعالى معدن هاشم على غيره ، أن يختار الأئمة الإثني عشر الوارثين لنبيه صلى الله عليه وآله .. من غير بني هاشم ؟!!

ففي صحيح مسلم : 7/58 :

عن واثلة بن الأسقع : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم . انتهى .

ورواه الترمذي : 5/245 ، وقال ( هذا حديث حسن صحيح غريب ) . وقال عنه في ص 243 : ( هذا حديث حسن صحيح ) . ثم روى عدة أحاديث بمضمونه ، منها : عن العباس بن عبد المطلب قال : قلت يا رسول الله إن قريشاً جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم ، فجعلوا مثلك مثل نخلة في كبوة من الأرض .
( والكبوة المزبلة ! ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم ، وخير الفريقين ، ثم خير القبائل فجعلني من خير القبيلة ، ثم خير البيوت فجعلني من خير بيوتهم ، فأنا خيرهم نفساً، وخيرهم بيتاً. هذا حديث حسن. وروى نحوه بعده بسند آخر ، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب . انتهى .

وفي صحيح البخاري : 4/ 138 :

باب قول الله تعالى : وإذ كر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً. وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة . إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ، إلى قوله يرزق من يشاء بغير حساب . قال ابن عباس : وآل عمران المؤمنون من آل إبراهيم ، وآل عمران وآل ياسين ، وآل محمد ، صلى الله عليه وسلم . انتهى .

ويطول الكلام لو أردنا أن نستعرض ما ورد من القرآن والسنة في اختيار الله تعالى لبني هاشم ، واصطفائهم ، وتفضيلهم ، وحقهم على الأمة .

وليس ذلك إلا بسبب أن النبي صلى الله عليه وآله وعترته منهم ، فهم جوهرة معدن هاشم ، بل هم جوهرة كل بني آدم .

ويمكن للباحث هنا أن يصل بمعادلة بسيطة ، بشهادة البخاري ، إلى أن هؤلاء الأئمة الإثني عشر هم آل محمد صلى الله عليه وآله .. فالأئمة بنص الحديث اثنا عشر اختارهم الله من قريش ، وآل محمد بنص هذا الحديث اصطفاهم الله تعالى كآل إبراهيم . فالأئمة المبشر بهم إذن .. هم آل محمد المصطفون ، المطهرون .

ويؤيد ذلك ما رواه البخاري من أن علياً أول شاكٍ من هذه الأمة يوم القيامة ! فهذا يعني أنه صاحب قضية هامة أعطاها الله الأولوية في محكمته الكبرى على كل قضايا الأمة ، بل على قضايا الأمم قاتبة .. لأنها أعظم ظلامة في تاريخ النبوات والأمم على الاطلاق !!

قال البخاري في صحيحه : 5/6 : ( عن قيس بن عبادة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة)!! انتهى .

وبهذا يمكننا أن نفهم قول علي عليه السلام في نهج البلاغة : 1/82 :

والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم ، فأدخلناهم في حيزنا ، فكانوا كما قال الأول :

أدمت لعمري شُرْبَك المحضَ صابحاً          و أكلك بالزُّبد المقشــــرة البُجــــــْرَا

ونحن هبـــناك لعــــــلاء ولم تـــــكن         علياً وحُطْنَا حـــــولك الجُرد والسمرا

* * *

 

المسألة الرابعة : أحاديث النبي صلى الله عليه وآله تفسر الإثني عشر

من المتفق عليه بين المسلمين أن كلامه صلى الله عليه وآله بمنزلة القرآن يفسر بعضه بعضاً . وذلك أصل عقلائي عند كل الأمم في تفسير نصوص أنبيائها ، فإن أي أمة تجد نصاً عن نبيها بالبشارة باثني عشر إماماً من بعده ، ولا تعرفهم من هم .. تنظر في نصوصه وأقواله وأفعاله الأخرى ، لتعرف منها مقصوده بهؤلاء القادة المبشر بهم على لسانه !

وإذا نظرنا إلى ما صدر عن نبينا الذي لاينطق عن الهوى صلى الله عليه وآله في حق عترته : علي وفاطمة والحسن والحسين وذريتهم عليهم السلام ، مما اتفق عليه المسلمون ، وحكموا بصحته .. لايبقى عندنا شك في أنه يقصد هؤلاء الذين مدحهم في مناسبات عديدة ، وبيّن للأمة أن الله تعالى مدحهم في آياته ، وطهرهم من الرجس تطهيراً ، وأوجب على المسلمين مودتهم ، وأوجب عليهم أن يصلوا عليهم معه في صلواتهم ، وحرم عليهم الصدقة ، وجعل لهم الخمس في ميزانية الدولة ، وجعلهم وصيته وأمانته في أمته ، وجعلهم عدلاً لكتاب الله تعالى وسماهم معه ( الثقلين ) .

ولا يتسع المقام لبسط الكلام فيما صدر في حقهم من النبي صلى الله عليه وآله من المديح والتعظيم ، والتحذير من مخالفتهم وظلمهم .. فهذه الأحاديث عبرةٌ لمن كان له قلب ، وكفايةٌ لمن ألقى السمع ، وشهادةٌ لمن أراد الحجة .

* * *

المسألة الخامسة : اثنا عشر إماماً واثنا عشر شهراً

ذكرت روايات الخطب الشريفة في حجة الوداع ، أن النبي صلى الله عليه وآله ذكر الأئمة الإثني عشر ، وذكر استدارة الزمن كأول ما خلق الله الأرض وقرأ الآية: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً .

ففي صحيح البخاري : 5/126 :

عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض . السنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب . انتهى . ورواه أيضاً في 5/204 ، و6/235 . وأبو داود في : 1/435 . وأحمد في : 5/37 .

ورواه في مجمع الزوائد : 3/265 : بصيغة أقرب إلى أسلوب النبي صلى الله عليه وآله من رواية البخاري ، جاء فيها : ( ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض ، ثم قرأ : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم . ألا لاترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ... ) . انتهى .

وقد ذكر المفسرون والشراح السنيون أن المعنى إلغاء النسيء الذي ابتدعته العرب للأشهر الحرم ، وبذلك يرجع تأخير الزمن والتوقيت إلى هيئته الأولى فلا نسيء بعد اليوم .

ولكنه تفسير غير مقنع ، فإن نسيء العرب لم يكن مؤثراً في الزمن والفلك، حتى يرجع الزمن إلى حالته الأولى بإلغاء النسيء !

كما أنه لادليل على ارتباط استدارة الزمان بالنسيء في كلامه صلى الله عليه وآله ، فهو موضوع مستقل عن النسيء وإن اشتبه الشراح في ربطه به !

وبما أن النبي صلى الله عليه وآله في مقام توديع أمته ، وبيان مرحلة ما بعده من الهدى والضلال ، والعقائد والأحكام ، وطريق الجنة والنار .. فقد يقصد بإخباره باستدارة الزمن : أن مرحلة جديدة بدأت من ذلك اليوم فما بعده ، من قوانين الهداية والإضلال الإلهي . وأن حركة الزمن المادي قوامها الأشهر الإثنا عشر ، وحركة الزمن بقانون الهداية والضلال معالمها الأئمة الإثنا عشر عليهم السلام ، الذين ينسجم وجودهم التكويني والمادي مع نظام الإثني عشر شهراً في تكوين السماوات والأرض .

ويؤيد ذلك : قداسة عدد الإثني عشر في القرآن ، ونظام الإثني عشر نقيباً الذي شرعه الله في بني إسرائيل ، والإثني عشر حوارياًَ لعيسى ، وأن النبي صلى الله عليه وآله طلب من الأنصار في أول بيعتهم له أن يختاروا منهم اثني عشر نقيباً .. ثم بشر الأمة بالأئمة الإثني عشر من بعده ..

بل تدل الأحاديث الشريفة على أن معالم الضلال في الأمة بعد النبي تتمثل في اثني عشر ( إماماً ) مضلاً من أصحابه ، وقد شدد النبي صلى الله عليه وآله على التحذير منهم ! فمقابل كل إمام هدى إمام ضلال ، كما أن مقابل كل نبي عدو من المجرمين ، يعمل لإضلال الناس !

قال الله تعالى : ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً . يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً . لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني ، وكان الشيطان للإنسان خذولاً . وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً . وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين وكفى بربك هادياً ونصيراً . سورة الفرقان : 27 - 31 .

وفي صحيح مسلم : 8/122 - 123 :

قال النبي صلى الله عليه وسلم : في أصحابي اثنا عشر منافقاً ، فيهم ثمانية لايدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة وأربعة لم أحفظ ما قال شعبة فيهم ! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن في أمتي - قال شعبة : وأحسبه قال : حدثني حذيفة ، وقال غندر : أراه قال : في أمتي - اثنا عشر منافقاً ، لايدخلون الجنة ولا يجدون ريحها حتى يلج الجمل في سم الخياط ، ثمانية منهم تكفيكهم الدبيلة ، سراج من النار يظهر في أكتافهم ، حتى ينجم من صدورهم .

حدثنا أبو الطفيل قال : كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة بعض ما يكون بين الناس ، فقال : أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة ؟!

قال : فقال له القوم : أخبره إذ سألك .

قال : كنا نخبر أنهم أربعة عشر ، فإن كنت منهم فقد كان القوم خمسة عشر ، وأشهد بالله أن اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . انتهى . ورواه أحمد في : 4/320 ، وغيرها، ورواه كثيرون .

والنتيجة : أنه لايبعد أن يكون قصد النبي صلى الله عليه وآله أن يخبر المسلمين بأن الله تعالى أقام الحياة البشرية من يوم خلق السماوات والأرض ، وخلق الجنس البشري ، على قانون الهداية والضلال بإتمام الحجة ، وإمهال الناس ليعملوا بالهدى أو بالضلال .. فكان لابد من وجود عنصري الهدى وعناصر الضلال معاً ، كعنصري السلب والإيجاب في الطاقة ، فألهم النفس البشرية فجورها وتقواها ، وأنزل آدم إلى الأرض ومعه إبليس ، وبعث الأنبياء عليهم السلام ومع كل نبي عدو مضل أو أكثر ، وجعل بعدهم أئمة ربانيين يهدون ، وأئمة ضلال منافقين يضلون .. وعدد كل منهم في هذه الأمة اثنا عشر .. وأنه قد بدأت بهم دورة جديدة من الهدى والضلال ، كما بدأت بآدم وإبليس .. ولذلك استدار الزمن كهيئته في أوله بانتهاء الفترة ، ووضوح الحجة . ويؤيد هذا الدليل العقلي صريح ما ورد من طريق أهل البيت عليهم السلام في تفسير آية ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشرشهراً ) .

 

المسألة السادسة : راوي الحديث جابر السوائي

روت مصادر السنيين حديث الأئمة الإثني عشر عن عدة رواة . وهم : عبد الله بن مسعود . وأبو جحيفة . وجابر بن سمرة السوائي ، وهذا الأخير أهمهم ، لأن الصحاح اعتمدت روايته كما تقدم . وهو جابر بن سمرة بن جنادة . وقد ذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب : 2/35 في نسبه ( يُقاليْن ) :

فقال : يقال ( ابن عمرو بن جندب بن حجير ابن رئاب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة السوائي . ويقال : من قبيلة عامر بن صعصعة .

ويؤيد هذا الشك أن الذهبي قال في ترجمته : 3/187 : ( وهو وأبوه من حلفاء زهرة ) انتهى . فولو كان من بني عامر بن صعصعة ، لم يحتج أن يكون حليفاً لأنهم قرشيون على السواء مع بني زهرة !

وسمرة هذا ، من الطلقاء . فقد قال في تهذيب التهذيب : 4/206 :
( وقرأت بخط الذهبي إنما مات في ولاية عبد الملك ابنه جابر، وأما سمرة فقديم. وذكر ابن سعد أنه أسلم عند الفتح ، ولم أقف على من أرخ وفاته غير من تقدم ) . انتهى . ويفهم منه أن الذهبي يشك في أن سمرة قد أسلم، ولذا قال أن ابن سعد ذكر ذلك. ولكن البخاري قال في التاريخ الكبير : 4/177 :
( إن لسمرة هذا صحبة ) . انتهى .

أما جابر ابنه فهو فرخُ طليق ، فقد كان صغيراً عند فتح مكة ، لأنه توفي سنة 76 ، ولأنه يروي أن النبي صلى الله عليه وآله مسح على خد الصبيان المصلين في المدينة بعد الفتح وكان منهم . ( سير أعلام النبلاء : 3/187 ) .

ولعل جابر بن سمرة عاش في كنف خاله سعد بن أبي وقاص في المدينة ، وقد روي أنه اشترك في فتح المدائن ، ثم سكن الكوفة وابتنى بها داراً . ( أسد الغابة : 1/254 ) . وعلى هذا يكون جابر في حجة الوداع صبياً صغيراً أو مراهقاً ، ويكون الراوي الوحيد المعتمد في الصحاح لحديث أئمة هذه الأمة بعد نبيها .. هذا الصبي الطليق من حلفاء قريش !

فاعجب ما شئت لشيوخ قريش ، وكبار الصحابة ، حيث لم يكن عندهم ذكاء هذا الصبي الطليق ، واهتمامه بمستقبل الأمة ، وأئمتها الربانيين !

