فهرس الكتاب

مكتبة الإمام أميرالمؤمنين

 

الفصل الثالث

لماذا زعمت قريش أن النبي معصوم من القتل ؟!

 

حاجة الأنبياء (ع) في تبليغ رسالاتهم إلى حماية الناس

ارتكب المنظرون للخلافة القرشية من محدثين ومفسرين ، تحريفاً في تفسير آية التبليغ ، فجعلوا معنى ( والله يعصمك من الناس ) أن الله عصم نبيه صلى الله عليه وآله من القتل !

وهدفهم من ذلك أن ينكروا دور أبي طالب وبني هاشم في حماية النبي من مؤامرات قريش ، لأن النبي معصوم من القتل ، فلايحتاج الى حماية !

وهدفهم من جهه أخرى أن يبعدوا معنى العصمة في الآية عن عصمة الله لنبيه من ارتداد قريش وطعنها بنبوته إن هو بلغ ولاية أهل بيته من بعده !

فالغرض الثابت عند حكام قريش وعلماء البلاط القرشي ، أن يزوروا التاريخ ، ويكتبوه معكوساً .. ويقنعوك به !

يريدونك أن تخفي معهم واقع قريش التآمري بعد فتح مكة فلا تتحدث عنه بحرف .. ! وأن تردد معهم أن هذه القبائل المشركة ، جنود أئمة الشرك ، ومنجم الفراعنة ، بنص القرآن .. بعد أن أسلمت تحت السيف ، صارت ملائكة ، وتحولت بين عشية وضحاها ، إلى قبائل مسلمة مؤمنة تقية ، تقود الناس بالإسلام والهدى !

فهي أحق بالخلافة من عترة النبي صلى الله عليه وآله !

 

معنى التبليغ في القرآن

مفهوم التبليغ في القرآن مفهوم بسيط واضح ، فهو يعني بيان الأنبياء الرسالة الإلهية للناس.. والناس بعد ذلك مختارون في أن يقبلوا أو يتولوا ، وحسابهم على الله تعالى ، وليس على أنبيائه !

وتتفرع من هذا الأساس العميق عدة مبادئ :

أولاً : أن النبي يحتاج إلى ضمان حرية التعبير عن رسالة ربه ، ليتمكن من إيصالها الى العباد وإبلاغهم إياها . وقد كان هذا هو المطلب الأول للأنبياء عليهم السلام من أممهم .

ثانياً : مهمة الأنبياء عليهم السلام هي التبليغ فقط أي مجرد ( الإبلاغ ) حتى أن الجهاد لم يفرض على أحد من الأنبياء قبل إبراهيم عليهم السلام ، فهو أول من فرض الله عليه الجهاد الدفاعي فقط ! ففي دعائم الاسلام للقاضي النعمان المغربي : 1 / 344 : ( عن علي صلوات الله عليه أنه قال : أول من جاهد في سبيل الله إبراهيم عليه السلام ، أغارت الروم على ناحية فيها لوط ، فأسروه ، فبلغ إبراهيم الخبر فنفر فاستنقذه من أيديهم . وهو أول من عمل الرايات صلى الله عليه ) . انتهى .

ثم فرض الجهاد على الأنبياء من ذرية ابراهيم ، وكل الأنبياء بعده من ذريته، من أجل إزاحة العقبات المانعة من التبليغ ، أو رد اعتداءات الكفار عن المؤمنين الذين اختاروا الدين الإلهي وإقامة حياتهم على أساسه .

ثالثاًً : لاإكراه في الدين ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. فينبغي أن يبقى قانون الهداية والإضلال فعالاً ، والقدرة على عمل الخير والشر متوفرة .

رابعاً : الهدف من الإبلاغ هو إقامة الحجة لله على عباده ، واضحة كاملة، حتى لايقولوا يوم القيامةلم يبلغنا ذلك نبي ولم نعرف ذلك وكنا عنه غافلين.. فإقامة الحجة في الدين الإلهي محورٌ أصلي ثابتٌ في عمل الأنبياء عليهم السلام سواء على مستوى الكافرين ، أو على مستوى أممهم المؤمنين بهم .

ومعنى أن مهمة النبي عليه السلام إنما هي البلاغ.. أن واجبه أن يوصل العقيدة والأحكام إلى الناس ، ويبين لهم ويفهمهم .. وبذلك يقيم الحجة لربه عز وجل ، ويؤدي ما عليه .. ويسقط المسؤولية عن عاتقه .

أما استجابة الناس أو تكذيبهم .. وأما عملهم وسلوكهم ، فهو شأنهم وليس النبي مسؤولاً عنه ، بل المحاسبة عليه من اختصاص الله تعالى . قال الله تعالى : ( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) . سورة الأنعام - 149

* * *

وأدلة هذه المبادئ من القرآن والسنة كثيرة ، نذكر منها الى ما ذكره الله تعالى من قول نوح عليه السلام : ( أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم ، وأعلم من الله ما لاتعلمون ) . سورة الأعراف - 62

وقول تعالى عن شعيب : ( فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ). سورة الأعراف - 93

وعن هود : ( فإن تولوا فقد أبلغتكم ماأرسلت به إليكم ويستخلف ربي غيركم ولا تضرونه شيئاً إن ربي على كل شيء حفيظ ) . سورة هود - 57

وقوله تعالى عن مهمة جميع الرسل الذين بعثهم عليهم السلام : (فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ). سورة النحل - 35 . ( قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين ). سورة يس - 16، 17 . . .

ولا يتسع المجال لاستعراض مفاهيم التبليغ وأحكامه في القرآن والحديث ، فهي أجزاء مشرقة من نظرية متكاملة في مهمة الأنبياء عليهم السلام ، حتى أنه تعالى وصف دينه وقرآنه بأنه بلاغ فقال : ( هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب ) . سورة إبراهيم - 52

وقال إنه بلاغ يشمل الأجيال الآتية التي يبلغها الإسلام : ( قل أي شيء
أكبر شهادة ؟ قل الله شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ..) . سورة الأنعام - 19

وأثنى تعالى على أمانة أنبيائه وشجاعتهم في تبليغ رسالاته ، رغم مقاومة الناس واستهزائهم ، فقال عز وجل : ( الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً ) . سورة الأحزاب - 39

كما تحدث سبحانه عما لاقاه الأنبياء من تكذيب ، وأذىً ، واضطهاد ، وتشريد ، وتقتيل .. رغم أن مهمتهم كانت مجرد التبليغ عن الله تعالى !

 

مهمة نبينا صلى الله عليه وآله في التبليغ

والذي يتصل بموضوعنا مباشرة هو تبليغ نبينا محمد صلى الله عليه وآله فقد قال تعالى عن مهمته ومسؤوليته : ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا ، فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ) . سورة المائدة - 92 .

( قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم
ما حملتم ، وإن تطيعوه تهتدوا ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ) . النور - 54 . ( فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ، والله بصير بالعباد ) . سورة آل عمران - 20 . فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً ، إن عليك إلا البلاغ. الشورى - 48 .

وقد أرسل الله نبينا محمداً صلى الله عليه وآله بنفس نظام الرسالة والتبليغ ، الذي أرسل به جميع الأنبياء عليهم السلام وهو قاعدة : إقامة الحجة وإتمامها على الناس ، وعدم إجبارهم على العمل .

وهذا هو معنى ( فإنما عليك البلاغ ) فقط ، وفقط !

وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وآله : ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لاإله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ) .

فالإجبار الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله هو إجبار أهل الكتاب على التعايش مع المسلمين ، وليس على الدخول في الإسلام ، وإجبار المشركين الوثنيين على الدخول في الإطار العام للإسلام .. وما عداه متروكٌ للأمة، داخل هذا الإطار، يطيع منها من يطيع ، ويعصي من يعصي ، ويهتدي منها من يهتدي ، ويضل من يضل .. والمحاسب هو الله تعالى .

ومن الطبيعي إذن ، أن تحتاج مهمة التبليغ إلى حماية للنبي صلى الله عليه وآله حتى يؤديها ، وإلا فإن قبائل قريش الذين يدركون خطر دعوته على نفوذهم وآلهتهم ، سرعان ما يدبرون قتله ، أو تشويه سمعته وعزله ، وحجب الناس عن سماع صوته .

ورغم أن الألطاف الإلهية على أنبيائه عليهم السلام كثيرة ومتنوعة ، وما خفي عنا منها أعظم وأكثر مما عرفناه ، بل مما يمكن أن يبلغه فهمنا ..

لكن سنته سبحانه في الرسل أن يترك أكثر حمايتهم للأسباب ( الطبيعية ) مضافاً إلى تلك الألطاف . ولا يوجد دليلٌ واحدٌ على ما ذكروه من ضمان الله تعالى عصمة نبيه صلى الله عليه وآله من الجرح والقتل ، وأنواع الأذى التي قد يتعرض لها .. وستأتي النصوص على استمرار حراسته صلى الله عليه وآله إلى آخر حياته ، ونذكر هنا ما رواه الجميع من أنه صلى الله عليه وآله كان يطلب من قبائل العرب تأمين هذه الحماية حتى يبلغ رسالة ربه .

ففي سيرة ابن هشام : 2/23 عن ربيعة بن عباد ، قال :

( إني لغلامٌ شاب مع أبي بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب فيقول : يا بني فلان إني رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وأن تؤمنوا بي وتصدقوا بي وتمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به ) . انتهى . ورواه الطبري في تاريخه : 2/83 ، وابن كثير في سيرته : 2/155 .

وقال اليعقوبي في تاريخه : 2/36 :

( وكان رسول الله يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم ، ويكلم شريف كل قوم ، لايسألهم إلا أن يؤووه ويمنعوه ، ويقول : لاأكره أحداً منكم ، إنما أريد أن تمنعوني مما يراد بي من القتل ، حتى أبلغ رسالات ربي ، فلم يقبله أحد ، وكانوا يقولون : قوم الرجل أعلم به ) !. انتهى .

كذلك نصت مصادر السيرة على أنه صلى الله عليه وآله طلب البيعة من الأنصار ، على حمايته وحماية أهل بيته مما يحمون أنفسهم وأهليهم ..

ففي سيرة ابن هشام : 2/38 :

( فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ، ودعا إلى الله ، ورغب في الإسلام ثم قال : أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم . قال فأخذ البراء بن معرور بيده ، ثم قال : نعم والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أبناء الحروب، وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر ) . ورواه الطبري في تاريخه : 2/92 ، وأسد الغابة: 1/174 ، وعيون الأثر : 1/217 ، وسيرة ابن كثير : 2/198 ، ورواه أحمد : 3/461 ، وقال عنه في مجمع الزوائد : 6/44 : رواه أحمد والطبراني بنحوه ، ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحق وقد صرح بالسماع . ورواه في كنز العمال : 1/328 ، و8/29 .

* * *

إلى هنا يتسق الموضوع .. فقد طلب النبي صلى الله عليه وآله الحماية لتبليغ رسالة ربه ، على سنة الله تعالى في من مضى من الأنبياء عليهم السلام ، وقد حصل عليها من الأنصار .

وقد نصره الله تعالى وهزم أعداءه من المشركين واليهود ، وشملت دولته شبه الجزيرة العربية واليمن والبحرين وساحل الخليج ، وامتدت إلى أطراف الشام ، وصار جيش الإسلام يهدد الروم في الشام وفلسطين . .

وها هو صلى الله عليه وآله في السنة العاشرة يودع المسلمين في حجة الوداع ، ويتلقى سورة المائدة ويتلقى فيها آية تأمره بالتبليغ وتطمئنه بالعصمة من الناس !!

فما عدا مما بدا ، حتى نزل الأمر بالتبليغ في آخر التبليغ ، وصار النبي الآن وهو قائد الدولة القوية ، بحاجة إلى حماية وعصمة من الناس !

إن الباحث ملزمٌ هنا أن يستبعد حاجة النبي صلى الله عليه وآله إلى الحماية المادية ، لأن الله تعالى أراد لها أن تتم بالأسباب الطبيعية ، وقد وفرها على أحسن وجه، فلا بد أن تكون العصمة هنا من نوع الحماية المعنوية لاالمادية .

والباحث ملزمٌ ثانياً ، أن يفسر الأمر بالتبليغ في الآية بأنه تبليغ موضوعٍ ثقيلٍ على الناس.. وأن الذين يثقل عليهم هم المنافقون من المسلمين ، لأنه لم يبق أمرٌ ثقيلٌ على الكفار إلا وبلغه لهم ، كما أنه لم يبلغهم أمراً بارزاً بعد نزول الآية يصح تفسيرها به .

