فهرس الكتاب

مكتبة الإمام أميرالمؤمنين (ع)

 

 

حرب البصرة

 

على الرغم من أن طلحة و الزبير كانا من أشد الناقمين على سياسة عثمان و مع أنهما سبقا الناس في البيعة للإمام علي (ع) بعد قتل عثمان، فإن الحركة الإصلاحية التي قادها الإمام (ع) في الحياة الاسلامية لم تجد هوى في نفسيهما فبدءا في العمل للخروج على الإمام (ع) و إثارة المسلمين عليه، فكانت حصيلة ذلك فتنة عمياء كبدت الامة خسارة فادحة، حيث أقنعا عائشة بنت أبي بكر بالخروج معهما إلى البصرة لقيادة عملية المعارضة على علي (ع).

و ما دام القوم قد رفعوا قميص عثمان للمطالبة بدمه، فلننظر موقف القيادات التي تزعمت حركة المطالبة بدمه، كيف كان موقفها من عثمان نفسه عند ما كان حيا.

فقد رووا أن الزبير كان يقول: اقتلوا عثمان فقد بدل دينكم، فقالوا له: ان ابنك يحامي عنه بالبابـ و كان ذلك أثناء الحصار الذي فرضه الثائرون على بيت عثمانـ فقال الزبير: «ما أكره أن يقتل عثمان و لو بدئ با بني، إن عثمان جيفة على الصراط غدا» (1).

و أما طلحة، فقد ذكر المؤرخ الواقدي انه لما قتل عثمان و تذاكروا أمر دفنه و المكان الذي يدفن فيه قال طلحة: «يدفن ب (دير سلع) يعني مقابر اليهود» (2).

و قال ابن أبي الحديد: «كان طلحة أشد الناس تحريضا على عثمان، و كان الزبيردونه في ذلك و روي أن عثمان قال: و يلي على ابن الحضرميةـ يعني طلحةـ أعطيته كذا و كذا بهارا ذهبا، و هو يروم دمي، يحرض على نفسي، اللهم لا تمتعه به، و لقه عواقب بغيه» (3).

على ان الإمام عليا (ع) قد طلب إلى طلحةـ و كان عثمان محاصرا في بيتهـ أن يذهب لرد الناس عنه، فقال طلحة: «لا و الله، حتى تعطيني بنو امية الحق من نفسها» (4) ـ أي أن ينصاع بنو امية و هم أقرباء الخليفة لمطاليب المسلمين الذين طالبوا بإعادة ما نهبه بنو امية منهم بالظلم و الجورـ.

و أما عائشة بنت أبي بكر و زوج رسول الله (ص) ، فقد كانت أشد القوم في حربها لعثمان، و نظرا لمكانتها المحترمة في النفوس، فقد كان الرواة و الركبان يتناقلون فورا ما كانت تتفوه به ضده.

فعند ما اشتد الحصار على عثمان، كانت قد توجهت من المدينة المنورة إلى الحج، فناشدها بعض المسلمين القريبين منها أن تبقى في المدينة فلعل في وجودها ما يطفئ شيئا من الثورة القائمة ضد عثمان، و كان مروان بن الحكم على رأس اولئك المطالبين، فردت عليه عائشة: «يا مروان!وددت و الله أنهـ أي عثمانـ في غرارة من غرائري هذه، و أني طوقت حمله حتى ألقيه في البحر» (5).

كما التقت و هي في طريقها إلى الحج بالصحابي الجليل عبد الله بن عباس فنهته عن نصرة عثمان قائلة: «يا ابن عباس!إن الله قد آتاك عقلا و فهما و بيانا، فإياك أن ترد الناس عن هذا الطاغية» (6). كما كان لعائشة موقف مشهور من الخليفة عثمان أطلقت على أثره شعارها المعروف: اقتلوا نعثلا فقد كفر.

قال اليعقوبي المؤرخ: كان عثمان يخطب، إذ دلت عائشة قميص رسول الله و نادت: «يا معشر المسلمين !هذا جلباب رسول الله لم يبل، و قد أبلى عثمان سنته. فقال عثمان: رب اصرف عني كيدهن إن كيدهن عظيم» (7).