أو فاعجب للخلافة القرشية كيف سيطرت على مصادر الحديث النبوي عند السنيين ، فلم تسمح بتدوين حديث في الأئمة الإثني عشر ، الذين بشر بهم رسول رب العالمين صلى الله عليه وآله .. إلا حديث هذا الصبي !!

المسألة السابعة : درجات الصحة التي منحوها للأحاديث الثلاثة

في مصادر السنيين ثلاث صيغ لحديث الأئمة الإثني عشر ، وثلاثة رواة :

وقد اتفقوا على تصحيح حديث جابر بن سمرة ، وعلى تحسين حديث أبي جحيفة المشابه له ، وبعضهم صححه . واختلفوا في تصحيح حديث ابن مسعود الذي يختلف عنهما ، بحجة أن في سنده مجالد بن سعيد ، الذي لم يوثقه إلا النسائي وبعض علماء الجرح والتعديل ، وضعفه آخرون .

ولا بد أن نضيف إلى رواة الحديث راويين آخرين هما : سمرة السوائي والد جابر وعمر بن الخطاب ، لأن الروايات تقول إنه سألهما عن الكلمة الخفية فأخبراه بها . بل يجب أن نعد عمر بن الخطاب راوياً مستقلاً ، كما تقدم في رواية كفاية الأثر . . وإليك جانباً من كلماتهم في حديث ابن مسعود :

قال في مجمع الزوائد : 5/190 :

باب الخلفاء الإثني عشر : عن مسروق قال : كنا جلوساً عند عبد الله وهو يقرؤنا القرآن فقال رجل : يا أبا عبد الرحمن ، هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟

فقال عبد الله : ما سألني عنها أحد مذ قدمت العراق قبلك ، ثم قال : نعم ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل. رواه أحمد وأبو يعلى والبزار ، وفيه مجالد بن سعيد وثقه النسائي وضعفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات . انتهى .

وقال الحاكم : 4/501 : بعد رواية هذا الحديث : لايسعني التسامح في هذا الكتاب عن الرواية عن مجالد وأقرانه ، رحمهم الله . انتهى .

ولكن ابن حجر حسنه فقال في الصواعق المحرقة / 20 : فقال : (وعن ابن مسعود بسند حسن ) .

وكذا السيوطي في تاريخ الخلفاء / 10 ، حيث قال : ( وعند أحمد والبزار بسند حسن عن ابن مسعود ) .

وكذا البوصيري حيث نقل عنه في كنز العمال : 6/89 : ( رواه مسدد وابن راهويه وابن أبي شيبة وأبو يعلى وأحمد بسند حسن ) .

وقد روت مصادرهم حديث ابن مسعود مثل : أحمد : 1/ 398 و406 . وكنز العمال 6/89 ، عن طبقات ابن سعد وابن عساكر ، وفي 12 / 32 ، عن أحمد . والطبراني ، وابن حماد .. وغيرهم .

وإذا كانت علة رواية ابن مسعود عندهم وجود مجالد ، فقد روته مصادرنا بسند ليس فيه مجالد ، كما في كتاب الإختصاص للصدوق / 233 ، وكفاية الأثر للخزاز / 73 ، والغيبة للنعماني / 106 ، وسيأتي بعض ذلك .

ولكن ذلك لايشفع للحديث عند إخواننا السنيين ولا يجعله يستحق أكثر من لقب ( حسن ) ! بل يبدو أن هذه الدرجة من الصحة ثقيلة عليهم ، لأن مشكلته الأصلية عندهم أنه لم يذكر عبارة ( كلهم من قريش ) وأنه يفهم منه أن هؤلاء الأئمة الربانيين يجب أن يكونوا حكام الأمة بعد نبيها . فهو يضع علامة استفهام كبيرة على ما تم في السقيفة في غياب بني هاشم ، وانشغالهم بجنازة النبي صلى الله عليه وآله !!

المسألة الثامنة : تضارب متون الأحاديث الثلاثة

روت مصادر السنيين حديث الأئمة الاثني عشر عن جابر بن سمرة بصيغتين ، وجاء حديث أبي جحيفة بإحداهما ، وانفرد حديث ابن مسعود بصيغته .. فتكون الصيغ ثلاثاً :

الأولى : مفادها أن هؤلاء الموعودين يكونون بعد النبي صلى الله عليه وآله وأنهم من قريش . وهذا مضمون أكثر روايات ابن سمرة . وقد عرفت أن أنهم صححوا هذه الصيغة ، ومنهم الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 1075 .

الثانية : أن هؤلاء الأئمة الاثني عشر يحكمون بعد النبي صلى الله عليه وآله وأنهم من قريش ، وأن الإسلام لايزال عزيزاً مدة حكمهم ، ثم يضعف ويذل أو ينهار . وهي صيغة عدد من روايات جابر بن سمرة ، وصيغة كل روايات أبي جحيفة أيضاً . وقد صححها كثير من علمائهم ، ومنهم الألباني في سلسلته أيضاًبرقم 376، قال : عن ابن سمرة، وحسن رواية أبي جحيفة ، وجعل رواية ابن مسعود شاهداً على صحتهما، ورد زيادة أبي داود وغيره التي تصف هؤلاء الأئمة بأن الأمة تجتمع عليهم، ووصف هذه الزيادة بأنها منكرة .

الثالثة : أنهم يكونون بعد النبي صلى الله عليه وآله كأوصياء موسى وعيسى عليهم السلام بدون ذكر قريش . وهي صيغة أكثر روايات حديث ابن مسعود .

* * *

وأهم ملاحظة على هذه الأحاديث وصيغها ، تفاوتها واضطرابها ، وهو أمر غير مقبول في حديث من هذا النوع .. وتعارض لايقبل الحل ، لأنه موجود حتى في الصيغ والألفاظ المنقولة عن الراوي الواحد !

فلو وجدنا نصاً متضارباً شبيهاً لأحديث الأئمة الاثني عشر عن شيخ قبيلة صغيرة ، قاله لقبيلته وهو يودعها قبل موته ، وأخبرها بفراسته عن شيوخها الذين سيحكمونها من بعده .. لقلنا بوقوع تحريف في كلامه !

فكيف نقبل بذلك لسيد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسيد البلغاء ، وهو يودع خاتمة الأمم ، ويخبرها عن ربه بأئمتها من بعده ، وعلى أوسع ملأ من جماهيرها !!

التهمة بالدرجة الأولى هي احتمال تحريف هوية هؤلاء الأئمة .. والمتهم هو المستفيد من ذلك ، وهو السلطة التي حكمت بعد النبي صلى الله عليه وآله وهي التي أبعدت أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله عن الحكم ، بل بادرت إلى بيعة السقيفة بدون أن تخبرهم ، مغتنمةً انشغالهم بجنازة النبي صلى الله عليه وآله !!

وتتأكد التهمة لرواة الحديث عند الباحث المحايد عندما يجد أن التفاوت والتعارض ، قد تركز على صفة هؤلاء الأئمة الموعودين ومقامهم الإلهي ، وهويتهم ، ونسبهم ، ووقتهم ، ومدتهم !

وهو أمر يضعف الثقة بصيغ الحديث في مصادر السنة ، ويقوي الثقة بصيغه المتوافقة المجمع على مضمونها الواردة في مصادرنا ، والتي تقول إنه صلى الله عليه وآله قال لهم إنهم من عترته غرسوا في هذا الحي من بني هاشم ، وإنهم علي والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين عليهم السلام .

ولهذا كان أمير المؤمنين عليه السلام يجاهر بهذه الحقيقة ، ويصدع بها على منبر الخلافة فيقول ( نهج البلاغة : 2 / 27 ) :

( أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم . بنا يستعطى الهدى ويستجلى العمى . إن الأئمة من قريش ، غرسوا في هذا البطن من هاشم . لاتصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم ) !!

 

المسألة التاسعة : الأئمة الإثنا عشر لايحتاجون إلى اختيار ولا بيعة

وهذا واضح من الحديث .. فما دام الله تعالى قد اختارهم ، فواجب الأمة أن تطيعهم ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ) فهم يستمدون شرعيتهم من رب الأمة ، ورب الناس ومالكهم ، وهو الحكيم الخبير بما يصلح عباده .. واختياره للناس أفضل من اختيارهم لأنفسهم ، وألزم .

فالأئمة الإثنا عشر من هذه الناحية مفروضو الطاعة من الله تعالى شبيهاً بالأنبياء عليهم السلام ، والنبي لايكون بالإنتخاب ، ولا يحتاج إلى أن يبايعه الناس.. بل لو لم يبايعه أحد من الناس ، وآذوه وقتلوه .. فإن ذلك لاينقص من وجوب طاعته شيئاً ! ولو بايعه كل الناس لكان معناه اعترافهم بحق الطاعة الذي جعله الله له ، وإعلان التزامهم به ، لاأكثر .

فبيعة الناس للأنبياء وأوصيائهم عليهم السلام إنما هي بيعة اعتراف والتزام بحقهم في الإطاعة ، وهي تؤكد هذا الحق ، ولا تنشؤه .

وهذا هو السبب في أن النبي صلى الله عليه وآله كان يأخذ البيعة على المسلمين في المنعطفات الهامة في حياة الأمة ، ليؤكد بذلك عليهم الإلتزام بإطاعته في السراء والضراء ، والحرب والسلم ، وفيما أحبوا أو كرهوا !

وهذا هو السبب نفسه في أن النبي صلى الله عليه وآله بعد أن بلغ الأمة ولاية علي عليه السلام في غدير خم ، أمر بأن تنصب له خيمة وأن يهنئه المسلمون بولايته التي أمر الله تعالى بها .. أن يهنئوه تهنئة ، ثم يبايعوه ..

فالإختيار الإلهي قد تم ، وهو يحتاج إلى قبول وتهنئة ، ولا يحتاج إلى مشورتهم ولا إلى بيعتهم .. لكن لو طلبها النبي صلى الله عليه وآله منهم وجبت عليهم .. ولو طلبها علي منهم ، وجبت عليهم أيضاًً .

ولهذا لاتنفع مناقشة المناقشين بأن ما طلبه النبي صلى الله عليه وآله من المسلمين في الغدير كان مجرد التهنئة لعلي عليه السلام بالولاية ، ولم يكن البيعة .. لأن صدور الأمر الإلهي بولاية أحد يفرغ البيعة البشرية من القوة الإنشائية ، ويحصر قيمتها في الإعتراف والإلتزام بالأمر الإلهي ، عندما يطلبها منهم النبي صلى الله عليه وآله أو الولي عليه السلام .

والقاعدة الكلية في هذا الموضوع : أن الأمة إنما تملك الولاية على نفسها واختيار حكامها - في حدود ما ثبت في الشريعة المقدسة - في حالة عدم اختيار الله تعالى لأحد .. أما إذا اختار عز وجل إماماً فقد قضي الأمر ، ولم يبق معنىً لاختيار الأمة لحاكم آخر ، إلا أنها تتفلسف في مقابل ربها عز وجل وتخالف اختيار مالكها الحكيم سبحانه !

 

المسألة العاشرة : قرشية الحديث ألقاها عمر في البحر

من المفارقات في منطق عمر بن الخطاب مؤسس نظام الخلافة القرشية ، أنه هو الذي رفع راية ( أن الخليفة من قريش والخلافة لاتكون إلا في قريش ) ، فقد احتج على الأنصار في السقيفة بأن قريشاً قبيلة النبي صلى الله عليه وآله فهم أحق بسلطانه .. فمن ذا ينازعنا سلطان محمد ونحن قومه وعشيرته ؟ !

وكان هدفه من ذلك تسكيت الأنصار ، الذين يعيش القرشيون في بلدهم وضيافتهم ، حتى لايقولوا نحن نصرناه ونحن أولى بخلافته !! وقد نجح عمر بهذا المنطق القبلي في السقيفة ، بسبب تفرق كلمة الأنصار ، رغم مخالفة رئيسهم سعد بن عبادة مخالفة عنيفة .

ولكن عمر نفسه عند وفاته تخلى عن مبدأ قرشية الخليفة ، وألقى به في البحر ، وأكد أنه لو كان سالم الفارسي مولى أبي حذيفة الأموي حياًّ ، لعهد إليه بالخلافة !! ففي تاريخ المدينة : 3/140 :

( عن عبدالله بن بريدة: لما طعن عمر رضي الله عنه قيل له : لو استخلفت؟ قال : لو شهدني أحد رجلين استخلفته أني قد اجتهدت ولم آثم أو وضعتها موضعها : أبو عبيدة بن الجراح ، وسالم مولى أبي حذيفة !! ) .

وفي مجمع الزوائد : 4/220 :

( عن أبي رافع أن عمر بن الخطاب كان مستنداً إلى ابن عباس وعنده ابن عمر وسعيد بن زيد فقال : إعلموا أني لم أقل في الكلالة شيئاً ، ولم أستخلف من بعدي أحداً ، وأنه من أدرك وفاتي من سبي العرب فهو حر من مال الله عز وجل .

فقال سعيد بن زيد: أما إنك لو أشرت برجل من المسلمين لائتمنك الناس، وقد فعل ذلك أبو بكر ، وائتمنه الناس .

فقال عمر : قد رأيت من أصحابي حرصاً سيئاً ، وإني جاعل هذا الأمر إلى هؤلاءالنفر الستة الذين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.

ثم قال : لو أدركني أحد رجلين ، ثم جعلت هذا الأمر إليه لوثقت : سالم مولى أبي حذيفة ، وأبو عبيدة بن الجراح ) . انتهى .

