فهرس الكتاب

مكتبة الإمام أميرالمؤمنين (ع)

 

 

نظرة في القضية

قال الأميني: يحق على الباحث أن يمعن النظرة في القضية من ناحيتين .

 الأولى: ما ارتكبه خالد بن الوليد من الطامات والجرائم الكبيرة التي تنزه عنها ساحة كل معتنق بالاسلام، وتضاد نداء القرآن الكريم والسنة الشريفة، ويتبرأ منها و ممن اقترفها من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر.

 أيحسب الانسان أن يترك سدى ؟ (1) أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ؟(2) أم: حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ؟(3) بأي كتاب أم بأية سنة ساغ للرجل سفك تلكم الدماء الزكية من الذين آمنوا بالله ورسوله واتبعوا سبيل الحق وصدقوا بالحسنى، وأذنوا وأقاموا وصلوا وقد علت عقيرتهم: بأنا مسلمون، فما بال السلاح معكم ؟ لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم(4) .

 ما عذر الرجل في قتل مثل مالك الذي عاشر النبي الأعظم، وأحسن صحبته ،

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سورة القيامة آية: 3.

(2) سورة البلد آية: 5 .

(3) سورة العنكبوت آية 4.

(4) سورة آل عمران آية: 188.

 

/ صفحة 162 /

واستعمله صلى الله عليه وآله على صدقات قومه، وقد عد من أشراف الجاهلية والاسلام، ومن أرداف الملوك.

 ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعا(1) .

 ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاءه جهنم خالدا فيها [ النساء: 93 ] .

 وما ذا أحل للرجل شن الغارة على أهل أولئك المقتولين وذويهم الأبرياء و إيذائهم وسبيهم بغير ما اكتسبوا إثما، أو اقترفوا سيئة، أو ظهر منهم فساد في الملأ الديني ؟ الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا(2) .

 ما هذه القسوة والعنف والفظاظة والتزحزح عن طقوس الاسلام، وتعذيب رؤس أمة مسلمة، وجعلها أثفية للقدر وإحراقها بالنار ؟ فويل للقاسية قلوبهم، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم .

 ما خالد وما خطره بعد ما اتخذ إلهه هواه، وسولته نفسه، وأضلته شهوته ، وأسكره شبقه ؟ فهتك حرمات الله، وشوه سمعة الاسلام المقدس، ونزى على زوجة مالك قتيل غيه في ليلته(3) إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا، ولم يكن قتل الرجل إلا لذلك السفاح، وكان أمرا مشهودا وسرا غير مستسر، وكان يعلمه نفس مالك ويخبر زوجته بذلك قبل وقوع الواقعة بقوله إياها: أقتلتني.

 فقتل الرجل مظلوما غيرة و محاماة على ناموسه.

 وفي المتواتر: من قتل دون أهله فهو شهيد(4) وفي الصحيحة من قتل دون مظلمته فهو شهيد(5) .

 والعذر المفتعل من منع مالك الزكاة لا يبرئ خالدا من تلكم الجنايات، أيصدق جحد الرجل فرض الزكاة ومكابرته عليها وهو مؤمن بالله وكتابه ورسوله ومصدق بما جاء به نبيه الأقدس، يقيم الصلاة ويأتي بالفرائض بأذانها وإقامتها، وينادي بأعلى صوته: نحن المسلمون، وقد استعمله النبي الأعظم على الصدقات ردحا من الزمن ؟ لا ها الله .

 

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سورة المائدة آية: 32.

(2) سورة الأحزاب آية: 58 .

 (3) الصواعق ص 21، تاريخ الخميس 2: 333 .

 (4) مسند أحمد 1 ص 191، نص على تواتره المناوي في الفيض القدير 6 ص 195 .

 (5) أخرجه النسائي والضياء المقدسي كما في الجامع الصغير، وصححه السيوطي راجع الفيض القدير 6 ص 195.

 

/ صفحة 163 /

أيوجب الردة مجرد امتناع الرجل المسلم الموحد المؤمن بالله وكتابه عن أداء الزكاة لهذا الانسان بخصوصه وهو غير منكر أصل الفريضة ؟ أو يحكم عليه بالقتل عندئذ ؟ وقد صح عن المشرع الأعظم قوله: لا يحل دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله، وإني رسول الله إلا بإحدى ثلاثة: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة(1) .

 وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه ، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغير نفس(2) .

 وقوله صلى الله عليه وآله: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها منعوا مني دماؤهم وأموالهم، وحسابهم على الله(3) .

 وعهد أبو بكر نفسه لسلمان بقوله: من صلى الصلوات الخمس فإنه يصبح في ذمة الله ويمسي في ذمة الله تعالى فلا تقتلن أحدا من أهل ذمة الله فتخفر الله في ذمته فيكبك الله في النار على وجهك(4) .

 أيسلب امتناع الرجل المسلم عن أداء الزكاة حرمة الاسلام عن أهله وماله وذويه ويجعلهم أعدال أولئك الكفرة الفجرة الذين حق على النبي الطاهر شن الغارة عليهم ؟ ويحكم عليهم بالسبي والقتل الذريع وغارة ما يملكون، والنزو على تلكم الحرائر المأسورات ؟ وأما ما مر من الاعتذار بأن خالدا قال: أدفئوا أسراكم وأراد الدفء وكانت في لغة كنانة: القتل.

 فقتلوهم فخرج خالد وقد فرغوا منهم.

 فلا يفوه به إلا معتوه استأسر هواه عقله، وسفه في مقاله، لماذا قتل ضرار مالك بتلك الكلمة وهو لم

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) صحيح البخاري 10: 63 كتاب المحاربين.

 باب: قول الله تعالى إن النفس بالنفس، صحيح مسلم 2: 37، الديات لابن أبي عاصم الضحاك ص 10، سنن أبي داود 2: 219 سنن ابن ماجة 2: 110 ، مصباح السنة 2: 50، مشكاة المصابيح ص 291 .

 (2) الديات لابن أبي عاصم الضحاك ص 9، سنن ابن ماجة 2: 110، سنن البيهقي 8: 19 .

 (3) صحيح مسلم 1: 30، الديات لابن أبي عاصم الضحاك ص 17، 18 سنن ابن ماجة 2 : 457، خصايص النسائي ص 7، سنن البيهقي 8: 19، 196 .

 (4) أخرجه أحمد في الزهد كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 70.

 

 

/ صفحة 164 /

يكن من كنانة ولا من أهل لغتها ؟ بل هو أسدي من بني ثعلبة، ولم يكن أميره يتكلم قبل ذلك اليوم بلغة كنانة .

 وإن صحت المزعمة فلما ذا غضب أبو قتادة الأنصاري على خالد وخالفه وتركه يوم ذاك وهو ينظر إليه من كثب، والحاضر يرى ما لا يراه الغائب ؟ ولماذا اعتذر خالد بأن مالكا قال: ما أخال صاحبكم إلا قال كذا وكذا ؟ وهذا اعتراف منه بأنه قتله غير أنه نحت على الرجل مقالا، وهو من التعريض الذي لا يجوز القتل " بعد تسليم صدوره منه " عند الأمة الإسلامية جمعاء، والحدود تدرأ بالشبهات .