وبهذا لايبقى معنى للعصمة النازلة من عند الله تعالى إلا العصمة من الطعن في نبوته إذا هو بلَّغهم أن الحكم من بعده في أهل بيته صلى الله عليه وآله .

فبذلك فقط يتسق معنى الآية ويكون معناها :

يا أيها الرسول : إنما أنت رسول مبلغ ، ولست مسؤولاً عما يحدث ، ولا عن النتيجة ، بل هو من اختصاص ربك تعالى ..

بلغ ما أنزل إليك من ربك : وأمرك به جبرئيل في علي ، وحاولت تبليغه مرات في حجة الوداع ، فشوش المنافقون عليك .

وإن لم تفعل فما بلغت رسالته : ولم تكمل إقامة الحجة لربك ، لأن ولاية عترتك ليست أمراً شخصياً يخصك وإن ظنه المنافقون كذلك ، بل هي جزءٌ لايتجزأ من هذه الرسالة الخاتمة الموحدة ، وإذا انتفى الجزء من الرسالة .. انتفى الكل ، وإذا انتفى الجزء من الحجة .. انتفى الكل .

والله يعصمك من الناس : من طعن قريش بنبوتك بسبب هذا التبليغ مع أنه ثقيلٌ عليها .. فسوف يمنعها الله أن ترفض نبوتك بسببه ، وسوف تمر المسألة بسلام , ولا يكون عليك تشويش في التبليغ كما حدث في عرفات ومنى ، ولا ردة عن الإسلام.. وتكون أتمت الحجة لربك على أمتك ، ولكن علياً سوف يحتاج إلى قتالها على تأويل القرآن كما قاتلتها أنت على تنزيله !

إن الله لايهدي القوم الكافرين : الذين يظلمون عترتك من بعدك ، ويبدلون نعمة الله كفراً ، ويظلمون بذلك الأمة ، ويقودونها الى الصراعات على الحكم ، ويسببون انهيارها .. الى أن يبعث الله المهدي من ولدك !

* * *

 

يهودية قريش .. أوجبت عصمة إضافية لنبينا صلى الله عليه وآله

تدل الآية الكريمة والنصوص العديدة على أن تبليغ النبي صلى الله عليه وآله لرسالة ربه في عترته عليهم السلام ، كان من شأنه أن يزلزل الأمة الجديدة العهد بالاسلام ، ويهدد أصل نبوته صلى الله عليه وآله ! فما هو السبب ، والظروف التي كانت قائمة ؟!

إن مصدر الخطر على ترتيب النبي صلى الله عليه وآله لأمر الخلافة من بعده كان محصوراً في قريش وحدها.. وحدها .. فلا قبائل العرب غير قريش ، ولا اليهود ، ولا النصارى .. يستطيعون التدخل في هذا الموضوع الداخلي وإعطاء الرأي فيه ، فضلاً عن عرقلة تبليغه أو تنفيذه !

والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله كان شبه آيس من إمكانية تنفيذ هذا الموضوع ، وأنه كان يخشى ظهور الردة من مجرد تبليغه بشكل صريح ورسمي! والسبب في ذلك طبيعة قريش ، وتعقيدها النفسي ، وتركيبتها الذهنية المراوغة كقبائل اليهود الذين عانى منهم موسى والأنبياء عليهم السلام !

 

قريش منجم الفراعنة

إذا تغاضينا عن أحاديث طعن النبي صلى الله عليه وآله في أنساب زعماء قريش الذين واجهوا آيات ربهم .. وطعن عمه أبي طالب نسابة قريش رضي الله عنه في أنسابهم .. وطعن علي عليه السلام في أنسابهم .. وقلنا بصحة أنسابهم إلى إسماعيل عليه السلام .. فإنهم يكونون ذرية إسماعيل الفاسدة ، لأنهم جمعوا بين صفات اليهود المعقدة من بني عمهم إسحاق ، وبين غطرسة رؤساء القبائل الصحراوية الخشنة !

وقريش .. باستثناء بني هاشم والقليل القليل من غيرهم ، منجم للتكبر والشيطنة ! فقد حكم الله سبحانه على زعمائها بأنهم فراعنة تماماً ، بالجمع لابالمفرد ، فقال تعالى: (إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً. فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلاً ) . المزمل 15- 16.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله عن عدد منهم لما وقف على قتلى بدر:

( جزاكم الله من عصابة شراً ! لقد كذبتموني صادقاً وخونتموني أميناً . ثم التفت إلى أبي جهل بن هشام فقال : إن هذا أعتى على الله من فرعون ! إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحد الله ، وهذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزى)! ( حلية الأبرار : 1/127 ، أمالي الطوسي : 1/316 ، وعنه البحار : 19/272 ، ورواه في مجمع الزوائد : 6/91 ) .

وروى ابن هشام في : 1/ 207 قول أبي جهل :

( تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تحاذينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك مثل هذه ! والله لانؤمن به أبداً، ولا نصدقه ! ). انتهى . ورواه في عيون الأثر : 1/146 ، وابن كثير في سيرته : 1/506 .

وفي تفسير القمي : 1/276 :

( قال رسول الله صلى الله عليه وآله لقريش : إن الله بعثني أن أقتل جميع ملوك الدنيا وأجرَّ الملك إليكم ، فأجيبوني إلى ما أدعوكم إليه تملكوا بها العرب، وتدين لكم بها العجم ، وتكونوا ملوكاً في الجنة . فقال أبو جهل : اللهم إن كان هذا الذي يقوله محمد هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، حسداً لرسول الله صلى الله عليه وآله ، ثم قال : كنا وبنو هاشم كفرسي رهان ، نحمل إذا حملوا ، ونطعن إذا طعنوا ، ونوقد إذا أوقدوا ، فلما استوى بنا وبهم الركب ، قال قائل منهم : منا نبي ! لانرضى بذلك أن يكون في بني هاشم ، ولا يكون في بني مخزوم !! ) .

وقال الأبشيهي في المستطرف : 1/58 :

( قال معاوية لرجل من اليمن : ما كان أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة ! فقال : أجهل من قومي قومك الذين قالوا حين دعاهم رسول الله صلى الله عليه وآله : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم ، ولم يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ، فاهدنا إليه ) .

وقال البياضي في الصراط المستقيم : 3/49 :

( قال معاوية : فضل الله قريشاً بثلاث : وأنذر عشيرتك الأقربين ، ونحن الأقربون . وإنه لذكر لك ولقومك ، ونحن قومه . لإيلاف قريش ، ونحن قريش . فقال رجل أنصاري: على رسلك يا معاوية ، قال الله : وكذب به قومك، وأنت من قومه . إذا قومك عنه يصدون ، وأنت من قومه . إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً ، وأنت من قومه !! فهذه ثلاث بثلاث ، ولو زدتنا لزدناك !! فأفحمه ) . انتهى .

* * *

وفرعون وقومه.. عندما أخذهم الله بالسنين ، طلبوا من موسى عليه السلام أن يدعو لهم ربه .. بينما رسول الله صلى الله عليه وآله دعا ربه على قريش الظالمة العاتية ، فأخذهم الله بالسنين ، وأصيبوا بالفقر والقحط ، حتى أكلوا العلهز .. وما استكانوا لربهم وما يتضرعون !!

قال الحاكم في المستدرك : 2/394 :

( عن ابن عباس قال : جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : يا محمد أنشدك الله والرحم ، قد أكلنا العلهز ! يعني الوبر والدم ، فأنزل الله عز وجل : ( ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون . هذا حديث صحيح الأسناد ، ولم يخرجاه ) . انتهى .

وقال في معجم البلدان : 3/458 :

( والعلهز : دم القراد والوبر ، يلبك ويشوى ويؤكل في الجدب ! وقال آخرون : العلهز دم يابس يدق مع أوبار الأبل في المجاعات . وأنشد بعضهم :

وإن قرى قحطان قرفٌ وعلهزٌ              فأقبح بهذا ويح نفسك من فعلِ‍

ولكن أتباع الخلافة القرشية لايعجبهم هذا الحديث ، ولا يفسرون به الآية! بل يزعمون أن القرشيين خضعوا لربهم وتضرعوا ، ودعا لهم الرسول صلى الله عليه وآله !! فانظر إلى ما قاله عباد قريش مثل ابن كثير في البداية والنهاية : 6/101 ، قال : ( لما دعا على قريش حين استعصت أن يسلط الله عليها سبعاً كسبع يوسف ، فأصابتهم سنة حصدت كل شيء ، حتى أكلوا العظام والكلاب والعلهز . ثم أتى أبو سفيان يشفع عنده في أن يدعو الله لهم ، فدعا لهم فرفع ذلك عنهم !! ) . انتهى .

ومشكلة ابن كثير أنه يحب رائحة آل أبي سفيان ، وإلا فهو مؤلفٌ في السيرة والتاريخ ، يعرف أن مجيء أبي سفيان كان بعد أن أشفق النبي صلى الله عليه وآله على حالة قريش ، وأرسل إليهم بأحمال من المواد الغذائية وبعض الأموال لعلهم يستكينوا لله تعالى ويؤمنوا به وبرسوله !! وبعد أن اعتدى بنو بكر حلفاء قريش على خزاعة حلفاء النبي وجده عبد المطلب .. وقتلوا منهم ، واعانتهم قريش على الخزاعيين ، رغم الهدنة الموقعة بينهم وبين النبي !

فاغتنمت قريش لفتة القلب النبوي الرحيم ، وأنكرت تحريض بني بكر ومساعدتهم ، وبعثت أبا سفيان الى النبي صلى الله عليه وآله تتبرأ له من نقضها للهدنة ، وحملته مشروع تمديد للصلح ، من نوع مشاريع السلام الإسرائيلية في عصرنا ، فرفضه النبي صلى الله عليه وآله ، فذهب أبو سفيان إلى علي وفاطمة عليهما السلام يرجوهما التوسط إلى النبي صلى الله عليه وآله فلم يقبلا وعرض عليهم أن يكون هذا ( الصلح ) باسم الحسن والحسين عليهما السلام ليكون فخراً لهما في العرب ، فقالا : إنا لانجير أحداً على رسول الله صلى الله عليه وآله !!

قال المفيد في الارشاد : 1/ 132:

( فصل : ولما دخل أبو سفيان المدينة لتجديد العهد بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين قريش ، عندما كان من بني بكر في خزاعة وقتلهم من قتلوا منها ، فقصد أبو سفيان ليتلافى الفارط من القوم ، وقد خاف من نصرة رسول الله صلى الله عليه واله لهم ، وأشفق مما حل بهم يوم الفتح . فأتى النبي صلى الله عليه واله وكتمه في ذلك ، فلم يردد عليه جوابا . فقام من عنده ، فلقيه أبو بكر فتشبث به وظن أنه يوصله إلى بغيته من النبي صلى الله عليه وآله فسأله كلامه له ، فقال : ما أنا بفاعل لعلم أبي بكر بأن سؤاله في ذلك لايغني شيئاً . فظن أبو سفيان بعمر بن الخطاب ما ظنه بأبي بكر فكتمه في ذلك ، فدفعه بغلظة وفضاضة كادت أن تفسد الرأي على النبي صلى الله عليه وآله . فعدل إلى بيت أمير المؤمنين عليه السلام فاستأذن عليه ، فأذن له وعنده فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فقال له : يا علي ، إنك أمس القوم بي رحماً ، وأقربهم مني قرابةً ، وقد جئتك فلا أرجعن كما جئت خائباً ، إشفع لي الى رسول الله فيما قصدته . فقال له : ويحك يا با سفيان ، لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وآله على أمر ما نستطيع أن نكمله فيه .

فالتفت أبو سفيان إلى فاطمة عليها السلام ، فقال لها : يا بنت محمد هل لك أن تأمري ابنيك أن يجيرا بين الناس فيكونا سيدي العرب إلى آخر الدهر . فقالت : ما بلغ بنياي أن يجيرا بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وآله . فتحير أبو سفيان وسقط في يده ، ثم أقبل على أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا با الحسن ، أرى الأمور قد التبست علي فانصح لي . فقال له أمير المؤمنين: ما أرى شيئاً يغني عنك ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ، ثم الحق بأرضك . قال : فترى ذلك مغنياً عني شيئاً ؟

قال : لاوالله لاأظن ولكني لاأجد لك غير ذلك .

فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيها الناس ، إني قد أجرت بين الناس . ثم ركب بعيره فانطلق !

فلما قدم على قريش قالوا : ما ورائك ؟ قال : جئث محمداً فكلمته ، فوالله ما رد علي شيئاً ، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيراً ، ثم لقيت ابن الخطاب فوجدته فظاً غليظاً لاخير فيه ، ثم أتيت علياً فوجدته ألين القوم لي ، وقد أشار في شئ فصنعته ، والله ما أدري يغني عني شيئاً أم لا، فقالوا : بم أمرك ؟ قال : أمرني ان أجير بين الناس ففعلت . فقالوا له : فهل أجار ذلك محمد ؟ قال : لا. قالوا : ويلك والله ما زاد الرجل على أن لعب بك ، فما يغني عنك ؟ قال أبو سفيان : لاوالله ما وجدت غير ذلك !) . انتهى .

وروى نحوه ابن كثير في البداية والنهاية : 4 / 319

 

قبائل قريش

كانت قريش أكثر من عشرين قبيلة منها :

بنو هاشم بن عبد مناف

بنو أمية بن عبد شمس

بنو عبد الدار بن قصي

بنو مخزوم بن يقظة بن مرة

بنو زهرة بن كلاب

بنو أسد بن عبد العزى

بنو الحارث بن فهر بن مالك

بنو عامر بن لؤي

بنو سهم بن عمرو

بنو جمح بن عمرو

بنو أنمار بن بغيض

بنو تيم بن مرة بن كعب

بنو عدي بن كعب . . . إلخ .

ولكن الفعل والتأثير كان محصوراً بالقبائل المهمة ، والزعماء المهمين ، وهم بضع قبائل ، وبضعة عشر زعيماً ، والباقون تبعٌ لهم إلى حد كبير .. فقد وصف ابن هشام اجتماع دار الندوة الذي بحث فيه قادة القبائل ( مشكلة نبوة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم ) . فقال في : ج 2/331 :

( وقد اجتمع فيها أشراف قريش : من بني عبد شمس : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب .

ومن بني نوفل بن عبد مناف : طعيمة بن عدي ، وجبير بن مطعم ، والحارث بن عامر بن نوفل .

ومن بني عبد الدار بن قصي : النضر بن الحارث بن كلدة .

ومن بني أسد بن عبد العزى : أبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود بن المطلب ، وحكيم بن حزام .

ومن بني مخزوم : أبو جهل ابن هشام .

ومن بني سهم : نبيه ومنبه ابنا الحجاج .

ومن بني جمح : أمية بن خلف .

ومن كان معهم غيرهم ممن لايعد من قريش ، فقال بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم ، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا ، فأجمعوا فيه رأياً . قال : فتشاوروا ثم قال قائل منهم : إحبسوه في الحديد ، وأغلقوا عليه باباً ، ثم تربصوا به ... إلخ ) . وذكر في ج 2/488 : أسماء الذين أنفقوا على جيش المشركين في بدر فقال : ( وكان المطعمون من قريش ثم من بني هاشم بن عبد مناف : العباس بن عبد المطلب بن هاشم . ومن بني عبد شمس بن عبد مناف : عتبة بن ربيعة بن عبد شمس . ومن بني نوفل بن عبد مناف : الحارث بن عامر بن نوفل ، وطعيمة بن عدي بن نوفل ، يعتقبان ذلك . ومن بني أسد بن عبد العزى : أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد ، وحكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، يعتقبان ذلك . ومن بني عبد الدار بن قصي : النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار . ) . انتهى .

وإليك هذا الترتيب الذي رتبه الخليفة عمر لقبائل قريش ، في سجل الدولة لتوزيع العطاءات ، فإنه يدل على تركيبة قبائلها ، وتميز بني هاشم عليهم : قال البيهقي في سننه : 6/ 364 :

( عن الشافعي وغيره ، أن عمر رضي الله عنه لما دون الدواوين قال : إبدأ ببني هاشم ، ثم قال : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم وبني المطلب ... فوضع الديوان على ذلك ، وأعطاهم عطاء القبيلة الواحدة . ثم استوت له عبد شمس ونوفل في جذم النسب ، فقال : عبد شمس إخوة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه وأمه دون نوفل ، فقدمهم ، ثم دعا بني نوفل يتلونهم. ثم استوت له عبد العزى وعبد الدار ، فقال في بني أسد بن عبد العزى أصهار النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيهم أنهم من المطيبين ... فقدمهم على بني عبد الدار ، ثم دعا بني عبد الدار يتلونهم . ثم انفردت له زهرة فدعاها تلو عبد الدار . ثم استوت له تيمٌ ومخزوم ، فقال في بني تيم إنهم من حلف الفضول والمطيبين وفيهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل ذكر سابقةً ، وقيل ذكر صهراً فقدمهم على مخزوم ، ثم دعا مخزوم يتلونهم . ثم استوت له سهمٌ وجمحٌ وعديُّ بن كعب ، فقيل له : إبدأ بعدي.
( قبيلة عمر ) ، فقال : بل أقر نفسي حيث كنت ، فإن الإسلام دخل وأمرنا وأمر بني سهم واحد ، ولكن انظروا بني جمح وسهم ، فقيل قدم بني جمح . ثم دعا بني سهم ، وكان ديوان عدي وسهم مختلطاً كالدعوة الواحدة ، فلما خلصت إليه دعوته كبر تكبيرة عالية ، ثم قال : الحمد لله الذي أوصل إلي حظي من رسوله. ثم دعا بني عامر بن لؤي ، قال الشافعي : فقال بعضهم إن أبا عبيدة بن عبد الله بن الجراح الفهري لما رأى من تقدم عليه قال : أكل هؤلاء تدعو أمامي ؟! فقال : يا أبا عبيدة ، إصبر كما صبرتُ ، أو كلم قومك فمن قدمك منهم على نفسه لم أمنعه ، فأما أنا وبنو عدي فنقدمك إن أحببت على أنفسنا . قال فقدم معاوية بعد بني الحارث بن فهر ، فَصَلَ بهم بين بني عبد مناف وأسد بن عبد العزى .وشجر بين بني سهم وعدي شيء في زمان المهدي فافترقوا ، فأمر المهدي ببني عدي فقدموا على سهم وجمح ، للسابقة فيهم ) . انتهى .

* * *

وقد اعترف الجميع بأن فرع هاشم كانوا مميزين على بقية الفروع في فكرهم وسلوكهم ، متفوقين في فعاليتهم وقيمهم.. وأن جماهير القبائل والملوك كانوا يحترمونهم احتراماًً خاصاًً .. حتى حسدهم زعماء قريش ، وتحالفوا ضدهم من أيام هاشم وعبد المطلب .

فقد رتب هاشم ( رحلة الصيف ) إلى الشام وفلسطين ومصر لقبائل قريش كلها ، فسافر في الصحاري والدول ، وفاوض رؤساء القبائل ، والملوك ، الذين تمر قوافل قريش التجارية في مناطقهم ، وعقد معهم جميعاً معاهداتٍ بعدم الغارة عليها وضمان سلامتها .

وقد فرحت قبائل قريش بهذا الإنجاز ، وبادرت إلى الاستفادة منه ، ولكنها حسدت هاشماً ، وتمنى زعماؤها لو أن ذلك تم على يدهم ، وكان فخره لهم .

وقد توفي هاشم مبكراً في إحدى سفراته في أرض غزة ، في ظروف يحق للباحث أن يشك فيها ! ولكن بيت هاشم لم ينطفئ بعده ، فسرعان ما ظهر ولده عبد المطلب ، وساد في قومه ، وواصل مآثر أبيه ، فرتب لقريش رحلة الشتاء إلى اليمن ، وعقد معاهدات لحماية قوافلها مع القبائل التي تمر عليها ، ومع ملك اليمن ، وفاز بفخرها كما فاز أبوه بفخر رحلة الصيف .

وعلى الصعيد المعنوي .. كانت قبائل قريش ترى أن بني هاشم وعبد المطلب يباهون دائماً بانتمائهم إلى إسماعيل واتباعهم لملة إبراهيم ، كأنهم وحدهم أبناء إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام ، بل كان بنو هاشم يطعنون في نسب غيرهم ! كما فعل أبو طالب وبعده النبي صلى الله عليه وآله !

وتفاقم الأمر على قريش .. عندما أخذ عبد المطلب يدعي الإلهام عن طريق الرؤيا الصادقة ، فأخبرهم بأن الله تعالى أمره بحفر زمزم التي جفت وانقرضت من قديم ، فحفرها ونبع ماؤها بإذن الله تعالى ، ووجد فيها غزالين من ذهب فزين بذهبهما باب الكعبة .. وبذلك فاز بمأثرةٍ جديدة فقد كان مطعم الحجيج ، وصار بسبب شحة الماء في مكة ساقي الحرم والحجيج !

ثم طمأن الناس عند غزو الحبشة للكعبة ، بأن الجيش لن يصل إليها ، وأن الله تعالى سيتولى دفعهم .. فصدقت نبوءته ، وأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل ، فجعلهم كعصف مأكول .

ثم وضع عبد المطلب للناس مراسم وسنناً ، كأنه نبي أو ممهد لنبي ، فجعل الطواف سبعاً ! وكان بعض العرب يطوفون بالبيت عريانين لأن ثيابهم ليست حلالاً ، فحرم عبد المطلب ذلك !

ونهى عن قتل الموؤودة . وأوجب الوفاء بالنذر ، وتعظيم الأشهر الحرم . وحرم الخمر . وحرم الزنا ووضع الحد عليه ، ونفى البغايا ذوات الرايات إلى خارج مكة. وحرم نكاح المحارم . وأوجب قطع يد السارق . وشدد على القتل ، وجعل ديته مئة من الإبل .. والملاحظ أن كل ذلك قد أقره الإسلام !

كانت مكانة عبد المطلب تتعاظم في قريش وفي قبائل العرب ، وزعماء قريش يأكلهم الحسد منه ! حتى جرُّوه مرتين إلى المنافرة والاحتكام الى الكهان ، فنصره الله عليهم بكرامة جديدة ، وتعاظمت مكانته أكثر !

ولعل أكثر ما أثار زعماء قريش في آخر أيام عبد المطلب ، أنه ادعى أنه مثل جده إبراهيم عليه السلام ، ونذر أن يذبح أحد أولاده قرباناً لرب الكعبة . . . إلى آخر قصة نذر عبدالله والد النبي وفدائه !

* * *

وما أن استراح زعماء قريش من عبد المطلب ، حتى ظهر ولده أبو طالب وساد في قومه وفي قريش والعرب رغم قلة ماله ، وأخذ مكانة أبيه وجده ، وواصل سيرة أبيه عبد المطلب ومقولاته .

وفي أيام أبي طالب وقعت المصيبة على زعماء قريش عندما ادعى ابن أخيه محمد صلى الله عليه وآله النبوة ، وطلب منهم الإيمان به وإطاعته !

وزاد من خوفهم أن عدداً من بني هاشم وبني المطلب آمنوا بنبوته ، وأعلن عمه أبو طالب حمايته لابن أخيه النبي صلى الله عليه وآله ليبلغ رسالة ربه بكامل حريته ، وهدد قريشاً بالحرب إن هي مست منه شعرة ! ووقف في وجه مؤامراتها ضده ، وأطلق قصائده في فضح زعمائها ، حتى طعن في أنسابهم إلى إسماعيل .. فسارت بشعره الركبان يمدح فيه محمداً صلى الله عليه وآله ، ويهجو زعماء قريش ويسمي زعيم مخزوم أبا الحكم ( أحيمق مخزوم ) كما سماه ابن أخيه محمد (أباجهل )!!

ونشط الزعماء القرشيون في مقاومة النبوة بأنواع الإغراءات والتهديدات لأبي طالب وابن أخيه محمد صلى الله عليه وآله . . ففشلوا !

ثم اتخذوا قرارا باضطهاد المسلمين الذين تطالهم أيديهم من غير بني هاشم ، فهرب أكثرهم إلى الحبشة .. وفشل زعماء قريش !

ثم اتخذوا قراراً بالإجماع وضموا إليهم بني كنانة ، بعزل كل بني هاشم ومقاطعتهم مقاطعة تامة شاملة ، وحصروهم في شعبهم ثلاث سنوات أو أربع فأفشل الله محاصرتهم بمعجزة !

