فهرس الكتاب

مكتبة الإمام أميرالمؤمنين (ع)

 

 

خامساـ شواهد من صبر الإمام:

 

و قوة الإدارة و الروح العالية في مواجهة مصاعب الحياة، ركن أساس في شخصية علي (ع) ، و قد لا نغالي إذا اعتبرناها قاعدة للكثير من مواقف الإمام (ع) في حياته العملية، مما ذكرناه أو مما لم نذكره، فشدة تعلقه بالله و كثرة عبادته، و تورعه عن البغي، و زهده في الحياة الدنيا، و صفحه عمن يسي‏ء إليه و كثير غيرها، مؤشرات ضخمة على تسلح الإمام (ع) بصبر لا يعرف الهزيمة، و لا النكوص عن القصد، بشكل جعله (ع) كأنه الصبر صار إنسانا.

و مع أن تلك المواقف و الممارسات، تمنح الدليل تلو الدليل على حجم الصبر الذي يتمتع به الإمام (ع) ، فإنه من المناسب أن نذكر إلى جانب ذلك مواقف و أحداثا جرت في حياة علي (ع) ، و قد واجهها بالصبر و رباطة الجأش التي لا نظير لها، نذكر منها:

1ـ حين أجمعت قريش في دار الندوة على قتل المصطفى (ص) من خلال عملية جماعية، يتولاها من كل قبيلة شاب قوي، ليذهب دم الرسول (ص) هدرا بزعمهم دون أن تستطيع بنو هاشمـ عشيرة النبيـ أن تطالب بدمه.

حين أجمع رؤوس الشرك على تدبير ذلك الجرم، أنبأ الله تعالى رسوله (ص) بأمرهم: (و إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين). (الأنفال/30)

و أمره تعالى بوجوب الهجرة إلى دار الاسلام«يثرب»، فخرج (ص) مهاجرا بعد أن ترك عليا (ع) في فراشه، ملتحفا ببردته، فقضى الإمام (ع) ليلته في فراش رسول الله (ص) ، دون أن يكترث بما حوله من مكر مبيت. فلقد كان محتملا أن ينقض اولئك الأوغاد على الإمام (ع) بسيوفهم دون رحمة، مدفوعين بالحقد الجاهلي الأسود البليد، ظنا منهم أنه رسول الله (ص) ، و الإمام (ع) كان يتوقع ذلك منهم، و لكن إرادة علي و رباطة جأشه المعروفة المستمدة من الثقة المطلقة بالله و الإيمان الكامل بقدره و قضائه تعالى، و قوة صبر الإمام (ع) على مواجهة المصاعب و الأحداث، قد حملته على أن يسخر بما يبيتون، حتى إذا طلع الصباح هجم القوم على حجرة الرسول (ص) و علي (ع) فيها، و هم يظنون أنه رسول الله (ص) ، فواجههم الإمام (ع) بصلابة إرادته المعهودة:

« (ما شأنكم؟) قالوا: أين محمد؟قال: (أجعلتموني عليه رقيبا؟ألستم قلتم نخرجه من بلادنا؟فقد خرج عنكم!!) ».

هكذا يخاطب الإمام علي (ع) المتآمرين بمنتهى الصبر و الإباء و الصرامة، ساخرا باولئك الأوباش.

إنه موقف شجاع، تتصاغر أمامه إرادة الأبطال من الرجال!

و بتلك الإرادة بقي الإمام (ع) في مكة بعد هجرة رسول الله (ص) ، يواجه مسؤولياته في تنفيذ وصايا الرسول (ص) و أداء المهمات المناطة به كافة.

2ـ و في يوم هجرته خرج الإمام (ع) جهارا يقود قافلة المهاجرات من أهل البيت: فاطمة الزهراء، و فاطمة بنت أسد و سواهما، فجرت محاولة من المشركين للحيلولة دون هجرته، و لكن إرادة علي (ع) و قوة تحمله للعقبات أفشلت المحاولة فلم يعبأ بالفرسان الثمانية الذين ارسلوا لاعتراض سبيله، فواجههم بسيفه، و أهوى‏به على قائدهم بضربة قاضية، تحول الرجل بعدها إلى جثة هامدة يخور بدمه في تلك الفلاة من الأرض، ففر الباقون مخلفين قائدهم المضرج في الميدان (1).

