[181]

وما تقدمنا خمسة ( 1 ) إلا كان سادسهم ولا أربعة إلا كان خامسهم ، اشترط دفعهم إليه ليقتلهم ويصلبهم ! وانتحل دم عثمان ، ولعمر والله ما ألب ( 2 ) على عثمان ولا جمع الناس على قتله إلا هو وأشباهه من أهل بيته أغصان الشجرة الملعونة في القرآن ، فلما لم اجب إلى ما اشترط من ذلك كر مستعليا في نفسه بطغيانه وبغيه بحمير لا عقول لهم ولا بصائر ، فموه لهم ( 3 ) أمرا فاتبعوه ، وأعطاهم من الدنيا ما أمالهم به إليه ، فناجزناهم وحاكمناهم إلى الله عزوجل بعد الاعذار والانذار ، فلما لم يزده ذلك إلا تماديا وبغيا لقيناه بعادة الله التي عودنا من النصر على اعدائه وعدونا ، وراية رسول الله صلى الله عليه وآله بأيدينا ، لم يزل الله تبارك وتعالى يفل حزب الشيطان بها حتى يقضي الموت عليه ، وهو معلم رايات أبيه التي لم أزل اقاتلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله في كل المواطن ، فلم يجد من الموت منجى إلا الهرب ، فركب فرسه وقلب رايته ! لا يدري كيف يحتال ، فاستعان برأي ابن العاص ، فأشار إليه بإظهار المصاحف ورفعها على الاعلام والدعاء إلى ما فيها ، وقال : إن ابن أبي طالب وحزبه أهل بصائر ورحمة وبقيا ( 4 ) وقد دعوك إلى كتاب الله أولا وهم مجيبوك إليه آخرا فأطاعه فيما أشار به عليه ، إذا رأى أنه لا منجى له من القتل أو الهرب غيره ، فرفع المصاحف يدعو إلى ما فيها بزعمه ، فمالت إلى المصاحف قلوب من بقي من أصحابي بعد فناء خيارهم وجهدهم في جهاد أعداء الله وأعدائهم على بصائرهم ، فظنوا أن ابن آكلة الاكباد له الوفاء بما دعا إليه ، فأصغوا إلى دعوته وأقبلوا بأجمعهم في إجابته ، فأعلمتهم أن ذلك منه مكر ومن ابن العاص معه ، وإنهما إلى النكث أقرب منهما إلى الوفاء ، فلم يقبلوا قولي ولم يطيعوا أمري ، وأبوا إلا إجابته كرهت أم هويت شئت أو أبيت ! حتى أخذ بعضهم يقول لبعض : إن لم
-بحار الانوار مجلد: 34 من ص 181 سطر 19 الى ص 189 سطر 18 يفعل فألحقوه بابن عفان ! وادفعوه إلى ابن هند برمته ( 5 ) ! فجهدت علم الله جهدي

___________________________________________________________
( 1 ) في الاختصاص : فو الله لقدأتينا مع النبى ولا يعد منا خمسة اه .
( 2 ) ألب بالتخفيف تجمع وتحشد .
ألب بينهم : أفسد .
( 3 ) موه عليه الامر أو الخبر : زوره عليه وزخرفه ولبسه .
( 4 ) كذا في النسخ ، وفي المصدر : أهل بصائر ورحمة ويقينا .
وفي الاختصاص : أهل بصائر ورحمة ومعنى .
( 5 ) يقال : أعطاه الشئ برمته أى بجملته .

[182]