وما أن فقد بنو هاشم رئيسهم أبا طالب ، حتى اتخذ زعماء قريش قراراً بالإجماع بقتل محمد صلى الله عليه وآله، الذي بقي بزعمهم بلاحامٍ ولا ناصر .. فأفشل الله كيدهم ونقل رسوله إلى المدينة التي أسلم أكثر أهلها ، وهي تقع على طريق شريانهم التجاري ، وتهددهم بقطع تجارتهم مع الشام ومنطقتها !

وحاول القرشيون أن يضغطوا على أهل المدينة بالإغراء ، والوعيد ، ومكائد اليهود.. ولكنهم فشلوا ، لأن المدينة صارت في يد النبي صلى الله عليه وآله .. فقرروا دخول الحرب مع ابن بني هاشم ، وحاربوه في بدر ، وأحد ، والخندق .. ففشلوا !

وحاربوه باليهود ، واستنصروا عليه بالفرس والروم .. ففشلوا !

وما هو إلا أن فاجأهم محمد صلى الله عليه وآله في السنة الثامنة من هجرته فدخل عليهم عاصمتهم مكة ، بجيش من جنود الله لاقبل لهم به ! فاضطروا أن يعلنوا إلقاء سلاحهم ، والتسليم للنبي صلى الله عليه وآله !

وقام أهل مكة سماطين ينظرون إلى دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وجيشه .. وتقدم براية الفتح بين يديه شاب أنصاري من قبيلة الخزرج اليمانية هو عبد الله بن رواحة ، وهو ينشد للفراعنة :

خلوا بني الكفار عن سبيله         فاليوم نضربكم على تنزيله

ضرباً يزيل الهام عن مقيله        ويذهل الخليـل عــن خليلــه

يا رب إني مؤمن بقيله

فقال له عمر بن الخطاب : يا بن رواحة ، أفي حرم الله وبين يدي رسول الله، تقول الشعر !! فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : مه يا عمر ، فو الذي نفسي بيده لكلامه هذا أشد عليهم من وقع النبل !

( البيهقي في سننه : 10/228 ، ونحوه الترمذي : 4/217 ، والذهبي في سير أعلام النبلاء : 1/235 )

فعمر يريد أن يخفف على زعماء قريش وقع هزيمتهم ، ولا يتحداهم في عاصمتهم.. ولا ننس أن عمر من قبيلة عدي الصغيرة ، وأنه نشأ على احترام زعماء قريش وإكبارهم ، ويصعب عليه أن يتحداهم أنصاري في عاصمتهم !

ولكن الرؤية النبوية أن هؤلاء الفراعنة لايفهمون إلا لغة السيوف والسهام، وأن عمل عبد الله بن رواحة عملٌ صحيحٌ ، وقيمته عند الله تعالى عالية ، لأنه أشد على أعداء الله من وقع النبل !!

* * *

فقه فتح مكة دوخ الفقهاء السنيين .. ولم يصحوا من دوختهم !

أعلن الرسول صلى الله عليه وآله الأمان لقريش لمن ألقى سلاحه ، وجمع زعماءهم في المسجد الحرام وسيوف جنود الله فوق رؤوسهم .. وذكرهم بتكبرهم وتجبرهم وتكذيبهم لآيات الله ومعجزاته ، وعدائهم لله ورسوله ، واضطهادهم لبني هاشم والمسلمين ، وحروبهم ومكائدهم ضد الإسلام ورسوله .. قال الطبري في تاريخه : 2/337 :

( عن قتادة السدوسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام قائماً حين وقف على باب الكعبة ثم قال: لاإله إلا الله وحده لاشريك له ، صدق وعده، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده .

ألا كل مأثرةٍ أو دم أو مال يدعى ، فهو تحت قدمي هاتين ، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ...

يا معشر قريش : إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء . الناس من آدم وآدم خلق من تراب .

يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم .. الآية .

يا معشر قريش ويا أهل مكة : ما ترون أني فاعلٌ بكم ؟!

قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم .

ثم قال : إذهبوا فأنتم الطلقاء ! فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوةً ، وكانوا له فَيْئاً ، فبذلك يسمى أهل مكة الطلقاء). انتهى .

وهنا تحير فقهاء الخلافة القرشية وكل علماء بلاطها .. !!

فإن إطلاق الأسير لايتحقق إلا بعد الأسر والإسترقاق . فهو يعني أن النبي صلى الله عليه وآله قد استرقهم ، ثم أعتقهم ، فصار له ولآله ولاؤهم .

ويعني أن إسلامهم قد رفع عنهم القتل فقط ، ولم يرفع عنهم جواز الإسترقاق ! فهذه أحكام شرعية لايمكن إنكارها ، لكنها خاصة بقريش ، ولا يوجد لها مثيل في أحكام الجهاد والفتح الإسلامي !!

فالحكم الشرعي لقريش حيث خافت ولم تجرؤ على مقاومة النبي صلى الله عليه وآله ، لو كانت من أهل الكتاب ، أن يخيرها النبي بين ثلاث خصال : الإسلام ، أو القتال ، أو دفع الجزية والبقاء على دينهم ..

ولكنهم مشركون فهم مخيرون بين الإسلام والقتال فقط ، وقد اختاروا الإسلام ولو تحت السيف . فكان اللازم أن تثبت لهم أحكام المسلمين ، ولكن النبي صلى الله عليه وآله رتب عليهم حكم المشركين الأسرى فأطلقهم ( إطلاقاً ) ولم يعتقهم كما قال الطبري !

وهذا الإطلاق لايعرفه الفقهاء في أحكام الأسرى ! لأن الأسير إما أن يقتل أو يمن عليه ويعتق ، أو يفادى . أما الإطلاق بدون عتق ولا مفاداة ، فهو خاص بقبائل قريش في فتح مكة !

يضاف إلى مصيبة فقهاء البلاط القرشي .. مسألة فقهية ثانية لاحل لها عندهم أيضاً ، وهي : إعلان النبي الأمان لقريش لكل من دخل داره وأغلق بابه ، وكل من ألقى سلاحه ، وكل من دخل دار أبي سفيان . وهو أمان لمشركين في حالة حرب مع المسلمين ليس فيه شرط أن يدخلوا في الإسلام !

ومسألة ثالثة هي حكم أراضي مكة ، وهل أنها بالأصل ، عتيقة من الملكية تبعاً للبيت العتيق ؟

أم أنها مفتوحة عنوة ، فتكون ملكاً لكل المسلمين إلى يوم القيامة ؟

أم أن النبي صلى الله عليه وآله أقر ملكية القرشيين فيها بسبب إعلانهم إسلامهم ، فصارت ملكيتهم صحيحة ثم اشترى الناس من القرشيين ومن تبعهم إلى يومنا هذا ؟!

لكن كيف يصح أن يقر النبي ملكية القرشيين ، ثم يعتبرهم أسرى ويطلقهم إطلاقاً لاعتاقاً .. فهل معنى ذلك إلا أن ملكية أراضيهم تابعة لملكية رقابهم ؟! وأنها للنبي .. ثم لآله من بعده .. صلى الله عليه وآله .

* * *

وحل لهذه المسائل من وجهة نظرنا : أن أرض مكة لاتملك ، والولاية عليها لرسول الله صلى الله عليه وآله ثم للأئمة من أهل بيته عليهم السلام .

وإن الأمان الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وآله لهم هو أمر برفع القتل فعلاً عن مشركين محاربين ، إلا من استثني منهم .

وأما إطلاقهم فهو يعني أن النبي صلى الله عليه وآله قد أسرهم وتملكهم شرعاً ، ولم يعتقهم بل أطلقهم إطلاقاً ، كالذي يقول لعبيده : إذهبوا وافعلوا ما شئتم ، فيكون ملكه عليهم وعلى ذراريهم باقياً، وتعود ملكيتهم وممتلكاتهم بعده إلى ذريته .

وهذا يعني أن النبي لم يخيرهم بين الإسلام والقتال ، بل اعتبر أنهم اختاروا القتال وغلبهم وأخذهم أسرى ، كما هو الواقع !

أما إعلان إسلامهم فقد رتب عليه النبي صلى الله عليه وآله أحياناً أحكام المسلمين وألزمهم بالجهاد معه في حنين وأخذ من نسائهم البيعة .

كما رتب عليهم أحيانا أخرى أحكام المشركين ولم يرجع إليهم أولادهم ولا عبيدهم الذين هاجروا إليه بعد فتح مكة ، كما سيأتي ! وهذا يعني أنه مخير بين أن يرتب عليهم أحكام الاسلام عندما يراه مصلحة، أو أحكام الكفر عندما يراه مصلحة .. وهي أحكام تنسجم في فقهنا مع مقام النبي والامام ، صلى الله على نبينا وآله .

ولا يتسع المجال للإفاضة في هذا البحث ، فنكتفي بإيراد نصوص عن الأئمة صلوات الله عليهم تؤكد ما ذكرناه ، منها :

ما في نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده : 3/30 في جواب علي عليه السلام لمعاوية : ( وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان ، فذكرت أمراً إن تم اعتزلك كله ، وإن نقص لم تلحقك ثلمته . وما أنت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس ؟! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين ، وترتيب درجاتهم ، وتعريف طبقاتهم ؟!! هيهات ، لقد حن قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها ! ألا تربع أيها الإنسان على ظلعك ، وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخر حيث أخرك القدر ، فما عليك غلبة المغلوب ، ولا لك ظفر الظافر .. وإنك لذهَّابٌ في التيه ، رواغٌ عن القصد ). انتهى.

وفي الكافي : 3/512 : ( من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده .. وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي يرى كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله بخيبر .. وقال : إن أهل الطائف أسلموا وجعلوا عليهم العشر ونصف العشر ، وإن أهل مكة دخلها رسول الله صلى الله عليه وآله عنوة فكانوا أسراء في يده ، فأعتقهم وقال : إذهبوا فأنتم الطلقاء ) . انتهى .

* * *

أما فقهاء المذاهب السنية فقد اعتبروا أن قريشاً دخلوا في الإسلام وترتبت عليهم أحكامه وانتهى الأمر . وإذا سألتهم عن اسم ( الطلقاء ) وعن تطبيق أحكام القتال على أهل مكة وأرضها ، سارعوا الى التخلص من ذم قريش وذكر أسرها .. وقالوا إنها أحكام خاصة بالنبي صلى الله عليه وآله .

قال الشافعي في كتاب الأم : 7/382 : ( قال الأوزاعي : فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوةًً، فخلى بين المهاجرين وأرضهم ودورهم بمكة، ولم يجعلها فيئاً . قال أبو يوسف رحمه الله : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عفا عن مكة وأهلها وقال: من أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ونهى عن القتل إلا نفراً قد سماهم ، إلا أن يقاتل أحد فيقتل ، وقال لهم حين اجتمعوا في المسجد: ما ترون أني صانع بكم ؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم . قال : إذهبوا فأنتم الطلقاء . ولم يجعل شيئاً قليلاً ولا كثيراً من متاعهم فيئاً . وقد أخبرتك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس في هذا كغيره ، فهذا من ذلك ، وتفهم فيما أتاك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن لذلك وجوهاً ومعاني ) . انتهى .

وغرض فقهاء الخلافة القرشية من ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله لم يجعل أرض مكة فيئاً للمسلمين ، ولا جعل أهلها عبيداً وموالي لهم ، كما هي أحكام الإسلام ، بل عفا عنهم وقبل إسلامهم ، وهذا لايجوز لأحد أن يفعله ذلك مع مشركين محاربين ! لكنه حكم خاص بالنبي صلى الله عليه وآله .. فهم بذلك يزعمون تكريم الله ورسوله لقريش ، بأحكام خاصة وامتيازات عن بقية المشركين !! لكن العقبة الكأداء تبقى أمامهم صفة ( الطلقاء ) التي ختم بها النبي صلى الله عليه وآله أعناق جميع قريش الى يوم القيامة .. وهي صفة لاتصح إلا للعبيد المملوكين !

وقد تنبه بعض النواصب إلى أنه لاحل لمشكلة قريش مع أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله ما دام اسم ( الطلقاء ) وصمة نبوية على جبينهم . فهي تعني أن قريشاً صارواً عبيداً شرعيين للنبي صلى الله عليه وآله ، وأنه أطلقهم إطلاقاً فعلياً مع بقاء ملكيتهم له ثم لأهل بيته عليهم السلام ، وحتى لو زعم أحدٌ أن النبي أعتقهم فولاؤهم له ولأهل بيته أيضاً !

