الزبير بن علي السليطي و ظهور أمر المهلب

و منهم الزبير بن علي السليطي التميمي كان على مقدمة ابن الماحوز و كان ابن الماحوز يخاطب بالخلافة و يخاطب الزبير بالإمارة و وصل الزبير بعد هلاك حارثة بن بدر و هرب أصحابه إلى البصرة فخافه الناس خوفا شديدا و ضج أهل البصرة إلى الأحنف فأتى القباع فقال أصلح الله الأمير إن هذا العدو قد غلبنا على سوادنا و فيئنا فلم يبق إلا أن يحصرنا في بلدنا حتى نموت هزالا قال فسموا إلى رجلا يلي الحرب فقال الأحنف لا أرى لها رجلا إلا المهلب بن أبي صفرة فقال أ و هذا رأي

[ 145 ]

جميع أهل البصرة اجتمعوا إلي في غد لأنظر و جاء الزبير حتى نزل على البصرة و عقد الجسر ليعبر إليها فخرج أكثر أهل البصرة إليه و انضم إلى الزبير جميع كور الأهواز و أهلها رغبة و رهبة فوافاه البصريون في السفن و على الدواب فاسودت بهم الأرض فقال الزبير لما رآهم أبى قومنا إلا كفرا و قطع الجسر و أقام الخوارج بإزائهم و اجتمع الناس عند القباع و خافوا الخوارج خوفا شديدا و كانوا ثلاث فرق سمى قوم المهلب و سمى قوم مالك بن مسمع و سمى قوم زياد بن عمرو بن أشرف العتكي فاختبر القباع ما عند مالك و زياد فوجدهما متثاقلين عن الحرب و عاد إليه من أشار بهما و قالوا قد رجعنا عن رأينا ما نرى لها إلا المهلب فوجه إليه القباع فأتاه فقال له يا أبا سعيد قد ترى ما قد رهقنا من هذا العدو و قد أجمع أهل مصرك عليك و قال له الأحنف يا أبا سعيد أنا و الله ما آثرناك و لكنا لم نر من يقوم مقامك . ثم قال القباع و أومأ إلى الأحنف أن هذا الشيخ لم يسمك إلا إيثارا للدين و البقيا و كل من في مصرك ماد عينه إليك راج أن يكشف الله عنه هذه الغمة بك فقال المهلب لا حول و لا قوة إلا بالله إني عند نفسي لدون ما وصفتم و لست آبى ما دعوتم إليه لكن لي شروطا أشترطها قالوا قل قال على أن أنتخب من أحببت قال الأحنف ذاك لك قال و لي إمرة كل بلد أغلب عليه قالوا لك ذلك قال و لي في‏ء كل بلد أظفر به قال الأحنف ليس ذاك لك و لا لنا إنما هو في‏ء للمسلمين فإن سلبتهم إياه كنت عليهم كعدوهم و لكن لك أن تعطي أصحابك من في‏ء كل بلد تغلب عليه ما أحببت و تنفق منه على محاربة عدوك فما فضل عنكم كان للمسلمين فقال المهلب لا حول و لا قوة إلا بالله فمن لي بذلك قال الأحنف نحن و أميرك و جماعة أهل مصرك قال قد قبلت فكتبوا بينهم بذلك كتابا و وضع على يدي الصلت بن حريث بن جابر الجعفي و انتخب المهلب من جميع الأخماس فبلغت نخبته اثني عشر ألفا و نظروا في بيت المال

[ 146 ]

فلم يكن إلا مائتي ألف درهم فعجزت فبعث المهلب إلى التجار فقال إن تجاراتكم منذ حول قد فسدت بانقطاع مواد الأهواز و فارس عنكم فهلموا فبايعوني و اخرجوا معي أوفكم حقوقكم فبايعوه و تاجروه فأخذ منهم من المال ما أصلح به عسكره و اتخذ لأصحابه الخفاتين و الرانات المحشوة بالصوف ثم نهض و كان أكثر أصحابه رجالة حتى إذا صار بحذاء القوم أمر بسفن فأصلحت و أحضرت فما ارتفع النهار حتى فرغ منها ثم أمر الناس بالعبور و أمر عليهم ابنه المغيرة فخرج الناس فلما قاربوا الشط خاضت إليهم الخوارج فحاربوهم و حاربهم المغيرة و نضحهم بالسهام حتى تنحوا و صار هو و أصحابه على الشط فحاربوا الخوارج فكشفوهم و شغلوهم حتى عقد المهلب الجسر و عبر و الخوارج منهزمون فنهى الناس عن اتباعهم ففي ذلك يقول شاعر من الأزد

إن العراق و أهله لم يخبروا
مثل المهلب في الحروب فسلموا
أمضى و أيمن في اللقاء نقيبة
و أقل تهليلا إذا ما أحجموا

و أبلى مع المغيرة يومئذ عطية بن عمرو العنبري من فرسان تميم و شجعانهم و من شعر عطية

يدعى رجال للعطاء و إنما
يدعى عطية للطعان الأجرد

و قال فيه شاعر من بني تميم

و ما فارس إلا عطية فوقه
إذا الحرب أبدت عن نواجذها الفما
به هزم الله الأزارق بعد ما
أباحوا من المصرين حلا و محرما