وبذلك فتح عمر الباب لأبي حنيفة وغيره ، ليلغوا هذا الشرط من الخلافة الإسلامية ، وقد استفاد من فتواه السلاجقة والمماليك ، ثم تبنى العثمانيون مذهب أبي حنيفة ، ونشروا فقهه بسبب فتواه في الخلافة ، وتسموا بخلفاء النبي صلى الله عليه وآله .

موقف الوهابيين من شرط القرشية في الحاكم

نشترط نحن الشيعة الإمامية في الأئمة أن يكونوا من قريش من عترة النبي صلى الله عليه وآله بسبب ثبوت النص عليهم بأسمائهم وعددهم عليهم السلام فالإمامة عندنا لاتثبت إلا بالنص فقط ، والنص إنما هو على هؤلاء الإثني عشر عليهم السلام .

وبما أن خاتمهم الإمام المهدي عليه السلام غائب ، فالحكم في الأمة في عصرنا يكون بالوكالة عنه ، والوكيل لابد أن تتوفر فيه شروط الفقاهة والعدالة وغيرها ، ولا نشترط فيه أن يكون قرشياً .. وبذلك نلتقي عملياً لانظرياً مع الذين يسقطون شرط القرشية في الحاكم العادل .

أما إخواننا الشيعة الزيديون ، فالإمامة عندهم غير محصورة بالأئمة الإثني عشر عليهم السلام . بل مفتوحة لكل عالم من ذرية علي وفاطمة عليهما السلام ، فهم يشترطون في الإمام الشرعي أن يكون قرشياً علوياً .

وأما المسلمون السنيون ، فمنهم من يوافقنا على إسقاط شرط القرشية في عصرنا ، عملاً بقول الخليفة عمر ، وفتوى أبي حنيفة ، وهم قلة .. ويوجد فقهاء غير عرب من السنيين ولكنهم متعصبون لقريش أكثر من عمر ، وملكيون أكثر من الملك .. ومن هؤلاء أئمة الوهابية ، مثل الألباني ، حيث صحح حديث اشتراط القرشية في الإمام في سلسلة أحاديثه الصحيحة برقم 1552 ، وقال في آخره 4/70 : ( ولذلك فعلى المسلمين إذا كانوا صادقين في سعيهم لإعادة الدولة الإسلامية ، أن يتوبوا إلى ربهم ويرجعوا إلى دينهم ، ويتبعوا أحكام شريعتهم ، ومن ذلك أن الخلافة في قريش، بالشروط المعروفة في كتب الحديث والفقه ) .

أما في المجلد : 3/7 ، فقد صحح حديث الخلافة في قريش برقم 1006 ، وقال في آخره : ( قلت : وفي هذه الأحاديث الصحيحة رد صريح على بعض الفرق الضالة قديماً ، وبعض المؤلفين والأحزاب الإسلامية حديثاً ، الذين لايشترطون في الخليفة أن يكون عربياً قرشياً . وأعجب من ذلك أن يؤلف أحد المشايخ المدعين للسلفية رسالة في ( الدولة الإسلامية ) ذكر في أولها الشروط التي يجب أن تتوفر في الخليفة ، إلا هذا الشرط ، متجاهلاً كل هذه الأحاديث وغيرها مما في معناها ، ولما ذكرته بذلك تبسم صارفاً النظر عن البحث في الموضوع . ولا أدري أكان ذلك لأنه لايرى هذا الشرط كالذين أشرنا إليهم آنفاً ، أم أنه كان غير مستعد للبحث من الناحية العلمية .

وسواء كان هذا أو ذاك ، فالواجب على كل مؤلف أن يتجرد للحق في كل ما يكتب ، وأن لايتأثر فيه باتجاه حزبي أو تيار سياسي ، ولا يلتزم في ذلك موافقة الجمهور أو مخالفتهم ) . انتهى كلام الألباني ، والطريف أنه صحح حديثاً آخر برقم 1851 يقول : ( الخلافة في قريش والحكم في الأنصار والدعوة في الحبشة ) . وعلى فتواه يجب أن يكون الحاكم في عصرنا من قريش من أي قبائلها كان ، وأن يكون الوزراء من الأنصار .. وأن يكون وزير الإرشاد والأوقاف والمفتي وكل من عمله الإعلام والدعوة من الأفارقة ، والأحوط أن يكون من أثيوبيا !!

ذلك أن الوجوب الذي استفاده من الحديث وأفتىبه بوجوب القرشية في الحاكم، تتساوى فيه الخلافة ، والوزارة ، والدعوة !!

لقد فات هذا الشيخ أن فقه الحديث أهم من سنده لأنه متقدمٌ عليه رتبةً ، وأن مثل هذا الحديث بعيدٌ عن منطق النبي صلى الله عليه وآله .. ولو صح فهو يحكي عن ظرف معين ، وليس تشريعاً إلى يوم القيامة !

* * *

 

الحادية عشرة : تخبط الشراح السنيين في تفسير الأئمة الإثني عشر

إذا أردنا أن نكون أمناء مع النص النبوي ، يلزم أن نقول :

إن كلمة ( من بعدي ) في الحديث الشريف تدل على أن إمامة هؤلاء الإثني عشر تبدأ بعد وفاته صلى الله عليه وآله مباشرة ، ولا تدل على أنهم سيحكمون من بعده ، لأنها إخبار عن وجودهم فقط ، سواء كانوا حكاماً أو محكومين .

بل تدل صيغ الحديث المتقدمة عن ابن سمرة وابن مسعود ، على أن الأمة تخذل هؤلاء الأئمة الإثني عشر وتعاديهم ، وذلك يشمل إبعادهم عن الحكم ، ولكن ذلك لايضرهم شيئاً .

وقد تقدم في تفسير الطبري ( يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً ،لا يضرهم من خذلهم ، إثنا عشر قيما من قريش لايضرهم عداوة من عاداهم ) !

وبذلك لاتجد مانعاً من انطباق الحديث على الأئمة الإثني عشر من عترة النبي صلى الله عليه وآله حتى لو لم يحكموا ، أو لم يحكم منهم إلا علي والحسن عليهما السلام، وسيحكم منهم المهدي الموعود على لسان جده الرسول صلى الله عليه وآله .

كما أن الأحاديث التي ذكرت ما يكون بعدهم تدل على أن مدتهم طويلة فبعضها ذكر أنه يكون بعدهم الهرج والفوضى والنفاق فأشار إلى انهيار الأمة. وبعضها ذكر أن زمنهم يمتد ما دامت الأرض ، وأن مدتهم إذا تمت ساخت الأرض بأهلها.. وهذا يؤيد نظرية امتداد عصر هؤلاء الأئمة عليهم السلام إلى آخر الدنيا، كما نصت عليه أحاديثنا .

قال أبو الصلاح الحلبي المتوفى سنة 437 في كتابه تقريب المعارف / 173 :

ورووا عن عبد الله بن أبي أمية مولى مجاشع ، عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لايزال هذا الدين قائماً إلى اثني عشر من قريش ، فإذا مضوا ساخت الأرض بأهلها . انتهى . ونحوه في إعلام الورى / 364 ، وهو موافق لما في مصادرنا عن أهمية وجود الحجة لله تعالى في أرضه في كل عصر ..

ففي الكافي : 1/179 و534 :

عن أبي حمزة قال : ( قلت لأبي عبد الله عليه السلام : أتبقى الأرض بغير إمام ؟ قال : لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت ) ! انتهى .

* * *

وعلى هذا التفسير لنص الحديث ، يكون هدف النبي صلى الله عليه وآله من طرح الأئمة الإثني عشر في أهم تجمع للمسلمين في حجة الوداع ، هو : توجيه الأمة إليهم .. لو أنها أخذت بحظها وأطاعته فيهم ! بل يمكن القول : إنه يتعين تفسير الحديث بالأئمة الإثني عشر من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ، لأن كل تفسير له بغيرهم لايصح بسبب كثرة الإشكالات التي ترد عليه . قال الكنجي الشافعي في ينابيع المودة /446 :

( قال بعض المحققين : إن الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده صلى الله عليه وآله اثنا عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة ... فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان ، علم أن مراد رسول الله صلى الله عليه وآله من حديثه هذا الأئمة الإثنا عشر من أهل بيته وعترته ، إذ لايمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلتهم عن اثني عشر ، ولا يمكن أن يحمله على الملوك الأموية لزيادتهم على اثني عشر ، ولظلمهم الفاحش إلا عمر بن عبد العزيز ، ولكونهم من غير بني هاشم، لأن النبي صلى الله عليه وآله قال : كلهم من بني هاشم في رواية عبد الملك، عن جابر ، وإخفاء صوته صلى الله عليه وآله في هذا القول يرجح هذه الرواية، لأنهم لايحسنون خلافة بني هاشم.

ولا يمكن أن يحمله على الملوك العباسية ، لزيادتهم على العدد المذكور ، ولقلة رعايتهم الآية : قل لاأسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ، وحديث الكساء . فلا بد من أن يحمل هذا الحديث على الأئمة الإثني عشر من أهل بيته وعترته صلى الله عليه وآله، لأنهم كانوا أعلم أهل زمانهم وأجلهم وأورعهم وأتقاهم ، وأعلاهم نسباً، وأفضلهم حسباً ، وأكرمهم عند الله ...

ويؤيد هذا المعنى ، أي أن مراد النبي صلى الله عليه وآله الأئمة الإثني عشر من أهل بيته ، ويشهد له ويرجحه : حديث الثقلين ، والأحاديث المتكثرة المذكورة في هذا الكتاب ، وغيرها ...

وفي نهج البلاغة من خطبة علي كرم الله وجهه : أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم .. بنا يستعطى الهدى ، وبنا يستجلى العمى .

وإنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق ، ولا أظهر من الباطل ، ولاأكثر من الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وآله، وليس عند أهل ذلك الزمان سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته ، ولا أنفق منه إذا حرف عن مواضعه ، ولا في البلاد شيء أنكر من المعروف ، ولا أعرف من المنكر .

واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه ، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه ، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه، فالتمسوا ذلك من عند أهله ، فإنهم عيش العلم وموت الجهل ، هم الذين يخبركم حكمهم عن عملهم ، وصمتهم عن منطقهم ، وظاهرهم عن باطنهم ، لايخالفون الدين ، ولايختلفون فيه ، وهو بينهم شاهد صادق ، وصامت ناطق ) . انتهى .

* * *

ولكن عامة الشراح السنيين لايقبلون هذا التفسير ، ويحذرون أتباعهم من أن يقنعهم الشيعة بأن النبي صلى الله عليه وآله قد نص على الأئمة الإثني عشر من عترته !! ويقولون لأتباعهم : إن حديث الأئمة الإثني عشر صحيح مئة بالمئة ، لكن لاتقبلوا تفسير الشيعة ، ونحن إن شاء الله نفسره لكم تفسيراً صحيحاً . . ولكنهم إلى يومنا هذا لم يستطيعوا أن يقدموا لهم تفسيراً مقنعاً للحديث ، ولن يستطيعوا.. لأنهم يريدون تطبيق هؤلاء الإثني عشر على الخلفاء الذين حكموا بعد النبي صلى الله عليه وآله من الخلفاء الأربعة ، وعبد الله بن الزبير ، وسلسلة خلفاء بني سفيان وبني مروان ، ثم بني العباس .. وربما غيرهم من أموي الأندلس ، والسلاجقة ، والمماليك ، والأتراك !!

وعندما يجدونهم أضعاف العدد المطلوب ، يلجؤون إلى الفرضيات ، فيختارون أحسن الخلفاء الأمويين والعباسيين، ويخلعون عليهم صفة الأئمة الربانيين ، فيثبتون هذا ويحذفون ذاك !

اختياراً وحذفاً ( كيفياً ) لمجرد تكميل العدد ! وبعضهم لايكمل معه العدد ممن اختارهم فيقول : إن الباقين سوف يأتون !

ومن الواضح أنها تطبيقات لاتقف عند حد ، ولا تستند إلى أساس ، وأن الذي يسلكها يكلف نفسه شططاً ، كمن يكلف نفسه بأن يختار اثني عشر شخصاً من رؤساء المسلمين وملوكهم المعاصرين ، ويقول عنهم إنهم قادة ربانيون اختارهم الله تعالى ، ووعد الأمة بهم على لسان رسوله صلى الله عليه وآله ! ولو أن العلماء السنيين فكروا أكثر ، لما جشموا أنفسهم هذه العقبة الكؤود ، وتخلصوا من إشكالات لافكاك لهم منها :

أولاً : لأن هؤلاء الأئمة الربانيين الموعودين مختارون من الله تعالى ، فلا بد أن يكونوا متفقين ، لأنهم جميعاً على خط واحد وهدى من ربهم ونبيهم . . بينما خلفاء السنيين وأئمتهم مختلفون متقاتلون ..فهل سمعتم بالحرب والقتال بين الأنبياء عليهم السلام حتى تقنعونا بإمكانها بين الأئمة الربانيين عليهم السلام .. وأن بعضهم كان يكيد للآخر ويفسقه ويكفره ، ويذبحه ذبح الخروف ، أو يسمل عينيه ويقطع لسانه ويديه ورجليه !!

إقرؤوا إن شئتم تاريخ الصراع على الحكم بين الخلفاء الأمويين أنفسهم ، والعباسيين أنفسهم !