ومن هنا حاولوا إنكار اسم ( الطلقاء ) من أساسه ليخلصوا أسيادهم القرشيين من صفة الرق الشرعي للنبي وآله صلى الله عليه وآله !!

ومما صادفته في تصفحي ، ما ارتكبه الشيخ ناصر الدين الألباني من تعصبٍ مفضوح للقرشيين ، حيث ضعف هذا الحديث ! فقال في سلسلة أحاديثه الضعيفة 3/307 برقم 1163 : ( ضعيف . رواه ابن إسحاق في السيرة : 4/31 – 32 ، وعنه الطبري في التاريخ 3/120 ، ونقله الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية 4/300 - 301 ، ساكتاً عليه . وهذا سند ضعيف مرسل ، لأن شيخ ابن إسحاق فيه لم يسم ، فهو مجهول . ثم هو ليس صحابياً ، لأن ابن إسحاق لم يدرك أحداً من الصحابة ، بل هو يروي عن التابعين وأقرانه ، فهو مرسل ، أو معضل . انتهى .

ولابدأن الألباني المحدث يعرف وجود هذا الحديث ومؤيداته في المصادر الأخرى، ولم ير المحدثين والفقهاء وهم يرسلونه إرسال المسلمات ! فمرضه ليس الجهل بالتاريخ والحديث.. بل مرضه حب القرشيين فهو يحاول تخليصهم من صفة الرق الشرعية للنبي وآله الطاهرين صلى الله عليه وآله ؟!

إن مسألة الطلقاء ثابتة مشهورة عند جميع الفرق ، واسم ( الطلقاء ) اسم كالعلم لأكثر قريش ، وهو كثير في مصادر الحديث ، وقد دخلت أحكامه في فقه المذاهب . فقد روى البخاري في صحيحه : 5/105 - 106 قال : ( لما كان يوم حنين التقى هوازن ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف والطلقاء ، فأدبروا ...) وفي مسلم : 3/106 : ( ومعه الطلقاء فأدبروا عنه حتى بقي وحده ) أي مع بني هاشم !! ونحوه في : 5/196 وفي مسند أحمد : 3/190 و279 .

وفي مسند أحمد : 4/363 : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض ، إلى يوم القيامة ) !!

وهو حديث عجيب !! وقد صححه الحاكم في المستدرك : 4/80 ، وقال عنه في مجمع الزوائد : 10/15 : رواه أحمد والطبراني بأسانيد، وأحد أسانيد الطبراني رجاله رجال الصحيح، وقد جوده رضي الله عنه وعنا ، فإنه رواه عن الأعمش عن موسى بن عبد الله بن يزيد بن عبد الرحمن بن هلال العبسي ، عن جرير وموسى بن عبد الله بن هلال العبسي . (وراجع أيضاً مغني ابن قدامة: 7/321، ومبسوط السرخسي: 10/39، ومسند أحمد : 3/279، وسنن البيهقي: 6/306 ، و8/266 و: 9/118 ، وكنز العمال : 12/86 ).

وفي كنز العمال : 5/735 : ( قال لهم عمر : إن هذا الأمر لايصلح للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء ، فإن اختلفتم فلا تظنوا عبد الله بن أبي ربيعة عنكم غافلاً . ابن سعد ). انتهى. فقضية الطلقاء وحديثهم صحيحة في مصادرهم.. وتعازينا لعلماء بلاطهم من الألبانيين والعرب !

 

قريش بعد فتح مكة

ماذا فعلت قريش بعد أن اضطر بقية فراعنتها وألوف الطلقاء من أتباعهم إلى الدخول في الإسلام ؟؟

من الطبيعي أن مشاعر الغيظ والكبرياء القرشي بقيت محتدمة في قلوب أكثرهم إن لم نقل كلهم .. ولكن في المقابل ظهر فيهم منطق يقول : إن دولة محمد دولتنا .. فمحمد أخ كريم ، وابن أخ كريم ، ودولته دولة قريش ، وعزه عزها وفخره فخرها ، ومهما كان محمد .. فهو ابن قريش ، ودولته أوسع من دولة قريش وأقوى ، وقد عفا عنها وفتح المجال أمام زعمائها في أجهزة هذه الدولة ، فلماذا نحاربها ، ولماذا نتركها بأيدي الأنصار الغرباء من الأوس والخزرج اليمانيين !

أما مسألة من يرث دولة محمد بعده ، فهي مسألة قابلة للعلاج ، وهي على كل حال مسألة قرشية داخلية ! !

من البديهي أن يفهم الباحث أن قريشاً وجهت جهودها لمرحلة ما بعد محمد صلى الله عليه وآله ، وأن الهدف الأهم عندها كان : منع محمد أن يرتب الأمر من بعده لبني هاشم ، ويجمع لهم بين النبوة والخلافة على حد تعبير قريش والناطق الجديد باسمها عمر ! فالنبوة لبني هاشم ، ولكن خلافة محمد يجب أن تكون لقبائل قريش غير بني هاشم !

لكن رغم وجود هذا المنطق ، فإن النصوص واعترافات بعض زعمائهم تدل على أنهم كانوا يعملون على كل الجبهات الممكنة ! وأن أكثريتهم كانوا يائسين من أن يشركهم محمد في حكم دولته ، لأنه يعمل بجد لتركيز حكم عترته من بعده . . لذلك اتجه تفكيرهم بعد فتح مكة إلى اغتيال النبي صلى الله عليه وآله .. وسرعان ما حاولوا تنفيذ ذلك في حنين بعد أيام من فتح مكة !!

إن فراعنة قريش يهود هذه الأمة ، فهم لايعرفون الوفاء ، بل كأنهم يصابون بالصداع إذا لم يغدروا بمن عفا عنهم وأحسن إليهم ! !

لقد أعلنوا إسلامهم ، وادعوا أنهم ذاهبون مع النبي صلى الله عليه وآله إلى حنين ليساعدوه في حربه ضد قبيلتي هوازن وغطفان ، وكان عدد جيش القرشيين ألفين ، وعدد جيش النبي صلى الله عليه وآله الذي فتح مكة عشرة آلاف ، وعندما التقوا بهوازن في حنين انهزموا من أول رشقة سهام فسببوا الهزيمة في صفوف المسلمين فانهزموا جميعاً ، كما حدث في أحد !

وثبت النبي صلى الله عليه وآله ومعه بنو هاشم فقط ، كالعادة ، وقاتلوا بشدةٍ مع مئة رجعوا إليهم من الفارين حتى ردوا الحملة ، ثم رجع آخرون من المسلمين الفارين .. وكتب الله النصر .

وفي أثناء هزيمة المسلمين ، قامت قريش بعدة محاولات لقتل النبي صلى الله عليه وآله !! وهو أمر يفتح باب الشك بأن الهزيمة كانت أمرا مدبراً مع قبيلة هوازن !! ونكتفي هنا بذكر ما نقله زعيم بني عبد الدار النضير بن الحارث ، الذي سيأتي ذكره في تفسير الآية الثالثة ! وقد نقل ذلك عنه محب له ولقريش ولبني أمية ، هو ابن كثير الشامي ، فقال في سيرته : 3/691 :

كان النضير بن الحارث بن كلدة من أجمل الناس ، فكان يقول : الحمد لله الذي من علينا بالإسلام ، ومن علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ولم نمت على ما مات عليه الآباء ، وقتل عليه الأخوة وبنو العم .

ثم ذكر عداوته للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه خرج مع قومه من قريش إلى حنين ، وهم على دينهم بعد ، قال : ونحن نريد إن كانت دائرة على محمد أن نغير عليه ، فلم يمكنا ذلك .

فلما صار بالجعرانة فوالله إني لعلى ما أنا عليه ، إن شعرت إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنضير ؟

قلت : لبيك .

قال : هل لك إلى خير مما أردت يوم حنين مما حال الله بينك وبينه ؟

قال : فأقبلت إليه سريعاً .

فقال : قد آن لك أن تبصر ما كنت فيه توضع !

قلت : قد أدري أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً ، وإني أشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم زده ثباتاً .

قال النضير : فوالذي بعثه بالحق لكأن قلبي حجرٌ ثباتاً في الدين ، وتبصرة بالحق .

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الحمد لله الذي هداه . انتهى .

وأنت تلاحظ أن هذه الكلام يتضمن إقراراًمن هذا الزعيم القرشي على نفسه ، وإقرار الإنسان على نفسه حجة ! ويتضمن ادعاء منه بإيمانه بالله تعالى فقد ذكر أنه تشهد الشهادة الأولى ! ولكن الدعوى لاتثبت بادعاء صاحبها بدون شهادة غيره !

ومهما يكن من أمر إسلامه يومئذ ، فقد اعترف زعيم بني عبد الدار صاحب راية قريش وقائد قواتها الذي كان تحت إمرته ألفا مسلح في حنين ، بأن إعلان إسلامهم في مكة كان كاذباً ، وأن زعماء قريش كانوا متفقين على قتل النبي صلى الله عليه وآله ، وأنهم حاولوا محاولاتٍ في حنين ولم يتوفقوا .. فقد أحبط الله تعالى خططهم ، وكشف لنبيه صلى الله عليه وآله نواياهم !!

بل تدل أحاديث السيرة علىأن زعماء قريش لم يملكوا أنفسهم عند انهزام المسلمين في حنين في أول الأمر، فأظهروا كفرهم الراسخ ، وفضحوا أنفسهم!

ففي سيرة ابن هشام : 4 / 46 :

قال ابن إسحاق : فلما انهزم الناس ، ورأى من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جفاة أهل مكة الهزيمة ، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن ، فقال أبو سفيان بن حرب : لاتنتهي هزيمتهم دون البحر ، وإن الأزلام لَمَعَهُ في كنانته !

وصرخ جبلة بن الحنبل - قال ابن هشام كلدة بن الحنبل - وهو مع أخيه صفوان بن أمية مشركٌ في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا بطل السحر اليوم !

قال ابن إسحاق : وقال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار : قلت اليوم أدرك ثأري من محمد ، وكان أبوه قتل يوم أحد ، اليوم أقتل محمداً، قال : فأدرت برسول الله لأقتله ، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطلق ذاك ، وعلمت أنه ممنوعٌ مني ! ! . انتهى .

وشيبة هذا قائد آخر من قادة جيش قريش ( المسلمة المؤمنة المجاهدة ! ) يعترف بأنه في حنين عند الهزيمة أو بعدها ( دار ) مرة أو مراتٍ حول النبي صلى الله عليه وآله ليقتله ! فتأمل .. !!

إن الناظر في مقومات شخصيات زعماء قريش ، وتفكيرهم واهتماماتهم ، يصل إلى قناعة بأنهم مردوا على النفاق ، واتخذوا قراراً بأن يكذبوا بكل الآيات والمعجزات التي يأتيهم بها محمد صلى الله عليه وآله ، ويكفروا بكل القيم والأعراف الإنسانية التي يدعوهم إليها ويعاملهم بها !

لقد قرروا أن لايدخلوا في دينه إلا في حالتين لاثالثة لهما :

إذا كان السيف فوق رؤوسهم !

أو صارت دولة محمد وسلطانه بأيديهم !

لقد حاربوا هذا الدين ونبيه صلى الله عليه وآله بكل الوسائل حتى عجزوا وانهزموا ..

ثم واصلوا تآمرهم ومحاولاتهم لاغتيال النبي صلى الله عليه وآله فعجزوا .

ثم جاؤوا يشترطون الشروط مع النبي صلى الله عليه وآله ليأخذوا شطراً من دولته فعجزوا .

ثم جاؤوا يدعون أنهم أصحاب الحق في دولة نبيهم صلى الله عليه وآله لأنه من قبائل قريش !

فتأمل في طبيعة هذه الطينة التي استولت على مقدرات الدولة الإسلامية ، وأبعدت عن الحكم أهل بيت نبيها صلوات الله عليه وعليهم !!

قال في مناقب آل أبي طالب : 2/ 239 :

قال الشريف المرتضى في تنزيه الأنبياء : إن النبي صلى الله عليه وآله لما نص على أمير المؤمنين بالإمامة في ابتداء الأمر ، جاءه قوم من قريش وقالوا له : يا رسول الله إن الناس قريبو عهد بالإسلام لايرضون أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك علي بن أبي طالب .. فلو عدلت به إلى غيره ، لكان أولى ! فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله : ما فعلت ذلك لرأيي فأتخير فيه ، لكن الله تعالى أمرني به وفرضه عليَّ .

