فهرس الكتاب

مكتبة الإمام أميرالمؤمنين

 

الفصل الرابع

تفسير آية الأمر بالتبليغ

 

نص الآية مع سياقها

ــ وقالت اليهود يد الله مغلولة ، غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا . بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء . وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً . وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً ، والله لايحب المفسدين .

ــ ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم . ولو أنهم أقاموا التوراة والأنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم. منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون.

ــ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ، إن الله لايهدي القوم الكافرين .

ــ قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ، وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً ، فلا تأس على القوم الكافرين .

ــ إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

ــ لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل وأرسلنا إليهم رسلاً ، كلما جاءهم رسولٌ بما لاتهوى أنفسهم فريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون . المائدة 64 – 70.

 

موضع الآية في القرآن

إذا قلنا بحجية السياق القرآني ، فلا بد أن نأخذ في تفسير الآية أمرين: الأول ، أنها من سورة المائدة التي هي آخر سورة نزلت من القرآن .

والثاني ، أنها وقعت في وسط آيات تتحدث عن أهل الكتاب . وعلى هذا تكون النتيجة : أن الآية تقول للنبي صلى الله عليه وآله : بلغ ولا تخف أهل الكتاب ، فنحن متكفلون بعصمتك منهم ، فلن يستطيعوا أن يضروك .

ولكن هذا التفسير لايقبله علماء المسلمين ، لاالسنة منهم ولا الشيعة ! لأنه صلى الله عليه وآله لم يبلغ اليهود والنصارى في الشهرين الذين عاشهما بعد الآية شيئا إضافياً بارزاً ، ولأن خطرهم عليه عند نزولها كان قد زال ، وقد خضعوا لحكمه ! وبذلك ينفتح البحث للسؤال عن مكان الآية ، وهل أن هذا مكانها من الأصل ؟ أم أنها وضعت هنا باجتهاد أحد الصحابة ؟

نحن لانقبل القول بوقوع تحريف في كتاب الله تعالى ، معاذ الله ، لكن ورد أن الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وآله قد اجتهدوا في وضع آياتٍ في سور من القرآن .. والظاهر أن وضع هذه الآية هنا من اجتهاداتهم ، أو من المصادفات .

 

أقوال العلماء السنيين

اختلف المفسرون والفقهاء السنيون في سبب نزول الآية وفي تفسيرها ، على أقوال عديدة ، أهمها سبعة أقوال ، أحدها موافقٌ لتفسير أهل البيت عليهم السلام ، وستة مخالفة .. ونورد فيما يلي الأقوال المخالفة مع مناقشاتها:

القول الأول

يزعم أنها نزلت في أول البعثة ، وأن الله تعالى بعث النبي وأمره بتبليغ رسالته فخاف على نفسه إذا بلغ ! فامتنع عن تبليغ الإسلام ، أو تباطأ ! فهدده الله تعالى وطمأنه . . فقام النبي صلى الله عليه وآله بالتبليغ !

وهذا يعني أن الآية نزلت قبل 23 سنة من نزول سورة المائدة ! وقد ذكر الشافعي هذا التفسير بصيغة ( يقال ) مما يدل على أنه غير مطمئن إليه !

قال في كتاب الأم : 4/ 168 :

قال الشافعي رحمه الله : ويقال والله تعالى أعلم : إن أول ما أنزل الله عليه: إقرأ باسم ربك الذي خلق ، ثم أنزل عليه بعدها ما لم يؤمر فيه بأن يدعو إليه المشركين ، فمرت لذلك مدة . ثم يقال : أتاه جبريل عليه السلام عن الله عز وجل بأن يعلمهم نزول الوحي عليه ويدعوهم إلى الإيمان به فكبر ذلك عليه وخاف التكذيب وأن يتناول ، فنزل عليه : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس . فقال يعصمك من قتلهم أن يقتلوك حين تبلغ ما أنزل إليك ما أمر به ، فاستهزأ به قوم فنزل عليه : فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين . إنا كفيناك المستهزئين . انتهى .

كفي للرد على هذا القول :

أولاً ، أن الآية من سورة المائدة ، وقد تقدم أنها آخر ما نزل من القرآن أو على الأقل من آخر ما نزل، بينما يدعي هذا القول أن الآية من أوائل ما نزل!!

وثانياًً ، أن الشافعي قد ضعف هذا الوجه ، لأنه نقله بصيغة يقال ويقال ، ولم ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وآله ، بل لم يتبناه .

وثالثاًً ، أنه لايمكن قبول هذه التهمة المشينة للنبي صلى الله عليه وآله ، أنه تلكأ أو امتنع عن تبليغ رسالات ربه ، بسبب خوفه من التكذيب والأذى والقتل ، حتى جاءه التهديد الإلهي بالعذاب ، والتأمين من الأذى ، فتحرك وبلغ !!

فهذا التصور لايناسب شخصية المؤمن العادي ، فضلاً عن النبي المعصوم صلى الله عليه وآله الذي هو أعظم الناس إيماناً وشجاعة , وقد صرحت الآيات الكريمة بأنه كان حريصاً على تبليغ الرسالة ، وهداية الناس أكثر مما فرض الله تعالى عليه .

رواية ( يقال ) التي ذكرها الشافعي

قال السيوطي في الدر المنثور : 2/298

أخرج أبو الشيخ عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً ، وعرفت أن الناس مكذبي فوعدني لأبلغن أو ليعذبني ، فأنزل : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . ( وكذا في أسباب النزول : 1/ 438 ) .

وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يهاب قريشاً فأنزل الله : والله يعصمك من الناس ، فاستلقى ثم قال : من شاء فليخذلني ، مرتين أو ثلاثاً .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد قال: لما نزلت : بلغ ما أنزل إليك من ربك ، قال : يا رب إنما أنا واحدٌ كيف أصنع يجتمع علي الناس ؟! فنزلت : وإن لم تفعل فما بلغت رسالته !. انتهى .

ورواه الواحدي في أسباب النزول :1/139 ، والطبري في تفسيره : 6/198 .

وقال النيسابوري في الوسيط : 2 / 208 : وقال الأنباري : ( كان النبي صلى الله عليه وآله يجاهر ببعض القرآن أيام كان بمكة ، ويخفي بعضه إشفاقاً على نفسه من شر المشركين إليه وإلى أصحابه . . . ) . انتهى .

ويكفي لرد هذه الروايات مضافاً إلى أن الآية جزء من سورة المائدة التي نزلت قبيل وفاته صلى الله عليه وآله ، أنها روايات غير مسندة ، بل هي قولٌ للحسن البصري ومجاهد وابن جريح وأمثالهم ، لاأكثر . وستعرف أن الحسن البصري يقصد رسالةً معينة ، وأنه أخذ هذا التعبير من خطبة النبي صلى الله عليه وآله في يوم الغدير ، وخاف أن يرويها على حقيقتها !

رواية ( يقال ) تتحول إلى رأي يتبناه العلماء !

مع أن المفسرين يعرفون أن الآية نزلت في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وآله، ويعرفون أن تفسيرها بحدث في أوائل البعثة إنما هو قول مفسرين من متفقهة التابعين في العصر الأموي ! أو روايات غير تامة السند ! لكن مع ذلك تراهم يفسرونها بهذا الوجه ويقدمون نزول الآية جهاراً نهاراً ثلاثاً وعشرين سنة ! ويزداد تعجبك عندما ترى منهم مفسرين محترمين مثل الزمخشري والفخر الرازي ! والسبب في ذلك أنهم يريدون الفرار من تفسيرها ببيعة الغدير ، ولا يجدون مفراً إلا بأحد أمرين :

إما تفسيرها بأول البعثة والقول بأن النبي صلى الله عليه وآله خاف وتباطأ في تبليغ الرسالة فهدده الله تعالى وطمأنه بالعصمة من الناس !

وإما تفسيرها بروايات رفع الحراسة المزعومة التي لايؤيدها التاريخ ، ولا يساعد عليها نص الآية ، كما سترى .

قال الزمخشري في الكشاف : 1/659 :

والله يعصمك : عِدَةٌ من الله بالحفظ والكلاءة ، والمعنى : والله يضمن لك العصمة من أعدائك ... فإن قلت : أين ضمان العصمة ، وقد شج في وجهه يوم أحد؟! ... قلت المراد : أنه يعصمه من القتل ! وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله : بعثني الله برسالته فضقت ذرعاً، فأوحى الله إلي إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك ، وضمن لي العصمة فقويت . انتهى . ونحوه في الوسيط : 2 / 208 .

وقال الرازي في تفسيره : مجلد 6 جزء 12 / 48 - 50 :

( يا أيها الرسول بلغ .. روي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وآله قال: إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعاً وعرفت أن الناس يكذبوني ، واليهود والنصارى ، وقريش يخوفوني فلما أنزل الله هذه الآية ، زال الخوف بالكلية...

في قوله : والله يعصمك من الناس سؤال : وهو كيف يجمع بين ذلك وبين ما روي أنه شج وجهه ، وكسرت رباعيته ؟

والجواب من وجهين : أحدهما أن المراد يعصمه من القتل ... وثانيها : أنها نزلت بعد يوم أحد ) . انتهى .

وقد خان الرازي الأمانة في النقل، فأضاف في نقله عن الحسن البصري ( اليهود والنصارى ) ، لأنه يريد تفسير الآية بالعصمة من اليهود والنصارى ، ويبعدها عن قريش !! ولا نلومه على حبه لقريش خاصة لجده أبي بكر بن أبي قحافة ، ولكن نطالبه بالأمانة العلمية ! فالمصادر التي نقلت هذا القول عن البصري لم يرد فيها ذكر لليهود والنصارى ! وستعرف أن البصري أخذ روايته من حديث الغدير !!

أما ابن كثير فقد زاد على الرازي وغيره كعادته ! قال في البداية: 3/ 53: ( روى ابن أبي حاتم في تفسيره ، عن أبيه ، عن الحسن بن عيسى بن ميسرة الحارثي ، عن عبد الله بن عبد القدوس ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث قال : قال علي : لما نزلت هذه الآية : وأنذر عشيرتك الأقربين ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبناً ، وادع لي بني هاشم ، فدعوتهم وإنهم يومئذ لأربعون غير رجل ، أو أربعون ورجل ، فذكر القصة نحو ما تقدم ، إلى أن قال : وبدرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام فقال : أيكم يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي ؟ قال فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله ، قال : وسكتُّ أنا لسن العباس .

ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس ، فلما رأيت ذلك ، قلت : أنا يا رسول الله ! قال : أنت ... ومعنى قوله في هذا الحديث : من يقضي عني ديني ويكون خليفتي في أهلي، يعني إذا مت ، وكأنه صلى الله عليه وسلم خشي إذا قام بإبلاغ الرسالة إلى مشركي العرب أن يقتلوه ، فاستوثق من يقوم بعده بما يصلح أهله ، ويقضي عنه ، وقد أمنه الله من ذلك في قوله تعالى : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس . الآية .

والمقصود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر يدعو إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً ، لايصرفه عن ذلك صارف ، ولا يرده عن ذلك راد ، ولا يصده عنه ذلك صاد ، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم وفي المواسم ومواقف الحج ...) . انتهى . وكرر كلامه بلفظه تقريباً في سيرته : 1 /460.

وقد خلط ابن كثير في كلامه هذا كثيراً ، وتعصب أكثر ! فقد بتر حديث ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) وحذف منه اختيار النبي صلى الله عليه وآله خليفته من عشيرته الأقربين بأمر ربه تعالى ، وأورد بدله حديثاً محرفاً ، وفسره المحرف بأن النبي صلى الله عليه وآله كان يخاف أن يقتله القرشيون ، فطلب من بني هاشم شخصاً يكون خليفته في أهله ويقضي دينه ، فقبل ذلك علي عليه السلام ، ثم انتفت الحاجة إلى ذلك بنزول الآية !!

لقد تجاهل ابن كثير أن النبي صلى الله عليه وآله كان مأموراً في تلك المرحلة بدعوة عشيرته الأقربين فقط ، ولم يكن مأموراً بعد بدعوة قريش وبقية الناس ! وأنه لامحل لما حبكته الرواية من خوفه من القتل والأذى !

ثم إن ابن كثير تفرد بربط آية العصمة بآية الأقربين ، ولم أجد أحداً سبقه إليه ولا تبعه عليه ، ولا ذكر هو من أين أخذه ؟! وكأن المهم عنده أن يحرف كلام النبي صلى الله عليه وآله في حديث الدار ويميع نصه على أن علياً أخوه ووزيره وخليفته من بعده ! وفي نفس الوقت يبعد آية التبليغ عن سورة المائدة ويوم الغدير !! وهذا قليل من كثير من عمل ابن كثير ، وإليك الحديث الذي بتره : قال الأميني في الغدير : 1/207 :

( وها نحن نذكر لفظ الطبري بنصه حتى يتبين الرشد من الغي : قال في تاريخه : 2/217 من الطبعة الأولى : إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟ قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت - وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً - : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه . فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا . قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ) .

وقال الأميني : 2/279 :

( وبهذا اللفظ أخرجه أبو جعفر الإسكافي المتكلم المعتزلي البغدادي المتوفى 240 في كتابه نقض العثمانية ، وقال : إنه روي في الخبر الصحيح .ورواه الفقيه برهان الدين في أنباء نجباء الأبناء / 46- 48 .وابن الأثير في الكامل 2/24 . وأبو الفدا عماد الدين الدمشقي في تاريخه 1/116 . وشهاب الدين الخفاجي في شرح الشفا للقاضي عياض 3/37 ( وبتر آخره ) وقال : ذكر في دلايل البيهقي وغيره بسند صحيح . والخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره / 390 . والحافظ السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه 6 / 392 نقلاً عن الطبري، وفي/ 397 ، عن الحفاظ الستة : ابن إسحاق ، وابن جرير، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، وأبي نعيم ، والبيهقي . وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 3 / 254 ) . انتهى .

