فهرس الكتاب

مكتبة الإمام أميرالمؤمنين (ع)

 

/ صفحة 324 /

جناية التاريخ

ما أكثر جناية التاريخ على ذوي الفضل والأحساب الذين تستفيد الأمة من تاريخ حياتهم، ورائم أخلاقهم وآثار مآثرهم، ونفسياتهم الكاملة، ومعاقد أقوالهم وبوالغ عظاتهم، ودرر حكمهم، وموارد إقدامهم وإحجامهم.

تجد التاريخ هنا يسرع السير فينسي ذكرهم، ويغمط فضلهم، أو يأتي بمجمل من القول في صورة مصغرة، أو يحور الكلام ومزيجه الخبر المائن أو رواية شائنة، كل ذلك تأييدا لمبدأ، وأخذا بناصر نزعة، وسترا على أقوام آخرين تمس الحقيقة الراهنة بهم وبكرامتهم، وتبعا لأهواء وشهوات من ساسة الوقت أو زعماء الزمن.

فمن هذه النواحي كلها أغفل التاريخ عن التبسط في حياة أبي ذر الماثلة بالفضائل والفواضل الشاخصة بالعبقرية والكمال، التي يجب أن تتخذ قدوة في السلوك و التهذيب، وأن تكون للأمة بها أسوة وقدوة في التقوى والمبدأ.

 

البلاذري

فتجد البلاذري يذكر حديث إخراج أبي ذر إلى الربذة من عدة طرق بصورة مرت في صفحة 292 ويروي قول أبي ذر لحوشب الفزاري " وأبو ذر هو الذي ما أظلت الخضراء.. الخ ".أخرجت كارها. ثم عقبه بأكذوبة سعيد بن المسيب " الذي كان من مناوي العترة الطاهرة وشيعتهم " من إنكار إخراج عثمان إياه، وإنه خرج إليها راغبا في سكناها.

ولا يعلم المغفل إن في ذلك تكذيبا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما أخبر أبا ذر بأنه يخرج من المدينة كما مر ص 316 بطرق صحيحة.

وتكذيبا لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال لعثمان بعد وفاة أبي ذر في المنفى وقد صمم عثمان أن يتبع ذلك بنفي عمار: يا عثمان ! إتق الله فإنك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في تسيير (1) وتكذيبا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سيوافيك الحديث بتمامه إن شاء الله تعالى.

 

/ صفحة 325 /

لأبي ذر في قوله الآنف فيما رواه البلاذري نفسه من طريق صحيح: ردني عثمان بعد الهجرة أعرابيا.

وتكذيبا لعثمان الذي روى عنه البلاذري أيضا إنه لما انهى إليه نعي أبي ذر قال: رحمه الله.

فقال عمار: نعم فرحمه الله من كل أنفسنا فقال عثمان: يا عاض أير أبيه أتراني ندمت على تسييره " يأتي تمام الحديث في مواقف عمار ".

وتكذيبا لما رواه البلاذري أيضا عن كميل بن زياد النخعي في حديث أسلفناه ص 294 وتكذيبا، وتكذيبا.

ولا يعلم المسكين إن تلك الحادثة الفجيعة المتعلقة بعظيم من عظماء الصحابة كأبي ذر وقد كثر حوله الحوار أو الأخذ والرد وتوفرت النقمة والنقد حتى عدت من عظائم الحوادث، وسار بحديثها الركبان، وتذمر لها المؤمنون، وشمت فيها من شمت، و نقم بها على الخليفة، وكان مما استتبعها: إن ناسا من أهل الكوفة قالوا لأبي ذر وهو بالربذة: إن هذا الرجل فعل بك وفعل، هل أنت ناصب لنا راية ؟ يعني نقاتله.

فقال: لا، لو أن عثمان سيرني من المشرق إلى المغرب سمعت وأطعت (1) .

وقال ابن بطال كما في عمدة القاري للعيني 4: 291: إنما كتب معاوية يشكو أبا ذر لأنه كان كثير الاعتراض عليه والمنازعة له وكان في جيشه ميل إلي أبي ذر فأقدمه عثمان خشية الفتنة لأنه كان رجلا لا يخاف في الله لومة لائم.

فما كنت يومئذ تمر بحاضرة من الحواضر الإسلامية إلا وتجد توغلا من أهلها في هذا الحديث، وتغلغلا بين أرجائها من جراء ذلك الحادث الجلل.

إن حادثة كمثلها لا تستر بإنكار مثل ابن المسيب المنبعث عن الولاء الأموي لكنه شاء أن يقول فقال، ذاهلا عن إنه لا يقبل منه ذو مسكة أن يترك مثل أبي ذر دارا هجرته ومهجر شرفه ويعرض عن جوار نبيه ويختار الربذة منزلا له ولأهله مع جدبها وقفرها، ولو كانت له خيرة في الأمر، فما تلك المدامع الجارية من لوعة المصاب وغصة الاكتئاب ؟ وما تلكم النفثات الملفوظة منه ومن مشيعيه في ذلك الوادي الوعر لما حان التوديع وآن الفرقان بين الأحبة ؟.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) طبقات ابن سعد 3: 212.

 

/ صفحة 326 /

ومن أمانة البلاذري في النقل: أنه عند سرد قصة أبي ذر ومشايعة مولانا أمير المؤمنين له قال: جرى بين علي وعثمان في ذلك كلام. ولم يذكر ما جرى لأن فيه نيلا من صاحبه.

ابن جرير الطبري

وإنك تجد الطبري في التاريخ لما بلغ إلى تاريخ أبي ذر يقول: في هذه السنة أعني سنة 30 كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة، وقد ذكر في سبب إشخاصه إياه منها إليها أمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها، فأما العاذرون معاوية في ذلك فإنهم ذكروا في ذلك قصة. ا هـ.

لماذا ترك الطبري تلكم الأمور الكثيرة ولم يذكر منها إلا قصة العاذرين ؟ التي افتعلوها معذرة لمعاوية وتبريرا لعمل الخليفة، وأما الحقائق الراهنة التي كانت تمس كرامة الرجلين، وكانت حديث أمة محمد وقتئذ وهلم جرا من ذلك اليوم حتى عصرنا الحاضر فكره إيرادها، وحسب إنها تبقى مستورة إن لم يلهج هو بها، وقد ذهب عليه إن في فجوات الدهر، وثنايا التاريخ، وغضون كتب الحديث منها بقايا كافية لمن تروقه معرفة نفسيات مناوي أبي ذر، وتحقق أعلام النبوة التي جاء بها النبي الأعظم في قصة أبي ذر من المغيبات.

ثم ذكر القصة بصورة مكذوبة مختلقة لا يصح شئ منها، وكل جملة منها يكذبه التاريخ الصحيح أو الحديث المتسالم على صحته، وكفاها وهنا ما في سندها من الغمز وإليك رجاله

1 ـ السري. مر الكلام فيه في هذا الجزء ص 140 وإنه مشترك بين اثنين عرفا بالكذب والوضع.

2 ـ شعيب بن إبراهيم الأسيدي الكوفي، أسلفنا صفحة 140 من هذا الجزء قول الحافظين: ابن عدي والذهبي فيه وإنه مجهول لا يعرف.

3 ـ سيف بن عمر التيمي الكوفي، ذكرنا في صفحة 84 من هذا الجزء أقوال الحفاظ وأئمة الجرح والتعديل حول الرجل وإنه ضعيف، متروك، ساقط، وضاع، عامة حديثه منكر، يروي الموضوعات عن الاثبات، كان يضع الحديث، واتهم بالزندقة.

 

/ صفحة 327 /

أضف إلى المصادر السابقة: " الاستيعاب " ترجمة القعقاع 2: 535، " الإصابة " 3: 239، مجمع الزوائد للهيثمي 10: 21.

4 ـ عطية بن سعد العوفي الكوفي. للقوم فيه آراء متضاربة بين توثيق وتضعيف وقال الساجي: ليس بحجة وكان يقدم عليا على الكل.

وقال ابن سعد: كتب الحجاج إلى محمد بن القاسم أن يعرضه على سب علي فإن لم يفعل فاضربه أربعمائة سوط واحلق لحيته فاستدعاه فأبى أن يسب فأمضى حكم الحجاج فيه (1) وذكر ابن كثير في تفسيره 1: 501 عن صحيح الترمذي من طريق عطية في علي مرفوعا: لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك.

فقال: ضعيف لا يثبت فإن سالما متروك وشيخه عطية ضعيف. ا هـ.

وكون الرجل في الاسناد آية كذب الرواية إذ الشيعي الجلد كالعوي لا يروي حديث الخرافة.

5 ـ يزيد الفقعسي. لا أعرفه ولا أجد له ذكرا في كتب التراجم.

فانظر إلى أمانة الطبري على ودايع التاريخ فإنه يصفح عن ذلك الكثير الثابت الصحيح ويقتصر على هذه المكاتبة المكذوبة المفتعلة. حيا الله الأمانة.

 

نظرة قيمة في تاريخ الطبري

شوه الطبري تاريخه بمكاتبات السري الكذاب الوضاع، عن شعيب المجهول الذي لا يعرف، عن سيف الوضاع، المتروك، الساقط، المتهم بالزندقة، وقد جاءت في صفحاته بهذا الاسناد المشوه 701 رواية وضعت للتمويه على الحقايق الراهنة في الحوادث الواقعة من سنة 11 إلى 37 عهد الخلفاء الثلاثة فحسب، ولا يوجد شئ من هذا الطريق الوعر في أجزاء الكتاب كلها غير حديث واحد ذكره في السنة العاشرة، وإنما بدا برواية تلكم الموضوعات من عام وفاة النبي الأقدس، وبثها في الجزء الثالث والرابع والخامس، وانتهت بانتهاء خامس الأجزاء.