و قال المؤرخ ابن أعثم:

«لما رأت ام المؤمنين اتفاق الناس على قتل عثمان قالت له: أي عثمان، خصصت بيت مال المسلمين لنفسك، و أطلقت أيدي بني امية على أموال المسلمين، و وليتهم البلاد، و تركت امة محمد في ضيق و عسر، قطع الله عنك بركات السماء و حرمك خيرات الأرض، و لو لا أنك تصلي الخمس، لنحروك كما تنحر الإبل، فقرأ عليها عثمان قوله تعالى: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح و امرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا و قيل ادخلا النار مع الداخلين) » (8).

و بذلك كان الخليفة يعرض بعائشة، فردت هي بإطلاق شعار: «اقتلوا نعثلا فقد كفر» (9) ، و تعني بنعثل الخليفة عثمان، و نعثل هي كلمة تعني الذكر من الضباع، و الشيخ الأحمق، و يهوديا كان بالمدينة (10) ، و جميع تلك المعاني قارصة.

أما عمرو بن العاص، فبعد أن عزله عثمان عن ولاية مصر (11) ، غضب عليه و خرج‏يحرض الناس ضد عثمان، و«كان من أشد الناس طعنا على عثمان (رض) ، و قال : لقد أبغضت عثمان و حرضت عليه حتى الراعي في غنمه» (12) ، و بلغ في تحريضه انه وصل إلى أرض فلسطين و بدأ بتحريض الناس على عثمان (13).

هذا و قد كنا قد شرحنا موقف معاوية بن أبي سفيان عند ما أرسل مجموعة من الجند لنصرة عثمان، إلا أنه أمر قائدهم بالتوقف خارج المدينة، و كان الهدف من ذلك«إنه ينتظر عقبى الصراع... » (14).

إلا أن مقتل عثمان و مبايعة المسلمين للإمام علي (ع) جعل الامور تتخذ مجرى آخر، حيث إن عدالة علي و تمسكه بالاسلام لا تروق لأولئك الذين اكتنزوا الكنوز و امتلكوا الضياع و بنوا القصور من أموال المسلمين، فقاموا متحدين لمقاومة عدالة الاسلام التي لن تكتفي بحرمانهم مما ألفوه من النهب، بل ستأخذ منهم حتى تلك الأموال التي نالوها بطريقة غير مشروعة، و جعل اولئك الذين تمنوا الموت لعثمان و حرضوا الناس ضده حتى أودوا بحياته، جعلهم متحدين يطالبون بدمه، حيث اتفق طلحة و الزبير و معهما ام المؤمنين عائشة و خرجوا إلى البصرة مطالبين بدم عثمان!إنها من الامور التي تدهش اللبيب حقا.

و قد بذل الإمام (ع) جهدا كبيرا لتحاشي هذه الفتنة فلم يأل جهدا في بذل النصح لهم و تحميلهم مغبة ما سيكون إذا نشبت الحرب، و هذه نصيحته (ع) لهما:

«أما بعد، يا طلحة!و يا زبير!فقد علمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني، و لم ابايعهم حتى أكرهوني، و أنتما أول من بادر إلى بيعتي، و لم تدخلا في هذا الأمر بسلطان غالب، و لا لعرض حاضر، و أنت يا زبير، ففارس قريش، و أنت يا طلحة فشيخ المهاجرين، و دفعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع لكما من خروجكما منه، ألا و هؤلاء بنو عثمان هم أولياؤه المطالبون بدمه، و أنتما رجلان من المهاجرين، و قد أخرجتما امكما من بيتها التي أمرها الله تعالى أن تقر فيه، و الله حسبكما» (15).

و في البصرة استمر الإمام (ع) يبذل نصحه من أجل حقن الدماء، فأرسل للناكثين رسولا يدعوهم للصلح و رأب الصدع.

كما التقى بالزبير و ذكره بامور جرت لهما في عهد رسول الله (ص) منها قوله:

«ما حملك على ما صنعت يا زبير؟قال: حملني على ذلك الطلب ف بدم عثمان!