وثانياً : لأنهم بإعطاء صفة الإمام من الله تعالى للخليفة الذي يحبونه ، ابتداءً من الخليفة عمر بن الخطاب .. إلى السلطان سليم العثماني ، يصيرون ملكيين أكثر من الملك ، وخليفيين أكثر من الخليفة ، ويثبتون لهم ما لم يدعه أحد منهم لنفسه !

فلو كان أحدهم إماماً ربانياً مختاراً من الله تعالى مبشراً به من رسوله .. لعرف نفسه وادعى هو ذلك ! حيث لايمكن أن يكون شخص إماماً وحجة لله على عباده وحاكماً باسمه .. ثم لايعرف هو مقامه الإلهي العظيم !!

ولا نجد أحداً من هؤلاء الخلفاء ادعى أنه إمام من الله تعالى غير الأئمة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله .

وثالثاً : ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وآله قال : إنهم يكونون من بعده . ولم يقل إنهم يحكمون .. فلماذا يلزمون أنفسهم بالعثور على الأئمة الإثني عشر الموعودين في الحكام فقط ؟! وإذا ألزم الباحث نفسه في مسألة بما لايلزم فيها ، فقد تورط فيها وأقام في ورطته !

ورابعاً : إن الذين يعدونهم أئمة ربانيين ، مبشراً بهم من رب العالمين ، قد ثبت أن أكثرهم قد لعنهم الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وآله !! فهل رأيتم أمة يحكمها بأمر الله تعالى الملعونون على لسان نبيها ؟!!

وكيف يلعن الله تعالى أشخاصاً ويحكم عليهم بالطرد من رحمته لخبثهم ، ثم يختارهم أو يختار من أولادهم أئمةً ربانيين ، هداةً لعباده ، وحكاماً لبلاده !!

فقد ثبت في مصادر السنيين أن النبي صلى الله عليه وآله قد لعن الحكم وابنه مروان ، ونفاهما من المدينة حتى أعادهما عثمان ، وأنه رأى أبا سفيان راكباً على جمل يجره معاوية ويقوده ولده الآخر ، فلعن الراكب والقائد والسائق ( راجع مجمع الزوائد : 1/ 113 ) إلى آخر هذا البحث الذي لايتسع له موضوعنا ، ولا تتسع له صدور أتباع الأمويين !

* * *

ولهذه الأسباب كثرت أقوالهم واحتمالاتهم في تفسير الأئمة المبشر بهم ، ولعلها زادت عن الثلاثين قولاً ! وكلها معلولة ينقضها الحديث الشريف ، وينقض بعضها بعضاً .. ولعل أقدمها قول ابن حبان الذي نقله عنه في عون المعبود في شرح سنن أبي داود: 11/361 : قال :

( وأما : الخلفاء اثنا عشر ، فقد قال جماعة منهم أبو حاتم بن حبان وغيره: إن آخرهم عمر بن عبد العزيز ، فذكروا الخلفاء الأربعة ، ثم معاوية ، ثم يزيد ابنه ، ثم معاوية بن يزيد ، ثم مروان بن الحكم ، ثم عبد الملك ابنه ، ثم الوليد بن عبد الملك ، ثم سليمان بن عبد الملك ، ثم عمر بن العزيز . وكانت وفاته على رأس المائة ) . انتهى .

ولكن هذا التفسير الأموي لابن حبان وجماعته ، قد نسخه العلماء الذين جاؤوا من بعدهم وأحبوا العباسيين ، فأدخلوا بعضهم في بشارة النبي صلى الله عليه وآله ، وحذفوا بني أمية ، كلاً أو بعضاً !

ويلاحظ أن هذا التفسير حذف اسم الإمام المهدي عليه السلام مع أنه مبشر به بأحاديث صحيحة عندهم ، ويشمله قول جده صلى الله عليه وآله
( من بعدي اثنا عشر إماماً ) . كما حذفوا اسم الإمام الحسن عليه السلام مع أنه بايعه المسلمون ما عدا أهل الشام وحكم ستة أشهر ، وقد أثبته السنييون المتأخرون عنهم .

بل كان يجب أن يثبتوا اسمه واسم أخيه الحسين عليهما السلام لأن النبي صلى الله عليه وآله شهد بأنهما إمامان قاما أم قعدا ، وشهد بأنهما سيدا شباب أهل الجنة .

بينما أثبت هذا التفسير الحباني اسم يزيد بن معاوية ، وجعله من الأئمة الربانيين الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وآله ! وهي درجةٌ لايطمع فيها يزيد ولا محبوه العقلاء ، لأنهم إلى اليوم يكافحون لإثبات إسلام يزيد ، وعدم ارتداده بسبب تصريحاته ، وعدم فسقه بسبب جرائمه التي ارتكبها في كربلاء وفي استباحة المدينة ، وهدم الكعبة !

كما عدُّوا منهم على هذا التفسير معاوية بن يزيد ( معاوية الثاني ) الذي ولوه الخلافة بعد أبيه يزيد ، فخطب خطبته الأولى والأخيرة ، وتبرأ فيها من ظلم أبيه يزيد وجده معاوية ! وشهد بأن الخلافة حق شرعي لعلي عليه السلام، وأن معاوية ظلمه وغصبها منه ، ثم عزل نفسه عنها ، فقتله بنو أمية !

فلو كان هذا الشخص من الأئمة الإثني عشر الربانيين لعرف هو ذلك ، وما خلع نفسه وعرضها لغضب أسرته الحاكمة الباطشة !

كما أن هذا التفسير تجاهل حديث ( سفينة ) الثابت عندهم القائل : إن الخلافة ثلاثون سنة ، وبعدها الملك العضوض ، وقد صححه المحدثون ، وأخذ به المفسرون الآخرون .. إلى آخر الإشكالات عليه !

* * *

ويطول الكلام لو أردنا أن نستقصي محاولات كبار علمائهم تفسير الحديث الشريف . ولكن الذي يسهل الأمر أن كلامهم في ذلك متشابه ، وأنه ما زال إلى اليوم يدور في محور التفسير الأموي! وفيما يلي نماذج من تفاسيرهم وما يرد عليها:

قال السيوطي في تاريخ الخلفاء /10 :

( قال القاضي عياض : لعل المراد بالإثني عشر في هذه الأحاديث وما شابهها أنهم يكونون في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والإجتماع على من يقوم بالخلافة ، وقد وجد هذا فيمن اجتمع عليه الناس إلى أن اضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة ، زمن الوليد بن يزيد ، فاتصلت بينهم ، إلى أن قامت الدولة العباسية ، فاستأصلوا أمرهم .

قال شيخ الإسلام ابن حجر في شرح البخاري : كلام القاضي عياض أحسن ما قيل في الحديث وأرجحه ، لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة : كلهم يجتمع عليه الناس .

قلت : وعلى هذا فقد وجد من الإثنا عشر خليفة : الخلفاء الأربعة ، والحسن ، ومعاوية ، وابن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز ، هؤلاء ثمانية .

ويحتمل أن يضم إليهم المهتدي من العباسيين ، لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية ، وكذلك الظاهر ، لما أوتيه من العدل ، وبقي الإثنان المنتظران : أحدهم المهدي ، لأنه من آل بيت محمد صلى الله عليه وسلم ) . انتهى .

ولكن السيوطي وابن حجر أخذا بزيادة ( وكلهم تجتمع عليهم الأمة ) التي تقدم أنها لم تثبت . والألباني الوهابي وغيره قالوا : إنها منكرة .

كما أنهما تجاوزا حديث سفينة الذي صح عندهم ، والذي يحدد المدة الزمنية للخلافة الراشدة بثلاثين سنة ! وبذلك يصير المطلوب لهم أحد عشر حاكماً في ثلاثين سنة ، ويبطل انتقاء أحد من الحكام الأمويين والعباسيين !

مضافاً إلى أن نقل السيوطي لكلام عياض وابن حجر لم يكن دقيقاً مع الأسف ! فقد تجاهل أن ابن حجر عدهم إلى الثاني عشر من بني أمية ، فقال (والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك ) بينما أوصلهم السيوطي في بني أمية إلى ثمانية ، ووضع فيهم اثنين من خلفاء بني العباس !!

وإليك فقرات من كلام ابن حجر في فتح الباري لتعرف الخلل في نقل السيوطي عنه ! قال : ( قال ابن بطال عن المهلب : لم ألق أحداً يقطع في هذا الحديث ، يعني بشئ معين ! فقوم قالوا : يكونون بتوالي إمارتهم .

وقوم قالوا : يكونون في زمن واحد كلهم يدعي الإمارة !

قال : والذي يغلب على الظن أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأعاجيب تكون بعده من الفتن ، حتى يفترق الناس في وقت واحد على اثني عشر أميراً !

قال : ولو أراد غير هذا لقال : يكون اثنا عشر أميراً يفعلون كذا ، فلما أعراهم من الخبر ، عرفنا أنه أراد أنهم يكونون في زمن واحد . انتهى .

( أي كلام ابن بطال ) .

ثم قال واصل ابن حجر كلامه قائلاً : وهو كلام من لم يقف على شيء من طرق الحديث غير الرواية التي وقعت في البخاري هكذا مختصرة ، وقد عرفت من الروايات التي ذكرتها من عند مسلم وغيره أنه ذكر الصفة التي تختص بولايتهم ، وهو كون الإسلام عزيزاً منيعاً .

وفي الرواية الأخرى صفة أخرى وهو : أن كلهم يجتمع عليه الناس ، كما وقع عند أبي داود، فإنه أخرج هذا الحديث من طريق إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبيه، عن جابر بن سمرة بلفظ : لايزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم تجتمع عليه الأمة . وأخرجه الطبراني من وجه آخر ، عن الأسود بن سعيد ، عن جابر بن سمرة بلفظ : لاتضرهم عداوة من عاداهم . وقد لخص القاضي عياض ذلك فقال : توجه على هذا العدد سؤالان : أحدهما : أنه يعارضه ظاهر قوله في حديث سفينة ، يعني الذي أخرجه أصحاب السنن وصححه بن حبان وغيره : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً . الثلاثون سنة لم يكن فيها إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن بن علي. والثاني: أنه ولي الخلافة أكثر من هذا العدد .

قال : والجواب عن الأول : أنه أراد في حديث سفينة : خلافة النبوة ، ولم يقيده في حديث جابر بن سمرة بذلك .

وعن الثاني : أنه لم يقل : لايلي إلا اثنا عشر ، وإنما قال : يكون اثنا عشر، وقد ولي هذا العدد ، ولا يمنع ذلك الزيادة عليهم .

قال : وهذا إن جعل اللفظ واقعاً على كل من ولي ، وإلا فيحتمل أن يكون المراد من يستحق الخلافة من أئمة العدل ، وقد مضى منهم الخلفاء الأربعة ، ولا بد من تمام العدة قبل قيام الساعة .

وقد قيل : إنهم يكونون في زمن واحد يفترق الناس عليهم ، وقد وقع في المائة الخامسة في الأندلس وحدها ستة أنفس كلهم يتسمى بالخلافة ، ومعهم صاحب مصر، والعباسية ببغداد ، إلى من كان يدعي الخلافة في أقطار الأرض من العلوية والخوارج .

قال : ويعضد هذا التأويل قوله في حديث آخر في مسلم : ستكون خلفاء فيكثرون.

قال : ويحتمل أن يكون المراد أن يكون الإثنا عشر في مدة عزة الخلافة وقوة الإسلام واستقامة أموره والإجتماع على من يقوم بالخلافة ، ويؤيده قوله في بعض الطرق : كلهم تجتمع عليه الأمة .

وهذا قد وجد فيما اجتمع عليه الناس إلى أن اضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد ، فاتصلت بينهم إلى أن قامت الدولة العباسية فاستأصلوا أمرهم . وهذا العدد موجود صحيح إذا اعتبر .

قال : وقد يحتمل وجوهاً أخر .. والله أعلم بمراد نبيه . انتهى . ( أي كلام عياض ) .

ثم واصل ابن حجر قائلاً : والإحتمال الذي قبل هذا ، وهو اجتماع اثني عشر في عصر واحد كلهم يطلب الخلافة، هو الذي اختاره المهلب كما تقدم. وقد ذكرت وجه الرد عليه ، ولو لم يرد إلا قوله كلهم يجتمع عليه الناس ، فإن في وجودهم في عصر واحد يوجد عين الإفتراق ، فلا يصح أن يكون المراد . ويؤيد ما وقع عند أبي داود : ما أخرجه أحمد والبزار من حديث بن مسعود بسند حسن : أنه سئل : كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال : سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل .

وقال ابن الجوزي في كشف المشكل : قد أطلت البحث عن معنى هذا الحديث ، وتطلبت مظانه ، وسألت عنه فلم أقع على المقصود به ، لأن ألفاظه مختلفة ، ولا أشك أن التخليط فيها من الرواة ، ثم وقع لي فيه شيء وجدت الخطابي بعد ذلك قد أشار إليه ، ثم وجدت كلاماً لأبي الحسين بن المنادي وكلاماً لغيره .