فقالوا له : فإذا لم تفعل ذلك مخافة الخلاف على ربك ، فأشرك معه في الخلافة رجلاً من قريش تركن الناس إليه ، ليتم لك أمرك ، ولا تخالف الناس عليك .

فنزلت الآية : لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين !!

وروى في المصدر المذكور عن عبد العظيم الحسني عن الصادق عليه السلام في خبر : قال رجل من بني عدي اجتمعت إليَّ قريش ، فأتينا النبي فقالوا : يا رسول الله إنا تركنا عبادة الأوثان واتبعناك ، فأشركنا في ولاية علي فنكون شركاء ، فهبط جبرئيل على النبي فقال : يا محمد لئن أشركت ليحبطن عملك .. الآية . انتهى . ( أقول : والحديث الأول في تنزيه الأنبياء / 167 ) .

* * *

 

قريش تتمحور حول زعامة سهيل بن عمرو

على رغم خيانات زعماء قريش بعد فتح مكة وتآمرهم .. فقد حاول النبي صلى الله عليه وآله أن يستقطبهم ، فأكرمهم وتألفهم وأعطاهم أكثر غنائم معركة حنين ! وأطمعهم بالمستقبل إن هم أسلموا وحسن إسلامهم ... إلخ .

لقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله أن يقاوم عُقَدهم بنور الحلم ، وظلماتهم بنور الإحسان .. !! ليس من أجل كرامتهم على الله تعالى ، بل من أجل أجيال ستأتي ومسيرة لابد أن تنطلق في العالم !

وفي هذه الفترة تراجعت زعامة أبي سفيان ، ولم يبق منها عند قريش إلا (أمجاد ) حربه لمحمد صلى الله عليه وآله !

فشخصية أبي سفيان تصلح للزعامة في الحرب فقط وفي التجارة ، ولا تصلح للزعامة والعمل السياسي في السلم ، لذلك تراه بعد أن انكسر في فتح مكة ذهب إلى المدينة وطلب منصباً من محمد صلى الله عليه وآله ، فعينه جابياً للزكاة من بعض القبائل !!

ثم أبو سفيان من بني عبد شمس ، أبناء عم بني عبد المطلب.. وقد أعطاه النبي في فتح مكة امتيازاً ولو شكلياً ، بأن من دخل داره فهو آمن .. فقريش تخشى منه أن يميل الى بنيهاشم بعد أن انكسر كقائد لجبهة لقريش .

وقد أثبت التاريخ أن الدم المزعوم بين أمية وهاشم ، قد يستعمله القادة الأمويون أحياناً ، إذا رأوا في ذلك مصلحتهم !!

ففي تاريخ الطبري :2 /449 :

حدثنى محمد بن عثمان الثقفى قال حدثنا أمية بن خالد قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت قال لما استخلف أبو بكر قال أبو سفيان مالنا ولأبي فصيل ؟! إنما هي بنو عبد مناف !

قال فقيل له إنه قد ولى ابنك ! قال : وصلته رحم !!

حدثت عن هشام قال حدثنى عوانة قال : لما اجتمع الناس على بيعة أبى بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول : والله إني لأرى عجاجة لايطفؤها إلا دم ! يا آل عبد مناف فيما أبو بكر من أموركم ؟! أين المستضعفان ؟ أين الاذلان علي والعباس ؟

وقال : أبا حسن أبسط يدك حتى أبايعك ، فأبى علي عليه ، فجعل يتمثل بشعر المتلمس :

ولن يقيم على خسف يــــــراد به              إلا الاذلان عــير الحــــــي والوتد

هذا على الحسف معكوس برمته              وذا يشـــج فلا يبـــــكى لــــه أحد

قال فزجره علي وقال : إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة ، وإنك والله طالما بغيت الاسلام شرا ! لاحاجة لنا في نصيحتك !! ) .

ومما رواه التاريخ أن عثمان بن عفان .. ضرب يوماً على وتر قرابته مع بني هاشم .. ففي هامش الايضاح لابن شاذان الأزدي ص 258 :

( وأما أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري الشيعي الامامي فنقل الحديث في كتابه الموسوم بالمسترشد ضمن كلام له بهذه العبارة ( ص 133 من طبعة النجف ) :

عن شريك أن عائشة وحفصة أتتا عثمان بن عفان تطلبان منه ما كان أبواهما يعطيانهما ، فقال لهما : لاولا كرامة ، ما ذاك لكما عندي !

فألحتا وكان متكئاً فجلس وقال : ستعلم فاطمة أي ابن عم لها أنا اليوم ! ثم قال لهما : ألستما اللتين شهدتما عند أبويكما ولفقتما معكما أعرابياً يتطهر ببوله مالك بن أوس بن الحدثان فشهدتما معه أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لانورث، ما تركناه صدقة ؟! فمرة تشهدون أن ما تركه رسول الله صدقة ، ومرة تطالبون ميراثه ؟!! انتهى .

ثم روى نحوه عن الامام الباقر عليه السلام وفيه ( فتركته وانصرفت وكان عثمان إذا خرج إلى الصلاة أخذت قميص رسول الله صلى الله عليه وآله على قصبة فرفعته عليها ، ثم قالت : إن عثمان قد خالف صاحب هذا القميص )!

* * *

على هذا الأساس كان تفكير قريش بعد فتح مكة أنه لابد من زعيم يجيد العمل لمصلحة قريش المنكسرة عسكرياً.. وقد وجدوه في سهيل بن عمرو ، العقل السياسي المفكر والداهية المخطط !!

وسرعان ما صار سهيل محوراً لقريش ، ووارثاً لقيادة زعمائها الذين قتلهم محمد صلى الله عليه وآله ، أو أماتهم رب محمد ، سبحانه وتعالى .

وسهيل بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود ، هو في نظر قريش : قرشي أصيل . ولئن كان من بني عامر بن لؤي ، الذين هم أقل درجة من بني كعب بن لؤي ( سيرة ابن هشام : 2 / 489 ) ، ولكنه صاحب تاريخ في مواجهة محمد .. فهو من الزعماء الذين فاوضوا أبا طالب بشأنه .

وهو من أعضاء دار الندوة الذين اتخذوا قرار مقاطعة بني هاشم .

وهو من الذين ائتمروا على قتل النبي صلى الله عليه وآله عندما ذهب إلى الطائف ، وقرروا نفيه من مكة ، وهددوه بالقتل إن هو دخلها ، ورفضوا أن يجيروه حتى يستطيع الدخول إلى مكة وتبليغ رسالة ربه !

ففي تاريخ الطبري : 2/82 : ( أن النبي صلى الله عليه وآله قال للأخنس بن شريق : إئت سهيل بن عمرو فقل له إن محمداً يقول لك : هل أنت مجيري حتى أبلغ رسالات ربي ؟ فأتاه فقال له ذلك ، قال فقال : إن بني عامر بن لؤي لاتجير على بني كعب !) . انتهى .

وهو من الزعماء الذين واصلوا العمل لقتل محمد بعد وفاة أبي طالب ، حتى أنجاه الله منهم بالهجرة !

وهو أحد الذين حبسوا المسلمين وعذبوهم على إسلامهم ، ومن المعذبين على يده ولده أبو جندل !

وهو أحد قادة المشركين في بدر ، وأحد أثريائهم الذين كانوا يطعمون الجيش !

وهو أحد الذين كانوا يؤلمون قلب رسول الله صلى الله عليه وآله بفعالياتهم الخبيثة ، فلعنهم الله تعالى وطردهم من رحمته ، وأمر رسوله أن يلعنهم ، ويدعو عليهم في قنوت صلاته بأسمائهم !

وهو أحد المنفقين أموالهم على تجهيز الناس لحرب النبي صلى الله عليه وآله في أحد والخندق وغيرهما !

قال في سير أعلام النبلاء : 1/ 194 : ( يكنى أبا يزيد ، وكان خطيب قريش وفصيحهم ومن أشرافهم .. وكان قد أسر يوم بدر وتخلص . قام بمكة وحض على النفير ، وقال : يا آل غالب أتاركون أنتم محمداً والصباة يأخذون عيركم ! من أراد مالاً فهذا مال ، ومن أراد قوة فهذه قوة . وكان سمحاً جواداً مفوهاً . وقد قام بمكة خطيباً عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحو من خطبة الصديق بالمدينة فسكنهم ! وعظم الإسلام !! ) . انتهى .

وينبغي الإلتفات هنا إلى مدح الذهبي لسهيل ، وأن خطبته في مكة كانت بنحو خطبة أبي بكر الصديق في المدينة !! وهي خطبة من سطرين مفادها أيها العابدون محمداً إن محمداً قد مات .. وقريش تعبد رب محمد !!

فلاحظ ذلك ، فإنه لم يكن بين المدينة ومكة تلفون ولافاكس يومئذ !!

وسهيل هو الذي انتدبته قريش لمفاوضة محمد صلى الله عليه وآله في الحديبية ، وقد أجاد المفاوضة وشدد عليه بالشروط ، ولم يقبل أن يكتب في المعاهدة ( رسول الله ) ووقع الصلح معه نيابة عن كل قريش !

وهو المعروف عند قريش بأنه سياسي حكيم ، أكثر من غيره من فراعنتها وهذا يعني أنه وارث أبي الحكم ، أي أبي جهل .

وهو أخيراً ، من أئمة الكفر الذين أمر الله رسوله صلى الله عليه وآله بقتالهم.. وإعلانه الإسلام تحت السيف لايغير من إخبار الله وآياته شيئاً !

ففي تفسير الصنعاني : 1/242 : ( عن قتادة في قوله ( وقاتلوا أئمة الكفر.. ) هو أبو سفيان بن حرب ، وأمية بن خلف ، وعتبة بن ربيعة ، وأبو جهل، وسهيل بن عمرو ) . انتهى .

وقد اختار سهيل بن عمرو البقاء في مكة بعد فتحها ودخولها تحت حكم النبي صلى الله عليه وآله ولم يهاجر إلى المدينة كبعض الطلقاء ، ولم يطلب من محمد منصباً كما فعل أبو سفيان ، لأن كبرياءه القرشي وتاريخه في الصراع مع النبي صلى الله عليه وآله ، يأبيان عليه ذلك !!

ومن كبريائه أنه رفض هدية النبي صلى الله عليه وآله في أيام القحط والسنوات العجاف التي حدثت على قريش بدعاء النبي ، فأشفق عليهم وأرسل إليهم مساعدة ، وكانت أحمالاً من المواد الغذائية ، فقبلها أكثرهم وكان سهيل ممن رفضوها !

ولكن سهيلاً قبل هدية النبي صلى الله عليه وآله في حنين ، ولعل السبب أنها كانت مئة بعير !

إنه تاريخٌ طويلٌ أسود عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله ! ولكنه مشرقٌ عند القرشييين ! ومن أجل هذا النسب وهذا التاريخ والصفات ، اجتمعت حوله قريش ( المسلمة ) بعد فتح مكة ، وانضوت تحت زعامته !

فانظر الى انخداع البسطاء من كتَّاب السيرة والتاريخ .. وتأمل في مكر عباد زعماء قريش منهم !

* * *

كان النبي صلى الله عليه وآله قد عين حاكماً لمكة بعد فتحها ، هو عتاب بن أسيد الأموي ، وجعل معه أنصارياً .. وهو تعيين له دلالته النبوية البليغة !

ولكن قريشاً كانت لاتعرف إلا سهيلاً ولا تسمع إلا كلامه .. وتعتبر أن عتاباً وإن كان قرشياً أموياً ، إلا أنه من جماعة محمد ومن بني عمه الأمويين !

والدليل على ذلك أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله ارتدت قريش عن الإسلام ، وخاف حاكمها عتاب أن يقتلوه فاختبأ من سيوفهم مع أنه قرشي أموي .. وبعد أيام وصلهم خبر يطمئنهم ببيعة أبي بكر التيمي ، وأن أحداً من بني هاشم لن يحكم بعد محمد صلى الله عليه وآله فاطمأن سهيل بن عمرو ، وخطب في قريش بنفس خطبة أبي بكر في المدينة ، والتي مفادها أنه من كان يعبد محمداً فإن إلهه قد مات ، ونحن لانعبد محمداً ، بل هو رسول بلغ رسالته ومات ، وهو ابن قريش وسلطانه سلطان قريش ، وقد اختارت قريش حاكماً لنفسها بعده وهو أبو بكر ، فاسمعوا له وأطيعوا .