فأقام المهلب أربعين ليلة يجبي الخراج بكور دجلة و الخوارج بنهر تيرى و الزبير بن علي منفرد بعسكره عن عسكر ابن الماحوز فقضى المهلب التجار و أعطى أصحابه

[ 147 ]

فأسرع الناس إليه رغبة في مجاهدة العدو و طمعا في الغنائم و التجارات فكان فيمن أتاه محمد بن واسع الأزدي و عبد الله بن رباح و معاوية بن قرة المزني و كان يقول لو جاءت الديلم من هاهنا و الحرورية من هاهنا لحاربت الحرورية و جاءه أبو عمران الجوني و كان يروى عن كعب أن قتيل الحرورية يفضل قتيل غيرهم بعشرة أبواب . ثم أتى المهلب إلى نهر تيرى فتنحوا عنه إلى الأهواز و أقام المهلب يجبي ما حواليه من الكور و قد دس الجواسيس إلى عسكر الخوارج يأتونه بأخبارهم و من في عسكرهم و إذا حشوه ما بين قصاب و حداد و داعر فخطب المهلب الناس و ذكر لهم ذلك و قال أ مثل هؤلاء يغلبونكم على فيئكم و لم يزل مقيما حتى فهمهم و أحكم أمرهم و قوى أصحابه و كثرت الفرسان في عسكره و تتام أصحابه عشرين ألفا . ثم مضى يؤم كور الأهواز فاستخلف أخاه المعارك بن أبي صفرة على نهر تيرى و جعل المغيرة على مقدمته فسار حتى قاربهم فناوشهم و ناوشوه فانكشف عن المغيرة بعض أصحابه و ثبت المغيرة نفسه بقية يومه و ليلته يوقد النيران ثم غاداهم فإذا القوم قد أوقدوا النيران في بقية متاعهم و ارتحلوا عن سوق الأهواز فدخلها المغيرة و قد جاءت أوائل خيل المهلب فأقام بسوق الأهواز و كتب بذلك إلى الحارث القباع كتابا يقول فيه . أما بعد فإنا مذ خرجنا نؤم العدو في نعم من فضل الله متصلة علينا و نقم متتابعة عليهم نقدم و يحجمون و نحل و يرتحلون إلى أن حللنا سوق الأهواز و الحمد لله رب العالمين الذي من عنده النصر و هو العزيز الحكيم

[ 148 ]

فكتب إليه الحارث هنيئا لك أخا الأزد الشرف في الدنيا و الأجر في الآخرة إن شاء الله . فقال المهلب لأصحابه ما أجفى أهل الحجاز أ ما ترونه عرف اسمي و كنيتي و اسم أبي قالوا و كان المهلب يبث الأحراس في الأمن كما يبثهم في الخوف و يذكي العيون في الأمصار كما يذكيها في الصحاري و يأمر أصحابه بالتحرز و يخوفهم البيات و إن بعد منه العدو و يقول احذروا أن تكادوا كما تكيدون و لا تقولوا هزمناهم و غلبناهم و القوم خائفون وجلون فإن الضرورة تفتح باب الحيلة . ثم قام فيهم خطيبا فقال أيها الناس قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج و أنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم و سفكوا دماءكم فقاتلوهم على ما قاتلهم عليه أولكم علي بن أبي طالب لقد لقيهم الصابر المحتسب مسلم بن عبيس و العجل المفرط عثمان بن عبيد الله و المعصي المخالف حارثة بن بدر فقتلوا جميعا و قتلوا فالقوهم بحد و جد فإنما هم مهنتكم و عبيدكم و عار عليكم و نقص في أحسابكم و أديانكم أن يغلبكم هؤلاء على فيئكم و يطئوا حريمكم . ثم سار يريدهم و هم بمناذر الصغرى فوجه عبيد الله بن بشير بن الماحوز رئيس الخوارج رجلا يقال له واقد مولى لآل أبي صفرة من سبي الجاهلية في خمسين رجلا فيهم صالح بن مخراق إلى نهر تيرى و بها المعارك بن أبي صفرة فقتلوه و صلبوه فنمي

[ 149 ]

الخبر إلى المهلب فوجه ابنه المغيرة فدخل نهر تيرى و قد خرج واقد منها فاستنزل عمه فدفنه و سكن الناس و استخلف بها و رجع إلى أبيه و قد نزل بسولاف و الخوارج بها فواقعهم و جعل على بني تميم الحريش بن هلال فخرج رجل من أصحاب المهلب يقال له عبد الرحمن الإسكاف فجعل يحض الناس و يهون أمر الخوارج و يختال بين الصفين فقال رجل من الخوارج لأصحابه يا معشر المهاجرين هل لكم في قتلة فيها الجنة فحمل جماعة منهم على الإسكاف فقاتلهم وحده فارسا ثم كبا به فرسه فقاتلهم راجلا قائما و باركا ثم كثرت به الجراحات فذبب بسيفه ثم جعل يحثو في وجوههم التراب و المهلب غير حاضر فقتل ثم حضر المهلب فأعلم فقال للحريش و لعطية العنبري أ سلمتما سيد أهل العراق لم تعيناه و لم تستنقذاه حسدا له لأنه رجل من الموالي و وبخهما . و حمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب فقلته فحمل عليه المهلب فطعنه فقتله و مال الخوارج بأجمعهم على العسكر فانهزم الناس و قتل منهم سبعون رجلا و ثبت المهلب و ابنه المغيرة يومئذ و عرف مكانه . و يقال حاص المهلب يومئذ حيصة و يقول الأزد بل كان يرد المنهزمة و يحمي أدبارهم و بنو تميم تزعم أنه فر و قال شاعرهم

