نبذ من كلام الحكماء في مدح القناعة و ذم الطمعفأما الفصل الثاني فيشتمل على التحذير من الدنيا و على الأمر بالقناعة و الرضا بالكفاف فأما التحذير من الدنيا فقد ذكرنا و نذكر منه ما يحضرنا و أما القناعة فقد ورد فيها شيء كثير . [ 155 ]
قال رسول الله ص لأخوين من الأنصار لا تيئسا من روح الله ما تهزهزت رءوسكما فإن أحدكم يولد لا قشر عليه ثم يكسوه الله و يرزقه و عنه ص و يعزى إلى أمير المؤمنين ع القناعة كنز لا ينفد و ما يقال إنه من كلام لقمان الحكيم كفى بالقناعة عزا و بطيب النفس نعيما و من كلام عيسى ع اتخذوا البيوت منازل و المساجد مساكن و كلوا من بقل البرية و اشربوا من الماء القراح و اخرجوا من الدنيا بسلام لعمري لقد انقطعتم إلى غير الله فما ضيعكم أ فتحافون الضيعة إذا انقطعتم إليه . و في بعض الكتب الإلهية القديمة يقول الله تعالى يا ابن آدم أ تخاف أن أقتلك بطاعتي هزلا و أنت تتفتق بمعصيتي سمنا . قال أبو وائل ذهبت أنا و صاحب لي إلى سلمان الفارسي فجلسنا عنده فقال لو لا أن رسول الله ص نهى عن التكلف لتكلفت لكم ثم جاء بخبز و ملح ساذج لا أبزار عليه فقال صاحبي لو كان لنا في ملحنا هذا سعتر فبعث سلمان بمطهرته فرهنها على سعتر فلما أكلنا قال صاحبي الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا فقال سلمان لو قنعت بما رزقك لم تكن مطهرتي مرهونة . عباد بن منصور لقد كان بالبصرة من هو أفقه من عمرو بن عبيد و أفصح و لكنه كان أصبرهم عن الدينار و الدرهم فساد أهل البصرة . قال خالد بن صفوان لعمرو بن عبيد لم لا تأخذ مني فقال لا يأخذ أحد من أحد إلا ذل له و أنا أكره أن أذل لغير الله . [ 156 ] كان معاش عمرو بن عبيد من دار ورثها كان يأخذ أجرتها في كل شهر دينارا واحدا فيتبلغ به . الخليل بن أحمد كان الناس يكتسبون الرغائب بعلمه و هو بين أخصاص البصرة لا يلتفت إلى الدنيا و لا يطلبها . وهب بن منبه أرملت مرة حتى كدت أقنط فأتاني آت في المنام و معه شبه لوزة فقال افضض ففضضتها فإذا حريرة فيها ثلاثة أسطر لا ينبغي لمن عقل عن الله أمره و عرف لله عدله أن يستبطئ الله في رزقه فقنعت و صبرت ثم أعطاني الله فأكثر . قيل للحسن ع إن أبا ذر كان يقول الفقر أحب إلي من الغنى و السقم أحب إلي من الصحة فقال رحم الله أبا ذر أما أنا فأقول من اتكل إلى حسن الاختيار من الله لم يتمن أنه في غير الحال التي اختارها الله له لعمري يا ابن آدم الطير لا تأكل رغدا و لا تخبأ لغد و أنت تأكل رغدا و تخبأ لغد فالطير أحسن ظنا منك بالله عز و جل حبس عمر بن عبد العزيز الغذاء عن مسلمة حتى برح به الجوع ثم دعا بسويق فسقاه فلما فرغ منه لم يقدر على الأكل فقال يا مسلمة إذا كفاك من الدنيا ما رأيت فعلام التهافت في النار . عبد الواحد بن زيد ما أحسب شيئا من الأعمال يتقدم الصبر إلا الرضا و القناعة و لا أعلم درجة أرفع من الرضا و هو رأس المحبة . قال ابن شبرمة في محمد بن واسع لو أن إنسانا اكتفى بالتراب لاكتفى به . يقال من جملة ما أوحى الله تعالى إلى موسى ع قل لعبادي المتسخطين لرزقي إياكم أن أغضب فأبسط عليكم الدنيا . [ 157 ] كان لبعض الملوك نديم فسكر ففاتته الصلاة فجاءت جارية له بجمرة نار فوضعتها على رجله فانتبه مذعورا فقالت إنك لم تصبر على نار الدنيا فكيف تصبر على نار الآخرة فترك الدنيا و انقطع إلى العبادة و قعد يبيع البقل فدخل عليه الفضيل