 ولماذا رآه عمر عدوا لله، وقذفه بالقتل والزنا ؟ وإن لم يفتل ذلك ذؤابة(1) أبي بكر .

 ولماذا هتكه عمر في ملأ من الصحابة بقوله إياه: قتلت امرءا مسلما ثم نزوت على امرأته، والله لأرجمنك بأحجارك ؟ .

 ولماذا رأى عمر رهقا في سيف خالد وهو لم يقتل مالكا وصحبه وإنما قتلتهم لغة كنانة ؟ ولماذا سكت خالد عن جوابه ؟ وما أخرسه إلا عمله، إن الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره .

 ولماذا صدق أبو بكر عمر بن الخطاب في مقاله ووقيعته على خالد وما أنكر عليه غير أنه رآه متأولا تارة، ونحت له فضيلة أخرى ؟ ولماذا أمر خالد بالرؤس فنصبت أثفية للقدور، وزاد وصمة على لغة كنانة ؟ ولماذا نزى على امرأة مالك، وسبى أهله، وفرق جمعه، وشتت شمله، وأباد قومه، ونهب ماله ؟ أكل هذه معرة لغة كنانة ؟ ولماذا ذكر المؤرخون أن مالكا قتل دون أهله محاماتا عليها ؟ ولماذا أثبت المترجمون ذلك القتل الذريع على خالد دون لغة كنانة، وقالوا في

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مثل يضرب يقال: فتل ذؤابة فلان.

 أي أزاله عن رأيه.

 

/ صفحة 165 /

ترجمة ضرار وعبد بن الأزور: إنه هو الذي أمره خالد بقتل مالك بن نويرة(1) وقالوا في ترجمة مالك: إنه قتله خالد.

 أو: قتله ضرار صبرا بأمر خالد ؟(2) هذه أسؤلة توقف المعتذر موقف السدر، ولم يحر جوابا .

 ما شأن أبناء السلف وقد غررت بهم سكرة الشبق، وغالتهم داعية الهوى، وجاؤا لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون ؟ فترى هذا يقتل مثل مالك ويأتي بالطامات رغبة في نكاح أم تميم .

 وهذا يقتل سيد العترة أمير المؤمنين شهوة في زواج قطام .

 وآخر(3) شن الغارة على حي من بني أسد فأخذ امرأة جميلة فوطئها بهبة من أصحابه، ثم ذكر ذلك لخالد فقال: قد طيبتها لك " كأن تلكم الجنود كانت مجندة لوطي النساء وفض ناموس الحرائر " فكتب إلى عمر فأجاب برضخه بالحجارة(4) .

 وهذا يزيد بن معاوية يدس إلى زوجة ريحانة رسول الله الحسن السبط الزكي السم النقيع لتقتله ويتزوجها(5) أو فعله معاوية لغاية له كما يأتي .

 ووراء هؤلاء المعتدين قوم ينزه ساحتهم بأعذار مفتعلة كالتأويل والاجتهاد - وليتهما لم يكونا - وتخطأة لغة كنانة، والله يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين .

 الناحية الثانية :

الثانية من الناحيتين التي يهمنا أن نولي شطرها وجه البحث تسليط الخليفة أولا أمثال خالد وضرار بن الأزور وشارب الخمور وصاحب الفجور.

(6) على الأنفس والدماء، على الأعراض ونواميس الاسلام، وعهده إلى جيوشه في حرق أهل الردة

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الاستيعاب 1: 338، أسد الغابة 3: 39، خزانة الأدب للبغدادي 2: 9، الإصابة 2: 209 .

 (2) الإصابة 3: 357، مرآت الجنان 1: 62 .

 (3) هو ضرار بن الأزور زميل خالد بن الوليد وشاكلته في النزو على الحرائر .

 (4) تاريخ ابن عساكر 7: 31، خزانة الأدب 2: 8، الإصابة 2: 209 .

 (5) تاريخ ابن عساكر 4: 226 .

 (6) تاريخ ابن عساكر 7: 30، خزانة الأدب 2: 8، الإصابة 2: 209.

 

/ صفحة 166 /

وقد عرفت النهي عنه في السنة الشريفة ص 155.

 وصفحه ثانيا عن تلكم الطامات والجنايات الفاحشة كأن لم تكن شيئا مذكورا، فما سمعت أذن الدنيا منه حولها ركزا ، وما حكيت عنه في الانكار عليها ذأمة، وما رأى أحد منه حولا .

 لِم لَم يؤاخذ الخليفة خالدا بقتل مالك وصحبه المسلمين الأبرياء، وقد ثبت عنده كما يلوح ذلك عن دفاعه عنه ومحاماته عليه ؟ لم لم يقتص منه قصاص القاتل ؟ ولم يقم عليه جلدة الزاني ؟ ولم يضربه حد المفتري ؟ ولم يعزره تعزيز المعتدي على ما ملكته أيدي أولئك المسلمين ؟ لم لم ير عزل خالد وقد كره ما فعله، وعرض الدية على متمم بن نويرة أخي مالك ؟ وأمر خالدا بطلاق امرأة مالك كما في الإصابة 1 ص 415 ؟ دع هذه كلها ولا أقل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوبيخ الرجل وعتابه على تلكم الجرائم، وأقل الإنكار كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة .

 ما للخليفة يتلعثم ويتلعذم في الدفاع عن خالد وجناياته ؟ فيرى تارة أنه تأول وأخطأ، ويعتذر أخرى بأنه سيف من سيوف الله، وينهي عمر بن الخطاب عن الوقيعة فيه، ويأمره بالكف عنه وصرف اللسان عن مغايطته، ويغضب على أبي قتادة لإنكاره على خالد كما في شرح ابن أبي الحديد 4: 187 .

 ونحن نقتصر في البحث عن هذا الجانب على توجيه القارئ إليه، ولم نذهب به قصاه، ولم نبتغ فيه مداه، إذ لم نر أحدا تخفى عليه حزازة أي من العذرين، هلا يعلم متشرع في الاسلام أن تلكم الطامات والجرائم الخطيرة لا يتطرق إليها التأول والاجتهاد ؟ ولا يسوغ لكل فاعل تارك أن يتترس بأمثالهما في معراته، ويتدرع بها في أحناثه، ولا تدرأ بها الحدود، ولا تطل بها الدماء، ولا تحل بها حرمات الحرائر، و لا يرفض لها حكم الله في الأنفس والأعراض والأموال، ولم يضح الحاكم لمدعيها كما ادعى قدامة بن مظعون في شربه الخمر بأنه تأول واجتهد فأقام عمر عليه الحد وجلده ولم يقبل منه العذر.

 كما في سنن البيهقي 8: 316 وغيره .

 وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن محارب ين دثار: إن ناسا من أصحاب النبي

 

/ صفحة 167 /

صلى الله عليه وآله شربوا الخمر بالشام وقالوا: شربنا لقول الله: ليس على الذين آمنوا وعملوا - الصالحات جناح فيما طعموا. الآية. فأقام عمر عليهم الحد(1) .

 وجلد أبو عبيدة أبا جندل العاصي بن سهيل وقد شرب الخمر متأولا لقوله تعالى : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا. الآية: كما في الروض الأنف للسهيلي 2: 231 .