ذكر في الجزء الثالث من ص 210 في حوادث سنة 11 57 حديثا

أخرج في الجزء الرابع في حوادث السنة الثانية عشر 427 حديثا

أورد في الجزء الخامس في حوادث السنة ال‍ 3723 207 حديثا

المجموع 701 حديثا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تهذيب لابن حجر 7: 226.

 

/ صفحة 328 /

ومما يهم لفت النظر إليه إن الطبري من صفحة 210 من الجزء الثالث إلى ص 241 يروي عن السري بقوله: حدثني. المعرب عن السماع منه، ومن ص 241 يقول: كتب إلى السري.

إلى آخر ما يروي عنه إلا حديثا واحدا في الجزء الرابع ص 82 يقول فيه: حدثنا.

ولست أدري إن السري، وسيف بن عمر هل كان علمهما بالتاريخ مقصورا على حوادث تلكم الأعوام المحدودة فقط ؟ ومن حوادثها على ما يرجع إلى المذهب فحسب لا مطلقا ؟ أو كانت موضوعاتهما تنحصر بالحوادث الخاصة المذهبية الواقعة في الأيام الخالية من السنين المعلومة ؟ لكونها الحجر الأساسي في المبادئ والآراء والمعتقدات، وقد أرادوا خلط التاريخ الصحيح وتعكير صفوه بتلكم المفتعلات تزلفا إلى أناس، واختذالا عن آخرين، ومن أمعن النظر في هذه الروايات يجدها نسيج يد واحدة، ووليد نفس واحد، ولا أحسب إن هذه كلها تخفى على مثل الطبري، غير إن الحب يعمي ويصم.

وقد سودت هاتيك المخاريق المختلفة صحائف تاريخ ابن عساكر، وكامل ابن الأثير، وبداية ابن كثير، وتاريخ ابن خلدون، وتاريخ أبي الفدا إلى كتب أناس آخرين اقتفوا أثر الطبري على العمى، وحسبوا أن ما لفقه هو في التاريخ أصل متبع لا غمز فيه، مع إن علماء الرجال لم يختلفوا في تزييف أي حديث يوجد فيه أحد من رجال هذا السند فكيف إذا اجتمعوا في إسناد رواية.

والتآليف المتأخرة اليوم المشحونة بالتافهات التي هي من ولائد الأهواء و الشهوات كلها متخذة من هذه السفاسف التي عرفت حالها وسنوقفك على نماذج منها في الجزء التاسع إنشاء الله تعالى.

 

ابن الأثير الجزري

وأنت ترى ابن الأثير في الكامل الناقص تبعا للطبري في الذكر والاهمال كما هو كذلك في كل ما توافقا عليه من التاريخ لكنه زاد ضغثا على أبالة فقال: وفي هذه السنة كان ما ذكر في أمر أبي ذر وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة، وقد ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة من سب معاوية إياه وتهديده بالقتل وحمله إلى المدينة

/ صفحة 329 /

من الشام بغير وطاء، ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع لا يصح النقل به، ولو صح لكان ينبغي أن يعتذر عن عثمان، فإن للإمام أن يؤدب رعيته، وغير ذلك من الأعذار لا أن يجعل ذلك سببا للطعن عليه كرهت ذكرها. ا ه‍ .

إن الذي لم يصحح الرجل نقله صححه آخرون فنقلوه قبله وبعده فلم ينل المسكين مبتغاه، وكان قد حسب أن الحقائق الثابتة تخفى عن أعين الناس إن سترها هو بذيل أمانته، وقد ذهب عليه إن أهل النصفة من المؤلفين ورواد الحقايق من الرواة سوف لا يدعون صغيرة ولا كبيرة إلا ويحصونها على الأمة، وإن مدونة التاريخ ليست قصرا على كتابه.

هب إنه ستر التاريخ بالاهمال لكنه ماذا يصنع بالمحدثين ؟ الذين أثبتوا حديث إخراجه من المدينة وطرده عن مكة والشام في باب الفتن وفي باب أعلام النبوة(1) أولا يبهظ ذلك أبا ذر وزملائه من رجالات أهل البيت عليهم السلام ومن يرى رأيه من صلحاء الأمة، ولا سيما إن سابقة الطرد من عاصمة النبوة لم تكن إلا لمثل الحكم " عم الخليفة " وابنه وعائلته زبانية العيث والفساد تنزيها للعاصمة عن معرتهم، وتطهيرا لها عن لوث بقائهم فيها، أفهل يساوي أبو ذر ذلك العظيم عند الله ورسوله شبيه عيسى بن مريم في أمة محمد صلى الله عليه وآله الذي ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء ذا لهجة أصدق منه، وقد أمر الله سبحانه رسوله بحبه، وهو من الثلاثة الذين تشتاق إليهم الجنة، والثلاثة الذين يحبهم الله تعالى.

أفهل يساوي من هو هذا بالطريد اللعين، فيشوه ذكره بهذه التسوية، ويشهر بين الملأ موصوما بذلك، ويمنع الناس عن التقرب إليه، وينادي عليه بذل الاستخفاف، ويحرم الناس عن علومه الجمة التي هو وعائها، ولعمر الحق، وشرف الاسلام، ومجد الانسانية، وقداسة أبي ذر، إن النشر بالمناشير، والقرض بالمقاريض أهون على الديني الغيور من بعض هاتيك الشنايع.

ثم إن تأديب الخليفة للرعية إنما يقع على من فقد الآداب الدينية وطوحت به طوائح الجهل إلى مساقط الضعة.

وأما مثل أبي ذر الذي أطراه رسول الله صلى الله عليه وآله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع ص 328324.

 

/ صفحة 330 /

بما لم يطر به غيره وقر به وأدناه وعلمه وإذا غاب عنه تفقده، وشهد إنه شبيه عيسى بن مريم هديا وسمتا وخلقا وبرا وصدقا ونسكا وزهدا.

فبماذا يؤدب ؟ ولما ؟ وأي تأديب هذا يراه النبي الأعظم بلاء في الله ؟ ويأمر أبا ذر بالصبر وهو يقول: مرحبا بأمر الله.

وبم ولم استحق أبو ذر التأديب ؟ وعمله مبرور مشكور عند المولى سبحانه، ويراه مولانا أمير المؤمنين غضبا لله ويقول له: فارج من غضبت له (1) .

نعم: يجب أن يكون أبو ذر هو المؤدب للناس لما حمله من علم النبوة وأحكام الدين وحكمه، والنفسيات الكريمة، والملكات الفاضلة التي تركته شبيها بعيسى بن مريم في أمة محمد صلى الله عليه وآله.

ما بال الخليفة يتحرى تأديب أبي ذر وهو هذا، ويبهظه تأديب الوليد بن عقبة السكير على شرب الخمر واللعب بالصلاة المفروضة ؟.

ويبهظه تأديب عبيد الله بن عمر على قتل النفوس المحترمة.

ويبهظه تأديب مروان وهو يتهمه بالكتاب المزور عليه.

ويبهظه تأديب الوقاح المستهتر المغيرة بن الأخنس وهو يقول له: أنا أكفيك علي بن أبي طالب.

فأجابه الإمام بقوله: يا ابن اللعين الأبتر والشرة التي لا أصل لها ولا فرع أنت تكفيني ؟ فوالله ما أعز الله من أنت ناصره الخ (2) .

ما بال الخليفة يطرد أبا ذر ويردفه بصلحاء آخرين ويرى الإمام الطاهر أمير المؤمنين أحق بالنفي منهم (3) ويأوي طريد رسول الله الحكم وابنه ويرفدهما وهما هما ؟.

ما بال الخليفة يخول مروان مهمات المجتمع ؟ ويلقي إليه مقاليد الصالح العام ؟ ولم يصخ إلى قول صالح الأمة مولانا أمير المؤمنين له: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به ؟ والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا في نفسه، وأيم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك وما أنا بعائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك، وغلبت على أمرك، يأتي تمام الحديث في الجزء التاسع إن شاء الله تعالى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع ما مر في هذا الجزء صفحة 300.

(2) نهج البلاغة 1: 253.

(3) سيوافيك حديثه في مواقف عمار إن شاء الله تعالى.

 

/ صفحة 331 /

ما بال الخليفة يعطي مروان أزمه أموره ويشذ عن السيرة الصالحة حتى توبخه زوجته نائلة بنت الفرافصة ؟ وتقول: قد أطعت مروان يقودك حيث شاء، قال: فما اصنع قالت.

تتقي الله وتتبع سنة صاحبيك، فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة، وإنما تركك الناس لمكانه، فأرسل إلى علي فاستصلحه فإن له قرابة وهو لا يعصى (1) ليت الخليفة كانت له أذن واعية تسمع من بنت الفرافصة كلمتها الحكمية التي كانت فيها نجاته في النشأتين.

كان من صالح الخليفة أن يدني إليه أبا ذر فيستفيد بعلمه وخلقه ونسكه وأمانته وثقته وتقواه وزهده لكنه لم يفعل، وماذا كان يجديه لو فعل ؟ وحوله الأمويون وهو المتفاني في حبهم وهم لا يرون ذلك الرأي السديد لأنه على طرف النقيض مما حملوه من النهمة والشره، واكتناز الذهب والفضة، والسير مع الهوى والشهوات، وهم المسيطرون على رأي الخليفة وأبو سفيان يقول: يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان ما زلت أرجوها لكم ولتصيرن إلى صبيانكم وراثة.

أو يقول لعثمان: صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة واجعل أوتادها بني أمية فإنما هو الملك ولا أدري ما جنة ولا نار. " راجع ص 285 ".