فأما الوجه الأول : فإنه أشار إلى ما يكون بعده وبعد أصحابه ، وأن حكم أصحابه مرتبط بحكمه ، فأخبر عن الولايات الواقعة بعدهم ، فكأنه أشار بذلك إلى عدد الخلفاء من بني أمية ، وكأن قوله : لايزال الدين : أي الولاية، إلى أن يلي اثنا عشر خليفة . ثم ينتقل إلى صفة أخرى أشد من الأولى . وأول بني أمية يزيد بن معاوية ، وآخرهم مروان الحمار ، وعدتهم ثلاثة عشر ، ولا يعد عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير ، لكونهم صحابة ! فإذا أسقطنا منهم مروان بن الحكم للإختلاف في صحبته ، أو لأنه كان متغلباً بعد أن اجتمع الناس على عبد الله بن الزبير ، صحت العدة . وعند خروج الخلافة من بني أمية وقعت الفتن العظيمة والملاحم الكثيرة ، حتى استقرت دولة بني العباس ، فتغيرت الأحوال عما كانت عليه تغيراً بيناً .

قال : ويؤيد هذا ما أخرجه أبو داود من حديث بن مسعود ، رفعه : تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين أو سبع وثلاثين، فإن هلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاماً . ( قال المؤلف : لاأعرف من صحح هذا الحديث غير الألباني ) .

ثم قال ابن حجر : قلت : لكن يعكر عليه أنّ مِن استقرار الملك لبني أمية عند اجتماع الناس على معاوية سنة إحدى وأربعين ، إلى أن زالت دولة بني أمية فقتل مروان بن محمد في أوائل سنة : اثنتين وثلاثين ومائة ، أزيد من تسعين سنة . . .

قال ( أي ابن الجوزي ): وأما الوجه الثاني : فقال أبو الحسين بن المنادي في الجزء الذي جمعه في المهدي : يحتمل في معنى حديث : يكون اثنا عشر خليفة ، أن يكون هذا بعد المهدي الذي يخرج في آخر الزمان ، فقد وجدت في كتاب دانيال : إذا مات المهدي ملك بعده خمسة رجال من ولد السبط الأكبر ، ثم خمسة من ولد السبط الأصغر ، ثم يوصي آخرهم بالخلافة لرجل من ولد السبط الأكبر ، ثم يملك بعده ولده ، فيتم بذلك اثنا عشر ملكاً ، كل واحد منهم إمام مهدي .

قال ابن المنادي : وفي رواية أبي صالح عن بن عباس : المهدي اسمه محمد بن عبد الله ، وهو رجل ربعة مشرب بحمرة ، يفرج الله به عن هذه الأمة كل كرب ويصرف بعدله كل جور ، ثم يلي الأمر بعده اثنا عشر رجلاً ، ستة من ولد الحسن وخمسة من ولد الحسين ، وآخر من غيرهم ، ثم يموت فيفسد الزمان . وعن كعب الأحبار : يكون اثنا عشر مهدياً ، ثم ينزل روح الله فيقتل الدجال .

قال : والوجه الثالث : أن المراد : وجود اثني عشر خليفة في جميع مدة الإسلام إلى يوم القيامة ، يعملون بالحق وإن لم تتوال أيامهم .

ويؤيده ما أخرجه مسدد في مسنده الكبير ، من طريق أبي بحر أن أبا الجلد، حدثه أنه لاتهلك هذه الأمة حتى يكون منها اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق ، منهم رجلان من أهل بيت محمد ، يعيش أحدهما أربعين سنة والآخر ثلاثين سنة . وعلى هذا فالمراد بقوله : ثم يكون الهرج ، أي الفتن المؤذنة بقيام الساعة ، من خروج الدجال ثم يأجوج ومأجوج إلى أن تنقضي الدنيا . انتهى كلام بن الجوزي ملخصاً بزيادات يسيرة .

وتابع ابن حجر قائلاً : والوجهان الأول والآخر قد اشتمل عليهما كلام القاضي عياض ، فكأنه ما وقف عليه ، بدليل أن في كلامه زيادة لم يشتمل عليها كلامه . وينتظم من مجموع ما ذكراه أوجه ، أرجحها الثالث من أوجه القاضي لتأييده بقوله في بعض طرق الحديث الصحيحة : كلهم يجتمع عليه الناس .

وإيضاح ذلك أن المراد بالإجتماع انقيادهم لبيعته . والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ، إلى أن وقع أمر الحكمين في صفين فسمي معاوية يومئذ بالخلافة ، ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن ، ثم اجتمعوا على ولده يزيد ، ولم ينتظم للحسين أمر بل قتل قبل ذلك ، ثم لما مات يزيد وقع الإختلاف ، إلى أن اجتمعوا على عبد الملك بن مروان بعد قتل بن الزبير ، ثم اجتمعوا على أولاده الأربعة : الوليد ثم سليمان ثم يزيد ثم هشام ، وتخلل بين سليمان ويزيد عمر بن عبد العزيز ، فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين. والثاني عشر هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، واجتمع الناس عليه لما مات عمه هشام فولي نحو أربع سنين ، ثم قاموا عليه فقتلوه ، وانتشرت الفتن وتغيرت الأحوال من يومئذ ، ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك ، لأن يزيد بن الوليد الذي قام على ابن عمه الوليد بن يزيد لم تطل مدته ، بل ثار عليه قبل أن يموت ابن عم أبيه مروان بن محمد بن مروان ، ولما مات يزيد ولي أخوه إبراهيم فغلبه مروان ، ثم ثار على مروان بنو العباس ، إلى أن قتل .

ثم كان أول خلفاء بني العباس أبو العباس السفاح ، ولم تطل مدته ، مع كثرة من ثار عليه ، ثم ولي أخوه المنصور فطالت مدته ، لكن خرج عنهم المغرب الأقصى باستيلاء المروانيين على الأندلس ، واستمرت في أيديهم متغلبين عليها إلى أن تسموا بالخلافة بعد ذلك ، وانفرط الأمر في جميع أقطار الأرض ، إلى أن لم يبق من الخلافة إلا الإسم في بعض البلاد ، بعد أن كانوا في أيام بني عبد الملك بن مروان يخطب للخليفة في جميع أقطار الأرض شرقاً وغرباً وشمالاً ويميناً مما غلب عليه المسلمون ، ولا يتولى أحد في بلد من البلاد كلها الإمارة على شيء منها إلا بأمر الخليفة . ومن نظر في أخبارهم عرف صحة ذلك . فعلى هذا يكون المراد بقوله : ثم يكون الهرج ، يعني القتل الناشيء عن الفتن وقوعاً فاشياً يفشو ويستمر ويزداد على مدى الأيام ، وكذا كان . والله المستعان .

والوجه الذي ذكره بن المنادي ليس بواضح ، ويعكر عليه ما أخرجه الطبراني من طريق قيس بن جابر الصدفي ، عن أبيه ، عن جده رفعه : سيكون من بعدي خلفاء ثم من بعد الخلفاء أمراء ، ومن بعد الأمراء ملوك ، ومن بعد الملوك جبابرة ، ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ثم يؤمر القحطاني فوالذي بعثني بالحق ما هو دونه. فهذا يرد على ما نقله بن المنادي من كتاب دانيال.

وأما ما ذكره عن أبي صالح فواهٍ جداً ، وكذا عن كعب .... فالأولى أن يحمل قوله : يكون بعدي اثنا عشر خليفة ، على حقيقة البعدية، فإن جميع من ولي الخلافة من الصديق إلى عمر بن عبد العزيز أربعة عشر نفساً ، منهم اثنان لم تصح ولايتهما، ولم تطل مدتهما ، وهما معاوية بن يزيد ومروان بن الحكم، والباقون اثنا عشر نفساً على الولاء ، كما أخبر صلى الله عليه وسلم ، وكانت وفاة عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة ، وتغيرت الأحوال بعده ، وانقضى القرن الأول الذي هو خير القرون .

ولا يقدح في ذلك قوله : يجتمع عليهم الناس ، لأنه يحمل على الأكثر الأغلب ، لأن هذه الصفة لم تفقد منهم إلا في الحسن بن علي وعبد الله بن الزبير ، مع صحة ولايتهما ، والحكم بأن من خالفهما لم يثبت استحقاقه إلا بعد تسليم الحسن ، وبعد قتل بن الزبير . والله أعلم .

وكانت الأمور في غالب أزمنة هؤلاء الإثني عشر منتظمة ، وإن وجد في بعض مدتهم خلاف ذلك ، فهو بالنسبة إلى الإستقامة نادر . والله أعلم .

وقد تكلم ابن حبان على معنى حديث : تدور رحى الإسلام ، فقال: المراد بقوله: تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين : انتقال أمر الخلافة إلى بني أمية ، وذلك أن قيام معاوية عن علي بصفين حتى وقع التحكيم، هو مبدأ مشاركة بني أمية ثم استمر الأمر في بني أمية من يومئذ سبعين سنة ، فكان أول ما ظهرت دعاة بني العباس بخراسان سنة ست ومائة، وساق ذلك بعبارة طويلة ، عليه فيها مؤاخذات كثيرة ، أولها دعواه أن قصة الحكمين كانت في أواخر سنة ست وثلاثين ، وهو خلاف ما اتفق عليه أصحاب الأخبار، فإنها كانت بعد وقعة صفين بعدة أشهر ، وكانت سنة سبع وثلاثين . والذي قدمته أولى بأن يحمل الحديث عليه . والله أعلم ) . انتهى كلام ابن حجر .

* * *

وقد رأيت أن ما اختاره ابن حجر غير ما نسبه إليه السيوطي ، فلا بد من القول أن السيوطي لم يقرأ كل كلام ابن حجر كاملاً ، أو أن نتهم السيوطي بالتدليس .

لكن المهم أنك رأيت تحيرهم جميعاً وكثرة احتمالاتهم ، وتضاربها ! وأن أكثرهم أخذوا بزيادة ( تجتمع عليه الأمة ) محوراً لتفسيره ، مع أنها لم تثبت عندهم ، بل استنكرها عدد منهم !

ورأيت أن القاضي عياض لم يجزم بشيء ، بل ذكر وجوهاً عديدة بكلمة قيل ويحتمل .. وأن ابن حجر رجح الإحتمال الثالث منها ، فقال ( وينتظم من مجموع ما ذكراه أوجه أرجحها الثالث من أوجه القاضي ) .

والنتيجة التي يخرج منها القارىء لتفاسيرهم : أنهم يضيعون عليه معنى الحديث الذي أرادوا أن يفسروه ، وهو حديث صحيح عندهم ، صريح بالبشارة النبوية باثني عشر إماماً ربانيين ، هداة مهديين ، قيمين على الأمة .

فتراهم يصرون على تلبيس الحديث لحكام بني أمية ، وعلى خلطه بزيادة لم تثبت وبأحاديث ضعيفة ، لايستقيم لها معنى ، ولا أثر عليها للبلاغة النبوية !!

* * *

وإذا أردت مزيداً من الأمثلة على ضياعهم ، فاقرأ عون المعبود 11/362 - 364 ، قال :

( قال بعض المحققين : قد مضى منهم الخلفاء الأربعة ، ولا بد من تمام هذا العدد قبل قيام الساعة . وقيل : إنهم يكونون في زمان واحد يفترق الناس عليهم .

وقال التوربشتي : السبيل في هذا الحديث وما يعتقبه في هذا المعنى ، أن يحمل على المقسطين منهم ، فإنهم المستحقون لإسم الخليفة على الحقيقة ، ولا يلزم أن يكونوا على الولاء . وإن قدر أنهم على الولاء ، فإن المراد منه المسمون على المجاز ! كذا في المرقاة .

وقال الشيخ الأجل ولي الله المحدث في قرة العينين في تفضيل الشيخين : وقد استشكل في حديث : لايزال هذا الدين ظاهراً إلى أن يبعث الله اثني عشر خليفة كلهم من قريش ، ووجه الإستشكال : أن هذا الحديث ناظر إلى مذهب الإثني عشرية الذين أثبتوا اثني عشر إماماً .

والأصل أن كلامه صلى الله عليه وآله بمنزلة القرآن يفسر بعضه بعضاً ، فقد ثبت من حديث عبد الله بن مسعود : تدور رحى الإسلام لخمس وثلاثين سنة ، أو ست وثلاثين سنة ، أو سبع وثلاثين سنة ، فإن يهلكوا فسبيل من قد هلك ، وإن يقم لهم دينهم ، يقيم سبعين سنة مما مضى .

وقد وقعت أغلاط كثيرة في بيان معنى هذا الحديث ، ونحن نقول ما فهمناه على وجه التحقيق :

إن ابتداء هذه المدة من ابتداء الجهاد في السنة الثانية من الهجرة ... !!

وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم : ففي سنة خمس وثلاثين من ابتداء الجهاد وقعت حادثة قتل ذي النورين وتفرق المسلمين ولكن الله تعالى بعد ذلك جعل أمر الخلافة منتظماً، وأمضى الجهاد إلى ظهور بني العباس وتلاشي دولة بني أمية ... فتارة أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن خلافة النبوة ، وخصصه بثلاثين سنة ، والتي بعدهم عبرها بملك عضوض ، وتارة عن خلافة النبوة ، والتي تتصل بها كليهما معاً ، وعبرها باثني عشر خليفة . . .

فالتحقيق في هذه المسألة : أن يعتبروا بمعاوية وعبد الملك وبنيه الأربع
( كذا ) وعمر بن عبد العزيز ، ووليد بن يزيد بن عبد الملك ، بعد الخلفاء الأربعة الراشدين .