بسولاف أضعت دماء قومي
و طرت على مواشكة درور

و قال آخر من بني تميم

تبعنا الأعور الكذاب طوعا
يزجي كل أربعة حمارا

[ 150 ]

فيا ندمى على تركي عطائي
معاينة و أطلبه ضمارا
إذا الرحمن يسر لي قفولا
فحرق في قرى سولاف نارا

قوله الأعور الكذاب يعني به المهلب كانت عينه عارت بسهم أصابها و سموه الكذاب لأنه كان فقيها و كان يتأول ما ورد في الأثر من أن كل كذب يكتب كذبا إلا ثلاثة الكذب في الصلح بين رجلين و كذب الرجل لامرأته بوعد و كذب الرجل في الحرب بتوعد و تهدد

قالوا و جاء عنه ص إنما أنت رجل فخذل عنا ما استطعت

و قال إنما الحرب خدعة فكان المهلب ربما صنع الحديث ليشد به من أمر المسلمين ما ضعف و يضعف به من أمر الخوارج ما اشتد و كان حي من الأزد يقال لهم الندب إذا رأوا المهلب رائحا إليهم قالوا راح ليكذب و فيه يقول رجل منهم

أنت الفتى كل الفتى
لو كنت تصدق ما تقول

فبات المهلب في ألفين فلما أصبح رجع بعض المنهزمة فصاروا في أربعة آلاف فخطب أصحابه فقال و الله ما بكم من قلة و ما ذهب عنكم إلا أهل الجبن و الضعف و الطبع و الطمع فإن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله فسيروا إلى عدوكم على بركة الله . فقام إليه الحريش بن هلال فقال أنشدك الله أيها الأمير أن تقاتلهم إلا أن يقاتلوك فإن في أصحابك جراحا و قد أثخنتهم هذه الجولة . فقبل منه و مضى المهلب في عشرة فأشرف على عسكر الخوارج فلم ير منهم أحدا

[ 151 ]

يتحرك فقال له الحريش ارتحل عن هذا المنزل فارتحل فعبر دجيلا و صار إلى عاقول لا يؤتى إلا من جهة واحدة فأقام به و أقام الناس ثلاثا مستريحين . و في يقوم سولاف يقول ابن قيس الرقيات

أ لا طرقت من آل مية طارقه
على أنها معشوقة الدل عاشقه
تراءت و أرض السوس بيني و بينها
و رستاق سولاف حمته الأزارقه
إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة
حرورية فيها من الموت بارقه
أجازت عيلنا العسكرين كليهما
فباتت لنا دون اللحاف معانقه

فأقام المهلب في ذلك العاقول ثلاثة أيام ثم ارتحل و الخوارج بسلى و سلبرى فنزل قريبا منهم فقال ابن الماحوز لأصحابه ما تنتظرون بعدوكم و قد هزمتموهم بالأمس و كسرتم حدهم فقال له واقد مولى أبي صفرة يا أمير المؤمنين إنما تفرق عنهم أهل الضعف و الجبن و بقي أهل النجدة و القوة فإن أصبتهم لم يكن ظفرا هينا لأني أراهم لا يصابون حتى يصيبوا و إن غلبوا ذهب الدين فقال أصحابه نافق واقد فقال ابن الماحوز لا تعجلوا على أخيكم فإنه إنما قال هذا نظرا لكم . ثم وجه الزبير بن علي إلى عسكر المهلب لينظر ما حالهم فأتاهم في مائتين فحزرهم و رجع و أمر المهلب أصحابه بالتحارس حتى إذا أصبح ركب إليهم في تعبئة فالتقوا بسلى و سلبرى فتصافوا فخرج من الخوارج مائة فارس فركزوا رماحهم بين الصفين و اتكئوا عليها و أخرج إليهم المهلب أعدادهم ففعلوا مثل ما فعلوا لا يرعون إلا الصلاة حتى إذا أمسوا رجع كل قوم إلى معسكرهم ففعلوا هكذا ثلاثة أيام .

[ 152 ]