وعثمان وإن زبره تلك الساعة لكنه لم يعد رأيه في بني أمية المتلاعبين بالدين لعبهم بالاكر، ولا أدري هل تهجس في تأديب أبي سفيان على ذلك القول الإلحادي الشائن كما تهجس وفعل في أبي ذر البر التقي، ومن يماثله من الصلحاء الأتقياء ؟.

لقد فات ابن الأثير كل هذا فاعتذر عن الرجل بأن الخليفة يؤدب رعيته.

عماد الدين ابن كثير جاء ابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية 7: 155 فبنى على أساس ما علاه من قبله في حذف ما كان هنالك من هنات وزاد في الطنبور نغمات قال: كان أبو ذر ينكر على من يقتني مالا من الأغنياء ويمنع أن يدخر فوق القوت ويوجب أن يتصدق بالفضل ويتأول قول الله سبحانه وتعالى: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.

فينهاه معاوية عن إشاعة ذلك فلا يمتنع فبعث يشكوه إلى عثمان

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تاريخ الطبري 5: 112، الكامل لابن الأثير 3 69.

 

/ صفحة 332 /

فكتب عثمان إلى أبي ذر أن يقدم عليه المدينة فقدمها فلامه عثمان على بعض ما صدر منه واسترجعه فلم يرجع فأمره بالمقام بالربذة وهي شرقي المدينة ويقال: إنه سال عثمان أن يقيم بها وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي: إذا بلغ البناء سلعا فاخرج منها.

وقد بلغ البناء سلعا، فأذن له عثمان بالمقام بالربذة وأمره أن يتعاهد المدينة في بعض الأحيان حتى لا يرتد أعرابيا بعد هجرته ففعل فلم يزل مقيما بها حتى مات. اه‍.

وقال في ص 165 عند ذكر وفاته: جاء في فضله أحاديث كثيرة من أشهرها ما رواه الأعمش عن أبي اليقظان عثمان بن عمير عن أبي حرب بن أبي الأسود عن عبد الله ابن عمرو إن رسول الله قال: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر. وفيه ضعف.

ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وآله ومات أبو بكر خرج إلى الشام فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية فاستقدمه عثمان إلى المدينة ثم نزل الربذة فأقام بها حتى مات في ذي الحجة من هذه السنة، وليس عنده سوى امرأته وأولاده فبينما هم كذلك لا يقدرون على دفنه إذ قدم عبد الله بن مسعود من العراق في جماعة من أصحاب فحضروا موته وأوصاهم كيف يفعلون به، وقيل: قدموا بعد وفاته فولوا غسله ودفنه، وكان قد أمر أهله أن يطبخوا لهم شاة من غنمه ليأكلوه بعد الموت، وقد أرسل عثمان بن عفان إلى أهله فضمهم مع أهله. ا هـ.

هذا كل ما في عيبة ابن كثير من المخاريق في المقام.

وفيه مواقع للنظر:

1 ـ إتهامه أبا ذر بأنه كان ينكر اقتناء المال على الأغنياء.. الخ.

هذه النظرية قديما ما عزوه إلى الصحابي العظيم إختلاقا عليه وزورا، وقد تحولت في الأدوار الأخيرة بصورة مشوهة أخرى من نسبة الاشتراكية إليه وسنفصل القول عنها تفصيلا إنشاء الله تعالى.

2 ـ إنه حسب نزوله الشام وهبوطه الربذة بخيرة منه بعد ما أوعز إلى أن عثمان أمره بالمقام بالربذة، أما حديث الربذة فقد أوقفناك آنفا على أنه كان منفيا إليها، و أخرج من مدينة الرسول بصورة منكرة، ووقع هنالك ما وقع بين علي عليه السلام ومروان، وبينه وبين عثمان، وبين عثمان وبين عمار، واعتراف عثمان بتسييره، وتسجيل علي أمير المؤمنين عليه ذلك، وسماع غير واحد من أبي ذر الصادق نفسه حديثه، وإن عثمان

/ صفحة 333 /

جعله أعرابيا بعد الهجرة، وهو مقتضى إعلام النبوة في إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله إياه بأنه سوف يخرج من المدينة، ويطرد من مكة والشام، وأما خبر الشام فقد مر إخراجه إليها ولم يكن ذلك باختياره أيضا.

3 ـ وأما حديث بلوغ البناء السلع فإفك مفترى على أم ذر وقد جاء في مستدرك الحاكم 3: 344، وذكره البلاذري كما مر في ص 293 ورآه سبب خروج أبي ذر إلى الشام بإذن عثمان لا سبب خروجه إلى الربذة كما في حديث الطبري.

على إن ابن كثير أخذه من الطبري في التاريخ وجل ما عنده إنما هو ملخص ما فيه مع التصرف فيه على ما يروقه، وإسناد الرواية في التاريخ رجاله بين كذاب وضاع وبين مجهول لا يعرف إلى ضعيف متهم بالزندقة كما أسلفناه في ص 84، 140، 141 327 وهم:

1 ـ السري 2 ـ شعيب 3 ـ سيف 4 ـ عطية 5 ـ يزيد الفقعسي.

وحديث يكون في إسناده أحد من هؤلاء لا يعول عليه، وعلى فرض اعتباره فإنه لا يقاوم الصحاح المعارضة له الدالة على إخبار رسول الله صلى الله عليه وآله بأنه يخرج ويطرد من مكة والمدينة والشام: راجع ص 316 319 وهي معتضدة بما مر عن أبي ذر وعثمان وغيرهما في تسيير عثمان إياه، أضف إليها الأعذار الباردة الواردة عن أعلام القوم في تبرير عثمان عن هذا الوزر الشائن.

4 ـ وأما ما ذكره من أمر عثمان أبا ذر أن يتعاهد المدينة حتى لا يرتد أعرابيا فإنه من جملة تلك الرواية المكذوبة التي تشمل على حديث السلع، وقد مر من طريق البلاذري بإسناد صحيح في ص 294 قول أبي ذر: ردني عثمان بعد الهجرة أعرابيا.

على إنه لم يذكر أحد إن أبا ذر قدم المدينة خلال أيام نفيه من سنة ثلاثين إلى وفاته سنة اثنتين وثلاثين حتى يكون ممتثلا لأمر عثمان بالتعاهد.

5 ـ ما ذكره من إنه جاء في فضله أحاديث كثيرة من أشهرها.. الخ.

إن شنشنة الرجل في الفضائل إنه إذا قدم لسرد تاريخ من يهواه من الأمويين ومن انضوى إليهم من رواد النهم جاء بأشياء كثيرة وسرد التافه الموضوع في صورة الصحاح من غير تعرض لإسنادها أو تعقيب لمضامينها، ولا يمل من تسطيرها وإن

/ صفحة 334 /

سودت أضابير من القراطيس، لكنه إذا وصلت النوبة إلى ذكر فضل أحد من أهل البيت عليهم السلام أو شيعتهم وبطانتهم من عظماء الأمة وصلحائها كأبي ذر تضييق عليه الأرض برحبها، وتلكأ وتلعثم كأن في لسانه عقلة وفي شفتيه عقدة، أو إنه كان في أذنه وقرأ عن سماعها فلم تنه إليه، وإن اضطرته الحالة إلى ذكر شئ منها جاء به في صورة مصغرة كما تجده هاهنا حيث جعل ما هو من أشهر فضائل أبي ذر ضعيفا، وهو يعلم أن طريق هذا الاسناد ليس منحصرا بما ذكره هو من طريق ابن عمرو الذي أخرجه ابن سعد والترمذي وابن ماجة والحاكم، وإنما جاء من طريق علي أمير المؤمنين وأبي ذر وأبي الدرداء وجابر بن عبد الله وعبد الله بن عمر وأبي هريرة، وحسن الترمذي غير واحد من طرقه في صحيحه 2: 221.

وإسناد أحمد من طريق أبي الدرداء في مسنده 5: 197 صحيح رجاله كلهم ثقات.

وإسناد الحاكم من طريق أبي ذر صححه هو وأقره الذهبي كما في " المستدرك " 3: 342.

وإسناد الحاكم من طريق علي عليه السلام وأبي ذر أيضا صححه هو وأقره الذهبي كما في " المستدرك " 4: 480.

وأما إسناد ما أخرجه ابن كثير من طريق ابن عمرو فقال الذهبي فيما نقله عنه المناوي في شرح الجامع الصغير: سنده جيد. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال أحمد وثقوا وفي بعضهم خلاف. وحسنه السيوطي في الجامع الصغير. فأين الضعف المزعوم ؟ ولا يهمنا التعرض لبقية ما رمى القول فيه على عواهنه فإنها مأخوذة من الطبري مع عدم الاجادة في الأخذ، لعله أراد إصلاح ما في روايته من التهافت فزاد عوارا على عواره، وروايته هي من جملة أساطير أوقفناك على وضعها ص 327.