فقال الإمام (ع) : إن أنصفت من نفسك، أنت و أصحابك قتلتموه، و لكني انشدك الله يا زبير أما تذكر، قال لك رسول الله (ص) : يا زبير!أتحب عليا؟فقلت: و ما يمنعني من حبه و هو ابن خالي. فقال لك: أما أنك ستخرج عليه و أنت ظالم له. فقال الزبير: اللهم بلى، قد كان ذلك.

فقال الإمام: انشدك الله أتذكر يوم جاء رسول الله (ص) من عند بني عوف، و أنت معه، و هو آخذ بيدك فاستقبلته، فسلمت عليه، فضحك في وجهي، و ضحكت إليه. فقلت أنت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال (ص) لك: مهلا يا زبير ليس بعلي زهوة، و لتخرجن عليه يوما و أنت ظالم له؟

فقال الزبير: اللهم بلى، و لكني قد نسيت ذلك، و بعد أن ذكر تنيه لأنصرفن» (16).

و قد عزم الزبير على اعتزال الناس، غير أن ابنه عبد الله وصفه بالجبن إن هو أقدم على ذلك.

و هكذا تفجر الموقف و اندلع القتال بين المعسكرين.

 

1ـ المصدر السابق/ص 404، و شروح مفصلة اخرى في الغدير/ج 9/ص 102 و ما بعدها.

2ـ الغدير/ج 9/ص 93، و أضاف ان الطبري قد ذكر ذلك في تاريخه إلا انه لم يذكر اسم طلحة، و قال بدلا من ذلك: (قال رجل).

3ـ الغدير/ج 9/ص. 93

4ـ ابن الأثير/الكامل في التاريخ/ج 3/ص 183، شرح ابن أبي الحديد/ج 1/ص 168، و الغدير/ج 9/ص. 91

5ـ اليعقوبي/تاريخ اليعقوبي/ج 2/ص 176، الأميني/الغدير/ج 9/ص 78، نقلا عن أنساب الأشراف للبلاذري. و المعنى: انها تمنت لو تضع الخليفة عثمان في كيس و تشد رأس ذلك الكيس و تلقيه في البحر.

6ـ الغدير/ج 9/ص 78، نقلا عن البلاذري و تاريخ الطبري و شرح ابن أبي الحديد.

7ـ اليعقوبي/تاريخ اليعقوبي/ج 2/ص. 175

8ـ العلامة السيد مرتضى العسكري/أحاديث ام المؤمنين عائشة/ص 104، نقلا عن تاريخ ابن أعثم، و الآية هي العاشرة من سورة التحريم، انظر تفسيرها في كتب التفسير.

9ـ مرتضى العسكري/أحاديث ام المؤمنين عائشة/ص 105، و قد نقل ذلك عن تاريخ الطبري و تاريخ ابن أعثم و تاريخ ابن الأثير، و النهاية لابن الأثير و شرح ابن أبي الحديد.

10ـ انظر معنى الكلمة في النهاية لابن الأثير و تاج العروس و لسان العرب و القاموس المحيط.

11ـ تاريخ المدينة المنورة/ج 3/ص 1088، الطبري/تاريخ الطبري/ج 3/ص. 392

12ـ تاريخ المدينة المنورة/ج 3/ص 1089، الطبري/ج 3/ص. 393

13ـ الطبري/ج 3/ص 392، انظر الغدير/ج 9/ص 135ـ 139 فقد ذكر مصادر اخرى.

14ـ عبد الرحمن الشرقاوي/علي إمام المتقين/ج 1/ص 207، الغدير/ج 9/ص 149ـ. 152

15ـ ابن الصباغ المالكي/الفصول المهمة/ص 72. و المقصود ب (أخرجتما امكما) عائشة بوصفها زوجة النبي (ص) و ام المؤمنين.

16ـ ابن الصباغ المالكي/الفصول المهمة/ص 79، سبط ابن الجوزي/تذكرة الخواص/ص 77، ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 2/ص. 167