ثم إن الخوارج تطاردوا لهم في اليوم الثالث فحمل عليهم هؤلاء الفرسان فجالوا ساعة ثم إن رجلا من الخوارج حمل على رجل فطعنه فحمل عليه المهلب فطعنه فحمل الخوارج بأجمعهم كما صنعوا يوم سولاف فضعضعوا الناس و فقد المهلب و ثبت المغيرة في جمع أكثرهم أهل عمان . ثم نجم المهلب في مائة و قد انغمس كماه في الدم و على رأسه قلنسوة مربعة فوق المغفر محشوة قزا و قد تمزقت و إن حشوها ليتطاير و هو يلهث و ذلك في وقت الظهر فلم يزل يحاربهم حتى أتى الليل و كثر القتلى في الفريقين فلما كان الغد غاداهم و قد كان وجه بالأمس رجلا من طاحية بن سود بن مالك بن فهم من الأزد من ثقاته و أصحابه يرد المنهزمين فمر به عامر بن مسمع فرده فقال إن الأمير أذن لي في الانصراف فبعث إلى المهلب فأعلمه فقال دعه فلا حاجة لي في مثله من أهل الجبن و الضعف ثم غاداهم المهلب في ثلاثة آلاف و قد تفرق عنه أكثر الناس و قال لأصحابه ما بكم من قلة أ يعجز أحدكم أن يلقي رمحه ثم يتقدم فيأخذه ففعل ذلك رجل من كندة و اتبعه قوم ثم قال المهلب لأصحابه أعدوا مخالي فيها حجارة و ارموا بها في وقت الغفلة فإنها تصد الفارس و تصرع الراجل ففعلوا ثم أمر مناديا ينادي في أصحابه يأمرهم بالجد و الصبر و يطمعهم في العدو ففعل ذلك حتى مر ببني العدوية من بني مالك بن حنظلة فنادى فيهم فضربوه فدعا المهلب بسيدهم و هو معاوية بن عمرو فجعل يركله برجله فقال أصلح الله الأمير اعفني من أم كيسان و الأزد تسمى الركبة أم كيسان ثم حمل المهلب و حملوا و اقتتلوا قتالا شديدا فجهد الخوارج و نادى مناد منهم ألا إن المهلب قد قتل

[ 153 ]

فركب المهلب برذونا وردا و أقبل يركض بين الصفين و إن إحدى يديه لفي القباء و ما يشعر لها و هو يصيح أنا المهلب فسكن الناس بعد أن كانوا قد ارتاعوا و ظنوا أن أميرهم قد قتل و كل الناس مع العصر فصاح المهلب بابنه المغيرة تقدم ففعل و صاح بذكوان مولاه قدم رايتك ففعل فقال له رجل من ولده إنك تغرر بنفسك فزبره و زجره و صاح يا بني سلمة آمركم فتعصونني فتقدم و تقدم الناس فاجتلدوا أشد جلاد حتى إذا كان مع المساء قتل ابن الماحوز و انصرف الخوارج و لم يشعر المهلب بقتله فقال لأصحابه ابغوا لي رجلا جلدا يطوف في القتلى فأشاروا عليه برجل من جرم و قالوا إنا لم نر قط رجلا أشد منه فجعل يطوف و معه النيران فجعل إذا مر بجريح من الخوارج قال كافر و رب الكعبة فأجهز عليه و إذا مر بجريح من المسلمين أمر بسقيه و حمله و أقام المهلب يأمرهم بالاحتراس حتى إذا كان في نصف الليل وجه رجلا من اليحمد في عشرة فصاروا إلى عسكر الخوارج فإذا هم قد تحملوا إلى أرجان فرجع إلى المهلب فأعلمه فقال لهم أنا الساعة أشد خوفا احذروا البيات . و يروى عن شعبة بن الحجاج أن المهلب قال لأصحابه يوما إن هؤلاء الخوارج قد يئسوا من ناحيتكم إلا من جهة البيات فإن يكن ذلك فاجعلوا شعاركم حم لا ينصرون فإن رسول الله ص كان يأمر بها . و يروى أنه كان شعار أصحاب علي بن أبي طالب ع . فلما أصبح القوم غدوا على القتلى فأصابوا ابن الماحوز قتيلا ففي ذلك يقول رجل من الخوارج

[ 154 ]

بسلى و سلبرى مصارع فتية
كرام و عقرى من كميت و من ورد

و قال آخر

بسلى و سلبرى جماجم فتية
كرام و صرعى لم توسد خدودها

و قال رجل من موالي المهلب لقد صرعت يومئذ بحجر واحد ثلاثة رميت به رجلا فصرعته ثم رميت به رجلا فأصبت به أصل أذنه فصرعته ثم أخذت الحجر و صرعت به ثالثا و في ذلك يقول رجل من الخوارج

أتانا بأحجار ليقتلنا بها
و هل يقتل الأبطال ويحك بالحجر

و قال رجل من أصحاب المهلب في يوم سلى و سلبرى و قتل ابن الماحوز

و يوم سلى و سلبرى أحاط بهم
منا صواعق لا تبقي و لا تذر
حتى تركنا عبيد الله منجدلا
كما تجدل جذع مال منقعر

و يروى أن رجلا من الخوارج يوم سلى حمل على رجل من أصحاب المهلب فطعنه فلما خالطه الرمح صاح يا أمتاه فصاح به المهلب لا كثر الله منك في المسلمين فضحك الخارجي و قال

أمك خير لك مني صاحبا
تسقيك محضا و تعل رائبا

و كان المغيرة بن المهلب إذا نظر إلى الرماح قد تشاجرت في وجهه نكس على

[ 155 ]

قربوس السرج و حمل من تحتها فبرأها بسيفه و أثر في أصحابها فتحوميت الميمنة من أجله و كان أشد ما تكون الحرب استعارا أشد ما يكون تبسما و كان المهلب يقول ما شهد معي حربا قط إلا رأيت البشرى في وجهه . و قال رجل من الخوارج في هذا اليوم

فإن تك قتلى يوم سلى تتابعت
فكم غادرت أسيافنا من قماقم
غداة نكر المشرقية فيهم
بسولاف يوم المأزق المتلاحم