 وهل يرتاب أحد في أن سيفا سله المولى سبحانه لا يكون فيه قط رهق ولا شغب، ولا تسفك به دماء محرمة، ولا تهتك به حرمات الله، ولا يرهف لنيل الشهوات ، ولا ينضى للشبق، ولا يفتك به ناموس الاسلام، ولا يحمله إلا يد أناس طيبين، و رجال نزهين عن الخنابة والعيث والفساد ؟ فما خالد وما خطره حتى يهبه الخليفة تلك الفضيلة الرابية ويراه سيفا سله الله على أعداءه، وهو عدو الله بنص من الخليفة الثاني كما مر في ص 159 ؟ أليست هذه كلها تحكما وسرفا في الكلام، وزورا في القول، واتخاذ الفضائل في دين الله مهزئة ومجهلة ؟ كيف يسعنا أن نعد خالدا سيفا من سيوف الله سله على أعداءه ؟ وقد ورد في ترجمته وهي بين أيدينا: إنه كان جبارا فاتكا، لا يراقب الدين فيما يحمله عليه الغضب وهوى نفسه، ولقد وقع منه في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله مع بني جذيمة بالغميصا أعظم مما وقع منه في حق مالك بن نويرة وعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن غضب عليه مدة وأعرض عنه، وذلك العفو هو الذي أطمعه حتى فعل ببني يربوع ما فعل بالبطاح(2) .

 إن كان عفو النبي الأعظم عن الرجل ما غضب عليه وأخذه بذنبه، وأعرض عنه، ردحا من الزمن أطمعه حتى فعل ما فعل، فانظر ماذا يصنع صفح الخليفة عنه من دون أي غضب عليه وإعراض عنه ؟ وما الذي يأثر دفاعه عنه من الجرأة والجسارة، في نفس الرجل ونفوس مشاكليه من أناس العيث والفساد، وشعب الشغب والفتن ؟ أنى لنا أن نرى خالدا سيفا سله الله على أعدائه وفي صفحة التاريخ كتاب أبي بكر

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الدر المنثور 2: 321 .

 (2) شرح ابن أبي الحديد 4 ص 187.

 

/ صفحة 168 /

إليه وفيه قوله: لعمري يا ابن أم خالد ! إنك لفارغ تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجفف بعد(1) كتبه إليه لما قال خالد لمجاعة: زوجني ابنتك فقال له مجاعة: مهلا إنك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك قال: أيها الرجل زوجني فزوجه فبلغ ذلك أبا بكر فكتب إليه الكتاب فلما نظر خالد في الكتاب جعل يقول: هذا عمل الأعيسر. يعني عمر بن الخطاب .

 وليست هذه بأول قارورة كسرت في الاسلام بيد خالد، وقد صدرت منه لدة هذه الفحشاء المنكرة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وتبرأ صلى الله عليه وآله من صنيعه.

 قال ابن إسحاق : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حول مكة السرايا تدعو إلى الله عز وجل، ولم يأمرهم بقتال ، وكان ممن بعث خالد بن الوليد، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيا، ولم يبعثه مقاتلا ، ومعه قبائل من العزب فوطئوا بني جذيمة ابن عامر فلما رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا .

 قال: حدثني بعض أصحابنا من أهل العلم من بني جذيمة قال: لما أمرنا خالد أن نضع السلاح قال رجل منا يقال له جحدم(2): ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلا الاسئار، وما بعد الاسئار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبدا قال: فأخذه رجال من قومه فقالوا: يا جحدم ! أتريد أن تسفك دمائنا إن الناس قد أسلموا، ووضعوا السلاح، ووضعت الحرب، وأمن الناس ؟ فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه، ووضع القوم السلاح لقول خالد، فلما وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك فكتفوا، ثم عرضهم على السيف، فقتل من قتل منهم، فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يديه إلى السماء ثم قال: أللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.

 قال أبو عمر في الاستيعاب 1: 153 هذا من صحيح الأثر .

 قال ابن هشام: حدث بعض أهل العلم عن إبراهيم بن جعفر المحمودي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت كأني لقمت لقمة من حيس(3) فالتذذت طعمها فاعترض

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تاريخ الطبري 3 ص 254، تاريخ الخميس 3: 343 .

(2) في الإصابة جحدم. في 1 ص 227 وجذيم بن الحارث في 1 ص 218. والصحيح هو الأول

(3) الحيس. بفتح فسكون أن يخلط السمن والتمر والأقط فيؤكل. والأقط: ما يعقد من اللبن ويجفف.

 

/ صفحة 169 /

في حلقي منها شيئ حين ابتلعتها فأدخل علي يده فنزعه.

 فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله ! هذه سرية من سراياك تبعثها فيأتيك منها بعض ما تحب ويكون في بعضها اعتراض فتبعث عليا فيسهله .

 قال ابن إسحاق: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال: يا علي ! اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك.

 فخرج علي حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال حتى أنه ليدى لهم ميلغة(1) الكلب إذا لم يبق شيئ من دم ولا مال إلا وداه، بقيت معه بقية من المال.

 فقال لهم علي رضوان الله عليه حين فرغ منهم: هل بقي لكم(بقية من) دم أو مال لم يود لكم ؟ قالوا: لا.

 قال : فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يعلم ولا تعلمون، ففعل، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال: أصبت وأحسنت .

 قال: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى أنه ليرى ما تحت منكبيه يقول: أللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن وليد. ثلاث مرات .

 وقد كان بين خالد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام في ذلك فقال له عبد الرحمن ابن عوف: عملت بأمر الجاهلية في الاسلام(2) وفي الإصابة: أنكر عليه عبد الله بن عمر وسالم مولى أبي حذيفة، وقد تعد هذه الفضيحة أيضا من جنايات لغة كنانة كما في الإصابة 2: 81 .

 فهذا الرهق والسرف في سيف خالد على عهد أبي بكر من بقايا تلك النزعات الجاهلية، وهذه سيرته من أول يومه، فأنى لنا أن نعده سيفا من سيوف الله وقد تبرأ منه نبي الاسلام الأعظم غير مرة، مستقبل القبلة شاهرا يديه وأبو بكر ينظر إليه من كثب .

 

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الميلغة: خشبة تحفر ليلغ فيها الكلب .

 (2) سيرة ابن هشام 4 ص 53 - 57، طبقات ابن سعد ط مصر رقم التسلسل 659، صحيح البخاري شطرا منه في كتاب المغازي باب بعث خالد إلى بني جذيمة، تاريخ أبي الفدا ج 1 ص 145 ، أسد الغابة 3: 102، الإصابة 1 ص 318، ج 2 ص 81.

 

/ صفحة 170 /

 

ـ 11 ـ

ثلاثة وثلاثة وثلاثة

عن عبد الرحمن بن عوف قال: إنه دخل على أبي بكر الصديق رضي الله عنه في مرضه الذي توفي فيه فأصابه مهتما، فقال له عبد الرحمن: أصبحت والحمد لله بارئا فقال أبو بكر رضي الله عنه: أتراه ؟ قال نعم: إني وليت أمركم خيركم في نفسي فكلكم ورم أنفه من ذلك يريد أن يكون الأمر له دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولما تقبل وهي مقبلة حتى تتخذوا ستور الحرير، ونضائد الديباج، وتألموا الاضطجاع على الصوف الأذري كما يألم أحدكم أن ينام على حسك، والله لإن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض في غمرة الدنيا، وأنتم أول ضال بالناس غدا فتصدونهم عن الطريق يمينا وشمالا، يا هادي الطريق إنما هو الفجر أو البحر.