والممعن في كتب المحدثين يعلم أن هذه الجنايات التي أوعزنا إلى بعضها لم تعد كتب الحديث فتجدها تثبت ما من حقه الحذف، وتحذف ما يجب أن يذكر، ونكل عرفان ذلك إلى سعة باعك أيها القارئ الكريم ! ؟

لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد

" سور ق 22 "

 

* * *

 

/ صفحة 335 /

نظرية أبي ذر في الأموال

وافى سيدنا أبو ذر كغيره من قرناءه المقتصين أثر الكتاب والسنة يبغي صالح قومه ونجاح أمته، يبغي بهم أن لا يتخلفوا عنهما قيد ذرة، يريد أن ينفي عن الناس البخل الذميم، وأن تكون لضعفاء الأمة لماظة من منائح الأغنياء، وأن لا يمنعوا حقوقهم التي افترضها الله لهم، وكان نكيره الشديد متوجها إلى مغتصبي أموال الفقراء، والى أهل الأثرة الذين كانت القناطير المقنطرة من الذهب والفضة منضدة في دورهم، و كانت سبائك التبر تقسم بكسرها بالفؤوس، من دون أن تخرج منها الحقوق المفروضة من أخماس وزكوات، ومن غير إغاثة للملهوفين الذين كان قوتهم السغب، وريهم الظمأ وراحتهم النكد، وعند القوم أموال لهم متكدسة لا تنتفع بها العفاة، ولا يستفيد من نماءها المجتمع، ولا يصرف شئ منها في الصالح العام، وقد شاء الله سبحانه للذهب والفضة أن تتداول بهما الأيدي، ويتقلبا في وجوه الحرف والمهن والصنايع، فتنتجع العامة بهما فأربابهما بالأرباح، والضعفاء بالأجور، والبلاد بالعمران، والأراضي بالإحياء والمعالم والمعارف بالدعاية والنشر، والملأ العلمي بالجوامع والكليات والكتب و الصحف، والمضطرون بحقوقهما الإلهية واستحكامات تقتضيها الظروف، حتى تكون الأمة سعيدة بما يتسنى لها من تلكم الجهات من السعي وراء مناجحها، ولذلك حرم المولى سبحانه اتخاذ الأواني من الذهب والفضة لئلا يبقيا جامدين يعدوهما أعظم الفوائد وأكثرها المرقومة فيهما المترقبة منهما من الوجوه التي ذكرناها.

كان نكير سيدنا أبي ذر موجها إلى أمثال من ذكرناهم كمعاوية الذي كان يرفع أبو ذر عقيرته على بابه كل يوم ويتلو قوله تعالى: الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.

وكان يرى الأموال تجبى إليه فيقول: جاءت القطار تحمل النار.

وكمروان الذي كان إحدى منايح عثمان له خمس افريقية وهو خمسمائة ألف دينار.

 

/ صفحة 336 /

وكعبد الرحمن بن عوف وقد خلف ذهبا قطع بالفؤوس حتى مجلت أيدي الرجال منه، وترك أربع نسوة فأصاب كل امرأة ثمانون ألفا، فتكون ثروته من هذا الذهب المكنوز فحسب ما مر في صفحة 284.

وكزيد بن ثابت المخلف من الذهب والفضة غير الأموال المكردسة والضياع العامرة ما كان يكسر عند تقسيمه بالفؤوس.

وكطلحة التارك بعده مائة بهارا في كل بهار ثلاث قناطر ذهب، والبهار جلد ثور وهذه هي التي قال عثمان فيها: ويلي على ابن الحضرمية (يعني طلحة) أعطيته كذا وكذا بهار ذهبا وهو يروم دمي يحرض على نفسي (1) أو طلحة التارك مائة جمل ذهبا كما مر عن ابن الجوزي.

وأمثال هؤلاء البخلاء على المجتمع الديني، وهو يرى إن خليفة الوقت يأتيه أبو موسى بكيلة ذهب وفضة فيقسمها بين نسائه وبناته من دون أي اكتراث لمخالفة السنة الشريفة، وهو يعلم الكمية المدخرة من النقود التي نهبت يوم الدار.

زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من المذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عند حسن المآب (2) .

فما ظنك بالرجل الديني الواقف على كل هذه الكنوز من كثب ؟ وهو يعلم بواسع ما وعاه من رسول الله صلى الله عليه وآله من المغيبات، ومما يشاهده من نفسيات القوم، إن تلكم الأموال المكتنزة سوف يصرف أكثرها في الدعوة إلى الباطل، وفي تجهيز العساكر من ناكثي بيعة الإمام الطاهر والخارجين عليه والمزحزحين حليلة المصطفى عن خدرها عن عقر داره صلى الله عليه وآله وسلم، وفي أجور الوضاعين للأحاديث في فضائل بني أمية والوقيعة في رجالات أهل البيت عليهم السلام، وفي محر في الكلم عن مواضعه، وفي منائح لاعني مولانا أمير المؤمنين وقاتلي الصلحاء الأبرياء من موالي العترة الطاهرة، ويصرف شئ كثير منها في الخمور والفجور، إلى غير ذلك من وجوه الشر.

ما ظنك بالرجل ؟ وفي أذنه نداء الصادع الكريم: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) شرح ابن أبي الحديد 2: 404.

(2) سورة آل عمران: 14.

 

/ صفحة 337 /

رجلا اتخذوا مال الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا.

ويرى بين عينيه آل أبي العاص بلغوا ثلاثين وجاءوا يلعبون بالملك تلاعب الصبيان بالأكر، وقد اتخذوا مال الله دولا..

فهل تراه يخفق على ذلك كله، كأنه لا يبصر ولا يسمع ولا يعلم ؟ أو أنه يدوخ العالم بعقيرته ؟ ويلفت الأنظار إلى جهات الحكمة ووجوه الفساد.

عساه يكسح شيئا من الشر الحاضر، ويسد عادية المعرة المقبلة وإن أسس هذا الدين الحنيف الدعوة إلى الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون (1) .

لقد ناء أبو ذر بهذه المهمة الدينية وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وما كان يلهج إلا بقوله تعالى: الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.

ولم يشذ في تأويل الآية عما يقتضيه ظاهرها لأن مطمح نظره كان هؤلاء الذين ذكرناهم ممن جمعوا من غير حله، وادخروا على غير حقه، ولم يؤدوا المفترض مما استباحوه من المال واكتنزوه، ولذلك لم يوجه نكيره إلى ناس آخرين من زملائه ومعاصريه من أهل اليسار كقيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الذي كان يهب غير الحقوق الواجبة عليه آلافا مؤلفة وقد عرفت شطرا من يساره في الجزء الثاني 8885.

وكأبي سعيد الخدري الذي كان يقول: ما أعلم أهل بيت من الأنصار أكثر أموالا منا (2) .

وكعبد الله بن جعفر الطيار الذي دوخ الأجواء ذكر ثروته وعطاياه وقد فصلها ابن عساكر في تاريخه 7: 344325 وغيره.

وعبد الله بن مسعود الذي خلف تسعين ألفا كما في صفة الصفوة.

وحكيم بن حزام الذي كانت بيده دار الندوة فباعها من معاوية بمائة ألف درهم فقال له عبد الله بن الزبير: بعت مكرمة قريش.

فقال حكيم: ذهبت المكارم إلا التقوى يا ابن أخي إني اشتريت بها دارا في الجنة أشهدك أني قد جعلتها في سبيل الله. وحج

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سورة آل عمران آية: 104.

(2) صفة الصفوة لابن الجوزي 1: 300.

 

/ صفحة 338 /

حكيم ومعه مائة بدنة قد أهداها وجللها الحبرة، وقف مائة وصيف يوم عرفة في أعناقهم أطوقة الفضة قد نقش في رؤسها: عتقاء الله عزوجل عن حكيم وأعتقهم، وأهدى ألف شاة (1) .

إلى أناس آخرين لدة هؤلاء من أهل اليسار.

فلم تسمع أذن الدنيا إن أبا ذر وجه إلى أحد من هؤلاء الأثرياء لوما لأنه كان يعلم بأنهم اقتنوها من طرقها المشروعة وأدوا ما عليهم منها وزادوا، وراعوا حقوق المروءة حق رعايتها، وما كان يبغي بالناس إلا هذه.

لماذا يرى أبو ذر بناء معاوية الخضراء في دمشق فيقول: يا معاوية ! إن كانت هذه الدار من مال الله ؟ فهي الخيانة، وإن كانت من مالك ؟ فهذا الإسراف.

فسكت معاوية ويقول أبو ذر: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سنة نبيه، والله إني لأرى حقا يطفأ، وباطلا يحيى، وصادقا يكذب، وأثرة بغير تقى، وصالحا مستأثر عليه (2) .

ويرى بناء المقداد داره بالمدينة بالجرف وقد جعلها مجصصة الظاهر والباطن كما في مروج الذهب 1: 434 فلا ينكره عليه ولا ينهاه عنه ولا ينبس ببنت شفة، وليس ذلك إلا لما كان يراه من الفرق الواضح بين المالين والبنائين وصاحبيهما.

وأما وجوب إنفاق المال الزائد على القوت كله الذي عزاه إلى سيدنا أبي ذر المختلقون فمن أفائكم المفتريات، لم يدعه أبو ذر ولا دعا إليه وكيف يكون ذلك ؟ وأبو ذر يعي من شريعة الحق وجوب الزكاة ؟ وهل يمكن ذلك إلا بعد اليسار والوفر الزائد على المؤن ؟ والله سبحانه يقول: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم، وفي تنكير الصدقة و (من) التبعيض دلالة على أن المأخوذ بعض المال لأكله.

على إن النصب الزكوية المضروبة في النقدين والأنعام والغلات كلها نصوص على إن الباقي من المال مباح لأربابه، ولأبي ذر نفسه في آداب الزكاة أحاديث أخرجها البخاري ومسلم وغيرها من رجال الصحاح وأحمد والبيهقي وغيرهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) صفة الصفوة لابن الجوزي 1: 304 .

(2) راجع ما مر ص 304.

 

/ صفحة 339 /

فلو كان يجب إنفاق بعد إخراج الزكاة فما معنى التحديد بالنصب والإخراج منها ؟ وهذا معنى واضح لا يخفى على كل مسلم فضلا عن مثل أبي ذر الذي هو وعاء العلم والمحيط بالسنة الشريفة.

ولو كانت على المكلف بقية من الواجب بعد الزكاة لم يؤدها فما معنى الفلاح ؟ الذي وصف الله تعالى به المؤمنين بقوله: قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، سورة المؤمنون 41 وليت شعري إن كان من المفترض إنفاق كل ما للانسان من المال بعد المؤن فبماذا يحترف أو يمتهن ؟ وليس عنده فاضل على المؤن.

