فهرس الكتاب

مكتبة الإمام أميرالمؤمنين (ع)

 

 

بزوغ الفجر

 

في يوم الجمعة، الثالث عشر من شهر رجب المبارك، و قبل بعثة محمد رسول الله (ص) باثنتي عشرة سنة تقريبا، اشتد المخاض على فاطمة بنت أسد، فجاء بها أبو طالب إلى الكعبة المشرفة، و أدخلها فيها ثم قال لها: إجلسي... و خرج عنها، فرفعت يدي الضراعة إلى العلي الأعلى سبحانه قائلة: «ربي إني مؤمنة بك، و بما جاء من عندك من رسل و كتب، و إني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل (ع) و أنه بنى البيت العتيق، فبحق الذي بنى هذا البيت و المولود الذي في بطني إلا ما يسرت علي ولادتي» (1).

و لم يمض على فاطمة غير ساعة حتى أعلنت أنها قد وضعت ذكرا، و هو أول مولود ولد في الكعبة المشرفة و لم يولد فيها بعده سواه تعظيما له من الله سبحانه و إجلالا. (2)

و أسرع البشير إلى أبي طالب و أهل بيته فأقبلوا مسرعين و البشر يعلو وجوههم، و تقدم من بينهم محمد المصطفى (3)(ص) فضمه إلى صدره و حمله إلى بيت أبي طالب، حيث كان الرسول في تلك الآونة، يعيش مع خديجة، في دارهما منذ زواجه منها.

و انقدح في ذهن أبي طالب، أن يسمي وليده«عليا»و هكذا كان. و أقام أبو طالب وليمة، على شرف الوليد المبارك، و نحر الكثير من الأنعام (4).

و قد حضر وليمته جمع حاشد من الناس قدموا التهاني، و عاشوا ساعات من البهجة، أبدوا فيها مشاعرهم الفياضة، و أحاسيسهم السامية، نحو عميدهم شيخ الأبطح، و وليده المبارك.

و مرت الأيام سريعة، و الوليد المبارك يتقلب بين أحضان والديه: أبي طالب، و فاطمة، و ابن عمه محمد (ص) ، الذي كان دائم التردد على دار عمه، التي ذاق فيها دف‏ء المودة، و شرب من ينابيع الإخلاص و الوفاء الصافية، خلال سنوات صباه و شبابه.

أجل كان النبي محمد (ص) يتردد كثيرا على دار عمه، على الرغم من زواجه من خديجة، و عيشه معها في دار منفردة، و كان يشمل عليا بعواطفه، و يحوطه بعنايته، و يناغيه في يقظته، و يحمله على صدره، و يحرك مهده عند نومه، إلى غير ذلك من مظاهر العناية و الرعاية.

هذا و الجدير ذكره أن حادثة ولادة علي (ع) في جوف الكعبة يذكرها الكثير من علماء المسلمين و مؤرخيهم من أمثال: العلامة سبط ابن الجوزي الحنفي المتوفى عام (654 ه) في تذكرة الخواص، و الشيخ أبو جعفر الطوسي المتوفى عام (460 ه) في أماليه، و الشيخ المفيد المتوفى عام (413 ه) في الإرشاد، و السيد ابن طاووس المتوفى عام (664 ه) في الطرائف، و المسعودي المتوفى عام (346 ه) في إثبات الوصية و مروج الذهب، و غير هؤلاء كثيرون.

في كفالة رسول الله (صلى الله عليه و آله)

و بعد أن مضت ست سنوات على ولادة علي (ع) اصيبت قريش بأزمة اقتصادية خانقة، و قد كانت وطأتها شديدة على أبي طالب، إذ كان رجلا ذا عيال كثيرة، و كهفايلوذ به المحتاج و الفقير، بحكم مركزه الاجتماعي في مكة، ترى أيرضى المصطفى (ص) و بنو هاشم، أن تقسو الحياة على عميدهم؟ !

أقبل رسول الله (ص) على عمه العباس بن عبد المطلب، و هو أثرى بني هاشم يومها، فخاطبه بقوله : «يا عم!إن أخاك أبا طالب كثير العيال، و قد أصاب الناس ما ترى فانطلق بنا إلى بيته لنخفف من عياله، فتأخذ أنت رجلا واحدا، و آخذ أنا رجلا فنكفلهما عنه» (5).

و قوبل رأي المصطفى (ص) بالتأييد و الرضا من قبل عمه العباس، فأسرع إلى أبي طالب، و خاطباه بالأمر، فاستجاب لما عرضا قائلا: «إذا تركتما لي عقيلا و طالبا، فاصنعا ما شئتما» (6).

فأخذ العباس جعفرا.

و أخذ رسول الله (ص) عليا (ع) ، و كان عمره يومئذ ستة أعوام (7) و قد قال (ص) بعد أن اختار عليا (ع) : «قد اخترت من اختاره الله لي عليكم: عليا» (8).