ولم أدع علة في نفسي إلا بلغتها في أن يخلوني ورأيي فلم يفعلوا ، وراودتهم على الصبر على مقدار فواق الناقة أو ركضة الفرس فلم يجيبوا ما خلا هذا الشيخ وأومأ بيده إلى الاشتر وعصبة من أهل بيتي ، فو الله ما منعني أن أمضي على بصيرتي إلا مخافة أن يقتل هذان وأومأ بيده إلى الحسن والحسين عليهما السلام فينقطع نسل رسول الله وذريته من امته ومخافة أن يقتل هذا وهذا وأومأ بيده إلى عبدالله بن جعفر ومحمد بن الحنفية رضي الله عنهما فإني أعلم لو لا مكاني لم يقفا ذلك الموقف ، فلذلك صبرت على ما أراد القوم مع ما سبق فيه من علم الله عزوجل ، فلما رفعنا عن القوم سيوفنا تحكموا في الامور وتخيروا الاحكام والآراء وتركوا المصاحف وما دعوا إليه من حكم القرآن ! وما كنت احكم في دين الله أحدا إذ كان التحكيم في ذلك الخطاء الذي لا شك فيه ولا امتراء ، فلما أبوا إلا ذلك أردت أن احكم رجلا من أهل بيتي أو رجلا ممن أرضي رأيه وعقله وأثق بنصيحته ومودته ودينه ، وأقبلت لا اسمي أحدا إلا امتنع منه ابن هند ، ولا أدعوه إلى شئ من الحق إلا أدبر عنه وأقبل ابن هند يسومنا عسفا ( 1 ) وما ذلك إلا باتباع أصحابي له على ذلك ، فلما أبوا إلا غلبتي على التحكم تبرأت إلى الله عزوجل منهم ، وفوضت ذلك إليهم ، فقلدوه امرء فخدعه ابن العاص خديعة ظهرت في شرق الارض وغربها ، وأظهر المخدوع عليها ندما ، ثم أقبل عليه السلام على أصحابه فقال : أليس كذلك ! قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام : وأما السابعة يا أخا اليهود فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان عهد إلي أن اقاتل في آخر الزمان من أيامي قوما من أصحابي يصومون النهار ويقومون الليل ويتلون الكتاب ، يمرقون بحلافهم علي ومحاربتهم إياي من الدين مروق السهم من الرمية فيهم ذو الثدية يختم لي بقتلهم بالسعادة ، فلما انصرفت إلى موضعي هذا يعني بعد الحكمين أقبل بعض القوم على بعض باللائمة فيما صاروا إليه من تحكيم الحكمين ، فلم يجدوا لانفسهم من ذلك مخرجا إلا أن قالوا : كان ينبغي لاميرنا أن لا يتابع من أخطأ وأن يقضي بحقيقة رأيه على قتل نفسه وقتل من خالفه منا ، فقدكفر بمتابعته إيانا وطاعته لنا في الخطاء : وأحل لنا بذلك قتله وسفك دمه ! فتجمعوا على ذلك وخرجوا راكبين

___________________________________________________________
( 1 ) سامه الامر وسومه : كلفه اياه .
والعسف : الظلم .

[183]

رؤوسهم ينادون بأعلى أصواتهم : لا حكم إلا لله ، ثم تفرقوا فرقة بالنخيلة واخرى بحروراء واخرى راكبة رأسها تخبط الارض شرقا حتى عبرت دجلة ، فلم تمر بمسلم إلا امتحنته فمن تابعها استحيته ومن خالفها قتلته ، فخرجت إلى الاوليين واحدة بعد اخرى أدعوهم إلى طاعة الله عزوجل والرجوع إليه ، فأبيا إلا السيف لا يقنعها غير ذلك ، فلما أعيت الحيلة فيهما حاكمتهما إلى الله عزوجل فقتل الله هذه وهذه ، وكانوا يا أخا اليهود لو لا ما فعلوا لكانواركنا قويا وسدا منيعا ، فأبى الله إلا ما صاروا إليه ، ثم كتبت إلى الفرقة الثالثة ووجهت رسلي تترى ( 1 ) وكانوا من جلة أصحابي وأهل التعبد منهم والزهد في الدنيا ، فأبت إلا اتباع اختيها والاحتذاء على مثالهما ، وشرعت ( 2 ) في قتل من خالفها من المسلمين ، وتتابعت إلي الاخبار بفعلهم ، فخرجت حتى قطعت إليهم دجلة اوجه السفراء و النصحاء ، وأطلب العتبى بجهدي ( 3 ) بهذا مرة وبهذا مرة وأومأ بيده إلى الاشتر والاحنف بن قيس وسعيد بن قيس الارحبي والاشعث بن قيس الكندي فلما أبوا إلا تلك ركبتها منهم ، فقتلهم الله يا أخا اليهود عن آخرهم وهم أربعة آلاف أو يزيدون حتى لم يفلت ( 4 ) منهم مخبر ، فاستخرجت ذا الثدية من قتلاهم بحضرة من ترى ، له ثدي كثدي المرأة ، ثم التفت عليه السلام إلى أصحابه فقال ، أليس كذلك ؟ قالوا : بلى يا أميرالمؤمنين .
فقال عليه السلام قدوفيت سبعا وسبعا يا أخا اليهود وبقيت الاخرى واوشك بها فكان قد ( 5 ) .
فبكى أصحاب علي عليه السلام وبكى رأس اليهود ، وقالوا : يا أميرالمؤمنين أخبرنا بالاخرى فقال : الاخرى أن تخضب هذه وأومأ بيده إلى لحيته من هذه وأومأبيدء إلى هامته قال : وارتفعت أصوات الناس في المسجد الجامع بالضجة والبكاء حتى لم يبق بالكوفة دارإلا خرج أهلها فزعا ، وأسلم رأس اليهود على يدي علي عليه السلام من ساعته ، ولم يزل مقيما حتى