أبما ادخره لقوته ؟ أم بما رجع عنه بخفي حنين ؟ ومماذا يخرج الزكاة ؟ فيسد بها خلة الضعفاء ويقتات هو في مستقبله الذي هو أوان فاقته.

أمن المحتمل إن أبا ذر كان يوجب ترك كل هذه ؟ ويريد أن تكون الدنيا مشحونة بالعفاة المتكففين ؟ فلا يرى المتسول إلا شحاذا مثله، ولا يجد العافي منتجعا لكشف كربته وتسديد إعوازه إن دامت الحالة على ما يتقول به على أبي ذر سنة أو دون سنة.

تالله لا يبغي أبو ذر بالمجتمع الديني هذه الضعة وهو لا يحب لهم إلا الخير كله، ولا يريد هذا أي مصلح أو صالح في نفسه فضلا عن أبي ذر المعدود في علماء الصحابة ومصلحيهم وصلحائهم.

نعم: غضب أبو ذر لله كما قاله مولانا أمير المؤمنين (1) وغضب للمسلمين حيث رأى فيئهم مدخرا عنهم تتمتع به سماسرة النهمة والجشع.

يرى فيئهم في غيرهم متقسما * وأيديهم مـــــن فيئهم صفـرات

فكان كل ما انتابه من جراء هذا الأخذ والرد بعين الله وفي سبيله كما عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: أنت رجل صالح وسيصيبك بلاء بعدي قال: في الله ؟ قال: في الله.

قال: مرحبا بأمر الله. راجع ص 316 من هذا الجزء.

ثم إن ما شجر من الخلاف بين أبي ذر ومعاوية في قوله تعالى: الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم فخصه معاوية بأهل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) راجع ص 300 من هذا الجزء.

 

/ صفحة 340 /

الكتاب وعممه أبو ذر عليهم وعلى المسلمين كما أخرجه البخاري ومر بلفظه ص 295 وهذه الرواية هي المستند الوحيد لجملة من الأفاكين على أبي ذر ظاهر في أنه لا خلاف بينهما في المقدار المنفق من المال وإنما هو في توجيه الخطاب، فارتأى معاوية إن المخاطب به أهل الكتاب، وعلم أبو ذر من مستقي الوحي ولحن الآية الكريمة إنها تعم كل مكلف.

إذن فيجب إما أن يعزى هذا الشذوذ إليهما جميعا، أو تبرئان عنه جميعا، فإفراد أبي ذر بالقذف من ولائد الضغائن والإحن.

وأياما كان فالمراد إنفاق البعض لا الكل، وإن كان النظر القاصر قد يجنح إلى الأخير لأول وهلة.

وليست هذه الآية بدعا من آيات أخرى تماثلها في السياق كقوله تعالى: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل. الآية " البقرة 261 ".

وقوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم. " البقرة 274 ".

وقوله تعالى: الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم. " البقرة 262 ".

وقوله تعالى: ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله.

الآية " البقرة 265 " على أن هذه الآيات أصرح من هاتيك في العموم لمكان الجمع المضاف فيها، لكن المعلوم بالضرورة من دين الاسلام إنه نزلها إلى البعض، ولعل النكتة في الاتيان بالجمع المضاف فيها: إن الموصوفين بها بلغوا من نزاهة النفس وكرم الطباع وعلو الهمة حدا لا يبالون معه لو توقفت الحالة على إنفاق كل أموالهم.

أو إنهم حين يسمحون بإنفاق البعض في سبيل الله تعالى يجعله سبحانه في مكان إنفاق الكل بفضل منه ويثيبهم على ذلك.

وبهذا يعلم السر في قوله تعالى: إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيلهم " الأنفال 36 ".

وقوله تعالى: والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس. الآية " النساء 38 ".

فليست هذه الآيات في منتأى عن قوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون. " آل عمران 92 ".

 

/ صفحة 341 /

وقوله تعالى: قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة وينفقون مما رزقناهم سرا وعلانية. " إبراهيم 31 ".

وقوله تعالى: الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. " البقرة 3 ".

وقوله تعالى: الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. " الأنفال 3 ".

وقوله تعالى: والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. " الحج 35 ".

وقوله تعالى: ويدرأون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون، " السجدة 16 ".

وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا انفقوا مما رزقناهم " البقرة 254 ".

وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم " البقرة 267 ".

وقوله تعالى: وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت " المنافقون 10 ".

على إن غير واحد من تلكم الآيات تومي إلى الانفاق المندوب كما نص عليه علماء التفسير وحفاظ الحديث، ومع ذلك لم يدعها سبحانه على ما يتوهم منها من جمعها المضاف حتى جعل لها حدا بقوله عز وجل: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا. " الاسراء 29 ".

وقوله تعالى: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما. " الفرقان 67 ".

أترى أن أبا ذر سلام الله عليه عزب عنه كل هذه الآيات الكريمة والأصول المسلمة، أو كان له رأي خاص في تأويلها تجاه الحقائق الراهنة ؟ حتى جاء بعد لأي من عمر الدنيا رعرعة تجشأهم الدهر فقائهم وقفوا على تلكم الكنوز المخبأة.

ولو كان لأبي ذر أدنى شذوذ عن الطريقة المثلى في حكم إلهي، شذوذا يخل بنظام المجتمع ويقلق السلام والوئام، وتكثر حوله القلاقل، وفيه إنارة العواطف و الاخلال بالأمن أو التزحزح عن مبادئ الاسلام ؟ لكان مولانا أمير المؤمنين عليه السلام أول من يردعه ويحبسه عن قصده السيئ وأبو ذر أطوع له من الظل لديه ؟ لكنه عليه السلام بدلا عن ذلك يقول: غضبت لله فارج من غضبت له.

ويقول: والله ما أردت تشييع أبي ذر إلا لله.

ويقول لعثمان: إتق الله فإنك سيرت رجلا صالحا من المسلمين فهلك في تسييرك.

وأمير المؤمنين من تعرفه بتنمره في ذات الله لا تأخذه في الله لومة لائم، وهو مع الحق

/ صفحة 342 /

والحق معه في كل ما يقول ويفعل.

وهل ترى ؟ أن رسول الله صلى الله عليه وآله مع أنه كان يعلم أن أبا ذر سوف ينوء في أخرياته بدعوة باطلة كهذه طفق ينوه به، ويعرفه بني الملأ بصفات فاضلة تكبر مقامه، وتعظم مكانته عند الجامعة، وتمكنه من القلوب الصالحة ويول عمر له صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله ! فتعرف ذلك له ؟ فيقول صلى الله عليه وآله: نعم فاعرفوه له ؟ فيكون صلى الله عليه وآله مؤيدا له على عيثه، ومؤسسا لباطله، ومعرفا لضلاله ؟ حاشا رسول العظمة من مثل ذلك.

فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم

قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا، إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم

ما ليس لكم به علم، ما لهم به من علم ولا لآبائهم،

إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون

 

* * *

 

/ صفحة 343 /

أبو ذر والاشتراكية

لقد عرفت كل ما في كنانة الأولين من نبال مرشوقة إلى العبد الصالح شبيه عيسى في أمة محمد صلى الله عليه وآله فهلم هاهنا إلى رجرجة الآخرين من مقلدة الدور الأخير الخابطين خبط عشواء، الذين رموا أبا ذر وأجله بالاشتراكية تارة وبالشيوعية أخرى.

هل أحاط علما هؤلاء الأغرار بمبادئ الشيوعية التعيشة، ومواد الاشتراك الذي هو بمقربة من رديفته المبغوضة ؟ وهل أتيح لهم عرفان مغازي أبي ذر المصلح العظيم فيما قال ودعا إليه ؟ حتى طفقوا يوفقوا بين المبدأين.

لا أحسب إنهم عرفوا شيئا من تلكم المغازي وإنهم في ظني الغالب بهم شيوعية خونة يديفون السم في الدسم، ويسرون حسوا في ارتغاء، إتخذوا ما قالوه بل تقولوه أكبر دعاية إلى تلكم المبادئ الهدامة لأسس المدنية والحضارة، المضادة لناموس الطبيعة، فضلا عن حدود الاسلام، بجعل مثل أبي ذر العظيم شيوعيا أو اشتراكيا، وقد صافقه على ما هتف به ونقم على من ناوءه وآذاه من القوم جل الصحابة إن لم نقل كلهم ممن يعبأ به وبرأيه، واستاءوا لما نكب به من جراء ذلك الهتاف وفي مقدمهم مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام وإبناه الإمامان إن قاما وإن قعدا، وعمار الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله: إن عمارا مع الحق والحق معه يدور عمار مع الحق أينما دار (1) إلى كثيرين وافقوا هؤلاء على النقمة والاستياء، فلم يكن أبو ذر شاذا في رأيه، ولا أنهي إلينا إنه خالفه أحد من الصحابة فدونك صحايف التاريخ وزبر الحديث.

نعم: خالفه الذين يريدون أن يخضموا مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، وكانوا يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقون منها ما يجب عليهم إنفاقه، ويحرمون الأمة عن إعطياتهم وما ينمو منها، ويريدون للضعفاء أن يرزحوا تحت نير الاضهاد، ويرسفوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سيوافيك في محله في الجزء التاسع بإذن الله تعالى.

 

/ صفحة 344 /

في قيود الفاقة والضعة، خاضعين لهم مستعبدين، وللقوم من أموالهم قصور مشيدة ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، يأكلون فيها مال الله أكلا لما، ويحبون احتكاره حبا جما.

