الحـديث الرابع عشر
قول النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): علي وليّكم من بعدي
ما جاء في سريّة من إحدى سرايا النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وما جرى فيها، ما جرى من أمر الذين تعاقدوا وتواطؤوا على هتك حرمة من هو من رسول الله، ورسول الله منه، وأولى من يقوم مقامه ويلي اُمور المسلمين من بعده، مع أنـّه(صلى الله عليه وآله وسلم) كما هو مشهور ولا تخلو الكتب والمصنّفات منه، كان كثيراً ما يحثهم ويؤكد عليهم بمحبّته وولايته في عدّه مواطن، وينهاهم من بغضه نهياً بليغاً من شدّة حرصه(صلى الله عليه وآله وسلم)عليهم، ولكن ما عسى أن يقال إلاّ كما قيل:
وكان ما كان ممّا لست أذكره فظنّ خيراً ولا تسأل عن الخبر
فكان جزاء عملهم وعاقبة أمرهم أن غضب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم غضباً شديدًا، حتّى احمرّ وتغيّر وجهه الشريف، كما روى ذلك جمع كثير من رواة الاخبار والاثار. منهم:
إمام الحنابلة في المسند (5: 356) روى باسناده عن بريدة، قال: بعث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعثين إلى اليمن، على أحدهما علي بن أبي طالب، وعلى الاخر خالد بن الوليد، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): إذا التقيتم فعلي على الناس، وإن افترقتما فكلّ واحد منكما على جنده، فاقتتلنا، فظهر المسلمون على المشركين، فقتلنا المقاتلة، وسبينا الذرّيّة، فاصطفى علي إمرأة من السبي لنفسه، قال بريدة: فكتب معي خالد إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يخبره بذلك، فلمّا أتيت النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، دفعت الكتاب فقرئ عليه، فرأيت الغضب في وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: يا رسول الله هذا مكان العائذ، بعثتني مع رجل وأمرتني أن اُطيعه، ففعلت ما اُرسلت به، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): لا تقع في علي، فإنّه منّي وأنا منه، وهو وليّكم بعدي.
وروى حسام الدين المتّقي في منتخب الكنز بهامش مسند الامام أحمد (5: 52) عن عمران بن حصين، بعث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) سريّة واستعمل عليها عليّاً، فغنموا فصنع علي شيئاً أنكروه ـ وفي لفظ: فأخذ علي من الغنيمة جارية ـ فتعاقدوا أربعة من الجيش إذ أقدموا على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعلموه، وكانوا إذا قدموا من سفر بدأوا برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فسلّموا عليه ونظروا إليه، ثمّ ينصرفون إلى رحالهم، فلمّا قدمت السريّة سلّموا على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقام أحد الاربعة، فقال: يا رسول الله، ألم ترأنّ عليّاً أخذ من الغنيمة جارية، فأعرض عنه، ثمّ قام الثاني، فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثمّ قام الثالث فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثمّ قام الرابع، فأقبل عليه رسول الله يعرف الغضب في وجهه، فقال: ما تريدون من علي؟ علي منّي وأنا من علي، وعلي ولي كلّ مؤمن بعدي. وروى نحوه في (ص30).
وذكر العسقلاني في الاصابة (2: 509) عن الترمذي مختصراً قال: وأخرج الترمذي باسناد قويّ عن عمران بن حصين في قصّة قال فيها: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ما تريدون من علي؟ إنّ عليّاً منّي وأنا من علي، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي.
وذكر ابن عبد البرّ حافظ المغرب في كتابه الاستيعاب في معرفة الاصحاب (3: 29 بهامش الاصابة) مختصراً جدّاً عن ابن عبّاس، أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي بن أبي طالب: أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي.
وأخرج الحاكم في المستدرك (3: 110) عن أبي بريدة الاسلمي، بلفظ: غزوت مع علي إلى اليمن، فرأيت منه جفوة، فقدمت على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فذكرت عليّاً فتنقصته، فرأيت وجه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يتغيّر، فقال: يا بريدة، ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله، فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وذكره الذهبي في تلخيصه في ذيل المستدرك، وذكر الحاكم أيضاً قصّة بعث النبيّ سريّة إلى اليمن، عن عمران بن حصين، كما قد مرّ في رواية صاحب منتخب كنز العمّال لحسام الدين المتّقي الهندي.
وأخرج الحاكم أيضاً في (3: 132) عن ابن عبّاس، قال: خرج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في غزوة تبوك وخرج الناس معه، قال: فقال له علي: أخرج معك، قال: فقال النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): لا، فبكى علي، فقال له: أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ إلاّ أنـّه ليس بعدي نبي، انّه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي، قال ابن عبّاس: وقال له رسول الله: أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة.
ونقل ابن حجر في الصواعق (ص122) عن الترمذي، والحاكم، واقتصر على ذكر ذيل الحديث، وذلك في الحديث الخامس والعشرين، عن عمران بن حصين، أنّ سول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي.
وذكر الاميني في الغدير (3: 215) بإسناده من طريق عبد الرزّاق، عن عمران بن حصين، ولفظه: بعث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) سريّة وأمرّ عليها علي بن أبي طالب، فأحدث شيئاً في سفره، فتعاقد أربعة من أصحاب محمّد أن يذكروا أمره إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، قال عمران: وكنّا إذا قدمنا من سفر بدأنا برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فقام رجل منهم، فقال: يا رسول الله إنّ عليّاً فعل كذا وكذا، فأعرض عنه، ثمّ قام الثاني، فقال: يا رسول الله إنّ عليّاً فعل كذا وكذا، فأعرض عنه، فقام الثالث، فقال: يا رسول الله إنّ عليّاً فعل كذا وكذا، ثمّ قام الرابع، فقال: يا رسول الله إنّ عليّاً فعل كذا وكذا، قال: فأقبل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على الرابع وقد تغيّر وجهه، وقال: دعوا عليّاً، دعوا عليّاً، دعوا عليّاً، إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي.