 فقلت له: خفض عليك رحمك الله، فإن هذا يهيضك في أمرك، إنما الناس في أمرك بين رجلين: إما رجل رأى ما رأيت فهو معك. وإما رجل خالفك فهو مشير عليك وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا خيرا، ولم تزل صالحا مصلحا، وإنك لا تأسى على شيئ من الدنيا.

 قال أبو بكر رضي الله عنه: أجل أني لا آسي على شيئ من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن.

 وثلاث تركتهن وددت أني فعلتهن. وثلاث وددت أني سألت عنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

 فأما الثلاث اللاتي وددت أني تركتهن: فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شئ وإن كانوا قد غلقوه على الحرب. ووددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمي وأني كنت قتلته سريحا، أو خليته نجيحا. ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - يريد عمر وأبا عبيدة - فكان أحدهما أميرا وكنت وزيرا وأما اللاتي تركتهن فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيرا كنت ضربت عنقه، فإنه تخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه.

 ووددت أني حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإن

 

/ صفحة 171 /

هزموا كنت بصدد لقاء أو مدد. ووددت أني إذا وجهت خالد بن الوليد إلى الشام كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله . ومد يديه .

 ووددت أني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن هذا الأمر ؟ فلا ينازعه أحد ، ووددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب ؟ ووددت أني كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة فإن في نفسي منهما شيئا .

 أخرجه أبو عبيد في الأموال ص 131، والطبري في تاريخه 4 ص 52، وابن قتيبة في الإمامة والسياسة 1 ص 18، والمسعودي في مروج الذهب 1: 414، وابن عبد ربه في السد الفريد 2: 254 .

 والإسناد صحيح رجاله كلهم ثقات ربعة منهم من رجال الصحاح الست .

 قال الأميني: إن في هذا الحديث أمورا تسعة، ثلاثة منها فات الخليفة فقهها يوم عمل بها، وقد بسطنا القول في إحراق الفجاءة منها .

 وأما تمني قذف الأمر في عنق أحد الرجلين فإنه ينم عن أن الخليفة انكشف له في أخريات أيامه أن ما ناء به من الأمر لم يكن على القانون الشرعي في الخلافة والوصية، لأن المخلف والموصي يجب أن يكون هو المعين لمن ينهض بأمره من بعده، وهو الذي تنبه له الخليفة الثاني بعد ردح من الزمن فقال: كانت بيعة أبي بكر فلتة كفلتة الجاهلية وقى الله شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه(1) .

 ولا أدري أن ما تنبها له هل هو قصور في المختار " بالفتح " أو فيه " بالكسر " أو فيهما معا ؟ أو في كون الاختيار موجبا لتعيين الخليفة ؟ وأيا ما أراد فلنا فيه المخرج .

 وهؤلاء زمر الأنبياء والرسل لم يعدهم التنصيص بالخليفة من بعدهم، ولن انتخبت أممهم خلفاء لهم .

 وهل هنا لك ذو حجى يزعم أن وصاية الفقيد المبيحة للتصرف فيما تركه من بعده موكولة إلى أناس أجانب لا يعرفون ما يرتأيه في شئونه، بعداء عن مغازيه وما يروقه في ماله وأهله، والفقيد عاقل رشيد يعرف الصالح من غيره، ويعلم بنوايا من

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الجزء الخامس ص 370 ط 2 وهذا الجزء ص 79.

 

/ صفحة 172 /

يلتاث به، ومن يحدوه الجشع، وترقل به النهمة، ويستفزه الطمع، أفتراه والحالة هذه يترك الوصية ؟ فيدع ما تركه اكلة للآكل ؟ ومطمعا للناهب ؟ لا .

 لا يفعل ذلك وهو يريد خيرا بآله وصلاحا في ماله، وعلى ذلك جرت سنة المسلمين منذ عهد الصحابة إلى يومنا الحاضر، وأقرته الشريعة الإسلامية، وشرعت للوصايا أحكاما، وجاء في الصحيحين(1) عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما حق امرئ مسلم له شئ يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده.

 كذا في لفظ البخاري ، وفي لفظ مسلم: يبيت ثلاث ليال، قال ابن عمر: ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي.

 قال النووي في رياض الصالحين 156: متفق عليه .

وصى الإله وأوصت رسلـــــه فـــلـذا * كـــــان التــأسي بهم من أفضل العمل

لولا الوصية كـــــان الخـلق في عمـه * وبالـــــوصية دام المـــــلك فــي الدول

فاعـــــمل عــلــيها ولا تهمل طريقتها * إن الــــوصية حـــــكم الله فـــــي الأزل

ذكـــــرت قـــــوما بما أوصى الإله به * وليس إحــداث أمر في الوصية لي(2)

فإذا كانت الوصية ثابتة في حطام زائل ؟ فما بالها تنفى في خلافة راشدة، وشريعة خالدة، مكتفلة بصلاح النفوس والنواميس والأموال والأحكام والأخلاق والصالح العام والسلام والوئام ؟ ومن المسلم قصور الفهم البشري العادي عن غايات تلكم الشئون فلا منتدح والحالة هذه عن أن يعين الرسول الأمين عن ربه خليفته من بعده ليقتص أثره في أمته .

 وقد مر في صفحة 132 رأي عائشة وعبد الله بن عمر ومعاوية وحديث الناس بأن راعي إبل أو غنم أو قيم أرض لأي أحد لا يسعهم ترك رعيتهم هملا، ورعية الناس أشد من رعية الإبل والغنم فالأمة لماذا صفحت يوم السقيفة عن هذا الحكم المتسالم عليه بينها ؟ ولماذا نبأت عنه الاسماع ؟ وخرست الألسن ؟ وذهلت الأحلام عنه يوم ذاك، ثم حدث به الناس ونبأته الأمة ؟ ولماذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم أمته سدى هملا ؟ وفتح بذلك أبواب الفتن المضلة المدلهمة ؟ واستحقر أمته ورأى

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) صحيح البخاري 4: 2 كتاب الوصية، وصحيح مسلم 2: 10 .

 (2) الجزء الأخير من الفتوحات المكية لابن العربي ص 575.

 

/ صفحة 173 /

رعيتها أهون من رعية الإبل والغنم ؟ حاشا النبي الأعظم عن هذه الأوهام، فإنه صلى الله عليه وآله وصى واستخلف ونص على خليفته وبلغ أمته غير أنه عهد إلى وصيه من بعده: إن الأمة ستغدر به بعده كما ورد في الصحيح(1) وقال له أيضا: أما إنك ستلقى بعدي جهدا، قال(علي): في سلامة من ديني ؟ قال: في سلامة من دينك(2) و قال لعلي: ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها إلا من بعدي(3) وقال له: يا علي إنك ستبتلى بعدي فلا تقاتلن.