3ـ و في دار الهجرة واجه الإمام (ع) مسؤولياته العظيمة جنديا من جنود الرسالة في الرعيل الأول، فأبدى (ع) من قوة الإرادة و مضاء العزيمة و القدرة على مواجهة المصاعب، ما يعد مفخرة يعتز بها الإنسان الملسم بامتداد وجوده التأريخي، فالإمام (ع) عبر المعارك الهجومية و الدفاعيةـ التي خاضها رسول الله (ص) من أجل نشر الرسالة الإلهية أو حماية وجودها العملي في حياة الناسـ كان قطب رحاها، الخائض المقدام لغمراتها، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، من أجل إخماد طغيان الشرك و المشركين و أعداء الرسالة المتربصين كافة، فما من حرب تسعر و ما من معركة تدور رحاها إلا دعي علي (ع) لإخماد فتنتها و تنكيس رايات الجاهلية فيها : في بدر، و احد، و الأحزاب، و حنين، و خيبر... و... و... الخ.

و في كثير من المواقف يسود الهلع في معسكر المسلمين، و يستبد الوهن و النكوص عن مواجهة العدو، فيعيد سيف علي (ع) الثقة للنفوس و يجدد في معسكر الإيمان روح القدرة على المواجهة و صد العدوان.

الأمر الذي يكشف عما يتمتع به الإمام (ع) من نفس كبيرة تعلو على كل وهن، و تسخر من كل ضعف، و ترتفع فوق كل ذلة و هوان، إنها قوة الارادة، و مضاء العزيمة، و شدة الصبر على المكاره، مقرونة باليقين العميق بالله تعالى، و الاستمداد منه و التوكل عليه دون سواه.

4ـ و قد تولى الإمام (ع) الخلافة في ظروف صعبة دقيقة على مضضـ و بعد محاولات عديدة من الرفض لها من قبلهـ و ما أن عقدت له البيعة حتى نكث قوم و قسط آخرون، و مرق غيرهم، كل ذلك من أجل أن يحال بين الإمام (ع) و بين استئناف المسيرة الاسلامية التي بدأها رسول الله (ص). و لقد تحمل أمير المؤمنين (ع) ما تحمل من الآلام و المشقات في سبيل إخماد الفتن السوداء التي أثارها أصحاب المنافع الشخصية و أصحاب المصلحة من سياسة الانحراف، في طريق مسيرته الاصلاحية، فقابل كل ذلك بالصبر الجميل، و بالتسليم لقضاء الله تعالى، حتى رحل إلى ربه الأعلى شهيدا.

5ـ و إذا تركنا تلك الامور جانبا و ألقينا نظرة على جوانب اخرى من حياة الإمام (ع) ، لنحدد مواقع الصبر و الإرادة الصلبة، لما صح أن تفوتنا مواقف الصبر التي وقفها أمير المؤمنين (ع) حين فارق أحبته و رفاق الدرب، و أولهم رسول الله (ص) الذي فاضت نفسه الشريفة في حجره (ع)(2) ، و واراه الثرى بنفسه، و عايش مأساة فراقه بكل أبعادها، و ها هو يخاطب رسول الله (ص) ، و هو يلي غسله و تجهيزه بكلمات خزينة تدمي القلب و تزرع الأسى: «بأبي أنت و امي يا رسول الله!لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة و الإنباء و أخبار السماء. خصصت حتى صرت مسليا عمن سواك؟و عممت حتى صار الناس فيك سواء، و لو لا أنك أمرت بالصبر، و نهيت عن الجزع، لأنفدنا عليك ماء الشؤون، و لكان الداء مماطلا، و الكمد محالفا، و قلا لك، و لكنه ما لا يملك رده، و لا يستطاع دفعه!بأبي أنت و امي، اذكرنا عند ربك، و اجعلنا من بالك» (3).

و إذا أعدنا إلى الأذهان ما يحظى به رسول الله (ص) من حب و تعظيم في نفس أمير المؤمنين (ع) ، لأدركنا حجم الأسى الذي صب على الإمام (ع) بفقده (ص) ، فعلي (ع) قد حظي بتربية الرسول (ص) و رعايته و إعداده و مصاحبته، منذ الصبا حتى فارق رسول الله (ص) الدنيا. و لقد كانت تلك التربية و تلك الأخوة بينهما مليئة بضروب الود و الحنان و الوفاء و الإخلاص مما ليس له نظير.

على أن الإمام (ع) التزم جانب الصبر، راضيا بقضاء الله المحتوم في رسول الله (ص).

6ـ و في خضم الأحداث المريرة التي عايشها أمير المؤمنين (ع) في هذه الفترة، ألمت بالزهراء سيدة نساء العالمين العلة، التي توفيت على أثرها، فلحقت بالراحل العظيم أبيها، حيث كان الإمام (ع) طوال فترة المرض الذي عانت منه فاطمة (ع) يعايش ما تعاني بمل‏ء كيانه، فهي وديعة رسول الله (ص) و مدرسة الإمامة التي خرجت قادة الامة الهداة (ع) ، و هي الصابرة المحتسبة، و هي بعد ذلك زوجه الوفية التي عاشت معه آماله و آلامه طوال حياتها.