قال الاميني: وأخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن عبد الله بن عمر القواريري، والحسن بن عمر الحموي، والمعلّى بن مهدي، كلّهم عن جعفر بن سليمان.
وأخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير الطبري، وأبو نعيم الاصفهاني في حلية الاولياء (6: 294) والطبري في الرياض النضرة (2 : 171) والبغوي في المصابيح (2: 275) ولم يذكر صدره، وابن كثير في البداية والنهاية (7: 344) والسيوطي والمتّقي في كنز العمّال (6: 154 و300) وصحّحه والبدخشي في نزل الابرار (ص22).
وذكر ابن المغازلي الشافعي في مناقبه (ص224 برقم: 270) باسناده عن عمران بن حصين مختصراً، أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، إنّ عليّاً مني وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي.
وأمّا ما رواه الترمذي في صحيحه (2: 297) فعن عمران بن حصين كذلك، نحو ما رواه المتّقي في كنزه فيما سبق، غير أنّ في قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) «ما تريدون من علي» ثلاثاً.
وقال ابن شهرآشوب في مناقبه (2: 25 ط النجف و3: 51 ط ايران): قال الله تعالى (هنالك الولاية لله الحقّ)(الكهف: 44) فلاحظّ فيها لاحد إلاّ من ولاّه سبحانه، كما قال تعالى (إنّما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا) الاية (المائدة: 55 )وقال (فإنّ الله هو مولاه) الاية (التحريم: 4) وقال: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)(الاحزاب: 6) وقال النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام): من كنت مولاه فعليّ مولاه، والمولى بمعنى: الاولى، بدليل قوله تعالى (مأواكم النار هي مولاكم)(الحديد: 15).
روى أبو سعيد الخدري، وعبد الله بن عبّاس، وجابر بن عبد الله الانصاري، وبريدة الاسلمي، وعمر بن علي، قال النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): علي منّي وأنا منه، وهو وليّكم بعدي.
وأورد عن الثعلبي باسناده عن عطاء، عن ابن عبّاس، قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): الله ربّي ولا إمارة لي معه، وعلي وليّ من كنت وليّه، ولا إمارة لي معه.
قال الصاحب بن عباد:
إنّ المحبّة للوصيّ فريضة أعني أمير المؤمنين عليّا
قد كلّف الله البرية كلّها واختاره للمؤمنين وليّا
وله أيضاً:
علي وليّ المؤمنين لديكم ومولاكم من بين كهل ومعظم
علي من الغصن الذي منه أحمد ومن سائر الاشجار أولاد آدم
وقال الفضل بن عباس:
وكان وليّ الامر بعد محمّد علي وفي كلّ المواطن صاحبه
وصيّ رسول الله حقّاً وصهره وأوّل من صلّى وما ذُمّ جانبه
وأما ما رواه الطبراني على ما في المراجعات (ص152 ط. المجمع العالمي لاهل البيت) للموسوي: إنّ بريدة لمّا قدم من اليمن ودخل المسجد وجد جماعة على باب حجرة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقاموا إليه يسلّمون عليه ويسألونه، فقالوا: ما وراءك؟ قال: خير فتح الله على المسلمين، قالوا ما أقدمك؟ قال: جارية أخذها علي من الخمس فجئت لاخبر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك، فقالوا: أخبرهُ أخبره، يسقط عليّاً من عينه، ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) يسمعهم من وراء الباب، فخرج مغضباً، فقال: ما بال أقوام ينتقصون عليّاً؟ من أبغض عليّاً فقد أبغضني، ومن فارق عليّا فقد فارقني، إنّ عليّاً منّي وأنا منه، خلق من طينتي وأنا خلقت من طينة إبراهيم، وأنا أفضل من إبراهيم، ذرّيّة بعضها من بعض، والله سميع عليم. يابريدة، أما علمت أنّ لعلي أكثر من الجارية التي أخذ، وهو وليّكم بعدي.
قال الموسوي رحمه الله في ذيل الكتاب: إنّ ابن حجر روى هذا الحديث عن الطبراني في (ص103 وفي ط. القاهرة ص171) في المقصد الثاني من مقاصد الاية (14) من الايات، التي ذكرها في الباب (11) من الصواعق، لكنّه لمّا بلغ إلى قوله «أما علمت انّ لعلي أكثر من الجارية» وقف قلمه واستعصت عليه نفسه، فقال: إلى آخر الحديث، وليس هذا من أمثاله بعجيب، والحمد الله الذي عافانا.