نعم: خالفه أولئك الذين عرفهم يزيد بن قيس الأرحبي يوم صفين بقوله من خطبة له: يحدث أحدهم في مجلسه بذيت وذيت، ويأخذ مال الله، ويقول: لا إثم علي فيه، كأنما أعطي تراثه من أبيه، كيف ؟ إنما هو مال الله أفاءه علينا بأسيافنا ورماحنا قاتلوا.

عباد الله ! القوم الظالمين الحاكمين بغير ما أنزل الله ولا تأخذكم فيهم لومة لائم، إنهم إن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم، وهم من قد عرفتم وجربتم (1) فأي إنسان يبلغه إن العظماء الذين نوهنا بذكرهم وهم أهل الفضائل والعلوم اعتنقوا مبدءا لا يروقه أن يقتص أثرهم ؟ وهو لا يعلم أن ذلك العزو المختلق تقولوه دعاية إلى ضلالهم وترويجا لباطلهم وسترا على عوارهم.

دع ذلك كله وهلم معي إلى النظر في مبادئ الشيوعية والفرق الاشتراكيين، إن القوم على تعدد فرقهم إلى الاشتراكية " الديمقراطية " والاشتراكية " الوطنية النازية " والشيوعية، والماركسية " اشتراكية رأس المال " وبالرغم من تباينهم الكثير في شتى النواحي لا يختلفون في مواد ثلاثة تجمع شملهم المبدد " بدد الله شملهم ".

1 ـ تقويض النظام الحالي، وتشييد نظام جديد على أنقاضه يضمن توزيع الثروة توزيعا عادلا بين الأفراد.

2 ـ إلغاء الملكية الخاصة " ثروات الانتاج " كراس المال، والأرض، والمصانع على أن تستولي الدولة على هذه الملكيات جميعها، وتجعلها ملكية عامة تديرها للمصلحة العامة.

3 ـ يشتغل الأفراد لحساب الدولة بأجور تعطى لهم بالتساوي، على أساس قيمة العمل الذي ينتجه كل منهم، وتبعا لذلك لا يكون هناك دخل للأفراد سوى الأجور.

وتنفرد الشيوعية عن بقية الاشتراكيين بأمرين: أحدهما إلغاء الملكية الخاصة إلغاء نهائيا من غير فرق بين (ثروات الانتاج وثروات الاستهلاك) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تاريخ الطبري 6: 10، كامل ابن الأثير 3: 128، شرح ابن أبي الحديد 1: 485.

 

/ صفحة 345 /

وثانيهما: توزيعها المال بين الأفراد لكل على حسب حاجته، ويستخدم من كل على حسب قدرته، فيكلف العامل بالعمل على قدر استطاعته، ويدر عليه المعاش بما يسد حاجته.

فعلينا هاهنا أن نعيد ذكر ما هتف به أبو ذر في شتى مواقفه، وما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وآله في باب الأموال، وما قال في حقه عظماء الصحابة في الاطراء له والدفاع عنه بعد هتافه بما هتف، وما يؤثر فيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله من الثناء الجميل وعهده إليه بما ينتابه من النكبات فنظر إليها نظرة مستشف للحقيقة فنرى هل ينطبق شئ منها على مواد (الشيوعية والاشتراكية) ؟ أو ينحسر عنه ذلك الإفك المفترى داحرا إلى حضيض البهت والافتراء ؟.

إن من قول أبي ذر لعثمان: ويحك يا عثمان ! أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله ورأيت أبا بكر وعمر ؟ هل رأيت هذا هديهم ؟ إنك لتبطش بي بطش الجبار.

ومن قوله له أيضا: إتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام.

قال عثمان: مالك وذلك ؟ لا أم لك.

قال أبو ذر: والله ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

تجد أبا ذر هاهنا يلفت نظر عثمان إلى عهد الرسالة ثم إلى عهد الشيخين ويدعوه إلى اتباع تلكم السير، ومن جلية الحال عند هاتيك الأدوار الثلاثة إطراد الملكية الخاصة، ووجود أهل اليسار من الملاكين، والتجار، وحريتهم في ثروتي الانتاج والاستهلاك، واختصاص كل مالية من نقود أو عقار أو ضياع أو مصانع أو أطعمة بأربابها ومن النواميس المسلمة عند نبي الاسلام صلى الله عليه وآله إنه لا يحل مال امرء إلا بطيب نفسه (1) وفي الذكر الحكيم: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض، فتجده يعزو الأموال إلى أربابها ويحرم أكلها بالباطل إلا أن تستباح بتجارة شرعية تستتبع رضا المالك الخاص، وهناك آيات كريمة كثيرة تربو على خمسين آية لم يعدها عزو الأموال إلى مالكيها تقدم شطر منها في صفحة 340.

فأبو ذر في هذا الموقف يدعو إلى ضد الدعوة الاشتراكية الملغية للملكية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مر الحديث ص 129.

 

/ صفحة 346 /

الخاصة، ويرى مخالفة ذلك من المنكر الذي يجب النهي عنه، فلم يردعه عما مضى فيه قول عثمان: مالك وذلك ؟ لا أم لك.

ومن قوله لمعاوية لما بنى الخضراء، إن كانت هذه الدار من مال الله ؟ فهي الخيانة وإن كانت من مالك ؟ فهذا الإسراف فأبو ذر هاهنا يجوز أن يكون المال مقسوما إلى مال الله وإلى ما يخص للانسان نفسه، فيرتب على الأول الخيانة، وعلى الثاني السرف، ولم ينقم على معاوية نفس تصرفه في المال وإنما نقم عليه أحد الأمرين الخيانة أو الإسراف، ولو كان ملغيا للملكية لكان الواجب عليه أن ينتقد منه أصل تصرفه في تلكم الأموال.

وتراه يسمي مال المسلمين من الفئ والصدقات والغنائم مال الله، وقد روى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله أيضا لعثمان حيث قال له: أشهد إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إذا بلغ بنوا أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا وعباده خولا، ودينه دخلا وصدقه في حديثه مولانا أمير المؤمنين عليه السلام.

وهذه التسمية لم تكن قصرا على عهد أبي ذر ومعاوية وإنما كانت دارة قبله وبعده، هذا عمر بن الخطاب وقوله لأبي هريرة لما قدم من البحرين: يا عدو الله وعدو كتابه ! أسرقت مال الله ؟ قال: لست بعدو الله ولا بعدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما ولم أسرق مال الله (1) .

وقال الأحنف بن قيس: كنا جلوسا بباب عمر فخرجت جارية فقلنا: هذه سرية عمر فقالت: إنها ليست بسرية عمر إنها لا تحل لعمر، إنها من مال الله.

قال: فتذاكرنا بيننا ما يحل له من مال الله قال: فرقي ذلك إليه فأرسل إلينا فقال: ما كنتم تذاكرون ؟ فقلنا: خرجت علينا جارية فقلنا: هذه سرية عمر.

فقالت: إنها ليست بسرية عمر إنها لا تحل لعمر، إنها من مال الله ؟ فتذاكرنا بيننا ما يحل لك من مال الله.

فقال: ألا أخبركم بما استحل من مال الله ؟ حلتين حلة الشتاء والقيظ (2) .

وقال عمر: لا يترخصن أحدكم في البرذعة أو الحبل أو القتب فإن ذلك للمسلمين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأموال لأبي عبيد ص 269، راجع ما أسلفناه في ج 6 ص 254 ط 1 و 271 ط 2.

(2) الأموال لأبي عبيد ص 268.

 

/ صفحة 347 /

ليس أحد منهم إلا وله فيه نصيب، فإن كان لانسان واحد ؟ رآه عظيما، وإن كان لجماعة المسلمين ؟ إرتخص فيه وقال: مال الله (1) .

ومن قوله في حديث: البلاد بلاد الله، وتحمى لنعم مال الله، يحمل عليها في سبيل الله (2) .

وفي حديث من قوله: المال مال الله، والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبرا في شبر (3) .

وكان عمر كلما مر بخالد قال: يا خالد ! أخرج مال الله من تحت إستك (4) .

وهذا مولانا أمير المؤمنين يقول في خطبته الشقشقية (5) : إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع.

وفي خطبة له عليه السلام: لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف ؟ والمال مال الله، ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف (6) .

ومن كتاب له إلى عامله بآذربيجان: ليس لك أن تقتات في رعية، ولا تخاطر إلا بوثيقة، وفي يديك مال من مال الله عز وجل وأنت من خزانه (7) .

ومن كتاب له إلى أهل مصر: ولكنني آسي أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها فيتخذوا مال الله دولا، وعباده خولا، والصالحين حربا، والفاسقين حزبا (8) ومن كتاب له إلى عبد الله بن العباس: وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة(9).

وروي أنه عليه السلام رفع إليه رجلان سرقا من مال الله أحدهما عبد من مال الله والآخر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأموال لأبي عبيد س 268.

(2) (3) الأموال لأبي عبيد ص 299.

(4) راجع ما أسلفناه في الجزء السادس ص 257 ط 1 و 274 ط 2.

(5) أسلفنا مصادرها في الجزء السابع ص 8782.

(6) نهج البلاغة 1: 242.

(7) نهج البلاغة 2: 6، العقد الفريد: 2: 283.

(8) نهج البلاغة 2: 120.

(9) نهج البلاغة 2: 128.

 

/ صفحة 348 /

من عروض الناس. فقال عليه السلام: أما هذا فهو من مال الله ولا حد عليه، مال الله أكل بعضه بعضا.

الحديث (نهج البلاغة 2: 202) .

كما أن التسمية بمال المسلمين أيضا كان مطردا قبل هذا العهد وبعده، قال عمر ابن الخطاب لعبد الله بن الأرقم: أقسم بيت مال المسلمين في كل شهر مرة، أقسم مال المسلمين في كل جمعة مرة.