و هكذا آن لعلي أن يعيش منذ نعومة أظفاره في كنف محمد رسول الله (ص) : حيث نشأ في رعايته، و شرب من ينابيع مودته و حنانه، و رباه وفقا لما علمه ربه تعالى، و لم يفارقه منذ ذلك التاريخ، حتى لحق الرسول (ص) بالرفيق الأعلى.

حصيلة الإعداد النبوي

أشار الإمام علي (ع) إلى أبعاد التربية التي حظي بها من لدن استاذه و مربيه‏الرسول (ص) ، و مداها و عمقها، و ذلك في خطبته المعروفة بالقاصعة، إذ جاء فيها ما نصه:

« (و قد علمتم موضعي من رسول الله (ص) ، بالقرابة القريبة، و المنزلة الخصيصة، وضعني في حجره، و أنا ولد، يضمني إلى صدره، و يكنفني في فراشه، و يمسني جسده، و يشمني عرفه، و كان يمضغ الشي‏ء ثم يلقمنيه، و ما وجد لي كذبة في قول، و لا خطلة في فعل).

(و لقد قرن الله به (ص) ـ من لدن أن كان فطيماـ أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، و محاسن أخلاق العالم، ليله و نهاره، و لقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر امه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، و يأمرني بالاقتداء به).

(و لقد كان يجاور في كل سنة (بحراء) ، فأراه، و لا يراه غيري، و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله (ص) و خديجة، و أنا ثالثهما، أرى نور الوحي و الرسالة، و أشم ريح النبوة) » (9).

و في صباه و شبابه، انصب جهد رسول الله (ص) على تكوين شخصيته: إذ كان يأمره بالاقتداء به، و سلوك سبيله، و في كل يوم يرفع له من أخلاقه علما و علي كان يتبع أثره، أولا بأول، كما يصف ذلك في حديثه.

و لهذا و ذاك، فإن اختيار علي (ع) من لدن الرسول (ص) يوم أملق أبو طالبـ كما أسلفناـ كان مخططا هادفا ابتداء لكي يأتي علي (ع) صورة مجسدة لشخصية رسول الله (ص) ، في فكره و مواقفه و شتى ألوان سلوكه، بل حتى في مشيته (10).

و لقد كان الإمام (ع) من الصفاء الروحي، و الاستقامة الخلقية، وفقا لما علمه رسول الله (ص) ، بحيث كانت تتكشف له الكثير من حجب المستقبل المستور، فها هو يقول: «و لقد سمعت رنة الشيطان حين نزول الوحي عليه (ص) فقلت: يا رسول الله!ما هذه الرنة؟فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى إلا أنك لست بنبي، و لكنك وزير، و إنك لعلى خير» (11).

فان الشوط الذي قطعه في مضمار التقرب إلى الله سبحانه، و امتثال أوامره، و تجسيد متطلبات رسالته، رشحه لأن يكون وزيرا للنبوة، و هو مقام لا يناله إلا من قطع شوطا بعيدا باتجاه قمة الفضيلة و السمو الروحي و المعنوي، فلم يفصله عن الرسول (ص) إلا درجة النبوة، فارتقى منصة الوزارة بحق و جدارة، و هكذا كان علي.

في كنف الوحي

و إذا كان الإمام (ع) قد عاش ست سنوات في أحضان والديه و اخوته، و كان لرسول الله (ص) دور بارز في رعايته طوال تلك السنوات الندية من عمره (ع).

فإن رعاية علي و تربيته، صارت من اختصاص المصطفى (ص) دون منازع منذ السنة السادسة، حيث انتقل (ع) إلى دار رسول الله (ص) على إثر الضائقة المالية التي ألمت بأبيه أبي طالبـ كما ذكرناـ.

و منذ تلك السن المبكرة عاش علي (ع) مع رسول الله (ص) في بيته قبل الدعوة، حيث قضى تحت رعايته سنوات الصبا و سنوات التفتح على الحياة، و خلالها عايش الإمام (ع) كل التطورات التي اكتنفت حياة الرسول (ص).

و بناء على ذلك فعلي لم يحظ بالتربية المألوفة، التي يحظى بها غالبا طفل من لدن أبيه، أو صغير من قبل أخيه الأكبر، و انما كان إعداده و تربيته من نوع خاص، و حسبك أنه كان يتبع محمدا (ص) حتى في ساعات اختلائه في غار حراء، و يشهد التطور الروحي و الفكري الذي كان رسول الله (ص) يمر فيه، و ها هو (ع) يستذكر تلك الأيام الخالدة و ذلك الشطر الحساس من حياته، فيقول: «و لقد كان يجاور كل سنة بحراء، فأراه و لا يراه غيري» (12) ، أجل كان (ع) يعايش التحول الروحي الهائل الذي شهدته نفس المصطفى (ص) ، حتى أشرف عليه و حي السماء المبارك لينهض بمهمة الدعوة إلى الرسالة الإلهية الخاتمة.