ثم شكا صاحب الغدير من تحريف الذين حرفوا الحديث لإرضاء قريش ، ومنهم الطبري ، الذي رواه في تفسيره بنفس سنده المتقدم في تاريخه ، لكنه حذف كلام النبي صلى الله عليه وآله في حق علي عليه السلام ، فقال : ثم قال : إن هذا أخي وكذا وكذا . وتبعه على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية : 3 / 40 ، وفي تفسيره : 3 / 351 . انتهى .

* * *

 

القول الثاني

أنها نزلت في مكة قبل الهجرة بدون تحديد ، فاستغنى بها النبي صلى الله عليه وآله

عن حراسة عمه أبي طالب ، أو عمه العباس !

وهذا القول هو المشهور في مصادر السنيين ، ورواياته نوعان :

نوعٌ نص على تاريخ نزولها تصريحاً أو تلويحاً ، وأنه في مكة .

ونوعٌ لم يصرح بذلك ولم يربط نزولها بحراسة أبي طالب أو العباس ، ولكنه ربطه بإلغاء النبي صلى الله عليه وآله لحراسته ، وينبغي حمله على القول الأول ، لأن أصله رواية الترمذي عن عائشة ، وقد فهم منها البيهقي وغيره أنها تقصد مكة، كما ستعرف .

فالنوع الأول : كالذي رواه السيوطي في الدر المنثور : 2/ 298-299 ، قال : ( أخرج ابن مردويه والضياء في المختارة ، عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي آية أنزلت من السماء أشد عليك ؟

فقال : كنت بمنى أيام الموسم ، واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس في الموسم فنزل علي جبريل فقال : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس . قال : فقمت عند العقبة فناديت : يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي ولكم الجنة؟ أيها الناس قولوا لاإله إلا الله ، وأنا رسول الله إليكم ، تنجوا ، ولكم الجنة .

قال فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون علي بالتراب والحجارة ، ويبصقون في وجهي ، ويقولون كذاب صابيء ، فعرض علي عارض فقال : يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم اهد قومي فإنهم لايعلمون ، وانصرني عليهم أن يجيبوني إلى طاعتك ، فجاء العباس عمه فأنقذه منهم وطردهم عنه . قال الأعمش : فبذلك تفتخر بنو العباس ...

وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه ، حتى نزلت والله يعصمك من الناس ، فذهب ليبعث معه ، فقال : يا عم إن الله قد عصمني لاحاجة لي إلى من تبعث !!

وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ، وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه ، فقال : يا عم إن الله عصمني لاحاجة إلى من تبعث ! ) . انتهى .

والرواية في معجم الطبراني الكبير : 11/205 .

وفي مجمع الزوائد : 7 / 17 :

( قوله تعالى : والله يعصمك من الناس ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان عباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه ، فلما نزلت : والله يعصمك من الناس ، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس ) . رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه عطية العوفي وهو ضعيف .

( وعن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ، وكان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالاً من بني هاشم ، حتى نزلت هذه الآية : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ، فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه ، فقال : يا عم إن الله قد عصمني من الجن والأنس ) . رواه الطبراني وفيه النضر بن عبد الرحمن وهو ضعيف .

والنوع الثاني : أصله ما رواه الترمذي في سننه : 4/317 :

( عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحرس ، حتى نزلت هذه الآية : والله يعصمك من الناس ، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة ، فقال لهم : يا أيها الناس انصرفوا ، فقد عصمني الله . هذا حديث غريب .

وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري ، عن عبد الله بن شقيق قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس ، ولم يذكروا فيه عن عائشة ) . انتهى .

ورواه الحاكم في المستدرك : 2/313 عن عائشة أيضاً وقال عنه : ( هذا حديث صحيح الأسناد ، ولم يخرجاه ) . انتهى .

والظاهر أن حديث عائشة يقصد أن الآية نزلت في مكة أيضاً ومعنى
(فأخرج رأسه من القبة) أي من الخيمة التي كان فيها ، وقال لحراسه انصرفوا.

ويؤيد ذلك أن البيهقي رواه في سننه : 9/ 8 وعقب عليه بقول الشافعي المتقدم فقال : ( قال الشافعي : يعصمك من قتلهم أن يقتلوك حتى تبلغهم ما أنزل إليك ، فبلغ ما أمر به فاستهزأ به قوم ، فنزل : فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ، إنا كفيناك المستهزئين ) . انتهى .

ويؤيده أيضاًً أن المراغي نقل في تفسيره : مجلد 2 جزء 4/160 رواية السيوطي الأولى عن ابن مردويه عن ابن عباس ، ورواية الطبراني أيضاً ثم قال: ( روى الترمذي وأبو الشيخ ... أن النبي صلى الله عليه وآله كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الآية . . . ) .

وكذلك ذكر غيره ، مع أنه لايوجد في رواية عائشة في الترمذي ما يدل على أنها تقصد مكة ، فلعل كلمة ( في مكة ) سقطت من نسخة الترمذي الفعلية !

وقال السيوطي في الدر المنثور : 2/291 عن حديث عائشة : ( وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وأبونعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل ، وابن مردويه ، عن عائشة . . إلخ ) .

وروى السيوطي عدة روايات بنفس مضمونه عن غير عائشة ، وبعضها قد يفهم منه أن نزول الآية في المدينة ، فجعلناه في القول الثالث .

قال في الدر المنثور : 2 / 298 - 299 :

( وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه فلما نزلت : والله يعصمك من الناس ، ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرس .

وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن أبي ذر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لاينام إلا ونحن حوله من مخافة الغوائل ، حتى نزلت آية العصمة : والله يعصمك من الناس ) . انتهى .

وقد أخذ بهذا القول كثير من المفسرين والمؤلفين في السيرة ، فقد ذكره الزمخشري في الكشاف : 1/ 659 ، وكأنه قبله ، وكذلك فعل الرازي في تفسيره : مجلد 6جزء 12/50 ! مع أنهما قالا كما رأيت بنزول الآية في مكة! وبذلك يكونا حملا حديث عائشة على أول البعثة ، كما حملا قول الحسن البصري وأمثاله !

وقد أخذ بهذا القول أيضاًً السهيلي في الروض الأنف :2/290 .

والقسطلاني في إرشاد الساري : 5/86 .

وابن العربي في شرح الترمذي : مجلد 6 جزء 11/174 .

والعيني في عمدة القاري مجلد 7 جزء 14/95 .

وابن جزي في التسهيل : 1/244 .

والنويري في نهاية الأرب : مجلد 8 جزء 16/196 ، و19جزء 18/342 . والنيسابوري في الوسيط : 2/209 .

والدميري في حياة الحيوان : 1/79 . . وغيرهم ، وغيرهم .

وممن أخذ بهذا القول صاحب السيرة الحلبية : 3/327 ، وقد اغتنم فرصة الآية وارتباطها بحراسة النبي صلى الله عليه وآله لإثبات فضيلة لأبي بكر بن أبي قحافة فقال : ( حراسه صلى الله عليه وآله قبل أن ينزل عليه قوله تعالى : والله يعصمك من الناس .. سعد بن معاذ حرسه ليلة يوم بدر ، وفي ذلك اليوم لم يحرسه إلا أبو بكر شاهراً سيفه حين نام بالعريش ) . انتهى .

وبذلك ناقض هذا الحلبي نفسه وجاء بدليل على ضد مراده ، لأن إلغاء الحراسة إذا كان قبل الهجرة ، فلم تبق حاجة لحراسة أبي بكر وغيره في بدر ! على أن أصل وجود عريش للمسلمين في بدر أمر مشكوك ، لأن المسلمين نزلوا بالعدوة القصوى وهي منطقة مكشوفة !

مضافاً الى أن الحاكم روى رواية وصححها على شرط مسلم ، تذكر أن ثلث المسلمين حرسوا النبي صلى الله عليه وآله في بدر ، وهو أمر معقول .

قال الحاكم : 2/326 : ( عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال سألته عن الأنفال ، قال : فينا يوم بدر نزلت ، كان الناس على ثلاث منازل ، ثلثٌ يقاتل العدو ، وثلث يجمع المتاع ويأخذ الأسارى ، وثلث عند الخيمة يحرس رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما جمع المتاع اختلفوا فيه ... فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقسمه على السواء ) . انتهى .

* * *

ويدل على بطلان هذا القول الذي ربط الآية بالحراسة :

أولاً : ما تقدم في القول الأول .

ثانياً : نفس روايات القول الثالث وغيره ، التي تنص على أن إلغاء الحراسة المزعوم حصل في المدينة ، وليس في مكة .

ثالثاً : أن عمدة رواياته رواية القبة عن عائشة ، ورواية حراسة العباس .. أما الروايات الأخرى فكلها غير مسندة ، وغرض بعضها تقليل دور أبي طالب في نصرة النبي صلى الله عليه وآله كما هو واضحٌ ، وأن أبا طالب لم بكن له دور في مكة .

كما يلاحظ في الرواية الأولى أنها تريد إثبات فضيلة للعباس بأنه كان حارس النبي صلى الله عليه وآله في مكة بدل أبي طالب ، وأنه هو الذي عصم الله به رسوله من الناس ! مع أن دور العباس قبل الهجرة كان دوراً عادياً مثل بقية بني هاشم الذين تضامنوا مع النبي صلى الله عليه وآله وتحملوا معه حصار الشعب ، ولم يعرف عنهم أنهم أسلموا ولا برزوا في نصرته ، ولم يهاجروا معه إلى المدينة مثل علي وحمزة . ومن المعروف أن العباس قد أسر في بدر ، وأسلم عند فكاك الأسرى .

هذا مضافاً إلى تضعيف الهيثمي وغيره لهذه الرواية ، كما يؤيده ضعف متنها وركته . وسيأتي قول الألباني بعدم صحة نسبتها إلى عائشة .

رابعاًً : ما سيأتي في إثبات استمرار حراسته صلى الله عليه وآله الى آخر عمره الشريف ، ونفي كل ما يدل على إلغائها ، ومن ذلك رواية القبة .

* * *

القول الثالث

أنها نزلت في المدينة بدون تاريخ !

فقد روى السيوطي عدة روايات تربط نزول الآية بإلغاء النبي صلى الله عليه وآله للحراسة ، وليس فيها أن ذلك كان في مكة أو في المدينة ، ولكن يفهم من نص بعضها أو رواة بعضها ، أن نزولها كان في المدينة .

قال في الدر المنثور : 2/ 298 - 299 :

( وأخرج الطبراني وابن مردويه عن عصمة بن مالك الخطمي قال : كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل ، حتى نزلت : والله يعصمك من الناس ، فترك الحرس .

وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : يا أيها الرسول ... إلى قوله : والله يعصمك من الناس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لاتحرسوني ، إن ربي قد عصمني .

وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن شقيق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتقبه ناس من أصحابه ، فلما نزلت : والله يعصمك من الناس ، فخرج فقال : يا أيها الناس إلحقوا بملاحقكم ، فإن الله قد عصمني من الناس .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن محمد بن كعب القرظي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زال يحارسه أصحابه ، حتى أنزل الله : والله يعصمك من الناس ، فترك الحرس حين أخبره أنه سيعصمه من الناس .

وأخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن الربيع بن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرسه أصحابه ، حتى نزلت هذه الآية : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك .. الآية ) . انتهى .

ورواه ابن شبة في تاريخ المدينة : 1/301 ، عن عبد الله بن شقيق وعن محمد بن كعب القرظي .

ورواه الطبري في تفسيره : 6/199 ، عن عبد الله بن شقيق .

وابن سعد في الطبقات : مجلد 1 جزء 1/113 .

والبيهقي في دلائل النبوة : 2/180 .

* * *

ويدل على بطلان هذا القول وغيره من الأقوال التي ربطت نزول الآية بالحراسة : أن من المجمع عليه في أحاديث سيرته صلى الله عليه وآله أنه كان يطلب من قبائل العرب أن تحميه وتمنعه مما يراد به من القتل ، لكي يبلغ رسالة الله عز وجل ، وقد بايعه الأنصار بيعة العقبة على أن يحموه ويحموا أهل بيته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم .. فلو أن آية العصمة نزلت في مكة ، لما احتاج إلى شيء من ذلك! وسنذكر في آخر البحث أحاديث طلب النبي صلى الله عليه وآله من الأنصار أن يحموه ويحرسوه .. وأنهم بايعوه على ذلك !

ثم .. إن مصادر الحديث والتفسير والتاريخ مليئة بالروايات التي ذكرت حراسة النبي صلى الله عليه وآله وأنها كانت في مكة والمدينة ، خاصة في الحروب ، وأنها استمرت إلى آخر حياته صلى الله عليه وآله !

وفي الفصول التي عقدها المحدثون ، وكُتَّاب السيرة لحراسته صلى الله عليه وآله وقصصها ، وأسماء حراسه وقصصهم .. ما يكفي لرد هذه المقولة !

والعجيب أنك ترى بعضهم يذكر كل ذلك عن الحراسة ، ثم يقول إنه صلى الله عليه وآله ألغى الحراسة بعد نزول الآية في مكة قبل الهجرة ، أو بعد الهجرة! فتراه كأنه حلف يميناً أن يبعد آية العصمة من الناس عن يوم الغدير !

ولذا يجب رفض كل الروايات التي زعمت أنه ألغى الحراسة قبل هذا التاريخ ، لأنها تزعم إلغاءها مطلقاً ، في السلم والحرب والسفر والحضر !