وقد نقل عن الإمام مالك أن عبد الله بن الزبير أحق بالخلافة من مخالفيه ، ولنا فيه نظر ، فإن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما قد ذكرا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن تسلط ابن الزبير واستحلال الحرم به مصيبة من مصائب الأمة ، أخرج حديثهما أحمد عن قيس بن أبي حازم قال : جاء ابن الزبير إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في الغزو ، فقال عمر : أجلس في بيتك فقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فرد ذلك عليه ، فقال له عمر : في الثالثة أو التي تليها : أقعد في بيتك ، والله إني لأجد بطرف المدينة منك وأصحابك أن تخرجوا فتفسدوا على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . وأخرجه الحاكم .

فمن لفظه : بطرف المدينة ، يفهم أن واقعة الجمل غير مراد ها هنا ، بل المراد خروجه للخلافة ، وإلى هذا المعنى قد أشار علي رضي الله عنه في قصة جواب الحسن رضي الله عنه ، ولم ينتظم أمر الخلافة عليه .

ويزيد بن معاوية ساقط من هذا البين ، لعدم استقراره مدة يعتد بها ، وسوء سيرته . والله أعلم ) . انتهى كلام عون المعبود .

وأنت ترى أن صاحب قرة العينين اعترف بأن ملك بني أمية ملك عضوض وأن خلافتهم ليست خلافة نبوة .. ومع ذلك فسر بهم الحديث ، وطبق عليهم البشارة النبوية بالأئمة الإثني عشر ، الربانيين ، القيمين بأمر الله تعالى على أمة نبيه صلى الله عليه وآله !

كما ترى أنه حذف منهم الإمام الحسن والإمام المهدي عليهما السلام ، وحذف ابن الزبير الذي أثبته الإمام مالك وآخرون ... إلخ !

وهو مع ذلك ينتقد الذين غلطوا في تفسيره فيقول ( وقد وقعت أغلاطٌ كثيرةٌ في بيان معنى هذا الحديث ) ووعد الناس بأن يرفع المعضلة فزادها إعضالاً ، وأن يحل المشكلة فزادها إشكالاً !!

* * *

ثم اقرأ ما قاله ابن كثير في البداية والنهاية : 3/248 :

ذكر الأخبار عن الأئمة الإثني عشر الذين كلهم من قريش . وليسوا بالإثني عشر الذين يدعون إمامتهم الرافضة ، فإن هؤلاء الذين يزعمون ، لم يلِ أمور الناس منهم إلا علي بن أبي طالب وابنه الحسن ، وآخرهم في زعمهم المهدي المنتظر بسرداب سامرا ، وليس له وجود ولا عين ولا أثر .

بل هؤلاء الأئمة الإثنا عشر المخبر عنهم في الحديث : الأئمة الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، وعمر بن عبد العزيز بلا خلاف بين الأئمة على كلا القولين لأهل السنة في تفسير الإثني عشر . انتهى .

ولعله يقصد بالقولين : القول بتتابعهم زمنياً ، وعدمه ، ولكنهما وجهان في كل واحد منهما عددٌ من الأقوال .. وقد ذكر هو جملةً منها !

ثم أشار ابن كثير إلى الإحتمالات وركز منها على مناقشة البيهقي فقال :

فهذا الذي سلكه البيهقي وقد وافقه عليه جماعة من أن المراد بالخلفاء الإثني عشر المذكورين في هذا الحديث ، هم المتتابعون إلى زمن الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق ، الذي قدمنا الحديث فيه بالذم والوعيد ، فإنه مسلك فيه نظر ، وبيان ذلك : أن الخلفاء إلى زمن الوليد بن يزيد هذا أكثر من اثني عشر على كل تقدير ، وبرهانه أن الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي خلافتهم محققة بنص حديث سفينة : الخلافة بعدي ثلاثون سنة . ثم بعدهم الحسن بن علي كما وقع ، لأن علياً أوصى إليه وبايعه أهل العراق ، وركب وركبوا معه لقتال أهل الشام ، حتى اصطلح هو ومعاوية كما دل عليه حديث أبي بكرة ، في صحيح البخاري . ثم معاوية ، ثم ابنه يزيد بن معاوية ، ثم ابنه معاوية بن يزيد ، ثم مروان بن الحكم ، ثم ابنه عبد الملك بن مروان ثم ابنه الوليد بن عبد الملك ، فهؤلاء خمسة عشر ، ثم الوليد بن يزيد بن عبد الملك .

فإن اعتبرنا ولاية الزبير قبل عبد الملك صاروا ستة عشر ، وعلى كل تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن عبد العزيز ، فهذا الذي سلكه على هذا التقدير يدخل في الإثني عشر يزيد بن معاوية ، ويخرج منهم عمر بن عبد العزيز ، الذي أطبق الأئمة على شكره وعلى مدحه ، وعدُّوه من الخلفاء الراشدين ، وأجمع الناس قاطبة على عدله وأن أيامه كانت من أعدل الأيام ، حتى الرافضة يعترفون بذلك .

فإن قال : أنا لاأعتبر إلا من اجتمعت الأمة عليه ، لزمه على هذا القول أن لايعدّ علي بن أبي طالب ولا ابنه ، لأن الناس لم يجتمعوا عليهما ، وذلك أن أهل الشام بكمالهم لم يبايعوهما ، وعدّ معاوية وابنه يزيد وابن ابنه معاوية بن يزيد ، ولم يقيد بأيام مروان ولا ابن الزبير ، فإن الأمة لم تجتمع على واحد منهما .

فعلى هذا نقول في مسلكه هذا عاداًّ للخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان ثم معاوية ثم يزيد بن معاوية ثم عبد الملك ثم الوليد بن سليمان ثم عمر بن عبد العزيز ثم يزيد ثم هشام ، فهؤلاء عشرة ، ثم من بعدهم الوليد بن يزيد بن عبد الملك الفاسق ، ولكن هذا لايمكن أن يسلك ، لأنه يلزم منه إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الإثني عشر ، وهو خلاف ما نص عليه أئمة السنة ، بل والشيعة ، ثم هو خلاف ما دل عليه نصا حديث سفينة عن رسول الله أنه قال : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكاً عضوضاً .

وقد ذكر ( سفينة ) تفصيل هذه الثلاثين سنة فجمعها من خلافة الأربعة ، وقد بيناّ دخول خلافة الحسن ، وكانت نحواً من ستة أشهر فيها أيضاً ، ثم صار الملك إلى معاوية لما سلم الأمر إليه الحسن بن علي .

وهذا الحديث فيه المنع من تسمية معاوية خليفة ، وبيان أن الخلافة قط انقطعت بعد الثلاثين سنة لامطلقاً ، بل انقطع تتابعها ، ولا ينفي وجود خلفاء راشدين بعد ذلك ، كما دل عليه حديث جابر بن سمرة .

وقال نعيم بن حماد : حدثنا راشد بن سعد ، عن ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حذيفة بن اليمان قال : يكون بعد عثمان اثنا عشر ملكا من بني أمية ، قيل له : خلفاء ؟ قال : لا، بل ملوك .

وقد روى البيهقي من حديث حاتم بن صفرة ، عن أبي بحر قال : كان أبو الجلد جاراً لي ، فسمعته يقول يحلف عليه : إن هذه الأمة لن تهلك حتى يكون فيها اثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق ، منهم رجلان من أهل البيت ، أحدهما يعيش أربعين سنة ، والآخر ثلاثين سنة . ثم شرع البيهقي في رد ما قاله أبو الجلد بما لايحصل به الرد ، وهذا عجيب منه !

وقد وافق أبا الجلد طائفة من العلماء ، ولعل قوله أرجح لما ذكرنا . وقد كان ينظر في شيء من الكتب المتقدمة ، وفي التوراة التي بأيدي أهل الكتاب ما معناه : إن الله تعالى بشر إبراهيم بإسماعيل ، وأنه ينميه ويكثره ويجعل من ذريته اثني عشر عظيماً . انتهى كلام ابن كثير .

وهو يقصد ما هو موجود في التوراة الفعلية - العهد القديم والجديد 1/25 - طبعة مجمع الكنائس الشرقية في سفر التكوين، الإصحاح السابع عشر، قال:

18 - وقال إبراهيم لله ليت إسماعيل يعيش أمامك .

19 - فقال الله : بل سارة امرأتك تلد لك ابناً وتدعو اسمه إسحق ، وأقيم عهدي معه عهداً أبدياً ، لنسله من بعده .

20 - وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ، ها أنا أباركه وأثمره ، وأكثره كثيراً جداً . اثني عشر رئيساً يلد ، وأجعله أمة كبيرة .

21 - ولكن عهدي أقيمه مع إسحق ، الذي تلده لك سارة في هذا الوقت ، في السنة الآتية . انتهى .

وقد وردت ترجمها كعب الأحبار ( قيماً ) وترجمها بعضهم ( إماماً ) ..

فالنص موجود في التوراة ، وفي مصادر السنة ، والشيعة ، وهو مؤيد لبشارة نبينا صلى الله عليه وآله ، ولكنه يؤيد تفسير شيعة أهل البيت عليهم السلام ، ولا يحل مشكلة المفسرين السنيين ، بل يزيدها !

* * *

ومن أعقل هؤلاء الشراح وأكثرهم إنصافاً في هذا الموضوع : ابن العربي المالكي المتوفى سنة 543 ، فقد اعترف في عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي بأن تطبيق الحديث على هؤلاء يصل إلى طريق مسدود ، ورجح أن يكون الحديث ناقصاً، لأن الموجود منه لايفهم له معنى .. قال :

روى أبو عيسى ، عن جابر بن سمرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلهم من قريش . صحيح .

فعددنا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر أميراً فوجدنا : أبا بكر ، عمر ، عثمان ، علي ، الحسن ، معاوية ، يزيد ، معاوية بن يزيد ، مروان ، عبد الملك، مروان بن محمد بن مروان ، السفاح ، المنصور ، المهدي ، الهادي ، الرشيد ، الأمين ، المأمون ، المعتصم ، الواثق ، المتوكل ، المنتصر ، المستعين ، المعتز ، المهتدي ، المعتضد ، المكتفي ، المقتدر ، القاهر ، الراضي ، المتقي ، المستكفي، المطيع ، الطائع، القادر ، القائم ، المقتدي ، أدركته سنة أربع وثمانين وأربعمائة وعهد إلى المستظهر أحمد ابنه ، وتوفي في المحرم سنة ست وثمانين ، ثم بايع المستظهر لابنه أبي منصور الفضل ، وخرجت عنهم سنة خمس وتسعين .

وإذا عددنا منهم اثني عشر انتهى العدد بالصورة إلى سليمان بن عبد الملك.

وإذا عددناهم بالمعنى ، كان معنا منهم خمسة : الخلفاء الأربعة وعمر بن عبد العزيز !! ولم أعلم للحديث معنى ، ولعله بعض حديث !! انتهى .

* * *

فاتضح لك أن المفسرين السنيين بذلوا كل جهدهم لتفسير هؤلاء الأئمة الإثني عشر الموعودين في التوراة على لسان إبراهيم ، ثم على لسان نبينا صلى الله عليه وآله ، على ملوك بني أمية ، ولكنهم واجهوا ثلاثة مشاكل أساسية لاحل لها :

الأولى : زيادة عدد هؤلاء ( الخلفاء ) الذين يعترفون بأنهم ليسوا خلفاء النبي صلى الله عليه وآله بل خلفاء الهواء ! على الإثني عشر ، الأمر الذي يدخلهم في بوابة الحذف والإثبات التي لاضابط لها ، ولا آخر !

والثانية : أنهم يشعرون أن هذا الثوب الإلهي لايمكن إلباسه لجماعتهم .. وأنهم مهما دافعوا عن سيرة هؤلاء ( الخلفاء غير الخلفاء ) وتستروا على تاريخهم ، ففيهم مفضوحون ، لابد من الإعتراف بسوئهم ، ولا يمكن أن يكون أحدهم إماماً ربانياً ، وقيماً عظيماً على الأمة ، موعوداً من الله تعالى على لسان أعاظم الأنبياء عليهم السلام .

والثالثة : أنهم بهذا التفسير يدعون لهؤلاء الملوك منصباً ربانياً لم يدعوه هم لأنفسهم ! فيصيرون بذلك كمن يدعي نبوة لنبي ، والنبي المزعوم ينكرها !!

وأخيراً ، فقد نصح المفسرون السنيون أتباعهم أن لايأخذوا بتفسير الشيعة ووعدوهم بأن يفسروا لهم الحديث الشريف بأصح من تفسير الشيعة ، وقد رأينا أنهم داروا في تفسيره كثيراً ، وراوحوا مكانهم .. فمن حق السني أن يعود على بدء ، ويسألهم عن تفسير حديث نبيه صلى الله عليه وآله الصحيح وبشارته القطعية باثني عشر إماماً ، ربانياً ، ملهماً ، مميزاً بعلمه وشخصيته وسلوكه ، قيماً من ربه على الأمة .. يكونون جميعاً على هدى واحد ، وخط واحد . .

ومن حقنا أن نقول لهم : إذا لم تفسروه ، فاعذرونا أن نفسره بالأئمة من أهل بيت النبي وعترته الطاهرين صلى الله عليه وآله ، وأولهم علي عليه السلام وآخرهم المهدي الموعود عليه السلام ، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله : بنا بدأ الله وبنا يختم . وصدق الله ورسوله .