فكتب المهلب إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع . أما بعد فإنا لقينا الأزارقة المارقة بحد و جد فكانت في الناس جولة ثم ثاب أهل الحفاظ و الصبر بنيات صادقة و أبدان شداد و سيوف حداد فأعقب الله خير عاقبة و جاوز بالنعمة مقدار الأمل فصاروا دريئة رماحنا و ضرائب سيوفنا و قتل الله أميرهم ابن الماحوز و أرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها و السلام . فكتب إليه القباع قد قرأت كتابك يا أخا الأزد فرأيتك قد وهب لك شرف الدنيا و عزها و ذخر لك إن شاء الله ثواب الآخرة و أجرها و رأيتك أوثق حصون المسلمين و هاد

[ 156 ]

أركان المشركين و ذا الرئاسة و أخا السياسة فاستدم الله بشكره يتمم عليكم نعمه و السلام . و كتب إليه أهل البصرة يهنئونه و لم يكتب إليه الأحنف و لكن قال اقرءوا عليه السلام و قولوا إنا لك على ما فارقتك عليه فلم يزل يقرأ الكتب و ينظر في تضاعيفها و يلتمس كتاب الأحنف فلا يراه فلما لم يره قال لأصحابه أ ما كتب أبو بحر فقال له الرسول إنه حملني إليك رسالة فأبلغه فقال هذا أحب إلي من هذه الكتب . و اجتمعت الخوارج بأرجان فبايعوا الزبير بن علي و هو من بني سليط بن يربوع من رهط ابن الماحوز فرأى فيهم انكسارا شديدا و ضعفا بينا فقال لهم اجتمعوا فاجتمعوا فحمد الله و أثنى عليه و صلى على محمد رسوله ص ثم أقبل عليهم فقال إن البلاء للمؤمنين تمحيص و أجر و هو على الكافرين عقوبة و خزي و إن يصب منكم أمير المؤمنين فما صار إليه خير مما خلف و قد أصبتم منهم مسلم بن عبيس و ربيعا الأجذم و الحجاج بن رباب و حارثة بن بدر و أشجيتم المهلب و قتلتم أخاه المعارك و الله يقول لإخوانكم المؤمنين إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ اَلْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنَّاسِ فيوم سلى كان لكم بلاء و تمحيصا و يوم سولاف كان لهم عقوبة و نكالا فلا تغلبن علي الشكر في حينه و الصبر في وقته و ثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض و العاقبة للمتقين . ثم تحمل للمحاربة نحو المهلب فنفحهم المهلب نفحة فرجعوا و أكمنوا للمهلب في غمض من غموض الأرض يقرب من عسكره مائة فارس ليغتالوه فسار المهلب

[ 157 ]

يوما يطيف بعسكره و يتفقد سواده فوقف على جبل فقال إن من التدبير لهذه المارقة أن تكون قد أكمنت في سفح هذا الجبل كمينا فبعث المهلب عشرة فوارس فاطلعوا على المائة فلما علموا بهم قطعوا القنطرة و نجوا و انكشفت الشمس فصاحوا يا أعداء الله لو قامت القيامة لجددنا و نحن في جهادكم . ثم يئس الزبير من ناحية المهلب فضرب إلى ناحية أصبهان ثم كر راجعا إلى أرجان و قد جمع جموعا و كان المهلب يقول كأني بالزبير و قد جمع لكم فلا ترهبوهم فتنخب قلوبكم و لا تغفلوا الاحتراس فيطمعوا فيكم فجاءوه من أرجان فلقوه مستعدا آخذا بأفواه الطرق فحاربهم فظهر عليهم ظهورا بينا ففي ذلك يقول رجل من بني يربوع

سقى الله المهلب كل غيث
من الوسمي ينتحر انتحارا
فما وهن المهلب يوم جاءت
عوابس خيلهم تبغي الغوارا

و قال المهلب يومئذ ما وقفت في مضيق من الحرب إلا رأيت أمامي رجالا من بني الهجيم بن عمرو بن تميم يجالدون و كان لحاهم أذناب العقاعق و كانوا صبروا معه في غير مواطن . و قال رجل من أصحاب المهلب من بني تميم

[ 158 ]

ألا يا من لصب مستهام
قريح القلب قد مل المزونا
لهان على المهلب ما لقينا
إذا ما راح مسرورا بطينا
يجر السابري و نحن شعث
كأن جلودنا كسيت طحينا

و حمل يومئذ الحارث بن هلال على قيس الإكاف و كان من أنجد فرسان الخوارج فطعنه فدق صلبه و قال

قيس الإكاف غداة الروع يعلمني
ثبت المقام إذا لاقيت أقراني

و قد كان بعض جيش المهلب يوم سلى و سلبرى صاروا إلى البصرة فذكروا أن المهلب قد أصيب فهم أهل البصرة بالنقلة إلى البادية حتى ورد كتابه بظفره فأقام الناس و تراجع من كان ذهب منهم فعند ذلك قال الأحنف البصرة بصرة المهلب و قدم رجل من كندة يعرف بابن أرقم فنعى ابن عم له و قال إني رأيت رجلا من الخوارج و قد مكن رمحه من صلبه فلم ينشب أن قدم المنعي سالما فقيل له ذلك فقال صدق ابن أرقم لما أحسست برمحه بين كتفي صحت به البقية فرفعه و تلا بَقِيَّتُ اَللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ و وجه المهلب بعقب هذه الوقعة رجلا من الأزد برأس عبيد الله بن بشير بن الماحوز إلى الحارث بن عبد الله فلما صار بكربج دينار لقيته إخوة عبيد الله حبيب و عبد الملك و علي بنو بشير بن الماحوز