وقد تقدمت في رواية الحاكم أن ثلث المسلمين كانوا يحرسونه صلى الله عليه وآله في بدر !

وروى أحمد : 2/222 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك قام من الليل يصلي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه ...!!!

ورواه في كنز العمال : 12/430 ، عن مسند عبد الله بن عمرو بن العاص .

وقال عنه في مجمع الزوائد : 10/367 : رواه أحمد ورجاله ثقات . انتهى .

وقد كانت غزوة تبوك في آخر سنة من حياته صلى الله عليه وآله .

وقال صاحب عيون الأثر في : 2/402 : ( وحرسه يوم بدر حين نام في العريش : سعد بن معاذ ، ويوم أحد : محمد بن مسلمة ، ويوم الخندق : الزبير بن العوام . وحرسه ليلة بني بصفية : أبو أيوب الأنصاري بخيبر ، أو ببعض طريقها ، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهم احفظ أبا أيوب كما بات يحفظني . وحرسه بوادي القرى : بلال ، وسعد بن أبي وقاص، وذكوان بن عبد قيس . وكان على حرسه عباد بن بشر، فلما نزلت: والله يعصمك من الناس ، ترك الحرس !! ) . انتهى .

وقد حاول أن يجيب على حراستهم للنبي صلى الله عليه وآله في تبوك ، ففسر نص الحراسة بأنه يعني انتظارهم انتهاء صلاته ! قال في : 1/119 :

( وفي حديث عمرو بن شعيب : فاجتمع رجال من أصحابه يحرسونه حتى إذا صلى ... والمراد والله أعلم : ينتظرون فراغه من الصلاة ! وأما حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين ، فقد كان انقطع منذ نزلت : والله يعصمك من الناس ، وذلك قبل تبوك . والله أعلم ) . انتهى .

ولكنه تفسير مخالف لنص الرواية في الحراسة !

وعلى كل حال ، فإن هذا القول بنزول الآية في المدينة يرد القول الأول الذي جعل تاريخ نزول الآية في مكة !

* * *

والنتيجة : أن دعوى إلغائه صلى الله عليه وآله للحراسة لادليل عليها من سيرته صلى الله عليه وآله ، بل الدليل على خلافها ، وأن بني هاشم كانوا يحرسونه في مكة حتى هجرته ، ثم كانوا هم وبقية أصحابه يحرسونه في المدينة، إلى آخر عمره الشريف .

وفي اعتقادي أن نفس محاولة تفسير الآية بإلغاء الحراسة دليلٌ على صحة تفسير أهل البيت عليهم السلام بأن الآية تقصد العصمة من الإرتداد ، فترى مخالفيهم يصرون على تفسيرها بالعصمة الحسية ويربطونها بالحراسة ، ويقعون في التناقض مع الواقع المعروف في قصص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وينكرون أسطوانة الحرس التي ما زالت تواجههم في المسجد النبوي !

ومن التناقضات التي وجدناها عند أصحاب هذا القول أن الألباني تبناه في أول كلامه ، ثم رد تصحيح الحاكم لحديث القبة الذي هو أساسه واعتبره صحيحاً مرسلاً ، ثم ذكر له شاهداً وهو حديث اغتيال شخصٍ للنبي ، الذي سيأتي في القول الخامس ، وحسنه !! فاعجب لهذا التهافت !!

 

القول الرابع

أنها نزلت في المدينة في السنة الثانية للهجرة بعد حرب أحد !

قال السيوطي في الدر المنثور : 2/291 :

( وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى الله ورسوله .

فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر ، لاأبرأ من ولاية موالي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي : أبا حباب أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة ، فهو لك دونه ! قال : إذن أقبل ، فأنزل الله : يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ، إلى أن بلغ إلى قوله : والله يعصمك من الناس ... ) . انتهى .

ويكفي في الدلالة على بطلان هذا القول ما تقدم في الحراسة ، ويضاف إليه أنه من كلام عطية بن سعد ولم يسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله ، والآيات المذكور ة فيها هي الآيات من 1 إلى 67 من سورة المائدة ، ولم يقل أحدٌ إن هذا الآيات نزلت في قصة ولاء ابن سلول لليهود ، الذي توفي قبل نزول سورة المائدة !

 

القول الخامس

أنها نزلت على أثر محاولة شخص اغتيال النبي صلى الله عليه وآله

وقد تناقضت رواياتهم في ذلك ، فذكر بعضها أن الحادثة كانت في غزوة بني أنمار المعروفة بذات الرقاع ، وأن شخصاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله بقصد اغتياله وطلب منه أن يعطيه سيفه ليراه ، فأعطاه النبي صلى الله عليه وآله إياه بكل سهولة .. ! أو كان علقه وغفل عنه ، أو دلى رجليه في البئر ... إلخ !

قال السيوطي في الدر المنثور : 2 / 298- 299 :

( وأخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار نزل ذات الرقاع بأعلى نخل ، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه ! فقال غورث بن الحرث : لأقتلن محمداً ، فقال له أصحابه : كيف تقتله ؟ قال أقول له أعطني سيفك ، فإذا أعطانيه قتلته به ! فأتاه فقال : يا محمد أعطني سيفك أشِمْهُ ، فأعطاه إياه فرعدت يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حال الله بينك وبين ما تريد ، فأنزل الله : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، الآية .

وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها ، فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ؟ قال : الله ، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه ، قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثرت دماغه فأنزل الله : والله يعصمك من الناس !

وأخرج ابن حبان وابن مردويه عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم دوحة وأظلها فينزل تحتها ، فنزل ذات يوم تحت شجرة ، وعلق سيفه فيها فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله يمنعني منك، ضع عنك السيف فوضعه ، فنزلت : والله يعصمك من الناس ) . انتهى .

وقال بعضهم : إن شخصاً أراد اغتيال النبي صلى الله عليه وآله فقبضوا عليه : ففي الدر المنثور : 2 / 299 : ( أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقيل هذا أراد أن يقتلك ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم تُرَعْ ، ولو أردت ذلك لم يسلطك الله علي.. ). انتهى .

* * *

ومما يدل على بطلان هذا القول وأنها لم تنزل في قصة غورث ولا شبهها :

أولاً ، أن غزوة ذات الرقاع أو بني أنمار كانت في السنة الرابعة من الهجرة ( سيرة ابن هشام : 3/225 ) وهو تاريخٌ قبل نزول سورة المائدة بسنوات ، كما أن بعض رواياتها بلا تاريخ ، وبعضها غير معقول !

ثانياً ، أن المصادر الأساسية التي روت قصة غورث وغزوة ذات الرقاع ، لم تذكر نزول آية العصمة فيها ، بل ذكر أكثرها تشريع صلاة الخوف والحراسة المشددة على النبي صلى الله عليه وآله حتى في الصلاة ، وهو كافٍ لرد رواية نزول الآية فيها !

أما ابن هشام فقد ذكر أن الآية التي نزلت في قصة غورث هي قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم ... ( سيرة ابن هشام : 3 / 227، تحقيق السقا ) ولكن ذلك لايصح أيضاً ، لأن تلك الآية من سورة المائدة أيضاً !

وأما البخاري وغيره فقد رووا فيها تشريع صلاة الخوف وتشديد الحراسة معاً ! قال في صحيحه : 5/53 : ( عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد ، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه ، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس في العضاه يستظلون بالشجر ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه ، قال جابر فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا ، فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا ! فقال لي من يمنعك مني ؟ قلت له : الله ، فها هو ذا جالس ، ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

عن أبي سلمة عن جابر قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها للنبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل من المشركين وسيف النبي صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة ، فاخترطه فقال له : تخافني ؟ فقال لا. قال فمن يمنعك مني ؟ قال الله . فتهدده أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأقيمت الصلاة ، فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين .وقال مسدد عن أبي عوانة عن أبي بشر : اسم الرجل غورث بن الحرث ) . انتهى .

وروى الحاكم نحوه : 3/29 ، وذكر فيه أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله صلى بعد الحادثة صلاة الخوف بالحراسة المشددة ! وقال عن الحديث : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

وكذلك روى أحمد قصة غورث في : 3/364 و390 ، وذكر فيها صلاة الخوف ولم يذكر نزول الآية !

وراجع أيضاً : 4/59 ، ورواها الهيثمي في مجمع الزوائد : 9/ 8 ، وفيها تفصيلات كثيرة وليس فيها ذكر نزول الآية !!

وروى الكليني صيغة معقولة لقصة غورث ، قال في الكافي : 8/127 :

( أبان عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : نزل رسول الله صلى الله عليه وآله في غزوة ذات الرقاع تحت شجرة على شفير واد ، فأقبل سيل فحال بينه وبين أصحابه ، فرآه رجل من المشركين ، والمسلمون قيام على شفير الوادي ينتظرون متى ينقطع السيل ، فقال رجل من المشركين لقومه: أنا أقتل محمداً، فجاء وشد على رسول الله صلى الله عليه وآله بالسيف ثم قال : من ينجيك مني يا محمد ؟ فقال : ربي وربك ، فنسفه جبرئيل عن فرسه فسقط على ظهره ، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وأخذ السيف ، وجلس على صدره وقال : من ينجيك مني يا غورث ؟ فقال: جودك وكرمك يا محمد ! فتركه ، فقام وهو يقول : والله لأنت خير مني وأكرم ) . انتهى .

وهكذا لاتجد أثراً في هذه المصادر لنزول الآية في ذات الرقاع ، أو في قصة غورث ، بل تلاحظ أن النبي صلى الله عليه وآله صلى بعد الحادثة بالحراسة المشددة ! فهل صار إلغاء الحراسة عند أصحاب هذا القول ، أن النبي صلى الله عليه وآله لم يطمئن قلبه بالعصمة المزعومة فأمر بتشديد الحراسة ؟!

ومن تخبطهم في قصة غورث وآية التبليغ ، ما تراه من الرد والبدل بين ابن حجر والقرطبي ، فقد قال القرطبي إن كون النبي وحده في القصة يدل على عدم حراسته حينذاك ، وأن الآية نزلت قبلها !!

فأجابه ابن حجر : لا، فالآية نزلت يومذاك فألغى الحرس ، أما قبلها فكان أحياناً يضعف إيمانه فيتخذ الحرس ، وأحياناً يقوى فيلغيه ، وفي قصة غورث كان بلا حراسة لقوة إيمانه يومذاك !!

قال في فتح الباري : 8/2752 : ( قوله باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة والإستظلال بالشجر . ذكر فيه حديث جابر الماضي قبل بابين من وجهين ، وهو ظاهر فيما ترجم له ، وقد تقدمت الإشارة إلى مكان شرحه .

قال القرطبي : هذا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان في هذا الوقت لايحرسه أحدٌ من الناس ، بخلاف ما كان عليه في أول الأمر ، فإنه كان يحرس حتى نزل قوله تعالى : والله يعصمك من الناس .

قلت : قد تقدم ذلك قبل أبواب ، لكن قد قيل إن هذه القصة سبب نزول قوله تعالى : والله يعصمك من الناس ، وذلك فيما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : كنا إذا نزلنا طلبنا للنبي صلى الله عليه وسلم أعظم شجرة وأظلها.. فنزل تحت شجرة ، فجاء رجل فأخذ سيفه فقال : يا محمد من يمنعك مني ؟ قال : الله ، فأنزل الله : والله يعصمك من الناس ، وهذا إسناد حسن .

فيحتمل إن كان محفوظاً أن يقال : كان مخيراً في اتخاذ الحرس ، فتركه مرةً لقوة يقينه ، فلما وقعت هذه القصة ونزلت هذه الآية ، ترك ذلك !! . انتهى .

فأعجب لابن الحجر الذي لم يلتفت إلى أن الآية من سورة المائدة التي نزلت سنة عشر ! وأن غزوة ذات الرقاع سنة أربع ! وأن مجئ راويها أبي هريرة إلى المدينة كان سنة سبع ! وغفل عن تشديد الحراسة وصلاة الخوف في ذات الرقاع ! وهو مع ذلك يشرح رواية البخاري في صلاة الخوف !! وما ذلك إلا لأن ذهنه مملوءٌ بما زرَّقوه فيه من ربط آية العصمة بالحراسة ، لإبعادها عن بيعة الغدير !!

وأخيراً . . فقد تقدمت روايات حراسة النبي صلى الله عليه وآله في تبوك ، وهي بعد غزوة ذات الرقاع بنحو ست سنوات ، ونضيف إليها هنا حراسته في فتح مكة الذي كان بعد هذه الحادثة بنحو أربع سنوات ‍! فقد روى البخاري أن المسلمين كانوا يحرسون النبي صلى الله عليه وآله حينئذ !

قال في صحيحه : 5/91 : عن هشام عن أبيه قال : لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشاً ، خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبلوا يسيرون حتى أتوا مر الظهران ، فإذا هم بنيران كأنها نيران عرفة ، فقال أبو سفيان ما هذه ، لكأنها نيران عرفة ؟! فقال بديل بن ورقاء : نيران بني عمرو ! فقال أبو سفيان : عمرو أقل من ذلك ! فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأدركوهم فأخذوهم ، فأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ... انتهى .

ونضيف إلى ذلك أسطوانة الحراسة التي ما زالت في المسجد النبوي الشريف ، والتي عرفت بهذا الاسم في عام الوفود ، وهو السنة التاسعة كما في سيرة ابن هشام : 4/214 ، تحقيق السقا ! فإذا استطاع أصحاب هذا القول أن ينكروا حراسة النبي صلى الله عليه وآله ، يبقى عليهم أن ينكروا وجود الأسطوانة في المسجد النبوي !! وقد يفعلون .