لقد رأى الإمام (ع) زهراء الاسلام، بعد رسول الله (ع) ، و هي تعايش مرارة الأسى، ثم و هي تستسلم لفراش المرض، فيشحب لونها، و تتردى أوضاعها الصحية يوما بعد يوم، ثم يراها و هي تفارق الدنيا، فيباشر تغسيلها و تجيزها و دفنها (ع) ، ثم يقف على شفير قبرها مودها بعبارات تذيب القلوب القاسية:

«السلام عليك يا رسول الله عني، و عن ابنتك النازلة في جوارك، و السريعة اللحاق بك!قل يا رسول الله عن صفيتك صبري، و رق عنها تجلدي، إلا أن في التأسي لي بعظيم فرقتك، و فادح مصيبتك، موضع تعز، فلقد و سدتك في ملحودة قبرك، و فاضت بين نحري و صدري نفسك (فإنا لله و إنا إليه راجعون) ، فلقد استرجعت الوديعة، و اخذت الرهينة!أما حزني فسرمد، و أما ليلي فمسهد إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، و ستنبئك ابنتك بتضافر امتك على هضمها، فأحفها السؤال، و استخبرها الحال، هذا و لم يطل العهد، و لم يخل منك الذكر، و السلام عليكما سلام مودع، لا قال، و لا سئم، فإن أنصرف فلا عن ملالة، و إن اقم‏فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين» (4).

و هكذا استسلم الامام (ع) لقضاء الله تعالى و استعان على الأسى بجميل الصبر.

7ـ و كما صبر الإمام (ع) لفقد رسول الله (ص) و الصديقة الزهراء (ع) ، تجمل بالصبر كذلك لفقد اخوة له في الله، انقطعوا إليه في الوفاء، و بذلوا أرواحهم و كل ما يملكون في سبيل رسالة الله تعالى، و قد تصدوا لهدم الباطل، و واجهوا الانحراف، فاستشهدوا في ساحات الجهاد، كعمار بن ياسر، و مالك بن التيهان، و ذي الشهادتين خزيمة بن ثابت الأنصاري، و مالك الأشتر، و محمد بن أبي بكر و سواهم.

و ها هو الإمام (ع) يذكرهم قبل اغتياله بأيام في خطبة له جاء فيها:

« (أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحق؟أين عمار؟و أين ابن التيهان؟و أين ذو الشهادتين؟و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية، و ابرد برؤوسهم إلى الفجرة؟) ثم أطال البكاء و قال: (أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، و تدبروا الفرض فاقاموه، أحيوا السنة، و أماتوا البدعة. دعوا للجهاد فأجابوا، و وثقوا بالقائد فاتبعوه) » (5).

8ـ و من شواهد صبر الإمام (ع) كذلك، رفضة للدنيا و لذاتها و تحمله لأذى الجوع، و التقشف، و زهده بالمال حتى يبلغ به الحال أحيانا أن يشد حجر المجاعة (6) على بطنه، و لقد رأيت في حديثنا عن زهده و عدالته ما يغنيك عن تعداد شواهداخرى من قوة تحمله و إرادته في مواجهة المشقات و عقبات الحياة.

و هكذا عاش الإمام (ع) حياة مليئة بالكدح و الآلام، زاخرة بالرزايا، حافلة بالمحن، غير أنه واجهها جميعا بقوة صبره، و عظيم إرادته التي لا تقهر.

 

1ـ عبد المجيد لطفي/الإمام علي رجل الاسلام المخلد/ص. 53

2ـ مسند أحمد بن حنبل/ج 2/ص 300. و مناقب الخوارزمي عن عائشة، و للإمام علي (ع) إشارة لهذه الحقيقة في نهج البلاغة/رقم النص. 201

3ـ نهج البلاغة/من كلام له (ص) /رقم. 235

أنفدنا: أفنينا. ماء الشؤون: منابع الدمع. الداء مماطلا: مماطلا بالشفاء. الكمد محالفا: الحزن ملازما. قلا: مماطلة الداء، و محالفة الكمد، قليلتان لك.

4ـ نهج البلاغة/رقم النص. 202

التأسي: الاعتبار. الفادح: المثقل. التعزي: التصبر. ملحودة القبر: الجهة المشقوقة منه. مسهد : اشتد به الأرق. هضم: ظلم. إحفاء السؤال: الاستقصاء فيه. القالي: المبغض. السئم: الضجر.

5ـ نهج البلاغة/أواخر خطبة رقم. 182

أبرد برؤوسهم: أرسلت رؤوسهم بالبريد إلى الطغاة للتشفي منهم. أوه: كلمة توجع.

6ـ ابن أبي الحديد/شرح نهج البلاغة/ج 1/ص. 22