وروى إمام المعتزلة ابن أبي الحديد في شرح النهج (2: 450) في الخبر الثالث عشر، ولفظه: بعث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) خالد بن الوليد في سريّة، وبعث عليّاً(عليه السلام)في سريّة اُخرى، وكلاهما إلى اليمن، وقال: إن اجتمعتما فعلي على الناس، وإن افترقتما فكلّ واحد منكما على جنده، فاجتمعا وأغارا وسبيا نساءاً، وأخذا أموالاً، وقتلا اُناساً، وأخذ علي جارية واختصّها لنفسه، فقال خالد لاربعة من المسلمين منهم بريدة الاسلمي: اسبقوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) واذكروا له كذا كذا لاُمور عدّدها على علي، فسبقوا إليه، فجاء واحد من جانبه، فقال: إنّ عليّاً فعل كذا، فأعرض عنه، فجاء الاخر من الجانب الاخر، فقال: إنّ عليّاً فعل كذا، فأعرض عنه، فجاء بريدة الاسلمي، فقال: يا رسول الله، إنّ عليّاً فعل ذلك، فأخذ جارية لنفسه، فغضب(صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى أحمّر وجهه، وقال: دعوا عليّاً يكرّرها، إنّ عليّاً منّي وأنا من علي، وإنّ حظه في الخمس أكثر ممّا أخذ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي.
قال ابن أبي الحديد: رواه أحمد في المسند غير مرّة، ورواه في كتاب فضائل علي، ورواه أكثر المحدّثين.
أقـول: ومن جملة من رواه الفاضل حسين الراضي فيما عقدة من كتابه سبيل النجاة في تتمّة المراجعات (ص113 و ص134 وفي طبعة ص382) سوى من ذكرناه في هذه العجالة: النسائي في الخصائص (ص97 ط الحيدرية، وفي ص38 ط. بيروت، وفي ص23 ط. مصر) والخوارزمي الحنفي في المناقب (ص92) وأبو نعيم في الحلية (6: 294) وابن الاثير في اُسد الغابة (4: 27) وابن عساكر في تاريخ دمشق (1: 381 و488) والبغوي في مصابيح السنّة (2: 275 )والطبري في الرياض النضرة (2: 225 )وابن الاثير في جامع الاُصول (9: 470 )والقندوزي الحنفي في ينابيع الموّدة (ص53 ط. اسلامبول) وسبط ابن الجوزي الحنفي في تذكرة الخواص (ص36 ط. الحيدريّة) وابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول (1: 48 ط. النجف).
توضيح معنى الوليّ:
لمّا كان للفظ الوليّ معاني متعدّدة، كما هو المقرّر عند اللغويّين، والعلماء المتبحّرين في علم اللغة، فلعلّ من الحسن أن يدقّق القارئ نظره ليميّز ويرى أيّ معنى من تلك المعاني اكثر توافقاً مع مفاد الحديث ووجه دلالته.
ومن معاني لفظ الولي: المحبّ والناصر، والصديق، والحليف إلى غير ذلك.
ومنها أيضاً: بمعنى مالك الامر المتصرّف في الشؤون، فهذا الاخير أقرب المعاني وأشهرها، وخصوصاً بالنسبة إلى الحديث الانف ذكره، فالسلطان مثلاً وليّ الرعيّة، أي يملك أمرهم ويتصرّف في اُمورهم وشؤونهم، والاب أو الجد وليّ الصبي أو المجنون، أي يملك أمره وله التصرّف في اُموره وشؤونه، وهكذا أيضاً وليّ المرأة في نكاحها، أو وليّ الدم والميّت. ومن يرى أو يقول غير ذلك، فهو غافل أو متجاهل مكابر.
وما أظنّ أحداً من ذوي العلم والانصاف يرى أو يفهم من قوله(صلى الله عليه وآله وسلم)«وهو وليّكم بعدي» غير المعنى الاخير، كالناصر، والمحبّ، والصديق، وغيرها من المعاني، لبعد موقعها من مغزى الحديث ومرماه، والله أعلم.
الحـديث الخامس عشر
قول النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): علي أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي
لا يخفى أن النبيّ صلوات الله عليه وآله، كان منذ أوّل دعوته إلى الاسلام قد اتّخد له وزيراً ووصيّاً، ونصب لاُمّته خليفة من بعده ووليّاً، وذلك في بدء الدعوة التي اختصّها الله عزّوجلّ بالاقربين من أهل بيته، كما قال عزّ من قائل حكيم: (وأنذر عشيرتك الاقربين)(الشعراء: 214) فجمع(صلى الله عليه وآله وسلم) في بيت عمّه أبي طالب أربعين رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه ـ وفي رواية: ثلاثين ـ كما رواه أصحاب السنن والسير، منهم:
حسام الدين المتقي في منتخب كنز العمّال بهامش مسند أحمد بن حنبل (5: 41) عن علي، قال: لمّا نزلت هذه الاية على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) (وأنذر عشيرتك الاقربين) دعاني رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الاقربين، فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أنّي مهما اُناديهم بهذا الامر أرى ما أكره، فصمتّ عليها حتّى جاءني جبريل، فقال: يا محمّد إنّك إن لم تفعل ما تؤمر به يعذّبك ربّك، فاصنع لي صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة، واجعل لنا عسّاً من لبن، ثمّ اجمع لي بني عبد المطلّب، حتّى اُكلّمهم وأبلغ ما اُمرت به.
ففعلت ما أمرني به، ثمّ دعوتهم، وهم يومئذ أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب، وحمزة، والعبّاس، وأبو لهب، فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعته لهم، فجئت به. فلمّا وضعته تناول النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) حزبة من اللحم، فشقّها بأسنانه، ثمّ ألقاها في نواحي الصحفة، ثمّ قال: كلوا بسم الله، فأكل القوم حتّى نهلوا عنه، ما نرى إلاّ آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدّمت لجميعهم، ثمّ قال: اسق القوم يا علي، فجئتهم بذلك العسّ، فشربوا منه حتّى رووا جميعاً، وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله.
