ذكر المطاعن التي طعن بها على عثمان و الرد عليهافأما الكلام في المطاعن المفصلة التي طعن بها فيه فنحن نذكرها و نحكي ما ذكره قاضي القضاة و ما اعترضه به المرتضى رحمه الله تعالى . الطعن الأول قال قاضي القضاة في المغني فمما طعن به عليه قولهم إنه ولى أمور المسلمين من لا يصلح لذلك و لا يؤتمن عليه و من ظهر منه الفسق و الفساد و من لا علم عنده مراعاة منه لحرمة القرابة و عدولا عن مراعاة حرمة الدين و النظر للمسلمين حتى ظهر ذلك منه و تكرر و قد كان عمر حذره من ذلك حيث وصفه بأنه كلف بأقاربه و قال له إذا وليت هذا الأمر فلا تسلط بني أبي معيط على رقاب الناس فوقع منه ما حذره إياه و عوتب في ذلك فلم ينفع العتب و ذلك نحو استعماله الوليد بن عقبة و تقليده إياه [ 12 ] حتى ظهر منه شرب الخمر و استعماله سعيد بن العاص حتى ظهرت منه الأمور التي عندها أخرجه أهل الكوفة و توليته عبد الله بن أبي سرح و عبد الله بن عامر بن كريز حتى روي عنه في أمر ابن أبي سرح أنه لما تظلم منه أهل مصر و صرفه عنهم بمحمد بن أبي بكر كاتبه بأن يستمر على ولايته فأبطن خلاف ما أظهر فعل من غرضه خلاف الدين و يقال إنه كاتبه بقتل محمد بن أبي بكر و غيره ممن يرد عليه و ظفر بذلك الكتاب و لذلك عظم التظلم من بعد و كثر الجمع و كان سبب الحصار و القتل حتى كان من أمر مروان و تسلطه عليه و على أموره ما قتل بسببه و ذلك ظاهر لا يمكن دفعه . قال رحمه الله تعالى و جوابنا عن ذلك أن نقول أما ما ذكر من توليته من لا يجوز أن يستعمل فقد علمنا أنه لا يمكن أن يدعى أنه حين استعملهم علم من أحوالهم خلاف الستر و الصلاح لأن الذي ثبت عنهم من الأمور القبيحة حدث من بعد و لا يمتنع كونهم في الأول مستورين في الحقيقة أو مستورين عنده و إنما كان يجب تخطئته لو استعملهم و هم في الحال لا يصلحون لذلك . فإن قيل فلما علم بحالهم كان يجب أن يعزلهم قيل كذلك فعل لأنه إنما استعمل الوليد بن عقبة قبل ظهور شرب الخمر عنه [ 13 ] فلما شهد عليه بذلك جلده الحد و صرفه و قد روي مثله عن عمر فإنه ولى قدامة بن مظعون بعض أعماله فشهدوا عليه بشرب الخمر أشخصه و جلده الحد فإذا عد ذلك في فضائل عمر لم يجز أن يعد ما ذكروه في الوليد من معايب عثمان و يقال إنه لما أشخصه أقام عليه الحد بمشهد أمير المؤمنين ع . و قد اعتذر من عزله سعد بن أبي وقاص بالوليد بأن سعدا شكاه أهل الكوفة فأداه اجتهاده إلى عزله بالوليد . فأما سعيد بن العاص فإنه عزله عن الكوفة و ولى مكانه أبا موسى و كذلك عبد الله بن أبي سرح عزله و ولى مكانه محمد بن أبي بكر و لم يظهر له من مروان ما يوجب أن يصرفه عما كان مستعملا فيه و لو كان ذلك طعنا لوجب مثله في كل من ولى و قد علمنا أن رسول الله ص ولى الوليد بن عقبة فحدث منه ما حدث و حدث من بعض أمراء أمير المؤمنين ع الخيانة كالقعقاع بن شور لأنه ولاه على ميسان فأخذ مالها و لحق بمعاوية و كذلك فعل الأشعث بن قيس بمال آذربيجان و ولى أبا موسى الحكم فكان منه ما كان و لا يجب أن يعاب أحد بفعل غيره و إذا لم يلحقه عيب في ابتداء ولايته فقد زال العيب فيما بعده . و قولهم إنه قسم أكثر الولايات في أقاربه و زال عن طريقة الاحتياط للمسلمين و قد كان عمر حذره من ذلك فليس بعيب لأن تولية الأقارب كتولية الأباعد في أنه يحسن إذا كانوا على صفات مخصوصة و لو قيل إن تقديمهم أولى لم يمتنع إذا كان المولي لهم أشد تمكنا من عزلهم و الاستبدال بهم و قد ولى أمير المؤمنين ع عبد الله بن العباس البصرة و عبيد الله بن العباس اليمن و قثم بن العباس مكة حتى قال مالك الأشتر عند ذلك [ 14 ] على ما ذا قتلنا الشيخ أمس فيما يروى و لم يكن ذلك بعيب إذا أدى ما وجب عليه في اجتهاده . فأما قولهم إنه كتب إلى ابن أبي سرح حيث ولى محمد بن أبي بكر بأنه يقتله و يقتل أصحابه فقد أنكر ذلك أشد إنكار حتى حلف عليه و بين أن الكتاب الذي ظهر ليس كتابه و لا الغلام غلامه و لا الراحلة راحلته و كان في جملة من خاطبه في ذلك أمير المؤمنين ع فقبل عذره و ذلك بين لأن قول كل أحد مقبول في مثل ذلك و قد علم أن الكتاب يجوز فيه التزوير فهو بمنزلة الخبر الذي يجوز فيه الكذب . فإن قيل فقد علم أن مروان هو الذي زور الكتاب لأنه هو الذي كان يكتب عنه فهلا أقام فيه الحد . قيل ليس يجب بهذا القدر أن يقطع على أن مروان هو الذي فعل ذلك لأنه و إن غلب ذلك في الظن فلا يجوز أن يحكم به و قد كان القوم يسومونه تسليم مروان إليهم و ذلك ظلم لأن الواجب على الإمام أن يقيم الحد على من يستحقه أو التأديب و لا يحل له تسليمه إلى غيره فقد كان الواجب أن يثبتوا عنده ما يوجب في مروان الحد و التأديب ليفعله به و كان إذا لم يفعل و الحال هذه يستحق التعنيف و قد ذكر الفقهاء في كتبهم أن الأمر بالقتل لا يوجب قودا و لا دية و لا حدا فلو ثبت في مروان ما ذكروه لم يستحق القتل و إن استحق التعزير لكنه عدل عن تعزيره لأنه لم يثبت و قد يجوز أن يكون عثمان ظن أن هذا الفعل فعل بعض من يعادي مروان تقبيحا لأمره لأن ذلك يجوز كما يجوز أن يكون من فعله و لا يعلم كيف كان اجتهاده و ظنه و بعد فإن هذا الحدث من أجل ما نقموا عليه فإن كان شيء من ذلك يوجب خلع عثمان و قتله فليس إلا هذا و قد علمنا أن هذا الأمر لو ثبت ما كان يوجب القتل لأن الأمر بالقتل لا يوجب القتل سيما قبل وقوع القتل المأمور به فنقول لهم لو ثبت ذلك على عثمان أ كان يجب قتله فلا يمكنهم ادعاء [ 15 ] ذلك لأنه بخلاف الدين و لا بد أن يقولوا إن قتله ظلم و كذلك حبسه في الدار و منعه من الماء فقد كان يجب أن يدفع القوم عن كل ذلك و أن يقال إن من لم يدفعهم و ينكر عليهم يكون مخطئا . و في القول بأن الصحابة اجتمعوا على ذلك كلهم تخطئة لجميع أصحاب رسول الله ص و ذلك غير جائز و قد علم أيضا أن المستحق للقتل و الخلع لا يحل أن يمنع الطعام و الشراب و علم أن أمير المؤمنين ع لم يمنع أهل الشام من الماء في صفين و قد تمكن من منعهم و كل ذلك يدل على كون عثمان مظلوما و أن ذلك من صنع الجهال و أن أعيان الصحابة كانوا كارهين لذلك و أيضا فإن قتله لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام من الناس و لا شبهة أن الذين أقدموا على قتله كانوا بهذه الصفة و إذا صح أن قتله لم يكن لهم فمنعهم و النكير عليهم واجب . و أيضا فقد علم أنه لم يكن من عثمان ما يستحق به القتل من كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق و أنه لو كان منه ما يوجب القتل لكان الواجب أن يتولاه الإمام فقتله على كل حال منكر و إنكار المنكر واجب . و ليس لأحد أن يقول إنه أباح قتل نفسه من حيث امتنع من دفع الظلم عنهم لأنه لم يمتنع من ذلك بل أنصفهم و نظر في حالهم و لأنه لو لم يفعل ذلك لم يحل لهم قتله لأنه إنما يحل قتل الظالم إذا كان على وجه الدفع و المروي أنهم أحرقوا بابه و هجموا عليه في منزله و بعجوه بالسيف و المشاقص و ضربوا يد زوجته لما وقعت عليه و انتهبوا متاع داره و مثل هذه القتلة لا تحل في الكافر و المرتد فكيف يظن أن الصحابة لم ينكروا ذلك و لم يعدوه ظلما حتى يقال إنه مستحق من حيث لم يدفع القوم عنه و قد تظاهر الخبر بما جرى من تجمع القوم عليه و توسط أمير المؤمنين ع لأمرهم و أنه [ 16 ] بذل لهم ما أرادوه و أعتبهم و أشهد على نفسه بذلك و أن الكتاب الموجود بعد ذلك المتضمن لقتل القوم و وقف عليه و ممن أوقفه عليه أمير المؤمنين ع فحلف أنه ما كتبه و لا أمر به فقال له فمن تتهم قال ما أتهم أحدا و إن للناس لحيلا . و الرواية ظاهرة أيضا بقوله إن كنت أخطأت أو تعمدت فإني تائب و مستغفر فكيف يجوز و الحال هذه أن تهتك فيه حرمة الإسلام و حرمة البلد الحرام و لا شبهة في أن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه و لو لا أنه كان يمنع من محاربة القوم ظنا منه أن ذلك يؤدي إلى القتل الذريع لكثر أنصاره . و قد جاء في الرواية أن الأنصار بدأت معونته و نصرته و أن أمير المؤمنين ع قد بعث إليه ابنه الحسن ع فقال له قل لأبيك فلتأتني فأراد أمير المؤمنين ع المصير إليه فمنعه من ذلك محمد ابنه و استعان بالنساء عليه حتى جاء الصريخ بقتل عثمان فمد يده إلى القبلة و قال اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان . فإن قالوا إنهم اعتقدوا أنه من المفسدين في الأرض و أنه داخل تحت آية المحاربين . قيل فقد كان يجب أن يتولى الإمام هذا الفعل لأن ذلك يجري مجرى الحد و كيف يدعى ذلك و المشهور عنه أنه كان يمنع من مقاتلتهم حتى روي أنه قال لعبيدة و مواليه و قد هموا بالقتال من أغمد سيفه فهو حر و لقد كان مؤثرا لنكير ذلك الأمر بما لا يؤدي إلى إراقة الدماء و الفتنة و لذلك لم يستعن بأصحاب الرسول ص و إن كان لما اشتد الأمر أعانه من أعان لأن عند ذلك تجب النصرة و المعونة فحيث [ 17 ] كانت الحال متماسكة و كان ينهى عن إنجاده و إعانته بالحرب امتنعوا و توقفوا و حيث اشتد الأمر أعانه و نصره من أدركه دون من لم يغلب ذلك في ظنه . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما قوله لم يكن عالما بحال الفسقة الذين ولاهم قبل الولاية فلا تعويل عليه لأنه لم يول هؤلاء النفر إلا و حالهم مشهورة في الخلاعة و المجانة و التجرم و التهتك و لم يختلف اثنان في أن الوليد بن عقبة لم يستأنف التظاهر بشرب الخمر و الاستخفاف بالدين على استقبال ولايته للكوفة بل هذه كانت سنته و العادة المعروفة منه و كيف يخفى على عثمان و هو قريبه و لصيقه و أخوه لأمه من حاله ما لا يخفى على الأجانب الأباعد و لهذا قال له سعد بن أبي وقاص في رواية الواقدي و قد دخل الكوفة يا أبا وهب أمير أم زائر قال بل أمير فقال سعد ما أدري أ حمقت بعدك أم كست بعدي قال ما حمقت بعدي و لا كست بعدك و لكن القوم ملكوا فاستأثروا فقال سعد ما أراك إلا صادقا . و في رواية أبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي أن الوليد لما دخل الكوفة مر على مجلس عمرو بن زرارة النخعي فوقف فقال عمرو يا معشر بني أسد بئسما استقبلنا به أخوكم ابن عفان أ من عدله أن ينزع عنا ابن أبي وقاص الهين اللين السهل القريب و يبعث بدله أخاه الوليد الأحمق الماجن الفاجر قديما و حديثا و استعظم الناس مقدمه و عزل سعد به و قالوا أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمة محمد ص و هذا تحقيق ما ذكرناه من أن حاله كانت مشهورة قبل الولاية لا ريب فيها عند أحد فكيف [ 18 ] يقال إنه كان مستورا حتى ظهر منه ما ظهر و في الوليد نزل قوله تعالى أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ فالمؤمن هاهنا أمير المؤمنين ع و الفاسق الوليد على ما ذكره أهل التأويل و فيه نزل قوله تعالى يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ و السبب في ذلك أنه كذب على بني المصطلق عند رسول الله ص و ادعى أنهم منعوه الصدقة و لو قصصنا مخازيه المتقدمة و مساويه لطال بها الشرح . و أما شربه الخمر بالكوفة و سكره حتى دخل عليه [ من دخل ] و أخذ خاتمه من إصبعه و هو لا يعلم فظاهر و قد سارت به الركبان و كذلك كلامه في الصلاة و التفاته إلى من يقتدي به فيها و هو سكران و قوله لهم أ أزيدكم فقالوا لا قد قضينا صلواتنا حتى قال الحطيئة في ذلك .
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه [ 19 ]
نادى و قد نفدت صلاتهم و قال فيه أيضا