ثم قال: أقسم بيت المال في كل يوم مرة.

قال: فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين ! لو أبقيت في مال المسلمين بقية تعدها لنائبة. سنن البيهقي 6: 357.

وقال عمر في خالد لما أعطى الأشعث بن قيس عشرة آلاف: إن كان دفعها من ماله ؟ فهو سرف، وإن كان من مال المسلمين ؟ فهي خيانة. الغدير 6: 274 ط 2 .

وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له في ذكر أصحاب الجمل: فقدموا على عاملي بها وخزان بيت المسلمين وغيرهم من أهلها. ونهج البلاغة 1: 320.

وقال لعبد الله بن زمعة: إن هذا المال ليس لي ولا لك وإنما هو فئ للمسلمين نهج البلاغة 1: 461.

ومن كتاب له إلى زياد بن أبيه: وإني أقسم بالله قسما صادقا لئن بلغني إنك خنت من فئ المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا لأشدن عليك شدة. نهج البلاغة 2: 19.

وفي كتاب لعبد الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر بن عبد العزيز: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم وقد بقي في بيت المال مال.

فكتب إليه: انظر كل من أدان في غير سفه ولا سرف فاقض عنه.

فكتب إليه: إني قد قضيت عنهم وبقي في بيت مال المسلمين مال فكتب إليه: أن انظر كل بكر ليس له مال فشاء أن تزوجه وأصدق عنه.

فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت وقد بقي في بيت مال المسلمين مال. (الأموال لأبي عبيد ص 251) .

ولكل من التسميتين وجه معقول، أما التسمية بمال الله فلأنه لله سبحانه و هو الآمر بإخراجه ومعين النصب، ومبين الكميات المخرجة، ومشخص المصارف و المستحقين، وأما التسمية بمال المسلمين فلأنهم المصرف والمدر له، فلا غضاضه على أبي ذر لو سماه بأي من الاسمين، ولا يعرب أي منهما عن مبدء سوء.

 

/ صفحة 349 /

وما رواه الطبري في تاريخه 5: 66 من طريق عرفناك رجاله في ص 337333 وإنه باطل لا يعول عليه من إنه لما ورد ابن السوداء (1) الشام لقي أبا ذر فقال: يا أبا ذر ! ألا تعجب إلى معاوية يقول: المال مال الله، ألا إن كل شئ لله ؟ كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين ويمحو اسم المسلمين.

فأتاه أبو ذر فقال: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله: قال: يرحمك الله يا أبا ذر ! ألسنا عباد الله والمال ماله والخلق خلقه والأمر أمره ؟ قال: فلا تقله.

قال: فإني لا أقول: إنه ليس لله ولكن سأقول: مال المسلمين.

فهذا بعد الغض عن إسناده الباطل ومتنه الركيك وبعد الاغضاء عن أن مثل أبي ذر الذي هو من أوعية العلم وعلب الفضائل وحملة الرأي السديد ليس بالذي يحركه ابن السوداء اليهودي فيعيره أذنا واعية ثم يمضي لما ألقاه عليه من التلبيس فيخبط الجو ويعكر الصفو.

فقصارى ما فيه إن أبا ذر وجد معاوية متدرعا بهذه التسمية إلى الحيف في أموال المسلمين والتقلب فيها على حسب الميول والشهوات بإيهام إن المال مال الله فهو مباح لعبيده يتصرف كل منهم فيه كيف شاء ويتملك منه ما شاء كالمباحات الأصلية، فأراد أبو ذر أن يدحر حجته الداحضة ورأيه الضئيل بأن المال للمسلمين كافة بأمر من مالكه الأصلي جلت آلائه فليس لأحد أن يستبد بشئ منه دونهم، ويستغله بحرمانهم واكتناز الذهب والفضة، وفيهم أمس الحاجة إلى مقدراتهم.

ويعرب عن رأي معاوية ما جرى بينه وبين صعصعة بن صوحان، رواه المسعودي في مروج الذهب 2: 79 من طريق إبراهيم بن عقيل البصري قال: قال معاوية يوما وعنده صعصعة وكان قدم عليه بكتاب علي وعنده وجوه الناس: الأرض لله، وأنا خليفة الله، فما آخذ من مال الله فهو لي، وما تركت منه كان جائزا لي، فقال صعصعة:

تمنــيــك نفسك ما لا يكو * ن جهلا معاوي ! لا تأثم

فهذا الحوار بين أبي ذر ومعاوية في منتأى عن إثبات المالكية ونفيها، وليس فيه إلى المبدأ الاشتراكي أي طرف رامق، وتعرف عن رأي معاوية خطبة الأرحبي المذكورة ص 344.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) يعني عبد الله بن سبأ اليهودي الممقوت لكافة فرق المسلمين خصوصا الشيعة منهم فإنه محكوم عليه عندهم بالكفر وقد نقم عليه وعلى أصحابه مولانا أمير المؤمنين عليه السلام لإلحادهم.

/ صفحة 350 /

ومن كلمات أبي ذر قوله لمعاوية لما بعث إليه بثلاثمائة دينار: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها.

فإنك تشهد هاهنا أبا ذر يقسم المال إلى العطاء المفترض الذي منع منه عامه ذلك " لأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر " وإلى المال المملوك الذي يخرج منه الصلة بطوع من صاحبه ورغبة، فإن الصلة من المروءات وهي لا تكون إلا من خالص مال الرجل، ومن غير الحقوق الإلهية، ومن غير الأموال المسروقة، فأين هو عن إلغاء الملكية الذي هو الحجر الأساسي للاشتراكيين ؟ على أنه ليس عندهم صلة ولا غيرها من حقوق الانسانية وإنما هي عندهم أجور على قيم أعمال الرعية.

رواياته في الأموال

وأما ما رواه أبو ذر في باب الأموال عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فينادي بما لا يلائم الاشتراكية قط وإليك جملة منه:

1 ـ ما من مسلم ينفق من كل مال له زوجين في سبيل الله عز وجل إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده. قلت: وكيف ذلك ؟ قال صلى الله عليه وآله: إن كانت رجالا فرجلين، وإن كانت إبلا فبعيرين، وإن كانت بقرا فبقرتين. وفي لفظ: من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله ابتدرته حجبة الجنة (1) .

ففيه إثبات المال لكل إنسان بالرغم من المبدأ الاشتراكي، والترغيب بالتطوع بالانفاق في سبيل الله من كل نوع زوجين.

2 ـ في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي البر صدقته.

3 ـ ما من رجل يموت فيترك غنما أو إبلا أو بقرا لم يؤد زكاته إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمن حتى تطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها.

وفي لفظ: ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة الحديث (2) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) أخرجه أحمد في مسنده 5: 151، 153، 159، 164.

(2) مسند أحمد 5: 152، 158، 169، 179، الأموال لأبي عبيد ص 355، سنن ابن ماجة 1: 544.

 

/ صفحة 351 /

فهي تثبت المالية وإنه لا فريضة على الانسان في ماله غير الزكاة، وهي من بعضها وإن الباقي لصاحبه، رضي الاشتراكي أو غضب.

وأما ما وقع له مع كعب الأحبار في مشهد عثمان وهو من عمدة ما تشبث به المتحاملون على أبي ذر وقاذفوه مما أخرجه الطبري بإسناده الواهي عن السري الكذاب الوضاع، عن شعيب المجهول الذي لا بعرف، عن سيف بن عمر الوضاع المتهم بالزندقة الذين عرفت حالهم في صفحة 327326 من طريق ابن عباس قال: كان أبو ذر يختلف من الربذة إلى المدينة مخافة الإعرابية وكان يحب الوحدة والخلوة فدخل على عثمان وعنده كعب الأحبار فقال لعثمان: لا ترضوا من الناس بكف الأذى حتى يبذلوا المعروف، وقد ينبغي لمؤدي الزكاة أن لا يقتصر عليها حتى يحسن إلى الجيران والإخوان ويصل القرابات فقال كعب: من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه.

فرفع أبو ذر محجنه فضربه فشجه فاستوهبه عثمان فوهبه له وقال: يا أبا ذر ! إتق الله واكفف يدك ولسانك.

وقد كان قال له: يا ابن اليهودية ما أنت وما هاهنا ؟ والله لتسمعن مني أو لأدخل عليك (1) .

ومر ص 295 في لفظ المسعودي: إن أبا ذر حضر مجلس عثمان ذات يوم فقال عثمان: أرأيتم من زكى ماله هل فيه حق لغيره ؟ فقال كعب: لا يا أمير المؤمنين ! فدفع أبو ذر في صدر كعب وقال له: كذبت يا ابن اليهودي ثم تلا: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا. الآية (2) فقال عثمان: أترون بأسا أن نأخذ مالا من بيت مال المسلمين فننفقه فيما ينوبنا من أمورنا ونعطيكموه ؟ فقال كعب: لا باس بذل.

فرفع أبو ذر العصا فدفع بها في صدر كعب وقال: يا ابن اليهودي ! ما أجرأك على القول في ديننا ؟ فقال له عثمان: ما أكثر أذاك لي ؟ غيب وجهك عني فقد آذيتني فخرج أبو ذر إلى الشام (3)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تاريخ الطبري 5: 67.

(2) سورة البقرة: 177.

(3) هذه القضية كما ترى وقعت قبل إخراج أبي ذر إلى الشام وهي السبب الوحيد في نفيه إليها فهذا اللفظ يكذب ما في رواية الطبري من أن أبا ذر كان يختلف من الربذة إلى المدينة.. الخ.