لقد طمأنهم سهيل بأن الأمر بيد قريش ، وليس بيد بني هاشم ولا بيد الأنصار اليمانية الذين ( يعبدون ) محمداً ، فلماذا الرجوع عن الإسلام !

فأطاعته قريش وانتهى مشروع الردة ! وأصدر سهيل أمره لعتاب الحاكم من قبل النبي صلى الله عليه وآله : أخرج من مخبئك ، واحكم مكة باسم الزعيم القرشي غير الهاشمي أبي بكر بن أبي قحافة بن تيم بن مرة !

( راجع سيرة ابن هشام : 4/ 1079 ، وفيها : فتراجع الناس وكفوا عما هموا به ، وظهر عتاب بن أسيد !! ) .

سهيل بن عمرو يناضل لاستقلال دولة قريش !

اقتنعت قريش بعد فتح مكة بأن العمل العلني ضد محمد صلى الله عليه وآله محكوم بالفشل .. فركزت جهودها على العمل السياسي المتقن ، والعمل السري الصامت ، لإبعاد عترته عن الخلافة ، وجعلها في غيرهم من قريش ..

كانت أكبر مشكلة في نظر قريش أن النبي صلى الله عليه وآله يسير قدماً في ترتيب الأمر من بعده لعلي ، ومن بعده للحسن والحسين ، أولاد ابنته فاطمة .. وقريش لاتطيق علياً ولا أحداً من بني هاشم .. لذلك قام قادتها وفي مقدمتهم سهيل بن عمرو بأنشطة متعددة ، كان من أبرزها محاولة جريئة مع النبي صلى الله عليه وآله !!

فقد كتب إليه سهيل بن عمرو ، ثم جاء على رأس وفد ، طالبين منه أن يرد ( إليهم ) عدداً من أبنائهم وعبيدهم ، الذين تركوا مكة أو مزارع قريش في الطائف ، وهاجروا إلى النبي صلى الله عليه وآله ليتفقهوا في الدين ، عملاً بالآية القرآنية : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين وينذروا قومهم إذا رجعوا اليهم ..) الآية .

قال سهيل للنبي صلى الله عليه وآله نحن اليوم حلفاؤك ، فقد انتهت الحرب بيننا وتصالحنا ، وأنا الذي وقعت الصلح السابق معك في الحديبية ! وهؤلاء أولادنا وعبيدنا هربوا منا وجاؤوك ، ولم يأتوك ليتفقهوا في الدين كما زعموا ثم إن كانت هذه حجتهم فنحن نفقههم في الدين ، فأرجعهم إلينا !!

ومعنى هذا الطلب البسيط من زعيم قريش الجديد : أن قريشاً حتى بعد فتح مكة واضطرارها إلى خلع سلاحها وإسلامها تحت السيف .. لاتعترف بالحاكم الشرعي لمكة الذي عينه النبي صلى الله عليه وآله ، بل وتريد من النبي صلى الله عليه وآله الإعتراف بأنها وجود سياسي مستقل ، في مقابل النبي صلى الله عليه وآله ودينه ودولته ! واليك نصوص القصة :

روى الترمذي في : 5/ 298 :

( عن ربعي بن حراش قال : أخبرنا علي بن أبي طالب بالرحبة فقال : لما كان يوم الحديبية خرج إلينا ناس من المشركين فيهم سهيل بن عمرو وأناس من رؤساء المشركين ، فقالوا يا رسول الله : خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقائنا ، وليس لهم فقه في الدين ، وإنما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا ، فارددهم إلينا فإن لم يكن لهم فقه في الدين سنفقههم .

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين ، قد امتحن الله قلوبهم على الإيمان ! قالوا : من هو يا رسول الله ؟

فقال له أبو بكر : من هو يا رسول الله ؟

وقال عمر : من هو يا رسول الله ؟

قال هو خاصف النعل ، وكان أعطى علياً نعله يخصفها. هذا حديث حسن صحيح غريب لانعرفه إلا من هذا الوجه من حديث ربعي عن علي).

وروى أبو داود : 1/ 611 : ( عن ربعي بن حراش عن علي بن أبي طالب قال : خرج عبدانٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني يوم الحديبية قبل الصلح ، فكتب إليه مواليهم فقالوا : يا محمد والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك ، وإنما خرجوا هرباً من الرق !

فقال ناس : صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم !

فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا ! وأبى أن يردهم وقال : هم عتقاء الله عز وجل ) . انتهى .

ولا يغرك ذكر الحديبية في الحديث ، فهو من أساليب رواة البلاط القرشي في التزوير التي يستعملونها كثيراً ! فالحادثة وقعت بعد فتح مكة ، ولو كانت قبله لطالب سهيلٌ النبي صلى الله عليه وآله بالوفاء لهم بشرطهم ، لأنهم شرطوا على النبي صلى الله عليه وآله في صلح الحديبية أن يرد إليهم من يأتيه منهم ، وأن لايردوا إليه من يأتيهم من المسلمين !

ولو كانت قبل فتح مكة ، لكانت مطالبة طبيعية بشرطهم ، وما استحقت هذا الغضب النبوي الشديد ، وهو لايغضب إلا بحق .. ولا يغضب إلا لغضب الله تعالى !

ولو كانت قبل فتح مكة وقبل ( دخول ) قريش في الإسلام لما قالوا في مطالبتهم بأولادهم وعبيدهم المهاجرين ( سنفقههم ) فهذا لايقوله إلا الطلقاء الذين يدعون الإسلام !

كما أن بعض رواياتهم صرحت بأن الحادثة كانت بعد فتح مكة ، وفضحت التزوير القرشي للقضية ! فقد روى الحاكم في المستدرك : 2 / 138 :

( عن ربعي بن حراش عن علي رضي الله عنه قال : لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله مكة ، أتاه ناس من قريش فقالوا : يا محمد إنا حلفاؤك وقومك، وإنه لحق بك أرقاؤنا ليس لهم رغبة في الإسلام ، وإنما فروا من العمل فارددهم علينا ! فشاور أبا بكر في أمرهم فقال : صدقوا يا رسول الله !

فقال لعمر : ما ترى ؟ فقال مثل قول أبي بكر .

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا معشر قريش ليبعثن الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للإيمان ، فيضرب رقابكم على الدين !

فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا.

قال عمر : أنا هو يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنه خاصف النعل في المسجد ، وقد كان ألقى نعله إلى علي يخصفها .. هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ) .

وروى نحوه في 4/298 ، وصححه على شرط مسلم وفيه :

( لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وآله مكة أتاه أناس من قريش ... يا معشر قريش لتقيمن الصلاة ولتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلاً فيضرب أعناقكم على الدين ، ثم قال : أنا ، أو خاصف النعل ، قال علي : وأنا أخصف نعل رسول الله صلى الله عليه وآله . انتهى . رواه في كنز العمال : 13/174 ، وقال : ( ش وابن جرير ، ك، ويحيى بن سعيد في إيضاح الإشكال ) .

وفي هذه الحادثة الخطيرة حقائق مهمة وكبيرة :

الأولى : أنهم جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة .. وهذا يعني أنهم بعد فتح مكة وخضوعهم وإعلانهم الإسلام تحت السيف ، وإطلاق النبي صلى الله عليه وآله لرقابهم من السيف ، وما فعلوه في حرب حنين .. جاؤوا إلى (محمد ) في عاصمته يطالبونه بالإعتراف العملي باستقلالهم السياسي .. وهي وقاحةٌ ما فوقها وقاحة !!

قالوا له ( يا محمد ) كما رأيت في صحيح الحاكم على شرط مسلم ! وكما في سنن أبي داود : 1/611 ولكن الترمذي جعلها ( يا رسول الله ) !!

وفي مسند أحمد : 3/82 عن أبي سعيد الخدري قال :

كنا جلوساً ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج علينا من بعض بيوت نسائه ، قال : فقمنا معه فانقطعت نعله ، فتخلف عليها علي يخصفها ، فمضى رسول صلى الله عليه وسلم ثمت ومضينا معه ، ثم قام ينتظره وقمنا معه ، فقال : إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله !! فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر فقال : لا ، ولكنه خاصف النعل ! قال فجئنا نبشره قال : وكأنه قد سمعه. انتهى .

وقال عنه في مجمع الزوائد : 9/ 133 ( رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير فطر بن خليفة ، وهو ثقة ) . انتهى .

وهذه الرواية تدل أيضاً على أن الحادثة كانت في المدينة !

الثانية : أنهم اعتبروا أن فتح مكة (ودخولهم ) في الإسلام لايعني خضوعهم للنبي صلى الله عليه وآله وذوبانهم في الأمة الإسلامية ، بل هو تحالف مع النبي صلى الله عليه وآله ضد أعداء دولته من القبائل التي لم تدخل تحت سيطرتها ، وإلى حد ما ضد الروم والفرس . فهو تحالف الند للند ، وإن كان تم فتح مكة بقوة السيف !!

وقد عملوا بزعمهم بهذا التحالف ، فحاربوا معه صلى الله عليه وآله في حنين ، فعليه الآن أن يعترف بكيانهم القرشي المستقل !

وقد اختاروا أول مطلب لهم أو علامة على ذلك : أن يعيد هؤلاء الفارين إليه من أبنائهم وعبيدهم ! يعيدهم من دولته إلى .. دولتهم !!

الثالثة : أن القرشيين الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وآله - ما عدا بني هاشم - وافقوهم على ذلك ! فهذا أبو بكر بن أبي قحافة التيمي ، وعمر بن الخطاب العدوي يؤيدان مطلب قريش مئة بالمئة !!

وتتفاوت الروايات هنا في التصريح بتأييد أبي بكر وعمر على مطلب قريش، فبعضها كما رأيت في رواية الحاكم الصحيحة ينص على أن أبا بكر قال ( صدقوا يا رسول الله ! ) وقال عمر مثل قوله : صدقوا يا رسول الله ، ردهم إليهم !!

وبعضها لاتذكر تصديقهما لمطلب قريش وشهادتهما بأنه حق ، بل تقتصر على سؤالهما إن كانا هما الذين سيبعثهما الله ورسوله لتأديب قريش ! كما في رواية الترمذي المتقدمة ، وكما في مستدرك الحاكم : 3/122 ، وكما في مجمع الزوائد : 9/134 و5/186، وقال (رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح ).

وقد غير بعض رواة قريش ( الأذكياء ) اسم الشيخين إلى ( ناس ) ! ففي مستدرك الحاكم : 2 / 125 : ( فقال ناس : صدقوا يا رسول الله ، ردهم إليهم ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم !! ) .

وكذا في كنز العمال : 10/473 : ( وقال الهندي عن مصادره : أبو داود وابن جرير وصححه ، ق ض ) .

وبعضهم حذفوا اسم أبي بكر وعمر كلياً من الحادثة ! كما رأيت في سنن أبي داود ، وكما في كنز العمال : 11/613 ، حيث رواه بعدة روايات عن أحمد ، وعن مصادر متعددة ، وليس فيه إطلاقاً ذكر لأبي بكر وعمر !

الرابعة : يتساءل الباحث ما هي العلاقة التي كانت تربط أبا بكر وعمر بسهيل بن عمرو ، ولماذا أيدا مطلب قريش المفضوح ؟!

ويتساءل : ما دام النبي صلى الله عليه وآله فهم خطة القرشيين وغضب ورفض مطلبهم ، وهددهم بالحرب ثانية ، بل وعدهم بها .. فلماذا استشار أبا بكر وعمر في الموضوع ؟!

على أي حال ، إن أقل ما تدل عليه النصوص : أن زعامة قريش كانت متمثلةً في ذلك الوقت بهؤلاء الأربعة ، الذين جمعتهم هذه الحادثة وهم : رسول الله محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى الله عليه وآله .

وسهيل بن عمرو العامري ، أحد زعماء المشركين بالأمس وزعيم قريش اليوم .

وأبو بكر التيمي وعمر العدوي ، الممثلان لقبيلتين صغيرتين لاوزن لهما في قريش ، ولكن لهما شخصياً وزن مهم لصحبتهما للنبي صلى الله عليه وآله ومع ذلك أيدا مطلب سهيل ضد النبي وضد الاسلام !