و ابن عيينة فإذا تحت رأسه لبنة و ليس تحت جنبه حصير فقالا له إنا روينا أنه لم يدع أحد شيئا لله إلا عوضه خيرا منه فما عوضك قال القناعة و الرضا بما أنا فيه . أصابت داود الطائي ضائقة شديدة فجاء حماد بن أبي حنيفة بأربعمائة درهم من تركة أبيه فقال داود هي لعمري من مال رجل ما أقدم عليه أحدا في زهده و ورعه و طيب كسبه و لو كنت قابلا من أحد شيئا لقبلتها إعظاما للميت و إيجابا للحي و لكني أحب أن أعيش في عز القناعة . سفيان الثوري ما أكلت طعام أحد قط إلا هنت عليه . مسعر بن كدام من صبر على الخل و البقل لم يستعبد . فضيل أصل الزهد الرضا بما رزقك الله أ لا تراه كيف يصنع بعبده ما تصنع الوالدة الشفيقة بولدها تطعمه مرة خبيصا و مرة صبرا تريد بذلك ما هو أصلح له . المسيح ع أنا الذي كببت الدنيا على وجهها و قدرتها بقدرها ليس لي ولد يموت و لا بيت يخرب وسادي الحجر و فراشي المدر و سراجي القمر أمير المؤمنين ع أكل تمر دقل ثم شرب عليه ماء و مسح بطنه و قال من أدخلته بطنه النار فأبعده الله ثم أنشد
فإنك إن أعطيت بطنك سؤله
[ 158 ]
في الحديث الصحيح المرفوع إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فأجملوا في الطلب . من كلام الحكماء من ظفر بالقناعة فقد ظفر بالكيمياء الأعظم . الحسن الحريص الراغب و القانع الزاهد كلاهما مستوف أجله مستكمل أكله غير مزداد و لا منتقص مما قدر له فعلام التقحم في النار . ابن مسعود رفعه إنه ليس أحد بأكيس من أحد قد كتب النصيب و الأجل و قسمت المعيشة و العمل و الناس يجرون منهما إلى منتهى معلوم المسيح ع انظروا إلى طير السماء تغدو و تروح ليس معها شيء من أرزاقها لا تحرث و لا تحصد و الله يرزقها فإن زعمتم أنكم أوسع بطونا من الطير فهذه الوحوش من البقر و الحمر لا تحرث و لا تحصد و الله يرزقها . سويد بن غفلة كان إذا قيل له قد ولي فلان يقول حسبي كسرتي و ملحي . وفد عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك فشكا إليه خلته فقال له أ لست القائل
لقد علمت و ما الإشراف من خلقي فكيف خرجت من الحجاز إلى الشام تطلب الرزق ثم اشتغل عنه فخرج و قعد على ناقته و نصها راجعا إلى الحجاز فذكره هشام في الليل فسأل عنه فقيل إنه رجع إلى الحجاز فتذمر و ندم و قال رجل قال حكمة و وفد علي مستجديا فجبهته [ 159 ] و رددته ثم وجه إليه بألفي درهم فجاء الرسول و هو بالمدينة فدفعها إليه فقال له قل لأمير المؤمنين كيف رأيت سعيت فأكديت و قعدت في منزلي فأتاني رزقي . عمر بن الخطاب تعلم أن الطمع فقر و أن اليأس غنى و من يئس من شيء استغنى عنه أهدي لرسول الله ص طائران فأكل أحدهما عشية فلما أصبح طلب غداء فأتته بعض أزواجه بالطائر الآخر فقال أ لم أنهك أن ترفعي شيئا لغد فإن من خلق الغد خلق رزقه و في الحديث المرفوع قد أفلح من رزق كفافا و قنعه الله بما آتاه من حكمة سليمان ع قد جربنا لين العيش و شدته فوجدنا أهنأه أدناه وهب في قوله تعالى فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً قال القناعة . بعض حكماء الشعراء
فلا تجزع إذا أعسرت يوما
عائشة قال لي رسول الله ص إن أردت اللحوق بي فيكفيك من الدنيا زاد الراكب و لا تخلقي ثوبا حتى ترقعيه و إياك و مجالسة الأغنياء [ 160 ]