فلمّا أراد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكلّمهم بدره أبو لهب إلى الكلام، فقال: لقد سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم، ولم يكلّمهم النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم).
فلمّا كان الغد،، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي، إنّ هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول، فتفرّق القوم قبل أن اُكلّمهم، فعد لنا مثل ما صنعت بالامس من الطعام والشراب، ثمّ اجمعهم لي، ففعلت، ثمّ جمعتهم، ثمّ دعاني بالطعام فقرّبته، ففعل مثل ما فعل بالامس، فأكلوا وشربوا حتّى نهلوا.
ثمّ تكلّم النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: بابني عبد المطلّب، انّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ما جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والاخرة، وقد أمرني الله ان أدعوكم إليه، فأيّكم يوازرني على أمري هذا؟ فقلت وأنا أحدثهم سناً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً، وأحمشهم ساقا: أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي، وقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون، ويقولون لابي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لعلي.
وروى إمام الحنابلة في مسنده (1: 159) مسنداً عن علي، ولفظه: قال: جمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بني عبد المطلّب فيهم رهط، كلّهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق، قال: فصنع لهم مدّاً من طعام، فأكلوا حتّى شبعوا. قال: وبقي الطعام كما هو كأنّه لم يُمسّ، ثمّ دعا بغمر فشربوا حتّى رووا، وبقي الشراب كأنّه لم يمسّ أو لم يشرب، فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): يا بني عبد المطلّب، إنّي بعثت لكم خاصّة، والى الناس عامة، وقد رأيتم من هذه الاية ما رأيتم، فأيّكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟ فلم يقم إليه أحد، قال علي(عليه السلام): فقمت إليه وكنت أصغر القوم. قال: فقال(صلى الله عليه وآله وسلم): اجلس، قال ثلاث مرّات، كلّ ذلك أقوم إليه، فيقول لي اجلس، حتّى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي.
وروى أيضاً في (1: 111) بالاسناد عن علي(عليه السلام)، بلفظ: قال لمّا نزلت هذه الاية (وأنذر عشيرتك الاقربين) جمع النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل بيته، فاجتمع ثلاثون، فأكلوا وشربوا، قال: فقال لهم: من يضمن عني ديني ومواعيدي، ويكون في الجنّة، ويكون خليفتي في أهلي؟ فقال رجل لم يسمّه شريك: يا رسول الله أنت كنت بحراً، من يقوم بهذا؟ قال: ثمّ قال الاخر، قال: فعرض ذلك على أهل بيته، فقال علي(عليه السلام): أنا.
وروى إمام المعتزلة إبن أبي الحديد في شرح النهج (3: 263) في ردّ أبي جعفر الاسكافي على الجاحظ، قال: وروي في الخبر الصحيح أنّه كلّفه في مبدأ الدعوة قبل ظهور الاسلام وانتشاره بمكّة، أن يصنع له طعاماً، وأن يدعو له بني عبد المطلب، فصنع له طعاماً ودعاهم له، فخرجوا ذلك اليوم، ولم ينذرهم النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)لكلمة قالها عمّه أبو لهب، فكلّفه اليوم الثاني أن يصنع مثل ذلك الطعام، وان يدعوهم ثانية، فصنعه ودعاهم، فأكلوا ثمّ كلّمهم(صلى الله عليه وآله وسلم) فدعاهم إلى الدين، ودعاه معهم لانّه من بني عبد المطلّب.
ثمّ ضمن لمن يوازر منهم وينصره على قوله أن يجعله أخاه في الدين، ووصيّه بعد موته، وخليفته من بعده، فأمسكوا كلّهم، وأجابه هو ـ يعني عليّاً ـ وحده، وقال(عليه السلام): أنا أنصرك على ما جئت به، واُوازرك واُبايعك، فقال لهم لمّا رأى منهم الخذلان ومنه النصر، وشاهد منهم المعصيه ومنه الطاعة، وعاين منهم الاباء ومنه الاجابة: هذا أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي، فقاموا يسخرون ويضحكون، ويقولون لابي طالب: أطع ابنك وقد أمّره عليك.
وأورده الامام شرف الدين الموسوي في كتابه النفيس المراجعات (ص187 وفي طبعة ص123) في المراجعة العشرين برقم التاسع، وقال أخيراً: أخرجه بهذه الالفاظ من حفظة الاثار النبويّة، كابن اسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي في سننه وفي دلائله، والثعلبي، والطبري في تفسير سورة الشعراء من تفسيريهما الكبيرين، وأخرجه الطبري أيضاً في تأريخه (2: 217 )بطرق مختلفة، وأبو الفداء في تاريخه (1: 111) وابن الاثير في الكامل (2: 22)، والامام أبو جعفر الاسكافي في نقض العثمانية، والحلبي في سيرته (1: 381).
وأخرجه بهذا المعنى مع تقارب الالفاظ غير واحد من أثبات السنّة وجهابذة الحديث، كالطحاوي، والضيائي المقدّسي في المختارة، وسعيد بن منصور في السنن، وحسبك ما أخرجه أحمد بن حنبل، والحاكم في المستدرك (3: 132 )والذهبي في تلخيصه معترفاً بصحّته، والمتقي في منتخب الكنز، وحسبنا هذا ونعم الدليل، والسلام.
وصرّح في المراجعة الثانية والعشرين في السبب الذي حمل البخاري ومسلماً ومن نحا نحوهما على الاعراض عن الحديث المذكور، فقال: لانّهم رأوه يصادم رأيهم في الخلافة، وهذا هو السبب في إعراضهم عن كثير من النصوص الصحيحة، لخوفهم أن تكون سلاحاً للشيعة، فكتموها وهم يعلمون.