تكلم في الصلاة و زاد فيها و أما قوله إنه جلده الحد و عزله فبعد أي شيء كان ذلك و لم يعزله إلا بعد أن دافع و مانع و احتج عنه و ناضل و لو لم يقهره أمير المؤمنين ع على رأيه لما عزله و لا أمكن من جلده و قد روى الواقدي أن عثمان لما جاءه الشهود يشهدون على الوليد بشرب الخمر أوعدهم و تهددهم . قال الواقدي و يقال إنه ضرب بعض الشهود أيضا أسواطا فأتوا أمير المؤمنين ع فشكوا إليه فأتى عثمان فقال عطلت الحدود و ضربت قوما شهدوا على أخيك فقلبت الحكم و قد قال لك عمر لا تحمل بني أمية و آل أبي معيط على رقاب الناس قال فما ترى قال أرى أن تعزله و لا توليه شيئا من أمور المسلمين و أن تسأل عن الشهود فإن لم يكونوا أهل ظنة و لا عداوة أقمت على صاحبك الحد و تكلم في مثل ذلك طلحة و الزبير و عائشة و قالوا أقوالا شديدة و أخذته الألسن من كل جانب فحينئذ عزله و مكن من إقامة الحد عليه . [ 20 ] و قد روى الواقدي أن الشهود لما شهدوا عليه في وجهه و أراد عثمان أن يحده ألبسه جبة خز و أدخله بيتا فجعل إذا بعث إليه رجلا من قريش ليضربه قال له الوليد أنشدك الله أن تقطع رحمي و تغضب أمير المؤمنين فلما رأى علي ع ذلك أخذ السوط و دخل عليه فجلده به فأي عذر لعثمان في عزله و جلده بعد هذه الممانعة الطويلة و المدافعة الشديدة . و قصة الوليد مع الساحر الذي كان يلعب بين يديه و يغر الناس بمكره و خديعته و أن جندب بن عبد الله الأزدي امتعض من ذلك و دخل عليه فقتله و قال له أحي نفسك إن كنت صادقا و أن الوليد أراد أن يقتل جندبا بالساحر حتى أنكر الأزد ذلك عليه فحبسه و طال حبسه حتى هرب من السجن معروفة مشهورة . فإن قيل فقد ولى رسول الله ص الوليد بن عقبة هذا صدقة بني المصطلق و ولاه عمر صدقة تغلب فكيف تدعون أن حاله في أنه لا يصلح للولاية ظاهرة . قلنا لا جرم إنه غر رسول الله ص و كذب على القوم حتى نزلت فيه الآية التي قدمنا ذكرها فعزله و ليس خطب ولاية الصدقة مثل خطب ولاية الكوفة . فأما عمر فإنه لما بلغه قوله
إذا ما شددت الرأس مني بمشوذ عزله . و أما عزل أمير المؤمنين ع بعض أمرائه لما ظهر من الحدث كالقعقاع بن شور و غيره و كذلك عزل عمر قدامة بن مظعون لما شهد عليه بشرب الخمر و جلده له فإنه لا يشبه ما تقدم لأن كل واحد ممن ذكرناه لم يول إلا من هو حسن الظاهر عنده و عند الناس غير معروف باللعب و لا مشهور بالفساد ثم لما ظهر منه ما ظهر [ 21 ] لم يحام عنه و لا كذب الشهود عليه و كابرهم بل عزله مختارا غير مضطر و كل هذا لم يجر في أمراء عثمان و قد بينا كيف كان عزل الوليد و إقامة الحد عليه . فأما أبو موسى فإن أمير المؤمنين ع لم يوله الحكم مختارا لكنه غلب على رأيه و قهر على أمره و لا رأى لمقهور . فأما قوله إن ولاية الأقارب كولاية الأباعد بل الأقارب أولى من حيث كان التمكن من عزلهم أشد و ذكر تولية أمير المؤمنين ع أولاد العباس رحمه الله تعالى و غيرهم فليس بشيء لأن عثمان لم ينقم عليه تولية الأقارب من حيث كانوا أقارب بل من حيث كانوا أهل بيت الظنة و التهمة و لهذا حذره عمر و أشعر بأنه يحملهم على رقاب الناس و أمير المؤمنين ع لم يول من أقاربه متهما و لا ظنينا و حين أحس من ابن العباس ببعض الريبة لم يمهله و لا احتمله و كاتبه بما هو شائع ظاهر و لو لم يجب على عثمان أن يعدل عن ولاية أقاربه إلا من حيث جعل عمر ذلك سبب عدوله عن النص عليه و شرط عليه يوم الشورى ألا يحمل أقاربه على رقاب الناس و لا يؤثرهم لمكان القرابة بما لا يؤثر به غيرهم لكان صارفا قويا فضلا عن أن ينضاف إلى ذلك ما انضاف من خصالهم الذميمة و طرائقهم القبيحة . فأما سعيد بن أبي العاص فإنه قال في الكوفة إنما السواد بستان لقريش تأخذ منه ما شاءت و تترك حتى قالوا له أ تجعل ما أفاء الله علينا بستانا لك و لقومك و نابذوه و أفضى الأمر إلى تسييره من سير عن الكوفة و القصة مشهورة ثم انتهى الأمر إلى منع أهل الكوفة سعيدا من دخولها و تكلموا فيه و فيه عثمان كلاما ظاهرا حتى [ 22 ] كادوا يخلعون عثمان فاضطر حينئذ إلى إجابتهم إلى ولاية أبي موسى فلم يصرف سعيدا مختارا بل ما صرفه جملة و إنما صرفه أهل الكوفة عنهم . فأما قوله إنه أنكر الكتاب المتضمن لقتل محمد بن أبي بكر و أصحابه و حلف على أن الكتاب ليس بكتابه و لا الغلام غلامه و لا الراحلة راحلته و أن أمير المؤمنين ع قبل عذره فأول ما فيه أنه حكى القصة بخلاف ما جرت عليه لأن جميع من يروي هذه القصة ذكر أنه اعترف بالخاتم و الغلام و الراحلة و إنما أنكر أن يكون أمر بالكتابة لأنه روي أن القوم لما ظفروا بالكتاب قدموا المدينة فجمعوا أمير المؤمنين ع و طلحة و الزبير و سعدا و جماعة الأصحاب ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم و أخبروهم بقصة الغلام فدخلوا على عثمان و الكتاب مع أمير المؤمنين فقال له أ هذا الغلام غلامك قال نعم قال و البعير بعيرك قال نعم قال أ فأنت كتبت هذا الكتاب قال لا و حلف بالله أنه ما كتب الكتاب و لا أمر به فقال له فالخاتم خاتمك قال نعم قال فكيف يخرج غلامك على بعيرك بكتاب عليه خاتمك و لا تعلم به . و في رواية أخرى أنه لما واقفه عليه قال عثمان أما الخط فخط كاتبي و أما الخاتم فعلى خاتمي قال فمن تتهم قال أتهمك و أتهم كاتبي فخرج أمير المؤمنين ع مغضبا و هو يقول بل بأمرك و لزم داره و بعد عن توسط أمره حتى جرى عليه ما جرى . و أعجب الأمور قوله لأمير المؤمنين ع إني أتهمك و تظاهره بذلك و تلقيه إياه في وجهه بهذا القول مع بعده من التهمة و الظنة في كل شيء و في أمره خاصة فإن القوم في الدفعة الأولى أرادوا أن يعجلوا له ما أخبروه حتى قام أمير المؤمنين ع بأمره و توسطه و أصلحه و أشار عليه بأن يقاربهم و يعينهم حتى انصرفوا عنه و هذا [ 23 ] فعل النصيح المشفق الحدب المتحنن و لو كان ع و حوشي من ذلك متهما عليه لما كان للتهمة عليه مجال في أمر الكتاب خاصة لأن الكتاب بخط عدوه مروان و في يد غلام عثمان و محمول على بعيره و مختوم بخاتمه فأي ظن تعلق بأمير المؤمنين ع في هذا المكان لو لا العداوة و قلة الشكر للنعمة . و لقد قال له المصريون لما جحد أن يكون الكتاب كتابه شيئا لا زيادة عليه في باب الحجة لأنهم قالوا له إذا كنت ما كتبت و لا أمرت به فأنت ضعيف من حيث تم عليك أن يكتب كاتبك بما تختمه بخاتمك و ينفذه بيد غلامك و على بعيرك بغير أمرك و من تم عليه ذلك لا يصلح أن يكون واليا على أمور المسلمين فاختلع عن الخلافة على كل حال . قال و لقد كان يجب على صاحب المغني أن يستحيي من قوله إن أمير المؤمنين ع قبل عذره و كيف يقبل عذر من يتهمه و يستغشه و هو له ناصح و ما قاله أمير المؤمنين ع بعد سماع هذا القول منه معروف . و قوله إن الكتاب يجوز فيه التزوير ليس بشيء لأنه لا يجوز التزوير في الكتاب و الغلام و البعير و هذه الأمور إذا انضاف بعضها إلى بعض بعد فيها التزوير و قد كان يجب على كل حال أن يبحث عن القصة و عمن زور الكتاب و أنفذ الرسول و لا ينام عن ذلك حتى يعرف من أين دهي و كيف تمت الحيلة عليه فيحترز من مثلها و لا يغضي عن ذلك إغضاء ساتر له خائف من بحثه و كشفه . فأما قوله إنه و إن غلب على الظن أن مروان كتب الكتاب فإن الحكم بالظن لا يجوز و تسليمه إلى القوم على ما سألوه إياه ظلم لأن الحد و الأدب إذا وجب عليه فالإمام يقيمه دونهم فتعلل بما لا يجدي لأنا لا نعمل إلا على قوله في أنه لم يعلم أن [ 24 ] مروان هو الذي كتب الكتاب و إنما غلب على ظنه أ ما كان يستحق مروان بهذا الظن بعض التعنيف و الزجر و التهديد أ و ما كان يجب مع وقوع التهمة عليه و قوة الأمارات في أنه جالب الفتنة و سبب الفرقة أن يبعده عنه و يطرده من داره و يسلبه ما كان يخصه به من إكرامه و ما في هذه الأمور أظهر من أن ينبه له . فأما قوله إن الأمر بالقتل لا يوجب قودا و لا دية سيما قبل وقوع القتل المأمور به فهب أن ذلك على ما قال أ ما أوجب الله تعالى على الأمر بقتل المسلمين تأديبا و لا تعزيرا و لا طردا و لا إبعادا . و قوله لم يثبت ذلك قد مضى ما فيه و بين أنه لم يستعمل فيه ما يجب استعماله من البحث و الكشف و تهديد المتهم و طرده و إبعاده و التبرؤ من التهمة بما يتبرأ به من مثلها . فأما قوله إن قتله ظلم و كذلك حبسه في الدار و منعه من الماء و إنه لو استحق القتل أو الخلع لا يحل أن يمنع الطعام و الشراب و قوله إن من لم يدفع عن ذلك من الصحابة يجب أن يكون مخطئا و قوله إن قتله لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام من الناس فباطل لأن الذين قتلوه غير منكر أن يكونوا تعمدوا قتله و إنما طالبوه بأن يخلع نفسه لما ظهر لهم من أحداثه و يعتزل عن الأمر اعتزالا يتمكنون معه من إقامة غيره فلج و صمم على الامتناع و أقام على أمر واحد فقصد القوم بحصره أن يلجئوه إلى خلع نفسه فاعتصم بداره و اجتمع إليه نفر من أوباش بني أمية يدفعون عنه و يرمون من دنا إلى الدار فانتهى الأمر إلى القتال بتدريج ثم إلى القتل و لم يكن القتال و لا القتل مقصودين في الأصل و إنما أفضى الأمر إليهما على ترتيب و جرى ذلك مجرى [ 25 ] ظالم غلب إنسانا على رحله أو متاعه فالواجب على المغلوب أن يمانعه و يدافعه ليخلص ماله من يده و لا يقصد إلى إتلافه و لا قتله فإن أفضى الأمر إلى ذلك بلا قصد كان معذورا و إنما خاف القوم في التأني به و الصبر عليه إلى أن يخلع نفسه من كتبه التي طارت في الآفاق يستنصر عليهم و يستقدم الجيوش إليهم و لم يأمنوا أن يرد بعض من يدفع عنه فيؤدي ذلك إلى الفتنة الكبرى و البلية العظمى . و أما منع الماء و الطعام فما فعل ذلك إلا تضييقا عليه ليخرج و يحوج إلى الخلع الواجب عليه و قد يستعمل في الشريعة مثل ذلك فيمن لجأ إلى الحرم من ذوي الجنايات و تعذر إقامة الحد عليه لمكان الحرم على أن أمير المؤمنين ع قد أنكر منع الماء و الطعام و أنفذ من مكن من حمل ذلك لأنه قد كان في الدار من الحرم و النسوان و الصبيان من لا يحل منعه من الطعام و الشراب و لو كان حكم المطالبة بالخلع و التجمع عليه و التضافر فيه حكم منع الطعام و الشراب في القبح و المنكر لأنكره أمير المؤمنين ع و منع منه كما منع من غيره فقد روي عنه ع أنه لما بلغه أن القوم قد منعوا الدار من الماء قال لا أرى ذلك إن في الدار صبيانا و عيالا لا أرى أن يقتل هؤلاء عطشا بجرم عثمان فصرح بالمعنى الذي ذكرناه و معلوم أن أمير المؤمنين ع ما أنكر المطالبة بالخلع بل كان مساعدا على ذلك و مشاورا فيه . فأما قوله إن قتل الظالم إنما يحل على سبيل الدفع فقد بينا أنه لا ينكر أن يكون قتله وقع على ذلك الوجه لأنه في تمسكه بالولاية عليهم و هو لا يستحقها في حكم الظالم لهم فمدافعته واجبة . [ 26 ] و أما قصة الكتاب الموجود فلم يحكها على الوجه و قد شرحنا نحن الرواية الواردة بها . و أما قوله إنه قال إن كنت أخطأت أو تعمدت فإني تائب مستغفر فقد أجابه القوم عن هذا و قالوا هكذا قلت في المرة الأولى و خطبت على المنبر بالتوبة و الاستغفار ثم وجدنا كتابك بما يقتضي الإصرار على أقبح ما عتبنا منه فكيف نثق بتوبتك و استغفارك . فأما قوله إن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه فقد بينا أنه لم يكن على سبيل الغيلة و أنه لا يمتنع أن يكون إنما وقع على سبيل المدافعة . فأما ادعاؤه أنه منع من نصرته و أقسم على عبيده بترك القتال فقد كان ذلك لعمري في ابتداء الأمر ظنا منه أن الأمر ينصلح و القوم يرجعون عما هموا به فلما اشتد الأمر و وقع اليأس من الرجوع و النزوع لم يمنع أحدا من نصرته و المحاربة عنه و كيف يمنع من ذلك و قد بعث إلى أمير المؤمنين ع يستنصره و يستصرخه . و الذي يدل على أنه لم يمنع في الابتداء من محاربتهم إلا للوجه الذي ذكرناه دون غيره أنه لا خلاف بين أهل الرواية غب عن نصرة الحاضر من يستدعي نصرة الغائب . فأما قوله إن أميفي أن كتبه تفرقت في الآفاق يستنصر و يستدعي الجيوش فكيف يرر المؤمنين ع أراد أن يأتيه حتى منعه ابنه محمد فقول بعيد مما جاءت به الرواية جدا لأنه لا إشكال في أن أمير