ولابد للباحث أن يفترض علاقةً واتفاقاً مسبقاً بين وفد قريش وبين الشيخين ، بل يفهم من بعض الروايات أن سهيلاً ووفد قريش نزلوا في المدينة في ضيافة عمر ، ثم جاء وأبو بكر معهم إلى النبي صلى الله عليه وآله لمساعدتهم على مطلبهم .

الخامسة : تضمن الموقف النبوي من الحادثة أربعة عناصر :

الأول ، الغضب النبوي من تفكير قريش الكافر ووقاحتها ، وقد ذكرته الروايات ولم تصفه بالتفصيل .

الثاني ، يأس النبي صلى الله عليه وآله من أن تصلح قريش ويحسن إسلامها، بل يأسه من أن تترك قريش تعقيد أئمتها اليهود وفرعنتهم ، وتخضع للحق ، إلا بقوة السيف !! ففي عدد من روايات الحادثة كما في الحاكم : 2/125 :

( فقال : ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا ) أي على الإسلام ! وكذا رواه أبو داود : 1/611 ، والبيهقي في سننه : 9/229 ، وكنز العمال : 10 / 473 ! وهو تصريح بأنهم لم يسلموا ، ولن يسلموا إلا تحت السيف !!

الثالث ، تهديدهم بسيف الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله ، علي بن أبي طالب عليه السلام الذي ترتعد منه فرائصهم ، لأنهم ذاقوا منه الأمرين ، فقد قتل مجموع المسلمين في حروبهم مع قريش نصف أبطالها ، وقتل علي وحده نصفهم أو أكثر !

ونلاحظ هنا أن النبي صلى الله عليه وآله كنَّى عن ذلك الشخص الذي سيبعثه الله على قريش فيضرب أعناقهم على الدين ، بأنه أنا أو رجل مني
( مجمع الزوائد: 9/133) ثم سماه عندما سأله أبو بكر وعمر عنه فقال ( أنا أو خاصف النعل - كنز العمال : 7/326 ) وغرضه من هذا الإجمال ، أن لاتتصور قريش أن المسألة بعيدة فتطمع في مشروعها ! بل ينبغي أن تحتمل أن الأمر قد يصدر غداً إلى علي بغزو مكة وقتل فراعنة قريش !

وغرضه صلى الله عليه وآله من تعبير ( مني ) أن يبين مكانة علي عليه السلام ، وأن تعلم قريش أنه مؤمنٌ وأنه هاشمي ، من ذلك الفرع الذي ما زالت تحسده ، وتموت منه غيضاً !!

فلو أنه صلى الله عليه وآله قال لهم : إن علياً سيقاتلهم على تأويل القرآن بعد ربع قرن ، كما قاتلتهم أنا على تنزيله بالأمس ، لطمعوا وقالوا : إذن عندنا فرصة ربع قرن من الزمان ، ولكل حادثٍ حديث !

بل روى في مجمع الزوائد حديثاً قال عنه : رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح : أن علياً عليه السلام كان يعلن في زمان النبي صلى الله عليه وآله تهديده لقريش ، ولكل من يفكر بالردة ، بأنه سوف يقاتلهم إلى آخر نفس ، وهو عملٌ وقائي بتوجيه النبي صلى الله عليه وآله لمنع قريش أن تفكر بالردة !

قال في مجمع الزوائد : 9/134 :

وعن ابن عباس أن علياًكان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل يقول : أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ، والله لاننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى . والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت. لاوالله .. إني لأخوه ، ووليه ، وابن عمه ، ووارثه، فمن أحق به مني ؟!

وروى في نفس المكان حديثاً آخر ينص على أن النبي صلى الله عليه وآله هدد قريشاً بعلي عليه السلام بعد فتح مكة مباشرةً ، قال : وعن عبد الرحمن بن عوف قال : لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة انصرف إلى الطائف فحاصرها سبع عشرة أو ثمان عشرة لم يفتتحها ، ثم أوغل روحةً أو غدوةً ، ثم نزل ثم هَجَّرَ فقال :

يا أيها الناس إني فرطٌ لكم وأوصيكم بعترتي خيراً ، وإن موعدكم الحوض. والذي نفسي بيده ليقيموا الصلاة ، وليؤتوا الزكاة ، أو لأبعثن إليهم رجلاً مني ، أو لنفسي ، فليضربن أعناق مقاتليهم ، وليسبين ذراريهم . قال فرأى الناس أنه أبو بكر أو عمر ، وأخذ بيد علي فقال : هذا هو .

رواه أبو يعلى وفيه طلحة بن جبر ، وثقه ابن معين في رواية ، وضعفه الجوزجاني ، وبقية رجاله ثقات . انتهى .

وهو تهديد نبوي ( لمسلمة ) الفتح ، له دلالاته الفاضحة لواقعهم ونواياهم، ويكمله تهديد علي عليه السلام لهم بالحرب إن هم أعلنوا ارتدادهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله .

الرابع ، أن النبي صلى الله عليه وآله حكم بكفر أصحاب هذا الطلب ، ولعمري إن مجرد طلبهم كافٍ لإثبات كفرهم !

ويؤكده الغضب النبوي وقوله صلى الله عليه وآله ( ما أراكم تنتهون يا معشر قريش ) ، يعني عن الكفر ومعاداة الله ورسوله .

وكذا قوله بأن الله سيبعث عليهم رجلاً يضرب أعناقهم على الدين ، مما يدل على أنهم ليسوا عليه . بل لايسكتون عن العمل ضد الإسلام إلا تحت السيف !!

ولكن فقهاء الخلافة يريدون دليلاً أكثر لمساً ، وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وآله ذلك الدليل الملموس فأبى أن يرد على القرشيين عبيدهم المملوكين ، وأخبرهم أنه أعتقهم فصاروا عتقاء الله تعالى !

فلو كان هؤلاء الطلقاء مسلمين ، ولو كانت ملكيتهم محترمة ، فكيف يجوز للنبي صلى الله عليه وآله أن يعتدي على ملكيتهم ويعتق عبيدهم ، وهو أتقى الأتقياء ، وهو القائل : لايحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه .. والقائل : إن أموالكم ودماءكم عليكم حرام . . . إلخ .

وقد تخبط الفقهاء في هذا الموضوع وحاول بعضهم أن يعد ذلك من خصوصيات النبي صلى الله عليه وآله .

ولكن كيف يصح أن يكون من خصوصياته وامتيازاته صلى الله عليه وآله أن يعتدي على ملكية المسلمين المحترمة ؟!!

 

أثر هذه الحادثة على قريش

الظاهر أن هذه الحادثة كانت آخر محاولات قريش لانتزاع اعتراف النبي صلى الله عليه وآله باستقلالها السياسي ، ولو بصيغة التحالف معه صلى الله عليه وآله ، أو بصيغة الحكم الذاتي تحت لواء دولته !

فهل سكتت قريش بعد هذه الحادثة ؟

الذين يقرؤون التاريخ المكتوب بحبر الخلافة القرشية ، ويؤمنون بالإسلام المفصل بمقصات رواتها.. يقولون : من المؤكد أن قريشاً تابت بعد هذه الحادثة وأسلم زعماؤها وأتباعهم وحسن إسلامهم ، وتصدقوا وأعتقوا وحجوا ، وأكثروا من الصوم والحج والصلاة !

ولكن النبي الصادق الأمين قال ( ما أراكم تنتهون يا معشر قريش ) !!

وطبيعة قريش ، وطينة زعامتها تؤكد أنهم واصلوا العمل على كل الجبهات الممكنة !! لكنهم تراجعوا في ذلك الموضوع رأوا أن حديدة النبي صلى الله عليه وآله حامية ، وأن التفكير بالاستقلال السياسي عنه صلى الله عليه وآله تفكيرٌ خاطيء ، وأن محمداً لايقعقع له بالشنان ، فهو من علياء هاشم وذروة شجعانها ، ومعه ابن عمه قَتَّال قريشٍ ومجندل أبطالها ، ومعه الأوس والخزرج الذين تجرؤوا لأول مرة في تاريخهم على حرب قريش ، وقتلوا من أبطالها !!

تراجع عند قريش منطق الإستقلال السياسي عن محمد صلى الله عليه وآله لكن تأكد عندها المنطق القائل إن دولة محمد شملت كل المنطقة ، وهي تتحفز لمقارعة الروم والفرس ، وقد وعد محمد المسلمين بذلك وتطلعوا إليه .. فلا معنى لأن تطالبه قريش بحكم مكة ومن أطاعها من قبائل العرب !

إنه لابد من التأقلم مع الوضع الجديد ، والعمل الجاد بالسياسة وبالعنف المنظم ، لكي ترث قريش كل دولة محمد صلى الله عليه وآله ! فمحمد من قريش ، وقريش أولى بسلطان ابنها ، ولا كلام للأنصار اليمانية ، ولا لغيرهم من القبائل .

أما مسألة بني هاشم الذين يسميهم محمد صلى الله عليه وآله العترة والقربى وتنزل عليه فيهم آيات القرآن ، ويصدر فيهم الأحاديث ، ويجعل لهم خمس ميزانية الدولة .. فلا بد من معالجة أمرهم بكل الطرق الممكنة !

نعم.. هذا ما وصلت إليه قريش التي أعتقها النبي صلى الله عليه وآله من القتل والاسترقاق الفعلي ! وهذا ما جازته به في حياته صلى الله عليه وآله !

وقد ساعدها عليه من ساعدها من أصحابه !!

 

الخليفة عمر المتعصب لقبائل قريش .. يشهد بفسادها !

قال الطبري في تاريخه : 3/426 :

( عن الحسن البصري قال : كان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان ، إلا بإذنٍ وأجل ، فشكوه ، فبلغه ، فقام فقال : ألا إني قد سننت الإسلام سن البعير ، يبدأ فيكون جذعاً ، ثم ثنياً ثم رباعياً ثم سديساً ، ثم بازلاً ، ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان .

ألا فإن الإسلام قد بزل ، ألا وإن قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله مغوياتٍ دون عباده ألا فأما وابن الخطاب حيٌّ فلا ، إني قائمٌ دون شعب الحرة ، آخذٌ بحلاقيم قريش وحجزها أن يتهافتوا في النار ! ) . انتهى . ورواه في كنز العمال : 13/75 ، وفي تاريخ المدينة لابن شبة : 2/779 ، وفيه : ( ألا وإني آخذ بحلاقيم قريش عند باب الحرة أن يخرجوا على أمة محمد فيكفروهم ) انتهى . ونحوه في : 2/401 .

وهذا الموقف من عمر يتضمن عدة أمور ، نكتفي بالإشارة إليها :

فهو أولاً ، كلام زعيمٍ لايشك أحد في ولائه لقريش ، لأنه حمل راية قريش وأحقيتها بخلافة النبي صلى الله عليه وآله في مقابل نبيها ، ثم في مقابل الأنصار وبني هاشم ! وخاض صراعاتٍ شديدة ، حتى خلص الخلافة من عترة النبي صلى الله عليه وآله ومن الأنصار وقدمها على طبق إلى قبائل قريش ! وسماه زعماؤها : ضمير قريش !

وهو ثانياً ، شهادةٌ منه بحق المهاجرين القرشيين بأنهم أناسٌ مضلون ، يجب أن يحبسوا في المدينة حتى لايضلوا المسلمين ويخرجوهم من الإسلام !!

وهذا الشهادة من عمر في القرشيين المسلمين ، تؤكد شهادة النبي صلى الله عليه وآله بأنهم لاينتهون عن عدائهم للاسلام إلا تحت سيف علي ؟!

وهو ثالثاً ، يتضمن تصوراً لانتهاء الإسلام في مدة قليلة ، وكأن الإسلام دورة سياسية تمر على الجزيرة والمناطق التي امتد إليها .. ثم تنتهي !

وقد ثبت عن الخليفة عمر أنه كان يرى أنه سوف لاتمر سنين طويلة حتى تأخذ الأمم الأخرى مناطق المسلمين بما فيها مكة ، ويهجرها أهلها وتخرب !!

ويظهر أن كعب الأحبار الذي سيطر على قلب عمر استطاع أن يقنعه بهذا الرأي ..! وهو بحثٌ مهم ، لكنه خارجٌ عن موضوعنا .

* * *