* * *

 

القول السادس

لم يعين أصحابه تاريخ نزول الآية ، ولا ربطوها بالحراسة ، ولكنهم قالوا إنها عامة تؤكد على النبي صلى الله عليه وآله وجوب تبليغ الرسالة ، وإلا فإنه لم يبلغها ! ففي الدر المنثور : 2/299 :

( وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في الآية قال : أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سيكفيه الناس ويعصمه منهم ، وأمره بالبلاغ ، وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قيل له : لو احتجبت فقال : والله لايدع الله عقبى للناس ما صاحبتهم ) . انتهى.

وهذا القول يشبه القول الأول ، ويرد عليه ما تقدم ، وأن رواياته غير مسندة ، وأنه لاينطبق على معنى الآية ، ولا يكفي لتصحيح القضية الشرطية فيها ، كما ستعرف .

* * *

القول الموافق لرأي لأهل البيت عليهم السلام

قال في الدر المنثور : 2/298 :

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكرعن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب .

وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أيها لرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - أن علياً مولى المؤمنين - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ! انتهى .

وفي كتاب المعيار والموازنة / 213 :

وعن جابر بن عبد الله وعبد الله بن العباس الصحابيين قالا : أمر الله محمداً أن ينصب علياًً للناس ويخبرهم بولايته ، فتخوف رسول الله أن يقولوا حابى ابن عمه وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله إليه : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . فقام رسول الله بولايته يوم غدير خم . انتهى .

وقال في هامشه :

وروى السيوطي في الدر المنثور عن الحافظ ابن مردويه وابن عساكر بسنديهما عن أبي سعيد الخدري قال: لما نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً يوم غدير خم فنادى له بالولاية هبط جبرئيل عليه بهذه الآية : اليوم أكملت لكم دينكم ...

أقول : ورواه أيضاً بأسانيد الحافظ الحسكاني في الحديث 211 وتواليه من شواهد التنزيل 1 / 157 . ورواه أيضاً ابن عساكر في الحديث ( 585 - 586 ) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق : 2 / 85 ط 1 .

وقد روى الخطيب والحافظ الحسكاني وابن عساكر وابن كثير والخوارزمي وابن المغازلي بأسانيد عن أبي هريرة قال : من صام يوم ثماني عشر من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً ، وهو يوم غدير خم لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب ، فقال : ألست ولي المؤمنين ؟ قالوا : بلى يا رسول الله . قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فقال عمر بن الخطاب : بخ بخ لك يا ابن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ، فأنزل الله عز وجل : اليوم أكملت لكم دينكم ... ومن أراد المزيد فعليه بما ألفه علماء المسلمين في هذا الحديث قرناً بعد قرن مثل رسالة الحافظ ابن عقدة ، وحديث الغدير للطبري المفسر والمؤرخ الشهير، وحديث الغدير للحافظ الدارقطني ، والذهبي ، وعبيد الله الحسكاني ، ومسعود السجستاني وغيرهم . وعليك بكتاب الغدير ، وحديث الغدير من كتاب عبقات الأنوار ، فإن فيهما ما تشتهي الأنفس . انتهى .

وفي تفسير الميزان : 6/54 :

وعن تفسير الثعلبي قال قال جعفر بن محمد : معنى قوله : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ، في فضل علي ، فلما نزلت هذه أخذ النبي صلى الله عليه وآله بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه .

وعنه بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآية قال : نزلت في علي بن أبي طالب ، أمر الله النبي صلى الله عليه وآله أن يبلغ فيه فأخذ بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه .

وفي الغدير : 1/214 :

نزلت هذه الآية الشريفة يوم الثامن عشر من ذي الحجة ( 10 ه‍ ) سنة حجة الوداع لما بلغ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله غدير خم ، فأتاه جبرئيل بها على خمس ساعات مضت من النهار فقال : يا محمد إن الله يقرؤك السلام ويقول لك : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - في علي - وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، الآية . وكان أوائل القوم وهم مائة ألف أو يزيدون قريباً من الجحفة فأمر أن يرد من تقدم منهم ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان ، وأن يقيم علياً عليه السلام علماً للناس ، ويبلغهم ما أنزل الله فيه ، وأخبره بأن الله عز وجل قد عصمه من الناس .

وما ذكرناه من المتسالم عليه عند أصحابنا الإمامية ، غير أنا نحتج في المقام بأحاديث أهل السنة في ذلك . انتهى .

وقد ذكر الأميني رحمه الله ثلاثين مؤلفاً لعلماء سنيين أوردوا فيها أحاديث نزول الآية في ولاية علي عليه السلام نذكر عدداً منهم باختصار :

1 – الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى 310، أخرج بإسناده في كتاب ( الولاية ) في طرق حديث الغدير ، عن زيد بن أرقم قال : لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بغدير خم في رجوعه من حجة الوداع ، وكان في وقت الضحى وحر شديد ، أمر بالدوحات فقمَّت ، ونادى الصلاة جامعة ، فاجتمعنا فخطب خطبة بالغة ثم قال: إن الله تعالى أنزل إلي: بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ...

2 - الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمد الحنظلي الرازي المتوفى 327 .

3 - الحافظ أبو عبد الله المحاملي المتوفى 330 ، أخرج في أماليه بإسناده عن ابن عباس ...

4 - الحافظ أبو بكر الفارسي الشيرازي المتوفى 407 ، روى في كتابه ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين ، بالأسناد عن ابن عباس ...

5 - الحافظ ابن مردويه المولود 323 والمتوفى 416 ، أخرج بإسناده عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت يوم غدير خم في علي بن أبي طالب ، وبإسناد آخر عن ابن مسعود أنه قال : كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك أن علياً مولى المؤمنين ...

6 - أبوإسحاق الثعلبي النيسابوري المتوفى427، روى في تفسيره الكشف والبيان . .

7 - الحافظ أبو نعيم الأصبهاني المتوفى 430 ، روى في تأليفه : ما نزل من القرآن في علي . . .

8 - أبو الحسن الواحدي النيسابوري المتوفى 468 ، روى في أسباب النزول . . .

9 - الحافظ أبو سعيد السجستاني المتوفى 477 ، في كتاب الولاية بإسناده من عدة طرق عن ابن عباس . . .

10 - الحافظ الحاكم الحسكاني أبو القاسم روى في شواهد التنزيل لقواعد التفصيل والتأويل، بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، وجابر...

11 - الحافظ أبو القاسم ابن عساكر الشافعي المتوفى 571 ، أخرج بإسناده عن أبي سعيد الخدري ...

12 - أبو الفتح النطنزي أخرج في الخصائص العلوية ، بإسناده عن الإمامين محمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق ...

13 - أبو عبد الله فخر الدين الرازي الشافعي المتوفى 606 ، قال في تفسيره الكبير 3/636 : العاشر : نزلت الآية في فضل علي ، ولما نزلت هذه الآية أخذ بيده وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ...

14 - أبو سالم النصيبي الشافعي المتوفى 652 ، في مطالب السؤول ...

15 - الحافظ عز الدين الرسعني الموصلي الحنبلي المولود 589 ...

16 - شيخ الإسلام أبو إسحاق الحمويني المتوفى 722 ، أخرج في فرايد السمطين عن مشايخه الثلاثة : السيد برهان الدين إبراهيم بن عمر الحسيني المدني ، والشيخ الإمام مجد الدين عبد الله بن محمود الموصلي ، وبدر الدين محمد بن محمد بن أسعد البخاري ، بإسنادهم عن أبي هريرة : أن الآية نزلت في علي .

17 - السيد علي الهمداني المتوفى 786 ، قال في مودة القربى : عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أقبلت مع رسول الله صلىالله عليه وسلم في حجة الوداع، فلما كان بغدير خم نودي الصلاة جامعة ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وأخذ بيد علي ، وقال : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله .

فقال : ألا من أنا مولاه فعلي مولاه . اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه . فلقيه عمر رضي الله عنه فقال : هنيئاً لك يا علي بن أبي طالب ، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة . وفيه نزلت : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . الآية .

18 - بدر الدين بن العيني الحنفي المولود 762 والمتوفى 855 ، ذكره في عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 8/584 في قوله تعالى : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل... عن الحافظ الواحدي ...

* * *

الوهابيون وحديث الغدير

من العجيب أن يبقى القول الموافق لأهل البيت عليهم السلام في سبب نزول آية التبليغ حياً في مصادر إخواننا السنيين ! لأنه ينسف الأسس التي أقام القرشيون عليها خلافتهم ، وبذلوا جهودهم ليقنعوا بها المسلمين .

ولهذا ترى النواصب يغيظهم وجود حديث الغدير ، وحديث آية التبليغ وأمثاله ، ويودون لو أن شيئاً منها لم يكن موجوداً في الصحاح والمصادر .. وتراهم بدل أن يبحثوها بحثاً علمياً على ضوء القرآن والمتفق عليه من السنة .. يكيلون التهم والسباب للشيعة وعلماءالشيعة لأنهم اطلعوا عليها ، وأخرجوها لهم من مصادرهم!!

قال الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة 5/644 :

عصمته من الناس : كان يحرس حتى نزلت هذه الآية : والله يعصمك من الناس ، فأخرج رسول الله رأسه من القبة ، فقال لهم : يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله . أخرجه الترمذي : 2/175 ، وابن جرير : 6/199 ، والحاكم : 2/3 ، من طريق الحارث بن عبيد عن سعيد الجريري ، عن عبد بن شقيق ، عن عائشة قالت : فذكره . وقال الترمذي : حديث غريب . وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري عن عبد الله بن شقيق قال : كان النبي يحرس .. ولم يذكروا فيه : عن عائشة .

قلت : وهذا أصح ، لأن الحارث بن عبيد - وهو أبو قدامة الأيادي - فيه ضعف من قبل حفظه ، أشار إليه الحافظ بقوله : صدوق يخطيء . وقد خالفه بعض الذين أشار إليهم الترمذي ، ومنهم إسماعيل بن علية الثقة الحافظ ، رواه ابن جرير بإسنادين عنه عن الجريري مرسلاً .

قلت : فهو صحيح مرسلاً ، وأما قول الحاكم عقب المسند عن عائشة : صحيح الأسناد فمردود ، لما ذكرنا ، وإن تابعه الذهبي .

نعم الحديث صحيح ، فإن له شاهداً من حديث أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا نزل منزلاً نظروا أعظم شجرة يرونها فجعلوها للنبي فينزل تحتها وينزل أصحابه بعد ذلك في ظل الشجر ، فبينما هو نازل تحت شجرة وقد علق السيف عليها إذ جاء أعرابي فأخذ السيف من الشجرة ثم دنا من النبي وهو نائم فأيقظه ، فقال : يا محمد من يمنعك مني الليلة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله الله . فأنزل الله : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس.. الآية. أخرجه ابن حبان في صحيحه 1739 موارد وابن مردويه كما في ابن كثير 6/198 من طريقين عن حماد بن سلمة : حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه. قلت . وهذا إسناد حسن . وذكر له ابن كثير شاهدا ثانيا من حديث جابر رواه ابن أبي حاتم .

وله شاهدان آخران عن سعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي مرسلاً .

واعلم أن الشيعة يزعمون - خلافاً للأحاديث المتقدمة - أن الآية المذكورة نزلت يوم غدير خم في علي رضي الله عنه ويذكرون في ذلك روايات عديدة مراسيل ومعاضيل أكثرها ، ومنها عن أبي سعيد الخدري ولا يصح عنه كما حققته في الضعيفة ( 4922 ) والروايات الأخرى أشار إليها عبد الحسين الشيعي في مراجعاته / 38 دون أي تحقيق في أسانيدها كما هي عادته في سرد أحاديث كتابه ، لأن غايته حشد كل ما يشهد لمذهبه سواء صح أو لم يصح، على قاعدتهم : الغاية تبرر الوسيلة ! فكن منه ومن رواياته على حذر ، وليس هذا فقط ، بل هو يدلس على القراء - إن لم أقل يكذب عليهم - فإنه قال في المكان المشار إليه في تخريج أبي سعيد هذا المنكر بل الباطل : أخرجه غير واحد من أصحاب السنن كالإمام الواحدي .. !

ووجه كذبه : أن المبتدئين في هذا العلم يعلمون أن الواحدي ليس من أصحاب السنن الأربعة ، وإنما هو مفسر يروي بأسانيده ما صح وما لم يصح، وحديث أبي سعيد هذا مما لم يصح ، فقد أخرجه من طريق فيه متروك شديد الضعف ! كما هو مبين في المكان المشار إليه من الضعيفة .

وهذه من عادة الشيعة قديماً وحديثاً ، أنهم يستحلون الكذب على أهل السنة عملاً في كتبهم وخطبهم ، بعد أن صرحوا باستحلالهم للتقية ، كما صرح بذلك الخميني في كتابه كشف الأسرار ، وليس يخفى على أحد أن التقية أخت الكذب ولذلك قال أعرف الناس بهم شيخ الإسلام ابن تيمية : الشيعة أكذب الطوائف . وأنا شخصياًّ قد لمست كذبهم لمس اليد في بعض مؤلفيهم ، وبخاصة عبد الحسين هذا ، والشاهد بين يديك فإنه فوق كذبته المذكورة أوهم القراء أن الحديث عند أهل السنة من المسلمات بسكوته عن علته ، وادعائه كثرة طرقه .

وقد كان أصرح منه في الكذب الخميني فإنه صرح في الكتاب المذكور / 149 ، أن آية العصمة نزلت يوم غدير خم بشأن إمامة علي بن أبي طالب ، باعتراف أهل السنة ، واتفاق الشيعة . كذا قال عامله الله بما يستحق . وسأزيد هذا الأمر بياناً في الضعيفة ، إن شاء الله تعالى . انتهى .