___________________________________________________________
( 1 ) تترى أصلها ( وترى ) ومعناها مجئ الواحد بعد الاخر نحو ( أرسلنا رسلنا تترى ) أى واحدا بعد واحد .
( 2 ) في المصدر : وأسرعت .
( 3 ) في المصدر : لجهدى .
( 4 ) في الاختصاص : لم يفلتنى .
( 5 ) سيأتى معناه في البيان .
وفي الاختصاص : وكان قد قربت .

[184]

قتل أميرالمؤمنين عليه السلام واخذ ابن ملجم لعنه الله ، فأقبل راس اليهود حتى وقف على الحسن عليه السلام والناس حوله وابن ملجم لعنه الله بين يديه ، فقال له : يا أبا محمد اقتله قتله الله ، فإني رأيت في الكتب التي انزلت على موسى عليه السلام أن هذا أعظم عند الله عزوجل جرما من ابن آدم قاتل أخيه ومن القدار ( 1 ) عاقر ناقة ثمود ( 2 ) .
ختص : جعفر بن احمد الجعفري عن يعقوب الكوفي مثله ( 3 ) .
بيان : ندبه الامر فانتدب له أي دعاه له فأجاب وقال الجزري : الجحاجحة جمع جحجاح السيد الكريم ، والهاء فيه لتأكيد الجمع ( 4 ) .
وقال : فيه ( جاءت هواذن على بكرة أبيها ) هذه كلمة للعرب يريدون بها الكثرة وتوفر العدد وأنهم جاؤوا جميعا لم يتخلف منهم أحد ، وليس هناك بكرة في الحقيقة ، وهي التي يستقى عليها الماء ، فاستعيرت في هذا الموضع ، وقد تكررت في الحديث ( 5 ) .
وقال الفيروزآبادي : حاش الصيد : جاءه من حواليه ليصرفه إلى الحبالة كأحاشه وأحوشه ، والابل : جمعها وساقها ، والتحويش : التجميع ، وحاوشته عليه : حرضته ( 6 ) .
وقال الجزري : يقال : رعد وبرق وأرعد وأبرق إذا توعدو تهدد ( 7 ) .
وقال : الهدير : ترديد صوت البعير في حنجرته ( 8 ) .
وقال الفيروز آبادي : اغتلم البعير : هاج من شهوة الضراب ( 9 ) .
وقال : خطر الرجل بسيفه ورمحه يخطر بالكسر : رفعه مرة ووضعه اخرى ( 10 ) .
وقال الجزري : يقال : نكيت في العدو أنكي نكاية فأناناك إذا أكثرت فيهم الجراح والقتل فوهنوا لذلك ، انتهى ( 11 ) .
والارب بالكسر

___________________________________________________________
( 1 ) قال في القاموس ( 2 : 114 ) : قدار كهمام ابن سالف عاقر الناقة .
( 2 ) الخصال 2 : 14 25 .
( 3 ) الاختصاص : 163 181 .
( 4 ) النهاية 1 : 144 .
( 5 ) النهاية 1 : 91 .
( 6 ) القاموس 2 : 270 و 271 .
( 7 ) النهاية 2 : 87 .
( 8 ) النهاية 4 : 242 .
( 9 ) القاموس 4 : 157 .
( 10 ) القاموس 2 : 22 .
( 11 ) النهاية 4 : 176 .