 " كنوز الدقائق للمناوي ص 188 " ، ثم إن الخليفة النادم لماذا تمنى التسلل عن الأمر يوم السقيفة ؟ وقذفه في عنق أحد الرجلين: أبي عبيدة أو عمر ؟ أكان ندمه عن حق وقع ؟ فالحق لا ندم فيه.

 و إن كان عن باطل سبق ؟ فهو يهدم أساس الخلافة الراشدة .

 ثم الذي وده من قذفه إلى عنق أحد الرجلين فإنا لا نعرف وجها لتخصيصهما بالقذف وفي الصحابة أعاظم وذو وفضائل لا يبلغ الرجلان شأو أي منهم، وهذان بالنظر إلى ما عرفناه من أحوال الصحابة إن لم نقل إنهما من ساقتهم، فإنا نقول بكل صراحة إنهما لم يكونا من الأعالي منهم وفيهم من فيهم، وقبل جميعهم سيدنا أمير المؤمنين عليه السلام صاحب السوابق والمناقب والصهر والقرابة والغناء والعناء، وصاحب يوم الغدير، والأيام المشهودة، والمواقف المشهورة، نفس النبي الأعظم بنص من الكتاب العزيز(4) المطهر من كل رجس بآية التطهير(5) .

 فهلا ود أن يقذفه إليه ؟ فيسير بالأمة سيرا سجحا، ويحملهم على المحجة البيضاء، ويأخذ بهم الطريق المستقيم، ويجدونه هاديا مهديا، يدخلهم الجنة.

 كما أخبر بهذه كلها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وقد مر شطر منها في الجزء الأول صفحه 12، 13 ط 2 .

 

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مستدرك الحاكم 3: 140، 142، وصححه هو والذهبي في تلخيصه، تاريخ الخطيب 1 ص 216، تاريخ ابن كثير 6: 219، كنز العمال 6: 157 .

(2) مستدرك الحاكم 3: 140 وصححه هو وأقره الذهبي .

(3) أخرجه ابن عساكر، والمحب الطبري في الرياض 2: 210 نقلا عن أحمد في المناقب والحافظ الكنجي في الكفاية ص 142، والخوارزمي في المقتل 1: 36 .

(4) بآية المباهلة في سورة آل عمران: 61 .

(5) في سورة الأحزاب: 33.

 

/ صفحة 174 /

وأما كشف بيت فاطمة سلام الله عليها فإنه لا يروقنا ها هنا خدش العواطف بتلكم النوائب، غير أنه سبقت منا بعض القول في الجزء الثالث ص 102 - 104 ط 2 وفي هذا الجزء ص 77، 86 .

 وفذلكة ذلك النبأ العظيم أن الصديقة سلام الله عليها قضت وهي واجدة على من ارتكبه، وكانت صلوات الله عليها تدعو عليه بعد كل صلاة صلتها(1) .

 وإن تعجب فعجب أن القوم ارتكب ما ارتكب من تلكم الفظايع وارتبك فيها وملأ الاسماع هتاف النبي صلى الله عليه وآله بقوله: من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي بضعة مني، هي قلبي وروحي التي بين جنبي، فمن آذاها فقد آذاني.

 بقوله: فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها .

 وبقوله: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها فقد أغضبني .

 وبقوله: فاطمة بضعة مني يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها(2) .

 وبقوله: فاطمة بضعة مني يسرني ما يسرها(3) .

 وبقوله: يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك(4) .

 وبهذا الهتاف تعلم أن ندم الخليفة كان في محله، غير أنه ندم ولات حين مندم ، ندم وقد قضى الأمر ووقع ما وقع، ندم والصديقة الطاهرة مقبورة وملأ اهابها موجدة .

 

الثلاثة الوسطى

وأما الثلاثة من هاتيك الأمور التسعة التي ندم عليها الخليفة على تركها فإنها تعرب عن أنه ارتكب ما ارتكب فيها لا عن ترو أو بصيرة في الأمر، أو استناد إلى حكم شرعي، حتى كشف له الخطأ فيها جمعاء، وقد وقعت فيها عظائم، وأعقبتها طامات، و خليفة المسلمين يجب أن لا يرتكب ما يستتبعها، ولا يفعل ما يوجب الندم في مغبته، و قصة الأشعث بن قيس تعرب عن أن ندم الخليفة كان في محله، فإن الرجل بعد ما ارتد

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الإمامة والسياسة 1: 14، رسائل الجاحظ ص 301، أعلام النساء 3 ص 1215 .

 (2) راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا ص 20، وسنوقفك على تفصيلها في هذا الجزء إنشاء الله (3) الأغاني 8: 156 .

 (4) راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا ص 180 ط 2، وسنفصل فيه القول إنشاء الله.

 

/ صفحة 175 /

وأتى بمعرات وقاتل المسلمين وأخذ وأتي به أسيرا إلى الخليفة فقال: ماذا تراني أصنع بك ؟ فإنك قد فعلت ما علمت.

 قال: تمن علي فتفكني من الحديد، وتزوجني أختك ، فإني قد راجعت وأسلمت.

 فقال أبو بكر: قد فعلت فزوجه أم فروة ابنة أبي قحافة ، فاخترط سيفه ودخل سوق الإبل فجعل لا يرى جملا ولا ناقة إلا عرقبه، فصاح الناس : كفر الأشعث.

 فلما فرغ طرح سيفه وقال: إني والله ما كفرت ولكن زوجني هذا الرجل أخته ولو كنا في بلادنا كانت وليمة غير هذه، وأهل المدينة ! كلوا، ويا أصحاب الإبل ! تعالوا خذوا شرواها، فكان ذلك اليوم قد شبه بيوم الأضحى وفي ذلك يقول وبرة بن قيس الخزرجي :

لقـــــد أولـــــم الكنـــــدي يــوم ملاكه * وليمـــــة حـــــمال لثقـــــل الجــــرائم

لقـــــد ســـل سيفا كان مذ كان مغمدا * لدى الحرب منها في الطلا والجماجم

فأغـــــمده فـــــي كـــــل بكــر وسابح * وعـــــير وبغـــــل في الحشا والقوائم

فقـــــل للفـــــتى الكـــــندي يـوم لقائه * ذهبـــــت بأســـــنى مـــــجـــــــد أولاد

آدم وقال الأصبغ بن حرملة الليثي متسخطا لهذه المصاهرة :

أتيـــــت بكـــــندي قــــد ارتد وانتهى * إلى غـــــاية من نكث ميثاقه كفرا

فكـــــان ثــــواب النكث إحياء نفسه * وكــان ثواب الكفر تزويجه البكرا

ولـــــو أنـــــه يأبـــــى عليك نكاحها * وتـــــزويجها منـــه لأمهرته مهرا

ولـــــو أنـــــه رام الـــــزيادة مثـلها * لأنكحتـــــه عـــشرا وأتبعته عشرا

فقل لأبي بكـــــر: لقــــد شنت بعدها * قـــــريشا وأخملت النباهة والذكرا

أما كـــــان في تيـــــم بن مرة واحد * تــــزوجه ؟ لولا أردت به الفخرا ؟

ولـــــو كـــــنت لمـــا أن أتاك قتلته * لأحـــــرزتها ذكـــــرا وقدمتها ذخرا

فأضحـــى يرى ما قد فعلت فريضة * عليك فلا حمدا حويت ولا أجرا(1)

 

الثلاثة الأخر

إن الثلاثة الأخر التي تمنى الخليفة أن يكون استعلمها من رسول الله صلى الله عليه وآله فإنها تنبأنا بقصوره في علم الدين، وإنه كان نابيا في فقهه، لا يعرف أحكام المواريث

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تاريخ الطبري 3: 276، ثمار القلوب للثعالبي ص 69، الاستيعاب: 1: 51، الكامل لابن الأثير 2: 160، مجمع الأمثال للميداني 2: 341، الإصابة 1: 51 و ج 3: 630.