ونقول للباحث الألباني :

أولاً : دع عنك التهم والشتائم وإصدار الأحكام ، وتصنيف من هم أصدق الطوائف الإسلامية ومن هم أكذبها ، فإن السنيين والشيعيين فيهم أنواع الناس .. ولكن النواصب لهم حكم خاص ..

ولا تنس أيها الباحث أن ابن تيمية الذي لم ينصف علي بن أبي طالب عليه السلام لايمكنه أن ينصف شيعته .. وقد دافعت أنت عن علي عليه السلام ورددت ظلم ابن تيمية وإنكاره حديث الغدير ( من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ) فصححت الحديث واعترفت بالحق مشكوراً ، وكتبت صفحات في ذلك في أحاديثك الصحيحة 5/330 برقم 1750 ، ثم قلت في / 344 : ( إذا عرفت هذا فقد كان الدافع لتحرير الكلام على الحديث وبيان صحته : أنني رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قد ضعَّف الشطر الأول من الحديث ، وأما الشطر الآخر فزعم أنه كذب ! وهذا من مبالغاته الناتجة في تقديري من تسرعه في تضعيف الأحاديث قبل أن يجمع طرقها ، ويدقق النظر فيها . والله المستعان .

أما ما يذكره الشيعة في هذا الحديث وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله قال في علي رضي الله عنه: إنه خليفتي من بعدي، فلا يصح بوجه من الوجوه ، بل هو من أباطيلهم الكثيرة التي دل الواقع التاريخي على كذبها ، لأنه لو فرض أن النبي قاله لوقع كما قال لأنه ( وحي يوحى ) والله سبحانه لايخلف وعده!!) . انتهى .

ونلاحظ أن الشيخ الألباني الذي انتقد ( تسرع ) إمامه ابن تيمية ، تسرع هو أيضاً وجعل الإخبار التشريعي إخباراً غيبياً ! وشتان ما بينهما .. فلو صح ذلك لانتقض حديثه الذي صححه وأحكمه ، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) فهو أيضاً ( وحيٌ يوحى ) فوجب على قوله بأنه إخبار غيبي عما سيقع أن يكون علي ولياًّ لكل المسلمين وسيداً لهم ، وأن يكونوا معه كالعبيد كما كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله .. ولكن ذلك لم يتحقق ، بل لقد هاجموا بيت علي وفاطمة عليهما السلام في اليوم الثاني لوفاة النبي صلى الله عليه وآله أو الثالث ، وهددوا المعتصمين فيه بإحراقه عليهم إن لم يخرجوا ويبايعوا .. ثم أجبروا علياًّ إجباراً على البيعة كما هو معروف ..

فقوله صلى الله عليه وآله : عليٌّ خليفتي من بعدي ، مثل قوله : من كنت مولاه فعلي مولاه ، وإذا كان الأول إخباراً عما سيقع ، كما ادعى الألباني ، فكذلك الثاني، فكيف تحقق عكسه وصار معنى : من كنت سيده فعلي سيده، أنَّ الرعية أجبروا سيدهم على بيعتهم ؟!

إن الإخبار في الحديثين تشريعي أيها المحدث ، وبيانٌ لتكليف المسلمين وما يجب عليهم ، وليس إخباراً غيبياً عما سيقع ، حتى لايصح وقوع غيره !

ونقول له ثانياً : عندما ضعَّفت حديث سبب نزول آية ( والله يعصمك من الناس) في بيعة الغدير ، هل جمعت طرقه ودققت النظر فيها فقلت ( مراسيل ومعاضيل أكثرها ) ؟

هل رأيت طرق الثعلبي ، وأبي نعيم ، والواحدي ، وأبي سعيد السجستاني، والحسكاني ، وبحثت أسانيدهم فوجدتها كلها مرسلة أو ضعيفة أو معضلة ، ووجدت في رواتها من لم تعتمد أنت عليهم ؟! أم وقعت فيما وقع فيه ابن تيمية من التسرع والتعصب الذي انتقدته عليه؟!

على أي حالٍ ، لم يفت الوقت ، فنرجو أن تتفضل بملاحظة ما كتبناه في تفسير الآية ، وأن تدقق الطرق والأسانيد التي قدمناها ، وتبحثها بموازينك التي تريدها ، بشرط أن لاتناقض ما كتبته في كتبك ، وأن لاتضعِّف راوياً هنا لأنه روى فضيلةً لعلي ، وقد اعتمدت عليه وقبلت روايته في مكان آخر لأنه روى فضيلة لخصوم علي !

ونذكر فيما يلي أسانيد مصدر واحد هو : كتاب شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني عبيد الله بن عبد الله بن أحمد العامري القرشي ، تلميذ الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك .

قال في كتابه المذكور ، بتحقيق المحمودي : 1/250- 257 :

244 - أخبرنا أبو عبد الله الدينوري قراءة ، ( قال ) حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق ( بن إبراهيم ) السني قال : أخبرني عبد الرحمان بن حمدان قال : حدثنا محمد بن عثمان العبسي قال : حدثنا إبراهيم بن محمد بن ميمون قال : حدثنا علي بن عابس عن الأعمش عن أبي الجحاف ( داود بن أبي عوف ) عن عطية : عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) .

245 - أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ جملة ( قال : أخبرنا ) علي بن عبد الرحمان بن عيسى الدهقان بالكوفة قال : حدثنا الحسين بن الحكم الحبري قال : حدثنا الحسن بن الحسين العرني قال : حدثنا حبان بن علي العنزي قال : حدثنا الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عز وجل : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك .. الآية . ( قال ) نزلت في علي ، أمر رسول الله صلى الله عليه أن يبلغ فيه فأخذ رسول الله بيد علي فقال : من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه .

246 - رواه جماعة عن الحبري وأخرجه السبيعي في تفسيره عنه فكأني سمعته من السبيعي ورواه جماعة عن الكلبي .

وطرق هذا الحديث مستقصاة في كتاب دعاء الهداة إلى أداء حق الموالاة من تصنيفي في عشرة أجزاء .

247 - أخبرنا أبو بكر السكري قال : أخبرنا أبو عمرو المقري قال : أخبرنا الحسن بن سفيان قال : حدثني أحمد بن أزهر قال : حدثنا عبد الرحمن بن عمرو بن جبلة قال: حدثنا عمر بن نعيم بن عمر بن قيس الماصر قال : سمعت جدي قال: حدثنا عبد الله بن أبي أوفى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم غدير خم وتلا هذه الآية ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) ثم رفع يديه حتى يرى بياض إبطيه ثم قال : ألا من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه . ثم قال : اللهم اشهد .

248 - أخبرنا عمرو بن محمد بن أحمد العدل بقراءتي عليه من أصل سماع نسخته قال : أخبرنا زاهر بن أحمد قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى الصولي قال : حدثنا المغيرة بن محمد قال : حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال : حدثني أبي قال : سمعت زياد بن المنذر يقول : كنت عند أبي جعفر محمد بن علي وهو يحدث الناس إذ قام إليه رجل من أهل البصرة يقال له : عثمان الأعشى - كان يروي عن الحسن البصري - فقال له : يا بن رسول الله جعلني الله فداك إن الحسن يخبرنا أن هذه الآية نزلت بسبب رجل ولا يخبرنا من الرجل ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) . فقال : لو أراد أن يخبر به لأخبر به ولكنه يخاف . إن جبرئيل هبط على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على صلاتهم ، فدلهم عليها. ثم هبط فقال : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على زكاتهم ، فدلهم عليها . ثم هبط فقال: إن الله يأمرك أن تدل أمتك على صيامهم ، فدلهم . ثم هبط فقال: إن الله يأمرك أن تدل أمتك على حجهم ، ففعل . ثم هبط فقال : إن الله يأمرك أن تدل أمتك على وليهم على مثل ما دللتهم عليه من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم وحجهم ليلزمهم الحجة في جميع ذاك . فقال رسول الله : يا رب إن قومي قريبو عهد بالجاهلية ، وفيهم تنافس وفخر ، وما منهم رجل إلا وقد وتره وليهم ، وإني أخاف ، فأنزل الله تعالى : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) يريد فما بلغتها تامة ( والله يعصمك من الناس ) فلما ضمن الله ( له ) بالعصمة وخوفه أخذ بيد علي بن أبي طالب ثم قال : يا أيها الناس من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه . قال زياد : فقال عثمان : ما انصرفت إلى بلدي بشيء أحب إلي من هذا الحديث .

249 - حدثني علي بن موسى بن إسحاق عن محمد بن مسعود بن محمد قال : حدثنا سهل بن بحر قال : حدثنا الفضل بن شاذان ، عن محمد بن أبي عمير ، عن عمر بن أذينة عن الكلبي عن أبي صالح : عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا : أمر الله محمداً أن ينصب علياًّ للناس ليخبرهم بولايته فتخوف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقولوا حابى ابن عمه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه فأوحى الله إليه : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) الآية، فقام رسول الله بولايته يوم غدير خم .

250 - حدثني محمد بن القاسم بن أحمد في تفسيره قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن علي الفقيه قال : حدثنا أبي قال : حدثنا سعد بن عبد الله قال: حدثنا أحمد بن عبد الله البرقي عن أبيه عن خلف بن عمار الأسدي عن أبي الحسن العبدي عن الأعمش عن عباية بن ربعي : عن عبد الله بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ( وساق ) حديث المعراج إلى أن قال : وإني لم أبعث نبياً إلا جعلت له وزيراً وإنك رسول الله ، وإن علياًّ وزيرك .

قال ابن عباس : فهبط رسول الله فكره أن يحدث الناس بشيء منها إذ كانوا حديثي عهد بالجاهلية ، حتى مضى ( من ) ذلك ستة أيام ، فأنزل الله تعالى : فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك ، فاحتمل رسول الله صلى الله عليه وآله ، حتى كان يوم الثامن عشر أنزل الله عليه ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً حتى يؤذن في الناس أن لايبقى غداً أحداً إلا خرج إلى غدير خم ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس من الغد فقال : يا أيها الناس إن الله أرسلني إليكم برسالة ، وإني ضقت بها ذرعاً مخافة أن تتهموني وتكذبوني حتى عاتبني ربي فيها بوعيد أنزله علي بعد وعيد ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب فرفعها حتى رأى الناس بياض إبطيهما ثم قال : أيها الناس الله مولاي وأنا مولاكم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله . وأنزل الله ( اليوم أكملت لكم دينكم ) . انتهى .

( ملاحظة : كتب هذا الموضوع قبل أن يتوفى الألباني وأرسلت له نسخة من الكتاب .. ولم يجب عليه ) !

* * *

 

رأي أهل البيت عليهم السلام في الآية

في تفسير العياشي : 1/331 :

عن أبي صالح ، عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا : أمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وآله أن ينصب علياًّ عليه السلام علماً للناس ، ويخبرهم بولايته ، فتخوف رسول الله صلى الله عليه وآله أن يقولوا حابى ابن عمه ، وأن يطعنوا في ذلك عليه ، فأوحى الله إليه : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ..

وفي الكافي : 1/290 :

محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ومحمد بن الحسين جميعاً ، عن محمد بن إسماعيل بن بزيع ، عن منصور بن يونس ، عن أبي الجارود ، عن أبي جعفر قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : فرض الله على العباد خمساً ، أخذوا أربعاً وتركوا واحدة ، قلت : أتسميهن لي جعلت فداك ؟

فقال : الصلاة ، وكان الناس لايدرون كيف يصلون ، فنزل جبرئيل عليه السلام فقال : يا محمد أخبرهم بمواقيت صلاتهم .

ثم نزلت الزكاة فقال: يا محمد أخبرهم من زكاتهم ما أخبرتهم من صلاتهم.

ثم نزل الصوم ، فكان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا كان يوم عاشورا بعث إلى ما حوله من القرى فصاموا ذلك اليوم ، فنزل شهر رمضان بين شعبان وشوال .

ثم نزل الحج ، فنزل جبرئيل عليه السلام فقال : أخبرهم من حجهم ما أخبرتهم من صلاتهم وزكاتهم وصومهم .

ثم نزلت الولاية . . . وكان كمال الدين بولاية علي بن أبي طالب عليه السلام فقال عند ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله : أمتي حديثو عهد بالجاهلية ، ومتى أخبرتهم بهذا في ابن عمي يقول قائل ويقول قائل ، فقلت في نفسي من غير أن ينطق به لساني ، فأتتني عزيمة من الله عز وجل بتلة ، أوعدني إن لم أبلغ أن يعذبني ، فنزلت : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لايهدي القوم الكافرين ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله بيد علي عليه السلام فقال :

أيها الناس : إنه لم يكن نبي من الأنبياء ممن كان قبلي إلا وقد عمره الله ثم دعاه فأجابه ، فأوشك أن أدعى فأجيب ، وأنا مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ؟

فقالوا : نشهد أنك قد بلغت ونصحت وأديت ما عليك ، فجزاك الله أفضل جزاء المرسلين . فقال : اللهم اشهد ، ثلاث مرات .

ثم قال : يا معشر المسلمين هذا وليكم من بعدي ، فليبلغ الشاهد منكم الغائب .

وفي بحار الأنوار : 94/300 :

ومن الدعوات في يوم عيد الغدير ما ذكره محمد بن علي الطرازي في كتابه . رويناه بإسنادنا إلى عبد الله بن جعفر الحميري قال : حدثنا هارون بن مسلم عن أبي الحسن الليثي ، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام أنه قال لمن حضره من مواليه وشيعته : أتعرفون يوماً شيد الله به الإسلام ، وأظهر به منار الدين ، وجعله عيداً لنا ولموالينا وشيعتنا ؟

فقالوا : الله ورسوله وابن رسوله أعلم أيوم الفطر هو يا سيدنا؟ قال : لا .