[185]

العضو واستنام إليه : سكن .
والحظوة بالضم والكسر : المكانة والمنزلة .
والعنوة : القهر والفادح : الثقيل .
قوله عليه السلام : ( بادردمعة ) أي الدمعة التي تبدر بغير اختيار .
والزفرة بالفتح وقد يضم : النفس الطويل .
ولذع الحب قلبه : آلمه ، والنار الشئ : لفحته .
وأوعز إليه في كذا أي تقدم .
قوله عليه السلام : ( ويلزم غيره ) أي كان يقول : لم يكن هذا مني بل كان من عمر .
و العفو : السهل المتيسر ، ولعل الكر والفركناية عن الاخذ والجر ، ويحتمل أن يكون تصحيف الكزم والقزم بالمعجمتين ، والكزم بالتحريك : شدة الاكل ، والقزم : اللوم و الشح .
والصعداء بضم الصاد وفتح العين : تنفس ممدود ويقال : دولت الدلو أي نزعتها وأدليتها أي أرسلتها في البئر ، ودلوت الرجل وداليته : رفقت به وداريته .
قوله عليه السلام : ( لم أشك أني قد استرجعت ) أقول : أمثال هذا الكلام إنما صدر عنه عليه السلام بناء على ظاهر الامر ، مع قطع النظر عما كان يعلمه بإخبار الله ورسوله من استيلاء هؤلاء الاشقياء ، وحاصل الكلام أن حق المقام كان يقتضي أن لا يشك في ذلك كما قيل في قوله تعالى : ( لا ريب فيه ( 1 ) ) قوله عليه السلام : ( ومشى إلى أصحابه ) ظاهره يدل أن عثمان في أول الامر لما علم ندامة القوم استقالهم من بيعته ، ولم ينقل ذلك ، ويحتمل أن يكون المراد ما كان منه بعد حصره وإرادة قتله .
وأمض : أوجع والصدى مخففة الياء : العطشان قوله عليه السلام : ( بما تطاعموا به ) أي بما أوصل كل منهم إلى صاحبه في دولة الباطل طعمه ولذته من اعتقال الاموال أي اكتسابها وضبطها ، من قولهم : عقل البعير واعتقله إذا شديديه ، وفي بعض النسخ بالدال ، ويؤول إليه في المعنى ، يقال : اعتقد ضيعة ومالا أي اقتناها .
قوله عليه السلام : ( وشديد عادة منتزعة ) كذا فيما عندنا من النسخ ، ولعل قوله : ( عادة ) مبتدء وشديد خبره ، أي انتزاع العادة وسلبهاشديد .
وخبط البعير الارض بيده خبطا : ضربها ، ومنه قيل : خبط عشواء وهي الناقة التي في بصرها ضعف إذا مشت لا تتوقى

___________________________________________________________
( 1 ) سورة البقرة : 2 .

[186]

شيئا ، وخبطه : ضربه شديدا ، والقوم بسيفه : جلدهم ، والشجرة : شدها ثم نفض ورقها .
والدبرة بالتحريك : الهزيمة .
وقال الجزري : فيه ( اغزوا تغنموا بنات الاصفر ) يعني الروم ، لان أباهم الاول كان أصفر اللون وهو روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم ( 1 ) .
قوله عليه السلام : ( وجعل يحثني ) أي أبوسفيان في أول خلافة أبي بكر .
وأعور ثقيف هو المغيرة بن شعبة الثقفي ، وشرح تلك الفقرات مع ما مضى وغيرها مثبت في كتاب أحوال النبي صلى الله عليه وآله وكتاب الفتن .
والمناجزة : المبارزة والمقاتلة .
وفللت الجيش : هزمته .
والفواق الوقت ما بين الحلبتين لانها تحلب ثم تترك سويعة ( 2 ) يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب .
والعتبى : الرجوع عن الاساءة إلى المسرة .
قوله عليه السلام : ( فكان قد ) أي فكان قد وقعت .