[ 159 ]

فقالوا ما الخبر و هو لا يعرفهم فقال قتل الله ابن الماحوز المارق و هذا رأسه معي فوثبوا عليه فقتلوه و صلبوه و دفنوا رأس أخيهم عبيد الله فلما ولي الحجاج دخل عليه علي بن بشير و كان وسيما جسيما فقال من هذا فخبره فقتله و وهب ابنه الأزهر و ابنته لأهل الأزدي المقتول و كانت زينب بنت بشير لهم مواصلة فوهبوهما لها . قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل و لم يزل المهلب يقاتل الخوارج في ولاية الحارث القباع حتى عزل و ولي مصعب بن الزبير فكتب إلى المهلب أن أقدم علي و استخلف ابنك المغيرة ففعل بعد أن جمع الناس و قال لهم إني قد استخلفت المغيرة عليكم و هو أبو صغيركم رقة و رحمة و ابن كبيركم طاعة و برا و تبجيلا و أخو مثله مواساة و مناصحة فلتحسن له طاعتكم و ليلن له جانبكم فو الله ما أردت صوابا قط إلا سبقني إليه . ثم مضى إلى مصعب فكتب مصعب إلى المغيرة بولايته و كتب إليه أنك إن لم تكن كأبيك فإنك كاف لما وليت فشمر و ائتزر و جد و اجتهد . ثم شخص المصعب إلى المزار فقتل أحمر بن شميط ثم أتى الكوفة فقتل المختار و قال للمهلب أشر علي برجل أجعله بيني و بين عبد الملك فقال له اذكر واحدا من ثلاثة محمد بن عمير بن عطارد الدارمي أو زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي أو داود بن قحذم قال أ و تكفيني أنت قال أكفيك إن شاء الله فشخص فولاه الموصل فخرج إليها و صار مصعب إلى البصرة لينفر إلى أخيه بمكة فشاور الناس فيمن يستكفيه

[ 160 ]

أمر الخوارج فقال قوم ول عبد الله بن أبي بكرة و قال قوم ول عمر بن عبيد الله بن معمر و قال قوم ليس لهم إلا المهلب فاردده إليهم و بلغت المشورة الخوارج فأداروا الأمر بينهم فقال قطري بن الفجاءة المازني و لم يكن أمروه عليهم بعد إن جاءكم عبد الله بن أبي بكرة أتاكم سيد سمح كريم جواد مضيع لعسكره و إن جاءكم عمر بن عبيد الله أتاكم فارس شجاع بطل جاد يقاتل لدينه و لملكه و بطبيعة لم أر مثلها لأحد فقد شهدته في وقائع فما نودي في القوم لحرب إلا كان أول فارس حتى يشد على قرنه و يضربه و إن رد المهلب فهو من قد عرفتموه إذا أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر يمده إذا أرسلتموه و يرسله إذا مددتموه لا يبدؤكم إلا أن تبدءوه إلا أن يرى فرصة فينتهزها فهو الليث المبر و الثعلب الرواغ و البلاء المقيم . فولى مصعب عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر ولاه فارس و الخوارج بأرجان يومئذ و عليهم الزبير بن علي السليطي فشخص إليهم فقاتلهم و ألح عليهم حتى أخرجهم منها فألحقهم بأصبهان فلما بلغ المهلب أن مصعبا ولى حرب الخوارج عمر بن عبيد الله قال رماهم بفارس العرب و فتاها فجمع الخوارج له و أعدوا و استعدوا ثم أتوا سابور فسار إليهم حتى نزل منهم على أربعة فراسخ فقال له مالك بن أبي حسان الأزدي إن المهلب كان يذكي العيون و يخاف البيات و يرتقب الغفلة و هو على أبعد من هذه المسافة منهم . فقال عمر اسكت خلع الله قلبك أ تراك تموت قبل أجلك و أقام هناك فلما كان ذات ليلة بيته الخوارج فخرج إليهم فحاربهم حتى أصبح فلم يظفروا منه بشي‏ء فأقبل على مالك بن أبي حسان فقال كيف رأيت فقال قد سلم الله و لم يكونوا

[ 161 ]

يطمعون في مثلها من المهلب فقال أما إنكم لو ناصحتموني مناصحتكم المهلب لرجوت أن أنفي هذا العدو و لكنكم تقولون قرشي حجازي بعيد الدار خيره لغيرنا فتقاتلون معي تعذيرا ثم زحف إلى الخوارج من غد ذلك اليوم فقاتلهم قتالا شديدا حتى ألجأهم إلى قنطرة فتكاثف الناس عليها حتى سقطت فأقام حتى أصلحها ثم عبر و تقدم ابنه عبيد الله بن عمر و أمه من بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب فقاتلهم حتى قتل فقال قطري للخوارج لا تقاتلوا عمر اليوم فإنه موتور قد قتلتم ابنه و لم يعلم عمر بقتل ابنه حتى أفضى إلى القوم و كان مع ابنه النعمان بن عباد فصاح به عمر يا نعمان أين ابني قال أحتسبه فقد استشهد صابرا مقبلا غير مدبر فقال إنا لله و إنا إليه راجعون ثم حمل على الخوارج حملة لم ير مثلها و حمل أصحابه بحملته فقتلوا في وجههم ذلك تسعين رجلا من الخوارج و حمل على قطري فضربه على جبينه ففلقه و انهزمت الخوارج و انتهبها فلما استقروا و رأى ما نزل بهم قال أ لم أشر عليكم بالانصراف فجعلوه حينئذ من وجوههم حتى خرجوا من فارس و تلقاهم في ذلك الوقت الفزر بن مهزم العبدي فسألوه عن خبره و أرادوا قتله فأقبل على قطري و قال إني مؤمن مهاجر فسأله عن أقاويلهم فأجاب إليها فخلوا عنه ففي ذلك يقول في كلمة له