يقال إن جبرائيل ع جاء إلى رسول الله ص بمفاتيح خزائن الدنيا فقال لا حاجة لي فيها بل جوعتان و شبعة . وجد مكتوبا على صخرة عادية يا ابن آدم لست ببالغ أملك و لا سابق أجلك و لا مغلوب على رزقك و لا مرزوق ما ليس لك فعلام تقتل نفسك . الحسين بن الضحاك
يا روح من عظمت قناعته
أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه أ تدري لم رزقت الأحمق قال لا قال ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتمال قنط يوسف بن يعقوب ع في الجب لجوع اعتراه فأوحي إليه انظر إلى حائط البئر فنظر فانفرج الحائط عن ذرة على صخرة معها طعامها فقيل له أ تراني لا أغفل عن هذه الذرة و أغفل عنك و أنت نبي ابن نبي دخل علي ع المسجد و قال لرجل أمسك على بغلتي فخلع لجامها و ذهب به فخرج علي ع بعد ما قضى صلاته و بيده درهمان ليدفعهما إليه مكافأة له فوجد البغلة عطلا فدفع إلى أحد غلمانه الدرهمين ليشتري بهما لجاما فصادف الغلام اللجام المسروق في السوق قد باعه الرجل بدرهمين فأخذه بالدرهمين و عاد إلى مولاه فقال علي ع إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر [ 161 ] و لا يزاد على ما قدر له سليمان بن المهاجر البجلي
كسوت جميل الصبر وجهي فصانه وقف بعض الملوك على سقراط و هو في المشرقة فقال له سل حاجتك قال حاجتي أن تزيل عني ظلك فقد منعتني الرفق بالشمس فأحضر له ذهبا و كسوة ديباج فقال إنه لا حاجة بسقراط إلى حجارة الأرض و لعاب الدود إنما حاجته إلى أمر يصحبه حيثما توجه . صلى معروف الكرخي خلف إمام فلما انفتل سأل ذلك الإمام معروفا من أين تأكل قال اصبر علي حتى أعيد ما صليته خلفك قال لما ذا قال لأن من شك في الرزق شك في الرازق قال الشاعر
و لا تهلكن النفس وجدا و حسرة
قال عمر بن الخطاب لعلي بن أبي طالب قد مللت الناس و أحببت أن ألحق بصاحبي فقال إن سرك اللحوق بهما فقصر أملك و كل دون الشبع و اخصف النعل و كن كميش الإزار مرقوع القميص تلحق بهما . [ 162 ] و قال بعض شعراء العجم
غلا السعر في بغداد من بعد رخصة
قيل لعلي ع لو سد على رجل باب بيت و ترك فيه من أين كان يأتيه رزقه قال من حيث كان يأتيه أجله . قال بعض الشعراء
صبرت النفس لا أجز جاء فتح بن شخرف إلى منزله بعد العشاء فلم يجد عندهم ما يتعشى به و لا وجد دهنا للسراج و هم في الظلمة فجلس ليلة يبكي من الفرح و يقول بأي يد قد كانت مني بأي طاعة تنعم علي بأن أترك على مثل هذه الحال . لقي هرم بن حيان أويسا القرني فقال السلام عليك يا أويس بن عامر فقال و عليك السلام يا هرم بن حيان فقال هرم أما إني عرفتك بالصفة فكيف عرفتني قال إن أرواح المؤمنين لتشام كما تشام الخيل فيعرف بعضها بعضا قال أوصني [ 163 ] قال عليك بسيف البحر قال فمن أين المعاش قال أف لك خالطت الشك الموعظة أ تفر إلى الله بدينك و تتهمه في رزقك . منصور الفقيه
الموت أسهل عندي أعرابي
أ تيئس أن يقارنك النجاح
قال رجل لرسول الله ص أوصني قال إياك و الطمع فإنه فقر حاضر و عليك باليأس مما في أيدي الناس . حكيم أحسن الأحوال حال يغبطك بها من دونك و لا يحقرك لها من فوقك . أبو العلاء المعري
فإن كنت تهوى العيش فابغ توسطا خالد بن صفوان كن أحسن ما تكون في الظاهر حالا أقل ما تكون في الباطن مالا فإن الكريم من كرمت عند الحاجة خلته و اللئيم من لؤمت عند الفاقة طعمته . [ 164 ] شعر
و كم ملك جانبته من كراهة بعض الحكماء ينبغي للعاقل أن يكون في دنياه كالمدعو إلى الوليمة إن أتته صحفة تناولها و إن جازته لم يرصدها و لم يطلبها [ 165 ] |