ولم يختلف اثنان في أن أبا ذر في مدة نفيه إلى الربذة لم يأت قط إلى المدينة كما مر في ص 333.

 

/ صفحة 352 /

فإنما دعا أبو ذر في هذه الواقعة إلى العطاء المندوب المدلول عليه بقوله: " ينبغي " الوارد في رواية الطبري، وبالآية الكريمة الواردة في حديث المسعودي، وهو من واجبات البشرية وفروض الانسانية التي ضيعتها الشيوعية الممقوتة، و الأحاديث المرغبة لكل مما ذكر أبو ذر أكثر من أن تحصى.

جاء من طريق فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلى الله عليه وآله إنه قال: إن في المال حقا سوى الزكاة ثم قرأ: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر.

الآية المذكورة.

وروى بيان وإسماعيل هذا الحديث عن الشعبي.

أخرجه ابن أبي حاتم والترمذي وابن ماجة وابن عدي وابن مردويه والدار قطني وابن جرير وابن المنذر.

راجع سنن البيهقي 4: 84، أحكام القرآن للجصاص 1: 153، تفسير القرطبي 2: 223، تفسير أين كثير 1: 208، شرح سنن ابن ماجة 1: 546 تفسير الشوكاني 1: 151، تفسير الآلوسي 472.

وأخرج البخاري في الصحيح في كتاب الزكاة 3: 29 من طريق أنس قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل وكان أحب أمواله إليه بيرحاء (1) وكانت مستقبلة المسجد وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله ! إن الله تبارك وتعالى يقول: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون.

وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله ! حيث أراك الله قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله ! فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.

وأخرجه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي مختصرا.

وأخرج أبو عبيد في الأموال ص 358 من طريق ابن جريج قال: سال المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وآله: ماذا ينفقون ؟ فنزلت: يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) بيرحاء.

بفتح الموحدة والراء المهملة: موضع بقرب المسجد بالمدينة يعرف بقصر بنى جديلة.

/ صفحة 353 /

والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل. قال: فتلك التطوع والزكاة سوى ذلك.

وقال أبو عبيد في الأموال ص 358: إن هذا مذهب ابن عمر وأبي هريرة، وأصحاب رسول الله أعلم بتأويل القرآن وأولى بالاتباع، ومذهب طاوس والشعبي إن في المال حقوقا سوى الزكاة مثل بر الوالدين، وصلة الرحم، وقرى الضيف، مع ما جاء في المواشي من الحقوق.

وفي الأموال ص 358 من طريق أبي حمزة قال: قلت للشعبي: إذا أديت زكاة مالي ؟ قال: فقرأ علي هذه الآية: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر.

إلى آخر الآية المذكورة.

فنداء أبي ذر في موقفه هذا نداء القرآن الكريم ونداء المشرع الأعظم ونداء تابعيهما من الصحابة والتابعين، ولا يرد ذلك إلا مثل كعب الأحبار الذي هو حديث عهد باليهودية، وقد اعتنق الاسلام أمس، على حين إنه لم يسلم طيلة عهد النبوة وإنما سالم على عهد عمر، ولا أدري هل حدته إلى ذلك الحقيقة ؟ أو الفرق من بطش المسلمين وشوكتهم ؟ أو الطمع في العطاء الجاري ؟ ولا أدري أيضا إنه في مدة إسلامه القصيرة هل أحاط خبرا بنواميس الاسلام وفروضه وسننه أو لا ؟ ولا أحسب.

كما أوعز إليه أبو ذر الناظر إليه من كثب حيث قال له: يا ابن اليهودية ما أنت وما هاهنا ؟ وكان من حقه أن يؤدب بالمحجن كما فعله سيد غفار ساء الخليفة أم سره لأنه لم يكن أهلا للفتيا فأفتى تجاه عالم من علماء الصحابة الذي ملأ إهابه العلم بالكتاب والسنة، و حشو ردائه الفروض والسنن، ولا يفرغ إلا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وما أظلت الخضراء وما أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق وأوفى من أبي ذر.

الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون بينهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم. " التوبة " 79.

وإثبات العطاء مندوبا ومفترضا فرع إثبات المالية للأشخاص، ولا تتفق معه الشيوعية بحال، وأين يقع أبو ذر منها ؟.

4 ـ ثلاثة يبغضهم الله: الشيخ الزاني، والفقير المختال، والغني الظلوم.

وفي لفظ: إن الله يبغض الشيخ الزاني، والفقير المختال، والمكثر البخيل.

 

/ صفحة 354 /

وفي لفظ: إن الله لا يحب كل مختال فخور، والبخيل المنان، والتاجر الحلاف (1) .

في هذه الروايات ذكر لاختلاف طبقات الناس وحدودهم بما يملكون، فقير وغني ومكثر وتاجر الذي تقوم تجارته برأس ماله، والاشتراكي يرى إن الناس شرع سواء بالنسبة إلى الأموال.

5 ـ قلت: يا رسول الله ! ذهب الأغنياء بالار يصلون ويصومون ويحجون قال: وأنتم تصلون وتصومون وتحجون. قلت: يتصدقون ولا نتصدق.

قال: وأنت فيك صدقة: رفعك العظم عن الطريق صدقة، وهدايتك الطريق صدقه، وعونك الضعيف بفضل قوتك صدقة، وبيانك عن الارتم صدقة، ومباضعتك امرأتك صدقة.

قال: قلت: يا رسول الله ! نأتي شهوتنا ونؤجر ؟ قال: أرأيت لو جعلته في حرام أكان تأثم ؟ قال: قلت: نعم.

قال: فتحتسبون بالشر، ولا تحتسبون بالخير ؟ وفي لفظ: قالوا: يا رسول الله ! ذهب أهل الدثور بالأجور يضلون كما نصلي و يصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال: فقال رسول الله: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ؟ إن بكل تسبيحة صدقة وبكل تحميدة صدقة.الحديث.

وفي لفظ: قيل للنبي صلى الله عليه وآله: ذهب أهل الأموال بالأجر.

فقال النبي صلى الله عليه وآله: إن فيك صدقة كثيرة فذكر فضل سمعك فضل بصرك.الحديث.

وفي لفظ: على كل نفس في كل يوم طلعت فيه الشمس صدقة عنه على نفسه.

قلت: يا رسول الله: من أين تصدق وليس لنا أموال ؟ قال: لأن من أبواب الصدقة: التكبير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، واستغفر الله، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعزل الشوكة عن طريق الناس والعظم والحجر، وتهدي الأعمى وتسمع الأصم والأبكم حتى يفقه، وتدل المستدل على حاجة له وقد علمت مكانها، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف.

كل ذلك

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مسند أحمد 5: 153، 176، وأخرجه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه والنسائي والترمذي في باب كلام الحور العين وصححه، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه، راجع الترغيب والترهيب للمنذري 1: 247، و ج 2، 230، 238.

 

/ صفحة 355 /

من أبواب الصدقة منك على نفسك (1) وفي هذه الأحاديث تقرير الأغنياء وأهل الدثور والأموال على أحوالهم المنوطة بالوفر المخصوص بهم واليسار الممنوح لهم وإنه ليس منهم، وذكر الصدقة من فضول أموال المثرين، والتأسف على ما يفوت الفقراء من صدقاتهم بالأموال فرضا وتطوعا، وأين يثبت الاشتراكي مالا لأحد فيثبت له فضولا ؟ ومتى يرى في العالم غنيا غير غاصب ؟ وأنى يبقى موضوعا للصلات والصدقات وفروض الانسانية ؟ لكن روايات أبي ذر تثبت كل ذلك.

6 ـ أمرني خليلي صلى الله عليه وآله بسبع أمرني بحب المساكين والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي.

وفي لفظ: أوصاني حبي بخمس: أرحم المساكين وأجالسهم وأنظر إلى من هو تحتي ولا أنظر إلى من هو فوقي (2).

ومما لا غبار عليه إن المراد من الدون والتحت في الحديثين: من هو دونه في المال ليشكر الله سبحانه على تفضيله عليهم، ولا ينظر إلى من فوقه لئلا يشغله الاستياء أو الحسد على تفضيل غيره عليه عن الذكر والشكر والنشاط في العبادة، وأما الأعمال والطاعات والملكات الفاضلة، فينبغي للانسان أن ينظر إلى من هو فوقه فيها ليتنشط على مثل عمله فيتحرى شأوه، ولا ينظر إلى من هو دونه فيفتر عن العمل ويقعد عن اكتساب الفضائل والفواضل، وربما داخله العجب.

ففي الحديثين إثبات المالية والتفاضل فيها بالرغم من المبدأ الشيوعي.

7 ـ ليس من فرس عربي إلا يؤذن له مع كل فجر يدعو بدعوتين يقول: اللهم خولتني من خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب أهله وماله إليه. أو: أحب أهله وماله إليه (3) .

نحن لا نحتج هنا بدعوة الفرس ورأيه لكن بما أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله من إلهام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) مسند أحمد 5: 154، 167، 178، صحيح مسلم 3: 82، سنن البيهقي 4: 188.

(2) مسند أحمد 5: 159، 173، حلية أبي نعيم 1: 160.

(3) مسند أحمد 5: 170.

/ صفحة 356 /

الله سبحانه إياه أنه يدعو بتلك الدعوة وفيها إثبات التخويل والمالية وإن ازور عنهما الشيوعي.

هذه جملة من روايات أبي ذر الصدوق المصدق تضاد بنصها

ما اتهم به من المبدأ الممقوت، وإن هي إلا نداء القرآن الكريم وما صدع به الرسول الأمين

الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله

وأولئك هم أولوا الألباب، فأما الذين في قلوبهم زيغ

فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله

سورة الزمر 18، سورة التوبة 89