 

تورط الشراح السنيين في حديث سفينة

سفينة : مولى أم سلمة ، وثقه علماء الجرح والتعديل السنيون ، وروى عنه البخاري وغيره من أصحاب الصحاح حديثاً يتعلق بالموضوع وصححوه .

قال الترمذي : 3/341 :

( عن سعيد بن جمهان قال : حدثني سفينة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ، ثم ملك بعد ذلك ( عضوض ) .

ثم قال لي سفينة : أمسك عليك خلافة أبي بكر ، ثم قال : وخلافة عمر ، وخلافة عثمان ، ثم قال : أمسك خلافة علي ، فوجدناها ثلاثين سنة .

قال سعيد : فقلت له : إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم ؟

قال : كذب بنو الزرقاء ، بل هم ملوك من شر الملوك .

وفي الباب عن عمر وعلي قالا : لم يعهد النبي صلى الله عليه وسلم في الخلافة شيئاً . هذا حديث حسن ، قد رواه غير واحد عن سعيد بن جمهان ، لانعرفه إلا من حديثه ) . انتهى . ورواه أحمد في مسنده : 5/220 ، و221 بدون كلام سفينة عن ملوك بني أمية . وقال عنه الحاكم : 3/71 وقد أسندت هذه الروايات بإسناد صحيح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم . انتهى .

ورواه ابن كثير في البداية والنهاية : 3/198 : ثم روى بعده عن عبد الرحمن أبي بكرة قال : سمعت رسول الله (ص) يقول : خلافة نبوة ثلاثون عاماً ، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء ، فقال معاوية : رضينا بالملك !! . انتهى .

وإذا صح حديث سفينة فهو إخبار نبوي عن انحراف الأمة بعد الثلاثين سنة ، وعدم شرعية الحكم فيها . وبما أن عدد الحكام في هذه الفترة لم يزيدوا عن خمسة، فلا بد أن يكون الأئمة الإثنا عشر من غير الحاكمين ، أو تكون تكملتهم من غيرهم !

فحديث سفينة يحكم بخطأ جعل الأئمة الإثني عشر من الحكام ، كما هو واضح. ولكن أكثر الشراح أشربوا في قلوبهم حب بني أمية ، وارتكبوا كل تناقض لجعل ملكهم العضوض إمامة ربانية ، وجعل حكامهم المعروفين بسلوكهم وبطشهم ، أئمة ربانيين مبشراً بهم على لسان رسول رب العالمين!

والذي يزيدك اطمئناناً بما قلناه ، أنهم قبلوا حديث سفينة ( الخلافة ثلاثون سنة ) وقد فسره راويه سفينة ونفى الخلافة عن بني أمية ، وقال إنهم ملوك شر ملوك ! بل اتهمهم بأنهم أبناء رومية زانية ( بنو الزرقاء ) !

ومع ذلك جعلوهم أئمة ربانيين ، اختارهم الله تعالى لقيادة هذه الأمة !

ومنهم من حاول نفي تفسير سفينة للحديث وقال: إنه زيادة لم تثبت ، مثل الألباني ! وكذلك لم يثبت عندهم كل ما في تاريخ بني أمية من ظلم عضوض للناس !! فلا بد لهم أن يردوا وصف النبي له بالعضوض !!

قال العيني في عمدة القاري : 16/74 : ( فإن قلت : يعارض حديث سفينة ما رواه مسلم من حديث جابر بن سمرة : لايزال هذا الدين قائماً ما كان اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ، الحديث .

قلت : قيل إن الدين لم يزل قائماً حتى ولي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ، وأراد بهذا خلافة النبوة ، ولم يرد أنه لايوجد غيرهم .

وقيل : هذا الحديث فيه إشارة بوجود اثني عشر خليفة عادلين من قريش ، وإن لم يوجدوا على الولاء ، وإنما اتفق وقوع الخلافة المتتابعة بعد النبوة في ثلاثين سنة ، ثم قد كان بعد ذلك خلفاء راشدون منهم عمر بن عبد العزيز ، ومنهم المهتدي بأمر الله العباسي ، ومنهم المهدي المبشر بوجوده في آخر الزمان ) . انتهى .

فانظر إلى هذا التصرف بالألفاظ من أجل مصلحة الأمويين ، حيث جعل الخلافة الشرعية نوعين : خلافة نبوة وهي التي كانت لمدة ثلاثين سنة ، وخلافة شرعية ليست خلافة عن النبي صلى الله عليه وآله !!

فلابد أن تكون خلافة عن بني تبع وبني حمير أو عن الهواء مثلاً ، وهي التي امتدت بعد الثلاثين ، وهي التي بشر بها النبي صلى الله عليه وآله بقوله : اثنا عشر خليفة ، أو إماماً !!

وقد تمسك الشراح المحبون لبني أمية بهذا الإبتكار وفرحوا به ، لأنه يبقى لهم إمكانية التلاعب بالحديث ، وتفسيره بأئمتهم الربانيين من بني أمية !!

قال ابن كثير في البداية والنهاية : 3/198:

( فإن قيل : فما وجه الجمع بين حديث سفينة هذا ، وبين حديث جابر بن سمرة ، المتقدم في صحيح مسلم ؟ . . .

فالجواب : أن من الناس من قال : إن الدين لم يزل قائماً حتى ولي اثنا عشر خليفة ثم وقع تخبيط بعدهم في زمان بني أمية .

وقال آخرون : بل هذا الحديث فيه بشارة بوجود اثني عشر خليفة عادلاً من قريش ، وإن لم يوجدوا على الولاء ( التتابع ) وإنما اتفق وقوع الخلافة المتتابعة بعد النبوة في ثلاثين سنة ، ثم كانت بعد ذلك خلفاء راشدون فيهم عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي رضي الله عنه ، وقد نص على خلافته وعدله وكونه من الخلفاء الراشدين غير واحد من الأئمة ، حتى قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه : ليس قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز !

ومنهم من ذكر : من هؤلاء المهدي بأمر الله العباسي .

والمهدي المبشر بوجوده في آخر الزمان منهم أيضاً بالنص على كونه من أهل البيت ، واسمه محمد بن عبد الله ، وليس بالمنتظر في سرداب سامرا ، فإن ذاك ليس بموجود بالكلية ، وإنما ينتظره الجهلة من الروافض ) . انتهى .

فترى أن ابن كثير لاجواب عنده على إشكال حديث سفينة، ولذلك قال: من الناس من قال .. وقال آخرون .. ومنهم من ذكر ! وليته أكمل الرواية عن سفينة كما وردت في مصادرهم !

أما مدحه لعمر بن عبد العزيز أو المهدي العباسي ، فهو مهما كثر لايصير دليلاً على أنه أحد الأئمة الربانيين المبشر بهم ! وإلا لاستحق كل ممدوح مثلهما أن يكون منهم !

فإن دخول أحد في عداد أشخاص بشر بهم أنبياء الله تعالى يحتاج إلى دليل على أنه مقصود بهذا النص ، وأنه واحد من هؤلاء الربانيين الذين اختارهم الله تعالى وأعطاهم مقاماً فوق مدح المادحين من البشر !

وأما تكراره اتهام الشيعة بانتظار ظهور المهدي الموعود من سرداب سامراء فهو من المكذوبات علينا ، فنحن ننتظر ظهور المهدي عليه السلام من مكة كما ينتظره هو ، وسرداب سامراء بيته وبيت أبيه وجده عليهم السلام ، وهو مكان مبارك ، نصلي فيه ونتبرك به . ولكن ابن كثير .. كثير الكلام والتهم .

وقال في هامش عون المعبود : 11/361 :

( ذكر الشيخ ابن القيم رحمه الله ... حديث : الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، وحديث اثنا عشر خليفة . ثم قال : فإن قيل : فكيف الجمع ؟ قيل : لاتعارض بين الحديثين ، فإن الخلافة المقدرة بثلاثين سنة هي خلافة النبوة كما في حديث أبي بكرة ) . انتهى .

ولم يقل ابن قيم ولا غيره إذا لم تكن خلافة بني أمية خلافة نبوة فهي خلافة ماذا يا ترى ؟؟ وهل تبقى لها صفة إسلامية وربانية ، بعد أن وصفها النبي صلى الله عليه وآله بأنها ملك عضوض ، كما اعترف صاحب قرة العينين وغيره ! وهل يعني إقرارهم بأنها ملك عضوض ، ونفيهم عنها صفة الخلافة الإسلامية ، إلا أنها خلافة جاهلية عضوضة ؟

وهل يتصور عاقل أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله يبشران الأمة بأئمة جاهليين ، يَعُضُّونها كالكلب بظلمهم ؟!

ولو أن ابن حبان وابن حجر وابن قيم وصاحب قرة العينين وأمثالهم .. اكتفوا بتعصبهم لبني أمية ، لكان خطبهم أسهل ، ولكنهم مع الأسف أصروا على تسخير الأحاديث النبوية لنصرتهم ، وتطبيق بشائر الأنبياء عليهم السلام على ملوكهم !!

ومن طريف عمل الألباني في حديث سفينة ، أنه صحح عدة أحاديث عن الإنحراف والأئمة المضلين ، الذين سيحكمون بعد النبي صلى الله عليه وآله ، ومنها حديث برقم 2982 ( إن من أصحابي من لايراني بعد أن أفارقه ! ) .

وحديث برقم 2864 ( إنه سيلي أموركم من بعدي رجال يطفئون السنة ويحدثون بدعة ) .

وحديث برقم 2865 ( إني ممسك بحجزتكم عن النار ، وتقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب ، ويوشك أن أرسل حجزتكم ... ) إلخ .

وحديث برقم 1749 ( أول من يغير سنتي رجل من بني أمية ) . وجعل هذا الحديث تحت عنوان : من أعلام نبوته الغيبية ، وقال بعده : ولعل المراد بالحديث تغيير نظام اختيار الخليفة وجعله وراثة . والله أعلم .

وحديث برقم 744 ( إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا دين الله دَخَلاً، وعباد الله خَوَلاً ، ومال الله دِوَلاً ) .

كما صحح حديث سفينة برقم 459 ، ولكنه جعله تحت عنوان : خلافة النبوة !

ومع كل هذه الأحاديث التي صححها ، قال مدافعاً عن الأمويين : فلا ينافي مجيء خلفاء آخرين من بعدهم لأنهم ليسوا خلفاء النبوة . فهؤلاء هم المعنيون في الحديث لاغيرهم ! كما هو واضح !! ويزيده وضوحاً قول شيخ الإسلام في رسالته المذكورة : ويجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء ، وإن كانوا ملوكاً ولم يكونوا خلفاء الأنبياء ... إلخ . انتهى .

فقد أفتى هذا الإمام الألباني تبعاً لإمامه ابن تيمية ، بأن الأئمة الإثني عشر المبشر بهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله ، القيمين على الأمة بتعيين رب العالمين هم .. معاوية ويزيد وبنو الحكم بن أبي العاص ، الذين صحت فيهم أحاديث ذمٍّ قاصعة !!

وهكذا يدفعه غلوه في بني أمية إلى أن يعطي الحجة على ربه سبحانه ، وعلى نبيه صلى الله عليه وآله !!

فماذا يقول إذا قال له مستشرق مثلاً : إنكم أيها المسلمين تقولون إن ربكم مزاجي ونبيكم مزاجي أيضاً ، لأنهما يلعنان أشخاصاً ويذمانهم ويتبرآن منهم ! ثم يتغير مزاجهما فيرضيان عنهم ، ويعلنان للمسلمين : إنا نبشركم بهم وبأولادهم ، إنهم صفوة البشر ، أئمة ، ربانيون ، معصومون ، قيمون على الأمة !!

وهل دخل المستشرقون الخبثاء، وهل دخل سلمان رشدي وأمثاله ، وطعنوا في الإسلام ، إلا من أبواب أحاديث التعصب لقريش العتاة على ربهم وبني أمية العتاة على نبيهم وآله ، وكعب الأحبار مزرق ثقافة اليهود للمسلمين ؟!

 

الثانية عشرة : نماذج من أحاديثنا في الأئمة الإثني عشر عليهم السلام

روى الصدوق في الخصال / 466 - 467 ، حديث ابن مسعود المتقدم بعدة أسانيد فيها مجالد بن سعيد ، وأسانيد أخرى ليس فيها مجالد ، قال :

حدثنا أبو علي أحمد بن الحسن القطان ، قال : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي الرجال البغدادي ، قال : حدثنا محمد بن عبدوس الحراني ، قال : حدثنا عبد الغفار بن الحكم ، قال : حدثنا منصور بن أبي الأسود ، عن مطرف ، عن الشعبي ، عن عمه قيس بن عبد ، قال : كنا جلوساً في حلقة فيها عبد الله بن مسعود فجاء أعرابي فقال : أيكم عبد الله بن مسعود ؟ فقال عبد الله: أنا عبد الله بن مسعود .

قال : هل حدثكم نبيكم صلى الله عليه وآله كم يكون بعده من الخلفاء ؟

قال : نعم ، اثنا عشر ، عدد نقباء بني إسرائيل .

حدثنا أبو القاسم عتاب بن محمد الوراميني الحافظ ، قال : حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد ، قال : حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن الفضل ، ومحمد بن عبيد الله بن سوار ، قالا : حدثنا عبد الغفار بن الحكم ، قال : حدثنا منصور بن أبي الأسود ، عن مطرف ، عن الشعبي .