فشدوا وثاقي ثم ألجوا خصومتي
إلى قطري ذي الجبين المفلق
و حاججتهم في دينهم فحججتهم
و ما دينهم غير الهوى و التخلق

ثم رجعوا و تكانفوا و عادوا إلى ناحية أرجان فسار إليهم عمر بن عبيد الله و كتب إلى مصعب

[ 162 ]

أما بعد فإني لقيت الأزارقة فرزق الله عز و جل عبيد الله بن عمر الشهادة و وهب له السعادة و رزقنا بعد عليهم الظفر فتفرقوا شذر مذر و بلغني عنهم عودة فيممتهم و بالله أستعين و عليه أتوكل . فسار إليهم و معه عطية بن عمرو و مجاعة بن سعر فالتقوا فألح عليهم عمر حتى أخرجهم و انفرد من أصحابه فعمد إلى أربعة عشر رجلا من مذكوريهم و شجعانهم و في يده عمود فجعل لا يضرب رجلا منهم ضربة إلا صرعه فركض إليه قطري على فرس طمر و عمر على مهر فاستعلاه قطري بقوة فرسه حتى كاد يصرعه فبصر به مجاعة فأسرع إليه فصاحت الخوارج يا أبا نعامة إن عدو الله قد رهقك فانحط قطري على قربوسه و طعنه مجاعة و على قطري درعان فهتكهما و أسرع السنان في رأس قطري فكشط جلده و نجا و ارتحل القوم إلى أصفهان فأقاموا برهة ثم رجعوا إلى الأهواز و قد ارتحل عمر بن عبيد الله إلى إصطخر فأمر مجاعة فجبى الخراج أسبوعا فقال له كم جبيت قال تسعمائة ألف فقال هي لك . و قال يزيد بن الحكم لمجاعة

و دعاك دعوة مرهق فأجبته
عمر و قد نسي الحياة و ضاعا
فرددت عادية الكتيبة عن فتى
قد كاد يترك لحمه أوزاعا

قال ثم عزل مصعب بن الزبير و ولى عبد الله بن الزبير العراق ابنه حمزة

[ 163 ]

بن عبد الله بن الزبير فمكث قليلا ثم أعيد مصعب إلى العراق و الخوارج بأطراف أصبهان و الوالي عليها عتاب بن ورقاء الرياحي فأقام الخوارج هناك يجبون شيئا من القرى ثم أقبلوا إلى الأهواز من ناحية فارس فكتب مصعب إلى عمر بن عبيد الله ما أنصفتنا أقمت بفارس تجبي الخراج و مثل هذا العدو يجتاز بك لا تحاربه و الله لو قاتلت ثم هزمت لكان أعذر لك . و خرج مصعب من البصرة يريدهم و أقبل عمر بن عبيد الله يريدهم فتنحى الخوارج إلى السوس ثم أتوا إلى المدائن و بسطوا في القتل فجعلوا يقتلون النساء و الصبيان حتى أتوا المذار فقتلوا أحمر طيئ و كان شجاعا و كان من فرسان عبيد الله بن الحر و في ذلك يقول الشاعر

تركتم فتى الفتيان أحمر طيئ
بساباط لم يعطف عليه خليل

ثم خرجوا عامدين إلى الكوفة فلما خالطوا سوادها و واليها الحارث القباع تثاقل عن الخروج و كان جبانا فذمره إبراهيم بن الأشتر و لامه الناس فخرج متحاملا حتى أتى النخيلة ففي ذلك يقول الشاعر

إن القباع سار سيرا نكرا
يسير يوما و يقيم عشرا

و جعل يعد الناس بالخروج و لا يخرج و الخوارج يعيثون حتى أخذوا امرأة فقتلوا أباها بين يديها و كانت جميلة ثم أرادوا قتلها فقالت أ تقتلون من ينشأ في الحلية و هو في الخصام غير مبين فقال قائل منهم دعوها فقالوا قد فتنتك ثم قدموها فقتلوها .