المؤمنين ع لما واجهه عثمان بأنه يتهمه و يستغشه انصرف مغضبا عامدا على أنه لا يأتيه أبدا قائلا فيه ما يستحقه من الأقوال . [ 27 ] فأما قوله في جواب سؤال من قال إنهم اعتقدوا فيه أنه من المفسدين في الأرض و أن آية المحاربة تتناوله و أنه قد كان يجب أن يتولى الإمام ذلك الفعل بنفسه لأن ذلك يجري مجرى الحد فطريف لأن الإمام يتولى ما يجري هذا المجرى إذا كان منصوبا ثابتا و لم يكن على مذهب القوم هناك إمام يجوز أن يتولى ما يجري مجرى الحدود و متى لم يكن إمام يقوم بالدفع عن الدين و الذب عن الأمة جاز أن تتولى الأمة ذلك بنفوسها . قال و ما رأيت أعجب من ادعاء مخالفينا أن أصحاب الرسول ص كانوا كارهين لما جرى على عثمان و أنهم كانوا يعتقدونه منكرا و ظلما و هذا يجري عند من تأمله مجرى دفع الضرورات قبل النظر في الأخبار و سماع ما ورد من شرح هذه القصة لأنه معلوم أن ما يكرهه جميع الصحابة أو أكثرهم في دار عزهم و بحيث ينفذ أمرهم و نهيهم لا يجوز أن يتم و معلوم أن نفرا من أهل مصر لا يجوز أن يقدموا المدينة فيغلبوا جميع المسلمين على آرائهم و يفعلوا بإمامهم ما يكرهونه بمرأى منهم و مسمع و هذا معلوم بطلانه بالبداهة و الضرورات قبل تصفح الأخبار و تأملها و قد روى الواقدي عن ابن أبي الزناد عن أبي جعفر القارئ مولى بني مخزوم قال كان المصريون الذين حصروا عثمان ستمائة عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي و كنانة بن بشر الكندي و عمرو بن الحمق الخزاعي و الذين قدموا المدينة من الكوفة مائتين عليهم مالك الأشتر النخعي و الذين قدموا من البصرة مائة رجل رئيسهم حكيم بن جبلة العبدي و كان أصحاب النبي ص الذين خذلوه لا يرون أن الأمر يبلغ به القتل و لعمري لو قام بعضهم فحثا التراب في وجوه أولئك لانصرفوا و هذه الرواية تضمنت من عدد القوم الوافدين في هذا الباب أكثر مما تضمنه غيرها . و روى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال قلت له [ 28 ] كيف لم يمنع أصحاب رسول الله ص عن عثمان فقال إنما قتله أصحاب رسول الله ص . و روي عن أبي سعيد الخدري أنه سئل عن مقتل عثمان هل شهده أحد من أصحاب رسول الله ص فقال نعم شهده ثمانمائة . و كيف يقال إن القوم كانوا كارهين و هؤلاء المصريون كانوا يغدون إلى كل واحد منهم و يروحون و يشاورونه فيما يصنعونه و هذا عبد الرحمن بن عوف و هو عاقد الأمر لعثمان و جالبه إليه و مصيره في يده يقول على ما رواه الواقدي و قد ذكر له عثمان في مرضه الذي مات فيه عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه فبلغ ذلك عثمان فبعث إلى بئر كان عبد الرحمن يسقي منها نعمه فمنع منها و وصى عبد الرحمن ألا يصلي عليه عثمان فصلى عليه الزبير أو سعد بن أبي وقاص و قد كان حلف لما تتابعت أحداث عثمان ألا يكلمه أبدا . و روى الواقدي قال لما توفي أبو ذر بالربذة تذاكر أمير المؤمنين ع و عبد الرحمن فعل عثمان فقال أمير المؤمنين ع له هذا عملك فقال عبد الرحمن فإذا شئت فخذ سيفك و آخذ سيفي إنه خالف ما أعطاني . فأما محمد بن مسلمة فإنه أرسل إليه عثمان يقول له عند قدوم المصريين في الدفعة الثانية اردد عني فقال لا و الله لا أكذب الله في سنة مرتين و إنما عنى بذلك أنه كان أحد من كلم المصريين في الدفعة الأولى و ضمن لهم عن عثمان الرضا . و في رواية الواقدي أن محمد بن مسلمة كان يموت و عثمان محصور فيقال له عثمان مقتول فيقول هو قتل نفسه . [ 29 ] فأما كلام أمير المؤمنين ع و طلحة و الزبير و عائشة و جميع الصحابة واحدا واحدا فلو تعاطينا ذكره لطال به الشرح و من أراد أن يقف على أقوالهم مفصلة و ما صرحوا به من خلعه و الإجلاب عليه فعليه بكتاب الواقدي فقد ذكر هو و غيره من ذلك ما لا زيادة عليه . الطعن الثاني كونه رد الحكم بن أبي العاص إلى المدينة و قد كان رسول الله ص طرده و امتنع أبو بكر من رده فصار بذلك مخالفا للسنة و لسيرة من تقدمه مدعيا على رسول الله ص عاملا بدعواه من غير بينة . قال قاضي القضاة رحمه الله و جوابنا عن ذلك أن المروي في الأخبار أنه لما عوتب في ذلك ذكر أنه استأذن رسول الله ص فيه و إنما لم يقبل أبو بكر و عمر قوله لأنه شاهد واحد و كذلك روي عنهما فكأنهما جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تختص فلم يقبلا فيه خبر الواحد و أجرياه مجرى الشهادة فلما صار الأمر إليه حكم بعلمه لأن للحاكم أن يحكم بعلمه في هذا الباب و في غيره عند شيخينا و لا يفصلان بين حد و حق و لا بين أن يكون العلم قبل الولاية أو حال الولاية و يقولان إنه أقوى من البينة و الإقرار . و قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى إنه لا وجه يقطع به على كذب روايته في إذن [ 30 ] النبي ص في رده و لا بد من تجويز كونه صادقا و في تجويز ذلك كونه معذورا . فإن قيل الحاكم إنما يحكم بعلمه مع زوال التهمة و قد كانت التهمة في رد الحكم قوية لقرابته . قيل الواجب على غيره ألا يتهمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه لأنه قد نصب منصبا يقتضي زوال التهمة عنه و حمل أفعاله على الصحة و متى طرقنا عليه التهمة أدى إلى بطلان كثير من الأحكام و قد قال الشيخ أبو الحسين الخياط رحمه الله تعالى إنه لو لم يكن في رده إذن من رسول الله ص لجاز أن يكون طريقه الاجتهاد لأن النفي إذا كان صلاحا في الحال لا يمتنع أن يتغير حكمه باختلاف الأوقات و تغير حال المنفي و إذا كان لأبي بكر أن يسترد عمر من جيش أسامة للحاجة إليه و إن كان قد أمر رسول الله ص بنفوذه من حيث تغيرت الحال فغير ممتنع مثله في الحكم . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى على هذا فقال أما دعواه أن عثمان ادعى أن رسول الله ص أذن في رد الحكم فشيء لم يسمع إلا من قاضي القضاة و لا يدرى من أين نقله و لا في أي كتاب وجده و الذي رواه الناس كلهم خلاف ذلك روى الواقدي من طرق مختلفة و غيره أن الحكم بن أبي العاص لما قدم المدينة بعد الفتح أخرجه النبي ص إلى الطائف و قال لا تساكني في بلد أبدا فجاءه عثمان فكلمه فأبى ثم كان من أبي بكر مثل ذلك ثم كان من عمر مثل ذلك فلما قام عثمان أدخله و وصله و أكرمه فمشى في ذلك علي و الزبير و طلحة و سعد و عبد الرحمن بن عوف [ 31 ] و عمار بن ياسر حتى دخلوا على عثمان فقالوا له إنك قد أدخلت هؤلاء القوم يعنون الحكم و من معه و قد كان النبي ص أخرجهم و إنا نذكرك الله و الإسلام و معادك فإن لك معادا و منقلبا و قد أبت ذلك الولاة قبلك و لم يطمع أحد أن يكلمها فيهم و هذا شيء نخاف الله فيه عليك فقال عثمان إن قرابتهم مني ما تعلمون و قد كان رسول الله ص حيث كلمته أطعمني في أن يأذن لهم و إنما أخرجهم لكلمة بلغته عن الحكم و لم يضركم مكانهم شيئا و في الناس من هو شر منهم فقال علي ع لا أجد شرا منه و لا منهم ثم قال هل تعلم عمر يقول و الله ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس و الله إن فعل ليقتلنه فقال عثمان ما كان منكم أحد ليكون بينه و بينه من القرابة ما بيني و بينه و ينال من المقدرة ما نلت إلا قد كان سيدخله و في الناس من هو شر منه قال فغضب علي ع و قال و الله لتأتينا بشر من هذا إن سلمت و سترى يا عثمان غب ما تفعل ثم خرجوا من عنده . و هذا كما ترى خلاف ما ادعاه صاحب المغني لأن الرجل لما احتفل ادعى أن رسول الله ص كان أطمعه في رده ثم صرح بأن رعايته فيه القرابة هي الموجبة لرده و مخالفة الرسول ع و قد روي من طرق مختلفة أن عثمان لما كلم أبا بكر و عمر في رد الحكم أغلظا له و زبراه و قال له عمر يخرجه رسول الله ص و تأمرني أن أدخله و الله لو أدخلته لم آمن أن يقول قائل غير عهد رسول الله ص و الله لأن أشق باثنتين كما تشق الأبلمة أحب إلى من أن أخالف لرسول الله أمرا و إياك يا ابن عفان أن تعاودني فيه بعد اليوم و ما رأينا [ 32 ] عثمان قال في جواب هذا التعنيف و التوبيخ من أبي بكر و عمر إن عندي عهدا من رسول الله ص فيه لا أستحق معه عتابا و لا تهجينا و كيف تطيب نفس مسلم موقر لرسول الله ص معظم له أن يأتي إلى عدو رسول الله ص مصرح بعداوته و الوقيعة فيه حتى بلغ به الأمر إلى أن كان يحكى مشيته طرده رسول الله و أبعده و لعنه حتى صار مشهورا بأنه طريد رسول الله ص فيكرمه و يرده إلى حيث أخرج منه و يصله بالمال العظيم إما من مال المسلمين أو من ماله إن هذا لعظيم كبير قبل التصفح و التأمل و التعلل بالتأويل الباطل . فأما قول صاحب المغني إن أبا بكر و عمر لم يقبلا قوله لأنه شاهد واحد و جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تخص فأول ما فيه أنه لم يشهد عندهما بشيء واحد في باب الحكم على ما رواه جميع الناس ثم ليس هذا من باب الذي يحتاج فيه إلى الشاهدين بل هو بمنزلة كل ما يقبل فيه أخبار الآحاد و كيف يجوز أن يجري أبو بكر و عمر مجرى الحقوق ما ليس منها و قوله لا بد من تجويز كونه صادقا في روايته لأن القطع على كذب روايته لا سبيل إليه ليس بشيء لأنا قد بينا أنه لم يرو عن الرسول ص إذنا إنما ادعى أنه أطمعه في ذلك و إذا جوزنا كونه صادقا في هذه الرواية بل قطعنا على صدقه لم يكن معذورا . فأما قوله الواجب على غيره ألا يتهمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه لانتصابه منصبا يزيل التهمة فأول ما فيه أن الحاكم لا يجوز أن يحكم بعلمه مع التهمة و التهمة قد تكون لها أمارات و علامات فما وقع منها عن أمارات و أسباب تتهم في العادة كان مؤثرا و ما لم يكن كذلك فلا تأثير له و الحكم هو عم عثمان و قريبه و نسيبه و من [ 33 ] قد تكلم في رده مرة بعد أخرى و لوال بعد وال و هذه كلها أسباب التهمة فقد كان يجب أن يتجنب الحكم بعلمه في هذا الباب خاصة لتطرق التهمة إليه . فأما ما حكاه عن أبي الحسين الخياط من أن الرسول ص لو لم يأذن في رده لجاز أن يرده إذا أداه اجتهاده إلى ذلك لأن الأحوال قد تتغير فظاهر البطلان لأن الرسول ع إذا حظر شيئا أو أباحه لم يكن لأحد أن يجتهد في إباحة المحظور أو حظر المباح و من يجوز الاجتهاد في الشريعة لا يقدم على مثل هذا لأنه إنما يجوز عندهم فيما لا نص فيه و لو سوغنا الاجتهاد في مخالفة ما تناوله النص لم يؤمن أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى تحليل الخمر و إسقاط الصلاة بأن تتغير الحال و هذا هدم للشريعة فأما الاستشهاد باسترداد عمر من جيش أسامة فالكلام في الأمرين واحد . الطعن الثالث أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة التي هي عدة المسلمين نحو ما روي أنه دفع إلى أربعة أنفس من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار و أعطى مروان مائة ألف عند فتح إفريقية و يروى خمس إفريقية و غير ذلك و هذا بخلاف سيرة من تقدمه في القسمة على الناس بقدر الاستحقاق و إيثار الأباعد على الأقارب . قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك أن من الظاهر المشهور أن عثمان كان عظيم اليسار كثير المال فلا يمتنع أن يكون إنما أعطى أهل بيته من ماله و إذا احتمل ذلك وجب حمله على الصحة . و قد قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى أن الذي روي من دفعه إلى ثلاثة نفر من قريش زوجهم بناته إلى كل واحد منهم مائة ألف دينار إنما هو من ماله و لا رواية [ 34 ] تصح أنه أعطاهم ذلك من بيت المال و لو صح ذلك لكان لا يمتنع أن يكون أعطاهم من بيت المال ليرد عوضه من ماله لأن للإمام عند الحاجة أن يفعل ذلك كما له أن يقرض غيره . و قال شيخنا أبو علي أيضا أن ما روي من دفعه خمس إفريقية لما فتحت إلى مروان ليس بمحفوظ و لا منقول على وجه يجب قبوله و إنما يرويه من يقصد التشنيع و قد قال الشيخ أبو الحسين الخياط أن ابن أبي سرح لما غزا البحر و معه مروان في الجيش ففتح الله عليهم و غنموا غنيمة عظيمة اشترى مروان من ابن أبي سرح الخمس بمائة ألف و أعطاه أكثرها ثم قدم على عثمان بشيرا بالفتح و قد كانت قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب له ما بقي عليه من المال و للإمام فعل مثل ذلك ترغيبا في مثل هذه الأمور . قال و هذا الصنع كان منه في السنة الأولى من إمامته و لم يبرأ أحد منه فيها فلا وجه للتعلق بذلك . و ذكر أبو الحسين الخياط أيضا فيما أعطاه أقاربه أنه وصلهم لحاجتهم فلا يمتنع مثله في الإمام إذا رآه صلاحا و ذكر في إقطاعه القطائع لبني أمية أن الأئمة قد تحصل في أيديهم الضياع لا مالك لها و يعلمون أنها لا بد فيها ممن يقوم بإصلاحها و عمارتها و يؤدى عنها ما يجب من الحق فله أن يصرف من ذلك إلى من يقوم به و له أيضا أن يهد بعضها على بعض بحسب ما يعلم من الصلاح و التألف و طريق ذلك الاجتهاد . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما قوله يجوز أن يكون إنما أعطاهم من ماله فالرواية بخلاف ذلك و قد صرح الرجل بأنه كان يعطي من بيت المال [ 35 ] صلة لرحمه و لما عوتب على ذلك لم يعتذر عنه بهذا الضرب من العذر و لا قال إن هذه العطايا من مالي فلا اعتراض لأحد فيها روى الواقدي بإسناده عن المسور بن عتبة قال سمعت عثمان يقول إن أبا بكر و عمر كانا يتأولان في هذا المال ظلف أنفسهما و ذوي أرحامهما و إني تأولت فيه صلة رحمي . و روي عنه أيضا أنه كان بحضرته زياد بن عبيد مولى الحارث بن كلدة الثقفي و قد بعث إليه أبو موسى بمال عظيم من البصرة فجعل عثمان يقسمه بين ولده و أهله بالصحاف فبكى زياد فقال لا تبك فإن عمر كان يمنع أهله و ذوي قرابته ابتغاء وجه الله و أنا أعطي أهلي و ولدي و قرابتي ابتغاء وجه الله . و قد روي هذا المعنى عنه من عدة طرق بألفاظ مختلفة . و روى الواقدي أيضا بإسناده قال قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص و روى أيضا أنه ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلاثمائة ألف فوهبها له حين أتاه بها و روى أبو مخنف و الواقدي أن الناس أنكروا على عثمان إعطاء سعيد بن العاص مائة ألف و كلمه علي و الزبير و طلحة و سعد و عبد الرحمن في ذلك فقال إن له قرابة و رحما قالوا فما كان لأبي بكر و عمر قرابة و ذوو رحم فقال إن أبا بكر و عمر كان يحتسبان في منع قرابتهما و أنا أحتسب في إعطاء قرابتي قالوا فهديهما و الله أحب إلينا من هديك . و روى أبو مخنف أن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية قدم على عثمان من مكة و معه ناس فأمر لعبد الله بثلاثمائة ألف و لكل واحد من القوم بمائة ألف [ 36 ] و صك بذلك على عبد الله بن الأرقم و كان خازن بيت المال فاستكثره و رد الصك به و يقال إنه سأل عثمان أن يكتب عليه بذلك كتابا فأبى و امتنع ابن الأرقم أن يدفع المال إلى القوم فقال له عثمان إنما أنت خازن لنا فما حملك على ما فعلت فقال ابن الأرقم كنت أراني خازن المسلمين و إنما خازنك غلامك و الله لا إلي لك بيت المال أبدا و جاء بالمفاتيح فعلقها على المنبر و يقال بل ألقاها إلى عثمان فرفعها إلى نائل مولاه . و روى الواقدي أن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يحمل من بيت مال المسلمين إلى عبد الله بن الأرقم في عقيب هذا الفعل ثلاثمائة ألف درهم فلما دخل بها عليه قال له يا أبا محمد إن أمير المؤمنين أرسل إليك يقول إنا قد شغلناك عن التجارة و لك ذوو رحم أهل حاجة ففرق هذا المال فيهم و استعن به على عيالك فقال عبد الله بن الأرقم ما لي إليه حاجة و ما عملت لأن يثيبني عثمان و الله إن كان هذا من بيت مال المسلمين ما بلغ قدر عملي أن أعطى ثلاثمائة ألف و لئن كان من مال عثمان ما أحب أن أرزأه من ماله شيئا و ما في هذه الأمور أوضح من أن يشار إليه و ينبه عليه . فأما قوله و لو صح أنه أعطاهم من بيت المال لجاز أن يكون ذلك على طريق القرض فليس بشيء لأن الروايات أولا تخالف ما ذكره و قد كان يجب لما نقم عليه وجوه الصحابة إعطاء أقاربه من بيت المال أن يقول لهم هذا على سبيل القرض و أنا أرد عوضه و لا يقول ما تقدم ذكره من أنني أصل به رحمي على أنه ليس للإمام أن يقترض من بيت مال المسلمين إلا ما ينصرف في مصلحة لهم مهمة يعود عليهم نفعها أو في سد خلة و فاقة لا يتمكنون من القيام بالأمر معها فأما أن يقرض المال ليتسع به [ 37 ] و يمرح فيه مترفي بني أمية و فساقهم فلا أحد يجيز ذلك . فأما قوله حاكيا عن أبي علي إن دفعه خمس إفريقية إلى مروان ليس بمحفوظ و لا منقول فباطل لأن العلم بذلك يجري مجرى العلم بسائر ما تقدم و من قرأ الأخبار علم ذلك على وجه لا يعترض فيه شك كما يعلم نظائره . روى الواقدي عن أسامة بن زيد عن نافع مولى الزبير عن عبد الله بن الزبير قال أغزانا عثمان سنة سبع و عشرين إفريقية فأصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة فاعطى عثمان مروان بن الحكم تلك الغنائم و هذا كما ترى يتضمن الزيادة على إعطاء الخمس و يتجاوزه إلى إعطاء الأصل . و روى الواقدي عن عبد الله بن جعفر عن أم بكر بنت المسور قالت لما بنى مروان داره بالمدينة دعا الناس إلى طعامه و كان المسور ممن دعاه فقال مروان و هو يحدثهم و الله ما أنفقت في داري هذه من مال المسلمين درهما فما فوقه فقال المسور لو أكلت طعامك و سكت كان خيرا لك لقد غزوت معنا إفريقية و إنك لأقلنا مالا و رقيقا و أعوانا و أخفنا ثقلا فأعطاك ابن عمك خمس إفريقية و عملت على الصدقات فأخذت أموال المسلمين . و روى الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف أن مروان ابتاع خمس إفريقية بمائتي ألف درهم و مائتي ألف دينار و كلم عثمان فوهبها له فأنكر الناس ذلك على عثمان و هذا بعينه هو الذي اعترف به أبو الحسين الخياط و اعتذر عنه بأن قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب لمروان ثمن ما ابتاعه من الخمس لما جاءه بشيرا بالفتح على سبيل الترغيب و هذا الاعتذار ليس بشيء لأن الذي رويناه من الأخبار في هذا الباب خال من البشارة و إنما يقتضي أنه سأله ترك ذلك عليه فتركه و ابتدأ هو بصلته و لو أتى بشيرا بالفتح كما ادعوا لما جاز أن يترك عليه خمس الغنيمة العائد نفعه على المسلمين [ 38 ] لأن تلك البشارة لا تبلغ إلى أن يستحق البشير بها مائتي ألف درهم و لا اجتهاد في مثل هذا و لا فرق بين من جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى مثله و من جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى دفع أصل الغنيمة إلى البشير بها و من ارتكب ذلك ألزم جواز أن يؤدي الاجتهاد إلى إعطاء هذا البشير جميع أموال المسلمين في الشرق و الغرب . فأما قوله إنه وصل بني عمه لحاجتهم و رأى في ذلك صلاحا فقد بينا أن صلاته لهم كانت أكثر مما تقتضيه الخلة و الحاجة و أنه كان يصل فيهم المياسير ثم الصلاح الذي زعم أنه رآه لا يخلو إما أن يكون عائدا على المسلمين أو على أقاربه فإن كان على المسلمين فمعلوم ضرورة أنه لا صلاح لأحد من المسلمين في إعطاء مروان مائتي ألف دينار و الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم و ابن أسيد ثلاثمائة ألف درهم إلى غير ما ذكرنا بل على المسلمين في ذلك غاية الضرر و إن أراد الصلاح الراجع إلى الأقارب فليس له أن يصلح أمر أقاربه بفساد أمر المسلمين و ينفعهم بما يضر به المسلمين . و أما قوله إن القطائع التي أقطعها بني أمية إنما أقطعهم إياها لمصلحة تعود على المسلمين لأن تلك الضياع كانت خرابا لا عامر لها فسلمها إلى من يعمرها و يؤدي الحق عنه فأول ما فيه أنه لو كان الأمر على ما ذكره و لم تكن هذه القطائع على سبيل الصلة و المعونة لأقاربه لما خفي ذلك على الحاضرين و لكانوا لا يعدون ذلك من مثالبه و لا يواقفونه عليه في جملة ما واقفوه عليه من أحداثه ثم كان يجب لو فعلوا ذلك أن يكون جوابه بخلاف ما روي من جوابه لأنه كان يجب أن يقول لهم و أي منفعة في هذه القطائع عائدة على قرابتي حتى تعدوا ذلك من جملة صلاتي لهم و إيصالي المنافع إليهم و إنما جعلتهم فيها بمنزلة الأكرة الذين ينتفع بهم أكثر من انتفاعهم أنفسهم و ما كان [ 39 ] يجب أن يقول ما تقدمت روايته من أني محتسب في إعطاء قرابتي و أن ذلك على سبيل الصلة لرحمي إلى غير ذلك مما هو خال من المعنى الذي ذكره . الطعن الرابع إنه حمى الحمى عن المسلمين مع أن رسول الله ص جعلهم سواء في الماء و الكلأ . قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك إنه لم يحم الكلأ لنفسه و لا استأثر به لكنه حماه لإبل الصدقة التي منفعتها تعود على المسلمين و قد روي عنه هذا الكلام بعينه و أنه قال إنما فعلت ذلك لإبل الصدقة و قد أطلقته الآن و أنا أستغفر الله و ليس في الاعتذار ما يزيد عن ذلك . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما أولا فالمروي بخلاف ما ذكر لأن الواقدي روى بإسناده قال كان عثمان يحمي الربذة و الشرف و البقيع فكان لا يدخل الحمى بعير له و لا فرس و لا لبني أمية حتى كان آخر الزمان فكان يحمي الشرف لإبله و كانت ألف بعير و لإبل الحكم بن أبي العاص و يحمي الربذة لإبل الصدقة و يحمي البقيع لخيل المسلمين و خيله و خيل بني أمية . قال على أنه لو كان إنما حماه لإبل الصدقة لم يكن بذلك مصيبا لأن الله تعالى و رسوله أباحا الكلأ و جعلاه مشتركا فليس لأحد أن يغير هذه الإباحة و لو كان [ 40 ] في هذا الفعل مصيبا و أنه إنما حماه لمصلحة تعود على المسلمين لما جاز أن يستغفر الله منه و يعتذر لأن الاعتذار إنما يكون من الخطإ دون الصواب . الطعن الخامس إنه أعطى من بيت مال الصدقة المقاتلة و غيرها و ذلك مما لا يحل في الدين قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك أنه إنما جاز له ذلك لعلمه بحاجة المقاتلة و استغناء أهل الصدقة ففعل ذلك على سبيل الإفراض و قد فعل رسول الله ص مثله و للإمام في مثل هذه الأمور أن يفعل ما جرى هذا المجرى لأن عند الحاجة ربما يجوز له أن يقترض من الناس فأن يجوز له أن يتناول من مال في يده ليرد عوضه من المال الآخر أولى . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال إن المال الذي جعل الله تعالى له جهة مخصوصة لا يجوز أن يعدل به عن جهته بالاجتهاد و لو كانت المصلحة في ذلك موقوفة على الحاجة لشرطها الله تعالى في هذا الحكم لأنه سبحانه أعلم بالمصالح و اختلافها منا و لكان لا يجعل لأهل الصدقة منها القسط مطلقا . و أما قوله إن الرسول ص فعل مثله فهي دعوى مجردة من برهان و قد كان يجب أن يروي ما ذكر في ذلك و أما ما ذكره من الاقتراض فأين كان عثمان عن هذا العذر لما ووقف عليه . الطعن السادس أنه ضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر بعض أضلاعه [ 41 ] قال قاضي القضاة قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى لم يثبت عندنا و لا صح عندنا ما يقال من طعن عبد الله عليه و إكفاره له و الذي يصح من ذلك أن عبد الله كره منه جمعه الناس على قراءة زيد بن ثابت و إحراقه المصاحف و ثقل ذلك عليه كما يثقل على الواحد منا تقديم غيره عليه . و قد قيل إن بعض موالي عثمان ضربه لما سمع منه الوقيعة في عثمان و لو صح أنه أمر بضربة لم يكن بأن يكون طعنا في عثمان بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود لأن للإمام تأديب غيره و ليس لغيره الوقيعة فيه إلا بعد البيان و قد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط أن ابن مسعود إنما عابه لعزله إياه و قد روي أن عثمان اعتذر إليه فلم يقبل عذره و لما أحضر إليه عطاءه في مرضه قال ابن مسعود منعتني إياه إذ كان ينفعني و جئتني به عند الموت لا أقبله و أنه وسط أم حبيبة زوج النبي ص ليزيل ما في نفسه فلم يجب و هذا يوجب ذم ابن مسعود إذ لم يقبل الندم و يوجب براءة عثمان من هذا العيب لو صح ما صح ما رووه من ضربه . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال المعلوم المروي خلاف ما ذكره أبو علي و لا يختلف أهل النقل في طعن ابن مسعود على عثمان و قوله فيه أشد الأقوال و أعظمها و العلم بذلك كالعلم بكل ما يدعى فيه الضرورة و قد روى كل من روى السيرة من أصحاب الحديث على اختلاف طرقهم أن ابن مسعود كان يقول ليتني و عثمان برمل عالج يحثو علي و أحثو عليه حتى يموت الأعجز مني و منه . و رووا أنه كان يطعن عليه فيقال له أ لا خرجت عليه ليخرج معك فيقول لأن أزاول جبلا راسيا أحب إلى من أن أزاول ملكا مؤجلا . [ 42 ] و كان يقوم كل يوم جمعة بالكوفة جاهرا معلنا أن أصدق القول كتاب الله و أحسن الهدي هدي محمد و شر الأمور محدثاتها و كل محدث بدعة و كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار و إنما كان يقول ذلك معرضا بعثمان حتى غضب الوليد بن عقبة من استمرار تعريضه و نهاه عن خطبته هذه فأبى أن ينتهي فكتب إلى عثمان فيه فكتب عثمان يستقدمه عليه . و روي أنه لما خرج عبد الله بن مسعود إلى المدينة مزعجا عن الكوفة خرج الناس معه يشيعونه و قالوا له يا أبا عبد الرحمن ارجع فو الله لا نوصله إليك أبدا فإنا لا نأمنه عليك فقال أمر سيكون و لا أحب أن أكون أول من فتحه . و قد روي عنه أيضا من طرق لا تحصى كثرة أنه كان يقول ما يزن عثمان عند الله جناح ذباب و تعاطى ما روي عنه في هذا الباب يطول و هو أظهر من أن يحتاج إلى الاستشهاد عليه و أنه بلغ من إصرار عبد الله على مظاهرته بالعداوة أن قال لما حضره الموت من يتقبل مني وصية أوصيه بها على ما فيها فسكت القوم و عرفوا الذي يريد فأعادها فقال عمار بن ياسر رحمه الله تعالى أنا أقبلها فقال ابن مسعود ألا يصلي علي عثمان قال ذلك لك فيقال إنه لما دفن جاء عثمان منكرا لذلك فقال له قائل أن عمارا ولي الأمر فقال لعمار ما حملك على أن لم تؤذني فقال عهد إلي ألا أوذنك فوقف على قبره و أثنى عليه ثم انصرف و هو يقول رفعتم و الله أيديكم عن خير من بقي فتمثل الزبير بقول الشاعر
لا ألفينك بعد الموت تندبني و لما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه أتاه عثمان عائدا فقال ما تشتكي فقال ذنوبي قال فما تشتهي قال رحمة بي قال أ لا أدعو لك طبيبا قال [ 43 ] الطبيب أمرضني قال أ فلا آمر لك بعطائك قال منعتنيه و أنا محتاج إليه و تعطينيه و أنا مستغن عنه قال يكون لولدك قال رزقهم على الله تعالى قال استغفر لي يا أبا عبد الرحمن قال أسأل الله أن يأخذ لي منك حقي . قال و صاحب المغني قد حكى بعض هذا الخبر في آخر الفصل الذي حكاه من كلامه و قال هذا يوجب ذم ابن مسعود من حيث لم يقبل العذر و هذا منه طريف لأن مذهبه لا يقتضي قبول كل عذر ظاهر و إنما يجب قبول العذر الصادق الذي يغلب في الظن أن الباطن فيه كالظاهر فمن أين لصاحب المغني أن اعتذار عثمان إلى ابن مسعود كان مستوفيا للشرائط التي يجب معها القبول و إذا جاز ما ذكرناه لم يكن على ابن مسعود لوم في الامتناع من قبول عذره . فأما قوله إن عثمان لم يضربه و إنما ضربه بعض مواليه لما سمع وقيعته فيه فالأمر بخلاف ذلك و كل من قرأ الأخبار علم أن عثمان أمر بإخراجه عن المسجد على أعنف الوجوه و بأمره جرى ما جرى عليه و لو لم يكن بأمره و رضاه لوجب أن ينكر على مولاه كسر ضلعه و يعتذر إلى من عاتبه على فعله بابن مسعود بأن يقول إني لم آمر بذلك و لا رضيته من فاعله و قد أنكرت عليه فعله . و في علمنا بأن ذلك لم يكن دليل على ما قلنا و قد روى الواقدي بإسناده و غيره أن ابن مسعود لما استقدم المدينة دخلها ليلة جمعة فلما علم عثمان بدخوله قال أيها الناس إنه قد طرقكم الليلة دويبة من تمشي على طعامه يقيء و يسلح فقال ابن مسعود لست كذلك و لكنني صاحب رسول الله ص يوم بدر و صاحبه يوم أحد و صاحبه يوم بيعة الرضوان و صاحبه يوم الخندق و صاحبه يوم حنين قال و صاحت عائشة يا عثمان أ تقول هذا لصاحب رسول الله ص فقال عثمان اسكتي ثم قال لعبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن عبد العزى بن قصي أخرجه إخراجا عنيفا فأخذه [ 44 ] ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب مسجد فضرب به الأرض فكسر ضلعا من أضلاعه فقال ابن مسعود قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان و في رواية أخرى أن ابن زمعة الذي فعل به ما فعل كان مولى لعثمان أسود مسدما طوالا و في رواية أخرى أن فاعل ذلك يحموم مولى عثمان و في رواية أنه لما احتمله ليخرجه من المسجد ناداه عبد الله أنشدك الله ألا تخرجني من مسجد خليلي ص . قال الراوي فكأني أنظر إلى حموشة ساقي عبد الله بن مسعود و رجلاه تختلفان على عنق مولى عثمان حتى أخرج من المسجد و هو الذي يقول فيه رسول الله ص لساقا ابن أم عبد أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد . و قد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أن عثمان ضرب ابن مسعود أربعين سوطا في دفنه أبا ذر و هذه قصة أخرى و ذلك أن أبا ذر رحمه الله تعالى لما حضرته الوفاة بالربذة و ليس معه إلا امرأته و غلامه عهد إليهما أن غسلاني ثم كفناني ثم ضعاني على قارعة الطريق فأول ركب يمرون بكم قولوا لهم هذا أبو ذر صاحب رسول الله ص فأعينونا على دفنه فلما مات فعلوا ذلك و أقبل ابن مسعود في ركب من العراق معتمرين فلم يرعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق قد كادت الإبل تطؤها فقام إليهم العبد فقال هذا أبو ذر صاحب رسول الله ص فأعينونا على دفنه فانهل ابن مسعود باكيا و قال صدق رسول الله ص قال له تمشي وحدك و تموت وحدك و تبعث وحدك ثم نزل هو و أصحابه فواروه قال فأما قوله إن ذلك ليس بأن يكون طعنا في عثمان بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود فواضح البطلان و إنما كان طعنا في عثمان دون ابن مسعود لأنه لا خلاف [ 45 ] بين الأمة في طهارة ابن مسعود و فضله و إيمانه و مدح رسول الله ص و ثنائه عليه و أنه مات على الجملة المحمودة منه و في جميع هذا خلاف بين المسلمين في عثمان . فأما قوله إن ابن مسعود كره جمع عثمان الناس على قراءة زيد و إحراقه المصاحف فلا شك أن عبد الله كره ذلك كما كرهه جماعة من أصحاب رسول الله ص و تكلموا فيه و قد ذكر الرواة كلام كل واحد منهم في ذلك مفصلا و ما كره عبد الله من ذلك إلا مكروها و هو الذي يقول رسول الله ص في حقه من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد و روي عن ابن عباس رحمه الله تعالى أنه قال قراءة ابن أم عبد هي القراءة الأخيرة إن رسول الله ص كان يعرض عليه القرآن في كل سنة من شهر رمضان فلما كان العام الذي توفي فيه عرض عليه دفعتين فشهد عبد الله ما نسخ منه و ما صح فهي القراءة الأخيرة . و روي عن الأعمش قال قال ابن مسعود لقد أخذت القرآن من في رسول الله ص سبعين سورة و إن زيد بن ثابت لغلام في الكتاب له ذؤابة . فأما حكايته عن أبي الحسين الخياط أن ابن مسعود إنما عاب عثمان لعزله إياه فعبد الله عند كل من عرفه بخلاف هذه الصورة و إنه لم يكن ممن يخرج على عثمان و يطعن في إمامته بأمر يعود إلى منفعة الدنيا و إن كان عزله بما لا شبهة فيه في دين و لا أمانة عيبا لا شك فيه [ 46 ] الطعن السابع أنه جمع الناس على قراءة زيد بن ثابت خاصة و أحرق المصاحف و أبطل ما لا شك أنه نزل من القرآن و أنه مأخوذ عن الرسول ص و لو كان ذلك مما يسوغ لسبق إليه رسول الله ص و لفعله أبو بكر و عمر . قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك أن الوجه في جمع القرآن على قراءة واحدة تحصين القرآن و ضبطه و قطع المنازعة و الاختلاف فيه و قولهم لو كان ذلك واجبا لفعله الرسول ص غير لازم لأن الإمام إذا فعله صار كأن الرسول ص فعله و لأن الأحوال في ذلك تختلف و قد روي أن عمر كان عزم على ذلك فمات دونه و ليس لأحد أن يقول إن إحراقه المصاحف استخفاف بالدين و ذلك لأنه إذا جاز من الرسول ص أن يخرب المسجد الذي بني ضرارا و كفرا فغير ممتنع إحراق المصاحف . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال إن اختلاف الناس في القراءة ليس بموجب لما صنعه لأنهم يروون أن النبي ص قال نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف فهذا الاختلاف عندهم في القرآن مباح مسند عن الرسول ص فكيف يحظر عليهم عثمان من التوسع في الحروف ما هو مباح فلو كان في القراءة الواحدة تحصين القرآن كما ادعى لما أباح النبي ص في الأصل إلا القراءة الواحدة لأنه أعلم بوجوه المصالح من جميع أمته من حيث كان مؤيدا بالوحي موفقا في كل ما يأتي و يذر و ليس له أن يقول حدث من الاختلاف في أيام عثمان ما لم يكن في أيام الرسول ص و لا ما أباحه و ذلك لأن الأمر [ 47 ] لو كان على هذا لوجب أن ينهى عن القراءة الحادثة و الأمر المبتدع و لا يحمله ما أحدث من القراءة على تحريم المتقدم بلا شبهة . و قوله إن الإمام إذا فعل ذلك فكأن الرسول ص فعله تعلل بالباطل و كيف يكون كما ادعى و هذا الاختلاف بعينه قد كان موجودا في أيام الرسول ص فلو كان سبب الانتشار الزيادة في القرآن و في قطعه تحصين له لكان ع بالنهي عن هذا الاختلاف أولى من غيره اللهم إلا أن يقال حدث اختلاف لم يكن فقد قلنا فيه ما كفى . و أما قوله إن عمر قد كان عزم على ذلك فمات دونه فما سمعناه إلا منه و لو فعل ذلك أي فاعل كان لكان منكرا . فأما الاعتذار عن كون إحراق المصاحف لا يكون استخفافا بالدين بحمله إياه على تخريب مسجد الضرار فبين الأمرين بون بعيد لأن البنيان إنما يكون مسجدا و بيتا لله تعالى بنية الباني و قصده و لو لا ذلك لم يكن بعض البنيان بأن يكون مسجدا أولى من بعض و لما كان قصد الباني لذلك الموضع غير القربة و العبادة بل خلافها و ضدها من الفساد و المكيدة لم يكن في الحقيقة مسجدا و إن سمي بذلك مجازا على ظاهر الأمر فهدمه لا حرج فيه و ليس كذلك ما بين الدفتين لأنه كلام الله تعالى الموقر المعظم الذي يجب صيانته عن البذلة و الاستخفاف فأي نسبة بين الأمرين . الطعن الثامن أنه أقدم عمار بن ياسر بالضرب حتى حدث به فتق و لهذا صار أحد من ظاهر المتظلمين من أهل الأمصار على قتله و كان يقول قتلناه كافرا . [ 48 ] قال قاضي القضاة و قد أجاب شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى عن ذلك فقال إن ضرب عمار غير ثابت و لو ثبت أنه ضربه للقول العظيم الذي كان يقوله لم يجب أن يكون طعنا عليه لأن للإمام تأديب من يستحق التأديب و مما يبعد صحة ذلك أن عمارا لا يجوز أن يكفره و لما يقع منه ما يستوجب به الكفر لأن الذي يكفر به الكافر معلوم و لأنه لو كان قد وقع ذلك لكان غيره من الصحابة أولى بذلك و لوجب أن يجتمعوا على خلعه و لوجب أن يكون قتله مباحا لهم بل كان يجب أن يقيموا إماما ليقتله على ما قدمناه و ليس لأحد أن يقول إنما كفره عمار من حيث وثب على الخلافة و لم يكن لها أهلا لأنا قد بينا القول في ذلك و لأنه كان منصوبا لأبي بكر و عمر ما تقدم و قد بينا أن صحة إمامتهما تقتضي صحة إمامة عثمان . و قد روي أن عمارا نازع الحسن بن علي ع في أمر عثمان فقال عمار قتل عثمان كافرا و قال الحسن ع قتل مؤمنا و تعلق بعضهما ببعض فصارا إلى أمير المؤمنين ع فقال ما ذا تريد من ابن أخيك فقال إني قلت كذا و قال كذا فقال له أمير المؤمنين ع أ تكفر برب كان يؤمن به عثمان فسكت عمار و قد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط أن عثمان لما نقم عليه ضربه عمارا احتج لنفسه فقال جاءني سعد و عمار فأرسلا إلي أن ائتنا فإنا نريد أن نذاكرك أشياء فعلتها فأرسلت إليهما أني مشغول فانصرفا فموعدكما يوم كذا فانصرف سعد و أبى عمار أن ينصرف فأعدت الرسول إليه فأبى أن ينصرف فتناوله بغير أمري و و الله ما أمرت به و لا رضيت و ها أنا فليقتص مني . قال و هذا من أنصف قول و أعدله . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما الدفع لضرب عمار فهو [ 49 ] كالإنكار لطلوع الشمس ظهورا و انتشارا و كل من قرأ الأخبار و تصفح السير يعلم من هذا الأمر ما لا تثنيه عنه مكابرة و لا مدافعة و هذا الفعل أعني ضرب عمار لم تختلف الرواة فيه و إنما اختلفوا في سببه فروى عباس بن هشام الكلبي عن أبي مخنف في إسناده أنه كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي و جوهر فأخذ منه عثمان ما حلي به بعض أهله فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك و كلموه فيه بكل كلام شديد حتى أغضبوه فخطب فقال لنأخذن حاجتنا من هذا الفيء و إن رغمت به أنوف أقوام فقال له علي ع إذن تمنع من ذلك و يحال بينك و بينه فقال عمار أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك فقال عثمان أ علي يا ابن ياسر تجترئ خذوه فأخذ و دخل عثمان فدعا به فضربه حتى غشي عليه ثم أخرج فحمل حتى أتي به منزل أم سلمة رضي الله تعالى عنها فلم يصل الظهر و العصر و المغرب فلما أفاق توضأ و صلى و قال الحمد لله ليس هذا أول يوم أوذينا في الله تعالى فقال هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي و كان عمار حليفا لبني مخزوم يا عثمان أما علي فاتقيته و أما نحن فاجترأت علينا و ضربت أخانا حتى أشفيت به على التلف أما و الله لئن مات لأقتلن به رجلا من بني أمية عظيم الشأن فقال عثمان و إنك لهاهنا يا ابن القسرية قال فإنهما قسريتان و كانت أم هشام و جدته قسريتين من بجيلة فشتمه عثمان و أمر به فأخرج فأتي به أم سلمة رضي الله تعالى عنها فإذا هي قد غضبت لعمار و بلغ عائشة رضي الله تعالى عنها ما صنع بعمار فغضبت أيضا و أخرجت شعرا من شعر رسول الله ص و نعلا من نعاله و ثوبا من ثيابه و قالت ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم و هذا شعره و ثوبه و نعله لم يبل بعد . [ 50 ] و روى آخرون أن السبب في ذلك أن عثمان مر بقبر جديد فسأل عنه فقيل عبد الله بن مسعود فغضب على عمار لكتمانه إياه موته إذ كان المتولي للصلاة عليه و القيام بشأنه فعندها وطئ عثمان عمارا حتى أصابه الفتق . و روى آخرون أن المقداد و عمارا و طلحة و الزبير و عدة من أصحاب رسول الله ص كتبوا كتابا عددوا فيه أحداث عثمان و خوفوه به و أعلموه أنهم مواثبوه إن لم يقلع فأخذ عمار الكتاب فأتاه به فقرأ منه صدرا ثم قال له أ علي تقدم من بينهم فقال لأني أنصحهم لك قال كذبت يا ابن سمية فقال أنا و الله ابن سمية و ابن ياسر فأمر عثمان غلمانا له فمدوا بيديه و رجليه ثم ضربه عثمان برجليه و هي في الخفين على مذاكيره فأصابه الفتق و كان ضعيفا كبيرا فغشي عليه . قال فضرب عمار على ما ترى غير مختلف فيه بين الرواة و إنما اختلفوا في سببه و الخبر الذي رواه صاحب المغني و حكاه عن أبي الحسين الخياط ما نعرفه و كتب السيرة المعلومة خالية منه و من نظيره و قد كان يجب أن يضيفه إلى الموضع الذي أخذ منه فإن قوله و قول من أسند إليه ليس بحجة و لو كان صحيحا لكان يجب أن يقول بدل قوله ها أنا فليقتص مني إذا كان ما أمر بذلك و لا رضي عنه و إنما ضربه الغلام الجاني فليقتص منه فإنه أولى و أعدل . و بعد فلا تنافي بين الروايتين لو كان ما رواه معروفا لأنه يجوز أن يكون غلامه ضربه في حال و ضربه هو في حال أخرى و الروايات إذا لم تتعارض لم يجز إسقاط شيء منها . فأما قوله إن عمارا لا يجوز أن يكفره و لم يقع منه ما يوجب الكفر فإن تكفير عمار و غير عمار له معروف و قد جاءت به الروايات و قد روي من طرق مختلفة و بأسانيد كثيرة أن عمارا كان يقول ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر و أنا الرابع و أنا شر [ 51 ] الأربعة وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ و أنا أشهد أنه قد حكم بغير ما أنزل الله . و روي عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة أنه قيل له بأي شيء كفرتم عثمان فقال بثلاث جعل المال دولة بين الأغنياء و جعل المهاجرين من أصحاب رسول الله ص بمنزلة من حارب الله و رسوله و عمل بغير كتاب الله . و روي عن حذيفة أنه كان يقول ما في عثمان بحمد الله أشك لكني أشك في قاتله لا أدري أ كافر قتل كافرا أم مؤمن خاض إليه الفتنة حتى قتله و هو أفضل المؤمنين إيمانا فأما ما رواه من منازعة الحسن ع عمارا في ذلك و ترافعهما إلى أمير المؤمنين ع فهو أولا غير دافع لكون عمار مكفرا له بل شاهد بذلك من قوله ع ثم إن كان الخبر صحيحا فالوجه فيه أن عمارا كان يعلم من لحن كلام أمير المؤمنين ع و عدوله عن أن يقضي بينهما بصريح من القول أنه متمسك بالتقية فأمسك عمار متابعة لغرضه . فأما قوله لا يجوز أن يكفره من حيث وثب على الخلافة لأنه كان مصوبا لأبي بكر و عمر لما تقدم من كلامه في ذلك فإنا لا نسلم له أن عمارا كان مصوبا لهما و ما تقدم من كلامه قد تقدم كلامنا عليه . فأما قوله عن أبي علي أنه لو ثبت أنه ضربه للقول العظيم الذي كان يقوله فيه لم يكن طعنا لأن للإمام تأديب من يستحق ذلك فقد كان يجب أن يستوحش صاحب كتاب المغني أو من حكى كلامه من أبي علي و غيره من أن يعتذر من ضرب عمار و وقذه حتى لحقه من الغشي ما ترك له الصلاة و وطئه بالأقدام امتهانا و استخفافا بشيء من العذر [ 52 ] فلا عذر يسمع من إيقاع نهاية المكروه بمن روي أن النبي ص قال فيه عمار جلده ما بين العين و الأنف و متى تنكأ الجلدة يدم الأنف و روي أنه قال ع ما لهم و لعمار يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار روى العوام بن حوشب عن سلمة بن كهيل عن علقمة عن خالد بن الوليد أن رسول الله ص قال من عادى عمارا عاداه الله و من أبغض عمارا أبغضه الله و أي كلام غليظ سمعه عثمان من عمار يستحق به ذلك المكروه العظيم الذي يجاوز مقدار ما فرضه الله تعالى في الحدود و إنما كان عمار و غيره أثبتوا عليه أحداثه و معايبه أحيانا على ما يظهر من سيئ أفعاله و قد كان يجب عليه أحد أمرين إما أن ينزع عما يواقف عليه من تلك الأفعال أو يبين من عذره عنها و براءته منها ما يظهر و يشتهر فإن أقام مقيم بعد ذلك على توبيخه و تفسيقه زجره عن ذلك بوعظ أو غيره و لا يقدم على ما يفعله الجبابرة و الأكاسرة من شفاء الغيظ بغير ما أنزل الله تعالى و حكم به الطعن التاسع إقدامه علي أبي ذر مع تقدمه في الإسلام حتى سيره إلى الربذة و نفاه و قيل إنه ضربه . قال قاضي القضاة في الجواب عن ذلك أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قال إن الناس اختلفوا في أمر أبي ذر رحمه الله تعالى و روي أنه قيل لأبي ذر عثمان أنزلك الربذة فقال لا بل اخترت لنفسي ذلك . و روي أن معاوية كتب يشكوه و هو بالشام فكتب عثمان إليه أن صر إلى المدينة فلما صار إليها قال ما أخرجك إلى الشام قال لأني سمعت رسول الله ص [ 53 ] يقول إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فاخرج عنها فلذلك خرجت فقال فأي البلاد أحب إليك بعد الشام قال الربذة فقال صر إليها . قال و إذا تكافأت الأخبار لم يكن لهم في ذلك حجة و لو ثبت ذلك لكان لا يمتنع أن يخرجه إلى الربذة لصلاح يرجع إلى الدين فلا يكون ظلما لأبي ذر بل يكون إشفاقا عليه و خوفا من أن يناله من بعض أهل المدينة مكروه فقد روي أنه كان يغلظ في القول و يخشن الكلام فيقول لم يبق أصحاب محمد على ما عهد و ينغر بهذا القول فرأى إخراجه أصلح لما يرجع إليه و إليهم و إلى الدين و قد روي أن عمر أخرج عن المدينة نصر بن الحجاج لما خاف ناحيته و قد ندب الله سبحانه إلى خفض الجناح للمؤمنين و إلى القول اللين للكافرين و بين للرسول ص أنه لو استعمل الفظاظة لانفضوا من حوله فلما رأى عثمان من خشونة كلام أبي ذر و ما كان يورده مما يخشى منه التنغير فعل ما فعل . قال و قد روي عن زيد بن وهب قال قلت لأبي ذر رحمه الله تعالى و هو بالربذة ما أنزلك هذا المنزل قال أخبرك أني كنت بالشام في أيام معاوية و قد ذكرت هذه الآية وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فقال معاوية هذه في أهل الكتاب فقلت هي فيهم و فينا فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك فكتب إلي أن أقدم علي فقدمت عليه فانثال الناس إلي كأنهم لم يعرفوني فشكوت ذلك إلى عثمان فخيرني و قال انزل حيث شئت فنزلت الربذة . [ 54 ] و قد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط قريبا مما تقدم من أن إخراج أبي ذر إلى الربذة كان باختياره و روى في ذلك خبرا قال و أقل ما في ذلك أن تختلف الأخبار فتطرح و يرجع إلى الأمر الأول في صحة إمامة عثمان و سلامة أحواله . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما قول أبي علي إن الأخبار في سبب خروج أبي ذر إلى الربذة متكافئة فمعاذ الله أن تتكافأ في ذلك بل المعروف و الظاهر أنه نفاه أولا إلى الشام ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية ثم نفاه من المدينة إلى الربذة و قد روى جميع أهل السير على اختلاف طرقهم و أسانيدهم أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم ما أعطاه و أعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم و أعطى زيد بن ثابت مائة ألف درهم جعل أبو ذر يقول بشر الكانزين بعذاب أليم و يتلو قول الله تعالى وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فرفع ذلك مروان إلى عثمان فأرسل إلى أبي ذر نائلا مولاه أن انته عما يبلغني عنك فقال أ ينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله و عيب من ترك أمر الله فو الله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي و خير لي من أن أسخط الله برضاه فأغضب عثمان ذلك و أحفظه فتصابر . و قال يوما أ يجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر قضى فقال كعب الأحبار لا بأس بذلك فقال له أبو ذر يا ابن اليهوديين أ تعلمنا ديننا فقال عثمان قد كثر أذاك لي و تولعك بأصحابي الحق بالشام فأخرجه إليها فكان أبو ذر ينكر علي معاوية أشياء يفعلها فبعث إليه معاوية ثلاثمائة دينار فقال أبو ذر إن كانت هذه [ 55 ] من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها و إن كانت صلة فلا حاجة لي فيها و ردها عليه . و بنى معاوية الخضراء بدمشق فقال أبو ذر يا معاوية إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة و إن كانت من مالك فهو الإسراف . و كان أبو ذر رحمه الله تعالى يقول و الله لقد حدثت أعمال ما أعرفها و الله ما هي في كتاب الله و لا سنة نبيه و الله إني لأرى حقا يطفأ و باطلا يحيا و صادقا مكذبا و أثرة بغير تقى و صالحا مستأثرا عليه فقال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية أن أبا ذر لمفسد عليكم الشام فتدارك أهله إن كانت لكم حاجة فيه فكتب معاوية إلى عثمان فيه فكتب عثمان إلى معاوية أما بعد فاحمل جندبا إلي على أغلظ مركب و أوعره فوجه به مع من سار به الليل و النهار و حمله على شارف ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة و قد سقط لحم فخذيه من الجهد فلما قدم أبو ذر المدينة بعث إليه عثمان أن الحق بأي أرض شئت فقال بمكة قال لا قال فبيت المقدس قال لا قال فأحد المصرين قال لا و لكني مسيرك إلى الربذة فسيره إليها فلم يزل بها حتى مات . و في