وإنّ كثيراً من شيوخ أهل السنّة ـ عفا الله عنهم ـ كانوا على هذه الوتيرة، يكتمون كلّ ما كان من هذا القبيل، ولهم في كتمانه مذهب معروف، نقله عنهم الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وعقد البخاري لهذا المعنى باباً في أواخر كتاب العلم من الجزء الاول (ص25) فقال «باب من خصّ بالعلم قوماً دون قوم» ومن عرف سيرة البخاري تجاه أمير المؤمنين وأهل البيت ... إلى أن قال: لا يستغرب إعراضه عن هذا الحديث.
الحـديث السادس عشر
مبيته(عليه السلام) في فراش رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)
ما ورد فيمن كانت حمايته للنبيّ صلوات الله عيله وآله قد فاقت حماية كلّ شجاع، ووقايته ومكافحته أجلّ من مكافحة كلّ مقاتل في الميدان، صاحب النجدة العظمى، التي صغرت بجنبها نجدة جهابذة الفرسان، لما لهم في هول الهيجاء، مهما عظمت نيرانها سبيل للكرّ والفرّ، لا كمن باع نفسه لله عزّوجلّ لاعلاء كلمته العليا، وبذل كريم مهجته لافضل مرسل وأجل الانبياء.
وآثره بأعزّ شيء لدى كلّ ذي روح، وبما لم يؤثر به عظيم الملكين اللذين آخى الله بينهما للاخر، حتّى أمرهما الله أن يهبطا إلى الارض ليحفظاه من كيد الكائدين، وباهى به ملائكته الابرار.
وذلك حين مبيته على فراش النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة الهجرة، وتغطيه بغطائه ينتظر بادرة الحتوف، وطروء ضربات السيوف، ثابتاً صابراً مهما تضوّر وتلوّى من الحجارة التي رمته بها أيدى الكفار، إذ ظنّوا أنـّه نبيّ الله، ولا يدرون أنّه خرج سالماً من مكرهم إلى الغار، وظلّ فيه آمناً مطمئنّ البال، قد أنزل الله عليه سكينته، كما روى ذلك جملة من أعيان المفسّرين في تفاسيرهم، وأهل الاخبار والسير في تواريخهم. منهم:
القندوزي الحنفي في كتابه ينابيع المودّة (ص92) روى باسناده عن هالة ربيب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) اُمّه خديجة أم المؤمنين، أنّه قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): أوحى الله إلى جبريل وميكائيل: إنّي آخيت بينكما وجعلت عمر أحد كما أطول من عمر صاحبه فأيّكما يؤثر أخاه عمره، فكلاهما يكره الموت، فأوحى الله إليهما: إنّي آخيت بين علي وليّي وبين محمّد نبيّي، فآثر علي حياته لنبيّي، فرقد على فراش النبيّ يقيه بمهجته، اهبطا إلى الارض، واحفظاه من عدوّه، فهبطا فجلس جبريل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجعل جبريل يقول: بخ بخ من مثلك يابن أبي طالب، والله يباهي بك الملائكة، فأنزل الله تعالى (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله)الاية (البقرة: 207).
والحاكم في المستدرك (3: 4) روى مسنداً عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: قال: شرى علي نفسه، ولبس ثوب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، ثمّ نام مكانه، وكان المشركون يرمون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد كان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ألبسه بردة، وكانت قريش تريد أن تقتل النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فجعلوا يرمون عليّاً ويرونه النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وقد لبس بردة، وجعل علي(رضي الله عنه)يتضوّر فاذا هو علي، فقالوا: إنّك للئيم إنّك تتضوّر، وكان صاحبك لا يتضوّر، ولقد استنكرناه منك.
وقد ذكره أيضاً الذهبي في تلخيص المستدرك بذيل الكتاب واعترف بصحّته.
وروى الحاكم مسنداً عن علي بن الحسين قال: إنّ أوّل من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله، علي بن أبي طالب، وقال علي عند مبيته على فراش رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم):
وقيت بنفسي خير من وطئ الحصا ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إله خاف أن يمكروا به فنجاه ذو الطول الاله من المكر
وبات رسول الله في البيت آمنا موقّىً وفي حفظ الاله وفي ستر
وبتّ اُراعيهم ولم يتهمونني وقد وطنت نفسي على القتل والاسر
وروى أيضاً في (3: 133) بالاسناد عن ابن عبّاس، ولفظه: وشرى علي نفسه ولبس ثوب النبيّ، ثمّ نام مكانه. قال ابن عبّاس: وكان المشركون يرمون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاء أبو بكر وعلي نائم، قال: أبو بكر يحسب أنّه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: فقال يا نبيّ الله، فقال له علي: إنّ نبيّ الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قد انطلق نحو بئر ميمون فأدركه، قال: فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار، قال: وجعل علي(رضي الله عنه) يرمى بالحجارة كما يرمى نبي الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتضوّر وقد لفّ رأسه في الثوب لا يخرجه حتّى أصبح، ثمّ كشف عن رأسه، فقالوا: إنّك للئيم، وكان صاحبك لا يتضوّر ونحن نرميه وأنت تتضوّر، وقد استنكرنا ذلك.
وذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج (3: 269) وقال: إنـّه لما استقرّ الخبر عند المشركين أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مجمع على الخروج من بينهم للهجرة إلى غيرهم. قصدوا إلى معالجته، وتعاقدوا على أن يبيّتوه في فراشه، وأنّ يضربوه باسياف كثيرة، بيد صاحب كلّ قبيلة من قريش سيف منها، ليضيع دمه بين الشعوب، ويتفرّق بين القبائل، ولا يطلب بنو هاشم بدمه قبيلة واحدة بعينها من بطون قريش، وتحالفوا على تلك الليلة، واجتمعوا عليها.
فلمّا علم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك من أمرهم دعا أوثق الناس عنده، وأمثلهم في نفسه، وأبذلهم في ذات الاله لمهجته، وأسرعهم إجابة إلى طاعته، فقال له: إنّ قريشاً قد تحالفت على أن تبيّتني هذه الليلة، فامض في فراشي ونم في مضجعي، والتفّ في بردي الحضرمي ليروا أنـّي لم أخرج ـ الى ان قال ـ : فاجاب إلى ذلك سامعاً مطيعاً طيبة بها نفسه، ونام على فراشه صابراً محتسباً، مقبلاً بمهجته ينتظر القتل إلى ان قال أخيرا على ما في (ص270): قد ثبت حديث الفراش، ولا يجحده إلاّ مجنون، أو غير مخالط لاهل الملّة.
وروى الثعلبي في تفسيره على ما في الغدير (2: 48) أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا أراد الهجرة إلى المدينة، خلّف عليّ بن أبي طالب بمكّة، لقضاء ديونه، وأداء الودايع التي كانت عنده، وأمر ليلة خرج إلى الغار، وقد أحاط المشركون بالدار، أن ينام على فراشه، وقال له: إتّشح ببردى الحضرمي الاخضر، ونم على فراشي، فإنّه لايصل منهم اليك مكروه إن شاء الله تعالى، ففعل ذلك علي(عليه السلام) فأوحى الله تعالى الى جبريل وميكائيل: إنّي آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من الاخر... الى آخر الحديث.
قال الاميني: وحديث الثعلبي هذا رواه بطوله: الغزالي في الاحياء (3: 238 )والكنجي الشافعي في كفاية الطالب (ص114) والصفوري في نزهة المجالس (2: 209) ورواه ابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمة (ص33) وسبط ابن الجوزي في تذكرة الخواصّ (ص21) والشبلنجي في نور الابصار (ص86 )والطبري في تاريخه (2: 99) وابن سعد في الطبقات (1: 212) واليعقوبي في تاريخه (2: 29 )وابن هشام في السيرة (2: 291) وابن عبد البرّ في العقد الفريد (3: 290 )والخطيب البغدادي في تاريخه (13: 191) والخوارزمي في مناقبه (ص75) وابن الاثير في التاريخ (2: 42) وأبو الفداء في تاريخه (1: 126) والمقريزي في الامتاع (ص39 )وابن كثير في تاريخه (7: 338) والحلبي في السيرة الحلبيّة (2: 29).
وذكر في (ص47) شعر حسّان في أمير المؤمنين نقلاً عن سبط ابن الجوزي في تذكرته (ص10):
من ذا بخاتمه تصدّق راكعاً وأسرّها في نفسه اسرارا
من كان بات على فراش محمّد ومحمّد أسرى يؤمّ الغارا
من كان في القرآن سمّي مؤمناً في تسع آيات تُلين غِزارا
وفي رواية الامام أحمد بن حنبل في مسنده (1: 348) مسنداً عن ابن عبّاس بلفظ: تشاورت قريش ليلة بمكّة، فقال بعضهم: إذا أصبح ـ يعني النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ فأثبتوه بالوثاق، وقال بعضهم: بل اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله عزّوجلّ نبيّه على ذلك، فبات علي على فراش النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) تلك الليلة، وخرج النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) حتّى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليّاً يحسبونه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمّا أصبحوا ثاروا عليه، فلما رأوا عليّاً ردّ الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟ قال: لا أدري، فاقتصّوا أثره، فلمّا بلغوا الجبل خلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمرّوا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخلها هنا لم يكن العنكبوت على بابه، فمكث(صلى الله عليه وآله وسلم)فيه ثلاث ليال.
وفي رواية الفخر الرازي في تفسيره في ذيل تفسير قوله تعالى (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) قال: نزلت في علي بن أبي طالب(عليه السلام)، بات على فراش النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة خروجه إلى الغار، قال: ويروى أنـّه لمّا نام على فراشه، قام جبريل على راسه، وميكائيل عند رجليه، وجبريل ينادي: بخ بخ من مثلك يابن أبي طالب، يباهي الله بك الملائكة. ونزلت الاية، يعني (ومن الناس من يشري نفسه) الى آخر كلامه.
وذكره الشبلنجي في نور الابصار (ص96 ط. دار الفكر) قال: فمن شجاعته ـ يعني عليّاً ـ نومه على فراش رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا أمره بذلك، وقد اجتمعت قريش في قتل النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكترث علي(رضي الله عنه) بهم، قال بعض أصحاب الحديث: أوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل(عليهما السلام): أن انزلا إلى علي واحرساه في هذه الليلة إلى الصباح، فنزلا إليه يقولون بخ بخ من مثلك يا علي باهى الله بك ملائكته.
قال: وأورد الغزالي في كتابه احياء العلوم: إنّ ليلة بات علي(رضي الله عنه) على فراش رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أوحى الله إلى جبريل وميكائيل: أنـّي آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الاخر... الى آخره.