(اقرأ باسم ربك الذي خلق*خلق الإنسان ما علق*اقرأ و ربك الأكرم*الذي علم بالقلم*علم الإنسان ما لم يعلم). (العلق/1ـ 5)

فمن هذه الارهاصات التي شهدها قلب علي (ع) و روحه الطاهرة ما تعكسه هذه الروايات و الآثار التاريخية الدالة:

1ـ حدث كمال الدين ميثم بن علي البحراني المتوفى عام (679 ه) في شرحه لنهج البلاغة بما يلي:

«روي في الصحاح: انه كان (ص) يجاور بحراء في كل سنة شهرا، و كان يطعم في ذلك الشهر من جاءه من المساكين، فاذا قضى جواره انصرف إلى مكة، و طاف بها سبعا قبل أن يدخل بيته حتى جاءت السنة التي أكرمه الله فيها بالرسالة، فجاء في حراء في شهر رمضان، و معه أهله: خديجة و علي و خادم» (13).

2ـ و عن أبي مسعود قال:

«قدمت إلى مكة فانتهيت إلى العباس بن عبد المطلب و هو يومئذ عطار جالس إلى زمزم و نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا عليه ثوبان أبيضان، عليه وفرة جعدة إلى انصاف أذنيه، أشم أقنى، أدعج العينين، كث اللحية، أبلج براق الثنايا أبيض تعلوه حمرة، و على يمينه غلام مراهق أو محتلم حسن الوجه، تقفوهم امرأة قد سترت محاسنها، فقصدوا نحو الحجر فاستلمه الرجل ثم الغلام ثم طافوا بالبيت ثم استقبلوا الحجر و قام الغلام إلى جانب الرجل و المرأة خلفهما فأتوا بأركان الصلاةمستوفاة فلما رأينا ما لا نعرفه بمكة، قلنا للعباس: إنا لا نعرف هذا الدين فيكم، فقال: أجل و الله، فسألناه عن هؤلاء فعرفنا إياهم ثم قال: و الله ما على وجه الأرض أحد يدين بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة، و روي مثله عن عفيف بن قيس» (14).

3ـ و عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) قال:

«كان علي (ع) يرى مع النبي (ص) قبل الرسالة الضوء، و يسمع الصوت» (15).

إن هذا الاحساس العلوي المميز بعمق التحولات الغيبية التي تجري لرسول الله (ص) تكشف عن كيان روحي خاص لا يختص به غير الأنبياء (ع) ، إلا أن ختم النبوة بمحمد (ص) اقتضى أن يكون علي (ع) وزيرا للنبوة: فقد ذكر أصحاب السنن بأسانيدهم عن النبي (ص) مخاطبا عليا (ع) ما يلي:

«أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» (16).

و قد أشرنا إلى ما ذكره علي (ع) نفسه في خطبة القاصعة حين سأل الرسول (ص) عن رنة الشيطان، حيث أجابه النبي (ص) :

«إنك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى إلا أنك لست بنبي، و لكنك وزير، و إنك لعلى خير» (17).

 

1ـ الإربلي/كشف الغمة/ج 1/فصل ذكر الإمام علي (ع).

2ـ مستدرك الحاكم/ج 3/ص 483، و الكفاية للحافظ الكنجي الشافعي، و شرح الخريدة الغيبية في شرح القصيدة العينية لشهاب الدين السيد محمود الآلوسي/ص 15، و نور الأبصار للشبلنجي/ص 76، و مطالب السؤول/ص 11/لمحمد بن طلحة الشافعي، و المناقب للأمير محمد صالح الترمذي، نقلا عن الغدير/ط 3، 1967 (بيروت) /ج 6/ص 22ـ 38/عبد الحسين الأميني.

3ـ ابن الصباغ المالكي/الفصول المهمة/ص. 13

4ـ المجلسي/بحار الأنوار/ج 35/ص 18، نقلا عن المناقب.

5ـ ابن الصباغ المالكي/الفصول المهمة/ص 14، و شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد/ج 1/ص. 151

6ـ سيرة ابن هشام/ط دار إحياء التراث العربي (بيروت) /ص 263، المجلسي/بحار الأنوار/ج 35/ص 44، نقلا عن كنز العمال، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد/ج 1/ص. 15

7ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد/ج 1/ص. 15

8ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد/ج 1/ص 15، نقلا عن البلاذري و الاصفهاني.

9ـ نهج البلاغة/تبويب د. صبحي الصالح/ط 1، 1967 م/ص. 300

10ـ عبد الفتاح عبد المقصود/علي بن أبي طالب/ج 1/ص 39، و الإملاق: الفقر.

11ـ نهج البلاغة/الخطبة القاصعة.

12ـ نهج البلاغة/الخطبة القاصعة.

13ـ ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 4/ص. 314

14ـ المصدر السابق/ص. 315

15ـ المصدر السابق.

16ـ الخوارزمي/المناقب/ص 27ـ 37، محب الدين الطبري/ذخائر العقبى/ص. 63

17ـ نهج البلاغة/الخطبة القاصعة.