قالوا : أفيوم الأضحى هو ؟

قال : لا ، وهذان يومان جليلان شريفان ، ويوم منار الدين أشرف منهما وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما انصرف من حجة الوداع ، وصار بغدير خم ، أمر الله عز وجل جبرئيل عليه السلام أن يهبط على النبي وقت قيام الظهر من ذلك اليوم ، وأمره أن يقوم بولاية أمير المؤمنين عليه السلام وأن ينصبه علماً للناس بعده ، وأن يستخلفه في أمته ، فهبط إليه وقال له : حبيبي محمد إن الله يقرؤك السلام ويقول لك : قم في هذا اليوم بولاية علي ليكون علماً لأمتك بعدك يرجعون إليه ، ويكون لهم كأنت . فقال النبي صلى الله عليه وآله : حبيبي جبرئيل ، إني أخاف تغير أصحابي لما قد وتروه ، وأن يبدوا ما يضمرون فيه ، فعرج وما لبث أن هبط بأمر الله فقال له : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس . فقام رسول الله صلى الله عليه وآله ذَعِراً مرعوباً خائفاً وقدماه تشويان من شدة الرمضاء ، وأمر بأن ينظف الموضع ويقمَّ ما تحت الدوح من الشوك وغيره ففعل ذلك ، ثم نادى بالصلاة جامعة فاجتمع المسلمون ، وفيمن اجتمع أبو بكر وعمر وعثمان وسائر المهاجرين والأنصار ، ثم قام خطيباً ، وذكر الولاية فألزمها للناس جميعاً ، فأعلمهم أمر الله بذلك .

وفي دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي : 1/14:

وروينا عن أبي جعفر محمد بن علي صلى الله عليه أن رجلاً قال له : يا بن رسول الله إن الحسن البصري حدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : إن الله أرسلني برسالة فضاق بها صدري ، وخشيت أن يكذبني الناس ، فتواعدني إن لم أبلغها أن يعذبني .

قال له أبو جعفر : فهل حدثكم بالرسالة ؟ قال : لا .

قال : أما والله إنه ليعلم ما هي ، ولكنه كتمها متعمداً !

قال الرجل : يا بن رسول الله جعلني الله فداك وما هي ؟

فقال : إن الله تبارك وتعالى أمر المؤمنين بالصلاة في كتابه ، فلم يدروا ما الصلاة ولا كيف يصلون ، فأمر الله عز وجل محمداً نبيه صلى الله عليه وآله أن يبين لهم كيف يصلون . فأخبرهم بكل ما افترض الله عليهم من الصلاة مفسراً ..

وأمر بالزكاة ، فلم يدروا ما هي ، ففسرها رسول الله صلى الله عليه وآله وأعلمهم بما يؤخذ من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والزرع ، ولم يدع شيئاً مما فرض الله من الزكاة إلا فسره لأمته ، وبينه لهم .

وفرض عليهم الصوم ، فلم يدروا ما الصوم ولاكيف يصومون، ففسره لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وبين لهم ما يتقون في الصوم، وكيف يصومون.

وأمر بالحج فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله أن يفسر لهم كيف يحجون ، حتى أوضح لهم ذلك في سنته .

وأمر الله عز وجل بالولاية فقال : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكوة وهم راكعون . ففرض الله ولاية ولاة الأمر ، فلم يدروا ما هي ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وآله أن يفسر لهم ما الولاية ، مثلما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج ، فلما أتاه ذلك من الله عز وجل ضاق به رسول الله ذرعاً ، وتخوف أن يرتدوا عن دينه وأن يكذبوه ، فضاق صدره وراجع ربه فأوحى إليه : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ، فصدع بأمر الله وقام بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلى الله عليه يوم غدير خم ، ونادى لذلك الصلاة جامعة ، وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب .

وكانت الفرائض ينزل منها شيء بعد شيء ، تنزل الفريضة ثم تنزل الفريضة الأخرى وكانت الولاية آخر الفرائض ، فأنزل الله عز وجل : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً .

قال أبو جعفر : يقول الله عز وجل : لاأنزل عليكم بعد هذه الفريضة فريضة ، قد أكملت لكم هذه الفرائض .

وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال : أوصي من آمن بالله وبي وصدقني : بولاية علي بن أبي طالب ، فإن ولاءه ولائي ، أمرٌ أمرني به ربي ، وعهدٌ عهده إليَّ ، وأمرني أن أبلغكموه عنه . انتهى .

وروى الحديث الأول في شرح الأخبار :1/101 ، ونحوه في :2 / 276 ، وروى أيضاً فيه : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا جبرائيل أمتي حديثة عهدٍ بجاهلية ، وأخاف عليهم أن يرتدوا ، فأنزل الله عز وجل : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - في علي - فإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس . فلم يجد رسول الله صلى الله عليه وآله بدا من أن جمع الناس بغدير خم فقال : أيها الناس إن الله عز وجل بعثني برسالة فضقت بها ذرعاً فتواعدني إن لم أبلغها أن يعذبني ، أفلستم تعلمون أن الله عز وجل مولاي وأني مولى المسلمين ووليهم وأولى بهم من أنفسهم ؟

قالوا : بلى ، فأخذ بيد علي عليه السلام فأقامه ورفع يده بيده وقال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، ومن كنت وليه فهذا علي وليه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار .

ثم قال أبو جعفر عليه السلام : فوجبت ولاية علي عليه السلام على كل مسلم ومسلمة . انتهى . ورواه بنحوه في تفسير العياشي : 1/ 333 ، وفيه :

كنت عند أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام بالأبطح وهو يحدث الناس، فقام إليه رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الأعشى ، كان يروي عن الحسن البصري .. إلخ .

وقد تقدمت بعض الأحاديث فيه في آية إكمال الدين ، وهي في مصادرنا كثيرة وصحيحة تبلغ حد التواتر .

 

ملاحظات عامة حول الأقوال المخالفة

الملاحظة الأولى

مع أن البخاري عقد للآية في صحيحه بابين : الأول في : 5/88 ، وروى فيه حديثا عن عائشة في التبليغ وعدم الكتمان ، والثاني في : 8/9 ، وروى فيه عن الزهري في التبليغ ، كما روى حديثين تضمنا الآية في : 6/50 ، وفي : 8/210 ، وكذا مسلم : 1/110 .

مع هذا ، فلم يرويا ولا روى غيرهما من أصحاب الصحاح شيئاً في تفسير الآية، ما عدا رواية الترمذي في الحراسة ، والتي قال عنها إنها غريبة .

ونحن لانرى أن عدم روايتهم لحديثٍ دليلاً ولا مؤشراً على ضعفه ، فكم من حديثٍ هو أصح مما في الصحاح لم يرووه ، وكم من حديثٍ روته الصحاح ، وذكر له علماء الجرح والتعديل عللاً كثيرة .

لكنا نريد القول : إن أصحاب الصحاح حريصون على رد مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وهم يعرفون أن آية التبليغ هذه يستدل بها أهل البيت وشيعتهم على مذهبهم ، فلو كان عندهم رواية قوية في ردها لرووها وكرروها ، حتى لاتبقى روايات الشيعة بلا معارض قوي . فمن ذلك نستكشف أن تركهم لروايتها ليس بسبب ضعف سندها ، بل بسبب ما رأوه من ضعف متنها ، وتعارض صيغها ، وورود الإشكالات على كل واحدة منها! فاضطروا بذلك إلى عدم الرد على روايات الشيعة، وما وافقها من روايات السنة ، وبذلك بقيت بلا معارض من الصحاح الستة !

الملاحظة الثانية :

أن روايات السنيين في تاريخ نزول الآية قد غطَّت الثلاث وعشرين سنة ، التي هي كل مدة بعثة النبي صلى الله عليه وآله ما عدا حجة الوداع التي نزلت فيها سورة المائدة ! وهو أمر يوجب الشك في أن الغرض من سعة تلك الروايات ، واستثنائها تلك الفترة وحدها ، هو التهرب من الفترة التاريخية التي نزلت فيها السورة !

الملاحظة الثالثة :

أن سبب نزول الآية في مصادرنا سبب واحد ، بتاريخ واحد ، على نحو الجزم واليقين . أما في مصادر إخواننا السنيين فأسبابٌ متعددة ، بتواريخ متناقضة ، وعلماؤهم منها في شكٍّ وحيرة ، ولم تروها صحاحهم الستة . وفي رواياتهم ما يوافق قول أهل البيت عليهم السلام وإن لم يقبله خلفاء قريش !

وعندما نواجه من كتاب الله تعالى آيةً يتفق المسلمون على أنها نزلت مرة واحدة في تاريخ واحد ، ونجد أنهم يروون تاريخاً متفقاً عليه ، وفيهم أهل بيت نبيهم صلى الله عليه وآله ويروي بعضهم أسباباً أخرى متعارضة مختلفاً فيها .. فإن السبب المجمع على روايته يكون أقوى وأحق بالإتباع والفتوى .

* * *

 

تقييم الأقوال المخالفة على ضوء الآية

في الآية خمس مسائل لابد من تحديدها لمعرفة السبب الصحيح في نزولها :

المسألة الأولى : في المأمور به في الآية

لا يستقيم معنى الآية الشريفة إلا بحمل ( أنزل ) فيها على الماضي الحقيقي، لأنها قالت ( بلغ ما أنزل إليك ) ولم تقل : بلغ ما سوف ينزل إليك .. وبيان ذلك : أولاً ، ظهور الفعل في الماضي الحقيقي ، وعدم وجود قرينةٍ توجب حمله على ما سوف ينزله الله تعالى في المستقبل . بل لم أجد استعمال ( أنزل ) في القرآن لما سوف ينزل أبداً ، على كثرة وروده في الآيات .

ثانياً ، أن الآية نزلت في آخر شهور نبوته صلى الله عليه وآله ، وإذا حملنا الفعل على المستقبل يكون معناها : إنك إن لم تبلغ ما سوف ننزله عليك في هذه الشهور الباقية من نبوتك ، فإنك لم تبلغ رسالة ربك أبداً ! وهو معنى لم تجىء به رواية ، ولم يقل به أحدٌ من علماء الشيعة ، ولا السنة !

وإذا تعين حمل لفظ ( أنزل إليك ) على الماضي الحقيقي ، دلَّ على أن الله تعالى كان أنزل على رسوله أمراً ثقيلاً ، وأمره بتبليغه فكان الرسول يفكر في ثقله على الناس ، وفي كيفية تبليغه لهم ، فجاءت الآية لتقول له : لاتتأخر في التنفيذ ، ولا تفكر في موقف الناس ، هل يؤمنون أو يكفرون .. ولكن نطمئنك بأنهم سوف لن يكفروا ، وسنعصمك منهم .

وهذا هو تفسير أهل البيت عليهم السلام وما وافقه من أحاديث السنيين .

المسألة الثانية : فيما يصحح الشرط والمشروط به في التبليغ

وقد اتضح ذلك من المسألة الأولى ، وأنه لامعنى لقولك : يا فلان بلغ رسائلي التي سوف أرسلها معك ، فإنك إن لم تفعل لم تبلغ رسائلي ! لأنه من المعلوم أنه إن لم يفعل ، فلم يبلغ رسائلك ، ويكون كلامك من نوع قول الشاعر : وفسر الماء بعد الجهد بالماء !

نعم يصح أن تقول له عن رسالة معينة فعلية أو مستقبلية : إن هذه الرسالة مهمة وضرورية جداً ، وإن لم تبلغها ، فإنك لم تبلغ شيئاً من رسائلي !

قال في تفسير الميزان : 6/49 :

فالكلام موضوع في صورة التهديد وحقيقته بيان أهمية الحكم ، وأنه بحيث لو لم يصل إلى الناس ولم يراع حقه ، كان كأن لم يراع حق شيء من أجزاء الدين . فقوله : وإن لم تفعل فما بلغت ، جملة شرطية سيقت لبيان أهمية الشرط وجوداً وعدما ، لترتب الجزاء الأهم عليه وجوداً وعدماً ، وليست شرطية مسوقة على طبع الشرطيات الدائرة عندنا ، فإنا نستعمل إن الشرطية طبعاً فيما نجهل تحقق الجزاء للجهل بتحقق الشرط ، وحاشا ساحة النبي صلى الله عليه وآله من أن يقدر القرآن في حقه احتمال أن يبلغ الحكم النازل عليه من ربه ، وأن لايبلغ ! انتهى .

المسألة الثالثة : في نوع تخوف النبي صلى الله عليه وآله

ولا بد من القول بأن الخوف الذي كان عند النبي صلى الله عليه وآله كان خوفاً على الرسالة وليس على شخصه من القتل أو الأذى ، وذلك لشجاعته وعصمته عن التباطؤ عن التبليغ بسبب الخوف من ذلك صلى الله عليه وآله .

فإن الله تعالى كان أخبر رسوله صلى الله عليه وآله من الأيام الأولى لبعثته ، بثقل مسؤولية النبوة والرسالة وجسامة تبعاتها .. وكان صلوات الله عليه وآله موطِّناً نفسه على ذلك كله ، فلا معنى لأن يقال بأنه تلكأ بعد ذلك ، أو تباطأ أو امتنع في أول البعثة ، أو في وسطها أو في آخرها ، حتى جاءه التهديد والتطمين !!

وقد تبين مما تقدم أن الخوف الذي كان يعيشه النبي صلى الله عليه وآله عند نزول الآية ، ليس إلا خوفه من ارتداد الأمة ، وعدم قبولها إمامة عترته من بعده ، وأن يقول قائل منهم جارى ابن عمه ، ويشكوا في رسالته !