باب 63 : النوادر  

1 عم : قد ثبت بالدلالة القاطعة وجوب الامامة في كل زمان لكونها لطفا في فعل الواجبات والامتناع عن المقبحات ، فإنا نعلم ضرورة أن عند وجود الرئيس المهيب يكثر الصلاح من الناس ويقل الفساد عند عدمه يكثر الفساد ويقل الصلاح منهم ، بل يجب ذلك عند ضعف أمره مع وجود عينه ( 3 ) ، وثبت أيضا وجوب كونه معصوما مقطوعا على عصمته ، لان جهة الحاجة إلى هذا الرئيس هي ارتفاع العصمة عن الناس وجواز فعل القبيح منهم ، فإن كان هو غير معصوم وجب أن يكون محتاجا إلى رئيس آخر ( 4 ) ، لان علة الحاجة إليه قائمة فيه ، والكلام في رئيسه كالكلام فيه ، فيؤدي إلى وجوب مالا نهاية له من الائمة أو الانتهاء إلى لامام معصوم وهو المطلوب ، فإذا ثبت وجوب عصمة الامام والعصمة لا يمكن معرفتها إلا بإعلام الله سبحانه العالم بالسرائر والضمائر ولا طريق إلى ذلك سواء فيجب

___________________________________________________________
( 1 ) النهاية 2 : 266 .
وفيه : روم بن عيصو بن إسحاق بن ابراهيم .
( 2 ) تصغير الساعة .
( 3 ) أى يلزم كثرة الفساد وقلة الصلاح عند ضعف أمر الرئيس ان كان ضعيفا .
( 4 ) في المصدر : إلى رئيس آخر غيره .

[187]

النص من الله تعالى عليه على لسان نبي مؤيد بالمعجزات أو إظهار معجز دال على إمامته وإذا ثبت هذه الجملة القريبة التي لا يحتاج فيها إلى تدقيق كثير ، سبرنا ( 1 ) أحوال الامة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله فوجدناهم اختلفوا في الامام بعده على أقوال ثلاثة : فقالت الشيعة : الامام بعده أميرالمؤمنين عليه السلام بالنص على إمامته وقالت العباسية الامام بعده العباس بالنص أو الميراث ، وقال الباقون من الامة : الامام بعده أبوبكر ، وكل من قال بإمامة أبي بكر والعباس أجمعوا على أنهما لم يكونا مقطوعا على عصمتهما ، فخرجا بذلك من الامامة لما قدمناه ، فوجب أن يكون الامام بعده أميرالمؤمنين عليه السلام بالنص الحاصل من جهة الله سبحانه عليه والاشارة إليه ، وإلا كان الحق خارجا عن أقوال جميع الامة ، وذلك غير جائز بالاتفاق بيننا وبين مخالفينا ، وهذا هو الدليل العقلي على كونه منصوصا عليه .
وأما الادلة السمعية على ذلك ففد استوفاها أصحابنا رضي الله عنهم قديما وحديثا في كتبهم لا سيما ما ذكره سيدنا الاجل المرتضى علم الهدى ذو المجدين قدس الله روحه العزيز في كتاب الشافي في الامامة ، فقد استولى على الامد وغار في ذلك وأنجد ( 2 ) و صوب وصعد ( 3 ) وبلغ غاية الاستيفاء والاستقصاء ، وأجاب عن شبه المخالفين التي عولوا على اعتمادها واجتهدوا في إيرادها ، أحسن الله عن الدين وكافة المؤمنين جزاءه ، و نحن نذكر الكلام في ذلك على سبيل الاختصار والاجمال دون البسط والاكمال ، فنقول : إن الذي يدل ( 4 ) على أن النبي صلى الله عليه وآله نص على أميرالمؤمنين عليه السلام بالامامة بعده بلا فصل ودل على فرض طاعته على كل مكلف قسمان : أحدهما يرجع إلى الفعل وإن كان يدخل فيه أيضا القول ، والآخر يرجع إلى القول ، فأما النص الدال على إمامته بالفعل والقول فهو أفعال نبينا صلى الله عليه وآله ( 5 ) المبينة لاميرالمؤمنين من جميع الامة ، الدالة على استحقاقه التعظيم والاجلال والتقديم التي لم تحصل ولا بعضها لاحد سواه ، و

___________________________________________________________
( 1 ) سبر الامر : جربه واختبره .
( 2 ) غار في الامر : دقق النظر فيه .
أنجد الامر : أوضحه وأبانه .
( 3 ) صعد فيه النظر : تأمله ناظرا إلى أعلاه واسفله .
وفي المصدر : وصوب وأرشد .
( 4 ) في المصدر : ان الذى دل .
( 5 ) في المصدر : فهو أفعال النبى صلى الله عليه وآله .