[ 164 ]

و قربوا امرأة أخرى و هم بإزاء القباع و الجسر معقود بينهم فقطعه القباع و هو في ستة آلاف و المرأة تستغيث به و هي تقبل و تقول علام تقتلونني فو الله ما فسقت و لا كفرت و لا زنيت و الناس يتفلتون إلى القتال و القباع يمنعهم . فلما خاف أن يعصوه أمر عند ذاك بقطع الجسر فأقام بين دبيرى و دباها خمسة أيام و الخوارج بقربه و هو يقول للناس في كل يوم إذا لقيتم العدو غدا فأثبتوا أقدامكم و اصبروا فإن أول الحرب الترامي ثم إشراع الرماح ثم السلة فثكلت رجلا أمه فر من الزحف . فقال بعضهم لما أكثر عليهم أما الصفة فقد سمعناها فمتى يقع الفعل . و قال الراجز

إن القباع سار سيرا ملسا
بين دباها و دبيرى خمسا

و أخذ الخوارج حاجتهم و كان شأن القباع التحصن منهم ثم انصرفوا و رجع إلى الكوفة و ساروا من فورهم إلى أصبهان فبعث عتاب بن ورقاء الرياحي إلى الزبير بن علي أنا ابن عمك و لست أراك تقصد في انصرافك من كل حرب غيري فبعث إليه الزبير إن أدنى الفاسقين و أبعدهم في الحق سواء . فأقام الخوارج يغادون عتاب بن ورقاء القتال و يراوحونه حتى طال عليهم المقام و لم يظفروا بكبير شي‏ء فلما كثر عليهم ذلك انصرفوا لا يمرون بقرية بين أصبهان و الأهواز إلا استباحوها و قتلوا من فيها و شاور المصعب الناس فيهم فأجمع رأيهم على

[ 165 ]

المهلب فبلغ الخوارج مشاورتهم فقال لهم قطري إن جاءكم عتاب بن ورقاء فهو فاتك يطلع في أول المقنب و لا يظفر بكثير و إن جاءكم عمر بن عبيد الله ففارس يقدم إما عليه و إما له و إن جاءكم المهلب فرجل لا يناجزكم حتى تناجزوه و يأخذ منكم و لا يعطيكم فهو البلاء الملازم و المكروه الدائم . و عزم مصعب على توجيه المهلب و أن يشخص هو لحرب عبد الملك فلما أحس به الزبير خرج إلى الري و بها يزيد بن الحارث بن رويم فحاربه ثم حصره فلما طال عليه الحصار خرج إليه فكان الظفر للخوارج فقتل يزيد بن الحارث بن رويم و نادى يزيد ابنه حوشبا ففر عنه و عن أمه لطيفة و كان علي بن أبي طالب ع دخل على الحارث بن رويم يعود ابنه يزيد فقال عندي جارية لطيفة الخدمة أبعث بها إليك فسماها يزيد لطيفة فقتلت مع بعلها يزيد يومئذ و قال الشاعر

مواقفنا في كل يوم كريهة
أسر و أشفى من مواقف حوشب
دعاه أبوه و الرماح شوارع
فلم يستجب بل راغ ترواغ ثعلب
و لو كان شهم النفس أو ذا حفيظة
رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب

و قال آخر

نجا حليلته و أسلم شيخه
نصب الأسنة حوشب بن يزيد

[ 166 ]

قال ثم انحط الزبير على أصفهان فحصر بها عتاب بن ورقاء سبعة أشهر و عتاب يحاربه في بعضهن فلما طال به الحصار قال لأصحابه ما تنتظرون و الله ما تؤتون من قلة و إنكم لفرسان عشائركم و لقد حاربتموهم مرارا فانتصفتم منهم و ما بقي مع هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم فيموت أحدكم فيدفنه أخوه ثم يموت أخوه فلا يجد من يدفنه فقاتلوا القوم و بكم قوة من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه . فلما أصبح صلى بهم الصبح ثم خرج إلى الخوارج و هم غارون و قد نصب لواء لجارية له يقال لها ياسمين فقال من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين و من أراد الجهاد فليخرج معي فخرج في ألفين و سبعمائة فارس فلم يشعر بهم الخوارج حتى غشوهم فقاتلوهم بجد لم تر الخوارج منهم مثله فعقروا منهم خلقا كثيرا و قتل الزبير بن علي و انهزمت الخوارج فلم يتبعهم عتاب ففي ذلك يقول القائل

و يوم بجي تلافيته
و لو لاك لاصطلم العسكر

و قال آخر

خرجت من المدينة مستميتا
و لم أك في كتيبة ياسمينا

[ 167 ]

أ ليس من الفضائل أن قومي
غدوا مستلئمين مجاهدينا

قال و تزعم الرواة أنهم في أيام حصارهم كانوا يتواقفون و يحمل بعضهم على بعض و ربما كانت مواقفة بغير حرب و ربما اشتدت الحرب بينهم و كان رجل من أصحاب عتاب يقال له شريح و يكنى أبا هريرة إذا تحاجز القوم مع المساء نادى بالخوارج و الزبير بن علي

يا ابن أبي الماحوز و الأشرار
كيف ترون يا كلاب النار
شد أبي هريرة الهرار
يهركم بالليل و النهار
أ لم تروا جيا على المضمار
تمسي من الرحمن في جوار

فغاظهم ذلك فكمن له عبيدة بن هلال فضربه بالسيف و احتمله أصحابه و ظنت الخوارج أنه قد قتل فكانوا إذا تواقفوا نادوهم ما فعل الهرار فيقولون ما به من بأس حتى أبل من علته فخرج إليهم فقال يا أعداء الله أ ترون بي بأسا فصاحوا به قد كنا نرى أنك قد لحقت بأمك الهاوية إلى النار الحامية