رواية الواقدي أن أبا ذر لما دخل علي عثمان قال له لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب فقال أبو ذر أنا جنيدب و سماني رسول الله ص عبد الله فاخترت اسم رسول الله الذي سماني به على اسمي فقال عثمان أنت الذي تزعم أنا نقول إن يد الله مغلولة و إن الله فقير و نحن أغنياء فقال أبو ذر لو كنتم لا تزعمون لأنفقتم [ 56 ] مال الله على عباده و لكني أشهد لسمعت رسول الله ص يقول إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا و عباد الله خولا و دين الله دخلا فقال عثمان لمن حضره أ سمعتموها من نبي الله فقالوا ما سمعناه فقال عثمان ويلك يا أبا ذر أ تكذب على رسول الله فقال أبو ذر لمن حضر أ ما تظنون أني صدقت قالوا لا و الله ما ندري فقال عثمان ادعوا لي عليا فدعي فلما جاء قال عثمان لأبي ذر اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص فحدثه فقال عثمان لعلي هل سمعت هذا من رسول الله ص فقال علي ع لا و قد صدق أبو ذر قال عثمان بم عرفت صدقه قال لأني سمعت رسول الله ص يقول ما أظلت الخضراء و لا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر فقال جميع من حضر من أصحاب النبي ص لقد صدق أبو ذر فقال أبو ذر أحدثكم أني سمعت هذا من رسول الله ص ثم تتهمونني ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد ص . و روى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان مولى الأسلميين قال رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان فقال له أنت الذي فعلت و فعلت فقال له أبو ذر نصحتك فاستغششتني و نصحت صاحبك فاستغشني فقال عثمان كذبت و لكنك تريد الفتنة و تحبها قد انغلت الشام علينا فقال له أبو ذر اتبع سنة صاحبيك لا يكن لأحد عليك كلام قال عثمان ما لك و ذلك لا أم لك قال أبو ذر و الله ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فغضب عثمان و قال أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله فإنه قد فرق جماعة المسلمين أو أنفيه من أرض الإسلام فتكلم علي ع و كان حاضرا و قال أشير عليك [ 57 ] بما قاله مؤمن آل فرعون وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اَللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ قال فأجابه عثمان بجواب غليظ لا أحب ذكره و أجابه ع بمثله قال ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر أو يكلموه فمكث كذلك أياما ثم أمر أن يؤتى به فلما أتي به وقف بين يديه قال ويحك يا عثمان أ ما رأيت رسول الله ص و رأيت أبا بكر و عمر هل رأيت هذا هديهم إنك لتبطش بي بطش جبار فقال اخرج عنا من بلادنا فقال أبو ذر ما أبغض إلي جوارك فإلى أين أخرج قال حيث شئت قال فأخرج إلى الشام أرض الجهاد قال إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها أ فأردك إليها قال أ فأخرج إلى العراق قال لا قال و لم قال تقدم على قوم أهل شبه و طعن في الأئمة قال أ فأخرج إلى مصر قال لا قال فإلى أين أخرج قال حيث شئت قال أبو ذر فهو إذن التعرب بعد الهجرة أ أخرج إلى نجد فقال عثمان الشرف الأبعد أقصى فأقصى امض على وجهك هذا و لا تعدون الربذة فخرج إليها . و روى الواقدي عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة أن أبا الأسود الدؤلي قال كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه فنزلت الربذة فقلت له أ لا تخبرني أ خرجت من المدينة طائعا أم أخرجت مكرها فقال كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم فأخرجت إلى مدينة الرسول ع فقلت أصحابي و دار هجرتي فأخرجت منها إلى ما ترى ثم قال بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد إذ مر بي رسول الله ص فضربني برجله و قال لا أراك نائما في المسجد فقلت بأبي أنت [ 58 ] و أمي غلبتني عيني فنمت فيه فقال كيف تصنع إذا أخرجوك منه فقلت إذن ألحق بالشام فإنها أرض مقدسة و أرض بقية الإسلام و أرض الجهاد فقال فكيف تصنع إذا أخرجت منها فقلت أرجع إلى المسجد قال فكيف تصنع إذا أخرجوك منه قلت آخذ سيفي فأضرب به فقال ص أ لا أدلك على خير من ذلك انسق معهم حيث ساقوك و تسمع و تطيع فسمعت و أطعت و أنا أسمع و أطيع و الله ليلقين الله عثمان و هو آثم في جنبي . و كان يقول بالربذة ما ترك الحق لي صديقا و كان يقول فيها ردني عثمان بعد الهجرة أعرابيا . و الأخبار في هذا الباب أكثر من أن تحصر و أوسع من أن نذكرها و ما يحمل نفسه على ادعاء أن أبا ذر خرج مختارا إلى الربذة إلا مكابر و لسنا ننكر أن يكون ما أورده صاحب كتاب المغني من أنه خرج مختارا قد روي إلا أنه من الشاذ النادر و بإزاء هذه الرواية الفذة كل الروايات التي تتضمن خلافها و من تصفح الأخبار علم أنها غير متكافئة على ما ظن صاحب المغني و كيف يجوز خروجه عن اختيار و إنما أشخص من الشام على الوجه الذي أشخص عليه من خشونة المركب و قبح السير به للموجدة عليه ثم لما قدم منع الناس من كلامه و أغلظ له في القول و كل هذا لا يشبه أن يكون خروجه إلى الربذة باختياره و كيف يظن عاقل أن أبا ذر يختار الربذة منزلا مع جدبها و قحطها و بعدها عن الخيرات و لم تكن بمنزل مثله . فأما قوله إنه أشفق عليه من أن يناله بعض أهل المدينة بمكروه من حيث كان يغلظ لهم القول فليس بشيء لأنه لم يكن في أهل المدينة إلا من كان راضيا بقوله عاتبا بمثل عتبة إلا أنهم كانوا بين مجاهر بما في نفسه و مخف ما عنده و ما في أهل المدينة إلا [ 59 ] من رثى لأبي ذر مما حدث عليه و من استفظعه و من رجع إلى كتب السيرة عرف ما ذكرناه . فأما قوله أن عمر أخرج من المدينة نصر بن حجاج فيا بعد ما بين الأمرين و ما كنا نظن أن أحدا يسوي بين أبي ذر و هو وجه الصحابة و عينهم و من أجمع المسلمون على توقيره و تعظيمه و أن رسول الله ص مدحه من صدق اللهجة بما لم يمدح به أحدا و بين نصر بن الحجاج الحدث الذي كان خاف عمر من افتتان النساء بشبابه و لا حظ له في فضل و لا دين على أن عمر قد ذم بإخراجه نصر بن الحجاج من غير ذنب كان منه فإذا كان من أخرج نصر بن حجاج مذموما فكيف من أخرج أبا ذر . فأما قوله إن الله تعالى و الرسول قد ندبا إلى خفض الجناح و لين القول للمؤمن و الكافر فهو كما قال إلا أن هذا أدب كان ينبغي أن يتأدب به عثمان في أبي ذر و لا يقابله بالتكذيب و قد قطع رسول الله ص على صدقه و لا يسمعه مكروه الكلام فإنما نصح له و أهدى إليه عيوبه و عاتبه على ما لو نزع عنه لكان خيرا له في الدنيا و الآخرة . الطعن العاشر تعطيله الحد الواجب على عبيد الله بن عمر بن الخطاب فإنه قتل الهرمزان مسلما فلم يقده به و قد كان أمير المؤمنين ع يطلبه لذلك . قال قاضي القضاة في الجواب عن ذلك أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قال إنه لم يكن للهرمزان ولى يطلب بدمه و الإمام ولي من لا ولي له و للولي أن يعفو كما له أن يقتل و قد روي أنه سأل المسلمين أن يعفوا عنه فأجابوا عنه إلى ذلك . [ 60 ] قال و إنما أراد عثمان بالعفو عنه ما يعود إلى عز الدين لأنه خاف أن يبلغ العدو قتله فيقال قتلوا إمامهم و قتلوا ولده و لا يعرفون الحال في ذلك فيكون فيه شماتة و قد قال الشيخ أبو الحسين الخياط أن عامة المهاجرين أجمعوا على أنه لا يقاد بالهرمزان و قالوا لعثمان هذا دم سفك في غير ولايتك و ليس له ولي يطلب به و أمره إلى الإمام فاقبل منه الدية فذلك صلاح للمسلمين . قال و لم يثبت أن أمير المؤمنين ع كان يطلبه ليقتله بالهرمزان لأنه لا يجوز قتل من عفا عنه ولي المقتول و إنما كان يطلبه ليضع من قدره و يصغر من شأنه . قال و يجوز أن يكون ما روي عن علي ع من أنه قال لو كنت بدل عثمان لقتلته يعني أنه كان يرى ذلك أقوى في الاجتهاد و أقرب إلى التشدد في دين الله سبحانه . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام قال أما قوله لم يكن للهرمزان ولي يطلب بدمه فالإمام يكون وليه و له أن يعفو عنه كما له أن يقتص فليس بمعتمد لأن الهرمزان رجل من أهل فارس و لم يكن له ولي حاضر يطالب بدمه و قد كان الواجب أن يبذل الإنصاف لأوليائه و يؤمنوا متى حضروا حتى أنه لو كان له ولي يريد المطالبة حضر و طالب ثم لو لم يكن له ولي لم يكن عثمان ولي دمه لأنه قتل في أيام عمر فصار عمر ولي دمه و قد أوصى عمر على ما جاءت به الروايات الظاهرة بقتل ابنه عبيد الله إن لم تقم البينة العادلة على الهرمزان و جفينة أنهما أمرا أبا لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة بقتله و كانت وصيته بذلك إلى أهل الشورى فقال أيكم ولي هذا الأمر فليفعل كذا و كذا مما ذكرناه فلما مات عمر طلب المسلمون إلى عثمان إمضاء [ 61 ] الوصية في عبيد الله بن عمر فدافع عن ذلك و عللهم و لو كان هو ولي الدم على ما ذكروا لم يكن له أن يعفو و أن يبطل حدا من حدود الله تعالى و أي شماتة للعدو في إقامة حد من حدود الله تعالى و إنما الشماتة كلها من أعداء الإسلام في تعطيل الحدود و أي حرج في الجمع بين قتل الإمام و ابنه حتى يقال كره أن ينتشر الخبر بأن الإمام و ابنه قتلا و إنما قتل أحدهما ظلما و الآخر عدلا أو أحدهما بغير أمر الله و الآخر بأمره سبحانه . و قد روى زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح أن أمير المؤمنين ع أتى عثمان بعد ما استخلف فكلمه في عبيد الله و لم يكلمه أحد غيره فقال اقتل هذا الفاسق الخبيث الذي قتل أميرا مسلما فقال عثمان قتلوا أباه بالأمس و أقتله اليوم و إنما هو رجل من أهل الأرض فلما أبى عليه مر عبيد الله على علي ع فقال له إيه يا فاسق أما و الله لئن ظفرت بك يوما من الدهر لأضربن عنقك فلذلك خرج مع معاوية عليه و روى القناد عن الحسن بن عيسى بن زيد عن أبيه أن المسلمين لما قال عثمان إني قد عفوت عن عبيد الله بن عمر قالوا ليس لك أن تعفو عنه قال بلى إنه ليس لجفينة و الهرمزان قرابة من أهل الإسلام و أنا ولي أمر المسلمين و أنا أولى بهما و قد عفوت فقال علي ع إنه ليس كما تقول إنما أنت في أمرهما بمنزلة أقصى المسلمين إنه قتلهما في إمرة غيرك و قد حكم الوالي الذي قتلا في إمارته بقتله و لو كان قتلهما في إمارتك لم يكن لك العفو عنه فاتق الله فإن الله سائلك عن هذا فلما رأى عثمان أن المسلمين قد أبوا إلا قتل عبيد الله أمره فارتحل إلى الكوفة و أقطعه بها دارا و أرضا و هي التي يقال لها كويفة بن عمر فعظم ذلك عند المسلمين و أكبروه و كثر كلامهم فيه . [ 62 ]