وفي الدرّ المنثور للسيوطي في ذيل تفسير قوله تعالى (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك)(الانفال: 30) قال: أخرج عبد الرزّاق، وعبد بن حميد، عن قتادة، قال: دخلوا دار الندوة يأتمرون بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ وساق الحديث إلى أن قال ـ : وقام علي(عليه السلام) على فراش النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وباتوا يحرسونه ـ يعني: عليّاً ـ يحسبون أنـّه النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فلمّا أصبحوا ثاروا عليه، فإذا بعلي(عليه السلام)، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، فاقتفوا أثره حتى بلغوا الغار، ثمّ رجعوا.
وفي طبقات ابن سعد (8: 35 و162) روى بسنده عن اُمّ بكر بنت المسور، عن أبيها: إنّ رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف ـ وهي اُمّ مخرمة بن نوفل ـ حذرت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالت: إنّ قريشاً قد اجتمعت تريد بياتك الليلة، قال المسور: فتحوّل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن فراشه، وبات عليه علي(عليه السلام).
وفي اُسد الغابة لابن الاثير (4:18) على ما في الفضائل (2: 313) روى بسنده عن ابن اسحاق، قال: وأقام رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) ـ يعني: بعد أن هاجر أصحابه إلى المدينة ـ ينتظر مجيء جبرئيل(عليه السلام)، وأمره له أن يخرج من مكّة باذن الله له بالهجرة إلى المدينة، حتّى إذا اجتمعت قريش، فمكرت بالنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وأرادوا برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)مأ أرادوا، أتاه جبريل(عليه السلام) وأمره أن لا يبيت في مكانه الذي يبيت فيه، فدعا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب، فأمره أن يبيت على فراشه، ويتسجّى ببرُد له أخضر، ففعل، ثمّ خرج رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) على القوم وهم على بابه.
قال ابن اسحاق: وتتابع الناس في الهجرة، وكان آخر من قدم المدينة من الناس ولم يفتتن في دينه علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وذلك أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)أخّره بمكّة وأمره أن ينام على فراشه، وأجّله ثلاثاً، وأمره أن يؤدّي إلى كلّ ذي حقّ حقّه، ففعل، ثمّ لحق برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).
وروى حسام الدين المتّقي في كنز العمّال (3: 155) على ما في فضائل الخمسة (2: 315) روى عن أبي طفيل عامر بن واثلة، قال: كنت على الباب يوم الشورى، فارتفعت الاصوات بينهم، فسمعت عليّاً(عليه السلام) يقول: بايع الناس لابي بكر وأنا والله أولى بالامر منه، وأحقّ به منه ـ إلى أن قال: إنّ عمر جعلني في خمسة نفر أنا سادسهم، لا يعرف لي فضلاً عليهم في الصلاح، ولا يعرفونه لي، كلّنا في شرع سواء، وايم الله لو أشاء أن أتكلم ثمّ لا يستطيع عربيّهم ولا عجميّهم، ولا المعاهد منهم، ولا المشرك ردّ خصلة منها لفعلت ـ إلى أن قال: أفيكم أحد كان أعظم غنىً عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) حين اضطجعت على فراشه بنفسي وبذلت له مهجة دمي؟ قالوا: اللهّم لا.
قال الحميري، كما في المناقب لابن شهرآشوب (2: 60 ط. ايران):
ومن ذا الذي قد بات فوق فراشه وأدنى وساد المصطفى فتوسّدا
وخمّر منه وجهه بلحافه ليدفع عنه كيد من كان أكيدا
فلمّا بدا صبح يلوح تكشّفت له قطع من حالك اللون أسودا
ودارت به أحراسهم يطلبونه وبالامس ما سبّ النبي وأوعدا
أتوا طاهراً والطيّب الطهر قد مضى إلى الغار يخشى فيه أن يتورّدا
فهمّوا به أن يقتلوه وقد سطوا بأيديهم ضرباً مقيماً ومقعدا
وله أيضاً:
باتوا وبات على الفراش ملفّقا فيرون أنّ محمّداً لم يذهب
حتّى إذا طلع الشَميط كأنّه في الليل صفحة خدِّادهم معرب
ثاروا لاحداج الفراش فصادفت غير الذي طلبت أكفّ الخيَّب
فوقاه بادرة الحتوف بنفسه حذراً عليه من العدوّ المجلب
حتّى تغيّب عنهم في مدخل صلّى الاله عليه من متغيّب
وله أيضاً:
وسرى النبيّ وخاف أن يسطى به عند انقطاع مواثق ومعاهد
وأتى النبيّ وبات فوق فراشه متدثّراً بدثاره كالراقد
وذكت عيون المشركين ونطّقوا أبيات آل محمّد بمراصد
حتّى إذا ما الصبح لاح كأنّه سيف تخرّق عنه غمد الغامد
ثاروا وظنّوا أنّهم ظفروابه فتعاوروه وخاب كيد الكائد
فوقاه بادرة الحتوف بنفسه ولقد تنوّل رأسه بجلامد
وله أيضاً:
وبات على فراش أخيه فرداً يقيه من العتاة الظالمينا