 

/ صفحة 176 /

التي يكثر ابتلاء خليفة المسلمين بها طبعا، وإنه كان شاكا في أصل الخلافة هل هي بالنص أو الاختيار ؟ وعلى الثاني هل تخص المهاجرين فحسب ؟ أو أنه يشاركهم فيها الأنصار ؟ وعلى أي فهو في تسنمه عرش الخلافة غير متيقن بالرشد من أمره، ولا نحكم ها هنا غير ضميرك الحر، وليس في الحق مغضبة .

 ثم إني لا أعرف لهذا التمني محصلا لأنه لو كان سأله صلى الله عليه وآله عن ذلك لما كان يجيبه إلا بمثل قوله: من كنت مولاه فعلي مولاه. غ ج 1(1) .

 وقوله: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي(2) .

 وقوله: إني تارك فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي(3) .

 وقوله: علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي غ 3: 199 .

 وقوله لعلي: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنك لست بنبي، إنه لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي. غ 3: 172 .

 وقوله: أوحي إلي في علي ثلاث: إنه سيد المسلمين. وإمام المتقين. وقائد الغر المحجلين: مستدرك الحاكم 3: 138 .

 وقوله: إن الله اطلع على أهل الأرض فاختار منه أباك فبعثه نبيا، ثم اطلع الثانية فاختار بعلك فأوحى إلي فأنكحته واتخذته وصياً. غ 2: 318 و ج 3: 23 .

 وقوله: علي الصديق الأكبر وفاروق هذه الأمة، يفرق بين الحق والباطل ، ويعسوب المؤمنين، وهو بابي الذي أوتي منه، وهو خليفتي من بعدي. غ 2: 213 .

 وقوله: علي راية الهدى، وإمام أوليائي، ونور من أطاعني، والكلمة التي ألزمتها المتقين، من أحبه أحبني ومن أبغضه أبغضني. غ 3: 118 .

 وقوله: علي أخي ووصيي ووارثي وخليفتي من بعدي. غ 2: 279 - 281 .

 وقوله: علي سيد مبجل، مؤمل المسلمين، وأمير المؤمنين، وموضع سري وعلمي، وبابي الذي يؤوى إليه، وهو الوصي على أهل بيتي، وعلى الأخيار من أمتي، وهو أخي في الدنيا والآخرة. غ 3: 116 .

 

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) هذا رمز كتابنا هذا(الغدير) في هذا الجزء وبقية الأجزاء .

(2)(3) مر الايعاز إلى حديث الثقلين غير مرة وسنفصل القول فيه إنشاء الله.

 

/ صفحة 177 /

وقوله: علي أخي ووزيري وخير من أترك بعدي. غ 2: 313 .

 وقوله: علي مع الحق والحق مع علي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. غ 3: 177 .

 وقوله: علي مع الحق والحق معه وعلى لسانه يدور حيثما دار علي. غ 3: 178 .

 وقوله: علي مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتى يردا علي الحوض . غ 3: 180 .

 وقوله: علي مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي غ 3: 22، 215 .

 وقوله: علي مولى كل مؤمن بعدي ومؤمنة غ 1: 15، 51 وقوله: علي أنزله الله مني بمنزلتي منه. غ 1: 22 .

 وقوله: علي وليي في كل مؤمن بعدي، مسند أحمد 1: 231 .

 وقوله: علي مني بمنزلتي من ربي، السيرة الحلبية 3: 391 وقوله: علي ولي المؤمنين من بعدي. تاريخ الخطيب 4: 339 .

 وقوله: من كان الله ورسوله وليه فعلي وليه. غ 1: 38 .

 وقوله: لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني. غ 6: 338 - 350 .

 وقوله: ما من نبي إلا وله نظير وعلي نظيري. غ 3: 23 .

 وقوله: أنا وعلي حجة على أمتي يوم القيامة. تاريخ الخطيب 2: 88 .

 وقوله: من أطاع عليا فقد أطاعني، ومن عصى عليا فقد عصاني، مستدرك الحاكم 3: 121، 128 كيف تمنى الخليفة ما تمنى مع هذه النصوص ؟ أو كان في الآذان وقر يوم هتف صلى الله عليه وآله بهاتيك الكلم الجامعة المعربة عن الخلافة بكل ما يمكن من التعبير ؟ أم أن في القوم من تصامم عنها لأمر دبر بليل .

 أولم يكف الخليفة أنه صلى الله عليه وآله لما عرض نفسه على القبائل وكان معه علي أمير المؤمنين ومعهما أبو بكر وبلغ بني عامر بن صعصعة ودعاهم إلى الله فقال له قائلهم : أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال: إن الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء(1) ؟

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مرت مصادره في هذا الجزء ص 134.

 

/ صفحة 178 /

أفكان يزعم الخليفة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي أناط الأمر بعده إلى المولى سبحانه ومشيئته كان لو سأله عن ذلك أجابه بالترديد بين اختيار الأمة ولو لم تكتمل فيه شرايط الإجماع والانتخاب الصحيح كما في البيعة الأولى ؟ وبين وصية الخليفة واستخلافه كما وقع في أمر الثاني ؟ وبين الشورى مع إرهاب المخالف بالقتل كما كان في منتهى الثلاثة ؟ لكنه لو كان يحسب ذلك لما ود أن لو كان سأله صلى الله عليه وآله وسلم وكان يعلم أيضا أن الترديد في الجواب على فرضه إغراء للأمة بالفوضى، وفي ذلك مسرح لكل مدع محق أو مبطل ، ولاحتج به كل ناعب وناعق حتى تنتهي النوبة إلى الطلقاء وأبناء الطلقاء أمثال معاوية و يزيد وهلم جرا .

 

تحفظ على كرامة

حذف أبو عبيد من الحديث ذكر الأمر الأول من الثلاثة الأول وهو: كشف بيت فاطمة وجعل مكانه قوله: فوددت أني لم أكن فعلت كذا وكذا - لخلة ذكرها - فقال: لا أريد اذكرها.

 وما حرف ما حرف إلا تحفظا على كرامة الخليفة، والأسف على أن غيره ما شاركه فيما فعل، فظهرت خيانته على ودائع التاريخ.

 

- 12 -

سؤال يهودي أبا بكر

عن أنس بن مالك قال: أقبل يهودي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله فأشار القوم إلى أبي بكر فوقف عليه فقال: أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي قال أبو بكر: سل عما بدا لك.

 قال اليهودي: أخبرني عما ليس لله، وعما ليس عند الله ، وعما لا يعلمه الله.