المسألة الرابعة : في معنى الناس في الآية

قال الفخر الرازي في تفسيره : مجلد 6 جزء 12/50 :

واعلم أن المراد من ( الناس ) ها هنا الكفار بدليل قوله تعالى : إن الله لايهدي القوم الكافرين... لايمكنهم مما يريدون . انتهى .

ولا يمكن قبول ذلك ، لأن نص الآية ( يعصمك من الناس ) وهو لفظ أعم من المسلمين والكفار ، فلا وجه لحصره بالكفار .. وقد تصور الرازي أن المعصوم منهم هم الذين لايهديهم الله تعالى ، وأن المعنى : إن الله سيعصمك من الكفار ولا يهديهم !

ولكنه تصور خاطيء ، لأن ربْط عدم هدايته تعالى للكفار بالآية يتحقق من وجوه عديدة .. فقد يكون المعنى : سيعصمك من كل الناس ، ولا يهدي من يقصدك بأذى لأنه كافر . أو يكون المعنى : بلغ وسيعصمك الله من الناس ، ومن أبى ما تبلغه فهو كافر، ولا يهديه الله تعالى .

وهذا المعنى الأخير هو المرجح. وقد ورد شبيهه في البخاري : 8/ 139 قال :

عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى ! قالوا : يا رسول الله ومن يأبى ! قال : من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى . انتهى .

فإبقاء لفظة ( الناس ) على إطلاقه وشموله للجميع ، يتناسب مع مصدر الأذى والخطر على النبي صلى الله عليه وآله الذي هو غير محصور بالكفار ، بل يشمل المنافقين من الأمة أيضاًً .

بل عرفت أن الخطر عند نزول الآية كاد يكون محصوراً بالمنافقين . ولكن الرازي يريد إبعاد الذم في الآية عن القرشيين المنافقين ، وإبعاد الأمر الإلهي فيها عن تبليغ ولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام !

المسألة الخامسة : في معنى العصمة من الناس

وقد اتضح مما تقدم أن العصمة الإلهية الموعودة في الآية ، لابد أن تكون متناسبة مع الخوف منهم ، ويكون معناها عصمته صلى الله عليه وآله من أن يطعنوا في نبوته ويتهموه بأنه حابى أسرته واستخلف عترته ، وقد كان من مقولاتهم المعروفة أن محمداً صلى الله عليه وآله يريد أن يجمع النبوة والخلافة لبني هاشم ، ويحرم قبائل قريش .. !! وكأنه صلى الله عليه وآله هو الذي يملك النبوة والإمامة ويعطيهما من جيبه !!

فهذا هو المعنى المتناسب مع خوف الرسول صلى الله عليه وآله وأنه كان يفكر بينه وبين نفسه بما سيحدث من تبليغه ولاية علي عليه السلام .

فهي عصمةٌ في حفظ نبوته عند قريش ، وليست عصمةً من القتل أو الجرح أو الأذى ، كما ادعت الأقوال المخالفة . ولذلك لم تتغير حراسته صلى الله عليه وآله بعد نزول الآية عما قبلها ، ولا تغيرت المخاطر والأذايا التي كان يواجهها، بل زادت .

كما ينبغي الالتفات الى أن القدر المتيقن من هذه العصمة هو حفظ نبوة النبي صلى الله عليه وآله في الأمة وإن ثقلت عليهم أوامره ، وقرروا مخالفته . والغرض من هذه العصمة بقاء النبوة ، وتمام الحجة لله تعالى .

وهي غير العصمة الإلهية الأصلية للرسول صلى الله عليه وآله في أفعاله وأقواله وكل تصرفاته !

وقد وفى الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله بما وعد ، فقد أعلن صلى الله عليه وآله في يوم الغدير خلافة علي والعترة عليهم السلام بوضوح وصراحة ، ثم أمر أن تنصب لعلي خيمة ، وأن يهنؤوه بتولية الله عليهم .. ففعلوا على كره ! ولم يخدش أحد منهم في نبوة النبي صلى الله عليه وآله .

ولكنهم عندما توفي فعلوا ما يريدون ، وأقصوا علياً والعترة عليهم السلام !

بل أحرقوا بيتهم وأجبروهم على بيعة صاحبهم !!

* * *

 

مسألتان تتعلقان بآية العصمة من الناس

يوجد مسألتان ترتبطان بالآية الشريفة ، نتعرض لهما باختصار :

المسألة الأولى : محاربة علي عليه السلام بآية تبليغ ولايته !

يشهد جميع المسلمين للنبي صلى الله عليه وآله بأنه بلغ عن ربه كل ما أمره به ، ونصح لأمته ، وأنه تحمل أكثر من جميع الأنبياء صلى الله عليهم .

لكنك تجد في مصادر السنيين تهمةً للشيعة بأنهم يقولون إن النبي صلى الله عليه وآله كتم أشياء ولم يبلغها إلى الأمة ، والعياذ بالله ! ويستدلون لردهم بآية : بلغ ما أنزل إليك . قال القرطبي في تفسيره : 6/243 :

من قال أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي فقد كذب . الله تعالى يقول : يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، وقبح الله الروافض حيث قالوا : إنه صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أوحى إليه كان بالناس حاجة إليه . انتهى .

وقال القسطلاني في إرشاد الساري : 7/106 :

وقال الراغب فيما حكاه الطيبي : فإن قيل : كيف قال : وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، وذلك كقولك إن لم تبلغ فما بلغت ! قيل: معناه وإن لم تبلغ كل ما أنزل إليك ، تكون في حكم من لم يبلغ شيئاً مما أنزل الله ، بخلاف ما قالت الشيعة إنه قد كتم أشياء على سبيل التقية ! انتهى .

والظاهر أن قصة هذه التهمة وبيت القصيد فيها هو حديث عائشة القائل : من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله كتم شيئاً من كتاب الله ، فقد أعظم على الله الفرية . وقد رووه عنها وأكثروا من روايته .. وقصدهم به الرد على علي عليه السلام وتكذيبه !

فقد كان علي عليه السلام يقول إنه وارث علم النبي صلى الله عليه وآله وإن عنده غير القرآن حديث النبي صلى الله عليه وآله ومواريثه .. فعنده جامعة فيها كل ما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش .

وكان يقول إن النبي صلى الله عليه وآله قد أخبره بما سيحدث على عترته من بعده حتى هجومهم على بيته وإحراقه ، وإجباره على بيعتهم ، وأنه أمره في كل ذلك بأوامره ..

ونحن الشيعة نعتقد بكل ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام ، وتروي مصادرنا بل ومصادر السنيين عن مقام علي عليه السلام وقربه من النبي صلى الله عليه وآله ومكانته عنده ، وشهاداته صلى الله عليه وآله في حقه .. ما يوجب اليقين بأن النبي صلى الله عليه وآله كان مأموراً من الله تعالى أن يعد علياً إعداداً خاصاً ، ويورثه علمه ..

مضافا إلى ما أعطى الله علياً عليه السلام من صفات ومؤهلات وإلهام ..

ونعتقد بأن علياً عليه السلام طاهرٌ مطهر ، صادقٌ مصدق ، في كل ما يقوله ولو كان شهادةً لنفسه وعترته .

قال السيوطي في الدر المنثور : 6/260 :

وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والواحدي ، وابن مردويه ، وابن عساكر ، وابن النجاري ، عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي : إن الله أمرني أن أدنيك ، ولا أقصيك ، وأن أعلمك ، وأن تعي وحقٌّ لك أن تعي . فنزلت هذه الآية : وتعيها أذن واعية . انتهى . ثم ذكر السيوطي رواية أبي نعيم في الحلية وفيها: فأنت أذُنٌ واعيةٌ لعلمي . انتهى .

وإذا كان حذيفة بن اليمان صاحب سر النبي صلى الله عليه وآله وهو من أتباع علي عليه السلام .. فإن علياًّ هو صاحب أسرار النبي صلى الله عليه وآله وعلومه . وقد روى الجميع أنه صلى الله عليه وآله عهد إليه أن يقاتل على تأويل القرآن من بعده ، وأخبره أنه سيقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين !

بل الظاهر أن وصايا النبي صلى الله عليه وآله لعلي كان بعضها معروفاً في حياته ، ومن ذلك وصيته له بأن يسجل مظلوميته ويقيم الحجة على القوم ، ولا يقاتلهم من أجل الخلافة .. فلو لم يكونوا يعرفون ذلك ، لما كانت عندهم جرأة أن يهاجموا علياًّ في بيته بعشرين مسلح أو خمسين ، ويقتحموا داره ، ثم يلقوا القبض عليه ، ويجروه بحمائل سيفه إلى البيعة !!

لقد كان علي عليه السلام معجزةً وأسطورةً في القوة والشجاعة ، وفي الهيبة والرعب في قلوب الناس .. وأكثر الذين هاجموه في داره كانوا معروفين بالخوف والفرار في عدة حروب.. ولم يكن أحد منهم ولا من غيرهم يجرؤ أن يقف في وجه علي عليه السلام إذا جرد ذا الفقار !!

ولكنهم كانوا مطمئنين أن إطاعته للنبي صلى الله عليه وآله تغلب شجاعته وغيرته ، وأنه سيعمل بالوصية ، ولن يجرد ذا الفقار ، حتى لو ضربوا الزهراء عليها السلام وأسقطوا جنينها !!

وحاصل مسألتنا أن الخلافة القرشية قد ردت أقوال علي بأن عنده مواريث النبي صلى الله عليه وآله وعلمه ، ونفت أن يكون النبي صلى الله عليه وآله ورث عترته شيئاً ، لاعلماً ولا أوقافاً ولا مالاً ! وبذلك صادر أبو بكر مزرعة فدك ، التي كان النبي صلى الله عليه وآله أعطاها آل فاطمة عليها السلام عندما نزل قوله تعالى ( وآت ذا القربى حقه ) !

بل زادت السلطة على نفي كلام علي ، وحاولت أن تستفيد من آية الأمر بالتبليغ التي هي موضوع بحثنا فقالت : من قال إن النبي صلى الله عليه وآله قد بلغه وحده أموراً وأحكاماً ، ولم يبلغها إلى الأمة عامة ، فقد اتهم النبي صلى الله عليه وآله بأنه قصر في تبليغ الأمة ، وهو نوع من الكفر به صلى الله عليه وآله !! وليست مقولة عائشة المتقدمة إلامقولة السلطة في رد قول علي عليه السلام .. قال البخاري في صحيحه : 5/188 :

باب يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . عن عائشة رضي الله عنها قالت : من حدثك أن محمداً صلى الله عليه وآله كتم شيئاً مما أنزل عليه، فقد كذب ، والله يقول يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك .. الآية . انتهى . ثم كرر البخاري ذلك في : 6/50 و8/210 ، ومسلم : 1/10 ، والترمذي : 4/328 ... وغيرهم .

ولكن هذه العملية من خصوم علي عليه السلام تتضمن مغالطتين:

في توسيع معنى المأمور بتبليغه ، وتوسيع المأمور بتبليغهم ! كما تتضمن تحريفاً لمقولة علي عليه السلام وشيعته !

فليس كل ما قاله الله تعالى لرسوله أوجب عليه أن يبلغه . . فإن علوم النبي صلى الله عليه وآله وما أوحى الله إليه ، وألهمه إياه ، وما شاهده في إسرائه ومعراجه .. أوسع مما بلغه لعامة الناس ، بأضعافٍ مضاعفة ، ولا يمكن أن يوجب الله تعالى عليه تبليغها، لأن الناس لايطيقونها حتى لو كانوا مؤمنين !

ولا كل شيء أمره أن يبلغه ، أمره أن يبلغه إلى كل الناس بدون استثناء .. فهناك أمور عامة لكل الناس ، وقد بلغها لهم ، وأمور خاصةٌ لأناسٍ خاصين مؤمنين أو كافرين ، وقد بلغها لأصحابها ، مثل قوله تعالى ( قل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً ) . . إلخ . ولم يقل عليٌّ عليه السلام ولا أحدٌ من شيعته إن النبي صلى الله عليه وآله لم يبلغ ، بل قالوا إنه كلم الناس على قدر عقولهم وعلى قدر تحملهم وتقبلهم ، وأنه لذلك بلغ علياًّ عليه السلام أكثر من غيره ، واستودعه علومه كما أمره الله تعالى ..

وليس في هذا تهمة بعدم التبليغ ، كما زعم القرطبي والقسطلاني . بل هي قولٌ بتبليغ إضافي خاصٍ بعلي والزهراء والحسنين عليهم السلام !

بل إن علياًّ وشيعته قالوا إن النبي صلى الله عليه وآله قد بلغ الأمة أموراً كثيرة ، تتعلق بعترته وغيرهم كما ترى في كتابنا هذا .. فتبليغه عندهم أوسع مما يقول به القرشيون .

ولكن القرشيين يظلمون علياً عليه السلام ويفترون عليه !! في حين تراهم يتغاضون عن تصريح عمر بأن النبي صلىالله عليه وآله لم يبين عدة آيات مثل الكلالة والربا! كما تقدم في آية إكمال الدين ! وهي تهمة صريحة للنبي صلى الله عليه وآله بأنه لم يبين ما أنزله الله عليه ، وأمره ببيانه لعامة الناس !!

والنتيجة أن الأمر بالتبليغ وأمتثاله لايتنافى مع تخصيص النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام عليها السلام بعلوم عن غيره ، لأن ذلك مما أمره بتبليغه له وليس لعامة الناس .. كما لايتنافى مع التقية التي قد يستعملها النبي صلى الله عليه وآله مع قريش أو غيرها ، لأنه مأمور بالعمل بالحكمة لأهداف الإسلام، وبالتقية ومداراة الناس .. ففي الكافي : 2/117 ، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله : أمرني ربي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض .

وفي مجمع الزوائد 8/17، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس .

وعن بريدة قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل رجل من قريش فأدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقربه ، فلما قام قال : يا بريدة أتعرف هذا ؟ قلت : نعم ، هذا أوسط قريش حسباً ، وأكثرهم مالاً ، ثلاثاً . فقلت : يا رسول الله قد أنبأتك بعلمي فيه ، فأنت أعلم .فقال : هذا ممن لايقيم الله له يوم القيامة وزناً .

وقد عقد البخاري في صحيحه أكثر من باب لمداراة الناس ، قال في : 7 / 102 باب المداراة مع الناس . ويذكر عن أبي الدرداء إنا لنكشر في وجوه أقوام ، وإن قلوبنا لتلعنهم ... عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : إئذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة، فلما دخل الآن له الكلام ، فقلت يا رسول الله : قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول ؟ ! فقال : أي عائشة إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس ، اتقاء فحشه . انتهى .

وفي وسيط النيسابوري 2/ 208 :

وقال الأنباري : كان النبي صلى الله عليه وآله يجاهر ببعض القرآن أيام كان بمكة ، ويخفي بعضه إشفاقا على نفسه من شر المشركين إليه ، وإلى أصحابه . . . انتهى .

والنتيجة : أننا نحن الشيعة نقول أن النبي صلى الله عليه وآله قد بين للناس كل ما أمره الله ببيانه لهم ، وأمره أن يكلمهم حسب عقولهم ، فمنهم من لايتحمل أكثر من البيان العام ومنهم من يتحمل أكثر حسب درجته . وقد كان علي عليه السلام من الدرجة الأولى ، وقد أمر الله رسوله أن يبين له أكثر ووهبه قلباً عقولاً ولساناً سؤولاً وجعله الأذن الواعية لرسوله صلى الله عليه وآله .

والنتيجة ثانياً : أن الذين يتهمون النبي بأنه كتم ولم يبلغ هم غيرنا لانحن ، وهذه صحاحهم تروي عن عمر في آيات الربا والكلالة وغيرها أن النبي لم يبينها للناس مع أنها كانت قانوناً مفروضاً ، وواجب النبي تبليغها !

* * *

المسألة الثانية : الآية رد على زعمهم أن النبي (ص) قد سحر

فقد استدل عددٌ من علماء الفريقين بالآية على كذب الروايات التي تزعم أن يهودياً قد سحر النبي صلى الله عليه وآله فأخذ مشطه صلى الله عليه وآله وبعض شعره ، وجعل فيه سحراً ودفنه في بئر .. وزعموا أن ذلك السحر أثَّر في النبي صلى الله عليه وآله فصار يتخيل أنه فعل الأمر ولم يفعله ! وأنه بقي مدة على تلك الحالة رجلاً مسحوراً ! حتى دله رجل أو ملك أو جبرئيل ، على الذي سحره وعلى البئر التي أودع المشط والمشاطة ، فذهب النبي صلى الله عليه وآله إلى البئر ، ولكنه لم يستخرج المشط منها ، لأنه كان شفي من السحر ، أولأنه لم يرد أن يثير فتنة ، فأمر بدفن البئر !!

فقد روى البخاري هذه التهمة وهذه القصة الخرافية عن عائشة في خمس مواضع من صحيحه ، فقال في : 4/91 :

عن عائشة قالت : سُحِرَ النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال الليث كتب إلى هشام أنه سمعه ووعاه عن أبيه عن عائشة قالت سحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله ، حتى كان ذات يوم دعا ودعا ، ثم قال : أشعرت أن الله أفتاني فيما فيه شفائي ؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي ، والآخر عند رجلي .

فقال أحدهما للآخر : ما وجع الرجل ؟

قال : مطبوب !

قال : ومن طَبَّهُ ؟

قال : لبيد بن الأعصم ؟

قال : في ماذا ؟

قال : في مشط ومشاقة وجف طلعة ذكر !

قال : فأين هو ؟

قال : في بئر ذروان !

فخرج إليها النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع فقال لعائشة حين رجع : نخلها كأنها رؤوس الشياطين !

فقلت : استخرجته ؟ فقال : لا، أما أنا فقد شفاني الله ، وخشيت أن يثير ذلك على الناس شراً، ثم دفنت البئر !! انتهى . ورواه في : 4/68 ، و7/28 29 و164، ورواه مسلم في : 7/14 ، وغيره . . وغيره .

وقد رد هذه التهمة علماء الشيعة قاطبةً ، وتجرأ قليل من العلماء السنيين على ردها ! ومما استدلوا به آية ( والله يعصمك من الناس ) .

قال الطوسي في تفسير التبيان : 1/384 :

ما روي من أن النبي صلى الله عليه وآله سحر وكان يرى أنه يفعل ما لم يفعله ! فأخبار آحادٍ لايلتفت إليها ، وحاشا النبي صلى الله عليه وآله من كل صفة نقصٍ ، إذ تنفر من قبول قوله ، لأنه حجة الله على خلقه ، وصفيه من عباده ، واختاره الله على علم منه ، فكيف يجوِّز ذلك مع ما جنبه الله من الفظاظة والغلظة وغير ذلك من الأخلاق الدنيئة والخلق المشينة ، ولا يجوز ذلك على الأنبياء إلا من لم يعرف مقدارهم ، ولا يعرفهم حقيقة معرفتهم . وقد قال الله تعالى : والله يعصمك من الناس ، وقد أكذب الله من قال : إن يتبعون إلا رجلاً مسحوراً ، فقال: وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً . فنعوذ بالله من الخذلان .

وقال ابن إدريس العجلي في السرائر : 3/534 :

والرسول عليه السلام ماسُحِر عندنا بلاخلاف لقوله تعالى: والله يعصمك من الناس . وعند بعض المخالفين أنه سُحر ، وذلك بخلاف التنزيل المجيد !

وقال المجلسي في بحار الأنوار : 60/38 :

ومنها سورة الفلق ، فقد اتفق جمهور المسلمين على أنها نزلت فيما كان من سحر لبيد بن أعصم اليهودي لرسول الله صلى الله عليه وآله حتى مرض ثلاث ليال. ومنها ما روي أن جارية سحرت عائشة ، وأنه سحر ابن عمر حتى تكوعت يده!

فإن قيل : لو صح السحر لأضرت السحرة بجميع الأنبياء والصالحين ، ولحصَّلوا لأنفسهم الملك العظيم ، وكيف يصح أن يسحر النبي صلى الله عليه وآله وقد قال الله : والله يعصمك من الناس ، ولا يفلح الساحر حيث أتى ! وكانت الكفرة يعيبون النبي صلى الله عليه وآله بأنه مسحور ، مع القطع بأنهم كاذبون . انتهى .

وممن رد هذه التهمة من السنيين: النووي في المجموع : 19 / 243 ، قال:

قلت: وأكتفي بهذا القدر من أحاديث سحر الرسول صلى الله عليه وآله.. تنبيه: قال الشهاب بعد نقل في التأويلات : عن أبي بكر الأصم أنه قال : إن حديث سحره صلى الله عليه وسلم المروي هنا متروكٌ لما يلزمه من صدق قول الكفرة أنه مسحور ، وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه .

ونقل الرازي عن القاضي أنه قال : هذه الرواية باطلةٌ ، وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول: والله يعصمك من الناس ، وقال : ولا يفلح الساحر حيث أتى ؟! ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة ، ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء والصالحين . انتهى .

كما ردها الرازي في تفسيره : مجلد 16 جزء 32 / 187 ، قال :

قول جمهور المسلمين أن لبيد بن أعصم اليهودي سحر النبي صلى الله عليه وآله في إحدى عشرة عقدة .. فاعلم أن المعتزلة أنكروا ذلك بأسرهم . وكيف يمكن القول بصحتها والله تعالى يقول : والله يعصمك من الناس ... قال الأصحاب: هذه القصة قد صحت عند جمهور أهل النقل .. إلخ . انتهى.

ولكن هؤلاء قلة من علماء السنة ، فأكثرهم يقبلون أحاديث سحر نبيهم!

وأصل المشكلة عندهم أنهم يقبلون كلام عائشة وكلام البخاري مهما كان، ولا يسمحون لأنفسهم ولا لأحدٍ أن يبحثه وينقده .. وقد أوقعهم هذا المنهج في مشكلات عقائدية عديدة ، في التوحيد والنبوة والشفاعة .. ومنها أحاديث بدء الوحي وورقة بن نوفل ، وحديث الغرانيق الذي أخذه المرتد سلمان رشدي وحرفه وسماه الآيات الشيطانية .. ومنها أحاديث أن اليهود سحروا النبي صلى الله عليه وآله ! وبطل روايتها البخاري عن عائشة !

وقد تحيروا فيها كما رأيت ، ولم يجرؤ أحد منهم على القول إنها من المكذوبات على عائشة ، أو من خيالات النساء ..

والرد الصحيح أن تهمة السحر تتنافى مع أصل النبوة ، وأنها تهمة الكفار التي برأ الله نبيه صلى الله عليه وآله ، منها بنص القرآن ، كما تقدم .

أما ردها بآية العصمة فهو ضعيف ، لأنه قد يجاب عنه بأن آية العصمة نزلت في آخر عمره صلى الله عليه وآله ، وقصة السحر المزعومة كانت قبلها.

وأما على تفسيرنا للآية ، أن عصمته صلى الله عليه وآله من تأثير السحر عليه عقلي ونقلي بنص القرآن .. وأما العصمة في الآية فالقدر المتيقن منها عصمته صلى الله عليه وآله من ارتداد قريش والمسلمين في حياته ، بسبب تبليغه ولاية عترته من بعده .. فيقتصر فيها على هذا القدر المتيقن ، ما لم يقم دليل على شمولها لغيره .

كما يؤكد المفسرون والشراح السنيون عدة مسائل تتعلق بالعصمة من الناس ، تحيروا فيها .. منها أن النبي صلى الله عليه وآله قد تمنى القتل في سبيل الله تعالى ، مع أن الآية تدل على عصمته من القتل ، فهل يجوز أن يتمنى النبي شيئاً وهو يعلم أنه لايكون ؟! قال ابن حجر في فتح الباري : 8/ 2644 :

عن أبي هريرة قال سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول .. والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله . . .

استشكل بعض الشراح صدور هذا التمني من النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بأنه لايقتل، وأجاب ابن التين بأن ذلك لعله كان قبل نزول قوله تعالى: والله يعصمك من الناس، وهو متعقب فإن نزولها كان في أوائل ما قدم المدينة، وهذا الحديث صرح أبو هريرة بأنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما قدم أبو هريرة في أوائل سنة سبع من الهجرة .

والذي يظهر في الجواب : أن تمني الفضل والخير لايستلزم الوقوع ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : وددت لو أن موسى صبر ، كما سيأتي في مكانه ، وسيأتي في كتاب التمني نظائر لذلك ، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد المبالغة في بيان فضل الجهاد وتحريض المسلمين عليه ، قال ابن التين : وهذا أشبه .

وحكى شيخنا ابن الملقن أن بعض الناس زعم أن قوله ( ولوددت ) مدرج من كلام أبي هريرة ، قال : وهو بعيد . ونحوه في عمدة القاري : مجلد 7 جزء 14 / 95 .

هذا بعض ما تجشموه وسودوا به صحفاً تفريعاً على تحريفهم لمعنى العصمة المقصودة في الآية..

ونحن نقول : لو ثبت عنه صلى الله عليه وآله أنه تمنى الشهادة .. لكان ذلك تمنياً حقيقياً ، لأنه لاعصمة له من القتل ولا الجرح كما زعموا..

وآية التبليغ إنما تضمن عدم ردة الناس في حياته صلى الله عليه وآله ، ولا ربط لها بضمان عدم القتل والجرح والأذى . بل إن قوله تعالى : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل .. الآية ، يدل على أنه صلى الله عليه وآله لم يمت موتاً طبيعياً لأن الله تعالى أبهم نوع وفاة نبيه وأنها تكون بالموت أو القتل ولا وجه لترديده الأمر بينهما ، إلا علمه تعالى بأن وفاة رسوله ستكون قتلاً ، أو أمراً بين الموت والقتل !

* * *

وفي الختام .. فقد أكثر المفسرون والشراح السنييون من التخرص في تفسير العصمة في الآية ، وتحيروا فيما يتنافى معها وما لايتنافى ، وتجشموا التأويلات وأكثروا من الظنون والاحتمالات . .

كل ذلك بسبب إصرارهم على أن لآية تعني عصمته صلى الله عليه وآله من القتل والسم والجرح !

ومن ذلك تصورهم أن الآية تعارض الرواية القائلة إن موته صلى الله عليه وآله استند إلى اللقمة التي أكلها من الشاة المسمومة التي قدمتها إليه اليهودية ، ثم أتاه جبريل عليه السلام فأخبره فامتنع عن الأكل ، فانتقض عليه سم تلك اللقمة بعد سنة فتوفي بسببه .. قال في هامش الشفا 1/317 :

فإن قيل : ما الجمع بين قوله تعالى ( والله يعصمك من الناس ) وبين هذا الحديث المقتضي لعدم العصمة ، لأن موته عليه السلام بالسم الصادر من اليهودية ؟

والجواب : أن الآية نزلت عام تبوك ، والسم كان بخيبر قبل ذلك .

مع أن العصمة في الآية عصمته عن ارتداد قريش ، وتسبيبها ارتداد الأمة !

* * *