و روي عن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع أنه قال ما أمسى عثمان يوم ولي حتى نقموا عليه في أمر عبيد الله بن عمر حيث لم يقتله بالهرمزان فأما قوله إن أمير المؤمنين ع لم يطلبه ليقتله بل ليضع من قدره فهو بخلاف ما صرح به ع من أنه إن تمكن ليضربن عنقه . و بعد فإن ولي الدم إذا عفا عنه على ما ادعوا لم يكن لأحد أن يستخف به و لا يضع من قدره كما ليس له أن يقتله . و أما قوله إن أمير المؤمنين ع لا يجوز أن يتوعده مع عفو الإمام عنه فإنما يكون صحيحا لو كان ذلك العفو مؤثرا و قد بينا أنه غير مؤثر . و أما قوله يجوز أن يكون ع رأى أن قتله أقوى في الاجتهاد و أقرب إلى التشدد في دين الله فلا شك أنه كذلك و هذا بناء منه على أن كل مجتهد مصيب و قد بينا أن الأمر بخلاف ذلك و إذا كان اجتهاد أمير المؤمنين ع يقتضي قتله فهو الذي لا يسوغ خلافه . الطعن الحادي عشر و هو إجمالي قالوا وجدنا أحوال الصحابة دالة على تصديقهم المطاعن فيه و براءتهم منه و الدليل على ذلك أنهم تركوه بعد قتله ثلاثة أيام لم يدفنوه و لا أنكروا على من أجلب عليه من أهل الأمصار بل أسلموه و لم يدفعوا عنه و لكنهم أعانوا عليه و لم يمنعوا من حصره و لا من منع الماء عنه و لا من قتله مع تمكنهم من خلاف ذلك و هذا من أقوى الدلائل على ما قلناه و لو لم يدل على أمره عندهم إلا ما روي عن علي ع أنه قال الله قتله و أنا معه و أنه كان في أصحابه ع من يصرح بأنه قتل [ 63 ] عثمان و مع ذلك لا يقيدهم بل و لا ينكر عليهم و كان أهل الشام يصرحون بأن مع أمير المؤمنين قتلة عثمان و يجعلون ذلك من أوكد الشبه و لا ينكر ذلك عليهم مع أنا نعلم أن أمير المؤمنين ع لو أراد أن يتعاضد هو و أصحابه على المنع عنه لما وقع في حقه ما وقع فصار كفه و كف غيره عن ذلك من أدل الدلائل على أنهم صدقوا عليه ما نسب إليه من الأحداث و أنهم لم يقبلوا منه ما جعله عذرا . و أجاب قاضي القضاة عن هذا فقال أما تركه بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن فليس بثابت و لو صح لكان طعنا على من لزمه القيام به و قد قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى إنه لا يمتنع أن يشتغلوا بإبرام البيعة لأمير المؤمنين ع خوفا على الإسلام من الفتنة فيؤخروا دفنه . قال و بعيد مع حضور قريش و قبائل العرب و سائر بني أمية و مواليهم أن يترك عثمان و لا يدفن هذه المدة و بعيد أن يكون أمير المؤمنين ع لا يتقدم بدفنه و لو مات في جواره يهودي أو نصراني و لم يكن له من يواريه ما تركه أمير المؤمنين ألا يدفن فكيف يجوز مثل ذلك في عثمان و قد روي أنه دفن في تلك الليلة و هذا هو الأولى . فأما التعلق بأن الصحابة لم تنكر على القوم و لا دفعت عنه فقد سبق القول في ذلك و الصحيح عن أمير المؤمنين ع أنه تبرأ من قتل عثمان و لعن قتلته في البر و البحر و السهل و الجبل و إنما كان يجري من جيشه هذا القول منه على جهة المجاز لأنا نعلم أن جميع من كان يقول نحن قتلناه لم يقتله لأن في الخبر أن العدد الكثير كانوا يصرحون بذلك و الذين دخلوا عليه و قتلوه اثنان أو ثلاثة و إنما كانوا يقصدون بهذا القول أي احسبوا أنا قتلناه فما لكم و ذلك أن الإمام هو الذي يقوم بأمر القود و ليس للخارج عليه أن يطالب بذلك و لم يكن لأمير المؤمنين ع أن يقتل قتلته لو عرفهم ببينة أو إقرار و ميزهم من غيرهم إلا عند مطالبة ولي الدم و الذين كانوا أولياء [ 64 ] الدم لم يكونوا يطالبونه و لا كانت صفتهم صفة من يطالب لأنهم كانوا كلهم أو بعضهم يدعون أن عليا ع ليس بإمام و لا يحل لولي الدم مع هذا الاعتقاد أن يطالب بالقود فلذلك لم يقتلهم ع هذا لو صح أنه كان يميزهم فكيف و ذلك غير صحيح . فأما ما روي عنه من قوله ع قتله الله و أنا معه فإن صح فمعناه مستقيم يريد أن الله أماته و سيميتني و سائر العباد . ثم قال سائلا نفسه كيف يقول ذلك و عثمان مات مقتولا من جهة المكلفين و أجاب بأنه و إن قتل فالإماتة من قبل الله تعالى و يجوز أن يكون ما ناله من الجراح لا يوجب انتفاء الحياة لا محالة فإذا مات صحت الإماتة على طريق الحقيقة . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام فقال أما تضعيفه أن يكون عثمان ترك بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن فليس بحجة لأن ذلك قد رواه جماعة الرواة و ليس يخالف في مثله أحد يعرف بالرواية و قد ذكر ذلك الواقدي و غيره و روى أن أهل المدينة منعوا الصلاة عليه حتى حمل بين المغرب و العتمة و لم يشهد جنازته غير مروان و ثلاثة من مواليه و لما أحسوا بذلك رموه بالحجارة و ذكروه بأسوإ الذكر و لم يقع التمكن من دفنه إلا بعد أن أنكر أمير المؤمنين ع المنع من دفنه و أمر أهله بتولي ذلك منه . فأما قوله إن ذلك إن صح كان طعنا على من لزمه القيام بأمره فليس الأمر على ما ظنه بل يكون طعنا على عثمان من حيث لا يجوز أن يمنع أهل المدينة و فيها وجوه الصحابة من دفنه و الصلاة عليه إلا لاعتقاد قبيح أو لأن أكثرهم و جمهورهم يعتقد ذلك و هذا طعن لا شبهة فيه و استبعاد صاحب المغني لذلك مع ظهور الرواية به [ 65 ] لا يلتفت إليه فأما أمير المؤمنين ع و استبعاد صاحب المغني منه ألا يتقدم بدفنه فقد بينا أنه تقدم بذلك بعد مماكسة و مراوضة و أعجب من كل شيء قول صاحب المغني إنهم أخروا دفنه تشاغلا بالبيعة لأمير المؤمنين ع و أي شغل في البيعة لأمير المؤمنين يمنع من دفنه و الدفن فرض على الكفاية لو قام به البعض و تشاغل الباقون بالبيعة لجاز و ليس الدفن و لا البيعة أيضا مفتقرة إلى تشاغل جميع أهل المدينة بها . فأما قوله إنه قد روي أن عثمان دفن تلك الليلة فما تعرف هذه الرواية و قد كان يجب أن يسندها و يعزوها إلى راويها أو الكتاب الذي أخذها منه فالذي ظهر في الرواية هو ما ذكرناه . فأما إحالته على ما تقدم في معنى الإنكار من الصحابة على القوم المجلبين على عثمان فقد سبق القول في ذلك . فأما روايته عن أمير المؤمنين ع تبرؤه من قتل عثمان و لعنه قتلته في البر و البحر و السهل و الجبل فلا شك في أنه ع كان بريئا من قتله و قد روي عنه ع أنه قال و الله ما قتلت عثمان و لا مالأت في قتله و الممالأة هي المعاونة و الموازرة و قد صدق ع في أنه ما قتل و لا وازر على القتل . فأما لعنه قتلته فضعيف في الرواية و إن كان قد روي فأظهر منه ما رواه الواقدي عن الحكم بن الصلت عن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال رأيت عليا ع على منبر رسول الله ص حين قتل و هو يقول ما أحببت قتله و لا كرهته و لا أمرت به و لا نهيت عنه و قد روى محمد بن سعد عن عفان بن جرير بن بشير عن أبي جلدة أنه سمع عليا [ 66 ] ع يقول و هو يخطب فذكر عثمان و قال : و الله الذي لا إله إلا هو ما قتلته و لا مالأت على قتله و لا ساءني و روى ابن بشير عن عبيدة السلماني قال سمعت عليا ع يقول من كان سائلي عن دم عثمان فإن الله قتله و أنا معه و قد روي هذا اللفظ من طرق كثيرة . و قد روى شعبة عن أبي حمزة الضبعي قال قلت لابن عباس إن أبي أخبرني أنه سمع عليا يقول ألا من كان سائلي على دم عثمان فإن الله قتله و أنا معه فقال صدق أبوك هل تدري ما معنى قوله إنما عنى الله قتله و أنا مع الله . قال فإن قيل كيف يصح الجمع بين معاني هذه الأخبار . قلنا لا تنافي بينها لأنه ع تبرأ من مباشرة قتله و المؤازرة عليه ثم قال ما أمرت بذلك و لا نهيت عنه يريد أن قاتليه لم يرجعوا إلي و لم يكن مني قول في ذلك بأمر و لا نهى فأما قوله الله قتله و أنا معه فيجوز أن يكون المراد به الله حكم بقتله و أوجبه و أنا كذلك لأن من المعلوم أن الله تعالى لم يقتله على الحقيقة فإضافة القتل إليه لا تكون إلا بمعنى الحكم و الرضا و ليس يمتنع أن يكون مما حكم الله تعالى به ما لم يتوله بنفسه و لا آزر عليه و لا شايع فيه . فإن قال قائل هذا ينافي ما روي عنه من قوله ما أحببت قتله و لا كرهته و كيف يكون من حكم الله و حكمه أن يقتل و هو لا يحب قتله . قلنا يجوز أن يريد بقوله ما أحببت قتله و لا كرهته أن ذلك لم يكن مني على سبيل التفصيل و لا خطر لي ببال و إن كان على سبيل الجملة يحب قتل من غلب المسلمين [ 67 ] على أمورهم و طالبوه بأن يعتزل لأنه مستول عليهم بغير حق فامتنع من ذلك و يكون فائدة هذا الكلام التبرؤ من مباشرة قتله و الأمر به على سبيل التفصيل أو النهي عنه و يجوز أن يريد أنني ما أحببت قتله إن كانوا تعمدوا القتل و لم يقع على سبيل الممانعة و هو غير مقصود و يريد بقوله ما كرهته أني لم أكرهه على كل حال و من كل وجه . فأما لعنه قتلته فقد بينا أنه ليس بظاهر ظهور ما ذكرناه و إن صح فهو مشروط بوقوع القتل على الوجه المحظور من تعمد له و قصد إليه و غير ذلك على أن المتولي للقتل على ما صحت به الرواية كنانة بن بشير التجيبي و سودان بن حمران المرادي و ما منهما من كان غرضه صحيحا في القتل و لا له أن يقدم عليه فهو ملعون به فأما محمد بن أبي بكر فما تولى قتله و إنما روي أنه لما جثا بين يديه قابضا على لحيته قال له يا ابن أخي دع لحيتي فإن أباك لو كان حيا لم يقعد مني هذا المقعد فقال محمد أن أبي لو كان حيا ثم يراك تفعل ما تفعل لأنكره عليك ثم وجأه بجماعة قداح كانت في يده فحزت في جلده و لم تقطع و بادره من ذكرناه في قتله بما كان فيه قتله . فأما تأويله قول أمير المؤمنين ع قتله الله و أنا معه على أن المراد به الله أماته و سيميتني فبعيد من الصواب لأن لفظة أنا لا تكون كناية عن المفعول و إنما تكون كناية عن الفاعل و لو أراد ما ذكره لكان يقول و إياي معه و ليس له أن يقول إننا نجعل قوله و أنا معه مبتدأ محذوف الخبر و يكون تقدير الكلام و أنا معه مقتول و ذلك لأن هذا ترك للظاهر و إحالة على ما ليس فيه و الكلام إذا أمكن حمله على معنى يستقل ظاهره به من غير تقدير و حذف كان أولى مما يتعلق بمحذوف على أنهم إذا جعلوه مبتدأ و قدروا خبرا لم يكونوا بأن يقدروا ما يوافق مذهبهم بأولى من تقدير خلافه و يجعل بدلا من لفظة المقتول المحذوفة لفظة معين أو ظهير . [ 68 ] و إذا تكافأ القولان في التقدير و تعارضا سقطا و وجب الرجوع إلى ظاهر الخبر على أن عثمان مضى مقتولا فكيف يقال إن الله تعالى أماته و القتل كاف في انتفاء الحياة و ليس يحتاج معه إلى ناف للحياة يسمى موتا . و قول صاحب المغني يجوز أن يكون ما ناله من الجراح لا يوجب انتفاء الحياة ليس بشيء لأن المروي أنه ضرب على رأسه بعمود عظيم من حديد و أن أحد قتلته قال جلست على صدره فوجأته تسع طعنات علمت أنه مات في ثلاث و وجأته الست الأخر لما كان في نفسي عليه من الحنق . و بعد فإذا كان جائزا فمن أين علمه أمير المؤمنين ع حتى يقول إن الله أماته و إن الحياة لم تنتف بما فعله القاتلون و إنما انتفت بشيء زاد على فعلهم من قبل الله تعالى مما لا يعلمه على سبيل التفصيل إلا علام الغيوب سبحانه . و الجواب عن هذه المطاعن على وجهين إجمالا و تفصيلا أما الوجه الإجمالي فهو أننا لا ننكر أن عثمان أحدث أحداثا أنكرها كثير من المسلمين و لكنا ندعي مع ذلك أنها لم تبلغ درجة الفسق و لا أحبطت ثوابه و أنها من الصغائر التي وقعت مكفرة و ذلك لأنا قد علمنا أنه مغفور له و أنه من أهل الجنة لثلاثة أوجه . أحدها أنه من أهل بدر و قد قال رسول الله ص إن الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم و لا يقال إن عثمان لم يشهد بدرا لأنا نقول صدقتم أنه لم يشهدها و لكنه تخلف على رقية ابنة رسول الله ص [ 69 ] بالمدينة لمرضها و ضرب له رسول الله ص بسهمه و أجره باتفاق سائر الناس . و ثانيها أنه من أهل بيعة الرضوان الذين قال الله تعالى فيهم لَقَدْ رَضِيَ اَللَّهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ اَلشَّجَرَةِ و لا يقال إنه لم يشهد البيعة تحت الشجرة لأنا نقول صدقتم أنه لم يشهدها و لكنه كان رسول الله ص أرسله إلى أهل مكة و لأجله كانت بيعة الرضوان حيث أرجف بأن قريشا قتلت عثمان فقال رسول الله ص إن كانوا قتلوه لأضرمنها عليهم نارا ثم جلس تحت الشجرة و بايع الناس على الموت ثم قال إن كان عثمان حيا فأنا أبايع عنه فصفح بشماله على يمينه و قال شمالي خير من يمين عثمان روى ذلك جميع أرباب أهل السيرة متفقا عليه . و ثالثها أنه من جملة العشرة الذين تظاهرت الأخبار بأنهم من أهل الجنة . و إذا كانت الوجوه الثلاثة دالة على أنه مغفور له و أن الله تعالى قد رضي عنه و هو من أهل الجنة بطل أن يكون فاسقا لأن الفاسق يخرج عندنا من الإيمان و يحبط ثوابه و يحكم له بالنار و لا يغفر له و لا يرضى عنه و لا يرى الجنة و لا يدخلها فاقتضت هذه الوجوه الصحيحة الثابتة أن يحكم بأن كل ما وقع منه فهو من باب الصغائر المكفرة توفيقا بين هذه الوجوه و بين روايات الأحداث المذكورة . و أما الوجه التفصيلي فهو مذكور في كتب أصحابنا المطولة في الإمامة فليطلب من مظانه فإنهم قد استقصوا في الجواب عن هذه المطاعن استقصاء لا مزيد عليه [ 70 ] |