وقد كمنت رجال من قريش بأسياف يلحن إذ انتضينا
فلمّا أن أضاء الصبح جاءت عداتهم جميعاً مخلفينا
فلمّا أبصروه تجنّبوه وما زالوا له متجنّبينا
وقال ابن طوطي:
ولما سرى الهادي النبيّ مهاجراً وقد مكر الاعداء والله أمكر
ونام علي في الفراش بنفسه وبات ربيط الجاش ما كان يذعر()3()
فوافوا بيانا والدجى متقوّض وقد لاح معروف من الصبح أشقر
فألفوا أبا شبلين شاكي سلاحه له ظفر من صائك الدم أحمر
فصال علي بالحسام عليهم كما صال في العريس ليث غضنفر
فولّوا سراعاً نافرين كأنّما هم حمر من قسور الغاب تنفر
فكان مكان المكر حيدرة الرضا من الله لمّا كان بالقوم يمكر
وقال الزاهي:
بات على فرش النبي آمنا والليل قد طافت به أحراسه
حتّى إذا ما هجم القوم على مستيقظ ينصله أشماسه
ثار إليهم فتولّوا مزقا يمنعهم عن قربه حماسه
وقال ابن دريد الاسدي:
أو لم يبت عنه أبو حسن والمشركون هناك ترصده
متلفّقاً ليرد كيدهم ومهاد خير الناس ممهده
فوفى النبيّ ببذل مهجته وبأعين الكفّار منجده
وقال دعبل:
وهو المقيم على فراش محمّد حتّى وقاه كايداً ومكيدا
وهو المقدم عند حومات الندى ما ليس ينكر طارفا وتليدا
وقال مهيار:
وأحقّ بالتمييز عند محمّد من كان منهم منكبيه راقيا
من بات عنه موقياً حوباءه حذر العدا فوق الفراش وفاديا
وقال العبدي:
ما لعلي سوى أخيه محمّد في الورى نظير
فداه إذ أقبلت قريش عليه في فرشه الامير
وافاه بخمّ وارتضاه خليفة بعده ووزير
وقال الاجلّ المرتضى:
وهو الذي ما كان دين ظاهر في الناس لو لا رمحه وحسامه
وهو الذي لا يقتضي في موقف إقدامه نكص به إقدامه
ووقى الرسول على الفراش بنفسه لمّا أراد حمامه أقوامه
ثانيه في كلّ الاُمور وحصنه في البائنات وركنه ودعامه
لله درّ بلائه ودفاعه فاليوم يغشى الدالعين قتامه
وكأنّما أجم العوالي غيله وكأنّما هو بينه ضرغامه
طلبوا مداه ففاتهم سبقاً إلى أمد يشقّ على الرجال مرامه
وقال العوني:
أبن لي من كان المقدّم في الوغى بمهجته عن وجه أحمد دافعا
أبن لي من في القوم جدل مرحباً وكان لباب الحصن بالكفّ قالعا
ومن باع منهم نفسه واقياً بها نبيّ الهدى في الفرش أفداه يافعا
وقد وقفوا طرّاً بجنب مبيته قريش تهزّ المرهفات القواطعا
ومولاي يقظان يرى كلّ فعلهم فما كان مجزاعاً من القوم فازعا
وقال آخر:وليلتـه في الفـرش إذ صمـدت لهعصـائب لا نالـوا عليـه انهجامهـافلمّـا تراءوا ذا الفقـار بكفّهأطار بها خـوف الـردى أوهامهـاوكم كربة عن وجه أحمد لم يزليفرّجها قدماً وينفي اهتمامهاقال الحافظ الشهير ابن شهرآشوب في مناقبه (1: 339 ط. النجف و2: 64 ط. ايران): كلّما كانت المحنة أغلظ، كان الاجر أعظم، وأدلّ على شدّة الاخلاص وقوّة البصيرة، والفارس يمكنه الكرّ والفرّ والروغان والحولان، والراجل قد ارتبط روحه، وأوثق نفسه، وألحج بدنه صابراً محتسباً على مكروه الجراح، وفراق المحبوب، فكيف النائم على الفراش بين الثياب والرياش.نزل قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) في علي(عليه السلام) حين بات على فراش رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، رواه إبراهيم الثقفي، والفلكي الطوسي بالاسناد عن الحكم، عن السدي، وأبي مالك، عن ابن عبّاس، ورواه أبو الفضل الشيباني باسناده عن زين العابدين(عليه السلام)، وعن الحسن، عن أنس وعن أبي زيد الانصاري، عن أبي عمرو بن العلاء، ورواه الثعلبي عن ابن عبّاس، والسدي، ومعبد، أنّها نزلت في علي بين مكّة والمدينة لمّا بات على فراش رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).وفي فضائل الصحابة عن عبد الملك العكبري، وعن أبي المظفّر السمعاني باسنادهما عن علي بن الحسين(عليهما السلام)، قال: أوّل من شرى نفسه لله علي بن أبي طالب، كان المشركون يطلبون رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقام من فراشه وانطلق هو وأبو بكر، واضطجع علي على فراش رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فجاء المشركون فوجدوا عليّاً ولم يجدوا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).قال ابن حماد:باهى به الرحمن أملاك العلىلمّا انثنى من فرش أحمد يهجعيا جبرئيل وميكائيل فانّنيآخيت بينكما وفضلي أوسعأفإن بدا في واحد أمري فمنيفدي أخاه من المنون ويقنعفتوثّقا كلّ يضنّ بنفسهقال الاله أنا الاعزّ الارفعانّ الوصي فدى أخاه بنفسهولفعله زلفى لديّ وموضعفلتهبطا ولتمنعا من رامهأم من له بمكيدة يتسرّعوقال خطيب خوارزم:علي في مهاد الموت عاروأحمد مكنس غار اغتراب يقول الروح بخ بخ يا عليفقد عرّضت روحك لانتهاب.
(1) ربيط الجاش: أي شجاع. والذعر: الفزع.