قال : عتاب بن محمد : وحدثنا إسحاق بن محمد الأنماطي ، قال : حدثنا يوسف بن موسى ، قال : حدثنا جرير ، عن أشعث بن سوار عن الشعبي . قال عتاب بن محمد : وحدثنا الحسين بن محمد الحراني ، قال : حدثنا أيوب بن محمد الوزان قال : حدثنا سعيد بن مسلمة ، قال : حدثنا أشعث بن سوار، عن الشعبي ، كلهم قالوا عن عمه قيس بن عبد .

قال أبو القاسم عتاب : وهذا حديث مطرف قال : كنا جلوساً في المسجد، ومعنا عبد الله بن مسعود ، فجاء أعرابي فقال : فيكم عبد الله ؟

قال : نعم أنا عبد الله ، فما حاجتك ؟ قال : يا عبد الله أخبركم نبيكم صلى الله عليه وآله كم يكون فيكم من خليفة ؟

قال : لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد منذ قدمت العراق ، نعم ، اثنا عشر عدة نقباء بني إسرائيل .

قال : أبو عروبة في حديثه : نعم عدة نقباء بني إسرائيل . وقال جرير عن الأشعث بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله قال: الخلفاء بعدي اثنا عشر، كعدد نقباء بني إسرائيل . انتهى .

( ورواهما في : كمال الدين وتمام النعمة - 271 ، بنفس السند ) .

* * *

وأكبر عمل حديثي قام به قدماء علمائنا في هذا الموضوع ، بل هو أجلُّ ما وجدته في الموضوع من الأعمال العلمية المقارنة : هو ما صنفه المحدث الخبير علي بن محمد بن علي الخزاز القمي الرازي ، من علماء أوائل القرن الرابع وكتابه القيم ( كفاية الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر ) وقد ذكر منهجه في مقدمته فقال في ص 7 :

أما بعد : فإن الذي دعاني إلى جمع هذه الأخبار، عن الصحابة والعترة الأخيار، في النصوص على الأئمة الأبرار ، إني وجدت قوماً من ضعفاء الشيعة ومتوسطيهم في العلم ، متحيرين في ذلك ومتعجزين ، يشكون فرط اعتراض المشبهة عليهم ، وزمرات المعتزلة ، تلبيساً وتمويهاً عاضدتهم عليه ، حتى آل الأمر بهم إلى أن جحدوا أمر النصوص عليهم ، من جهة لايقطع بمثلها العذر ، حتى أفرط بعضهم وزعم أن ليس لها من الصحابة أثر .... فلما رأيت ذلك كذلك، ألزمت نفسي الإستقصاء في هذا الباب موضحاً ماعندي من البينات، ومبطلاً ما أورده المخالفون من الشبهات ، تحرياً لمرضاة الله ، وتقرباً إلى رسوله والأئمة من بعده .

وأبتديء بذكر الروايات في النصوص عليهم من جهة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله المعروفين مثل عبد الله بن العباس ، وعبد الله بن مسعود ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، وجابر بن سمرة، وجابر بن عبد الله ، وأنس بن مالك ، وأبي هريرة ، وعمر بن الخطاب ، وزيد بن ثابت ، وزيد بن أرقم ، وأبي أمامة ، وواثلة بن الأسقع ، وأبي أيوب الأنصاري ، وعمار بن ياسر ، وحذيفة بن أسيد ، وعمران بن الحصين ، وسعد بن مالك ، وحذيفة بن اليمان ، وأبي قتادة الأنصاري ، وعلي بن أبي طالب ، وابنيه الحسن والحسين عليهم السلام.

ومن النساء : أم سلمة ، وعائشة ، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله . ثم أعقبه بذكر الأخبار التي وردت عن الأئمة صلوات الله عليهم ، مما يوافق حديث الصحابة ، في النصوص على الأئمة ، ونص كل واحد منهم على الذي من بعده ، ليعلموا إن أنصفوا ويدينوا به ، ولا يكونوا كما قال الله سبحانه ( فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم ) إذ مثل هذه الأخبار تزيل الشك والريب ، ويقطع بها العذر ، وإن الأمر أوكد مما ذهبوا إليه . انتهى .

ثم عقد قدس الله نفسه باباً لما روي عن كل واحد من الصحابة الذين ذكرهم ، وأورد فيه حديثه أو أحاديثه ، بسند متصل منه إليه ، إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، فحفظ بذلك عدداً من النصوص التي ضاعت في مصادر إخواننا السنيين ، أو تشتتت في مصنفاتهم ، أو بقي منها أجزاء مجزأة ، وأحياناً بقي الحديث بكامله !

ونورد فيما يلي نماذج من كتاب كفاية الأثر : قال في ص 23 في باب ما جاء عن عبد الله بن مسعود :

أخبرنا أبو المفضل محمد بن عبد الله الشيباني رحمه الله ، قال : حدثنا أبو علي محمد بن زهير بن الفضل الأبلي ، قال : حدثنا أبو الحسين عمر بن الحسين بن علي بن رستم ، قال : حدثني إبراهيم بن يسار الرمادي قال : حدثني سفيان بن عتبة ، عن عطا بن السائب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : الأئمة بعدي اثنا عشر ، تسعة من صلب الحسين ، والتاسع مهديهم .

وقال في ص 73 في باب ما جاء عن أنس بن مالك :

حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عياش الجوهري ، قال : حدثنا محمد بن أحمد الصفواني ، قال : حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا عبد الله بن مسلمة ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله الحمصي ، قال : حدثنا بن حماد ، عن أنس بن مالك قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : معاشر أصحابي، من أحب أهل بيتي حشر معنا ، ومن استمسك بأوصيائي من بعدي فقد استمسك بالعروة الوثقى .

فقام إليه أبو ذر الغفاري فقال : يا رسول الله كم الأئمة بعدك ؟

قال : عدد نقباء بني إسرائيل .

فقال : كلهم من أهل بيتك ؟

قال : كلهم من أهل بيتي ، تسعة من صلب الحسين ، والمهدي منهم .

وقال في ص 113 في باب ما جاء عن أبي أيوب الأنصاري ، خالد بن زيد :

أخبرنا أبو المفضل الشيباني ، قال : حدثني حيدر بن محمد بن نعيم السمرقندي ، قال : حدثنا محمد بن مسعود ، عن يوسف بن السخت ، عن سفيان الثوري ، عن موسى بن عبيدة ، عن إياس بن مسلمة بن الأكوع ، عن أبي أيوب الأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : أنا سيد الأنبياء ، وعلي سيد الأوصياء ، وسبطاي خير الأسباط ومنا الأئمة المعصومون من صلب الحسين ، ومنا مهدي هذه الأمة .

فقام إليه أعرابي فقال : يا رسول الله كم الأئمة بعدك ؟

قال : عدد الأسباط ، وحواريي عيسى ، ونقباء بني إسرائيل .

وقال في ص 120 في باب ما جاء عن عمار بن ياسر :

أخبرنا محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني ، قال : حدثنا محمد بن الحسين بن حفص الخثعمي الكوفي قال : حدثنا عباد ابن يعقوب قال : حدثنا علي بن هاشم ، عن محمد بن عبد الله ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار ، عن أبيه ، عن جده عمار قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وآله في بعض غزواته ، وقتل علي عليه السلام أصحاب الألوية وفرق جمعهم ، وقتل عمرواً بن عبد الله الجمجمي، وقتل شيبة بن نافع ، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له : يا رسول الله صلى الله عليك إن عليا قد جاهد في الله حق جهاده . فقال : لأنه مني وأنا منه ، وهو وارث علمي وقاضي ديني ، ومنجز وعدي ، والخليفة بعدي ، ولولاه لم يعرف المؤمن المحض ، حربه حربي وحربي حرب الله ، وسلمه سلمي وسلمي سلم الله ، ألا إنه أبو سبطي ، والأئمة من صلبه ، يخرج الله تعالى منه الأئمة الراشدين، ومنهم مهدي هذه الأمة . فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، ما هذا المهدي ؟

قال : يا عمار إن الله تبارك وتعالى عهد إلي أنه يخرج من صلب الحسين تسعة، والتاسع من ولده يغيب عنهم ، وذلك قوله عز وجل : قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين ، يكون له غيبة طويلة يرجع عنها قوم ، ويثبت عليها آخرون ، فإذا كان في آخر الزمان يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً ، ويقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل ، وهو سميي ، وأشبه الناس بي .

يا عمار ستكون بعدي فتنة ، فإذا كان ذلك فاتبع علياً وحزبه ، فإنه مع الحق والحق معه .

يا عمار إنك ستقاتل بعدي مع علي صنفين : الناكثين والقاسطين ، ثم تقتلك الفئة الباغية .

قلت : يا رسول الله ، أليس ذلك على رضا الله ورضاك ؟

قال : نعم على رضا الله ورضاي ، ويكون آخر زادك من الدنيا شربة من لبن تشربه .

فلما كان يوم صفين خرج عمار بن ياسر إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: يا أخا رسول الله ، أتاذن لي في القتال ؟

قال : مهلاً رحمك الله ، فلما كان بعد ساعة أعاد عليه الكلام فأجابه بمثله فأعاد عليه ثالثاً ، فبكى أمير المؤمنين وقال : إنه اليوم الذي وصفه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم .

فنزل أمير المؤمنين عليه السلام عن بغلته وعانق عماراً وودعه ، ثم قال : يا أبا اليقظان جزاك الله عن نبيك خيراً ، فنعم الأخ كنت ، ونعم الصاحب كنت . ثم بكى عليه السلام وبكى عمار .

ثم قال : والله يا أمير المؤمنين ما تبعتك إلا ببصيرة ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول يوم خيبر : يا عمار ستكون بعدي فتنة ، فإذا كان ذاك فاتبع علياً وحزبه ، فإنه مع الحق والحق معه ، وستقاتل الناكثين والقاسطين ، فجزاك الله يا أمير المؤمنين عن الإسلام أفضل الجزاء ، فلقد أديت وأبلغت ونصحت .

ثم ركب وركب أمير المؤمنين عليه السلام ثم برز إلى القتال ، ثم دعا بشربة من ماء ، فقيل له : ما معنا ماء ، فقام إليه رجل من الأنصار فأسقاه شربة من لبن ، فشربه ثم قال : هكذا عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله أن يكون آخر زادي من الدنيا شربة من لبن . ثم حمل على القوم فقتل ثمانية عشر نفساً ، فخرج إليه رجلان من أهل الشام فطعناه وقتل رحمه الله . فلما كان في الليل طاف أمير المؤمنين عليه السلام في القتلى ، فوجد عماراً ملقى بين القتلى ، فجعل رأسه على فخذه ثم بكى عليه السلام وأنشأ يقول :

ألا أيها الموت الذي لست تاركي           أرحني فقـــد أفـــنيت كل خليـــــل

أراك بصيـــــراً بالذيـن أحبــــــهم           كأنك تمضي نحوهــــم بـــدليــــل

وقال في ص 180 في باب ما جاء عن أم سلمة :

حدثنا علي بن الحسن بن محمد بن مندة ، قال : حدثنا أبو الحسين زيد بن جعفر بن محمد بن الحسين الخزاز بالكوفة في سنة سبع وسبعين وثلثمائة ، قال حدثنا العباس بن العباس الجوهري ببغداد في دار عميرة ، قال : حدثني عفان بن مسلم قال : حدثني حماد بن سلمة ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن سداد بن أوس قال : لما كان يوم الجمل قلت : لاأكون مع علي ولا أكون عليه ، وتوقفت عن القتال إلى انتصاف النهار ، فلما كان قرب الليل ألقى الله في قلبي أن أقاتل مع علي، فقاتلت معه حتى كان من أمره ما كان ، ثم إني أتيت المدينة فدخلت على أم سلمة ، قالت : من أين أقبلت ؟ قلت : من البصرة . قالت : مع أي الفريقين كنت ؟ قلت : يا أم المؤمنين إني توقفت عن القتال إلى انتصاف النهار ، وألقى الله عز وجل في قلبي أن أقاتل مع علي .

قالت : نعم ما عملت ، لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : من حارب علياً فقد حاربني ، ومن حاربني فقد حارب الله .

قلت : فترين أن الحق مع علي ؟

قالت : إي والله ، علي مع الحق والحق معه ، والله ما أنصف أمة محمد نبيهم ، إذ قدموا من أخره الله عز وجل ورسوله ، وأخروا من قدمه الله تعالى ورسوله ! وأنهم صانوا حلائلهم في بيوتهم ، وأبرزوا حليلة رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الفناء ! والله سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول : لأمتي فرقة وجعلة ، فجامعوها إذا اجتمعت ، وإذا افترقت فكونوا من النمط الأوسط ، ثم ارقبوا أهل بيتي فإن حاربوا فحاربوا ، وإن سالموا فسالموا ، وإن زالوا فزالوا معهم ، فإن الحق معهم حيث كانوا .

قلت : فمن أهل بيته ؟

قالت : أهل بيته الذين أمرنا بالتمسك بهم .

قالت : هم الأئمة بعده كما قال : عدد نقباء بني إسرائيل : علي وسبطاه ، وتسعة من صلب الحسين هم أهل بيته ، هم المطهرون ، والأئمة المعصومون .

قلت : إنا لله ! هلك الناس إذاً ؟!

قالت : كل حزب بما لديهم فرحون . انتهى .