[188]

ذلك مثل إنكاحه ابنته الزهراء سيدة نساء العالمين ، ومواخاته إياه بنفسه ، وإنه لم يندبه لامر مهم ولا بعثه في جيش قط إلى آخر عمره إلا كان هو الوالي عليه المقدم فيه ، ولم يول عليه أحدا من أصحابه وأقربيه ، وأنه لم ينقم ( 1 ) عليه شيئا من أمره مع طول صحبته إياه ، ولا أنكر منه فعلا ولا استبطأه ولا استزاده في صغير من الامور ولا كبير ، هذا مع كثرة ما عاتب سواه من أصحابه إما تصريحا وإما تلويحا .
واما ما يجري في هذه الافعال من الاقوال الصادرة عنه صلى الله عليه وآله الدالة على تميزه ممن سواه المنبئة عن كمال عصمته وعلو رتبته فكثيرة ، ممها قوله يوم احد وقد انهزم الناس وبقي علي عليه السلام يقاتل القوم حتى فض جمعهم ( 2 ) وانهزموا فقال جبرئيل : إن هذه لهي المواساة ، فقال صلى الله عليه وآله لجبرئيل : علي مني وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما فأجراه مجرى نفسه كما جعله الله سبحانه نفس النبي في آية المباهلة بقوله : ( وأنفسنا ( 3 ) ) .
ومنها قوله صلى الله عليه وآله لبريدة : يا بريدة لا تبغض عليا فإنه مني وأنا منه ، إن الناس خلقوا من أشجار شتى وخلقت أنار و علي من شجرة واحدة .
ومنها قوله صلى الله عليه وآله : علي مع الحق والحق مع علي يدور حيثما دار .
ومنها ما اشتهرت به الرواية من حديث الطائر وقوله صلى الله عليه وآله : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر فجاء علي عليه السلام .
ومنها قوله صلى الله عليه وآله لابنته الزهراء لما عيرتها نساء قريش بفقر علي : أما ترضين يا فاطمة أني زوجتك أفدمهم سلما وأكثرهم علما ؟ إن الله عزوجل اطلع إلى أهل الارض ( 4 ) اطلاعة فاختار منهم أباك فجعله نبيا ، واطلع عليهم ثانية فاختار منهم بعلك فجعله وصيا ، وأوحى إلي أن انكحكه ، أما علمت يا فاطمة أنك بكرامة الله إياك زوجتك أعظمهم حلما وأكثرهم علما وأقدمهم سلما ؟ فضحكت فاطمة عليهما السلام واستبشرت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا فاطمة إن لعلي ثمانية أضراس قواطع لم تجعل لاحد من الاولين

___________________________________________________________
( 1 ) نقم الامر على فلان : أنكره عليه وعابه وكرهه أشد الكراهة لسوء فعله .
( 2 ) فض القوم : فرقهم .
( 3 ) سورة آل عمران : 61 .
( 4 ) في المصدر : على أهل الارض .

[189]