 فقال أبو بكر: هذه مسائل الزنادقة يا يهودي ! وهم أبو بكر والمسلمون رضي الله عنهم باليهودي، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما أنصفتهم الرجل.

 فقال أبو بكر: أما سمعت ما تكلم به ؟ فقال ابن عباس إن كان عندكم جوابه وإلا فاذهبوا به إلى علي رضي الله عنه يجيبه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لعلي بن أبي طالب : أللهم اهد قلبه، وثبت لسانه، قال: فقام أبو بكر ومن حضره حتى أتوا علي بن أبي طالب

 

/ صفحة 179 /

فاستأذنوا عليه فقال أبو بكر: يا أبا الحسن ! إن هذا اليهودي سألني مسائل الزنادقة. فقال علي: من تقول يا يهودي ؟ قال: أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي. فقال له : قل. فرد اليهودي المسائل: فقال علي رضي الله عنه: أما لا يعلمه الله فذلك قولكم يا معشر اليهود ! إن العزيز ابن الله، والله لا يعلم أن له ولدا. وأما قولك: أخبرني بما ليس عند الله. فليس عنده ظلم للعباد، وأما قولك: أخبرني بما ليس لله فليس له شريك. فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأنك وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال أبو بكر والمسلمون لعلي عليه السلام: يا مفرج الكرب. " المجتنى لابن دريد ص 35 " قال الأميني: إقرأ واحكم .

 

- 13 -

وفد النصارى وأسئلتهم

أخرج الحافظ العاصمي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: لما قبض النبي صلى الله عليه وآله اجتمعت النصارى إلى قيصر مالك الروم فقالوا له: أيها الملك أنا وجدنا في الانجيل رسولا يخرج من بعد عيسى إسمه أحمد وقد رمقنا خروجه وجائنا نعته فأشر علينا فإنا قد رضيناك لديننا ودنيانا قال: فجمع قيصر من نصارى بلاده مائة رجل وأخذ عليهم المواثيق أن لا يغدروا ولا يخفوا عليه من أمورهم شيئا وقال: وانطلقوا إلى هذا الوصي الذي من بعد نبيهم فسلوه عما سئل عنه الأنبياء عليهم السلام وعما أتاهم به من قبل، والدلايل التي عرفت بها الأنبياء، فإن أخبركم فآمنوا به وبوصيه واكتبوا بذلك إلي، وإن لم يخبركم فاعلموا أنه رجل مطاع في قومه، يأخذ الكلام بمعانيه ، ويرده على مواليه، وتعرفوا خروج هذا النبي.

 قال: فسار القوم حتى دخلوا بيت المقدس واجتمعت اليهود إلى رأس جالوت فقالوا له مثل مقالة النصارى بقيصر، فجمع رأس جالوت من اليهود مائة رجل، قال سلمان فاغتنمت صحبة القوم فسرنا حتى دخلنا المدينة وذلك يوم عروبة(1) وأبو بكر قاعد في المسجد رضي الله عنه يفتي الناس فدخلت عليه فأخبرته بالذي قدم له النصارى واليهود فأذن لهم بالدخول عليه فدخل عليه رأس جالوت

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يعني يوم الجمعة وكان يسمى قديما بيوم عروبة، ويوم العروبة. والأفصح ترك الألف واللام.

 

/ صفحة 180 /

فقال: يا أبا بكر إنا قوم من النصارى واليهود جئناكم لنسألكم عن فضل دينكم فإن كان دينكم أفضل من ديننا قبلناه وإلا فديننا أفضل الأديان ؟ قال أبو بكر: سل عما تشاء أجبك إن شاء الله قال: ما أنا وأنت عند الله ؟ قال أبو بكر: أما أنا فقد كنت عند الله مؤمنا وكذلك عند نفسي إلى الساعة ولا أدري ما يكون من بعد.

 فقال اليهودي: فصف لي صفة مكانك في الجنة ، وصفة مكاني في النار، لأرغب في مكانك وأزهد عن مكاني.

 قال: فأقبل أبو بكر ينظر إلى معاذ مرة وإلى ابن مسعود مرة، وأقبل رأس جالوت يقول لأصحابه بلغة أمته : ما كان هذا نبيا: قال سلمان: فنظر إلي القوم، قلت لهم: أيها القوم ! ابعثوا إلى رجل لو ثنيتم الوسادة لقضى لأهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الانجيل بإنجيلهم، ولأهل الزبور بزبورهم، ولأهل القرآن بقرآنهم، ويعرف ظاهر الآية من باطنها، وباطنها من ظاهرها .

 قال معاذ: فقمت فدعوت علي بن أبي طالب وأخبرته بالذي قدمت له اليهود والنصارى فأقبل حتى جلس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن مسعود: وكان علينا ثوب ذل: فلما جاء علي بن أبي طالب كشفه الله عنا قال علي: سلني عما تشاء أخبرك إن شاء الله قال اليهودي : ما أنا وأنت عند الله ؟ قال أما أنا فقد كنت عند الله وعند نفسي مؤمنا إلى الساعة فلا أدري ما يكون بعد. وأما أنت فقد كنت عند الله وعند نفسي إلى الساعة كافرا ولا أدري ما يكون بعد. قال رأس جالوت: فصف لي صفة مكانك في الجنة وصفة مكاني في النار فأرغب، في مكانك وأزهد عن مكاني قال: علي: يا يهودي ! لم أر ثواب الجنة ولا عذاب النار فأعرف ذلك ، ولكن كذلك أعد الله للمؤمنين الجنة وللكافرين النار، فإن شككت في شيئ من ذلك فقد خالفت النبي صلى الله عليه وسلم ولست في شيئ من الاسلام.

 قال: صدقت رحمك الله فإن الأنبياء يوقنون على ما جاؤا به فإن صدقوا آمنوا، وإن خولفوا كفروا.

 قال: فأخبرني أعرفت الله بمحمد أم محمدا بالله ؟ فقال علي: يا يهودي ! ما عرفت الله بمحمد ولكن عرفت محمدا بالله لأن محمدا محدود مخلوق وعبد من عباد الله اصطفاه الله واختاره لخلقه وألهم الله نبيه كما ألهم الملائكة الطاعة، وعرفهم نفسه بلا كيف ولا شبه.

 قال صدقت قال: فأخبرني الرب في الدنيا أم في الآخرة ؟ فقال علي: إن " في " وعاء فمتى ما كان بفي كان محدودا ولكنه يعلم ما في الدنيا والآخرة، وعرشه في هواء الآخرة وهو محيط بالدنيا، والآخرة بمنزلة القنديل في وسطه إن خليت يكسر، إن أخرجته لم يستقم

 

/ صفحة 181 /

مكانه هناك فكذلك الدنيا وسط الآخرة.

 قال: صدقت قال: فأخبرني الرب يحمل أو يحمل ؟ قال علي بن أبي طالب: يحمل قال رأس جالوت: فكيف ؟ وإنا نجد في التوراة مكتوبا ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية.

 قال علي: يا يهودي: إن الملائكة تحمل العرش، والثرى يحمل الهواء، والثرى موضوع على القدرة وذلك قوله تعالى: له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى.