والآخرين : هو أخي في الدنيا والآخرة ليس ذلك لغيره من الناس ، وأنت يا فاطمة سيدة نساء أهل الجنة زوجته ، وسبطا الرحمة سبطاي ولده ، وأخوه المزين بالجناحين في الجنة يطير مع الملائكة حيث يشاء ، وعنده علم الاولين والآخرين ، وهو أول من آمن بي و آخر الناس عهدا بي ، وهو وصيي ووارث الوصيين .
ومنها قوله صلى الله عليه وآله فيه : أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب ( 1 ) وما رواه عبدالله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله استدعى عليا عليه السلام فخلابه ، فلما خرج إلينا سألناه : ما الذي عهد إليك ؟ قال : علمني ألف باب من العلم فتح لي بكل باب ألف باب .
ومنها أنه صلى الله عليه وآله جعل محبته علما على الايمان وبغضه علما على النفاق بقوله فيه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق .
ومنها أنه صلى الله عليه وآله جعل ولايته علما على طيب المولد وعداوته علما على خبث المولد بقوله : ( بوروا ( 2 ) أولادكم بحب علي بن أبي طالب ، فمن أحبه فاعلموا أنه لرشدة ومن أبغضه فاعلموا أنه لغية ) رواه جابر بن عبدالله الانصاري عنه .
وروى عنه أبوجعفر الباقر عليه السلام قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعلي : ألا أسرك ؟ ألا أمنحك ؟ ألا ابشرك ؟ فقال بلى يا رسول الله قال : خلقت أنا وأنت من طينة واحدة ، ففضلت منها فضلة فخلق الله منها شيعتنا ، فإذا كان يوم القيامة دعي الناس بأسماء امهاتهم سوى شيعتنا ، فإنهم يدعون بأسماء آبائهم لطيب مولدهم .
وروي عن جابرأنه كان يدور في سكك الانصار ويقول : علي خير البشر فمن أبى فقد كفر ، معاشر الانصار بوروا أولادكم بحب
-بحار الانوار مجلد: 34 من ص 189 سطر 19 الى ص 197 سطر 18 علي بن أبي طالب عليه السلام فمن أبي فانظروا في شأن امه .
وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله قال : إذا كان يوم القيامة دعي الناس كلهم بأسماء امهاتهم ما خلا شيعتنا فإنهم يدعون بأسماء آبائهم لطيب مواليدهم .
ومنها أنه جعله وشيعته الفائزين بقوله ، رواه أنس بن مالك عنه صلى الله عليه وآله : يدخل

___________________________________________________________
( 1 ) في المصدر : فليأت من الباب .
( 2 ) بار الرجل و ابتاره : جربه واختبره .

[190]

الجنة من امتي سبعون ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب ، ثم التفت إلى علي عليه السلام فقال : هم شيعتك وأنت إمامهم .
و منها أنه صلى الله عليه وآله سد الابواب في المسجد إلا بابه عليه السلام ( 1 ) روى أبورافع قال : خطب النبي صلى الله عليه وآله فقال : أيها الناس الله تعالى أمر موسى بن عمران أن يبني مسجدا طاهرا لا يسكنه إلا هو وهارون وابنا هارون : شبر وشبير وإن الله أمرني أن أبني مسجدا لا يسكنه إلا أنا وعلي والحسن والحسين ، سدوا هذه الابواب ( 2 ) إلا باب علي فخرج حمزة يبكي فقال : يا رسول الله أخرجت عمك وأسكنت ابن عمك ، فقال : ما أنا أخرجتك وأسكنته ولكن الله أسكنه ، فقال بعض الصحابة ( 3 ) وقيل هو أبوبكر : دع لي كؤة انظر فيها ! قال : لا ولا رأس إبرة .
وروى زيد بن أرقم عن سعد بن أبي وقاص قال : سد رسول الله صلى الله عليه وآله الابواب إلا باب علي ، وإلى هذا أشار السيد الحميري في قصيدته المذهبة ( 4 ) : صهر النبي وجاره في مسجد * طهر بطيبة للرسول مطيب سيان فيه عليه غير مذمم * ممشاه إن جنبا وإن لم يجنب وأمثال ما ذكرناه من الامثال والاقوال الظاهرة التي جاءت به الاخبار المتظاهرة ( 5 ) ولا يخالف فيها ولي ولا عدو كثيرة يطول الكتاب بذكرها ، وإنما شهدت هذه الافعال والاقوال باستحقاقه عليه السلام الامامة ، ودلت على أنه عليه السلام أحق بمقام الرسول وأولى بالامامة والخلافة ، من جهة أنها إذا دلت على الفضل الاكيد والاختصاص الشديد و علو الدرجة وكمال المرتبة علم ضرورة أنها أقوى الاسباب والوصلات إلى أشرف الولايات لان الظاهر في العقل أن من كان أبهر فضلا ( 6 ) وأجل شأنا وأعلى في الدين مكانا فهو

___________________________________________________________
( 1 ) في المصدر : إلا باب على عليه السلام .
( 2 ) في المصدر : وأسد هذه الابواب .
( 3 ) في المصدر : فقال بعض أصحابه .
( 4 ) في المصدر بعد ذلك : بقوله .
( 5 ) في المصدر : المتظافرة .
( 6 ) بهره : غلبه وفضله .
بهر الرجل فاق أقرانه .