 قال اليهودي : صدقت رحمك الله. الحديث " زين الفتى في شرح سورة هل أتى للحافظ العاصمي "

 

(هلم معي إلى الغلو)

هذه جملة مما وقفنا عليه من فتاوى أبي بكر وآرائه وهي على قلتها تدلك على مكانته من علم الكتاب، وعرفان السنة، وفقه الشريعة، وأحكام الدين، أو ليس من المغالاة إذن أن يقال: علم كل ذي حظ من العلم أن الذي كان عند أبي بكر من العلم أضعاف ما كان عند علي منه ؟(1) .

 أليس من المغالاة ؟ أن يقال: إن المعروف أن الناس قد جمع الأقضية والفتاوى المنقولة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فوجدوا أصوبها وأدلها على علم صاحبها أمور أبي بكر ثم عمر، ولهذا كان ما يوجد من الأمور التي وجد نص يخالفها عن عمر أقل مما وجد عن علي، وأما أبو بكر فلا يكاد يوجد نص يخالفه ؟ أليس من المغالاة ؟ أن يقال: لم يكن أبو بكر وعمر ولا غيرهما من أكابر الصحابة يخصان عليا بسؤال، والمعروف: أن عليا أخذ العلم عن أبي بكر ؟(2) .

 أليس من المغالاة أن يقال: إن أبا بكر من أكابر المجتهدين بل هو أعلم الصحابة على الإطلاق ؟ قال ابن حجر في الصواعق ص 19 .

 أليس من المغالاة ؟ أن يقال: أن أبا بكر أعلم الصحابة وأذكاهم، وكان مع ذلك أعلمهم بالسنة كما رجع إليه الصحابة في غير موضع، يبرز عليهم بنقل سنن عن النبي صلى الله عليه وسلم يحفظها هو ويستحضرها عند الحاجة إليها ليست عندهم، وكيف لا يكون

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) قاله ابن حزم في الفصل 4: 136. راجع ما مر في الجزء الثالث ص 95 ط 2 .

 (2) منهاج السنة لابن تيمية 3: 128. راجع ما أسلفناه في ج 6 ص 329 ط 2.

 

/ صفحة 182 /

كذلك وقد واظب على صحبة الرسول الله صلى الله عليه وسلم من أول البعثة إلى الوفاة(1) أليس من المغالاة ؟ ما عزوه إلى النبي الأقدس من قيله صلى الله عليه وآله وسلم ما صب الله في صدري شيئا إلا صببته في صدر أبي بكر(2).

 أليس من المغالاة ؟ ما رووه عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: رأيت كأني أعطيت عسا مملو البنا فشربت منه حتى امتلأت، فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد واللحم ففضلت منها فضلة فأعطيتها أبا بكر.

 قالوا: يا رسول الله ! هذا علم أعطاكه الله حتى إذا امتلأت ففضلت فضلة فأعطيتها أبا بكر، قال صلى الله عليه وسلم: قد أصبتم " الرياض النضرة 1: 101 " أليس من المغالاة ؟ ما جاء به ابن سعد عن ابن عمر من أنه سئل عمن كان يفتي في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أبو بكر وعمر ولا أعلم غيرهما .

 راجع أسد الغابة 3: 216، الصواعق ص 10، 20 تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 35 .

 قال الأميني: ليتني أدري وقومي ما بال القوم ؟ في نحت هذه الدعاوي الفارغة ، واختلاق هذه الأكاذيب المكردسة، وزعق بسطاء الأمة إلى المزالق والطامات، و ردعهم عن مهيع الحق، وجدد الصدق في عرفان الرجال، ومقادير السلف .

 أليست هذه الآراء تضاد نداه المشرع الأقدس وقوله لفاطمة: أما ترضين إني زوجتك أول المسلمين إسلاما وأعلمهم علما ؟ وقوله لها: زوجتك خير أمتي أعلمهم علما .

 وقوله: إن عليا لأول أصحابي إسلاما وأكثرهم علما .

 وقوله: أعلم أمتي من بعدي علي .

 وقوله: أنا مدينة العلم وعلي بابها .

 وقوله: علي وعاء علمي .

 وقوله: علي باب علمي .

 وقوله: علي خازن علمي .

 وقوله: علي عيبة علمي .

 وقوله: أنا دار الحكمة وعلي بابها .

 

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تأريخ الخلفاء للسيوطي ص 29 .

 (2) راجع الجزء الخامس من كتابنا هذا ص 316 ط 2 وهذا الجزء ص 87.

 

/ صفحة 183 /

وقوله: أنا دار العلم وعلي بابها .

 وقوله: أنا ميزان العلم وعلي كفتاه .

 وقوله: أنا ميزان الحكمة وعلي لسانه وقوله: أقضى أمتي علي .

 وقوله: أقضاكم علي(1) إلى أمثال هذه من الكثير الطيب ، أليست تلكم الآراء المجردة تخالف ما أسلفناه في الجزء الثالث ص 95 - 101 وفي نوادر الأثر في الجزء السادس من أقوال الصحابة الأولين والتابعين بإحسان في علم علي ؟ نظراء عائشة. وعمر. ومعاوية. وابن عباس. وابن مسعود. وعدي بن حاتم . وسعيد بن المسيب. وهشام بن عتبة. وعطاء وعبد الله بن حجل .

أنى يسوغ القول بأعلمية أي أحد من الأمة غير علي أمير المؤمنين بعد ما مر في الجزء الثالث ص 100 من إجماع أهل العلم أن عليا عليه السلام هو وارث علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم دونهم.

 وما أسلفناه هناك من الصحيح الوارد عن مولانا أمير المؤمنين من قوله : والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارث علمه، فمن أحق به مني ؟ ثم أي نجفة من العلم كانت آية فضلة عس شربها الخليفة من يد النبي الأعظم إن صحت الأحلام ؟ أقوله في الأب ؟ أم رأيه في الكلالة والجد والجدتين والخلافة وغيرها ؟ أبمثل هذه كان هو وصاحبه ويفتيان في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وأي صدر هذا لم يك ينضح بشئ من العلم - والاناء ينضح بما فيه - بعد ما صب فيه رسول الله كلما صب الله في صدره صلى الله عليه وآله ؟ .

 وأنت جد عليم بأن الأخذ بمجامع تلكم الصحاح المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأقوال الصحابة والتابعين في علم أمير المؤمنين عليه السلام والجمع بينها وبين تلكم الآراء في علم أبي بكر يستلزم القول بأعلميته من رسول الله أيضا بعد كونه وعلي صلى الله عليهما وآلهما صنوين في الفضائل، بعد كون علي رديف أخيه الأقدس ونفسه في مآثره ، بعد كونه وارث علمه وبابه وعيبته ووعاءه وخازنه، ولا أحسب كل القوم ولأجلهم يقول بذلك.

 نعم: من لم يتحاش عن الغلو في أبي حنيفة والقول بأعلميته من رسول الله

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا ص 95 ط 2، والجزء السادس ص 61 / 81 ط 2.

 

/ صفحة 184 /

صلى الله عليه وآله في القضاء كما مر في الجزء الخامس ص 279 ط 2 لا يكترث للقول بذلك في أبي بكر الأفضل من أبي حنيفة .

 هذا هو الغلو الممقوت الذي تصك به المسامع لا ما تقول به الشيعة يا أتباع أبناء حزم وتيمية وكثير وجوزية !